المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط العلمية

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في أسماء المحبة

- ‌الباب الثاني: في اشتغال هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الباب الثالثفي نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين

- ‌الباب الرابع: في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب

- ‌الباب الخامس:في دواعي المحبة ومتعلقها

- ‌الباب السادس: في أحكام النظر وعائلته وما يجني على صاحبه

- ‌الباب السابع: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل واحد منهما صاحبه والحكم بينهما

- ‌الباب الثامن: في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه

- ‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

- ‌الباب العاشر: في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناسفيه

- ‌الباب الحادي عشر: في العشق هل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه

- ‌الباب الثاني عشر: في سكرة العشاق

- ‌الباب الثالث عشر: في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان

- ‌لباب الرابع عشر: فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه

- ‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

- ‌الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين

- ‌الباب السابع عشر: في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

- ‌الباب الثامن عشر: في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال

- ‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

- ‌الباب الحادي والعشرون: في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌الباب الثاني والعشرون: في غيرة المحبين على أحبابهم

- ‌الباب الثالث والعشرون: في عفاف المحبين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ارتكاب سبيلي الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

- ‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى وقد تقدم ذكر الآيات

الفصل: ‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام أحدها نقول صحيحة لا حجة لهم فيها والثاني نقول كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق والفجار كما سنبينه الثالث نقول مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه فأما احتجاجهم بقوله تعالى {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء} فهو نظير احتجاجهم بعينه على إباحة السماع الشيطاني الفسقي بقوله تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} قالوا والقول عام فحملوا لفظه ومعناه ما هو بريء منه وإنما القول هاهنا ما أمرهم الله باستماعه وهو وحيه الذي أنزله على رسوله وهو الذي قال فيه {أفلم يدبروا القرآن} وقال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} فهذا هو القول الذي أمروا باتباع أحسنه كما قال {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} والنظر الذي أمرنا سبحانه به المؤدي إلى معرفته والإيمان به ومحبته والاستدلال على صدق رسله فيما أخبروا به عنه من أسمائه وصفاته وأفعاله وعقابه وثوابه لا النظر الذي يوجب تعلق الناظر

ص: 121

بالصورة التي يحرم عليه الاستمتاع بها نظرا ومباشرة فهذا النظر الذي أمر الله سبحانه وتعالى صاحبه بغض بصره هذا مع أن القوم لم يبتلوا بالمردان وهم كانوا أشرف نفوسا وأطهر قلوبا من ذلك فإذا أمرهم بغض أبصارهم عن الصورة التي تباح لهم في بعض الأحوال خشية الافتتان فكيف النظر إلى صورة لا تباح بحال ثم يقال لهذه الطائفة النظر الذي ندب الله إليه نظر يثاب عليه الناظر وهو نظر موافق لأمره يقصد به معرفة ربه ومحبته لا النظر الشيطاني ويشبه هذا الاستدلال استدلال بعض الزنادقة المنتسبين إلى الفقه على حل الفاحشة بمملوك الرجل بقوله تعالى {إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ومعتقد ذلك كافر حلال الدم بعد قيام الحجة عليه وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالا حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرهم عبادة لأنهم ينظرون إلى مظاهر الجمال الإلهي ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى يظهر في تلك الصورة الجميلة ويجعلون هذا طريقا إلى الله كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي المعرفة والسلوك

قال شيخنا رحمه الله تعالى وكفر هؤلاء شر من كفر قوم لوط وشر من كفر عباد الأصنام فإن أولئك لم يقولوا إن الله سبحانه يتجلى في تلك الصورة وعباد الأصنام غاية ما قالوه {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وهؤلاء قالوا نعبدهم لأن الله ظهر في صورهم وحكى لي شيخنا أن

ص: 122

رجلا من هؤلاء مر به شاب جميل فجعل يتبعه بصره فأنكر عليه جليس له وقال لا يصلح هذا لمثلك فقال إني أرى فيه صفات معبودي وهو مظهر من مظاهر جماله فقال لقد فعلت به وصنعت فقال وإن قال شيخنا فلعن الله أمة معبودها موطوؤها قال وسئل أفضل متأخريهم العفيف التلمساني فقيل له إذا كان الوجود واحدا فما الفرق بين الأخت والبنت والأجنبية حتى تحل هذه فقال الجميع عندنا سواء ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم ومن هؤلاء الزنادقة من يخص ذلك ببعض الصور فهؤلاء من جنس النصارى بل هم إخوانهم فالنظر عند هؤلاء إلى الصور المحرمة عبادة ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع بعض هؤلاء الزنادقة أو مجان الفساق وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منه وسئل شيخنا عمن يقول النظر إلى الوجه الحسن عبادة ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل ذلك صحيح أم لا فأجاب بأن قال هذا كذب باطل ومن روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يشبهه فقد كذب عليه فإن هذا لم يروه أحد من أهل الحديث لا بإسناد صحيح ولا ضعيف بل هو من الموضوعات وهو مخالف لإجماع المسلمين فإنه لم يقل أحد إن النظر إلى المرأة الأجنبية والصبي الأمرد عبادة ومن زعم ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن النظر منه ما هو حرام ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح والله أعلم وأما الحديث الآخر وهو "أطلبوا الخير من

ص: 123

حسان الوجوه" فهذا وإن كان قد روي بإسناد إلا أنه باطل لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو صح لم يكن فيه حجة لهذه الطائفة فإنه إنما أمر بطلب الخير منهم لا بطلب وصالهم ونيل المحرم منهم فإن الوجه الجميل مظنة الفعل الجميل فإن الأخلاق في الغالب مناسبة للخلقة بينهما نسب قريب وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم للخاطب بأن ينظر إلى المخطوبة فذلك نظر للحاجة وهو مأمور به أمر استحباب عند الجمهور وأمر إيجاب عند بعض أهل الظاهر وهو من النظر المأذون فيه لمصلحة راجحة وهو دخول الزوج على بصيرة وأبعد من ندمه ونفرته عن المرأة فالنظر المباح أنواع هذا أحدها بخلاف النظر إلى الصورة المحرمة

فصل:

وأما ما ذكره السمعاني عن الشافعي رحمه الله تعالى فمن تحريف الناقل والسائل لم يذكر لفظ الشافعي والبيتان هكذا

سألت الفتى المكي في تزاور

ونظرة مشتاق الفؤاد جناح

فقال معاذ الله أن يذهب التقى

تلاصق أكباد بهن جراح

فهذا السائل هو الذي ذكر السؤال والجواب وهو مجهول لا يعرف هل هو ثقة أم لا ثم إن الجواب لا يدل على مقصود هذه الفرقة بوجه ما بل هو حجة عليها فإنه نهى أن يذهب التقى تلاصق هذه الأكباد فكأنه قال

ص: 124

لا تتلاصق هذه الأكباد لئلا يذهب تلاصقها التقى فالتلاصق المذكور فاعل والتقى مفعول فكأنه قال لا يفعل لئلا يذهب التلاصق التقى وجواب آخر وهو أن هذا التلاصق إنما يكون غير مذهب للتقى إذا كان في عشق مباح بل مستحب كعشق الزوجة والأمة

وأما ما ذكروا عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى فقد أجاب عنه سعيد نفسه فإنه لما مر به مرخية هذا السائل وكان من بني كلاب قال سعيد هذا من أكذب العرب قيل كيف يا أبا محمد قال أليس الذي يقول:

سألت سعيد بن المسيب مفتي المدينة

هل في حب دهماء من وزر

فقال سعيد بن المسيب إنما

تلام على ما تستطيع من الأمر

كذب والله ما سألني عن شيء من هذا قط ولا أفتيته وإذا كان هذا جواب سعيد في مثل هذا فما جوابه لمن سأله أن يقبل حبيبا أجنبيا كل يوم وليلة عشرة فقبح الله الفسقة الكذابين على العلماء لا سيما على مثل سعيد فهؤلاء كلهم فسقة كاذبون أرادوا تنفيق فسقهم بالكذب على علماء وقتهم كما نفق الفاسق أبو نواس كذبه على إسحاق بن يوسف الأزرق قال عبد الله

ص: 125

ابن محمد بن عائشة أتيت إسحاق بن يوسف الأزرق يوما فلما رآني بكى قلت ما يبكيك قال هذا أبو نواس قلت ماله قال يا جارية ائتيني بالقرطاس فإذا فيه مكتوب

يا ساحر المقلتين والجيد

وقاتلي منه بالمواعيد

توعدني الوصل ثم تخلفني

ويلاه من مخلف لموعودي

حدثني الأزرق المحدث عن

شمر وعوف عن ابن مسعود

لا يخلف الوعد غير كافرة

أو كافر في الجحيم مصفود

كذب والله علي وعلى التابعين وعلى الصحابة ولو صح عن سعيد لم يكن لكم فيه حجة فإن سعيدا أمره بالصبر أولا ومراقبة الله وخوف سطوته ومخالفة الفسقة ثم أمره بتقبيل خد من يحبه كل يوم عشر مرات وهذا قطعا إنما أراد به من يحل له تقبيله من زوجة أو سرية فأمره أن يعتاض بقبلتها من لا يحل له ولا يظن بعلماء الإسلام غير هذا إلا مفرط في الجهل أو متهم على الدين

وأما ذكره المبرد عن الأعرابي الذي سأل المفتي المكي عن القبلة في رمضان فقال للزوجة سبع وللخلة ثمان فهذا المستفتي والمفتي لا يعرف واحد منهما حتى يقبل خيره ولو صح ذلك وعرف المستفتي والمفتي لكانت الخلة هي أمته الجميلة وهي التي يحل تقبيلها ثمانيا فأكثر

وأما أن يفتي أحد من أهل الإسلام بأنه يحل تقبيل المرأة الأجنبية المحرمة عليه ثمانيا في رمضان أو غيره فمعاذ الله من ذلك وهكذا حكم الأثر الذي ذكره الخطيب في كتاب رواه مالك ولا يظن بعالم أنه تمنى أن يقبل امرأة أجنبية وهو محرم ببطن منى فإن القبلة المذكورة تعرض الحج للفساد وتبطله عند طائفة فإن صح هذا فإنما اراد امرأته أو أمته

ص: 126

وأما الأثر الذي ذكره الحاكم في مناقب الشافعي رحمه الله تعالى فليس بين الحاكم وبين الربيع من يحتج به ويدل على أن القصة كذب ظاهر أن المستفتي زعم أن الشافعي أجاب بقوله فقال لي المفتي وفاضت دموعه وهذا إنما هو حكاية المستفتي قول المفتي فمن هو الحاكي عن الشافعي فدعوا هذه الأكاذيب والترهات

وأما ما ذكرتم عن عمرو بن سفيان ابن بنت جامع فمن ذكر هذا عن عمرو ابن سفيان ومن هو عمرو بن سفيان ابن بنت جامع بن مرخية هذا وهذا موضع البيتين المشهورين

سألنا عن ثمالة كل حي

فقال القائلون ومن ثماله

فقلت محمد بن يزيد منهم

فقالوا زدتنا بهم جهاله

وهل يحل لأحد أن يصدق عن مالك والليث بن سعد أنهما أجازا تقبيل خد المرأة الأجنبية المعشوقة أو خد الأمرد الجميل الصورة هذا وقصة مالك مع الذي ضم صبياإليه فأفتى بضربه ستمائة سوط فمات فقال له أبو الفتى قتلت ابني فقال قتله الله فمن هذا تشديده وفتواه هل يفتي بجواز تقبيل خدود المرد الحسان نعم ما حرم الرحمن قبلة عاشق يحل لمعشوقه مواصلته ولا قبلة الرجل خد ولده كما قبل الصديق رضي الله عنه خد ابنته عائشة رضي الله عنها ورأى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم يقبل أحد ابني ابنته فقال وإنكم لتقبلون الصبيان إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم فقال

ص: 127

"وأملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك"

وأما صاحب كتاب رستاق الاتفاق وهو شاعر المصريين فلعمر الله لقد أفسدت إذ أسندت فإنه الفاسق الماجن المسمى أبا الرقعمق ولكن لا ينكر هذا المتن بهذا الإسناد فإنه لا يليق إلا به

وأما قصة إبراهيم بن المدبر عن أبي بكر بن عياش فنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم

وأما ما ذكروا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فوالذي لا إله غيره إنه لمن أقبح الكذب عليه ولو أن هذا الكاذب الفاسق نفق هذه الكذبة بغيره لراج أمرها بعض الرواج ولكن من شدة جهله نفقها بأحمد ابن حنبل وهو كمن نسب إليه القول بأن القرآن مخلوق أو تقديم علي على أبي بكر أو تقديم الرأي على السنة وأمثال ذلك وكذلك ما ذكره عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولو صح لم يكن فيه حجة لهذه الطائفة فإنه قال لا إثم فيه إذا كانت لعشر وأربع ولم يقل إذا كانت أجنبية ونحن نقول بما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان المعشوق حلالا

وأما ما ذكر عن الطحاوي فلا نعلم صحته وإن صح فإنما أراد به التقبيل المباح فإن الرجل قد يبتلى بهجر زوجته أو أمته له فيسأل أطباء الدين وأطباء الجسم وأطباء الحب عن دوائه فيجيبه كل منهم بمقتضى علمه وما عنده وقد شكى مغيث زوج بريرة حبه لها فشفع عندها النبي صلى الله عليه وسلم أن

ص: 128

تراجعه فلم تفعل وشكى إليه رجل أن امرأته لا ترد يد لامس فقال طلقها فقال إني أخاف أن تتبعها نفسي فقال استمتع بها ذكره الإمام أحمد والنسائي قال بعض أهل العلم راعى النبي صلى الله عليه وسلم دفع أعلى المفسدتين بأدناهما فإنه لما شكى إليه أنها لا ترد يد لامس أمره بطلاقها فلما أخبره عن حبها وأنه يخاف أن لا يصبر عنها ولعل حبه لها يدعوه إلى معصية أمره أن يمسكها مداواة لقلبه ودفعا للمفسدة التي يخافها باحتمال المفسدة التي شكا منها وأجاب أبو عبيدة عنه بأنها كانت لا ترد يد لامس يطلب منها العطاء فكانت لا ترد يد من سألها شيئا من مال الزوج ورد عليه هذا التأويل بأنه لا يقال لطالب العطاء لامس وإنما يقال له ملتمس وأجابت طائفة أخرى عنه بأن طرآن المعصية على النكاح لا توجب فساده وقال النسائي هذا الحديث منكر وعندي أن له وجها غير هذا كله فإن الرجل لم يشك من المرأة أنها تزني بكل من اراد ذلك منها ولو سأل عن ذلك لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقيم مع بغي ويكون زوج بغي ديوثا وإنما شكى إليه أنها لا تجذب نفسها ممن لاعبها ووضع يده عليها أو جذب ثوبها ونحو ذلك فإن من النساء من تلين عند الحديث واللعب ونحوه وهي حصان عفيفة إذا أريد منها الزنى وهذا كان عادة كثير من نساء العرب ولا يعدون ذلك عيبا بل كانوا في الجاهلية يرون للزوج النصف الأسفل وللعشيق النصف الأعلى

فللحب ما ضمت عليه نقابها

وللبعل ما ضمت عليه المآزر

ص: 129

والمقصود أن القوم كانوا مع العاشق على معشوقه إذا كان يباح له وصاله وسنذكر ذلك في باب مساعدة العشاق بالمباح من التلاق إن شاء الله تعالى

وأما ما ذكروا عن شيوخ المعتزلة وشيوخ الواسطيين فأما أبو عثمان المذكور وهو عمرو بن عبيد وواصل وهو واصل بن عطاء وهما شيخا القوم ولو أفتيا بذلك لكانت فتيا من مبتدعين مذمومين عند السلف والخلف فكيف والمخبر بذلك رجل مجهول من المعتزلة كذب على من يعظمهما المعتزلة لينفق فسقه

وأما قصة محمد بن داود الأصبهاني فغايتها أن تكون من سعيه المعفو المغفور لا من عمله المشكور وسلط الناس بذلك على عرضه والله يغفر لنا وله فإنه تعرض بالنظر إلى السقم الذي صار به صاحب فراش وهذا لو كان ممن يباح له لكان نقصا وعيبا فكيف من صبي أجنبي وأرضاه الشيطان بحبه والنظر إليه عن مواصلته إذا لم يطمع في ذلك منه فنال منه ما عرف أن كيده لا يتجاوزه وجعله قدوة لمن يأتم به بعده كأبي محمد بن حزم الظاهري وغيره وكيد الشيطان أدق من هذا

وأما أبو محمد فإنه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر وإلغائه للمعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة فوسع هذا الباب جدا وضيق باب المناسبات والمعاني والحكم الشرعية جدا وهو من انحرافه في الطرفين حين رد الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في تحريم آلات اللهو بأنه معلق غير مسند وخفي عليه أن البخاري لقي من علقه عنه وسمع منه وهو هشام بن عمار وخفي عليه أن الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث غير هشام بن عمار فأبطل سنة صحيحة

ص: 130

ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مطعن فيها بوجه

وأما من حاكمتمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فنحن راضون بحكمه فأين أباح لكم النظر المحرم وعشق المردان والنساء الأجانب وهل هذه إلا كذب ظاهر عليه وهذه تصانيفه وفتاواه كلها ناطقة بخلاف ما حكيتموه عنه وأما الفتيا التي حكيتموها فكذب عليه لا تناسب كلامه بوجه ولولا الإطالة لذكرناها جميعها حتى يعلم الواقف عليها أنها لا تصدر عمن دونه فضلا عنه وقلت لمن أوقفني عليها هذه كذب عليه لا يشبه كلامه وكان بعض الأمراء قد أوقفني عليها قديما وهي بخط رجل متهم بالكذب وقال لي ما كنت أظن الشيخ برقة هذه الحاشية ثم تأملتها فإذا هي كذب عليه ولولا الإطالة لذكرنا من فتاويه ما يبين أن هذه كذب

وأما ما ذكرتم من مسألة التزام أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما فنحن لا ننكر هذه القاعدة بل هي من أصح قواعد الشريعة ولكن الشأن في إدخال هذه الصورة فيها بل نحاكمكم إلى هذه القاعدة نفسها فإن احتمال مفسدة ألم الحب مع غض البصر وعدم تقبيل المحبوب وضمه ونحو ذلك أقل من مفسدة النظر والتقبيل فإن هذه المفسدة تجر إلى هلاك القلب وفساد الدين وغاية ما يقدر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت تفاديا عن التعرض للحرام فأين إحدى المفسدتين من الأخرى على أن النظر والقبلة

ص: 131

والضم لا يمنع السقم والموت الحاصل بسبب الحب فإن العشق يزيد بذلك ولا يزول

فما صبابة مشتاق على أمل

من الوصال كمشتاق بلا أمل

ولا ريب في أن محبة من له طمع أقوى من محبة من يئس من محبوبه ولهذا قال الشاعر

وأبرح ما يكن الحب يوما

إذا دنت الديار من الديار

فإن قيل فقد أباح الله سبحانه للمضطر الميتة والدم ولحم الخنزير وتناولها في هذه الحال واجب عليه قال مسروق والإمام أحمد رحمهما الله تعالى من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل فمات دخل النار فغاية النظرة والقبلة والضمة أن تكون محرمة فإذا اضطر العاشق إليها فإن لم تكن واجبة فلا أقل من أن تكون مباحة فهذا قياس واعتبار صحيح وأين مفسدة موت العاشق إلى مفسدة ضمه ولمه

فالجواب أن هذا يتبين بذكر قاعدة وهي أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل في العبد اضطرارا إلى الجماع بحيث إن لم يفعله مات بخلاف اضطراره إلى الأكل والشرب واللباس فإنه من قوام البدن الذي إن لم يباشره هلك ولهذا لم يبح من الوطء الحرام ما أباح من تناول الغذاء والشراب المحرم فإن هذا من قبيل الشهوة واللذة التي هي تتمة وفضلة ولهذا يمكن الإنسان أن يعيش طول عمره بغير تزوج وغير تسر ولا يمكنه أن يعيش بغير طعام ولا شراب ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب أن يداووا هذه الشهوة بالصوم وقال تعالى عن عشاق المردان {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ

ص: 132

النِّسَاءِ} فأخبر أن الحامل على ذلك مجرد الشهوة لا الحاجة فضلا عن الضرورة والشهوة المجردة لا تلتحق بالضروريات ولا بالحاجات والحمية عنها خشية إفضائها إلى مرض أصعب منها جار مجرى الحمية عن تناول ما يضر من الأطعمة والأشربة وذلك لا تدعو الضرورة إلى تناوله وإن كانت النفس قد تشتهيه فالقبلة والنظر والضم ونحوها جار مجرى تناول الفاكهة المضرة والزفرة المضر للمحموم ومن به مرض يضره معه تناول ذلك فإذا قال المريض أنا إن لم أتناول ذلك وإلا خشيت الموت لم يكن صادقا في قوله وإنما الحامل له على ذلك مجرد الشهوة وربما زاد تناول ذلك في مرضه فالطبيب الناصح لا يفسح له فيه فكيف يفسح الشارع الحكيم الذي شريعته غاية طب القلوب والأديان وبها تحفظ صحتها وتدفع موادها الفاسدة في تناول ما يزيد الداء ويقويه ويمده هذا من المحال بل الشريعة تأمر بالحمية عن أسباب هذا الداء خوفا من استحكامه وتولد داء آخر أصعب منه وأما مسألة من خاف تشقق أنثييه وأنه يباح له الوطء في رمضان فهذا ليس على إطلاقه بل إن أمكنه إخراج مائه بغير الوطء لم يجز له الوطء بلا نزاع وإن لم يمكنه ذلك إلا بالوطء المباح فإنه يجري مجرى الإفطار لعذر المرض ثم يقضي ذلك اليوم والإفطار بالمرض لا يتوقف على خوف الهلاك فكيف إذا خاف تلف عضو من أعضائه القاتلة بل هذا نظير من اشتد عطشه وخاف إن لم يشرب أن يحدث له داء من الأدواء أو يتلف عضو

ص: 133

من أعضائه فإنه يجوز له الشرب ثم يقضي يوما مكانه فإن قيل فلو اتفق له ذلك ولم يكن عنده إلا أجنبية هل يباح له وطؤها لئلا تتلف أنثياه قيل لا يباح له ذلك ولكن له أن يخرج ماءه باستمنائه فإن تعذر عليه فهل يجوز له أن يمكنها من استخراج مائه بيدها هذا فيه نظر فإن أبيح جرى مجرى تطبيب المرأة الأجنبية للرجل ومسها منه ما تدعو الحاجة إلى مسه وكذلك تطبيب الرجل للمرأة الأجنبية ومسه ما تدعو الحاجة إليه والله أعلم

وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني في رقعة

قل لأبي الخطاب نجم الهدى

وقدوة العالم في عصره

لا زلت في فتواك مستأمنا

من خدع الشيطان أو مكره

ماذا ترى في رشإ أغيد

حاز اللمى والدرر في ثغره

لم يحك بدر التم في حسنه

حتى حكى الزنبور في حضره

فهل يجيز الشرع تقبيله

لمستهام خاف من وزره

أم هل على المشتاق في ضمه

من غير إدناء إلى صدره

إثم إذا ما لم يكن مضمرا

غير الذي قدم من ذكره

فأجاب

يا أيها الشيخ الأديب الذي

قد فاق أهل العصر في شعره

تسأل عن تقبيل بدر الدجى

وعطف زنديك على نحره

ص: 134

هل ورد الشرع بتحليله

لمستهام خاف من وزره

من قارف الفتنة ثم ادعى ال

عصمة قد نافق في أمره

هل فتنة المرء سوى الضم والت

قبيل للحب على ثغره

وهل دواعي ذلك المشتهى

إلا عناق البدر في خدره

وبذله ذاك لمشتاقه

يزري على هاروت في سحره

ولا يجيز الشرع أسباب ما

يورط المسلم في حظره

فانج ودع عنك صداع الهوى

عساك أن تسلم من شره

هذا جواب الكلوزاني قد

جاءك يرجو الله في أجره

فهذا جواب أهل العلم وهو مطابق لما ذكرناه والله تعالى أعلم

وسئل الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله بأبيات

يا أيها العالم ماذا ترى

في عاشق ذاب من الوجد

من حب ظبي أغيد أهيف

سهل المحيا حسن القد

فهل ترى تقبيله جائزا

في الفم والعينين والخد

من غير ما فحش ولا ريبة

بل بعناق جائز الحد

إن كنت ما تفتي فإني إذا

أصيح من وجدي وأستعدي

فكتب رحمه الله تعالى الجواب

ياذا الذي ذاب من الوجد

وظل في ضر وفي جهد

إسمع فدتك النفس من ناصح

بنصحه يهدي إلى الرشد

لو صح منك العشق ما جئتني

تسألني عنه وتستعدي

فالعاشق الصادق في حبه

ما باله يسأل ما عندي

ص: 135

غيبه العشق فما إن يرى

يعيد في العشق ولا يبدي

وكل ما تذكر مستفتيا

حرمه الله على العبد

إلا لما حلله ربنا

في الشرع بالإبرام والعقد

فعد من طرق الهوى معرضا

وقف بباب الواحد الفرد

وسله يشفيك ولا يبتلي

قلبك بالتعذيب والصد

وعف في العشق ولا تبده

واصبر وكاتم غاية الجهد

فإن تمت محتسبا صابرا

تفز غدا في جنة الخلد

ص: 136