المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط العلمية

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في أسماء المحبة

- ‌الباب الثاني: في اشتغال هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الباب الثالثفي نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين

- ‌الباب الرابع: في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب

- ‌الباب الخامس:في دواعي المحبة ومتعلقها

- ‌الباب السادس: في أحكام النظر وعائلته وما يجني على صاحبه

- ‌الباب السابع: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل واحد منهما صاحبه والحكم بينهما

- ‌الباب الثامن: في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه

- ‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

- ‌الباب العاشر: في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناسفيه

- ‌الباب الحادي عشر: في العشق هل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه

- ‌الباب الثاني عشر: في سكرة العشاق

- ‌الباب الثالث عشر: في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان

- ‌لباب الرابع عشر: فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه

- ‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

- ‌الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين

- ‌الباب السابع عشر: في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

- ‌الباب الثامن عشر: في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال

- ‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

- ‌الباب الحادي والعشرون: في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌الباب الثاني والعشرون: في غيرة المحبين على أحبابهم

- ‌الباب الثالث والعشرون: في عفاف المحبين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ارتكاب سبيلي الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

- ‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى وقد تقدم ذكر الآيات

الفصل: ‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

عنوان هذا الباب وقاعدته أن من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه كما ترك يوسف الصديق عليه السلام امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فعوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها فلما دخل بها قال هذا خير مما كنت تريدين فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء وأذل له العزيز امرأته وأقرت المرأة والنسوة ببراءته وهذه سنته تعالى في عباده قديما وحديثا إلى يوم القيامة ولما عقر سليمان بن داود عليهم السلام الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا وملكهم شرق الأرض وغربها ولو اتقى الله السارق وترك سرقة المال المعصوم لله لآتاه الله مثله حلالا قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه بترك أخذ مالا يحل له رزقه الله من حيث لا يحتسب وكذلك الزاني

ص: 445

لو ترك ركوب ذلك الفرج حراما لله لأثابه الله بركوبه أو ركوب ما هو خير منه حلالا

وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم النظرة إلى المرأة سهم من سهام إبليس مسموم من تركه خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه

وقال عمر بن شبة حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن حدثنا أبو الحسن المدني عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نظر الرجل في محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره "

وقال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى بلغني عن بعض الأشراف أنه اجتاز بمقبرة فإذا جارية حسناء عليها ثياب سواد فنظر إليها فعلقت بقلبه فكتب إليها

قد كنت أحسب أن الشمس واحدة

والبدر في منظر بالحسن موصوف

حتى رأيتك في أثواب ثاكلة

سود وصدغك فوق الخد معطوف

فرحت والقلب مني هائم دنف

والكبد حرى ودمع العين مذروف

ص: 446

ردي الجوب ففيه الشكر واغتنمي

وصل المحب الذي بالحب مشغوف

ورمى بالرقعة إليها فلما قرأتها كتبت

إن كنت ذا حسب زاك وذا نسب

إن الشريف بغض الطرف معروف

إن الزناة أناس لا خلاق لهم

فاعلم بأنك يوم الدين موقوف

واقطع رجاك لحاك الله من رجل

فإن قلبي عن الفحشاء مصروف

فلما قرأ الرقعة زجر نفسه وقال أليس امرأة تكون أشجع منك ثم تاب ولبس مدرعة من الصوف والتجأ إلى الحرم فبينا هو في الطواف يوما وإذا بتلك الجارية عليها درع من صوف فقالت له ما أليق هذا بالشريف هل لك في المباح فقال قد كنت أروم هذا قبل أن أعرف الله وأحبه والآن قد شغلني حبه عن حب غيره فقالت له أحسنت ثم طافت وهي تنشد

فطفنا فلاحت في الطواف لوائح

غنينا بها عن كل مرأى ومسمع

وقال الحسن البصري كانت امرأة بغي قد فاقت أهل عصرها في الحسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار وإن رجلا أبصرها فأعجبته فذهب فعمل بيديه وعالج فجمع مائة دينار فجاء فقال إنك قد أعججبتني فانطلقت فعملت بيدي وعالجت حتى جمعت مائة دينار فقالت ادفعها إلىالقهرمان حتى ينقدها ويزنها فلما فعل قالت ادخل وكان لها بيت منجد وسرير من

ص: 447

ذهب فقالت هلم لك فلما جلس منها مجلس الخائن تذكر مقامه بين يدي الله فأخذته رعدة وطفئت شهوته فقال أتركيني لأخرج ولك المائة دينار فقالت ما بدا لك وقد رأيتني كما زعمت فأعجبتك فذهبت فعالجت وكدحت حتى جمعت مائة دينار فلما قدرت علي فعلت الذي فعلت فقال ما حملني على ذلك إلا الفرق من الله وذكرت مقامي بين يديه قالت إن كنت صادقا فمالي زوج غيرك قال ذريني لأخرج قالت لا إلا أن تجعل لي عهدا أن تتزوجني فقال لا حتى أخرج قالت عليك عهد الله إن إنا أتيتك أن تتزوجني قال لعل فتقنع بثوبه ثم خرج إلى بلده وارتحلت المرأة بدنياها نادمة على ما كان منها حتى قدمت بلده فسألت عن اسمه ومنزله فدلت عليه فقيل له الملكة جاءت بنفسها تسأل عنك فلما رآها شهق شهقة فمات فأسقط في يدها فقالت أما هذا فقد فاتني أما له من قريب قيل بلى أخوه رجل فقير فقالت إني أتزوجك حبا لأخيك قال فتزوجته فولدت له سبعة أبناء

وقال يحيى بن عامر التيمي خرج رجل من الحي حاجا فورد بعض المياه ليلا فإذا هو بامرأة ناشرة شعرها فأعرض عنها فقالت له هلم إلي فلم تعرض عني فقال إني أخاف الله رب العالمين فتجلببت ثم قالت هبت والله مهابا إن أولى من شركك في الهيبة لمن أراد أن يشركك في المعصية ثم ولت فتبعها فدخلت بعض خيام الأعراب قال فلما أصبحت أتيت رجلا من القوم فسألته عنها وقلت فتاة صفتها كذا وكذا فقال هي

ص: 448

والله ابنتي فقلت هل أنت مزوجي بها فقال على الأكفاء فمن أنت فقلت رجل من تيم الله قال كفو كريم فما رمت حتى تزوجتها ودخلت بها ثم قلت جهزوها إلى قدومي من الحج فلما قدمنا حملتها إلى الكوفة وهاهي ذي ولي منها بنون وبنات قال فقلت لها ويحك ما كان تعرضك لي حينئذ فقالت يا هذا ليس للنساء خير من الأزواج فلا تعجبن من امرأة تقول هويت فوالله لو كان عند بعض السودان ما تريده من هواها لكان هو هواها

وقال الحسن بن زيد ولينا بديار مصر رجل فوجد على بعض عماله فحبسه وقيده فأشرفت عليه ابنة الوالي فهويته فكتبت إليه

أيها الرامي بعينيه

وفي الطرف الحتوف

إن ترد وصلا فقد أمكنك

الظبي الألوف

فأجابها الفتى

إن تريني زاني العينين

فالفرج عفيف

ليس إلا النظر الفا

تر والشعر الظريف

فأجابته

قد أردناك فألفيناك

إنسانا عفيفا

فتأبيت فلا زلت

لقيديك حليفا

فأجابها

ص: 449

ما تأبيت لأني

كنت للظبي عيوفا

غير أني خفت ربا

كان بي برا لطيفا

فذاع الشعر وبلغت القصة الوالي فدعا به فزوجه إياها ودفعها إليه

وذكر أن رجلا أحب امرأة وأحبته فاجتمعا فراودته المرأة عن نفسه فقال إن أجلي ليس بيدي وأجلك ليس بيدك فربما كان الأجل قد دنا فنلقى الله عاصيين فقالت صدقت فتابا وحسنت حالهما وتزوجت به

وذكر بكر بن عبد الله المزني أن قصابا ولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها إلى حاجة في قرية أخرى فتبعها فراودها عن نفسها فقالت لا تفعل لأنا أشد حبا لك مني ولكني أخاف الله قال فأنت تخافينه وأنا لا أخافه فرجع تائبا فأصابه العطش حتى كاد ينقطع عنقه فإذا هو برسول لبني إسرائيل فسأله فقال مالك قال العطش فقال تعال حتى ندعو الله حتى تظلنا سحابة حتى ندخل القرية قال مالي من عمل فأدعوه قال فأنا أدعوه وأمن أنت فدعا وأمن الرجل فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية فذهب القصاب إلى مكانه فرجعت السحابة معه فرجع إليه الرسول فقال زعمت أن ليس لك عمل وأنا الذي دعوت وأنت أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك لتخبرني ما أمرك فأخبره فقال الرسول إن التائب إلى الله يمكان ليس أحد من الناس بمكانه

وقال يحيى بن أيوب كان بالمدينة فتى بعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه شأنه فانصرف ليلة من صلاة العشاء فتمثلت له امرأة بين يديه

ص: 450

فعرضت له بنفسها ففتن بها ومضت فأتبعها حتى وقف على بابها فأبصر وجلا عن قلبه وحضرته هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فخر مغشيا عليه فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت فلم تزل هي وجارية لها يتعاونان عليه حتى ألقياه على باب داره فخرج أبوه فرآه ملقى على باب الدار لما به فحمله وأدخله فأفاق فسأله ما أصابك يا بني فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره فلما تلا الآية شهق شهقة فخرجت نفسه فبلغ عمر رضي الله عنه قصته فقال ألا آذنتموني بموته فذهب حتى وقف على قبره فنادى يا فلان {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فسمع صوتا من داخل القبر قد أعطاني ربي يا عمر

وذكر الحسن هذه القصة عن عمر رضي الله عنه على وجه آخر قال كان شاب على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملازما للمسجد والعبادة فهويته جارية فحدث نفسه بها ثم إنه تذكر وأبصر فشهق شهقة فغشي عليه منها فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه فأخبر عمر فأتاه وقد مات فقال لك جنتان

وفي جامع الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله

ص: 451

فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكن هذا عمل لم أعمله وإنما حملتني عليه الحاجة قال فتفعلين هذا وأنت لم تفعليه قط ثم قال اذهبي والدنانير لك ثم قال والله لا يعصي الله ذوالكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله لذي الكفل" قال الترمذي هذا حديث حسن

وقال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته فقال في خطبته: "ومن قدر على امرأة أو جارية حراما فتركها مخافة من الله أمنه الله يوم الفزع الأكبر وحرمه على النار وأدخله الجنة"

وقال مالك بن دينار جنات النعيم بين الفردوس وبين جنات عدن فيها جوار خلقن من ورد الجنة يسكنها الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا الله عز وجل راقبوه فانثنت رقابهم من خشية الله عز وجل

قال ميمون بن مهران الذكر ذكران فذكر الله عز وجل باللسان حسن وأفضل منه أن تذكر الله عز وجل عندما تشرف على معاصيه

وقال قتادة رضي الله عنه ذكر لنا أن نبي الله كان يقول لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله عز وجل إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك

وقال عبيد بن عمير صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله عز وجل

ص: 452

وقال أبو عمران الجوني كان رجل من بني إسرائيل لا يمتنع من شيء فجهد أهل بيت من بني إسرائيل فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله شيئا فقال لا أو تمكنيني من نفسك فخرجت فجهدوا جهدا شديدا فرجعت إليه فقالت أعطنا فقال لا أو تمكنيني من نفسك فرجعت فجهدوا جهدا كثيرا فأرسلوها إليه فقال لها ذلك فقالت دونك فلما خلا بها جعلت تنتفض كا تنتفض السعفة قال لها مالك قالت إني أخاف الله رب العالمين هذا شيء لم أصنعه قط قال أنت تخافين الله ولم تصنعيه وأفعله أعاهد الله أني لا أرجع إلى شيء مما كنت فيه فأوحى الله إلى نبي من أنبيائهم أن فلانا أصبح في كتب أهل الجنة

وذكر أن شابا في بني إسرائيل لم يكن فيهم شاب أحسن منه كان يبيع المكاتل فبينا هو ذات يوم يطوف بمكاتله إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل فلما رأته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك إني رأيت شابا بالباب يبيع المكاتل لم أر شابا قط أحسن منه قالت أدخليه فخرجت فقالت ادخل فدخل فأغلقت الباب دونه ثم قالت ادخل فدخل فأغلقت بابا آخر دونه ثم استقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها فقال لها استتري عافاك الله فقالت إنا لم ندعك لهذا إنما ندعوك لكذا وراودته عن نفسه فقال لها اتقي الله قالت إنك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت تكابرني على نفسي قال لها فضعي لي وضوءا فقالت أعلي تتعلل يا جارية ضعي له وضوءا فوق الجوسق مكانا لا يستطيع أن يفر منه فلما

ص: 453

صار في الجوسق قال اللهم إني دعيت إلى معصيتك وإني أختار أن ألقي نفسي من هذا الجوسق ولا أركب معصيتك ثم قال بسم الله وألقى نفسه من أعلاه فأهبط الله ملكا أخذ بضبعيه فوقع قائما على رجليه فلما صار في الأرض قال اللهم إن شئت رزقتني رزقا يغنيني عن بيع هذه المكاتل فأرسل الله عليه رجلا من جراد من ذهب فأخذ منه حتى ملأ ثوبه فلما صار في ثوبه قال اللهم إن كان هذا رزقا رزقتنيه من الدنيا فبارك لي فيه وإن كان ينقصني مما لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي فيه فنودي إن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءا لصبرك على إلقائك نفسك فقال اللهم فلا حاجة لي فيما ينقصني مما لي عندك في الآخرة فرجع الجراد

وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن رجل من بعض المياسير قال بينا أنا يوما في منزلي إذ دخل علي خادم لي فقال لي رجل بالباب معه كتاب فقلت أدخله أو خذ كتابه فأخذ الكتاب منه فإذا فيه

تجنبك الردى ولقيت خيرا

وسلمك المليك من الغموم

شكون بنات أحشائي إليكم

وما إن تشتكين إلى ظلوم

وسألتني الكتاب إليك فيما

يخامرها فدتك من الهموم

وهن يقلن يا ابن الجود إنا

برمنا من مراعاة النجوم

وعندك لو مننت شفاء سقم

لأعضاء دمين من الكلوم

ص: 454

قال فلما قرأت الأبيات قلت عاشق فقلت للخادم أدخله فخرج فلم يره فارتبت في أمره فجعل الفكر يتردد في قلبي فدعوت جواري كلهن فجمعتهن فقلت لهن ما قصة هذا الكتاب فحلفن لي وقلن يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سببا فمن جاءك به فقلت قد فاتني وما أردت سؤالكن إلا أني ظننت له هوى في بعضكن فمن عرفت منكم أنها صاحبته فهي له فلتذهب إليه ولتأخذ كتابي إليه وكتبت كتابا أشكره على فعله وأسأله عن حاله ووضعت الكتاب في موضع من الدار فمكث الكتاب في موضعه حينا لا يأخذه أحد ولا أرى الرجل فاغتممت غما شديدا ثم قلت لعله بعض فتياننا ثم قلت إن هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع وقد قنع ممن يحبه بالنظر فدبرت عليه فحجبت جواري عن الخروج فما كان إلا يوم وبعض الآخر إذ دخل علي الخادم ومعه كتاب قال أرسل به إليك فلان وذكر بعض أصدقائي ففضضته فإذا فيه مكتوب

ماذا أردت إلى روح معلقة

عند التراقي وحادي الموت يحدوها

حثثت حاديها ظلما فجد بها

في السير حتى تولت عن تراقيها

حجبت من كان تحيا عند رؤيتها

روحي ومن كان يشفيني ترائيها

فالنفس تجنح نحو الظلم جاهلة

والقلب مني سليم ما يؤاتيها

والله لو قيل لي تأتي بفاحسة

وإن عقباك دنيانا وما فيها

لقلت لا والذي أخشى عقوبته

ولا بأضعافها ما كنت آتيها

لولا الحياء لبحنا بالذي كتمت

بنت الفؤاد وأبدينا تمنيها

ص: 455

قال فبهت وقلت لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرجل وقلت للخادم لا يأتيك أحد بكتاب إلا قبضت عليه حتى تدخله علي ثم لم أعرف له خبرا بعد ذلك فبينا أنا أطوف بالكعبة إذا فتى قد أقبل نحوي وجعل يطوف إلى جنبي ويلاحظني وقد صار مثل العود فلما قضيت طوافي خرجت وأتبعني فقال يا هذا أتعرفني قلت لا أنكرك لسوء قال أنا صاحب الكتابين فما تمالكت أن قبلت رأسه وبين عينيه وقلت بأبي أنت وأمي والله لقد شغلت قلبي وأطلت غمي بشدة كتمانك لأمرك فهل لك فيما سألت وطلبت قال بارك الله لك وأقر عينيك إنما أتيتك أستحلك من نظرة كنت نظرتها على غير حكم الكتاب والسنة والهوى داع إلى كل بلاء وأستغفر الله العظيم فقلت يا حبيبي أحب أن تصير معي إلى منزلي فآنس بك وتجري الحرمة بيني وبينك قال ليس إلى ذلك سبيل فقلت غفر الله لك ذنبك وقد وهبتها لك ومعها مائة دينار ولك في كل سنة كذا وكذا قال بارك الله لك فيها فلولا عهود عاهدت الله عليها وأشياء أكدتها علي لم يكن في الدنيا شيء أحب غلي من هذا الذي تعرضه علي ولكن ليس إلى ذلك سبيل والدنيا منقطعة فقلت له فإذا أبيت أن تقبل مني ذلك فأخبرني من هي حتى أكرمها لأجلك ما بقيت فقال ما كنت لأذكرها لأحد ثم قام وتركني

وذكر عبد الملك بن قريب قال هوي رجل من النساء جارية فاشتد حبه لها فبعث إليها يخطبها فامتنعت وأجابته إلى غير ذلك فأبى وقال لا إلا ما أحل الله ثم إن محبته ألقيت في قلبها فبذلت له ما سأل فقال لا والله لا حاجة لي بمن دعوتها إلى طاعة الله ودعتني إلى معصيته وحكى المبرد عن شيخه أبي عثمان المازني أنه قصده بعض أهل الذمة ليقرأ

ص: 456