المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط العلمية

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في أسماء المحبة

- ‌الباب الثاني: في اشتغال هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الباب الثالثفي نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين

- ‌الباب الرابع: في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب

- ‌الباب الخامس:في دواعي المحبة ومتعلقها

- ‌الباب السادس: في أحكام النظر وعائلته وما يجني على صاحبه

- ‌الباب السابع: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل واحد منهما صاحبه والحكم بينهما

- ‌الباب الثامن: في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه

- ‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

- ‌الباب العاشر: في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناسفيه

- ‌الباب الحادي عشر: في العشق هل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه

- ‌الباب الثاني عشر: في سكرة العشاق

- ‌الباب الثالث عشر: في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان

- ‌لباب الرابع عشر: فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه

- ‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

- ‌الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين

- ‌الباب السابع عشر: في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

- ‌الباب الثامن عشر: في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال

- ‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

- ‌الباب الحادي والعشرون: في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌الباب الثاني والعشرون: في غيرة المحبين على أحبابهم

- ‌الباب الثالث والعشرون: في عفاف المحبين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ارتكاب سبيلي الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

- ‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى وقد تقدم ذكر الآيات

الفصل: ‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

قال الله تعالى إخبارا عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا وقد أثنى الله عليهم سبحانه بهذا الدعاء الذي سألوه فيه أن لا يحملهم مالا طاقة لهم به وقد فسر ذلك بالعشق وليس المراد اختصاصه به بل المراد أن العشق مما لا طاقة للعبد به وقال مكحول هو شدة الغلمة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه قال الإمام أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل الناس لمعشوقه ولما يحصل به رضاه والحب مبناه على الذل والخضوع للمحبوب كما قيل

اخضع وذل لمن تحب فليس في

شرع الهوى أنف يشال ويعقد

وقال آخر

مساكين أهل العشق حتى قبورهم

عليها تراب الذل بين المقابر

ص: 182

وقال آخر

قالوا عهدناك ذا عز فقلت لهم

لا يعجب الناس من ذل المحبينا

لا تنكروا ذلة العشاق إنهم

مستعبدون برق الحب راضونا

قالوا وإذا اقتحم العبد بحر العشق ولعبت به أمواجه فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة كما ذكر الخرائطي أنه كان بالمدينة جارية ظريفة فهويت رجلا من قريش وكان لا يفارقها ولا تفارقه فملها وزاد حبها له فسقمت وجعل مولاها لا يعبأ بشكواها ولا يرق لها حتى هامت على وجهها ومزقت ثيابها وأفضت إلى أمر عظيم فلما رأى ما صرت إليه عالجها فلم ينفع فيها العلاج وكانت تدور في السكك بالليل وتقول

ألحب أول ما يكون لجاجة

تأتي به وتسوقه الأقدار

حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى

جاءت أمور لا تطاق كبار

من ذا يطيق كما نطيق من الهوى

غلب العزاء وباحت الأسرار

قال الخرائطي وأنشدني بعض أصحابنا

الحب أوله شيء يهيم به

قلب المحب فيلقى الموت كاللعب

يكون مبدؤه من نظرة عرضت

ومزحة أشعلت في القلب كاللهب

كالنار مبدؤها من قدحة فإذا

تضرمت أحرقت مستجمع الحطب

ص: 183

قالوا وكيف يمدح أمر يمنع القرار ويسلب المنام ويوله العقل ويحدث الجنون بل هو نفسه جنون كما قال بعض الحكماء الجنون فنون والعشق فن من فنونه كما قال بعض العشاق

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم

ألعشق أعظم مما بالمجانين

ألعشق لا يستفيق الدهر صاحبه

وإنما يصرع المجنون في الحين

قالوا وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه قال الزبير بن بكار جاءت بدوية إلى أخت لها فقالت كيف بك من حب فلان قالت حرك والله حبه الساكن وسكن المتحرك ثم أنشأت تقول

فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى

وبالريح لم يسمع لهن هبوب

ولو أنني أستغفر الله كلما

ذكرتك لم تكتب علي ذنوب

فقلت والله لأسألنه كيف هو من حبك فجاءته فسألته فقال إنما الهوى هوان ولكنه خولف باسمه وإنما يعرف ذلك من استبكته المعالم والطلول

وأنشد أبو الفضل الربعي

قد أمطرت عيني دما فدماؤها

بعد الدموع من الجفون هوامل

كيف العزاء ولا يزال من الضنى

في الجسم مني والجوانح نازل

لهفي على زمن مضى تجتازني

فيه صروف الدهر وهي عواقل

قالوا والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح ولا يقع معه

ص: 184

الارتياح بل هو بحر من ركبه غرق فإنه لا ساحل له ولا نجاة منه وهو الذي قال فيه القائل

وما أحد في الناس يحمد أمره

فيوجد إلا وهو في الحب أحمق

وما أحد ما ذاق بؤس معيشة

فيعشق إلا ذاقها حين يعشق

وقال العباس بن الأحنف

ويح المحبين ما أشقى نفوسهم

إن كان مثل الذي بي بالمحبينا

يشقون في هذه الدنيا بعشقهم

لا يرزقون به دنيا ولا دينا

وقال آخر

ألعشق مشغلة عن كل صالحة

وسكرة العشق تنفي لذة الوسن

وقال محمد بن أبي محمد اليزيدي

كيف يطيق الناس وصف الهوى

وهو جليل ما له قدر

بل كيف يصفو لحليف الهوى

عيش وفيه البين والهجر

وقال محمد بن أمية

قرين الحب يأنس بالهموم

ويكثر فكرة القلب السقيم

وأعظم ما يكون به اغتباطا

على خطر ومطلع عظيم

وقال أبو تمام

أما الهوى فهو العذاب فإن جرت

فيه النوى فأليم كل عذاب

وقال ابن أبي حصينة

والعشق يجتذب النفوس إلى الردى

بالطبع واحسدي لمن لم يعشق

ص: 185

وقال ابن المعتز

الحب داء عضال لا دواء له

يحار فيه الأطباء النحارير

قد كنت أحسب أن العاشقين غلوا

في وصفه فإذا بالقوم تقصير

وقال أعرابي

ألا ما الهوى والحب بالشيء هكذا

يذل به طوع اللسان فيوصف

ولكنه شيء قضى الله أن

هو الموت أو شيء من الموت أعنف

فأوله سقم وآخره ضنى

وأوسطه شوق يشف ويتلف

وروع وتسهيد وهم وحسرة

ووجد على وجد يزيد ويضعف

وقال عبد المحسن الصوري

ما الحب إلا مسلك خطر

عسر النجاة وموطىء زلق

وقال آخر

وكان ابتداء الذي بي مجونا

فلما تمكن أمسى جنونا

وكنت أظن الهوى هينا

فلاقيت منه عذابا مهينا

وقالت امرأة

رأيت الهوى حلوا إذا اجتمع الشمل

ومرا على الهجران لا بل هو القتل

فمن لم يذق للهجر طعما فإنه

إذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل

وقد ذقت طعميه على القرب والنوى

فأبعده قتل وأقربه خبل

ص: 186

قالوا والعشق يترك الملك مملوكا والسلطان عبدا كما قال الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل وكان ملك الأندلس

ظل من فرط حبه مملوكا

ولقد كان قبل ذاك مليكا

تركته جآذر القصر صبا

مستهاما على الصعيد تريكا

يجعل الخد واضعا فوق ترب

للذي يجعل الحرير أريكا

هكذا يحسن التذلل بالحر

إذا كان في الهوى مملوكا

وقال الرشيد وقد عشق ثلاث جوار من جواريه ويقال إنه المأمون

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي بكل مكان

مالي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهن وهن في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى

وبه قوين أعز من سلطاني

وقال بعض الملوك في جارية له عشقها وكانت كثيرة التجني عليه

أما يكفيك أنك تملكيني

وأن الناس كلهم عبيدي

وأنك لو جهدت على تلافي

لقلت من الرضا أحسنت زيدي

وقال ابن طاهر ملك خراسان

فإني وإن حنت إليك ضمائري

فما قدر حبي أن يذل له قدري

وقال ابن الأحمر ملك الأندلس

أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي

على كل حال أنت لا بد لي منك

فإما بذل وهو أليق بالهوى

وإما بعز وهو أليق بالملك

ص: 187

قالوا وكم ممن هرب من الحب إلى مظان التلف ليتخلص من التلف بالتلف قال دعبل الشاعر كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا بفتى يجر رمحه بين يدي فالتفت فنظر إلي فقال أنت دعبل قلت نعم قال اسمع مني ثم أنشدني فقال

أنا في أمري رشاد

بين غزو وجهاد

بدني يغزو عدوي

والهوى يغزو فؤادي

ثم قال كيف ترى قلت جيد والله قال فوالله ما خرجت إلا هاربا من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال أصرم بن حميد

نحن قوم تليننا الحدق النجل

على أننا نلين الحديدا

طوع أيدي الظباء تقتادنا العين

ونقتاد بالطعان الأسودا

تتقي سخطنا الليوث ونخشى

صولة الخشف حين يبدي الصدودا

وترانا عند الكريهة أحرا

را وفي السلم للغواني عبيدا

قالوا ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص ولات حين مناص قال الخرائطي أنشدني أبو جعفر العبدي

إن الله نجاني من الحب لم أعد

إليه ولم اقبل مقالة عاذلي

ومن لي بمنجاة من الحب بعدما

رمتني دواعي الحب بين الحبائل

وقال أبو عبيدة الحبائل الموت قال وأنشدني أبو عبيد الله بن الدولابي

دعوت ربي دعاء فاستجاب له

كما دعا ربه نوح وأيوب

أن ينزع الداء من صدري ويجعله

في صدر سلمى وحمل الداء تعطيب

ص: 188

أو يشف قلبي سريعا من صبابته

فلا أحن إذا حن المطاريب

قالوا وكم أكبت فتنة العشق رؤوسا على مناخرها في الجحيم وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين وكم أزالت من نعمة وأحلت من نقمة وكم أنزلت من معقل عزه عزيزا فإذا هو من الأذلين ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل السافلين وكم كشفت من عورة وأحدثت من روعة وأعقبت من ألم وأحلت من ندم وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد وأذهبت قدرا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد وكم جلبت من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء فقل أن يفارقها زوال نعمة أو فجاءة نقمة أو تحويل عافية أو طروق بلية أو حدوث رزية فلو سألت النعم ما الذي أزالك والنقم ما الذي أدالك والهموم والأحزان ما الذي جلبك والعافية ما الذي أبعدك وجنبك والستر ما الذي كشفك والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك والحياة ما الذي كردك وشمس الإيمان ما الذي كورك وعزة النفس ما الذي أذلك وبالهوان بعد الإكرام بدلك لأجابتك بلسان الحال اعتبارا إن لم تجب بالمقال حوارا

هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يكفي اللبيب

ص: 189

موعظة واستبصارا ما قصه الله سبحانه وتعالى عليه في سورة الأعراف في شأن أصحاب الهوى المذموم تحذيرا واعتبارا فبدأ سبحانه وتعالى بهوى إبليس الحامل له على التكبر عن طاعة الله عز وجل في أمره بالسجود لآدم فحمله هوى النفس وإعجابه بها على أن عصى أمره وتكبر على طاعته فكان من أمره ما كان ثم ذكر سبحانه هوى آدم حين رغب في الخلود في الجنة وحمله هواه على أن أكل من الشجرة التي نهي عنها وكان الحامل له على ذلك هوى النفس ومحبتها للخلود فكان عاقبة ذلك الهوى والشهوة إخراجه منها إلى دار التعب والنصب وقيل إنه إنما أكل منها طاعة لحواء فحمله حبه لها أن أطاعها ودخل في هواها وإنما توصل إليه عدوه من طريقها ودخل عليه من بابها فأول فتنة كانت في هذا العالم بسبب النساء

ثم ذكر سبحانه فتنة الكفار الذين أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه وحرموا زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وتعبدوا له بالفواحش وزعموا أنه أمرهم بها واتخذوا الشياطين أولياء من دونه والحامل لهم على ذلك كله الهوى والحب الفاسد وعليه حاربوا رسله وكذبوا كتبه وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم دونه حتى خسروا الدنيا والآخرة ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة قوم نوح وما أصارهم إليه الهوى من الغرق في الدنيا ودخول النار في الآخرة ثم ذكر قصة عاد وما أفضى إليه بهم الهوى من الهلاك الفظيع والعقوبة المستمرة ثم قصة قوم صالح كذلك ثم قصة العشاق أئمة الفساق وناكحي الذكران وتاركي النسوان وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون وقطع دابرهم

ص: 190

وهم في سكر عشقهم يعمهون وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أمة من الأمم أجمعين وجعلهم سلفا لإخوانهم اللوطية من المتقدمين والمتأخرين ولما تجرأوا على هذه المعصية ومردوا ونهجوا لإخوانهم طريقا وقاموا بأمرها وقعدوا ضجت الملائكة إلى الله من ذلك ضجيجا وعجت الأرض إلى ربها من هذا الأمر عجيجا وهربت الملائكة إلى أقطار السموات وشكتهم إلى الله جميع المخلوقات وهو سبحانه وتعالى قد حكم أنه لا يأخذ الظالمين إلا بعد إقامة الحجة عليهم والتقدم بالوعد والوعيد إليهم فأرسل إليهم رسوله الكريم يحذرهم من سوء صنيعهم وينذرهم عذابه الأليم فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة على رؤوس الملإ منهم والأشهاد وصاح بها بين أظهرهم في كل حاضر وباد وقال فكان في قوله لهم من أعظم الناصحين {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} ثم أعاد لهم القول نصحا وتحذيرا وهم في سكرة عشقهم لا يعقلون {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} فأجاب العشاق جواب من أركس في هواه وغيه فقلبه بعشقه مفتون و {قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} فلما أن حان الوقت المعلوم وجاء ميقات نفوذ القدر المحتوم أرسل الرحمن تبارك وتعالى لتمام الإنعام والامتحان إلى بيت لوط ملائكة في صورة البشر وأجمل ما يكون من الصور وجاءوه في صورة الأضياف النزول بذي الصدر الرحيب {سِيءَ بِهِمْ

ص: 191

وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} وجاء الصريخ إلى اللوطية أن لوطا قد نزل به شباب لم ينظر إلى مثل حسنهم وجمالهم الناظرون ولا رأى مثلهم الراؤون فنادى اللوطية بعضهم يعضا أن هلموا إلى منزل لوط ففيه قضاء الشهوات ونيل أكبر اللذات {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} فلما دخلوا إليه وهجموا عليه قال لهم وهو كظيم من الهم والغم وقلبه بالحزن عميد {اقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} فلما سمع اللوطية مقاله أجابوه جواب الفاجر المجاهر العنيد {قَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فقال لهم لوط مقالة المضطهد الوحيد {وْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} فلما رأت رسل الله ما يقاسي نبيه من اللوطية كشفوا له عن حقيقة الحال وقالوا هون عليك {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} فسر نبي الله سرور المحب وافاه الفرج بغتة على يد الحبيب وقيل له {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} ولما أبوا إلا مراودته عن أضيافه ولم يرعوا حق الجار ضرب جبريل بجناحه على وجوههم فطمس منهم الأعين وأعمى الأبصار فخرجوا من عنده عميانا يتحسسون ويقولون ستعلم غدا ما يحل بك أيها

ص: 192

المجنون فلما انشق عمود الصبح جاء النداء من عند رب الأرباب أن اخسف بالأمة اللوطية وأذقهم أليم العذاب فاقتلع القوي الأمين جبريل مدائنهم على ريشة من جناحه ورفعها في الجو حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأتبعوا الحجارة من سجيل وهو الطين المستحجر الشديد وخوف سبحانه إخوانهم على لسان رسوله من هذا الوعيد فقال تعالى {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} فهذه عاقبة اللوطية عشاق الصور وهم السلف وإخوانهم بعدهم على الأثر

وإن لم يكونوا قوم لوط بعينهم

فما قوم لوط منهم ببعيد

وإنهم في الخسف ينتظرونهم

على مورد من مهلة وصيد

يقولون لا أهلا ولا مرحبا بكم

ألم يتقدم ربكم بوعيد

فقالوا بلى لكنكم قد سننتم

صراطا لنا في العشق غير حميد

أتينا به الذكران من عشقنا لهم

فأوردنا ذا العشق شر ورود

فأنتم بتضعيف العذاب أحق من

متابعكم في ذاك غير رشيد

فقالوا وأنتم رسلكم أنذرتكم

بما قد لقيناه بصدق وعيد

فما لكم فضل علينا فكلنا

نذوق عذاب الهون جد شديد

كما كلنا قد ذاق لذة وصلهم

ومجمعنا في النار غير بعيد

وكذلك قوم شعيب إنما حملهم على بخس المكيال والميزان فرط محبتهم للمال وغلبهم الهوى على طاعة نبيهم حتى أصابهم العذاب

ص: 193

وكذلك قوم فرعون حملهم الهوى والشهوة وعشق الرئاسة على تكذيب موسى حتى آل بهم الأمر إلى ما آل وكذلك أهل السبت الذين مسخوا قردة إنما أتوا من جهة محبة الحيتان وشهوة أكلها والحرص عليها وكذلك الذي آتاه الرب تبارك وتعالى آياته {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} وقال تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} وتأمل قوله تعالى آتيناه آياتنا فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو ثم قال {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ولم يقل فسلخناه بل أضاف الانسلاخ إليه وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ الدالة على تخليه عنها بالكلية وهذا شأن الكافر وأما المؤمن ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه فإنه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية ثم قال {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ولم يقل فتبعه فإن في أتبعه إعلاما بأنه أدركه ولحقه كما قال الله تعالى فأتبعوهم مشرقين أي لحقوهم ووصلوا إليهم ثم قال {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ففي ذلك دليل على أن مجرد العلم لا يرفع صاحبه فهذا قد أخبر الله سبحانه أنه آتاه آياته ولم يرفعه بها فالرفعة بالعلم قدر زائد على مجرد تعلمه ثم أخبر الله عز وجل عن السبب الذي منعه أن يرفع بها فقال {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وقوله {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} أي سكن إليها ونزل بطبعه إليها فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء قال سهل قسم الله الأعضاء من الهوى لكل عضو منه حظا فإذا مال عضو

ص: 194

منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضا أرضا سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل القلب إلى العرش ثم ذكر سبحانه مثل المتبع لهواه كمثل الكلب الذي لا يفارقه اللهث في حالتي تركه والحمل عليه فهكذا هذا لا يفارقه اللهث على الدنيا راغبا وراهبا

والمقصود أن هذه السورة من أولها إلى آخرها في ذكر حال أهل الهوى والشهوات وما آل إليه أمرهم فالعشق والهوى أصل كل بلية قال عدي ابن ثابت كان في زمن بني إسرائيل راهب يعبد الله حتى كان يؤتى بالمجانين يعوذهم فيبرأون على يديه وإنه أتي بامرأة ذات شرف من قومها قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فلم يزل الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها لم يزل يخوفه ويزين له قتلها حتى قتلها ودفنها فذهب الشيطان في صورة رجل حتى أتى بعض إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا كبر علي ذكره فذكر ذلك بعضهم لبعض حتى رفعوا ذلك إلى ملكهم فسار الناس إليه حتى استنزلوه من صومعته فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك قال

ص: 195

نعم قال تسجد لي سجدة واحدة فسجد له وقتل الرجل فهو قول الله تعالى {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}

وقال واصل مولى أبي عيينة دخلت على محمد بن سيرين فقال لي هل تزوجت فقلت لا قال وما يمنعك قلت قلة الشيء قال تزوج عبد الله بن محمد بن سيرين ولا شيء له فرزقه الله

ثم حدث أن امرأة من بني إسرائيل يقال لها ميسونة خاصمت إلى حبرين من بني إسرائيل فعلقاها قال وكان كل واحد منهما يكتم صاحبه ما يجد منها فأخبرا أنها في حائط تغتسل قال فجاءا فتسورا عليها الحائط فلما رأتهما دخلت غمرا من الماء فوارت نفسها فقالا لها إنك إن لم تفعلي غدونا فشهدنا عليك بالزور فأبت فشهدا عليها فلما قربت ليقام عليها الحد نزل الوحي على دانيال بتكذيبهما فهذا بعض فتنة العشق

وقد روى شعبة عن عبد الملك بن عمير قال سمعت مصعب بن سعد يقول كان سعد يعلمنا هذا الدعاء ويذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 196

"اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء وأعوذ بك من عذاب القبر"

وقال الحسن بن عرفة حدثنا أبو معاوية الضرير عن ليث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنه لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء وهو كفر من بقي أيضا

وقد روى سفيان بن عيينة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت على أمتي بعدي أضر على الرجال من النساء"

وروى أبو إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الخمر والنساء" وقال علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء

وروى سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قيل لآدم ما حملك على أكل الشجرة قال يا رب زينت لي حواء قال فإني قد عاقبتها لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها وأدميتها في الشهر مرتين

ص: 197

وقال ابن عباس رضي الله عنهما أو غيره أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء

قالوا ويكفي من مضرة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق وذلك موجود في كل زمان

فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة لقولها ونحن نعقد للحكم بين الطائفتين بابا مستقلا بعون الله تعالى

ص: 198