المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط العلمية

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في أسماء المحبة

- ‌الباب الثاني: في اشتغال هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الباب الثالثفي نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين

- ‌الباب الرابع: في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب

- ‌الباب الخامس:في دواعي المحبة ومتعلقها

- ‌الباب السادس: في أحكام النظر وعائلته وما يجني على صاحبه

- ‌الباب السابع: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل واحد منهما صاحبه والحكم بينهما

- ‌الباب الثامن: في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه

- ‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

- ‌الباب العاشر: في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناسفيه

- ‌الباب الحادي عشر: في العشق هل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه

- ‌الباب الثاني عشر: في سكرة العشاق

- ‌الباب الثالث عشر: في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان

- ‌لباب الرابع عشر: فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه

- ‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

- ‌الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين

- ‌الباب السابع عشر: في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

- ‌الباب الثامن عشر: في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال

- ‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

- ‌الباب الحادي والعشرون: في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌الباب الثاني والعشرون: في غيرة المحبين على أحبابهم

- ‌الباب الثالث والعشرون: في عفاف المحبين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ارتكاب سبيلي الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

- ‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى وقد تقدم ذكر الآيات

الفصل: ‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

هذا باب لا يدخل فيه إلا النفوس الفاضلة الشريفة الأبية التي لا تقنع بالدون ولا تبيع الأعلى بالأدنى بيع العاجز المغبون ولا يملكها لطخ جمال مغش على أنواع من القبائح كما قال بعض الأعراب وقد نظر إلى امرأة مبرقعة

إذا بارك الله في ملبس

فلا بارك الله في البرقع

يريك عيون المها مسبلا

ويكشف عن منظر في أشنع

وقال الآخر

لا يغرنك ما ترى من نقاب

إن تحت النقاب داء دويا

فالنفس الأبية لا ترضى بالدون وقد عاب الله سبحانه أقواما استبدلوا طعاما بطعام أدنى منه فنعى ذلك عليهم وقال: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} وذلك دليل على وضاعة النفس وقلة قيمتها

وقال الأصمعي خلا رجل من الأعراب بامرأة فهم بالريبة فلما تمكن منها تنحى سليما وجعل يقول إن امرءا باع جنة عرضها السموات والأرض بفتر ما بين رجليك لقليل البصر بالمساحة

ص: 394

وقال أبو أسماء دخل رجل غيضة فقال لو خلوت هاهنا بمعصية من كان يراني فسمع صوتا ملأ ما بين لابتي الغيضة {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}

وقال الإمام أحمد حدثنا هيثم هو ابن خارجة حدثنا إسماعيل ابن عياش عن عبد الرحمن بن عدي البهراني عن يزيد بن ميسرة قال إن الله تعالى يقول أيها الشاب التارك شهوته لي المتبذل شبابه من أجلي أنت عندي كبعض ملائكتي

وذكر إبراهيم بن الجنيد أن رجلا راود امرأة عن نفسها فقالت له أنت قد سمعت القرآن والحديث فأنت أعلم قال فأغلقي الأبواب فأغلقتها فلما دنا منها قالت بقي باب لم أغلقه قال أي باب قالت الباب الذي بينك وبين الله فلم يتعرض لها

وذكر أيضا عن أعرابي قال خرجت في بعض ليالي الظلم فإذا أنا بجارية كأنها علم فأردتها عن نفسها فقالت ويلك أما كان لك زاجر من عقل إذ لم يكن لك ناه من دين فقلت إنه والله ما يرانا إلا الكواكب قالت فأين مكوكبها

وجلس زياد مولى ابن عياش رضي الله عنهما إلى بعض إخوانه فقال له

ص: 395

يا عبد الله فقال له قل ما تشاء قال ما هي إلا الجنة أو النار قلت نعم قال وما بينهما منزل ينزله العباد قلت لا والله فقال والله إن نفسي لنفس أضن بها على النار والصبر اليوم عن معاصي الله خير من الصبر على الأغلال

وقال وهب بن منبه قالت امرأة العزيز ليوسف عليه السلام ادخل معي القيطون تعني الستر قال إن القيطون لا يسترني من ربي

وقال اليزيدي دخلت على هارون الرشيد فوجدته مكبا على ورقه ينظر فيها مكتوبة بالذهب فلما رآني تبسم فقلت فائدة أصلح الله أمير المؤمنين قال نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما فأضفت إليهما ثالثا فقال ثم أنشدني

إذا سد باب عنك من دون حاجة

فدعه لأخرى ينفتح لك بابها

فإن قراب البطن يكفيك ملأه

ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها

فلا تك مبذالا لدينك واجتنب

ركوب المعاصي يجتنبك عقابها

وقال أبو العباس الناشئ

إذا المرء يحمي نفسه حل شهوة

لصحة أيام تبيد وتنفد

فما باله لا يحتمي من حرامها

لصحة ما يبقى له ويخلد

وقيل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينشد هذين البيتين

إقدع النفس بالكفاف وإلا

طلبت منك فوق ما يكفيها

إنما طول عمرك ما عمرت

في الساعة التي أنت فيه

ومن أحسن شعر العرب وكان عمرو بن العاص يتمثل بهما

ص: 396

إذا المرء لم يترك طعاما أحبه

ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما

قضى وطرا منه وغادر سبة

إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

وقال شعبة عن منصور عن إبراهيم كلم رجل من العباد امرأة فلم يزل بها حتى وضع يده على فخذها فانطلق فوضع يده على النار حتى نشت

وقال زيد بن أسلم عن أبيه كان عابد في صومعة يتعبد فأشرف ذات يوم فرأى امرأة ففتن بها فأخرج إحدى رجليه من الصومعة يريد النزول إليها ثم فكر وادكر فأناب فأراد أن يعيد رجله إلى الصومعة فقال والله لا أدخل رجلا خرجت تريد أن تعصي الله في صومعتي أبدا فتركها خارجة من الصومعة فأصابها الثلج والبرد والرياح حتى تقطعت

وقال بعض السلف من كان له واعظ من قلبه زاده الله عز وجل عزا والذل في طاعة الله أقرب من العز في معصيته

وقال أبو العتاهية لقيت أبا نواس في المسجد الجامع فعذلته وقلت له أما آن لك أن ترعوي وتنزجر فرفع رأسه إلي وقال

أتراني يا عتاهي

تاركا تلك الملاهي

أتراني مفسدا بالنسك

عند القوم جاهي

فلما ألححت عليه في العذل أنشأ يقول

لا ترجع الأنفس عن غيها

مالم يكن منها لها زاجر

ص: 397

فوددت أني قلت هذا البيت بكل شيء قلته

وقال ابن السماك عن امرأة كان تسكن البادية لو طالعت قلوب المؤمنين بفكرها ما ذخر لها في حجب الغيوب من خير الآخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش ولم تقر لهم عين وقال ضيغم لرجل إن حبه عز وجل شغل قلوب محبيه عن التلذذ بمحبةغيره فليس لهم في الدنيا مع محبته عز وجل لذة تداني محبته ولا يأملون في الآخرة من كرامة الثواب أكبر عندهم من النظر إلى وجه مجبوبهم فسقط الرجل مغشيا عليه

وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى رأس الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط ولا تعرجوا وداع يدعو فوق الصراط فإذا أراد أحد فتح شيء من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه فالصراط الإسلام والستور المرخاة حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم"

وقال خالد بن معدان ما من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما ما وعده الله بالغيب وإذا أراد الله به غير ذلك تركه على ما هو فيه ثم قرأ {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}

ص: 398

وفي الترمذي عنه الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني

وفي المسند من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله"

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال من أصبح وأكثر همه غير الله فليس من الله

وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار قال قال موسى يا رب من أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك قال هم البريئة أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون بجلالي الذين إذا ذكرت ذكروا بي وإذا ذكروا بي ذكرت بذكرهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى وكورها ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب

وقال أحمد حدثنا إبراهيم بن خالد حدثني عبد الله بن يحيى قال سمعت وهب بن منبه يقول قال موسى عليه السلام أي رب أي عبادك أحب إليك قال من أذكر برؤيته

ص: 399

وقال أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا هشام الدستوائي قال بلغني أن في حكمة عيسى بن مريم تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل ويحكم علماء السوء الأجر تأخذون والعمل تضيعون توشكون أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر وضيقه والله عز وجل نهاكم عن المعاصي كما أمركم بالصوم والصلاة كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من آخرته وهو في الدنيا أعظم رغبة كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أشهى إليه مما لا يضره كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله عز وجل في قضائه فليس يرضى بشيء أصابه كيف يكون من أهل العلم من طلب العلم ليتحدث به ولم يطلبه ليعمل به

وقال عبد الله بن المبارك عن معمر قال الصبيان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب قال أو للعب خلقنا

وقال أحمد حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر حدثني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أن أمه فاطمة حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون بالكلام"

وقال أحمد حدثنا أبو قطن حدثنا شعبة عن أبي مسلمة عن

ص: 400

أبي نضرة قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى يا أبا موسى شوقنا إلى ربنا قال فقرأ فقالوا الصلاة فقال عمر أولسنا في الصلاة

فصل وملاك الأمر كله الرغبة في الله وإرادة وجهه والتقرب إليه بأنواع الوسائل والشوق إلى الوصول إليه وإلى لقائه فإن لم يكن للعبد همة إلى ذلك فالرغبة في الجنة ونعيمها وما أعد الله فيها لأوليائه فإن لم تكن له همة عالية تطالبه بذلك فخشية النار وما أعد الله فيها لمن عصاه فإن لم تطاوعه نفسه بشيء من ذلك فليعلم أنه خلق للجحيم لا للنعيم ولا يقدر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه فهذه فصول أربعة هن ربيع المؤمن وصيفه وخريفه وشتاؤه وهن منازله في سيره إلى الله عز وجل وليس له منزلة غيرها فأما مخالفة الهوى فلم يجعل الله للجنة طريقا غير مخالفته ولم يجعل للنار طريقا غير متابعته قال الله تعالى: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قيل هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها لله

وقد أخبر سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيله فقال الله تعالى

ص: 401

{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} ثم ذكر مآل الضالين عن سبيله ومصيرهم فقال إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وأخبر سبحانه أن باتباع الهوى يطبع على قلب العبد فقال أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العاجز هو الذي اتبع هواه وتمنى على الله وذكر الإمام أحمد من حديث راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع"

وذكر من حديث جعفر بن حيان عن أبي الحكم عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى" وفي نسخة كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي حكم جائر وزلة عالم وهوى متبع"

ص: 402

وقيل لبعض الحكماء أي الأصحاب أبر قال العمل الصالح قيل فأي شيء أضر قال النفس والهوى وقال بعض الحكماء إذا اشتبه عليك أمران فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه وأتي بعض الملوك بأسير عظيم الجرم فقال لو كان هواي في العفو عنك لخالفت الهوى إلى قتلك ولكن لما كان هواي في قتلك خالفته إلى العفو عنك وقال الهيثم بن مالك الطائي سمعت النعمان بن بشير يقول علىالمنبر إن للشيطان فخوخا ومصالي وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله والفخر بإعطاء الله والكبرياء على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله

وفي المسند وغيره من حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه والمنجيات تقوى الله تعالى في السر والعلانية والعدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى"

وفي جامع الترمذي من حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى بئس العبد عبد بغى وعتا ونسي المبدأ والمنتهى بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات بئس العبد عبد طمع

ص: 403

يقوده بئس العبد عبد هوى يضله بئس العبد عبد رغب يذله"

وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن العبد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به فيكون هواه تابعا لا متبوعا فمن اتبع هواه فهواه متبوع له ومن خالف هواه لما جاء به الرسول فهواه تابع له فالمؤمن هواه تابع له والمنافق الفاجر هواه متبوع له

وقد حكم الله تعالى لتابع هواه بغير هدى من الله أنه أظلم الظالمين فقال الله عز وجل: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وأنت تجد تحت هذا الخطاب أن الله لا يهدي من اتبع هواه وجعل سبحانه وتعالى المتع قسمين لا ثالث لهما إما ما جاء به الرسول وإما الهوى فمن اتبع أحدهما لم يمكنه اتباع الآخر والشيطان يطيف بالعبد من أين يدخل عليه فلا يجد عليه مدخلا ولا إليه طريقا إلا من هواه فلذلك كان الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله وإنما تطاق مخالفة الهوى بالرغبة في الله وثوابه والخشية من حجابه وعذابه ووجد حلاوة الشفاء في مخالفة الهوى فإن متابعته الداء الأكبر ومخالفته الشفاء الأعظم وقيل لأبي القاسم الجنيد متى تنال النفوس مناها فقال إذا صار داؤها دواها فقيل له ومتى يصير داؤها دواها فقال إذا خالفت هواها ومعنى قوله يصير

ص: 404

داؤها دواها أن داءها هو الهوى فإذا خالفته تداوت منه بمخالفته وقيل إنما سمي هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى أسف السافلين والهوى ثلاثة أرباع الهوان وهو شارع النار الأكبر كما أن مخالفته شارع الجنة الأعظم وقال أبو دلف العجلى

واسوأتا لفتى له أدب

يضحى هواه قاهرا أدبه

يأتي الدنية وهو يعرفها

فيشين عرضا صائنا أربه

فإذا ارعوى عادت بصيرته

فبكى على الحين الذي سلبه

وقال ابن المرتفق الهذلي

أين لي ما ترى والمرء يأتي

عزيميته ويغلبه هواه

فيعمى ما يرى فيه عليه

ويحسب من يراه لا يراه

فصل وأما الرغبة في الله وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه فهي رأس مال العبد وملاك أمره وقوام حياته الطيبة وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه وقرة عينه ولذلك خلق وبه أمر وبذلك أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلا بأن تكون رغبته إلى الله عز وجل وحده فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده كما قال الله تعالى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وقال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ

ص: 405

اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}

والراغبون ثلاثة أقسام راغب في الله وراغب فيما عند الله وراغب عن الله فالمحب راغب فيه والعامل راغب فيما عنده والراضي بالدنيا من الآخرة راغب عنه ومن كانت رغبته في الله كفاه الله كل مهم وتولاه في جميع أموره ودفع عنه مالا يستطيع دفعه عن نفسهووقاه وقاية الوليد وصانه من جميع الآفات ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره ومن كان لله كان الله له حيث لا يكون لنفسه ومن عرف الله لم يكن شيء أحب إليه منه ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه ويعينه على سفره إليه ومن علامات المعرفة الهيبة فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له وخشيته إياه كما قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أي العلماء به وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية" ومن عرف الله صفا له العيش وطابت له الحياة وهابه كل شيء وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله واستوحش من الناس وأورثته المعرفة الحياء من الله والتعظيم له والإجلال والمراقبة والمحبة والتوكل عليه والإنابة إليه والرضا به والتسليم لأمره وقيل للجنيد رحمه الله تعالى

ص: 406

إن ها هنا أقواما يقولون إنهم يصلون إلى البر بترك الحركات فقال هؤلاء تكلموا بإسقاط الأعمال وهو عندي عظيم والذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإلى الله رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر شيئا

وقال لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤه البر والفاجر وكالمطر يسقى ما يحب ومالا يحب

وقال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين بكاؤه على نفسه وشوقه إلى ربه وقال بعضهم لا يكون العارف عارفا حتى لو أعطي ملك سليمان لم يشغله عن الله طرفة عين وقيل العارف أنس بالله فاستوحش من غيره وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه وذل لله فأعزه في خلقه

وقال أبو سليمان الداراني يفتح للعارف على فراشه مالا يفتح له وهو قائم يصلي

وقال ذو النون لكل شيء عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله

وبالجملة فحياة القلب مع الله لا حياة له بدون ذلك أبدا ومتى واطأ اللسان القلب في ذكره وواطأ القلب مراد حبيبه منه واستقل له الكثير من قوله وعمله واستكثر له القليل من بره ولطفه وعانق الطاعة وفارق المخالفة وخرج عن كله لمحبوبه فلم يبق منه شيء وامتلأ قلبه بتعظيمه وإجلاله وإيثار رضاه وعز عليه الصبر عنه وعدم القرار دون ذكره والرغبة إليه

ص: 407

والاشتياق إلى لقائه ولم يجد الأنس إلا بذكره وحفظ حدوده وآثره على غيره فهو المحب حقا

وقال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه وقيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد الحبيب من محبه وقيل بل هي بذل المجهود في رضا الحبيب ولا تصح إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب وفي بعض الآثار الإلهية عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا وقال عبد الله بن المبارك من أعطي شيئا من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع

وقال يحيى بن معاذ مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب

وقال أبو بكر الكتاني جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا هات ما عندك يا عراقي فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه ناظر إليه بقلبه أحرق قلبه أنوار هويته وصفا شربه من كأس وده فإن تكلم فبالله وإن نطق فمن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكت فمع الله فهو بالله ولله ومع الله فبكى الشيوخ وقالوا ما على هذا مزيد جبرك الله يا تاج العارفين وقيل أوحى الله إلى داود عليه السلام يا داود إني حرمت على القلوب بان يدخلها حبي وحب غيري فأجمع العارفون كلهم أن المحبةلا تصح إلا بالموافقة حتى قال بعضهم حقيقة الحب موافقة المحبوب في مراضيه ومساخطه واتفق القوم أن المحبة لا تصح إلا بتوحيد المحبوب

ص: 408

ويحكى أن رجلا ادعى الاستهلاك في محبة شخص فقال له كيف وهذا أخي أحسن مني وجها وأتم جمالا فالتفت الرجل إليه فدفعه الشاب

قال من يدعي هوانا ينظر إلى سوانا وذكرت المحبة عند ذي النون فقال كفوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها ثم أنشأ يقول

الخوف أولى بالمسي

ء إذا تأله والحزن

والحب يجمل بالتق

ي وبالنقي من الدرن

وقال سمنون ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرء مع من أحب فهم مع الله في الدنيا والآخرة وقال يحيى بن معاذ ليس بصادق من ادعى محبته ثم لم يحفظ حدوده

فصل فالمحبة شجرة في القلب عروقها الذل للمحبوب وساقها معرفته وأغصانها خشيته وورقها الحياء منه وثمرتها طاعته ومادتها التي تسقيها ذكره فمتى خلا الحب عن شيء من ذلك كان ناقصا

وقد وصف الله سبحانه نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه فأخبر أنهم أشد حبا لله ووصف نفسه بأنه الودود وهو الحبيب قاله البخاري والود خالص الحب فهو يود عباده المؤمنين ويودونه

وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه ربه عز وجل أنه قال: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء

ص: 409

ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شي أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" وفي لفظ في غير البخاري "فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا" فتأمل كمال الموافقة في الكراهةكيف اقتضى كراهة الرب تعالى لمساءة عبده بالموت لما كره العبد مساخط ربه وكمال الموافقة في الإرادة كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه وإجابة طلباته وإعاذته مما استعاذ به كما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وقال له عمه أبو طالب يا ابن أخي ما أرى ربك إلا يطيعك فقال له وأنت يا عم لو أطعته أطاعك وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} قال حبيبا قريبا إذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد وتأمل هذه الباء في قوله فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي كيف تجدها مبنية لمعنى قوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به إلى آخره فإن سمع سمع بالله وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشى مشى به وهذا تحقيق قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ

ص: 410

مُحْسِنُونَ} وقوله {و َإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله فيما رواه عنه رسوله من قوله أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وهذا ضد قوله {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} فالصحبة التي نفاها ها هنا هي التي أثبتها لأحبابه وأوليائه فتأمل كيف جعل محبته لعبده متعلقة بأداء فرائضه وبالتقرب إليه بالنوافل بعدها لا غير وفي هذا تعزية لمدعي محبته بدون ذلك أنه ليس من أهلها وإنما معه الأماني الباطلة والدعاوي الكاذبة

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وفي لفظ لمسلم إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ثم يوضع له البغضاء في الأرض" وفي لفظ آخر لمسلم عن سهيل بن أبي صالح قال كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو

ص: 411

على الموسم فقام الناس ينظرون إليه فقلت لأبي يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز قال وما ذاك قلت لما له من الحب في قلوب الناس فقال إني سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الحديث وأخرجه الترمذي ثم زاد في آخره فذلك قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} انتهى وقال بعض السلف في تفسيرها يحبهم ويحببهم إلى عباده

وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال "وما أعددت لها قال لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله فقال أنت مع من أحببت" قال أنس رضي الله عنه فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل أعمالهم

وفي الترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المرء مع من أحب وله ما اكتسب" وفي سنن أبي داود عنه قال رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا بشيء لم أرهم فرحوا بشيء أشد منه قال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" وهذه المحبة لله توجب المحبة في الله قطعا فإن من محبة الحبيب المحبة فيه والبغض فيه

وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى يوم القيامة أين المتحابون

ص: 412

بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي" وفي جامع أبي عيسى الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء" وفي لفظ لغيره "المتحابون بجلال الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور يغبطهم أهل الجمع" وفي الموطأ من حديث أبي إدريس الخولاني قال دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا والناس حوله فإذا اختلفوا في شيء اسندوه إليه وصدروا عن رأيه فسألت عنه فقالوا هذا معاذ بن جبل فلما كان الغد هجرت إليه فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه ثم قلت والله إني لأحبك في الله فقال آلله قلت الله فقال آلله فقلت الله فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في

وفي سنن أبي داود من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله"

ص: 413

وفيه أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبرنا من هم قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} "

وفي لفظ لغيره "إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء بمكانهم من الله قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صفهم لنا حلهم لنا لعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا أرحام تواصلوها هم نور ووجوههم نور وعلى كراسي من نور لا يخافون إذاخاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ هذه الآية {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} "

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد أخا لي في هذه القرية قال لك عليه من نعمة تربها قال لا غير أني أحبه في الله تعالى قال فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه"

ص: 414

وقال رجل لمعاذ بن جبل إني أحبك في الله قال أحبك الذي أحببتني له

وفي سنن أبي داود أن رجلا كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر رجل فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأحب هذا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعلمته" قال لا قال " أعلمه" فلحقه فقال إني أحبك في الله قال أحبك الذي أحببتني له"

وفيها أيضا عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه"

وفي الترمذي من حديث يزيد بن نعامة الضبي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا آخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممن هو فإنه أوصل للمودة"

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم"

وقال الإمام أحمد حدثنا حجاج بن محمد الترمذي حدثنا شريك عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن عمار بن ياسر أن أصحابه كانوا ينتظرونه فلما خرج قالوا ما أبطأك عنا أيها الأمير قال أما إني سوف أحدثكم أن أخا لكم ممن كان قبلكم وهو موسى قال يا رب حدثني بأحب الناس إليك قال ولم قال لأحبه بحبك إياه قال عبد في أقصى الأرض أو طرف الأرض سمع به عبد آخر في أقصى أو طرف الأرض

ص: 415

لا يعرفه فإن أصابته مصيبة فكأنما أصابته وإن شاكته شوكة فكأنما شاكته لا يحبه إلا لي فذلك أحب خلقي إلي قال يا رب خلقت خلقا تدخلهم النار أو تعذبهم فأوحى الله إليه كلهم خلقي ثم قال أزرع زرعا فزرعه فقال اسقه فسقاه ثم قال قم عليه فقام عليه ما شاء الله من ذلك فحصده ورفعه فقال ما فعل زرعك يا موسى قال فرغت منه ورفعته قال ما تركت منه شيئا قال مالا خير فيه أو مالا حاجة لي فيه قال فكذلك أنا لا أعذب إلا من لا خير فيه

فصل ولو لم يكن في محبة الله إلا أنها تنجي محبه من عذابه لكان ينبغي للعبد أن لا يتعوض عنها بشيء ابدا وسئل بعض العلماء أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه فقال

ي قوله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ} الآية

وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن يونس عن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والله لا يعذب الله حبيبه ولكن قد يبتليه في الدنيا

وقال الإمام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا أبو غالب قال بلغنا أن هذا الكلام في وصية عيسى بن مريم يا معشر الحواريين تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إليه بالمقت لهم والتمسوا رضاه بسخطهم قالوا يا نبي الله فمن نجالس قال جالسوا من يزيد في أعمالكم منطقه ومن تذكركم بالله رؤيته ويزهدكم في دنياكم علمه

ص: 416

ويكفي في الإقبال على الله تعالى ثوابا عاجلا أن الله سبحانه وتعالى يقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه كما أنه يعرض بقلوبهم عمن أعرض عنه فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم

وقال الإمام أحمد حدثنا حسن في تفسير شيبان عن قتادة قال ذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول ما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله عز وجل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم

وقد روى هذا مرفوعا ولفظه "وما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله غعز وجل عليه بقلوب عباده وجعل قلوبهم تفد إليه بالود والرحمة وكان الله بكل خير إليه أسرع" وإذا كانت القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وكل إحسان وصل إلى العبد فمن الله عز وجل كما قال الله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} فلا ألأم ممن شغل قلبه بحب غيره دونه"

قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية قال حدثني الأعمش عن المنهال عن عبد الله بن الحارث قال أوحى الله إلى داود عليه السلام يا داود أحببني وحبب عبادي إلي وحببني إلى عبادي قال يا رب هذا أنا أحبك وأحبب عبادك إليك فكيف أحببك إلى عبادك قال تذكرني عندهم فإنهم لا يذكرون مني إلا الحسن

ومن أفضل ما سئل الله عز وجل حبه وحب من يحبهوحب عمل يقرب إلى حبه ومن أجمع ذلك أن يقول اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي

ص: 417

فيما تحب وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ومالي ومن الماء البارد على الظمأ اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين اللهم أحي قلبي بحبك واجعلني لك كما تحب اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله وأرضيك بجهدي كله اللهم اجعل حبي كله لك وسعيي كله في مرضاتك وهذا الدعاء هو فسطاط خيمة الإسلام الذي قيامها به وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والقائمون بحقيقة ذلك هم الذين هم بشهادتهم قائمون والله سبحانه تعرف إلى عباده من أسمائه وصفاته وأفعاله بما يوجب محبتهم له فإن القلوب مفطورة على محبة الكمال ومن قام به والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق من كل وجه الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه بل لو كان جمال الخلق كلهم على رجل واحد منهم وكانوا جميعهم بذلك الجمال لما كان لجمالهم قط نسبة إلى جمال الله بل كانت النسبة أقل من نسبة سراج ضعيف إلى حذاء جرم الشمس {ولله المثل الأعلى}

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "إن الله جميل يحب الجمال" عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر بن الخطاب وثابت بن قيس وأبو الدرداء وأبو هريرة وأبو ريحانه رضي الله عنهم

ص: 418

ومن أسمائه الحسنى الجميل ومن أحق بالجمال ممن كل جمال في الوجود فهو من آثار صنعه فله جمال الذات وجمال الأوصاف وجمال الأفعال وجمال الأسماء فأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها جميلة فلا يستطيع بشر النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدار فإذا رأوه سبحانه في جنات عدن أنستهم رؤيته ماهم فيه من النعيم فلا يلتفتون حينئذ إلى شيء غيره ولولا حجاب النور على وجهه لأحرقت سبحات وجهه سبحانه وتعالى ما انتهى إليه بصره من خلقه كما في صحيح البخاري من حديث أبو موسى رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عند الله اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس فتعرض عليه أول النهار أو اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع منها على بعض ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة وينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا الثقلين الجن والإنس فيسبحونه ثلاث ساعات حتى يمتلىء الرحمن رحمة فتلك ست ساعات ثم يؤتى بما في الأرحام فينظر فيها

ص: 419

ثلاث ساعات فيصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم فتلك تسع ساعات ثم ينظر في أرزاق الخلق كلهم ثلاث ساعات فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم ثم قرأ {كل يوم هو في شأن} ثم قال عبد الله هذا من شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى رواه عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه الحسن ابن إدريس عن خالد بن الهياج عن أبيه عن عباد بن كثير عن جعفر بن الحارث عن معدان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن ربكم ليس عنده نهار ولا ليل وإن السموات مملوءات نورا من نور الكرسي وإن يوما عند ربك اثنتا عشرة ساعة فترفع فيها أعمال الخلائق في ثلاث ساعات فيرى فيها ما يكره فيغضبه ذلك وإن أول من يعلم بغضبه حملة العرش يرونه يثقل عليهم فيسبحون له ويسبح له سرادقات العرش في ثلاث ساعات من النهار حتى يمتلىء ربنا رضا فتلك ست ساعات من النهار ثم يأمر بأرزاق الخلائق فيعطى من يشاء في ثلاث ساعات من النهار فتلك تسع ساعات ثم يرفع إليه أرحام كل دابة فيخلق فيها ما يشاء ويجعل المدة لمن يشاء في ثلاث ساعات من النهار فتلك اثنتا عشرة ساعة ثم تلا ابن مسعود رضي الله عنه هذه الآية {كل يوم هو في شأن} هذا من شأن ربنا تبارك وتعالى وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعا به يوم الطائف "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو ينزل علي سخطك

ص: 420

لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك" وإذا جاء سبحانه وتعالى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده تشرق لنوره الأرض كلها كما قال الله تعالى وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وقول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه نور السموات والأرض من نور وجهه تفسير لقوله تعالى الله نور السموات والأرض

وفي الصحيحين من حديث أبي بكر رضي الله عنه في استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن" وفي سنن ابن ماجة وحرب السكرماني من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فيقول السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قوله {سلام قولا من رب رحيم} فيرفعون رؤوسهم فينظرون إليه وينظر إليهم ولا يلتفتون إلى شيء من النعيم حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم وعلى ديارهم ومنازلهم لفظ حديث حرب فما ظن المحبين بلذة النظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك" ذكره الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه فاسمع الآن شأن أوليائه وأحبائه عند لقائه ثم اختر لنفسك

ص: 421

أنت القتيل بكل من أحببته

فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

قال هشام بن حسان عن الحسن إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى نسوا نعيم الجنة وقال هشام بن عمار حدثنا محمد بن سعيد بن سابور حدثنا عبد الرحمن بن سليمان حدثنا سعيد بن عبد الله الجرشي القاضي أنه سمع أبا إسحاق الهمداني يحدث عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه قال إن الله إذا أسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعث إلى أهل الجنة الروح الأمين فيقول يا أهل الجنة إن ربكم يقرئكم السلام ويأمركم أن تزوروه إلى فناء الجنة وهو أبطح الجنة تربته المسك وحصباؤه الدر والياقوت وشجره الذهب الرطب وورقه الزمرد فيخرج أهل الجنة مستبشرين مسرورين فثم يجمعهم وثم كرامة الله والنظر إلى وجهه وهو موعد الله أنجزه لهم فيأذن الله لهم في السماع والأكل والشرب ويكسون حلل الكرامة ثم ينادي مناد يا أولياء الله هل بقي مما وعدكم الله ربكم شيء فيقولون لا وقد أنجزنا ما وعدنا فما بقي شيء إلا النظر إلى وجهه فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في حجب فيقول يا جبريل ارفع حجابي لعبادي كي ينظروا إلى وجهي قال فيرفع

ص: 422

الحجاب الأول فينظرون إلى نور من نور الرب فيخرون له سجدا فيناديهم الرب يا عبادي ارفعوا رؤوسكم فإنها ليست بدار عمل إنما هي دار ثواب فيرفع الحجاب الثاني فينظرون أمرا هو أعظم وأجل فيخرون لله حامدين ساجدين فيناديهم الرب أن ارفعوا رؤوسكم إنها ليست بدار عمل إنما هي دار ثواب ونعيم مقيم فيرفع الحجاب الثالث فعند ذلك ينظرون إلى وجه رب العالمين فيقولون حين ينظرون إلى وجهه سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فيقول كرامتي أمكنتكم من النظر إلى وجهي وأحلتكم داري فيأذن الله للجنة أن تكلمي فتقول طوبى لمن سكنني وطوبى لمن يخلد في وطوبي لمن أعددت له وذلك قوله تعالى {طوبى لهم وحسن مآب} وقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن"

وذكر عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا أبو الربيع حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن كعب قال ما نظر الله إلى الجنة إلا قال طيبي لأهلك فزادت طيبا على ما كانت وما من

ص: 423

يوم كان عيدا في الدنيا إلا يخرجون في مقداره إلى رياض الجنة ويبرز لهم الرب تبارك وتعالى وينظرون إليه وتسفى عليهم الريح بالطيب والمسك فلا يسألون ربهم تبارك وتعالى شيئسا إلا أعطاهم فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا على ما كانوا عليه من الحسن والجمال سبعين ضعفا

وقال عبد بن حميد أخبرني شبابة عن إسرائيل حدثنا ثوير بن أبي فاختة سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى خدمه ونعيمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية " ثم تلا هذه الآية {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} رواه الترمذي في جامعه عنه

وذكر عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عمر رضي الله عنهما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة إذا بلغ منهم النعيم كل مبلغ وظهنوا أن لا نعيم أفضل منه تجلى لهم الرب تبارك وتعالى فنظروا إلى وجه الرحمن فنسوا كل نعيم عاينوه حين نظروا إلى وجه الرحمن"

وقال الحسن البصري في قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال حسنها الله تعالى بالنظر إليه سبحانه وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى ربها عز وجل قال أبو سليمان الداراني لو لم يكن لأهل

ص: 424

المحبة أو قال المعرفة إلا هذه الآية {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} لاكتفوا بها

وذكر النسائي من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة قال " هل تضامون فى رؤية الشمس في يوم لا غيم فيه وفي القمر ليلة البدر لا غم فيها قلنا لا قال فإنكم سترون ربكم حتى إن أحدكم ليحاضره محاضرة فيقول عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا فيقول يارب ألم تغفر لي فيقول بمغفرتي صرت إلى هذا"

وفي الصحيحين من حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا"

وفي الصحيح والسنن والمساند من حديث ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم

ص: 425

عند الله موعدا يريد أن ينجز كموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلن ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم

وفي صحيح البخاري من حديث جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"

وفي الصحيحين من حديث الزهرى عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا لا يارسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال فهل تضارون في الشمس ليس دوننا سحاب قالوا لايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإنكم ترونه كذلك وفي لفظ فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما"

وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين تبارك وتعالى فيقول ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره

ص: 426

فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون فيطلع عليهم رب العالمين تبارك وتعالى فيقول ألآ تتبعون الناس فيقولون نعود بالله منك نعوذ بالله منك ألله ربنا هذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم ثم يتوارى ثم يطلع عليهم فيقول ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك ألله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم قالوا وهل نراه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم لا تضارون في رؤيته تلك الساعة قال ثم يتوارى ثم يطلع فيعرفهم نفسه ثم يقول أنا ربكم فاتبعوني فيقوم المسلمون ويوضع الصراط فيمرون عليه مثل جياد الخيل والركاب وقولهم عليه سلم سلم ويبقى أهل النار فيطرح منهم فيها فوج فيقال هل امتلأت فتقول هل من مزيد ثم يطرح فيها فوج فيقال هل امتلأت فتقول هل من مزيد حتى إذا أوعبوا فيها وضع الرحمن تبارك وتعالى فيها قدمه فأزوى بعضها إلى بعض وقالت قط قط فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت ملبيا فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة واهل النار ثم يقال يا أهل الجنةفيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لأهل الجنة والنار هل تعرفون هذا فيقولون هؤلاء وهؤلاء قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا فيضجع فيذبح ذبجا

ص: 427

على السور ثم يقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت"

قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وأصله في الصحيحين لكن هذا السياق أجمع وأخصر وفي لفظ الترمذي فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة من حديث قرة عن مالك عن زياد بن سعد حدثنا أبو الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم ودعي كل أناس بإمامهم فجئنا آخر الناس فيقول قائل من الناس من هذه الأمة قال فيشرف إلينا الناس فيقال هذه الأمة الأمينة هذه أمة محمد وهذا محمد في أمته فينادي مناد إنكم الآخرون الأولون قال فنأتي فنتخطى رقاب الناس حتى نكون أقرب الناس إلى الله تعالى منزلة ثم يدعى الناس كل أناس بإمامهم فيدعى اليهود فيقال من أنتم فيقولون نحن اليهود فيقول من نبيكم فيقولون نبينا موسى فيقول ما كتابكم فيقولون كتابنا التوراة فيقول ما تعبدن فيقولون نعبد عزيرا ونعبد الله فيقول للملإ حوله اسلكوا بهم في جهنم ثم يدعى النصارى فيقول من أنتم فيقولون نحن النصارى فيقول من نبيكم فيقولون نبينا عيسى فيقول ما كتابكم فيقولون كتبنا الإنجيل فيقول ما تعبدون فيقولون نعبد عيسى وأمه والله فيقول للملإ حوله اسلكوا بهؤلاء في جهنم فيدعى عيسى فيقول

ص: 428

لعيسى يا عيسى ءأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيقول سبحانك ما يكون لي أن أقول مال ليس لي بحق إلى قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثم يدعى كل أناس بإمامهم وما كانوا يعبدون ثم يصرخ الصارخ أيها الناس من كان يعبد إلها فليتبعه تقدمهم آلهتهم منها الخشب والحجارة ومنها الشمس والقمر ومنها الدجال حتى تبقى المسلمون فيقف عليهم فيقول من أنتم فيقولون نحن المسلمون قال قال خير اسم وخير داعية فيقول من نبيكم فيقولون محمد فيقول ما كتابكم فيقولون القرآن فيقول ما تعبدون! فيقولون نعبد الله وحده لا شريك له قال سينفعكم ذلك إن صدقتم قالوا هذا يومنا الذي وعدنا فيقول أتعرفون الله إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقول وكيف تعرفونه ولم تروه فيقولون نعلم أنه لا عدل له قال فيتجلى لهم تبارك وتعالى فيقولون أنت ربنا تباركت اسماؤك ويخرون له سجدا ثم يمضى النور بأهله "

وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث أبي الزبير قال سألت جابرا عن الورود فأخبرني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نجيء يوم القيامة على كوم فوق الناس فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد ألأول فالأول ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول ما تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك فيتبعونه

ص: 429

وذكر عثمان بن سعيد الدارمي أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري أتى عمر بن عبد العزيز فقال حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأمم يوم القيامة في صعيد واحد فإذا بدا له أن يصدع بين خلقه مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون فيتبعونهم حتى يقحموهم النار ثم يأتينا ربنا ونحن في مكان فيقول من أنتم فبقول نحن المؤمنون فيقول ما تنتظرون فنقول ننتظر ربنا فيقول من أين تعلمون انه ربكم فنقول حدثتنا الرسل أو جاءتنا الكتب فيقول هل تعرفونه فيقولون نعلم أنه لا عدل فيتجلى لنا ضاحكا ثم يقول أبشروا معشر المسلمين فإنه ليس منكم أحد إلا وقد جعلت مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا" فقال عمر لأبي بردة آلله لقد سمعت أبا موسى يحدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إي والله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت أبي يذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا فقال عمر بن عبد العزيز ما سمعت في الإسلام حديثا هو أحب إلي منه

وفي الترمذي من حديث الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن سعيد ابن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أو فيها سوق قال نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله تبارك وتعالى فيبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور

ص: 430

ومنار من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيءعلى كثبان المسك والكافور ما يرون أن أهل الكراسي أفضل منهم مجلسا

قال أبو هريرة قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل نرى ربنا يوم القيامةقال: "نعم هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر قلنا لا قال كذلك لا تمارون في رؤية ربكم ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله تعالى محاضرة حتى يقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم كذا عملت كذا وكذا فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول يا رب ألم تغفر لي فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبيناهم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ثم يقول قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه مالم تنظرالعيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيحمل إلينا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فتتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا لقد جئت وإن

ص: 431

بك من الجمال والطيب أكثر مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا"

وقال يعقوب بن سفيان في مسنده حدثنا ابن المصفى حدثنا سويد بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يزور أهل الجنة الرب تبارك وتعالى في كل يوم جمعة وذكر ما يعطون قال ثم يقول الله تعالى اكشفوا الحجب فيكشفوا حجابا ثم حجابا حتى يتجلى لهم عن وجهه تبارك وتعالى وكأنهم لم يرو نعمة قبل ذلك وهو قول الله تعالى: {ولدينا مزيد} " وذكر عثمان بن سعيد الدارمي من حديث الحسن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أنه قال: "يأتينا ربنا يوم القيامة ونحن على مكان رفيع فيتجلى لنا ضاحكا" مرسل صحيح

وقال عثمان الدارمي حدثنا أبو موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا الأجلح حدثنا الضحاك بن مزاحم قال إن الله يأمر السماء يوم القيامة فتنشق بمن فيها فيحيطون بالأرض ومن فيها ثم يأمر السماء الثانية حتى ذكر سبع سموات فيكونون سبعة صفوف قد أحاطوا بالناس ثم ينزل الملك الأعلى جل جلاله في بهائه وجماله معه ماشاء من الملائكة

وقال عثمان بن سعيد حدثنا هشام بن خالد الدمشقي وكان ثقة حدثنا محمد بن شعيب بن شاور حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن أنس بن مالك

ص: 432

رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاءني جبريل وفي كفه مرآة فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة أرسل بها إليك ربك فتكون هدى لك ولأمتك من بعدك فقلت ومالنا فيها قال لكم فيها خير كثير أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله خيرا هو له قسم إلا أتاه ولا خيرا ليس له بقسم إلا دخر له أفضل منه ولا يستعيذ بالله ما هو مكتوب عليه إلا دفع عنه أكثر منه قلت ما هذه النكتة السوداء قال هذه الساعة يوم تقوم القيامة وهو سيد الأيام ونحن نسميه عندنا يوم المزيد قلت ولم تسمونه يوم المزيد يا جبريل قال لأن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة هبط الجبار عن عرشه إلى كرسيه إلى ذلك الوادي وقد حف الكرسي بمنابر من نور يجلس عليها الصديقون والشهداء يوم القيامة ثم يجيء أهل الغرف حتى يحفوا بالكثيب ثم يبدو لهم ذو الجلال والإكرام تبارك وتعالى فيقول أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وأحللتكم دار كرامتي فسلوني فيقولون بأجمعهم نسألك الرضا عنا فيشهد لهم على الرضا ثم يقول لهم سلوني فيسألونه حتى ينتهي نهمة كل عبد منهم ثم يقول سلوني فيقولون حسبنا ربنا رضينا فيرجع الجبار جل جلاله إلى

ص: 433

عرشه فيفتح لهم بقدر إشراقهم من يوم الجمعة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم وهي غرفة من لؤلؤة بيضاء وياقوتة حمراء وزمردة خضراء ليس فيها قصم ولا وصم مطردة أنهارها متدلية فيها ثمارها فيها أزواجها وخدمها ومساكنها فليسوا إلى يوم أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا فضلا من ربهم ورضوانا"

رواه عن أنس جماعة منهم عثمان بن عمير بن اليقظان ومن طريقه رواه الشافعي في مسنده وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة ومنهم أبو صالح والزبير بن عدي وعلي بن الحكم البناني وعبد الملك بن عمير ويزيد الرقاشي وعبد الله بن بريدة كلهم عن أنس وصححه جماعة من الحفاظ وزاد الشافعي في مسنده في آخره وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وساقه عثمان بن أبي شيبة من طرق وقال في بعضها: "ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى فيقول أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي إلى أن قال ثم يرتفع على كرسيه ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم"

وروى محمد بن الزبرقان عن مقاتل بن حيان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أهل الجنة

ص: 434

ليحتاجون إلى العلماء في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا وذلك أنهم يزورون ربهم في كل جمعة فيقول لهم تمنوا فيقولون وما نتمنى وقد أدخلتنا الجنة وقد أعطيتنا ما أعطيتنا فيقال لهم تمنوا فيلتفتون إلى العلماء وذكر الحديث في قصة الجمعة

وروى ابن منده من حديث الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة الجمعة بطولها وفيها يقول: "سلوني فيقولون أرنا وجهك رب العالمين ننظر إليك فيكشف الله تبارك وتعالى تلك الحجب ويتجلى لهم فينظرون إليه"

وذكر عثمان الدارمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدث عمر بن عبد العزيز قال إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار أقبل في ظلل من الغمام والملائكة فيسلم على أهل الجنة في أول درجة فيردون عليه السلام قال القرظي وهذا في القرآن {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فيقول سلوني يفعل بهم ذلك في درجهم حتى يستوي على عرشه ثم تأتيهم التحف من الله تحمله الملائكة إليهم

وقال عبد الواحد بن زيد عن الحسن لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا وقال هشام بن حسان عنه أنه تبارك وتعالى يتجلى لأهل الجنة فإذا رأوه نسوا نعيم الجنة أعجب الصبر صبر المحبين قال الشاعر

ص: 435

والصبر يحمد في المواطن كلها

إلا عليك فإنه لا يحمد

وقف رجل على الشبلي فقال أي الصبر أشد على الصابرين قال الصبر في الله فقال السائل لا فقال الصبر لله قال لا قال فالصبر مع الله قال لا قال فما هو قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تزهق قال الشاعر

والصبر عنك فمذموم عواقبه

والصبر في سائر الأشياء محمود

الخوف يبعدك عن معصيته والرجاء يخرجك إلى طاعته والحب يسوقك إليه سوقا لما علم الله سبحانه أن قلوب المشتاقين إليه لا تهدأإلا بلقائه ضرب لهم أجلا للقاء تسكينا لقلوبهم فقال الله تعالى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ}

يامن شكى شوقه من طول فرقته

إصبر لعلك تلقى من تحب غدا

وسر إليه بنار الشوق مجتهدا

عساك تلقى على نار الغرام هدى

المحب الصادق كلما قرب من محبوبه زاد شوقا إليه

وأعظم ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الخيام من الخيام

كلما وقع بصر المحب على محبوبه أحدثت له رؤيته شوقا على شوقه

ما يرجع الطرف عنه حين يبصره

حتى يعود إليه الطرف مشتاقا

المحب الصادق إذا سافر طرفه في الكون لم يجد له طريقا إلا على محبوبه

ص: 436

فإذا انصرف بصره عنه رجع إليه خاسئا وهو حسير

ويسرح طرفي في الأنام وينثني

وإنسان عيني بالدموع غريق

فيرجع مردودا إليك وماله

على أحد إلا عليك طريق

أقر شيء لعيون المحب خلوته بسره مع محبوبه حدثني من رأى شيخنا في عنفوان أمره خرج إلى البرية بكرة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم تمثل بقول الشاعر

وأخرج من بين البيوت لعلني

أحدث عنك القلب بالسر خاليا

الشوق يحمل المحب على العجلة في رضا المحبوب والمبادرة إليها على الفور ولو كان فيها تلفه {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} قال بعضهم أراد شوقا إليك فستره بلفظ الرضا

ولو قلت طأ في النار أعلم أنه

رضا لك أو مدن لنا من وصالك

لقدمت رجلي نحوها فوطئتها

هدى منك لي أو ضلة من ضلالك

ليهنك إمساكي بكفي على الحشا

ورقراق عيني خشية من زيالك

ص: 437

وإن ساءني أن نلتني بمساءة

لقد سرني أني خطرت ببالك

من علامات المحبة الصادقة أن المحب لا يتم له سرور إلا بمحبوبه وما دام غائبا عنه فعيشه كله منغص

نحن في أكمل السرور ولكن

ليس إلا بكم يتم السرور

عيب ما نحن فيه يا أهل ودي

أنكم غيب ونحن حضور

وقال آخر

من سره العيد الجديد

فقد عدمت به السرورا

كان السرور يتم لي

لو كان أحبابي حضورا

لو قيل للمحب على الدوام ما تتمنى لقال لقاء المحبوب

ولما نزلنا منزلا طله الندى

أنيقا وبستانا من النور حاليا

أجد لنا طيب المكان وحسنه

منى فتمنينا فكنت الأمانيا

وقال الجنيد سمعت السري يقول الشوق أجل مقام العارف إذا تحقق فيه وإذا تحقق بالشوق لها عن كل ما يشغله عمن يشتاق إليه وقيل أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قال لشبان بني إسرائيل لم تشغلون نفوسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم ما هذا الجفاء ولو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم ومحبتي لترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وانقطعت أوصالهم من محبتي هذه إرادتي للمدبرين عني فكيف إرادتي للمقبلين علي وسئل الجنيد من أي شيء بكاء المحب إذا لقي المحبوب فقال إنما يكون ذلك سرورا به

ص: 438

ووجدا من شدة الشوق إليه قال ولقد بلغني أن أخوين تعانقا فقال أحدهما واشوقاه وقال الآخر وواجداه وكانت عجوز لها غائب فقدم من السفر فأظهر أهلها الفرح والسرور به فجعلت تبكي فقيل لها ما هذا البكاء فقالت ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله

وقال بعض المحبين قلوب المشتاقين منورة بنور الله فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض فيعرضهم الله سبحانه وتعالى على الملائكة فيقول هؤلاء المشتاقون إلي أشهدكم أني إليهم أشوق

فصل قال ابن أبي الحواري رحمه الله تعالى سئل أبو سليمان الداراني رحمه الله وأنا حاضر ما أقرب ما يتقرب به إلى الله عز وجل فبكى ثم قال مثلي يسأل عن هذا أقرب ما يتقرب به إليه أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو وقال يحيى بن معاذ النسك هو العناية بالسرائر وإخراج ما سوى الله من القلب وقال سهل بن عبد الله ما من ساعة إلا والله سبحانه يطلع فيها على قلوب العباد فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس وقال سهل بن عبد الله من نظر إلى الله عز وجل قريبا منه بعد عن قلبه كل شيء سوى الله ومن طلب مرضاته أرضاه الله سبحانه وتعالى ومن أحلم قلبه إلى الله تولى الله جوارحه وقال سهل أيضا حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله وسئل يعضهم عن افضل الأعمال فقال رعاية السر عن الالتفات إلى شيء

ص: 439

سوى الله عز وجل وقال مسلم تركتموه وأقبل بعضكم على بعض لو أقبلتم عليه لرأيتم العجائب

فصل فإن تقاصرت همتك الدنية عن ترك الفواحش محبة لهذا المحبوب الأعلى ولست هناك فاتركها محبة للنساء اللاتي وصفهن الله في كتابه وبعث رسوله داعيا إلى وصالهن في جنة المأوى وقد تقدم ذكر بعض صفاتهن ولذة وصالهن فإن تقاصرت همتك عنهن ولم تكن كفؤا لخطبتهن ودعتك نفسك إلى إيثار ما هاهنا عليهن فكن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر واعلم أن العقوبات تختلف فتارة تعجل وتارة توخر وتارة يجمع الله على العاصي بينهما وأشد العقوبات العقوبة بسلب الإيمان ودونها العقوبة بموت القلب ومحو لذة الذكر والقراءة والدعاء والمناجاة منه وربما دبت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلئ القلب بهما فتعمى البصيرة وأهون العقوبة ما كان واقعا بالبدن في الدنيا وأهون منها ما وقع بالمال وربما كانت عقوبة النظر في البصيرة أو في البصر أو فيهما

قال الفضيل يقول الله تعالى ابن آدم إذا كنت أقلبك في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي فاحذر لئلا أصرعك بين معاصيك ابن آدم اتقني ونم حيث شئت إنك إن ذكرتني ذكرتك وإن نسيتني نسيتك والساعة التي لا تذكرني فيها عليك لا لك

ص: 440

وقال الفضيل أيضا ما يؤمنك أن تكون بارزت الله تعالى بعمل مقتك عليه فأغلق عنك أبواب المغفرة وأنت تضحك وقال علقمة بن مرثد بينا رجل يطوف بالبيت إذ برق له ساعد امرأة فوضع ساعده على ساعدها فالتذ به فلصقت ساعداهما فأتى بعض أولئك الشيوخ فقال ارجع إلى المكان الذي فعلت هذا فيه فعاهد رب البيت أن لا تعود فقعل فخلي عنه

وقال ابن عباس وأنس رضي الله عنهم إن للحسنة نورا في القلب وزينا في الوجه وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة ظلمة في القلب وشينا في الوجه ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق

وقال الحسن ما عصى الله عبد إلا أذله الله وقال المعتمر بن سليمان إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته وقال الحسن هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم وكان شيخ من الأعراب يدور على المجالس ويقول من سره أن تدوم له العافية فليتق الله وقال أبو سليمان الداراني من صفا صفا له ومن كدر كدر عليه ومن أحسن في ليله كفي في نهاره ومن أحسن في نهاره كفي في ليله ومن ترك لله شهوة من قلبه فالله أكرم أن يعذب بها قلبه وكتبت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى معاوية أما بعد فإن العامل إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاما

وقال محارب بن دثار إن الرجل ليذنب الذنب فيجد له في قلبه وهنا

وقال الحسين بن مطير

ونفسك أكرم عن أمور كثيرة

فما لك نفس بعدها تستعيرها

ص: 441

ولا تقرب الأمر الحرام فإنما

حلاوته تفنى ويبقى مريرها

وكان سفيان الثوري يتمثل بهذين البيتين

تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها

من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء في مغبتها

لا خير في لذة من بعدها النار

فصل واعلم أن الجزاء من جنس العمل والقلب معلق بالحرام كلما هم أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا

وفي بعض طرق حديث سمرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على مثل بناء التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار فيه رجال ونساء عراة فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا فإذا أخمدت رجعوا فيها فقلت من هؤلاء قال هم الزناة" فتأمل مطابقة هذا العذاب لحال قلوبهم في الدنيا فإنهم كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور الشهوة إلى فضاء التوبة أركسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يخرجون ولما كان الكفار في سجن الكفر والشرك وضيقه وكانوا كلما هموا

ص: 442

بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسعته وروحه رجعوا على حوافرهم كان عقوبتهم في الآخرة كذلك قال الله تعالى {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} وقال في موضع آخر {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} فالكفر والمعاصي والفسوق كله غموم وكلما عزم العبد أن يخرج منه أبت عليه نفسه وشيطانه ومألفه فلا يزال في غم ذلك حتى يموت فإن لم يخرج من غم ذلك في الدنيا بقي في غمه في البرزخ وفي القيامة وإن خرج من غمه وضيقه هاهنا خرج منه هناك فما حبس العبد عن الله في هذه الدار حبسه عنه بعد الموت وكان معذبا به هناك كما كان قلبه معذبا به في الدنيا فليس العشاق والفجرة والظلمة في لذة في هذه الدار وإنما هم يعذبون فيها وفي البرزخ وفي القيامة ولكن سكر الشهوة وموت القلب حال بينهم وبين الشعور بالألم فإذا حيل بينهم وبين ما يشتهون أحضرت نفوسهم الألم الشديد وصار يعمل فيها بعد الموت نظير ما يعمل الدود في لحومهم فالآلام تأكل أرواحهم غير أنها لا تفنى والدود يأكل جسومهم قال الإمام أحمد رضي الله عنه حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل حدثني وهب بن منبه قال كان حزقيل قائما فأتاه ملك فذكر حديثا طويلا وفيه أنه مر بقوم أموات فقيل له ادعهم فدعاهم فأحياهم الله له فقال سلهم فيم كنتم فقالوا لما فارقنا

ص: 443

الحياة لقيا ملكا يقال له ميكائيل فقال هلموا أعمالكم وخذوا أجوركم فذلك سنتنا فيكم وفيمن كان قبلكم وفيمن هو كائن بعدكم فنظروا في أعمالنا فوجدونا نعبد الأوثان فسلط الدود على أجسادنا وجعلت الأرواح تألم وسلط الغم على أرواحنا وجعلت الأجساد تألم فلم نزل كذلك نعذب حتى دعوتنا

ص: 444