الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن عمل به فعسى أن ييسر الله تعالى له ما يوضح له الحق إن شاء الله تعالى. فاشدد يديك بهذا الأمر؛ فإنه إن لم تستقرَّ في يديك فائدة من هذه الرسالة إلا هو
(1)
فقد فزت، وقد مرّ ما يتعلق بهذا في صفحة (. . .)
(2)
.
الأعذار
قد تعرَّضت لهذا البحث في مواضع
(3)
، وأريد أن أبسط الكلام عليه هاهنا، مستعينًا بالله تعالى.
فقوله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} نصٌّ قاطع، وقد جاء نحوه في آيات أخرى، [638] وهو مطابق لما جُبِلَت عليه النفوس وشهدت به بَدائِهُ العقول أنَّ الله سبحانه عدل حكيم رؤوف رحيم.
(1)
المستثنى هو الأمر المذكور آنفًا.
(2)
بيّض المؤلف لرقم الصفحة، وهي ص 900 - 901.
(3)
منها فصل حكم الجهل والغلط ص 132 - 143.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قال:«نعم» ، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، قال:«نعم» ، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، قال: «نعم
…
»، وفي رواية أخرى:«قد فعلت، قد فعلت»
(1)
.
ويظهر أنه ليس المراد بالنسيان والخطأ ما لا يكون من العبد فيه تقصير قطعًا، وليس المراد بـ {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما لا نطيقه ولو بذلنا أقصى جهدنا، كأن يلمس أحدُنا الشمس، أو يحمل جبلًا أو يصلِّي في اليوم ألفَ ألفَ ركعة، فإن هذه الأمور قد نُفِيَتْ بقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وإنما المراد ــ والله أعلم ــ: النسيان والخطأ اللَّذين
(2)
لا يخلو العبد من تقصيرٍ مَّا فيهما، فإننا نجد أحدنا ينسى الصلاة أو ينام عنها حتى يخرج وقتها، ولو قيل له: إذا حضرْتَ اليوم وقت الصبح بباب الملِك حصل لك مال عظيم وهو محتاج لم يفتْه ذلك الوقت، وكذلك نجد المفتيَ إذا سُئِل عن مسألة فيها إراقة دم بذل فيها من الجهد في البحث والنظر ما لا يبذله إذا سئل عن مسألة في البيوع مثلًا.
والمراد والله أعلم بـ {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما فيه مشقة شديدة، ويشهد
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى:«وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه» ، 1/ 81، ح 125 - 126. [المؤلف]. لكن الرواية الأولى من حديث أبي هريرة، والرواية الثانية من حديث ابن عبَّاسٍ، وسقط لفظ (ربنا) في الموضع الأخير على المؤلِّف.
(2)
كذا في الأصل.
لهذا قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وما في معناها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إن الدين يُسْرٌ» الحديث
(1)
.
وهذا هو الذي فهمه الفقهاء، فقالوا: إنه يُعْفَى عما يَشُقُّ الاحترازُ عنه من النجاسات [639] ونحوها. وقالوا: إن المرأة إذا اشتبهت بأجنبيَّاتٍ غير محصوراتٍ لم يحرم على أبيها مثلًا أن يتزوَّج واحدةً منهنَّ، بل جعلوا هذا المعنى أصلًا من أصول الشريعة، فقالوا:«إن المشقة تجلب التيسير» ، ووسَّعوا دائرة الإكراه الذي يبيح إظهار الكفر فلم يحصروه في تَيَقُّنِ القتل إذا لم يعمله.
فإن قلت: ولكن النفي في قوله: {لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يخالف ما ذُكِرَ؛ فإنه نصٌّ في نفي جنس الطاقة.
قلت: صدقت، ولكن معنى الطاقة القدرة على الشيء بدون صعوبة شديدة، وقد نبَّه على ذلك الراغبُ، فقال: «فقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: ما يصعب علينا مزاولته، وليس المعنى: لا تحمِّلنا ما لا قدرة لنا به
…
»
(2)
.
أقول: ومما يبين ذلك حديث المعراج وهو في الصحيحين وغيرهما من طرقٍ، وفيه مراجعة موسى لمحمَّد عليهما الصلاة والسلام في فرض الصلوات، وقوله له:«إن أمتك لا تستطيع ذلك» ، وفي رواياتٍ: لا تطيق
(1)
صحيح البخاريِّ، كتاب الإيمان، بابٌ: الدينُ يسرٌ، 1/ 16، ح 39. [المؤلف]
(2)
المفردات 532.
ذلك، حتى إنه قال له ذلك في خمس صلواتٍ
(1)
.
ولكن يجب أن تعلم أنه ليس كل نسيان وخطأ معفوًّا؛ فإنَّ مَنْ تشاغل بلهو محرَّم أو مكروه فأنساه الصلاة ليس بمعذور. وكذلك مَنْ سمع آية فَهِمَ منها حُكْمًا، فعمل به، وأفتى، واستمرَّ على ذلك، ولم يتدبَّر القرآن والسنن الثابتة مع احتمال أن يكون فيها ما يخالف فَهْمَه. فكأنَّ النسيان والخطأ إنما يُعذر بهما إذا انتفى التقصيرُ، ولكن التقصير أمر مشتبه؛ فإن العلماء صرَّحوا بأنه يكفي المجتهد أن يبحث حتى يغلب على ظنه أنَّه لا مخالف لما فهمه، وغلبةُ الظن أمر يتفاوت، وهكذا المشقَّة التي إذا وُجِدَتْ في الشيء صدق أنَّه لا يُطاق هي أمر غير منضبط أيضًا، ولكننا نتتبَّع أمثلةً مما ثبت فيه عُذْرُ مَن جرى منه ما لولا العذرُ لكان كفرًا، فأقول: قد سبق أنَّ الكفر كلَّه يرجع إلى الكذب على الله تعالى والتكذيب بآياته.
[640]
فمِمَّن يُعْذَر إجماعًا مَنْ كَذَبَ على الله تعالى بقوله فقط بسبق اللسان، كما تقدَّم في الحديث الصحيح، «فقل: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»، وقد تقدَّم
(2)
.
ومَن تلا آية كان يعتقد أنه يحفظها فزاد فيها أو نقص أو غيَّر شيئًا فيها على سبيل الخطأ، فإذا نُبِّهَ اعترف بأنَّه أخطأ، ومثل هذا في الأحاديث.
ومَن أُكْرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان بشرط ألَّا يظهر منه ما يدلُّ على
(1)
انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الصلاة، بابٌ: كيف فُرِضَت الصلاة في الإسراء؟ 1/ 79، ح 349. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب الإسراء بالرسول، 1/ 103، ح 163. [المؤلف]
(2)
انظر ص 856.
الاختيار، بخلاف مَن ظهر منه ذلك، كما تقدَّم فيمن بقي بمكة من المسلمين بعد الأمر بالهجرة، وهو قويٌّ
(1)
.
وَمَن حَكَى كَلامَ غيرِه مصرِّحًا بذلك، كمن يتلو قول الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، على أنَّ الحاكيَ لا يُطلَق عليه أنه كَذَبَ. ومثله مَن يحكي كلامًا لغيره ثم يردفه باعتراضٍ عليه، كأن يقول: مِن لازِمِ هذا القول أن يكون الله تعالى كذا ويذكر وصفًا مُحالًا. وكذلك مَن يَفْرِضُ اعتراضًا ليجيب عنه كأن يقول: فإن قيل: إنَّ الله تعالى يرضى أن تُعبد الملائكة معه لأنهم مقرَّبون لديه فالجواب ....
وربما يظهر عذرُ مَنْ كان قريب عهد بالإسلام أو عاش ببادية بعيدة عن العلماء إذا نطق بكذبٍ على الله تعالى على سبيل الضحك واللعب ظانًّا أنَّ مِثل ذلك لا يكون كفرًا، كما يُحْكَى أنَّ عدنانيًّا افتخر على قحطانيٍّ قائلًا له: محمد من عدنان، فأجابه القحطاني قائلًا: الله من قحطان، تعالى الله عما قال. لكنه إذا قيل [641] بالعذر يشتبه الحال فيمن كان مسلمًا بالغًا قد مضت له بعد بلوغه مدَّةٌ تمكَّن فيها من التعلُّم، على أنَّ في عذر قريبِ العهد بالإسلام ونحوه نظرًا؛ لأنَّه يعلم أنَّ قوله كذبٌ وأنَّ في ذلك الكذب سوءَ أدب وانتهاكَ حُرْمَة، وإن لم يعلم أنَّه يبلغ الكفر، فالله أعلم.
وممن يُعْذَرُ إجماعًا ممن كذب على الله تعالى بفعله فقط: مَن أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان بالشرط المتقدم، ومَن أخطأ كأعمى تلا آية سجدة
(1)
راجع ص 84 - 87.
فسجد إلى جهة يظنها القبلة وكان أمامه صَنَمٌ يَظْهَرُ لمن يَرَى أنَّ السجدة للصنم. ويظهر لي عذرُ مَنْ رأى تمثالًا يشبه صورةَ وَلَدٍ له غائب فاعتنق التمثال وَقَبَّلَهُ بداعي الشوق إلى ولده فقط، فإن كان يعلم أن ذلك التمثال صنم يُعبد ففي قَبُول عذره نظر. وهكذا مَن كان قريب عهد بالإسلام أو عاش ببادية بعيدًا عن العلماء إذا سجد أمام صنم مثلًا على سبيل الهزل والاستهزاء كما مَرَّ نظيرُه في الكذب بالقول.
وممن يُعْذَرُ ممن كذب على الله تعالى باعتقاده: المجتهدُ في الفروع إذا اجتهد فظهر له ما ظنَّه سلطانًا على حُكْمٍ فاعتقده، وكذا مَن قلَّده بشرطه المتقدِّم فيما مرَّ في الكلام على البدع
(1)
.
وكذلك يُعْذَرُ مَن كان قريب عهد بالإسلام إذا توهَّم جواز شيءٍ مخالفٍ لشهادة أن لا إله إلا الله مخالفةً غير صريحة، كما مَرَّ في قول بني إسرائيل:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وقال بعض المسلمين للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، وقد تقدَّم
(2)
حديث: «اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل» .
وليس من الشرك الذي عُذِرَ صاحِبُهُ استئذانُ قيس بن سعد النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم [642] في السجود له، وقد تقدَّم الحديث
(3)
؛ لأنه رأى
(1)
ص 883 - 888.
(2)
انظر ص 143 فما بعدها.
(3)
لم أقف عليه فيما سبق، وإنما وقفت عليه في كتابه «تحقيق الكلام في المسائل الثلاث» في مبحث التبرك ص 238، ونص الحديث «عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة
…
فرأيتهم يسجدون لمَرْزُبان لهم فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحِيرة فرأيتهم يسجدون لمَرْزُبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك! قال: «أرأيت لو مررتَ بقبري أكنتَ تسجد له» . قال: قلت لا. قال: «فلا تفعلوا لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرتُ النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق» . رواه أبو داود في سننه، كتاب النكاح باب في حق الزوج على المرأة 2/ 244 ح 2140.
قومًا من الأعاجم يسجدون لمرزبان لهم فرأى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق بأن يُسْجَدَ له؛ فإنَّ السجود للمخلوق إنما ينافي معنى: (لا إله إلا الله) إذا لم يأذن به الله، وقيسٌ لم يسجد، وإنما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو أذن له لدلَّ ذلك على الإذن من الله عز وجل، وكذا يقال فيما جاء من الأحاديث في معنى حديث قيسٍ. وقد قال ابن القيم في النونية
(1)
:
تالله لو يرضى النبي سجودنا
…
كنا نخر له على الأذقان
وكذلك يُعْذَرُ مَنْ اشتبه عليه معنى: لا إله إلا الله، بعد القرون الأولى، فظنَّ معناها قاصرًا على نفي وجوب الوجود عن غير الله تعالى، حتى تقوم عليه الحجة، أو يَبْلُغَهُ أنَّ بعض العلماء يُفَسِّرُها على غير ما فهمه، وربما يُعْذَرُ وإن بلغه ذلك إذا رأى علماء جهته يقولون: إنَّه لم يخالف في هذا إلا فلان، وهو جاهل ضالٌّ مبتدع كافر مخالف لإجماع الأمة، ونحو ذلك.
فأما إذا اختلف الناس عليه وبلغه أنَّ ذلك المخالف يوافقه جماعة من العلماء والعقلاء ويحتجُّ بكتاب الله وسنة رسوله فإنه لا يُعذر فيما يظهر. ومما يَدُلُّ على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
(1)
الكافية الشافية 247.
مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. فقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} مفهومه أنَّ الحال قبل الاستجابة كان بخلاف ذلك، ووجهه فيما يظهر أن مَن كان بعيدًا عن الحجاز فبلغه أنَّ رجلًا بمكة [643] يزعم أن الله أرسله، والناس كلهم حتى أقاربه مطبقون على تكذيبه ويقولون: هو مجنون ومسحور ونحو ذلك، فإنَّ هذا البعيد قد يغلبه تصديق الجمهور مع ما عنده من الشبهة، فربما يُعذر بذلك. فأما بعد ما استجيب للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فآمن به جماعة واتبعوه وفارقوا دين آبائهم وعَادَوْا أهليهم وأحبائهم وعرَّضوا أنفسهم وأموالهم للتلف فلم يبق عذر لهذا البعيد، وإن كان له شبهة، بل تَعَيَّن عليه أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع كلامه ويتدبَّر ما يقوله بنية خالصة صادقة؛ فإنه إن فعل ذلك تبين له الحق بمقتضى قول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] على ما تقدَّم.
نعم، مَن لم يبلغه الاستجابة فربما يُعْذَرُ، وعليه يُحْمَلُ قول الغزالي في فيصل التفرقة
(1)
: «وصنف بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يبلغهم مبعثه
(2)
ولا صفته، بل سمعوا أن كذَّابًا يقال له فلان، ادّعى النبوة، فهؤلاء عندي من الصنف الأول» ــ أي من الذين لم يسمعوا اسمه أصلًا ــ فإنهم لم يسمعوا ما يحرِّك داعية النظر.
(1)
ص 84. نشرة محمود بيجو.
(2)
في مطبوعة فيصل التفرقة: نعته. وهو الصواب.
وسِرُّ المسألة أنَّ البعيد عن الحجاز ليس عنده برهان على بطلان دعوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يلزمه السفرُ إليه، وسماعُ كلامه، ولكن إطباق الناس على تكذيبه شبهة قوية، فإذا تبعه [644] جماعة وآمنوا به وصدّقوه سقطعت هذه الشبهة.
فأما مَنْ بلغه من المسلمين في هذا الزمان أن رجلًا ادّعى النبوّة وتبعه آلاف من الناس فإنَّه لا يلزمه إتيانُه وسماعُ كلامه وتدبُّر ما يقول؛ لأن عندنا براهينَ قطعيةً على كذب مثل هذا المدَّعي، ولو اتبعه الثقلان.
ولعله يُعْذَر مَنْ بلغه أنَّ العلماء اختلفوا ولم يمكنه التفرُّغ للنظر والتفكر في حجج الفريقين، ولكن إنما يُرجى عذره فيما عدا الأمور التي يتوقَّف القطع بأنه لا إله إلا الله على القطع بها، وقد مَرَّ بيان ذلك
(1)
، فلا يُرْجَى عذرُه إلا بالنسبة إلى الأمور التي يكفي فيها الدليل الظني المستند إلى أصل قطعي، ولكن عليه أن يحتاط فيجتنب الأمور المختلف فيها.
فإن قلت: إن جميع الفروع الشرعية المختلف فيها تدخل في هذا القبيل كما تقدم، وقد مضى سلف الأمة وخلفها على أنه يكفي العامي تقليد مجتهد، ولا يجب عليه الاحتياط.
قلت: قد تقدَّم القول في هذا في ص
(2)
.
وإذا قلنا بأنه يرجى أن يعذر هذا الرجل إذا احتاط فمعنى ذلك أنه إذا لم
(1)
وهي القطع بأنه لا مدبر في الكون استقلالًا إلَّا الله، وأنه لا مستحق للعبادة إلا الله عز وجل، والعلم بحقيقة العبادة. انظر ص 876.
(2)
بيَّض المؤلِّف لرقم الصفحة، وهي ص 900.
يحتط لا يُرجى عذره. وكذلك أقول، على معنى أني لا أرجو له ألَّا يأثم، فأما الحكم عليه بأنه يكون كافرًا أو مشركًا فإني أدع الأمر في ذلك إلى نظرك.
واعلم أن كثيرًا من البلدان إلى الآن يتبيَّن أن أهلها معذورون وإن لم يحتاطوا؛ فإنك تجد أكثر نواحي اليمن مثلًا [645] لم يبلغهم في هذه المسائل أكثرُ من أنَّ رجلًا يقال له محمد بن عبد الوهاب نَبَغَ بِنَجْدٍ، وكَفَّرَ سلف الأمَّة وخَلَفها، وخرق الإجماع، وزعم أنَّ العصا أفضل من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، واستحلَّ دماء المسلمين، وليس له حجَّة إلا أنه يحرِّف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى هواه، وأنه كان رجلا جاهلًا لا يعرف العربية ولا المعاني والبيان، ولا أخذ العلم عن العلماء، وأنَّ العلماء كلَّهم أنكروا عليه وكفَّروه، حتى أبوه وأخوه، وإنما اتبعه أعراب جفاة غَرَضُهُمْ من اتِّباعه استحلالُ دماء المسلمين وأموالهِم، وأنهم يبغضون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم إذا تشهَّدوا قالوا: أشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا يقولون: وأشهد أنَّ محمدا رسول الله، وأنهم أرادوا أن يمنعوا (أشهد أنَّ محمدًا رسول الله) من الأذان، ولكنهم خافوا من افتضاح عقيدتهم فأبقوها، وأنهم إذا دخلوا قرية قتلوا الرجال والنساء والصبيان، وتَحَرَّوا بالقتل خاصَّةً مَنْ يُنْسَبُ إلى العلم والصَّلاح، وإذا طلب منهم أحد من علماء المسلمين أن يناظروه قالوا: ليس عندنا إلَّا السيف، وإذا احتجَّ عليهم أحد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: حسبنا ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأشباه هذه الحكايات، يزعم نَقَلَتُهَا بألسنتهم أو في كتبهم أنها [646] متواترة لا ريب فيها.
وإن ظفر بعضُ طلبة العلم في تلك الجهات ــ أعني أكثر نواحي اليمن ــ
بنسبة الخلاف في تلك الأمور إلى ابن تيميَّة فمقرونًا بتكفير ابن تيميَّة وتضليله، وأنه كان يبغض النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وابنَ عمه عليًّا عليه السلام، وأنه كان يقول: إنَّ الله تعالى شخص مثل الإنسان جالس على العرش، وأنه قال: إنَّ العرش قديم، وأنه خرق الإجماع في نحو عشرين مسألة، وأنَّ علماء المسلمين في عصره أجمعوا على تكفيره وأفتوا بقتله، ولكن امتنع السلطان حينئذ من قتله واكتفى بسجنه إلى أن مات.
فأمَّا بعد دخول السعوديِّين الحجاز فإنها لا تزال تُرْوَى عنهم كلَّ سنة حكايات شنيعة جدًّا. وحبَّذا لو أنَّ الحكومة السعودية توعز إلى أصدقائها في كلِّ جهة من جهات العالم أن يكتب إليها كلٌّ منهم كُلَّ سنة بما يقوله الحجّاج وغيرهم عن الحجاز وأهله وحكومته، ثم تنظر في ذلك، فما كان صحيحًا ولها عذر بَيَّنَتْه، وما كان صحيحًا ولا عذر عنه تداركتْه، وما كان كذبًا أعلنت تكذيبه.
والمقصود هنا إيضاح أنَّ كثيرًا من البلاد الإسلاميَّة المنتشرة فيها البدع معذورون، والله أعلم.
فإن قلت: كيف يُعْذر مَن وقع عنه عَمَلٌ من أعمال الشرك، وقد قال تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]؟
قلت: [647] مَن صَحَّ عُذْرُه لا يصدق عليه أنَّه أشرك، كما أنَّ مَن تزوَّجَ امرأة لا يشعر بأن بينه وبينها مَحْرَمِيَّة، فبانت أنها أخته من الرضاع مثلًا، لا يصدُق عليه بأنه زنى بأخته، لكن لو أراد أن يتزوَّج امرأة فقال له قائل: إنها أختك من الرضاع، وكثير من الناس يعلمون ذلك لو سألتَهُمْ أخبروك، فأبى
أن يسأل وأقدم على نكاحها لم يكن معذورًا.
وممن يُعْذَر ممن كذَّب بآية من آيات الله: مَن سبق لسانُه إلى لفظٍ فيه تكذيب، وَمَن أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان بالشرط السابق، ومَن ظنَّ أنها ليست من عند الله وكان له عذر في ظنِّه، مثل أن يكون قارئًا للقرآن يظنُّ أنه إذا تُلِيَتْ عليه آية من القرآن لا يشتبه عليه أنها منه، فتُلِيت عليه آية فظنَّ زيادةَ كلمة أو نقصانَها فجزم بذلك خطأً على شرطِ أَنَّهُ إذا رُوجِعَ وَبُيِّنَ له غَلَطُه رَجَعَ.
ومن هذا القبيل ما وقع لابن مسعود من إنكار أن تكون المعوِّذتان من القرآن، وذلك أنه صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم طويلًا وقرأ عليه القرآن فلم يَتَّفِقْ له أن يُقرئه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعوِّذتين على أنهما من القرآن، ولا ذكر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بهما في الصلاة، وإنما سمع النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يعوِّذ بهما الحسن والحسين عليهما السلام مع أمور أخرى تجمَّعَتْ عنده وقويت في نفسه حتى ظَنَّ ما ظَنَّ
(1)
. ونحن على يقينٍ أنه لو اتَّفَقَ مراجعةُ جماعة من الصحابة له بحيث [648] يكون خبرُهم قطعيًّا لرجع.
وقد وقع لأفرادٍ من الصحابة مثل ما وقع لابن مسعود، وقد جاء عن أُبَيّ بن كعب أنه كان في مصحفه أشياء ليست عند جمهور الصحابة من القرآن؛ لأنهم علموا أنَّ تلاوتها نُسِخت. وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا عَلِيٌّ، وإنا لَنَدَعُ
(1)
انظر: فتح الباري 8/ 525 - 526. [المؤلف]
من قول أُبَيٍّ، وذاك أن أُبَيًّا يقول: لا أَدَعُ شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}
(1)
.
وقد اختلفت الأمَّة في {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، واتفقت على عذر المثبت والنافي، وقد جرى لعمر وأُبيٍّ وابن مسعود وغيرهم إنكارُ قراءة مَن قرأ مخالفًا لما أقرأهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم حتى بَيَّنَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ تلك القراءات كلَّها حق، فأما عمر وابن مسعود وغيرهما فاكتفوا بذلك
(2)
.
وأما أُبَيٌّ فَعَرَضَ له ما تقدَّم أوائلَ الرسالة
(3)
حيث قال: فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غَشِيَنِي ضرب في صدري فَفِضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا
(4)
»، وذكر الحديث
(5)
.
(1)
البخاريّ، كتاب التفسير، سورة البقرة، باب قوله:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} ، 6/ 19، ح 4481. [المؤلف]
(2)
انظر: البخاريّ، كتاب فضائل القرآن، بابٌ:«أنزل القرآن على سبعة أحرفٍ» ، 6/ 185، ح 4992. وباب:«اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم» ، 6/ 198، ح 5062. وصحيح مسلمٍ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرفٍ
…
، 3/ 202 - 203، ح 818. [المؤلف]
(3)
ص 32.
(4)
أي: فَزَعًا.
(5)
صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 2/ 202 - 203، ح 820.
قال الأُبِّيُّ
(1)
في شرح مسلم بعد أن نقل كلام المازَري
(2)
ثم كلام القرطبي: «قلت: وكلامه وكلام غيره قاضٍ بأنهم حملوا الحديث على أنَّ معناه: فوقع في نفسي من تكذيبي إيَّاه لتصويبه قراءة الرجلين أكثر من تكذيبي إيَّاه قبل الإسلام، فلذلك أَوَّلُوه بأنَّ الذي وقع في نفسه إنما هو نزغة وَخَطْرَة لا تستقرُّ في النفس، والخَطْرةُ التي لا تستقرُّ في النفس غيرُ مؤاخَذٍ بها؛ لأنه لا يقدر على دفعها» ، ثم ذكر تأويلًا ضعيفًا جدًّا
(3)
.
وأقول: هذه النزغة ليست من باب الوسوسة التي يلقي بها الشيطان في [649] صدر الإنسان خواطر هو يعلم أنها كذب كما في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلَّم به، قال:«أوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان»
(4)
؛ فإنهم فسَّروا هذه الوسوسة بما يلقيه الشيطان في خاطرك وأنت
(1)
محمد بن خليفة بن عمر التونسي الوشتاني أبوعبدالله، محدِّث فقيه توفي سنة 828 هـ، من مؤلفاته:«إكمال المعلم في شرح مسلم» . انظر: البدر الطالع 2/ 169، معجم المؤلفين 9/ 287.
(2)
محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري المالكي، ويعرف بالإمام، أبوعبدالله، محدث حافظ فقيه أصولي متكلم أديب، ولد بمدينة المهدية بأفريقية وتوفي بها في ربيع الأول سنة 536 هـ، من تصانيفه: المعلم بفوائد مسلم، وتعليق على المدونة، وشرح التلقين. انظر: سير أعلام النبلاء 20/ 104، معجم المؤلفين 11/ 32.
(3)
2/ 430. [المؤلف]. وانظر: المعلم 1/ 463 - 464، والمُفهم 2/ 451 - 452.
(4)
صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، 1/ 83، ح 132. [المؤلف]
تعلم يقينًا بطلانَهُ، كما جاء في حديث آخر أنه يلقي في خاطر الإنسان:«هذا اللهُ خلق الناسَ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ »
(1)
، فإن الإنسان يخطر له خاطر وهو يعلم موقنًا أنَّ الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لم يزل ولا يزال.
ويُحْكَى أنَّ رجلًا جاء إلى بعض العلماء، فقال له: إنَّ الشيطان قد أضرّ بي، يقول لي: قد طَلَّقْتَ زوجتك، قد طَلَّقْتَ زوجتك. فقال له العالم: أَوَ لَمْ تُطَلِّقْهَا وأنا شاهد؟ قال: لا، والله ما طلَّقتُها. فراجَعه في ذلك، فقال: اتَّقِ الله فِيَّ؛ فإنها والله زوجتي، والله ما طلَّقتها قطُّ. فقال له العالم: فإذا جاءك الشيطان فاحلف له كما حَلَفْتَ لي. هذا معنى القصَّة دون لفظها.
والذي عرض لأُبيٍّ شيءٌ أَشَدُّ من هذا إذا حُمل الحديث على ما فهموه. وعندي أنَّ المعنى: فسقط في نفسي شيء من التكذيب ليس كالتكذيب إذ كنت في الجاهلية، أي بل دونه؛ فقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ قولهم في المَثَلِ: ماء ولا كصَدَّاء، معناه: هذا ماء جَيِّد، وليس كماء صَدَّاء في الجودة، بل دونه. وكذا قالوا في المثل الآخر: مَرْعىً ولا كالسَّعْدان
(2)
. والحكايات التي ذكروها في أصل هذين المثلين صريحة في ذلك، والقواعد تقتضي ذلك.
(1)
صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 1/ 83 - 84، ح 134. [المؤلف]
(2)
صدَّاء: رَكِيَّة لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها، وأمَّا السَّعْدان فنبات وعشب تأكله الإبل، ويطيب لبنها عليه، وهو من أفضل مراعيها، فإذا رأوا عَلَفًا دونه قالوا هذه المقالة. يُضرب المثلان للشيء يُفضَّل على أقرانه وأشكاله، وللرجل يُحمد شأنه، ثم يصير إلى آخر أكثر منه وأعلى. انظر المثلين والحكايات في أصلهما في الأمثال لأبي عبيد، ومجمع الأمثال للميداني 2/ 275 - 278.
[650]
وعلى هذا فالأمر الذي سقط في نفس أُبيٍّ رضي الله تعالى عنه دون تكذيبه إذ كان في الجاهلية، ولكن مع ذلك يظهر لي أنه أَشَدُّ من الوسوسة الفارغة.
وفي كلام الأُبِّيِّ ما يؤخذ منه أنَّ العذر مَبْنِيٌّ على مجموع أمرين:
الأوَّل: عدم استقرار ذلك العارض.
والثاني: عدم القدرة على دفعه.
وقد يقال: لماذا لا يكفي عدم القدرة، وقد قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ؟
والجواب: أنه لا يمكن أن يجتمع استقرارُها في النفس مدَّةً طويلةً، وعدم قدرته على الدفع، بل إنما تستقرُّ مدَّةً طويلةً إذا قَصَّرَ في البحث والنظر الصادق، بدليل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} كما مرّ، بخلاف النزغة العارضة فإنها تسبق النظر والمجاهدة.
ومما يشهد لهذا قول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200 - 201].
وقد تقدَّم في أوائل الرسالة
(1)
الإشارة إلى وقائع أخرى تشبه واقعة أُبَيٍّ رضي الله عنه.
ومن الآثار في الأعذار ما جاء أنَّ أَمَةً زنت في عهد عمر بن الخطاب
(1)
ص 32 - 33.
رضي الله عنه، فسألها فاعترفت اعترافًا يظهر منه أنها لم تعلم حرمة الزنا، فاستشار عمرُ أكابر الصحابة فقال له عثمان: إنما الحدُّ على من عَرَفَهُ، وأراها تستهلُّ به
(1)
.
فيؤخذ من هذا أنهم فهموا أنَّ الأَمَةَ كانت ترى الزنا مباحًا، ومع ذلك عذروها فلم يُكَفِّرُوها ولا حَدُّوها
(2)
.
ومنها: توهُّم بعض [651] الصحابة في زمن عمر أن الخمر حلال للمتقين المحسنين، واحتجَّ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
…
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 90 - 93].
فعذره الصحابة وبيَّنوا له خطأه ولم يكفِّروه، ولكنهم حَدُّوه
(3)
.
ومنها حديث الصحيحين وغيرهما: «كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا متُّ فاحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذرُّوني في
(1)
سنن البيهقيّ، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات، 8/ 238 - 239. [المؤلف]. وقوله: تستهلُّ به، أي: تُعْلن به ولاتكتمه، كما بُيِّن في الرواية، ولكنَّ المؤلِّف أوردها مختصرة.
(2)
أي: حدَّ الرجم؛ لأنها كانت ثيِّبًا، وإنما جلدوها وغرَّبوها تعزيرًا كما بيَّنته الرواية.
(3)
انظر: المستدرك، كتاب الحدود، كان الشارب يُضْرب على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال، 4/ 375. وسنن البيهقيّ، كتاب الأشربة والحدِّ فيها، باب مَن وُجِد منه ريح شرابٍ
…
، 8/ 315 - 316. [المؤلف]. وهو في مصنف عبد الرزاق، كتاب الأشربة، باب من حُدَّ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 9/ 240 - 243 ح 17076.
الريح، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذِّبنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا، فلما مات فُعِلَ به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلتْ، فإذا هو قائم بين يدي الله، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رَبِّ خشيتك، فغفر له»
(1)
.
قال في الفتح: «قال الخطَّابي: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب: أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظنَّ أنَّه إذا فُعِلَ به ذلك لا يُعاد ....
قال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك
…
»
(2)
.
أقول: والحديث ثابت من رواية جماعة من الصحابة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، منهم حذيفة وسلمان وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو مسعود البدريُّ.
ومنها: الحديث الصحيح [652] في الأَمَة التي سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أين الله» ؟ فقالت: في السماء، فقال:«مَن أنا» ؟ قالت: رسول الله، فقال لسيدها:«أعتقها؛ فإنها مؤمنة»
(3)
.
(1)
البخاريّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، 4/ 176، ح 3479. مسلم، كتاب التوبة، بابٌ في سعة رحمة الله تعالى، 8/ 97 - 99، ح 2756 - 2757. [المؤلف]
(2)
فتح الباري 6/ 336. [المؤلف]. وانظر تأويل مختلف الحديث ص 81. وقد تقدم للمؤلف الكلام على الحديث وتوجيهه بتوسع في ص 132 فما بعدها.
(3)
انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة
…
، 2/ 71، ح 537. [المؤلف]
فقد قال منكرو الجهة: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عذرها في ظنِّها أنَّ الله تعالى في السماء بجهلها، وضَعْف عقلها، وقلَّة علمها، ولم يُبَيِّنْ لها خطأها؛ لأنها لا استعداد لها لإدراك مثل هذه الحقيقة، أي أن الله تعالى ليس في جهة.
ومثبتو الجهة لا ينكرون العذر، ولكنَّهم يحتجُّون بالحديث؛ لأنَّ فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أين الله؟ ولأنه لو كان يعلم أنها مخطئة لبيَّن ذلك لمن حضر القصَّة من أصحابه أو على الأقلِّ لبعضهم؛ فإنه لا يجوز أن يُقال: إنهم جميعًا لم يكن لهم استعداد لإدراك الحقائق.
ومنها: أنه ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» ، وثبت عنه أنه سمع بعض أصحابه يحلف بأبيه قبل أن يعلموا ما في ذلك، فنهاهم عن ذلك وعذرهم فيما صدر منهم قبل العلم.
وقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذا المعنى فترجم بقوله: (باب مَن أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)، ثم ترجم بعده:(باب مَن لم ير إكفار مَنْ قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلًا)، وذكر في هذا الباب بعضَ الأحاديث التي ذكر فيها أن بعض الصحابة نسب غيره منهم إلى النفاق بتأويلٍ، وذكر آخِرَه حديث ابن عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أدرك عمر بن الخطَّاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«ألا إن الله ينهاكم عن الحلف بآبائكم» الحديث.
قال في الفتح: [653]«وقصده بذكره هنا الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» ، لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يسمع النهي كان معذورًا فيما صنع
…
».
وسيأتي ذكر هذه الأحاديث وغيرها، والكلامُ على القَسَم بغير الله تعالى مفصَّلًا إن شاء الله تعالى
(1)
.
فصل
واعلم أنَّ مدار العذر على الجهل مع عدم التقصير في النظر، وإنما الشأن في ضبط التقصير، وهو أمرٌ مشتبهٌ جدًّا؛ فإنه ليس المراد به ألَّا يكون للإنسان استعداد للنظر أصلًا بأن يكون مجنونًا، ولا أن يكون قد صرف عمره كلَّه في البحث والنظر ولم يتشاغل عنه إلَّا بما لا يستطيع تركه كتناول ما يَسُدُّ رَمَقَه من الطعام والشراب، وكقضاء الحاجة ونحو ذلك، بل الأمر أوسع من هذا.
وقد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما يوضِّح هذا
(2)
، وأنَّ الأمور الموجبة للعذر من النسيان والخطأ وعدم الطاقة ليست بمنضبطة، ولكن لعلَّك إذا تَدَبَّرْتَ ما تقدَّم تستطيع التقريب.
وهاهنا قاعدة جليلة، وهي: أنَّ مَن رضي بالإسلام دينًا ولو إجمالًا فالأصل فيه أنه معذور في خطئه وغلطه، ومَن لم يرض بالإسلام دينًا فالأصل فيه أنه غير معذور، ولا يخرج أحدُهما عن أصله إلا ببيانٍ واضحٍ. هذا في الحكم الظاهر، فأمَّا عند الله عز وجل فالمدار على الحقيقة؛ ولهذا
(1)
انظر ص 989.
(2)
انظر ص 914 - 915 مُفْتَتَح فصل الأعذار.
كان يحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم [654] على أهل الفترة بالشرك والنار
(1)
، ولا يستثني أحدًا إلَّا مَن فارق شركهم، كزيد بن عمرو بن نفيل. ومَن حَقَّق النظر ربما يظهر له أنَّ كثيرًا منهم كانوا معذورين، ولكن ليس هناك بيان واضح؛ فلذلك حكم الشرعُ عليهم بالظاهر، وأَمْرُهُمْ عند الله موكولٌ إلى الله.
وقد جاء ما يدلُّ أنَّ أهل الفترة يُمْتَحَنُون يوم القيامة. قال الحافظ في الإصابة
(2)
في ترجمة أبي طالب: «وورد
(3)
من عدَّة طرقٍ في حقِّ الشيخ الهرِم، ومَن مات في الفترة، ومَن وُلِدَ أَكْمَهَ أَعْمَى أَصَمَّ، ومَن وُلِد مجنونًا أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ، ونحو ذلك، وأنَّ كلًّا منهم يُدْلي بحجة، ويقول: لو عقلتُ أو ذكرت لآمنتُ، فتُرفع لهم نار، ويُقال لهم: ادخلوها، فمَن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومَن امتنع أُدْخِلَها كَرْهًا. هذا معنى ما ورد من ذلك
(4)
، وقد جمعتُ طرقه في جزءٍ مفردٍ. ونحن نرجو أن يدخل
(1)
ورد ذلك في عدَّة أحاديث، منها حديث ابن عمر: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان. فأين هو؟ قال:«في النار» قال فكأنه وجد من ذلك. فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشِّرْه بالنار» قال: فأسلم الأعرابي بعد. سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، 1/ 501، ح 1573. وصححه البوصيري في الزوائد 2/ 43. وروي من حديث سعد بن أبي وقاص، وهو أشبه. انظر: السلسلة الصحيحة رقم 18. والصواب أنه مرسل. انظر: علل ابن أبي حاتم 5/ 693.
(2)
الإصابة ط: دار هجر (12/ 397 - 398).
(3)
في الإصابة: «والحديث الأخير ورد» .
(4)
ورد ذلك من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة أخرجه الإمام أحمد 4/ 24، وقال الهيثمي عن سنده: رجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 7/ 437، وذكر الحافظ ابن كثير في الباب أحاديث أخرى، انظرها في تفسيره (5/ 50 - 54) عند قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} في سورة الإسراء: 15.
عبد المطلب وآلُ بيته في جملة مَن يدخلها طائعًا فينجو، لكن ورد في أبي طالبٍ ما يدفع ذلك
…
»
(1)
.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحكم فيمن أسلم أنه على إسلامه وإن ظهر منه خلاف ذلك ما لم يتضح أمره، فمن ذلك قصَّة ذات أنواط، وقد تقدَّمت
(2)
، فعذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القائلين:«اجعل لنا ذات أنواط» مع بيانه أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} .
ومن ذلك حديث الصحيحين عن عِتبان بن مالك في صلاة النبي صلى الله [655] عليه وآله وسلَّم في بيته، وفيه: فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُن
(3)
؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«لا تقل ذاك، ألا تراه قد قال: «لا إله إلا الله» ، يريد بذلك وجه الله». قال: الله ورسوله أعلم. أما نحن فوالله لا نرى ودّه ولا حديثه إلا إلى المنافقين، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنَّ الله
(1)
(2)
ص 230.
(3)
في الأصل ــ هنا وفي ص 658 ــ: (الدُّخْش)، وقد أورده المؤلِّف على الصواب في ص 940.
قد حَرَّم على النار مَنْ قال: «لا إله إلا الله» ، يبتغي بذلك وجه الله»
(1)
.
وأخرج الشافعي وغيره عن عبيد الله بن عَدِي بن الخِيار أنَّ رجلًا سارَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم نَدْرِ ما سارَّه به حتى جهر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«أليس يشهد ألَّا إله إلا الله؟ » ، قال: بلى، ولا شهادة له، قال:«أليس يصلي؟ » ، قال: بلى، ولا صلاة له. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«أولئك الذين نهاني الله عنهم»
(2)
.
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري في قصة قَسْمِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذُّهَيْبَةَ التي بعث بها عليٌّ عليه السلام من اليمن أنَّ رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتق الله، فذكر الحديث، إلى أن قال: فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال:«لا، لعلَّه أن يكون يصلِّي» ، قال خالد: وكَم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لم أومر أن أُنَقِّبَ عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم»
(3)
.
(1)
البخاريّ، كتاب التهجُّد، باب صلاة النوافل جماعةً، 2/ 60، ح 1186. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلُّف عن الجماعة لعذرٍ، 2/ 126، ح 33. [المؤلف]
(2)
الأم، كتاب الحدود وصفة النفي، باب ما يحرم به الدم من الإسلام، 6/ 146 - 147. [المؤلف]
(3)
البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث عليٍّ وخالدٍ إلى اليمن، 5/ 164، ح 4351. مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 3/ 111، ح 1064 (144). [المؤلف]
وفي رواية: [656] أن المستأذن في قتل الرجل عمر بن الخطاب
(1)
.
قال العلماء: لعلَّ كلًّا من عمر وخالد استأذن في قتل الرجل.
وفي الصحيحين وغيرهما عن علي عليه السلام في قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يفشي إليهم سِرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوه إياهم، أنَّ عمر قال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«إنه قد شهد بدرًا» . الحديث
(2)
.
وفي الصحيحين وغيرهما في قصة الإفك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم خطب فقال: «مَن يعذرني في
(3)
رجلٍ قد بلغ أذاه في أهل بيتي»، فقام سعد بن معاذٍ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلًا صالحًا، ولكن اجتهلتْه الحميَّة، فقال لسعد بن معاذ: لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عمِّ سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كَذَبْتَ، لعمر الله لنقتلنَّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. الحديث
(4)
.
(1)
البخاريّ، كتاب استتابة المرتدِّين، باب مَن ترك قتال الخوارج للتألُّف
…
، 9/ 17، ح 6933. مسلم، الموضع السابق، 3/ 112، ح 1064 (148). [المؤلف]
(2)
البخاريّ، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، 5/ 145، ح 4274. مسلم، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل أهل بدرٍ، 7/ 168، ح 2494. [المؤلف]
(3)
كذا في الأصل، والذي في الصحيحين:«من رجلٍ» .
(4)
البخاريّ، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، 5/ 119، ح 4141. مسلم، كتاب التوبة، بابٌ في حديث الإفك، 8/ 116، ح 2770. [المؤلف]
وفي الصحيحين وغيرهما عن جابرٍ أنَّ معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه كان يصلِّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ يأتي قومه فيصلِّي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوَّز رجلٌ فصلَّى صلاةً خفيفةً، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافقٌ. فبلغ ذلك الرجلَ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إنَّا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بِنَوَاضِحِنَا
(1)
، وإنَّ معاذًا صلَّى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوَّزْتُ، فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«يا معاذ! أفتانٌ أنت» ، ثلاثًا. الحديث
(2)
.
وفي الصحيحين في قصَّة أسامة في سَرِيَّتِه إلى الحُرَقات
(3)
، وفيه قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار [657] رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فَكَفَّ الأنصاريُّ فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدِمنا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال:«يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ » قلت: كان متعوِّذًا، فما زال يكرُّرها حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم
(4)
.
(1)
الإبل أو الثيران او الحُمُرالتي يُستَقى عليها الماء، واحدها: ناضح. والأنثى بالهاء، ناضحة وسانية. النهاية 5/ 69.
(2)
البخاريّ، كتاب الأدب، باب مَن لم ير إكفار مَن قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلًا، 8/ 26 - 27، ح 6106. ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، 2/ 42، ح 465. [المؤلف]
(3)
قبيلةٌ من جهينة، والظاهر أنه جمع حُرَقة، واسمه جُهَيش بن عامرٍ سُمِّي الحرقة لأنه حرق قومًا بالنبل فبالغ في ذلك، ذكره ابن الكلبي. انظر: عمدة القاري 17/ 362.
(4)
البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم أسامة، 5/ 144، ح 4269. ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد قول الشهادة، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف]
وفي رواية: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح، قال:«أفلا شققت عن قلبه حتى [تعلم أ] قالها أم لا؟ »
(1)
.
وفي الصحيحين من حديث المقداد أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيتُ رجلًا من الكفار فاقْتَتَلْنَا فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا تقتلْه» ، فقال: يا رسول الله إنَّه قطع إحدى يَدَيَّ، ثم قال ذلك بعد ما قطعها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا تقتلْه، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنَّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال»
(2)
.
وفي قصة خالد بن الوليد في سَرِيَّته إلى بني جذيمة أنه قتل جماعة منهم، قد قالوا:«صبأنا»
(3)
ولم يحسنوا قولَ: «أسلمنا» ، فوداهم
(4)
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال:«اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»
(5)
.
(1)
صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 1/ 67، ح 96 (158). [المؤلف]. وما بين المعقوفتين سقط من الأصل، فاستُدرِك من الطبعة التي نقل عنها المؤلِّف.
(2)
البخاريّ، كتاب المغازي، باب 12، 5/ 85، ح 4019. مسلم، الموضع السابق، 1/ 66 - 67، ح 95. [المؤلف]
(3)
قال ابن بطّال: أرادوا بها «أسلمنا» ، فجهلوا فقالوا:«صبأنا» . وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع النبيِّ: «صبأ فلانٌ» .
(4)
أي: أعطى ديتهم. النهاية 5/ 169.
(5)
البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد
…
، 5/ 160 - 161، ح 4339. [المؤلف]
ووقع لخالد في قتال أهل الردة ما يشبه ذلك.
ففي هذه الأحاديث عذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمالك بن الدُّخْشن، والرجل الذي استؤذن في قتله، [658] والقائل له: اتق الله، وحاطب بن أبي بلتعة وسعد بن عبادة مع ما ظهر منهم، وَعَذَرَ المتكلمين في مالك بن الدُّخْشن والمستأمر في قتل الرجل، وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وأسيد بن حضير ومعاذًا وأسامة والمقداد مع تكفير كلٍّ منهم لمن ليس بكافرٍ، مع أن في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أيُّما رجلٍ قال لأخيه: (يا كافر) فقد باء بها أحدهما»
(1)
. وقد رُوي معنى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وقد ترجم البخاري في صحيحه لهذا الحديث:(باب مَن أكفر أخاه بغير تأويلٍ فهو كما قال). وترجم بعده: (باب مَن لم ير إكفار مَن قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلًا)، وذكر فيه قصَّة حاطبٍ ومعاذٍ
(2)
.
وقد ذهب جماعةٌ من الشافعيَّة إلى نحوٍ مما ترجم به البخاريُّ رحمه الله فقالوا: مَن كَفَّرَ مسلمًا بغير تأويل فهو كافر مرتدٌّ. وأطال ابن حجر الهيتمي في تقرير ذلك وتأييده في أوائل كتابه «الإعلام بقواطع الإسلام»
(3)
، ونقل نحوه
(1)
أخرجه البخاريُّ في كتاب الأدب، باب مَن كفَّر أخاه بغير تأويلٍ فهو كما قال، 8/ 26، ح 6104 ــ واللفظ له ــ. ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب مَن قال لأخيه المسلم: يا كافر، 1/ 56، ح 60 ــ بنحوه ــ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
انظر: البخاريّ، كتاب الأدب، 8/ 26 - 27. [المؤلف]
(3)
ص 340 - 345 (من طبعة الحلبي، 1398 هـ).
عن بعض المالكيَّة
…
فأما كَفُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل مَن ثبت نفاقه فقد بَيَّنَ سبب ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: [659]«لا يتحدَّث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه»
(1)
.
ولأنهم كانوا إذا سُئِلوا عن كلماتهم الخبيثة جحدوها واعتذروا عنها وأظهروا التوبة، فأمر الله تعالى بالإعراض عنهم، قال سبحانه:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 95].
فصل
واعلم أن من الأعذار ما ينفع في الحكم الظاهر وينفع في الآخرة، ومنها ما ينفع في الحكم الظاهر فقط، ومنها ما ينفع في الآخرة فقط، وأنَّ مدار الحكم الظاهر على الأمر الظاهر. ولذلك يكفي في ثبوت الرِّدَّة شاهدان، فلو شهدا أنَّ فلانًا مات مرتدًّا وجب الحكم بذلك، فلا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَنُ في مقابر المسلمين، ويعامَلُ معاملة المرتدِّ في جميع الأحكام.
وقد جرى العلماء في الحكم بالردَّة على أمورٍ، منها ما هو قطعيٌّ، ومنها ما هو ظنِّيٌّ، ولذلك اختلفوا في بعضها، ولا وجه لما يتوهَّمُه بعضهم أنه لا يكفَّر إلا بأمرٍ مجمعٍ عليه. وكذلك مَن تكلَّم بكلمة كفرٍ وليست هناك قرينةٌ
(1)
البخاريّ، كتاب التفسير، سورة التوبة، باب قوله:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} ، 6/ 154، ح 4905. مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 3/ 109 - 110، ح 1063. [المؤلف]
ظاهرةٌ تصرف تلك الكلمة عن المعنى الذي [660] هو كفرٌ إلى معنًى ليس بكفرٍ فإنه يَكْفُر، ولا أثر للاحتمال الضعيف أنه أراد معنى آخر.
وفي الشفاء عن صاحب سحنون
(1)
في رجل ذُكِرَ له رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «فعل الله برسول الله كذا وكذا» ، وذكر كلامًا قبيحًا، ثم قال:«أردتُ برسول الله العقرب» أنه لا يُقْبَلُ دعواه التأويلَ
(2)
. ونقله الهيتمي في الإعلام
(3)
، ثم قال: ومذهبنا لا يأبى ذلك.
وقال في الزواجر: «نقل إمام الحرمين عن الأصوليين أنَّ مَن نطق بكلمة الرِّدَّة وزعم أنه أضمر توريةً كَفَرَ ظاهرًا وباطنًا، وأَقَرَّهُم على ذلك»
(4)
.
أقول: وهو الموافق لقواعد الشريعة. ولو قُبِلَ من الناس مثلُ هذا التأويل لأصبح الدين لعبةً، يقول مَن شاء ما شاء مِن سبِّ الله وسَبِّ رسوله، فإن سُئِلَ اعتذرَ بما يُشْبِه هذا التأويل.
فإن قلت: فإنَّ قبول توبته يلزم منه مثلُ هذا الأمر، قلت: كلّا، فإنَّ قبول توبته معناه إثبات أنه ارتدَّ، ثم أسلم، ومثلُ هذا يعاب به بين الناس ويُوَبَّخُ
(1)
هو أحمد بن أبي سليمان، وسُحنون هو: عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي صاحب «المدونة» ، لازم أصحاب الإمام مالك: ابن وهب وابن القاسم وأشهب فصار سيد أهل المغرب، وكان من أهل العقل والديانة، توفي سنة 240 هـ. سير أعلام النبلاء 12/ 63 - 69.
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/ 217، وإنما لم يقبل التأويل لأن اللفظ صريح، وفيه امتهان للنبي صلى الله عليه وسلم، والمتكلِّم بهذا لم يوقِّر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحترمه.
(3)
ص 48. [المؤلف]
(4)
الزواجر 1/ 26. [المؤلف]
عليه، ويسقط من العيون، وهذا مانعٌ للسفهاء والملحدين عن إظهار ما يكفرون به بخلاف مَن يُقْبَلُ عُذْرُه، فتدبَّر.
وإذا كان الأمر كما سمعت في عدم قبول عذر مَن ذُكِرَ مع أنه قد زعم أنه لم يُرِدِ المعنى الذي هو كفرٌ، وذكر معنى آخر زعم أنه أراده، [661] فما بالك بمن يذكر مثل هذه الكلمة وأمثالها وأخبث منها ويؤلِّفُ فيها الكتب ويبنيها على شبهاتٍ عقليَّةٍ ويحتجُّ لها ويناضل عنها ويجهِّل مَن لم يقل بها، ويزعم أنَّه أدركها بالكشف وبالوحي لأنه من أولياء الله تعالى؟
هذه حال جماعةٍ من المتصوِّفة، وتجد كثيرًا من المنتسبين إلى العلم يعتذرون لهؤلاء المتصوِّفة بأنهم لم يريدوا المعاني الظاهرة، وإنما أرادوا معاني أُخر، ويسندون هذا العذر إلى أنَّ أولئك المتصوِّفة كانوا ملتزمين لأحكام الإسلام، وقد صرَّحوا في بعض كلامهم أنهم لا يخالفون الكتاب والسنة، وأنَّ مَن فهم من كلامهم مَعْنًى يخالف الكتاب والسنة فإنما أُتيَ من جهله بمعاني كلامهم أو جهله بالكتاب والسنة، وشبه ذلك. ولا يكتفون بذلك، بل يقولون: إن أولئك المتصوفة هم خيرة الله من المسلمين، وصفوته وأولياؤه. وكانت نتيجة هذا أنْ بقيت تلك الكتب تقرأ وتنسخ وتطبع وتنشر ويضلُّ بها كُلَّ يوم جماعة وبقي أتباعها ظاهرين مناضلين عن تلك المقالات، وآل الأمر بكثير من الناس إلى الكفر الصُّراح والشرك البواح، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
[662]
وهكذا تجد أكثر المنتسبين إلى العلم إذا أقيمت عليهم الحجة بأنَّ كثيرًا من الأفعال والأقوال المشهورة بين العامَّة كفر أو شرك أخذوا يتأوَّلون تأويلات ضعيفة قائلين: إن العوامَّ لا يقصدون هذا المعنى، كيف
وهم مسلمون يشهدون أَلَّا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن كلام الله؟
فإذا قلت لهم: إن العوامَّ ينذرون للموتى ويذبحون لهم ويدعونهم إلى غير ذلك، قالوا: أمَّا نذرهم للموتى فإنما يقصدون النذر لله عز وجل على أن يكون ثواب ما ينذرونه من صدقة أو نحوها هديّة منهم للموتى. كمن يتصدَّق بصدقة لوجه الله تعالى، ويجعل ثوابها لوالديه، وإنما يذبحون لله عز وجل ويتصدَّقون بالطعام، ويجعلون ثواب الصدقة للموتى، وإنما يقصدون بقولهم: يا بدوي يا رفاعي سؤال الله تعالى بحقِّ البدوي والرفاعي ونحو ذلك.
كذا يقولون، مع أنَّ مَنْ خالط العامة وعرف حالهم عَلِمَ أنَّ هذه التأويلات لا تخطر ببال أحد منهم، وإنما يريدون ما هو الظاهر من أفعالهم وأقوالهم.
نعم، إننا نعذر كثيرًا من العامة أو أكثرهم بالجهل وعدم قيام الحجة عليهم، ولكن الفرض على كُلِّ من أوتي حظًّا [663] من العلم أن يبيِّن للعامة حقيقة ما هم عليه ويبلِّغهم حجة الله عليهم ويحذِّرهم مما يصنعون، فإن لم يفعل فالتبعة عليه، ولا سيما إذا رضي بتلك الأقوال والأفعال ونصرها وساعد عليها وعادى مَن يسعى لإبطالها وعانده وَحَذَّرَ العامة من استماع قوله.
وكثير من المنتسبين إلى العلم يدركون هذه الحقيقة، ولكن الشيطان والهوى وحبَّ الدنيا وما يحصل لهم بسبب انتشار تلك الأقوال والأفعال بين العامة من تعظيمٍ ومنافع دنيوية يصدُّهم عن الحق ويحملهم على
عداوته، فالله المستعان.
واعلم أنَّ البلاء كل البلاء هو إيثار المنتسبين إلى العلم للدنيا ولذَّاتها وجاهها، فالذي يدافع عن المتصوِّفة إنما يحاول أن يشتهر بين العامة وجهلة الأمراء أنه وليٌّ من أولياء الله تعالى، فإن ساعدته الأحوالُ على هذه الدعوى فذاك وإلَّا اكتفى بما اشتهر أنَّ التسليم للأولياء وعدم الاعتراض عليهم ولاية صغرى. وأَقَلُّ أحواله أن يكون مقبولًا عند السواد الأعظم من الأغنياء والأمراء الذين ابتُلُوا بحسن الاعتقاد في أولئك المتصوفة ظنًّا منهم أنَّ محبتهم إياهم تجرِّدهم من قيود الشريعة فلا يبقى عليهم حساب ولا عقاب، [664] ولا يضرُّهم ترك الصلاة والصيام ولا ارتكاب الفواحش، بل يتمُّ لهم نعيم الدنيا وشهواتها ونعيم الجنة ودرجاتها. وقد وضع لهم شياطين الإنس حكايات وقصصًا تهيِّجهم على هذا الاعتقاد كالأشعار المكذوبة على الشيخ عبد القادر ونحوها.
وإنَّ المنتسبين إلى التصوُّف في الهند وغيرها ليحضر عندهم الغني أو الأمير المجاهر بالفسق بحيث ليس له من الإسلام إلا اسمه، فيعظِّمونه ويحترمونه ويمدحونه ويثنون عليه، ويؤكِّدون له أنَّه باعتنائه بهم قد أحرز سعادة الدنيا والآخرة، وكلما جاءهم كان كلامهم معه كله في تعظيمه ومدحه وإقناعه بأنَّه من الفائزين دنيا وأخرى، وتحريضه على قضاء حوائجهم وحوائج أتباعهم ومَن يتشفَّع بهم، ولا يكادون يعرِّضون له أدنى تعريض بأنَّ عليه أن يلتزم الفرائض الإسلامية ويجتنب الكبائر، بل إن أحدهم قد يكون يتكلَّم بموعظةٍ فإذ دخل أحد أولئك الأغنياء أو الأمراء اختصر الوعظ وتجنَّب أن يكون فيه كلمةٌ تؤثِّر على ذلك الغني. فإذا كان معروفًا بترك
الصلاة وشرب الخمر والفجور ونحو ذلك لم يتعرَّض الواعظ في وعظه لشيء من ذلك، [665] خشية أن يتوهم ذلك الغني أنه تعريض به فينفر فيحرم هذا الواعظ من المنافع الدنيوية التي كان ينالها منه. بل يقتصر على فضائل الصالحين وما لهم من الجاه العظيم وما في محبَّتهم وخدمتهم من الخير الجسيم، وأنَّ مَن أحبَّهم فاز دنيا وأخرى، ونحو ذلك. بل قد وَسَّعُوا الدائرة للكفار والمشركين فأعلموهم أنهم إذا أحبُّوا المتصوِّفين واحترموهم وبذلوا لهم الأموال حصلت لهم سعادة الدنيا وإن كانوا مصرِّين على شركهم وكفرهم، بل وقد يوهمونهم أنهم يفوزون بالنجاة في الآخرة أيضًا، بل ربما صَرَّحَ بعضهم بذلك.
وهذا الأمر هو أعظم البواعث لكثير من عقلاء العصر على عدم الإسلام؛ لأنهم يتوهمون أن الإسلام هو ما عليه هؤلاء المتصوِّفون وأضرابهم، فإذا تدبَّروا ما هم عليه وجدوا جهالات وخرافات ومحالات ودجلا ومكرًا لعلَّه يفوق ما عند رهبان النصارى وطواغيت المشركين. بل إنَّ هذا الأمر نفسه قد وَرَّطَ كثيرًا من عقلاء المسلمين في الإلحاد الصريح، وهذا الوباء يتفشَّى بسرعة مخيفة.
وبالجملة، فإنَّك إذا طلبت الإسلام مما يظهر لك منه في هذا العصر وما قرب منه تمثَّلَتْ لك صورة إذا قارنتها بالإسلام المعروف في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وما قرُب منهم، لم تكد تجد بينهما مناسبةً مَّا، فمَن أراد الإسلام حقًّا فعليه أن يطلبه من مَعدِنه من كتاب الله وسنَّة رسوله وعمل القرن الأوَّل وما قرب منه، والله الموفق.