المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط العلمية

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في أسماء المحبة

- ‌الباب الثاني: في اشتغال هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الباب الثالثفي نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين

- ‌الباب الرابع: في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب

- ‌الباب الخامس:في دواعي المحبة ومتعلقها

- ‌الباب السادس: في أحكام النظر وعائلته وما يجني على صاحبه

- ‌الباب السابع: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل واحد منهما صاحبه والحكم بينهما

- ‌الباب الثامن: في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه

- ‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

- ‌الباب العاشر: في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناسفيه

- ‌الباب الحادي عشر: في العشق هل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه

- ‌الباب الثاني عشر: في سكرة العشاق

- ‌الباب الثالث عشر: في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان

- ‌لباب الرابع عشر: فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه

- ‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

- ‌الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين

- ‌الباب السابع عشر: في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

- ‌الباب الثامن عشر: في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال

- ‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

- ‌الباب الحادي والعشرون: في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌الباب الثاني والعشرون: في غيرة المحبين على أحبابهم

- ‌الباب الثالث والعشرون: في عفاف المحبين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ارتكاب سبيلي الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

- ‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى وقد تقدم ذكر الآيات

الفصل: ‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

وقبل الخوض في ذلك لا بد من ذكر أقسام لنفوس ومحابها فنقول

النفوس ثلاثة نفس سماوية علوية فمحبتها منصرفة إلى المعارف واكتساب الفضائل والكمالات الممكنة للإنسان واجتناب الرذائل وهي مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى وذلك قوتها وغذاؤها ودواؤها فاشتغالها بغيره هو داؤها

ونفس سبعية غضبية فمحبتها منصرفة إلى القهر والبغي والعلو في الأرض والتكبر والرئاسة على الناس بالباطل فلذتها في ذلك وشغفها به

ونفس حيوانية شهوانية فمحبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب والمنكح وربما جمعت الأمرين فانصرفت محبتها إلى العلو في الأرض والفساد كما قال الله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}

وقال في آخر السورة {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} والحب في هذا العالم دائر بين هذه النفوس الثلاثة فأي نفس منها صادفت ما يلائم طبعها استحسنته ومالت إليه ولم تصغ فيه لعاذل ولم تأخذها فيه لومة لائم وكل قسم

ص: 259

من هذه الأقسام يرون أن ما هم فيه أولى بالإيثار وأن الاشتغال بغيره والإقبال على سواه غبن وفوات حظ فالنفس السماوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبة طبعية بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم

فالملائكة أولياء هذا النوع في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم}

فالملك يتولى من يناسبه بالنصح له والإرشاد والتثبيت والتعليم وإلقاء الصواب على لسانه ودفع عدوه عنه والاستغفار له إذا زل وتذكيره إذا نسي وتسليته إذا حزن وإلقاء السكينة في قلبه إذا خاف وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها وإيعاد صاحبه بالخير وحضه على التصديق بالوعد وتحذيره من الركون إلى الدنيا وتقصير أمله وترغيبه فيما عند الله فهو أنيسه في الوحدة ووليه ومعلمه ومثبته ومسكن جأشه ومرغبه في الخير ومحذره من الشر يستغفر له إن أساء ويدعو له بالثبات إن أحسن وإن بات طاهرا يذكر الله بات معه في شعاره فإن قصده عدو له بسوء وهو نائم دفعه عنه

ص: 260

فصل والشياطين أولياء النوع الثاني يخرجونهم من النور إلى الظلمات قال الله تعالى: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم} وقال تعالى: {كتب عليه أنه من كولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير وقال تعالى ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا} وقال تعالى: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}

فهذا النوع بين نفوسهم وبين الشياطين مناسبة طبعية بها ملت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم فالشياطين تتولاهم بضد ما تتولى الملائكة لمن ناسبهم فتؤزهم إلى المعاصي أزا وتزعجهم إليها إزعاجا لا يستقرون معه ويزينون لهم القبائح ويخفقونها على قلوبهم ويحلونها في نفوسهم ويثقلون عليها الطاعات ويثبطونهم عنها وبقبحونها في أعينهم ويلقون على ألسنتهم أنواع القبيح من الكلام وما لا يفيد ويزينونه في أسماع من يسمعه منهم

ص: 261

يبيتون معهم حيث باتوا ويقيلون معهم حيث قالوا ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم يأكلون معهم ويشربون معهم ويجامعون معهم وينامون معهم قال تعالى {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} وقال تعالى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}

فصل وأما النوع الثالث فهم أشباه الحيوان ونفوسهم أرضية سفلية لا تبالي بغير شهواتها ولا تريد سواها إذا عرفت هذه المقدمة فعلامات المحبة قائمة في كل نوع بحسب محبوبه ومراده فمن تلك العلامات تعرف من أي هذه الأقسام هو فنذكر فصولا من علامات المحبة التي يستدل بها عليها

فمنها إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن ضمائره والكاشفة لأسراره وهي أبلغ في ذلك من اللسان لأن دلالتها بغير اختيار صاحبها ودلالة اللسان لفظية تابعة لقصده فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيف ما دار ويجول معه في النواحي والأقطار كما قال

أذود سوام الطرف عنك وماله

على أحد إلا عليك طريق

ص: 262

بل المحب في عين المحبوب تمثاله كما في قلبه شخصه ومثاله كما قيل

ومن عجب أني أحن إليهم

وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها

ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

فالمحب نظره وقف على محبوبه كما قال

إن يحجبوها عن العيون فقد

حجبت عيني لها عن البشر

فصل ومنها إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرفإلى الأرض قال الله تعالى مخبرا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وهذا غاية الأدب فإن البصر لم يزغ يمينا ولا شمالا ولا طمح متجاوزا إلى ما هو رائيه ومقبل عليه كالمتشارف إلى ما وراء ذلك ولهذا اشتد نهي النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي أن يزيغ بصره إلى السماء وتوعدهم على ذلك بخطف أبصارهم إذ هذا من كمال الأدب مع من المصلي واقف بين يديه بل ينبغي له أن يقف ناكس الرأس مطرقا إلى الأرض ولولا أن عظمة رب العالمين سبحانه فوق سماواته على عرشه لم يكن فرق بين النظر إلى فوق أو إلى أسفل

ص: 263

فصل ومنها كثرة ذكر المحبوب واللهج بذكره وحديثه فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال وأمرهم بذكره أخوف ما يكونون فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والمحبون يفتخرون بذكرهم أحبابهم وقت المخاوف وملاقاة الأعداء كما قال قائلهم

ذكرتك والخطي يخطر بيننا

وقد نهلت منا المثقفة السمر

وقال آخر

ولقد ذكرتك والرماح كأنها

أشطان بئر في لبان الأدهم

فوددت تقبيل السيوف لأنها

برقت كبارق ثغرك المتبسم

وفي بعض الآثار الإلهية إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه فعلامة المحبة الصادقة ذكر المحبوب عند الرغب والرهب وقال بعض المحبين في محبوبه

يذكرنيك الخير والشر والذي

أخاف وأرجو والذي أتوقع

ص: 264

ومن الذكر الدال على صدق المحبة سبق ذكر المحبوب إلى قلب المحب ولسانه عند أول يقظة من منامه وأن يكون ذكره آخر ما ينام عليه كما قال قائلهم

آخر شيء أنت في كل هجعة

وأول شيء أنت وقت هبوبي

وذكر المحبوب لا يكون عن نسيان مستحكم فإن ذكره بالقوة في نفس المحب ولكن لضيق المحل به يرد عليه ما يغيب ذكره فإذا زال الوارد عاد الذكر كما كان وأعلى أنواع ذكر الحبيب أن يحبس المحب لسانه على ذكره ثم يحبس قلبه على لسانه ثم يحبس قلبه ولسانه على شهود مذكوره وكما أن الذكر من نتائج الحب فالحب أيضا من نتائج الذكر فكل منهما يثمر الآخر وزرع المحبة إنما يسقى بماء الذكر وأفضل الذكر ما صدر عن المحبة فصل ومن علاماتها الانقياد لأمر المحبوب وإيثاره على مراد المحب بل يتحد مراد المحب والمحبوب وهذا هو الاتحاد الصحيح لا الاتحاد الذي يقوله إخوان النصارى من الملاحدة فلا اتحاد إلا في المراد وهذا الاتحاد علامة المحبة الصادقة بحيث يكون مراد الحبيب والمحب واحدا فليس بمحب صادق من له إرادة تخالف مراد محبوبه منه بل هذا مريد من محبوبه لا مريد له وإن كان مريدا له فليس مريدا لمراده فالمحبون ثلاثة أقسام منهم من يريد من المحبوب ومنهم من يريد المحبوب ومنهم من يريد مراد المحبوب مع إرادته للمحبوب وهذا أعلى أقسام المحبين وزهد هذا أعلى أنواع الزهد فإنه قد

ص: 265

زهد في كل إرادة تخالف مراد محبوبه وبين هذا وبين الزهد في الدنيا أعظم مما بين السماء والأرض فالزهد خمسة أقسام زهد في الدنيا وزهد في النفس وزهد في الجاه والرئاسة وزهد فيما سوى المحبوب وزهد في كل إرادة تخالف مراد المحبوب وهذا إنما يحصل بكمال المتابعة لرسول الحبيب

قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فجعل سبحانه متابعة رسوله سببا لمحبتهم له وكون العبد محبوبا لله أعلى من كونه محبا لله فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل

تعصي الإله وأنت تزعم حبه

هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

فصل ومن علاماتها قلة صبر المحب عن المحبوب بل ينصرف صبره إلى الصبر على طاعته والصبر عن معصيته والصبر على أحكامه فهذا صبر المحب وأما الصبر عنه فصبر الفارغ عن محبته المشغول بغيره قال

والصبر يحمد في المواطن كلها

وعن الحبيب فإنه لا يحمد

فمن صبر عن محبوبه أدى به صبره إلى فوات مطلوبه وقال بعض المحبين

ما أحسن الصبر وأما على

أن لا أرى وجهك يوما فلا

لو أن يوما منك أو ساعة

تباع بالدنيا إذا ما غلا

ص: 266

فصل ومنها الإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كله إليه بحيث يفرغ لحديثه سمعه وقلبه وإن ظهر منه إقبال على غيره فهو إقبال مستعار يستبين فيه التكلف لمن يرمقه كما قال

وأديم لحظ محدثي ليرى

أن قد فهمت وعندكم عقلي

فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحاب شيء إليه الحديث عنه ولا سيما إذا حدث عنه بكلامه فإنه يقيمه مقام خطابه كما قال القائل المحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم وفيه غاية مطلوبهم ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ علي قلت أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} قال حسبك الآن فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا قارئا أن يقرأ وهم يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه أبو موسى يقول يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى وربما بكى عمر

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي موسى رضي الله عنه وهو يصلي من الليل فأعجبته قراءته فوقف واستمع لها فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فوقفت واستمعت

ص: 267

لقراءتك فقال لو أعلم أنك كنت تسمع لحبرته لك تحبيرا والله سبحانه وهو الذي تكلم بالقرآن يأذن ويستمع للقارىء الحسن الصوت من محبته لسماع كلامه منه كما قال لله أشد أذنا إلى القارئ الحسن الصوت من صاحب القينة إلى قينته والأذن بفتح الهمزة والذال مصدر أذن يأذن إذا استمع قال الشاعر

أيها القلب تعلل بددن

إن قلبي في سماع وأذن

وقال زينوا القرآن بأصواتكم وغلط من قال إن هذا من المقلوب وإن المراد زينوا أصواتكم بالقرآن فهذا وإن كان حقا فالمراد تحسين الصوت بالقرآن وصح عنه أنه قال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" ووهم من فسره بالغنى الذي هو ضد الفقر من وجوه أحدها أن ذلك المعنى إنما يقال فيه استغنى لا تغنى والثاني أن تفسيره قد جاء في نفس الحديث يجهر به هذا لفظه قال أحمد نحن أعلم بهذا من سفيان وإنما هو تحسين الصوت به يحسنه ما استطاع الثالث أن هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ ولو احتمله فكيف وبنية اللفظ لا تحتمله كما تقدم وبعد هذا فإذا كان من التغني بالصوت ففيه معنيان أحدهما يجعله له مكان الغناء

ص: 268

لأصحابه من محبته له ولهجه به كما يحب صاحب الغناء لغنائه والثاني أنه يزينه بصوته ويحسنه ما استطاع كما يزين المتغني غناءه بصوته وكثير من المحبين ماتوا عند سماع القرآن بالصوت الشجي فهؤلاء قتلى القرآن لا قتلى عشاق المردان والنسوان

فصل ومنها محبة دار المحبوب وبيته حتى محبة الموضع الذي حل به وهذا هو السر الذي لأجله علقت القلوب على محبة الكعبة البيت الحرام حتى استطاب المحبون في الوصول إليها هجر الأوطان والأحباب ولذ لهم فيها السفر الذي هو قطعة من العذاب فركبوا الأخطار وجابوا المفاوز والقفار واحتملوا في الوصول غاية المشاق ولو أمكنهم لسعوا إليها على الجفون والأحداق

نعم أسعى إليك على جفوني

وإن بعدت لمسراك الطريق

وسر هذه المحبة هي إضافة الرب سبحانه له إلى نفسه بقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} قال الشاعر

لما انتسبت إليك صرت معظما

وعلوت قدرا دون من لم ينسب

وكل ما نسب إلى المحبوب فهو محبوب {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}

ص: 269

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} ومن فهم هذا فهم معنى قوله تعالى بيدك الخير وقول عبده ورسوله لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك وإذا كان من يحب مخلوقا مثله يحب داره كما قال

أمر على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

فكيف بمن ليس كمثله شيء ومن ليس كمثل محبته محبة

فصل ومنها الإسراع إليه في السير وحث الركاب نحوه وطي المنازل في الوصول إليه والاجتهاد في القرب والدنو منه وقطع كل قاطع يقطع عنه واطراح الأشغال الشاغلة عنه والزهد فيها والرغبة عنها والاستهانة بكل ما يكون سببا لغضبه ومقته وإن جل والرغبة في كل ما يدني إليه وإن شق قال الشاعر

ولو قلت طأ في النار أعلم أنه

رضا لك أو مدن لنا من وصالك

لقدمت رجلي نحوها فوطئتها

هدى منك لي أو ضلة من ضلالك

فصل ومنها محبة أحباب المحبوب وجيرانه وخدمه وما يتعلق به حتى حرفته وصناعته وآنيته وطعامه ولباسه قال

ص: 270

أحب بني العوام طرا لحبها

ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا

وقال آخر

يشتاق واديها ولولا حبكم

ما شاقه واد زهت أزهاره

وقال الآخر

فيا ساكني أكناف طيبة كلكم

إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

وفي أخبار العشاق أن عاشقا عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقه فوجد في تركته اثنا عشر حملا وفردة من السراويلات ذكره البصري وعشق آخر الهاوونات من أجل صوت هاون محبوبته فوجد في تركته عدة آلافمنها وعند الناس من هذا عجائب كثيرة وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يحب الدباء كثيرا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبعها من جوانب القصعة

فصل ومنها قصر الطريق حين يزوره ويوافي إليه كأنها تطوى له وطولها إذا انصرف عنه وإن كانت قصيرة قال

وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها

أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها

من الخفرات البيض ود جليسها

إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

ص: 271

وقال آخر

والله ما جئتكم زائرا

إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا انثنى عزمي عن بابكم

إلا تعثرت بأذيالي

وقال آخر

وإذا قمت عنك لم أمش إلا

مشي عان يقاد نحو الفناء

وإذا جئت كنت أسرع في السي

ر من الطير نازلا في الهواء

وقال الآخر

وتدنو الطريق إذا زرتكم

وتبعد إذ أنثني راجعا

فصل ومنها انجلاء همومه وغمومه إذا زار محبوبه أو زاره وعودها إذا فارقه كما قال

يزور فتنجلي عني همومي

لأن جلاء حزني في يديه

ويمضي بالمسرة حين يمضي

لأن حوالتي فيها عليه

ومن المعلوم أنه ليس للمحب فرحة ولا سرور ولا نعيم إلا بمحبوبه وبمفارقة محبوبه عذابه الآجل والعاجل

فصل ومنها البهت والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب أو عند سماع ذكره ولا سيما إذا رآه فجأة أو طلع عليه بغتة كما قال الشاعر

ص: 272

فما هو إلا أن أراها فجاءة

فأبهت حتى ما أكاد أجيب

فأرجع عن رأيي الذي كان أولا

وأذكر ما أعددت حين تغيب

وقال آخر

فما هو إلا أن يراها فجاءة

فتصطك رجلاه ويسقط للجنب

وربما اضطرب عند سماع اسمه فجأة كما قال

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى

فهيج أشجان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى طائرا كان في صدري

وقد اختلف في سبب هذه الروعة والفزع والاضطراب فقيل سببه أن للمحبوب سلطانا على قلب محبه أعظم من سلطان الرعية فإذا رآه فجأة راعه ذلك كما يرتاع من يرى من يعظمه فجأة فإن القلب معظم لمحبوبه خاضع له والشخص إذا فجئه المعظم عنده راعه ذلك وقيل سببه انفراج القلب له ومبادرته إلى تلقيه فيهرب الدم منه فيبرد ويرعد ويحدث الاصفرار والرعدة وربما مات وبالجملة فهذا أمر ذوقي وجداني وإن لم يعرف سببه

فصل ومنها غيرته لمحبوبه وعلى محبوبه فالغيرة له أن يكره ما يكره ويغار إذا عصي محبوبه وانتهك حقه وضيع أمره فهذه غيرة المحب حقا والدين كله تحت هذه الغيرة

فأقوى الناس دينا أعظمهم غيرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير

ص: 273

مني" فمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنه من المحبين فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه ويسعى في أذاه ومساخطه ويستهين بحقه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك بل قلبه بارد فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت وأقل الأقسام أن يغار له من نفسه وهواه وشيطانه فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه وارتكابه لمعصيته

وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الحاملة على ذلك فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامة محبته ومحبوبيته الجهاد فقال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

فصل وأما الغيرة على المحبوب فإنما تحمد حيث يحمد الاختصاص بالمحبوب ويذم الاشتراك فيه شرعا وعقلا كغيرة الإنسان على زوجته وأمته والشيء

ص: 274

الذي يختص هو به فيغار من تعرض غيره لذكره ومشاركته له فيه وهذه الغيرة تختص بالمخلوق ولا تتصور في حق الخالق بل المحب لربه يحب أن الناس كلهم يحبونه ويذكرونه ويعبدونه ويحمدونه ولا شيء أقر لعينه من ذلك بل هو يدعو إلى ذلك بقوله وعمله

ولما لم يميز كثير من الصوفية بين هاتين الغيرتين وقع في كلامهم تخبيط قبيح وأحسن أمره أن يكون من السعي المغفور لا المشكور وكان بعض جهلتهم إذا رأى من يذكر الله أو يحبه يغار منه وربما سكته إن أمكنه ويقول غيرة الحب تحملني على هذا وإنما ذلك حسد وبغي وعدوان ونوع معادة لله ومراغمة لطريق رسله أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبة الله بمحبة الصور من المخلوقين ولا ريب أن هذه الغيرة محمودة في محبة من لا تحسن مشاركة المحب فيه وسيأتي ذلك في باب الغيرة على المحبوب

فصل ومنها بذل المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه مما كان يتمتع به بدون المحبة وللمحب في هذا ثلاثة أحوال أحدها بذله ذلك تكلفا ومشقة وهذا في أول الأمر فإذا قويت المحبة بذله رضا وطوعا فإذا تمكنت من القلب غاية التمكن بذله سؤالا وتضرعا كأنه يأخذه من المحبوب حتى إنه ليبذل نفسه دون محبوبه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله

ولي فؤاد إذا لج الغرام به

هام اشتياقا إلى لقيا معذبه

ص: 275

يفديك بالنفس صب لو يكون له

أعز من نفسه شيء فداك به

ومن آثر محبوبه بنفسه فهو له بماله أشد إيثارا قال الله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ولا يتم لهم مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليهم من أنفسهم فضلا عن أبنائهم وآبائهم كما صح عنه أنه قال "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وقال له عمر رضي الله عنه والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر"

فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله فكيف بمحبته سبحانه وهذا النوع من الحب لا يمكن أن يكون إلا لله ورسوله شرعا ولا قدرا وإن وجد في الناس من يؤثر محبوبه بنفسه وماله فذاك في الحقيقة إنما هو لمحبة غرضه منه فحمله محبة غرضه على أن بذل فيه نفسه وماله وليست محبته لذلك المحبوب لذاته بل لغرضه منه وهذا المحبوب له مثل ولمحبته مثل وأما محبة الله ليس لها مثل ولا للمحبوب مثل ولهذا حكم الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم وأموالهم فقالوا هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما

ص: 276

شئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك قال قيس بن صرمة الأنصاري

ثوى في قريش بضع عشرة حجة

يذكر لو يلقى حبيبا مؤاتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه

فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واستقرت به النوى

وأصبح مسرورا بطيبة راضيا

بذلنا له الأموال من حل مالنا

وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم

جميعا وإن كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا رب غيره

وأن رسول الله أصبح هاديا

فالمحب وصفه الإيثار والمدعي طبعه الاستئثار

فصل ومنها سروره بما يسر به محبوبه كائنا ما كان وإن كرهته نفسه فيكون عنده بمنزلة الدواء الكريه يكرهه طبعا ويحبه لما فيه من الشفاء وهكذا المحب مع محبوبه يسره ما يرضى به محبوبه وإن كان كريها لنفسه وأما من كان واقفا مع ما تشتهيه نفسه من مراضي محبوبه فليست محبته صادقة

ص: 277

بل هي محبة معلولة حتى يسر بما ساءه وسره من مراضي محبوبه وإذا كان هذا موجودا في محبة الخلق بعضهم لبعض فالحبيب لذاته أولى بذلك قال أبو الشيص

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا

ما من يهون عليك ممن يكرم

أشبهت أعدائي فصرت أحبهم

إذ كان حظي منك حظي منهم

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم

وقريب من هذا البيت الأخير قول الآخر

لئن ساءني أن نلتني بمساءة

لقد سرني أني خطرت ببالك

وقال الآخر

صدودك عني إن صددت يسرني

ولم أر قبلي عاشقا سر بالصد

سررت به أني تيقنت أنما

دعاك إليه رغبة منك في ودي

ولو كنت فيه تزهدين لساءه

ولكنما عتب المحب من الوجد

فيا فرحة لي إذ رأيتك تعتبي

علي لذنب كان مني على عمد

وقال الآخر

أهوى هواها وطول البعد يعجبها

فالبعد قد صار لي في حبها أربا

فمن رأى والها قبلي أخا كلف

ينأى إذا حبه من أرضه قربا

ص: 278

وقريب من هذا قول أحمد بن الحسين

يا من يعز علينا أن نفارقهم

وجداننا كل شيء بعدكم عدم

إن كان سركم ما قال حاسدنا

فما لجرح إذا أرضاكم ألم

واهتدم بعضهم هذا فقال

يا من يعز علينا أن نلم بهم

إذ بعدنا عنهم قد صار قصدهم

إن كان يرضيكم هذا البعاد فما

فيه لصبكم جرح ولا ألم

ولعمر الله أكثر هذه دعاوى لا حقيقة لها والصادق منهم يخبر عن علمه وإرادته لا عن حاله وصفته ولقد أحسن القائل

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم

وخاضوا بحار الحب دعوى وما ابتلوا

فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم

وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا

وإن كان هذا هو وصف قائلها بعينه وحاله فإنه خاض بحار الحب وما ابتل فيه له قدم وأخبر عن نفسه عند انكشاف غطائه وطلب الرسل له لقدومه على ربه فقال وصدق

إن كان منزلتي في الحب عندكم

ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمنا

فاليوم أحسبها أضغاث أحلام

ص: 279

وهذه حال كل من أحب مع الله شيئا سواه فإنه إلى هذه الغاية يصير ولا بد وسيبدو له إذا انكشف الغطاء أنه إنما كان مغرورا مخدوعا بأمنية ظفرت نفسه بها مدة حياته ثم انقطعت وأعقبت الحسرة والندامة قال الله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأمنهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار فالأسباب التي تقطعت بهم هي الوصل والعلائق والمودات التي كانت لغير الله وفي غير ذات الله وهي التي يقدم إليها سبحانه فيجعلها هباء منثورا فكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها وحسرة عليه إلا محبته ومحبة ما يدعو إلى محبته ويعين على طاعته ومرضاته فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر كما قال

سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا

سريرة حب يوم تبلى السرائر

وقال آخر

إذا تصدع شمل الوصل بينهم

فلمحبين شمل غير منصدع

وإن تقطع حبل الوصل يومئذ

فللمحبين حبل غير منقطع

فصل ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة والتفرد عن الناس وكأن المحبة قد ثبتت على ذلك فلا شيء أحلى للمحب الصادق من خلوته وتفرده فإنه إن ظفر بمحبوبه أحب خلوته به وكره من يدخل بينهما غاية الكراهة

ص: 280

ولهذا السر والله أعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم برد المار بين يدي المصلي حتى أمر بقتاله وأخبر أنه لو يدري ما عليه من الإثم لكان وقوفه أربعين خيرا له من مروره بين يديه ولا يجد ألم المرور وشدته إلا قلب حاضر بين يدي محبوبه مقبل وقد ارتفعت الأغيار بينه وبينه فمرور المار بينه وبين ربه بمنزلة دخول البغيض بين المحب ومحبوبه وهذا أمر الحاكم فيه الذوق فلا ينكره إلا من لم يذق

وقال ابن مسعود رضي الله عنه مرور المار بين يدي المصلي يذهب نصف أجره ذكره الإمام أحمد وأيضا فإن المحب يستأنس بذكر محبوبه وكونه في قلبه لا يفارقه فهو أنيسه وجليسه لا يستأنس بسواه فهو مستوحش ممن يشغله عنه وحدثني تقي الدين بن شقير قال خرج شيخ الإسلام ابن تيمية يوما فخرجت خلفه فلما انتهى إلى الصحراء وانفرد عن الناس بحيث لا يراه أحد سمعته يتمثل بقول الشاع

وأخرج من بين البيوت لعلني

أحدث عنك القلب بالسر خاليا

فخلوة المحب لمحبوبه هي غاية أمتيته فإن ظفر بها وإلا خلا به في سره وأوحشه ذلك من الأغيار وكان قيس بن الملوح إذا رأى إنسانا هرب منه فإذا أراد أن يدنو منه ويحادثه ذكر له ليلى وحديثها فيأنس به ويسكن إليه وينبغي للمحب أن يكون كما قال يوسف لإخوته وقد طلب منهم أخاهم {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}

إذا لم تكن فيكن سعدى فلا أرى

لكن وجوها أو أغيب في لحدي

ص: 281

فصل ومنها استكانة المحب لمحبوبه وخضوعه وذله له والحب مبني على الذل ولا يأنف العزيز الذي لا يذل لشيء من ذله لمحبوبه ولا يعده نقصا ولا عيبا بل كثير منهم يعد ذله عزا كما قال

إذا كنت تهوى من تحب ولم تكن

ذليلا فه فاقرأ السلام على الوصل

تذلل لمن تهوى لتكسب عزة

فكم عزة قد نالها المرء بالذل

وقال الآخر

إخضع وذل لمن تحب فليس في

شرع الهوى أنف يشال ويعقد

وقال الآخر

ويعجبني ذلي لديك ولم يكن

ليعجبني لولا محبتك الذل

وقال آخر

يلذ له ذل الهوى وخضوعه

ولولا الهوى ما لذ للعاقل الذل

وقال الآخر

مساكين أهل الحب حتى قبورهم

عليها تراب الذل دون المقابر

ومتى استحكم الذل والحب صار عبودية فيصير القلب المحب معبدا لمحبوبه وهذه الرتبة لا يليق أن تتعلق بمخلوق ولا تصلح إلا لله وحده

ص: 282

فصل ومنها امتداد النفس وتردد الأنفاس وتصاعدها وهذا نوعان

أحدهما ما يقارنه حزن ولهف كما قال القائل

رب ليل أمد من نفس العا

شق طولا قطعته بانتحاب

وقال آخر

تردد أنفاس المحب يدلنا

على كنه ما أخفاه من ألم الحب

إذا خطرات الحب خامرن قلبه

تنفس حتى ظل متصدع القلب

والثاني ما يكون سببه طربا ولذة وسبب وجود النوعين انحصار القلب وانفراجه بسبب الوارد الذي ورد عليه فأحدث للنفس الذي تروحه عليه الرئة كيفية مؤذية وطلب إخراجها فهو تنفس الصعداء وأما تنفس الراحة فإن القلب ينبسط بعد انقباضه فيدفع الهواء المحيط به فيطلب الخروج

فصل ومنها هجره كل سبب يقصيه من محبوبه ويبغضه المحبوب وارتياحه لكل سبب يدنيه منه ويستحمد به عنده إذا بلغه عنه وفي الباب عجائب للمحبين فكثير منهم هجر طعاما أو لباسا أو أرضا أو صناعة أو حالة من الحالات كان محبوبه يمقتها فلم يعد إليها أبدا ولم تطاوعه نفسه بفعله البتة وكثير منهم حمله الحب على اكتساب المعالي والفضائل وغيرها مما يعلم أن المحبوب يعظمه ويحبه وهذا نوعان أيضا

ص: 283

أحدهما أن يكون المحبوب مؤثرا لذلك محبا له فالمحب يبذل جهده فيه لينال منه أعلاه إن أمكنه فإن كان المحبوب مشغوفا بجمع المال أثر ذلك في محبه شغفا أشد من شغفه وإن كان مشغوفا بالعلم اجتهد المحب في طلبه أشد من من اجتهاده وإن كان مشغوفا بحرفة أو صناعة حرص المحب علىتعلمها إن وجد إلى ذلك سبيلا وإن كان مشغوفا بالنوادر والحكايات الحسان والأخبار المستحسنة بالغ المحب في تحفظها فالمحبة النافعة أن تقع على عشق كامل يحملك عشقه على طلب الكمال والبلية كل البلية أن تبتلى بمحبة فارغ بطال صفر من كل خير فيحملك حبه على التشبه به

والثاني أن يكون المحبوب فارغا من محبة ذلك وإيثاره ولكن المحبة تستخرج من قلب المحب عزما وإرادة وحرصا على ما يعظم به في عين المحبوب وقلبه فتجده من أحرص الناس على ذلك بحسب استعداده كما قيل

ويرتاح للمعروف في طلب العلى

لتحمد يوما عند ليلى شمائله

وهذا قد يكون له سبب آخر وهو معاداة الناس له وتنقصهم إياه وازدراؤهم به فيحمله الانتخاء لنفسه والغيرة لها ومحبتها على المنافسة في المعالي واكتساب الحمد وهذا من شرف النفس وعزتها كما قيل

من كان يشكر للصديق فإنني

أحبو بصالح شكري الأعداء

هم صيروا طلب المعالي ديدني

حتى وطئت بنعلي الجوزاء

ولربما انتفع الفتى بعدوه

والسم أحيانا يكون شفاء

وقال الآخر

عداي لهم فضل علي ومنة

فلا أعدم الرحمن عني الأعاديا

ص: 284

هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

فصل ومنها الاتفاق الواقع بين المحب ومحبوبه ولا سيما إذا كانت المحبة محبة مشاكلة ومناسبة فكثيرا ما يمرض المحب بمرض محبوبه ويتحرك بحركته ولا يشعر أحدهما بالآخر ويتكلم المحبوب بكلام فيتكلم المحب به بعينه اتفاقا فانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية لما قال له ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال: "إني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ناصري ولست أعصيه" فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به فقال: "قلت لك إنك تأتيه العام" قال: لا قال: " فإنك آتيه ومطوف به" ثم جاء أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال: له يا أبا بكر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديتنا ونرجع ولما يحكم الله بيننا فقال له: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ناصره وليس يعصيه قال ألم يكن يحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به قال أقال لك إنك تأتيه العام قال: لا قال: فإنك آتيه ومعطوف به فأجاب على جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفا بحرف من غير تواطؤ ولا تشاعر بل موافقة محب لمحبوب هكذا وقع في صحيح البخاري ووقع في بعض المغازي أنه أتى أبا بكر أولا فقال له ذلك ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده فقال له مثل ما قال أبو بكر

قال: السهيلي وهذا هو الأولى ويشبه أن يكون المحفوظ فإنه لا يظن بعمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له قولا فلا يرضى به

ص: 285

الذي حكم الله له به ورضي به وأقر به ودخل تحته طوعا وانقيادا وهو الفتح الذي فتح الله له أثابه الله عليه بأربعة أشياء مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإتمام نعمته عليه وهدايته صراطا مستقيما ونصر الله له نصرا عزيزا وبهذا يقع جواب السؤال الذي أورده بعضهم هاهنا فقال كيف يكون حكم الله له بذلك علة لهذه الأمور الأربعة إذ يقول الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية وجوابه ما ذكرنا أن تسليمه لهذا الحكم والرضا به والانقياد له والدخول تحته أوجب له أن آتاه الله ذلك والمقصود إنما هو ذكر الاتفاق بين المحب والمحبوب وهذا الذي جرى للصديق رضي الله عنه من أحسن الموافقة ومن هذا موافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لربه تعالى في عدة أمور قالها فنزل بها الوحي كما قال وتقوى هذه الموافقة حتى يعلم المحب بكثير من أحوال محبوبه وهو غائب عنه وهذا بحسب تعلق الهمة به وتوجه القلب إليه واتحاد مراده بمراده وربما اقتضى ذلك اتفاقهما في المرض والصحة والفرح والحزن والخلق فإن كان مع ذلك بينهما تشابه في الخلق الظاهر فهو الغاية في الاتفاق ولنقتصر من العلامات على هذا القدر وبالله التوفيق

ص: 287