المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط العلمية

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في أسماء المحبة

- ‌الباب الثاني: في اشتغال هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الباب الثالثفي نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين

- ‌الباب الرابع: في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب

- ‌الباب الخامس:في دواعي المحبة ومتعلقها

- ‌الباب السادس: في أحكام النظر وعائلته وما يجني على صاحبه

- ‌الباب السابع: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل واحد منهما صاحبه والحكم بينهما

- ‌الباب الثامن: في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه

- ‌الباب: التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج

- ‌الباب العاشر: في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناسفيه

- ‌الباب الحادي عشر: في العشق هل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه

- ‌الباب الثاني عشر: في سكرة العشاق

- ‌الباب الثالث عشر: في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان

- ‌لباب الرابع عشر: فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه

- ‌الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه

- ‌الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين

- ‌الباب السابع عشر: في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله

- ‌الباب الثامن عشر: في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال

- ‌الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها

- ‌الباب الحادي والعشرون: في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌الباب الثاني والعشرون: في غيرة المحبين على أحبابهم

- ‌الباب الثالث والعشرون: في عفاف المحبين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ارتكاب سبيلي الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما

- ‌الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاذه الله خيرا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى وقد تقدم ذكر الآيات

الفصل: ‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

‌الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

قال الله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها} وكل من أعان غيره على أمر بقوله أو فعله فقد صار شفيعا له والشفاعة للمشفوع له هذا أصلها فإن الشافع يشفع صاحب الحاجة فيصير له شفعا في قضائها لعجزه عن الاستقلال بها فدخل في حكم هذه الآية كل متعاونين على خير أو شر بقول أو عمل ونظيرها قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وفي الصحيح عنه أنه كان إذا جاءه طالب حاجة يقول: "اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما أحب" وفي صحيح البخاري أن بريرة لما عتقت اختارت نفسها فكان زوجها يمشي خلفها ودموعه تسيل على لحيته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لوراجعتيه فإنه أبو ولدك" فقالت أتأمرني قال: "لا إنما أنا شافع" قالت فلا حاجة لي فيه فهذه شفاعة من سيد الشفعاء لمحب إلى محبوبه وهي من أفضل الشفاعات وأعظمها أجرا عند الله فإنها تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله ولهذا كان أحب ما لإبليس وجنوده التفريق بين هذين المحبوبين

ص: 377

وتأمل قوله تعالى في الشفاعة الحسنة {يكن له نصيب منها} وفي السيئة {يكن له كفل منها} فإن لفظ الكفل يشعر بالحمل والثقل ولفظ النصيب يشعر بالحظ الذي ينصب طالبه في تحصيله وإن كان كل منهما يستعمل في الأمرين عند الانفراد ولكن لما قرن بينهما حسن اختصاص حظ الخيز بالنصيب وحظ الشر بالكفل

وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنة له وكان خطبها قبل ذلك عم بنتها فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنها كارهة هذا الذي زوجها أبوها وأنه كان يعجبها أن يتزوجها عم بنتها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم نكاح أبيها وزوجها عم بنتها وقد تقدم حديث عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس للمتحابين مثل النكاح" رواه سليمان بن موسى عنه

وقال مخلد بن الحسين حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال كان عمر بن الخطاب يعس بالليل فسمع صوت امرأة تغني وتقول

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج

ص: 378

فقال أما وعمر حي فلا فلما أصبح بعث إلى نصر بن حجاج فإذا رجل جميل فقال اخرج فلا تساكني بالمدينة فخرج حتى أتى البصرة وكان يدخل على مجاشع بن مسعود وكانت له امرأة جميلة فأعجبها نصر فأحبها وأحبته فكان يقعد هو ومجاشع يتحدثان والمرأة معهما فكتب لها نصر في الأرض كتابا فقالت وأنا فعلم مجاشع أنها جواب كلام وكان مجاشع لا يكتب والمرأة تكتب فدعا بإناء فأكفاه على المكتوب ودعا كاتبا فقرأه فإذا هو إني لأحبك حبا لو كان فوقك لأظلك ولو كان تحتك لأقلك وبلغ نصرا ما صنع مجاشع فاستحيا ولزم بيته وضني جسمه حتى كان كالفرخ فقال مجاشع لامرأته اذهبي إليه فأسنديه إلى صدرك وأطعميه الطعام بيدك فأبت فعزم عليها فأتته فأسندته إلى صدرها وأطعمته الطعام بيدها فلما تحامل خرج من البصرة

إن الذين بخير كنت تذكرهم

هم أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا

لا تطلبن شفاء عند غيرهم

فليس يحييك إلا من توفاكا

فإن قيل فهل تبيح الشريعة مثل ذلك قيل إذا تعين طريقا للدواء ونجاة العبد من الهلكة لم يكن بأعظم من مداواة المرأة للرجل الأجنبي ومداواته لها ونظر الطبيب إلى بدن المريض ومسه بيده للحاجة وأما التداوي بالجماع فلا يبيحه الشرع بوجه ما وأما التداوي بالضم والقبلة فإن تحقق الشفاء به كان نظير التداوي بالخمر عند من يبيحه بل هذا أسهل من التداوي

ص: 379

بالخمر فإن شربه من الكبائر وهذا الفعل من الصغائر والمقصود أن الشفاعة للعشاق فيما يجوز من الوصال والتلاق سنة ماضية وسعي مشكور

وقد جاء عن غير واحد من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم أنهم شفعوا هذه الشفاعة

فقال الخرائطي حدثنا علي بن الأعرابي حدثنا أبو غسان النهدي قال مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته بطريق من طرق المدينة فإذا جارية تطحن برحاها وهي تقول

وهويته من قبل قطع تمائمي

متمايسا مثل القضيب الناعم

وكأن نور البدر سنة وجهه

ينمي ويصعد في ذؤابة هاشم

فدق عليها الباب فخرجت إليه فقال ويلك أحرة أنت أم مملوكة فقالت بل مملوكة يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فمن هويت فبكت ثم قالت بحق الله إلا انصرفت عني قال لا أريم أو تعلميني فقالت

وأنا التي لعب الغرام بقلبها

فبكت لحب محمد بن القاسم

فصار إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب وقال هؤلاء فتن الرجال وكم قد مات بهن من كريم وعطب عليهن من سليم

ص: 380

ويذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه جاءته جارية تستعدي على رجل من الأنصار فقال لها عثمان ما قصتك فقالت يا أمير المؤمنين كلفت بابن أخيه فما أنفك أراعيه فقال له عثمان إما أن تهبها لابن أخيك أو أعطيك ثمنها من مالي فقال أشهدك يا أمير المؤمنين أنها له

وأتي علي بن أبي طالب بغلام من العرب وجد في دار قوم بالليل فقال له ما قصتك فقال لست بسارق ولكني أصدق

تعلقت في دار الرباحي خودة

يذل لها من حسنها الشمس والبدر

لها في بنات الروم حسن ومنصب

إذا افتخرت بالحسن صدقها الفخر

فلما طرقت الدار من حر مهجة

أتيت وفيها من توقدها جمر

تبادر أهل الدار لي ثم صيحوا

هو اللص محتوما له القتل والأسر

فلما سمع علي شعره رق له وقال للمهلب بن رباح اسمح له بها ونعوضك منها فقال يا أمير المؤمنين سله من هو لنعرف نسبه فقال النهاس بن عيينة العجلي فقال خذها فهي لك

وذكر التميمي في كتابه المسمى بامتزاج النفوس أن معاوية بن أبي سفيان اشترى جارية من البحرين فأعجب بها إعجابا شديدا فسمعها يوما تنشد أبياتا منها

وفارقته كالغصن يهتز في الثرى

طريرا وسيما بعد ما طر شاربه

فسألها فقالت هو ابن عمي فردها إليه وفي قلبه منها

وقال سالم بن عبد الله كانت عاتكة ابنة زيد تحت عبد الله بن أبي بكر

ص: 381

الصديق رضي الله عنه وكانت قد غلبته على رأيه وشغلته عن سوقه فأمره أبو بكر بطلاقها واحدة ففعل فوجد عليها فقعد لأبيه على طريقه وهو يريد الصلاة فلما بصر بأبي بكر بكى وأنشأ يقو

ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها

ولا مثلها في غير جرم يطلق

لها خلق جزل وحلم ومنصب

وخلق سوي في الحياة ومصدق

فرق له أبو بكر رضي الله عنه وأمره بمراجعتها فلما مات قالت ترثيه

آليت لا تنفك عيني سخينة

عليك ولا ينفك جلدي أغرا

فلله عينا من رأى مثله فتى

أعف وأمضى في الهياج وأصبرا

إذا شرعت فيه الأسنة خاضها

إلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا

فلما حلت تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأولم عليها فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتأذن لي يا أمير المؤمنين أدخل رأسي إلى عاتكة أكلمها قال نعم فأدخل علي رأسه إليها وقال يا عدية نفسها

آليت لا تنفك عيني قريرة

عليك ولا ينفك جلدي أصفرا

فبكت فقال له عمر ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن كل النساء يفعلن هذا فلما قتل عمر قالت ترثيه

عين جودي بعبرة ونحيب

لا تملي على الجواد النجيب

ص: 382

فجعتني المنون بالفارس المعلم

يوم الهياج والتثويب

قل لأهل الضراء والبؤس موتوا

قد سقته المنون كأس شعوب

فلما حلت تزوجها الزبير بن العوام فاستأذنت ليلة أن تخرج إلى المسجد فشق ذلك عليه وكره أن يمنعها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فأذن لها ثم انكمى في موضع مظلم من الطريق فلما مرت وضع يده عليها فكرت راجعة تسبح فسبقها الزبير إلىالمنزل فلما رجعت قال لها ما ردك عن وجهك قالت كنا نخرج والناس ناس وأما اليوم فلا وتركت المسجد فلما قتل الزبير قالت ترثيه

غدر ابن جرموز بفارس بهمة

يوم اللقاء وكان غير معرد

يا عمرو لو نبهته لوجدته

لا طائشا رعش السنان ولا اليد

ثكلتك أمك إن ظفرت بمثله

فيما مضى حتى تروح وتغتدي

كم غمرة قد خاضها لم يثنه

عنها طرادك يا ابن أم الفرقد

إن الزبير لذو بلاء صادق

سمح سجيته كريم المشهد

فلما حلت خطبها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالت إني لأضن بك على القتل

ص: 383

وذكر الخرائطي أن المهدي خرج إلى الحج حتى إذا كان بزبالة جلس يتغدى فأتي بدوي فناداه يا أمير المؤمنين إني عاشق ورفع صوته فقال للحاجب ويحك ما هذا قال إنسان يصيح إني عاشق قال أدخلوه فأدخلوه عليه فقال من عشيقتك قال ابنة عمي قال أولها أب قال نعم قال فماله لا يزوجك إياها قال هاهنا شيء يا أمير المؤمنين قال ما هو قال إني هجين والهجين الذي أمه أمة ليست عربية قال له المهدي فما يكون قال إنه عندنا عيب فأرسل في طلب أبيها فأتي به فقال هذا ابن أخيك قال نعم قال فلم لا تزوجه كريمتك فقال له مثل مقالة ابن أخيه وكان من ولد العباس عنده جماعة فقال هؤلاء كلهم بنو العباس وهم هجن ما الذي يضرهم من ذلك قال هو عندنا عيب فقال له المهدي زوجه إياها على عشرين ألف درهم عشرة آلاف للعيب وعشرة آلاف مهرها قال نعم فحمد الله وأثنى عليه وزوجه إياها فأتى ببدرتين فدفعهما إليه فأنشأ الشاب يقول

إبتعت ظبية بالغلاء وإنما

يعطي الغلاء بمثلها أمثالي

وتركت أسواق القباح لأهلها

إن القباح وإن رخصن غوالي

وذكر الخرائطي من حديث الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم أن عمر بن أبي ربيعة كان قد ترك الشعر ورغب عنه ونذر على نفسه بكل بيت يقوله هدى بدنة فمكث كذلك حينا ثم خرج ليلة يريد الطواف بالبيت إذ نظر

ص: 384

إلى امرأة ذات جمال تطوف وإذا رجل يتلوها كلما رفعت رجلها وضع رجله موضع رجلها فجعل ينظر إلى ذلك من أمرههما فلما فرغت المرأة من طوافها تبعها الرجل هنية ثم رجع فلما رآه عمر وثب إليه وقال لتخبرني عن أمرك قال نعم هذه المرأة التي رأيت ابنة عمي وأنا لها عاشق وليس لي مال فخطبتها إلى عمي فرغب عني وسألني المهر مالا أقدر عليه والذي رأيت هو حظي منها ومالي من الدنيا أمنية غيرها وإنما ألقاها عند الطواف وحظي ما رأيت من فعلي فقال له عمر ومن عمك قال فلان بن فلان قال انطلق معي إليه فانطلقا فاستخرجه عمر فخرج مبادرا فقال ما حاجتك يا أبا الخطاب قال تزوج ابنتك فلانة من ابن أخيك فلان وهذا المهر الذي تسأله يساق إليك من مالي قال فإني قد فعلت قال عمر إني أحب أن لا أبرح حتى يجتمعا قال وذلك ايضا قال فلم يبرح حتى جمعهما جميعا وأتى منزله فاستلقى على فراشه فجعل النوم لا يأخذه وجعل جوفه يجيش بالشعر فأنكرت جاريته ذلك فجعلت تسأله عن أمره وتقول ويحك ما الذي قد دهاك فلما أكثرت عليه جلس وأنشد

تقول وليدتي لما رأتني

طربت وكنت قد أقصرت حينا

أراك اليوم قد أحدثت شوقا

وهاج لك البكا داء دفينا

بربك هل أتاك لها رسول

فشاقك أم رأيت لها خدينا

فقلت شكا إلي أخ محب

كبعض زماننا إذ تعلمينا

فعد علي ما يلقى بهند

فوافق بعض ما كنا لقينا

ص: 385

وذو القلب المصاب وإن تعزى

يهيج حين يلقى العاشقينا

وكم من خلة أعرضت عنها

لغير قلى وكنت بها ضنينا

رأيت صدودها فصددت عنها

ولو هام الفؤاد بها جنونا

وعرض خالد بن عبد الله القسري سجنه يوما وكان فيه يزيد بن فلان البجلي فقال له خالد في أي شيء حبست يا يزيد قال في تهمة أصلح الله الأمير قال أفتعود إن أطلقتك قال نعم وكره أن يعرض بقصته لئلا يفضح معشوقته فقال خالد أحضروا رجال الحي حتى نقطع يده بحضرتهم وكان ليزيد أخ فكتب شعرا ووجه به إلى خالد

أخالد قد أعطيت في الخلق رتبة

وما العاشق المسكين فينا بسارق

أقر بما لم يأته المرء إنه

رأى القطع خيرا من فضيحة عاشق

ولولا الذي قد خفت من قطع كفه

لألفيت في شأن الهوى غير ناطق

إذا بدت الرايات للسبق في العلى

فأنت ابن عبد الله أول سابق

فلما قرأ خالد الأبيات علم صدق قوله فأحضر أولياء الجارية فقال زوجوا يزيد فتاتكم فقالوا أما وقد ظهر عليه ما ظهر فلا فقال لئن لم تزوجوه طائعين لتزوجنه كارهين فزوجوه ونقد خالد المهر من عنده

وذكر أبو العباس المبرد قال كان رجل بالكوفة يدعى ليث بن زياد قد ربى جارية وأدبها فخرجت بارعة في كل فن مع جمال وافر فلم يزل معها مدة حتى تبينت منه الحاجة فقالت يا مولاي لو بعتني كان أصلح لك مما أراك به وإن كنت لأظن أني لا أصبر عنك فقصد رجلا من الأغنياء يعرفها

ص: 386

ويعرف فضلها فباعها بمائة ألف درهم فلما قبض المال وجه بها إلى مولاها وجزع عليها جزعا شديدا فلما صارت الجارية إلى سيدها نزل بها من الوحشة للأول مالم تستطع دفعه ولا كتمه فباحت به وقالت

أتاني البلا حقا فما أنا صانع

أمصطبر للبين أم أنا جازع

كفى حزنا أني على مثل جمرة

أقاسي نجوم الليل والقلب نازع

فإن يمنعوني أن أبوح بحبه

فإني قتيل والعيون دوامع

سيدها شعرها فدعا بها وأرادها فامتنعت عليه وقالت له يا سيدي إنك لا تنتفع بي قال ولم ذاك قالت إني لما بي قال وما بك صفيه لي قالت أجد في أحشائي نيرانا تتوقد لا يقدر على إطفائها أحد ولا تسأل عما وراء ذلك فرحمها ورق لها وبعث إلى مولاها فسأل عن خبره فوجد عنده مثل الذي عندها فأحضره فرد الجارية عليه ووهب له من ثمنها خمسين ألفا فلم تزل عنده مدة طويلة وبلغ عبد الله بن طاهر خبرهما وهو بخراسان فكتب إلى خليفته بالكوفة يأمره أن ينظر فإن كان هذا الشعر الذي ذكر له من قبل الجارية أن يشتريها له بما ملكت يمينه فركب إلى مولى الجارية فخبره بما كتب إليه عبد الله بن طاهر فلم يجد سيدها بدا من عرضها عليه وهو كاره فأراد الأمير أن يعلم ما عند الجارية فأنشأ يقول

بديع حسن رشيق قد

جعلت مني له ملاذا

فأجابته الجارية

فعاتبوه فزاد عشقا

فمات شوقا فكان ماذا

فعلم أنها تصلح له فاشتراها بمائتي ألف درهم فجهزها وحملها إلى عبد الله بن

ص: 387

طاهر إلى خراسان فلما صارت إليه اختبرها فوجدها على ما أراد فغلبته على عقله ويقال إنها أم محمد بن عبد الله بن طاهر ولم تزل ألطافها وجوائزها تأتي مولاها الأول حتى ماتت

وقال عمر بن شبة حدثنا أيوب بن عمر الغفاري قال طلق عبد الله بن عامر امرأته ابنة سهل بن عمرو فقدمت المدينة ومعها ابنة لها ومعها وديعة جوهر استودعها إياه فتزوجها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم أراد ابن عامر الحج فأتى المدينة فلقي الحسن فقال يا أبا محمد إن لي إلى ابنة سهل حاجة فأحب أن تأذن لي عليها فقال الحسن البسي ثيابك فهذا ابن عامر يستأذن عليك فدخل عليها فسألها وديعته فجاءته بها عليها خاتمه فقال لها خذي ثلثها فقالت ما كنت لآخذ على أمانة ائتمنت عليها شيئا أبدا ثم أقبل عليها ابن عامر فقال إن ابنتي قد بلغت فأحب أن تخلي بيني وبينها فبكت وبكت ابنتها فرق ابن عامر فقال الحسن فهل لكما فوالله ما من محلل خير مني قال فوالله لا أخرجها من عندك أبدا فكفلها حتى مات

وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أن زبيدة بنت أبي جعفر قرأت في طريق مكة على حائط

أما في عباد الله أو في إمائه

كريم يجلي الهم عن ذاهب العقل

له مقلة أما المآقي فقرحة

وأما الحشا فالنار منه على رجل

ص: 388

فنذرت أن تحتال لقائلهما حتى تجمع بينه وبين من يحبه قالت فإني لبمزدلفة إذ سمعت من ينشدهما فاستدعيت به فزعم أنه قالهما في بنت عم له وقد حلف أهلها أن لا يزوجوهها منه فوجهت إلى الحي وما زالت تبذل لهم المال حتى زوجوه وإذا المرأة أعشق من الرجل فكانت زبيدة تعده في أعظم حسناتها وتقول ما أنا بشيء أسر مني بجمعي بين ذلك الفتى والفتاة

قال الزمخشري وهوي أحمد بن أبي عثمان الكاتب جارية لزبيدة اسمها نعم حتى مرض وقال فيها أبياتا منها

وإني ليرضيني الممر ببابها

وأقنع منها بالشتيمة والزجر

فوهبتها له

وذكر الخرائطي أنه كان لبعض الخلفاء غلام وجارية من غلمانه وجواريه متحابين فكتب الغلام إليها يوما يقول

ولقد رأيتك في المنام كأنما

عاطيتني من ريق فيك البارد

وكأن كفك في يدي وكأننا

بتنا جميعا في فراش واحد

فطفقت يومي كله متراقدا

لأراك في نومي ولست براقد

ثم انتبهت ومعصماك كلاهما

بيدي اليمين وفي يمينك ساعدي

فأجابته الجارية

خيرا رأيت وكل ما أبصرته

ستناله مني برغم الحاسد

إني لأرجو أن تكون معانقي

فتبيت مني فوق ثدي ناهد

وأراك بين خلاخلي ودمالجي

وأراك بين ترائبي ومجاسدي

ص: 389

ونبيت ألطف عاشقين تعاطيا

طرف الحديث بلا مخافة راصد

فبلغ الخليفة خبرهما فأنكحهما وأحسن إليهما على شدة غيرته

وقال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى سمع المهلب فتى يتغنى بشعر في جارية له فقال المهلب

لعمري إني للمحبين راحم

وإني بستر العاشقين حقيق

سأجمع منكم شمل ود مبدد

وإني بما قد ترجوان خليق

ثم وهبها له ومعها خمسة آلاف دينار

وقال الخرائطي كان رجل نخاس عنده جارية لم يكن له مال غيرها وكان يعرضها في المواسم فتغالى الناس فيها حتى بلغت مبلغا كثيرا من المال وهو يطلب الزيادة فعلقها رجل فقير فكاد عقله أن يذهب فلما بلغه ذلك وهبها له فعوتب في ذلك فقال إني سمعت الله تعالى يقول ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا أفلا أحيي الناس جميعا

وقال علي بن قريش الجرجاني

شكوت بلاء لا أطيق احتماله

وقلبي مطيع للهوى غير دافع

فأقسم ما تركي عتابك عن قلى

ولكن لعلمي أنه غير نافع

وإني متى لم ألزم الصبر طائعا

فلا بد منه مكرها غير طائع

ص: 390

إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة

فلا خير في ود يكون بشافع

وكان أبو السائب المخزومي أحد القراء والفقهاء فرؤي متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول اللهم ارحم العاشقين واعطف عليهم قلوب المعشوقين فقيل له في ذلك فقال الدعاء لهم أفضل من عمرة من الجعرانة

وذكر أحمد بن الفضل الكاتب أن غلاما وجارية كانا في كتاب فهويها الغلام فلما كان في بعض أيامه في غفلة من الغلمان كتب في لوح الجارية

ماذا تقولين فيمن شفه سقم

من طول حبك حتى صار حيرانا

فلما قرأته الجارية أغرورقت عيناها بالدموع رحمة له وكتبت تحته

إذا رأينا محبا قد أضر به

طول الصبابة أوليناه إحسانا

وذكر الهيثم بن عدي عن محمد بن زياد أن الحارث بن السليل الأزدي خرج زائرا لعلقمة بن حزم الطائي وكان حليفا له فنظر إلى ابنة له تدعى الرباب وكانت من أجمل النساء فأعجب بها وعشقها عشقا حال بينه وبين الانصراف إلى أهله فقال لعلقمة إني أتيتك خاطبا وقد ينكح الخاطب ويدرك الطالب ويمنح الراغب قال كفو كريم فأقم ننظر في أمرك ثم انكفأ إلى أم لجارية فقال لها إن الحارث سيد قومه حسبا ومنصبا وبيتا فلا ينصرفن من عندنا إلا بحاجته فشاوري ابنتك وأديريها عما في نفسها فقالت لها أي

ص: 391

بنية أي الرجال أعجب إليك الكهل الجحجاح المفضل المياح أم الفتى الوضاح الملوك الطماح قالت الفتى الوضاح فقالت إن الفتى يغيرك وإن الشيخ يميرك وليس الكهل الفاضل الكثير النائل كالحديث السن الكثير المن فقالت يا أماه أحب الفتى كحب الرعاء أنيق الكلا قالت يا بنية إن الفتى شديد الحجاب كثير العتاب قالت يا أماه أخشى من الشيخ أن يدنس ثيابي ويبلي شبابي ويشمت بي أترابي فلم تزل بها الأم حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث على خمسين ومائة من الإبل وخادم وألف درهم فبنى بها وكانت عنده أحب شيء إليه فارتحل بها إلى أهله فإنه لجالس يوما بفناء مظلته هي إلى جانبه إذ أقبل فتية يعتلجون الصراع فتنفست الصعداء ثم أرسلت عينيها بالبكاء فقال ما يبكيك فقالت مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ فقال ثكلتك أمك قد تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها فسارت مثلا أي لا تكون ظئرا وكان أول من نطق بها ثم قال أما وأبيك لرب غارة شهدتها وسبية أردفتها وخمرة شربتها

ص: 392

الحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك ثم أنشأ يقول

وعيرت أن رأتني لابسا كبرا

وغاية النفس بين الموت والكبر

فإن بقيت رأيت الشيب راغمة

وفي التفرق ما يقضي من العبر

وإن يكن قد علا رأسي وغيره

صرف الزمان وتقتير من الشعر

فقد أروح للذات الفتى جذلا

وهمتي لم تشب فاستخبري أثري

ص: 393