الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصريُّون
أما
في عهد إبراهيم عليه السلام
ففي حديث الصحيحين في ذكر [430] الجبَّار الذي أراد اغتصاب سارة زوجة إبراهيم عليه السلام: «فلما أُدخِلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأُخِذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرُّكِ، فدعت الله فأُطلِق، ثم تناولها الثانية، فأُخِذ مثلها أو أشدَّ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرُّكِ، فدعت الله فأُطلِق»
(1)
.
وقد قال ابن هشامٍ والسهيليُّ: «إن هذا الجبَّار كان ملك مصر»
(2)
. وقد يشهد لذلك أن هاجر التي أعطاها لسارة من القبط، وفي التوراة الموجودة الآن بأيدي أهل الكتاب: «وحدث جوعٌ في الأرض فانحدر أبرام (إبراهيم) إلى مصر
…
وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأةٌ حَسَنة المنظر فيكون إذا رآك المصريُّون أنهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني ويستَبْقُونكِ، قولي: إنكِ أختي
…
فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريِّين رأوا المرأة أنها حسنةٌ جدًّا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأُخِذت إلى بيت فرعون
…
فضرب الربُّ فرعونَ ضرباتٍ عظيمةً بسبب ساراي امرأة أبرام»
(3)
.
(1)
صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}
…
، 4/ 141، ح 3358. وبمعناه في صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، بابٌ من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، 7/ 98 - 99، ح 2371، وزاد ذكر مرَّةٍ ثالثةٍ. [المؤلف]
(2)
انظر: الروض الأنف بهامش سيرة ابن هشامٍ 1/ 16.
(3)
سفر التكوين، إصحاح 12. [المؤلف]
[431]
فقول الجبَّار لسارة: «ادعي الله لي» ، صريحٌ في أنه يعترف بربوبيَّة الله عز وجل.
المصريُّون في عهد يوسف عليه السلام
قال تعالى حكايةً عن عزيز مصر: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29]، المتبادر أنه أراد: استغفري الله عز وجل.
وقال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 30 - 31]، فالنساء اللاتي تدعوهنَّ امرأة العزيز، لا بدَّ أن يكنَّ من نساء عظماء مصر، وقولهنَّ:{حَاشَ لِلَّهِ} الآية، صريحٌ في اعترافهنَّ بربوبيَّة الله عز وجل ووجود الملائكة.
وقال تعالى حكايةً عن النسوة: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [432] إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 51 - 53].
فقولهنَّ: {حَاشَ لِلَّهِ} صريحٌ في اعترافهنَّ بالله عز وجل ــ كما سبق ــ، وقد قال بعض المفسِّرين: «إن قول {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} إلخ، من كلام امرأة
العزيز»
(1)
، وعليه ففيه الدلالة على معرفتها بربوبيَّة الله عز وجل، ولكن الصحيح أنه من كلام يوسف عليه السلام
(2)
.
وفي التوراة التي بيد أهل الكتاب الآن ذكر قصَّة رؤيا الملِك وتعبير يوسف إيَّاها له، ثم قال:«فحسن الكلام في عيني فرعون وفي عيون جميع عبيده، فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلًا فيه روح الله، وقال ليوسف: بعد ما أعلمك الله كلَّ هذا ليس بصيرٌ وحكيمٌ مثلك»
(3)
.
فيُعلَم مما تقدَّم ومِن قوله تعالى حكايةً عن يوسف: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 39 - 40] أن القوم كانوا يعترفون بربوبيَّة الله عز وجل ويعبدونه، ولكنهم يعبدون معه أشخاصًا لا وجود لها، والظاهر أنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الملائكة، ولكن ينعتونهم بنعوتٍ لا وجود لها.
وقبل الكلام على المصريِّين في عهد فرعون ننقل ما قاله البحَّاثون في الآثار المصريَّة.
قال طنطاوي الجوهريُّ في تفسيره في ذكر ديانات المصريِّين القدماء:
(1)
انظر: زاد المسير 4/ 238 - 240.
(2)
لشيخ الإسلام ابن تيمية رأي آخر. انظر: الفتاوى الكبرى 5/ 249، ومنهاج السنة 2/ 412.
(3)
التكوين، الإصحاح 41، فقرة 27. [المؤلف]
«إنهم يقولون: الخالق الحقُّ
(1)
للسموات والأرض لم يخلقه أحدٌ، [433] الواجب الوجود لنفسه، الكائن منذ الأزل، الروح الطاهر الكامل في جميع أوصافه، الكُلِّي الحكمة والقداسة، وهذا الإله لم يصنعوا له رسمًا ولم يكن له اسمٌ عندهم، ولا يبيحون التلفُّظ باسمه، ويقولون: إن كلَّ ما سواه من الآلهة ليس إلا صفةً له أو قسمًا من الطبيعة التي خلقها، وكانوا يقولون: إن العبادة للآلهة الصغيرة هي لله تعالى، أي: ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى، وإذا كان الله لا يجوز التلفُّظ باسمه فوجب أن تُقَدَّم العبادة للآلهة الصغيرة؛ لأن الله أكبر من أن نعبده نحن .... ولما كانت الآلهة الصغيرة المعروفة عند العامَّة ليست مقصودةً لذاتها، بل هي رمزٌ لخالقها، أجازوا أن يُسمَّى الواحد من هذه الآلهة باسم الآخر؛ لأنها مرجعُها كلِّها إلى الإله الأوَّل»
(2)
.
وقال في موضعٍ آخر نقلًا عن مجلَّة الشبَّان المسلمين: «قال المؤرِّخ شمبليون فيجياك: قد استنبطنا من جميع ما هو مدوَّنٌ على الآثار صحَّة ما قاله المؤرِّخ جامبليك وغيره من أن المصريِّين كانوا أمَّةً موحِّدةً لا تعبد إلا الله ولا تشرك به شيئًا غير أنهم [434] أظهروا صفاته العليَّة إلى العِيان مشخَّصةً في بعض المحسوسات»
(3)
.
(1)
في الأصل: (للخلق) ، والتصويب من تفسير الجواهر 10/ 209، طبعة الحلبي، الطبعة الثانية.
(2)
تفسير الجوهريِّ 10/ 201.
(3)
راجع: كتاب الأثر الجليل لقدماء وادي النيل؛ لأحمد بك نجيب، ص 123. [المؤلف]
وقال العلَّامة مسبرو: «مَن تأمَّل في الآثار الباقية إلى الآن بالديار المصريَّة واللوحات الدينيَّة المنقوشة بالهياكل وما على الورق البرديِّ هالتْه كثرة هذه الآلهة المصوَّرة عليها
…
كانوا يقولون: إنه الله عز وجل
…
إلهٌ واحدٌ لا شريك له
…
ثم عدَّدوا صفاته العليَّة وميَّزوها بالأسماء واشتقُّوا منها نعوتًا شخَّصوها في المحسوسات وكلِّ شيءٍ نافعٍ، وكلُّها ترجع إليه، ولأجل التمييز جعلوا لكلِّ اسمٍ تمثالًا
…
»
(1)
.
وفي جريدة البلاغ، تاريخ 4 رجب سنة 1353، مقالةٌ من قلم أحمد يوسف بالمتحف المصريِّ، تحت عنوان «الدين في عقيدة قدماء المصريين» ، جاء فيها ما لفظه: «
…
وهم وإن كانوا قد اتَّخذوا آلهةً لكلِّ قوَّةٍ من القوى الحيويَّة، إلا أنهم كانوا يجمعون في كلِّ ذلك فكرةً في إلهٍ واحدٍ هو الإله الأكبر، فكانوا مرَّةً يجعلونه [435]«رع» في عقيدة القسم الأدنى ــ الوجه البحريِّ ــ، ومرَّةً «أمون» في عقيدة القسم الأعلى ــ الوجه القِبليِّ ــ، ومرَّةً يوفِّقون بين العقيدتين فيجمعون الإلهين معًا تحت اسم واحدٍ:«أمون ــ رع» ، ومن ذلك العبارة المشهورة التي كانت مبدأً من مبادئ الأسرة الثانية عشر
(2)
، حوالي سنة (2000) قبل الميلاد، وهي: اعمل ما يرضي الله وما يحبِّب فيك الناس، والعبارة الأخرى التي وردت في نصائح الحكيم آنى لابنه خنس حتب من الأسرة الثانية والعشرين، نحو سنة (940) قبل الميلاد، والأثر موجودٌ بالمتحف المصريِّ، تحت رقم (2505)، وفيها يقول: بيت الله يدنِّسه الصَّخَب، ادعُ بقلبٍ ودودٍ ربَّك ذا الكلمات الخفيَّة
(1)
11/ 67 - 68. [المؤلف]
(2)
كذا.
ينجزْ ما تطلبُ ويسمعْ ما تقولُ ويَقبلْ ما تُقرِّبُ.
وهناك أدلَّةٌ أخرى كثيرةٌ في هذا الموضوع، لعلَّنا نحسن في اختيارنا منها نشيدًا جليل الشأن وُضِع للإله «أمون ــ رع» الذي ذكرناه، وهو محفوظٌ بالمتحف المصريِّ تحت رقم (2505 B)، في ورقة برديَّةٍ من الأسرة الثامنة عشرة، قبل عصر الملك أخناتون الذي نادى بتوحيد العبادات، والذي سنتكلم عنه في مقالنا القادم [436] إن شاء الله تعالى، ونقتطف من هذا النشيد ما نصُّه بالحرف: «سلامٌ عليك يا مَن يسمع دعوة الملهوف، أنت الرحيم بمَن يدعوك، يا مغيث المستضعَف مِن المتجبِّر، يا مَن يحكم بين الضعيف والقويِّ، أنت الواحد الأحد، بارئ كلِّ ما كان، أنت الذي أنسل من ناظريه بني الإنسان، الذي أوجد الآلهة بكلمةٍ منه، الذي خلق العشب غذاءً للماشية، وشجرة الحياة لبني الإنسان، الذي يَعُول أسماك النهر وطيور السماء، ومدبِّر الهواء لما هو في البيضة، مغذِّي الحيَّة ومطعم البعوضة وكلِّ زاحفٍ وطائرٍ، كذلك تنحني الآلهة لجلالك ممجِّدةً مشيئة خالقها مهلِّلةً عند دنوِّها من بارئها، قائلةً لك: مرحى يا أبا آباء جميع الآلهة، ناشر السماء وباسط الأرض، صانع ما هو كائنٌ وخالق الكائنات، يا مليكًا رئيس الآلهة، نحن نقدِّس مشيئتك؛ لأنك أنت الذي خلقتنا، نحن نباركك؛ لأنك صوَّرتنا، نحن نسبِّح بحمدك؛ لأنك أنت الذي عُنِيت بأمرنا
…
».
أقول
(1)
: يُعلم مما نقلناه عن البلاغ أنَّ القوم وإن كانوا يعترفون بربوبيَّة الله تعالى، إلا أنهم كانوا يشركون به أشخاصًا غيبيِّين [437] يعترفون بأنهم من خلقه، وقد دلَّ القرآن على أن أولئك الأشخاص لا وجود لهم، والظاهر ما
(1)
القائل هو المعلِّميّ.