المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القوانين الوضعية تهدد نظامنا الاجتماعي: - الإسلام وأوضاعنا القانونية

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌من نور كتاب الله:

- ‌دعاء

- ‌مَعْذِرَةً إِلَى القَانُونِ:

- ‌أَنَا قَاضٍ وَلَكِنِّي مُسْلِمٌ:

- ‌ذَلِكُمْ هُوَ حُكْمُ الإِسْلَامِ:

- ‌عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ وَاجِبَهُ:

- ‌وَظِيفَةُ القَانُونِ:

- ‌أُصُولُ القَانُونِ:

- ‌قَانُونُ كُلِّ أُمَّةٍ قِطْعَةٍ مِنْهَا:

- ‌قَوَانِينُنَا غَرِيبَةٌ عَنَّا:

- ‌القَانُونُ يُوضَعُ لِحِمَايَةِ العَقَائِدِ:

- ‌مَتَى يَكُونُ لِلْقَانُونِ سُلْطَاٌن

- ‌القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ يُبْطِلُهَا الإِسْلَامُ:

- ‌القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِحُكْمِ نَفْسِهَا

- ‌مَاذَا فَعَلَتْ بِنَا القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ

- ‌خَسِرْنَا مَعْرَكَةَ الاِسْتِقْلَالِ بِالاِنْحِرَافِ عَنْ الإِسْلَامِ:

- ‌القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ تُهَدِّدُ نِظَامَنَا الاِجْتِمَاعِي:

- ‌لِمَاذَا يُحَالُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَالإِسْلَامِ

- ‌1 - الاسْتِعْمَارُ:

- ‌2 - الحُكُومَاتُ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌أَيُّهَا المُسْلِمُونَ آنَ أَنْ تَعْمَلُوا

الفصل: ‌القوانين الوضعية تهدد نظامنا الاجتماعي:

‌القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ تُهَدِّدُ نِظَامَنَا الاِجْتِمَاعِي:

النظام الاجتماعي الإسلامي:

والنظام الاجتماعي في البلاد الإسلامية معناه النظام الإسلامي، لأن الإسلام يحكم حركات المسلم وسكناته، وأفعاله وأقواله، ومعاملاته وتصرفاته، وصلاته بالأقرباء والغرباء، والأعداء والأصدقاء، ويرسم له أخلاقه ومنهاجه في الحياة، ولأن الإسلام يقيم المجتمع كله على أسس إسلامية بحتة في الحكم والإدارة والسياسة وفي العلوم والفنون والآداب، وفي الاجتماع والاقتصاد وتوزيع الثروات وفي الحرب والسلم، وفي الداخل والخارج، وعلى هذا فالنظام الإسلامي هو النظام الاجتماعي، لأي مجتمع إسلامي.

ويمكننا أن نفرق في البلاد الإسلامية بين النظام الاجتماعي ونظام الحكم فنقول: إن النظام الاجتماعي هو النظام الذي تقوم عليه الجماعة نفسها، ويحكم علاقاتها بالغير وعلاقات أفرادها بعضهم ببعض. أما نظام الحكم، فهو النظام الذي تتبعه الجماعة في حكم نفسها، أي في اختيار حكامها ورؤساء الدولة فيها وهو النظام الذي يحدد حقوق الحكام ورؤساء الدول وواجباتهم.

ص: 105

وليس لهذه التفرقة أهمية في البلاد الإسلامية، لأن النظام الاجتماعي ونظام الحكم في هذه البلاد يقومان على الإسلام ويرجعان إليه، ولأن الإسلام لا يقبل التجزئة ولا يسمح للمسلمين أن يقيموا أوضاعهم على ما يخالف الإسلام. وكل ما يخالف الإسلام في الاجتماع أو الحكم إنما هو خروج على النظام الاجتماعي أو نظام الحكم، أو هو خروج على الإسلام لا يصح للمسلمين أن يسمحوا به مهما كلفهم ذلك من المشاق والتضحيات.

ولنستعرض فيما يلي الأسس الرئيسية التي يقيم عليها الإسلام حياتنا الاجتماعية، ثم نستعرض بعد ذلك أوضاعنا الاجتماعية، لنرى إلى أي حضيض نزلت بنا هذه القوانين الوضعية.

أسس النظام الاجتماعي الإسلامي:

يقوم النظام الاجتماعي في البلاد الإسلامية على أسس إسلامية بحتة، ويصطبغ في كل مظاهره بصبغة الإسلام، والإسلام هو النظام الذي اختاره الله للبشر ليقيموا حياتهم عليه، وليحييهم به حياة طيبة، وليسعدهم به في الدنيا والآخرة. وأهم أسس النظام الاجتماعي الإسلامي هي:

1 -

المساواة التامة بين البشر:

يقيم الإسلام المجتمعات الإسلامية على قاعدة المساواة التامة بين البشر، ويقرر المساواة على إطلاقها، فلا قيود ولا

ص: 106

استثناءات، وإنما مساواة تامة بين الأفراد، ومساواة تامة بين الجماعات، ومساواة تامة بين الأجناس، ومساواة تامة بين الحاكمين والمحكومين، لا فضل لرجل على رجل، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وذلك ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَاّ بِالتَّقْوَى» . وفي قوله: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ بِالإِسْلَامِ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهُمْ بِآبَائِهِمْ، [كُلُّكُمْ] لآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» .

فالناس جَمِيعًا متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، متساوون في الحقوق، متساوون في الواجبات، متساوون في المسؤوليات، وهم في ذلك كأسنان المشط لا تزيد سن عن سن، ولا تنقص سن عن سن، أو هم في ذلك كأبناء الرجل الواحد والمرأة الواحدة، ترشحهم وحدة أصلهم إلى المساواة في حقوقهم وواجباتهم ومسؤولياتهم.

والتقوى هي وحدها نِصاب التفاضل بين الناس في الإسلام، ولكنه تفاضل في حدود معينة، تفاضل بين الناس عند ربهم فقط، فأكرمهم عند الله أتقاهم. وكون التقي كريمًا على الله، لا يعطيه حَقًّا عند الناس يزيد على ما لغيره من

ص: 107

الحقوق، فالتقوى إذن صفة تؤثر في صلة الإنسان بربه، أكثر مما ثؤثر في صلة الإنسان بغيره، والتفاضل الذي ينشأ عن التقوى هو تفاضل معنوي لا مادي.

2 -

العدالة المطلقة:

ويقيم الإسلام المجتمع على العدالة المطلقة المجردة عن القيود، العدالة التي تتسع للأصدقاء والأعداء، ولا تفرق بين الأقرباء والغرباء، العدالة التي لا تعرف الميل والمحاباة، ولا تنكمش عن ذوي النفوذ والجاه، العدالة التي تعطي الحق لصاحبه لأنه محق، وتأخذ الحق من المبطل لأنه مبطل، العدالة التي تعتبر الضعيف صاحب الحق قويا بحقه حتى ترد له حقه، وتعتبر القوي غاصب الحق ضعيفا حتى تسترد منه حق غيره. العدالة التي أمر الله بها ووصفها في قوله سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]. فهو يأمر - جَلَّ شَأْنُهُ - بالعدل وبالإحسان في العدل، فلا يكفي أن يكون المرء عادلاً، وإنما عليه أن يحسن ما استطاع في عدله. وقوله:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]. وقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135].

ص: 108

3 -

الحرية في أوسع معانيها:

ويقيم الإسلام المجتمع على أساس الحرية في أوسع معانيها، وأروع مظاهرها، فحرية الاعتقاد، وحرية التفكير، وحرية القول، كل ذلك وغيره يقرره الإسلام ويجعله عمدًا للمجتمع الإسلامي، وَأُسُسًا لحياة الأمة الإسلامية.

يقرر الإسلام حرية الاعتقاد، ويجعل لكل إنسان أن يعتنق من العقائد ما شاء، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته، أو اعتناق عقيدة غيرها، ولو كانت هذه هي العقيدة الإسلامية، وذلك ظاهر من قوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22]. وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].

ويقرر الإسلام حرية الفكر، ويحث الناس على التفكير في كل شيء، ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل والتفكير، واعتمد القرآن في اجتذاب الناس للإسلام على استثارة تفكيرهم، وإيقاظ عقولهم، ودعوتهم إلى التفكير في خلق السماوات والأرض، وفي خلق أنفسهم، وإلى التفكير فيما حولهم مما تقع عليه أبصارهم، أو تسمعه آذانهم، ليصلوا من وراء ذلك كله إلى معرفة الخالق، وليستطيعوا أن يميزوا بين الحق والباطل.

ص: 109

ونصوص القرآن التي تحض على استخدام العقل وتحرير الفكر لا تعد كثرة، من ذلك قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]. وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8]. وقوله: ({قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]. وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويصف من كانوا على هذه الشاكلة بأنهم كالأنعام، بل أضل سبيلاً من الأنعام، لأنهم يتبعون غيرهم دون تفكير، وَلَا يُحَكِّمُونَ عقولهم فيما يعملون أو يقولون أو يسمعون، واقرأ إن شئت قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

ويقرر الإسلام حرية القول ويجعلها حَقًّا لكل إنسان،

ص: 110

بل إن الإسلام يجعل القول واجبا على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام وفي كل ما يعتبر منكرًا، وذلك قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» ، وقوله:«أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، وقوله:«إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ»

قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» . وقوله: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ» .

4 -

الأخوة:

ويقيم الإسلام المجتمع الإسلامي على أساس متين من الأخوة فيعتبر المسلمين إخوانًا تربط بينهم رابطة الأخوة الإسلامية وتوحد اتجاهاتهم، وتقوي صفوفهم، وتحملهم على التعاون والبر والتراحم، وفي هذا المعنى يقول الله - جَلَّ شَأْنُهُ -:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. ويقول: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. ويقول رسول الله - صَلََّى

ص: 111

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ عز وجل فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عز وجل بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» .

5 -

الاتحاد:

وبعد أن أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على أساس الأخوة، أوجب على المسلمين الاتحاد والالتفاف حول راية القرآن، وحرم عليهم الفرقة والتنازع، ليكونوا يَدًا واحدة ولسانًا واحدًا، وأوصاهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله، حتى لا يكون هناك سبيل للنزاع والاختلاف، وحتى تظل الوحدة قائمة والصفوف سليمة، وحتى لا يكون للأهواء والأغراض منفذ، وذلك قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. وقوله: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]. وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].

ص: 112

6 -

التعاون:

ويقيم الإسلام المجتمع بعد ذلك على التعاون، التعاون على الخير والبر، واتقاء المحارم، ومحاربة المنكرات والمفاسد، ونبذ الإثم والعدوان، وصيانة بناء المجتمع الإسلامي من كل الأمراض الاجتماعية التي تؤدي بالجماعات إلى التحلل والفناء، وفي ذلك يقول - جَلَّ شَأْنُهُ -:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. ويقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

7 -

اتقاء المحارم:

ويقيم الإسلام المجتمع على اتقاء المحارم، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم بغير الحق، فليس لمسلم أن يأتي في سره أو علنه فاحشة حرمها الإسلام، وليس له أن يباشر مأثمًا، ولا أن يبغي ما ليس حقه، ولا أن يطلب ما ليس له، وفي ذلك يقول - جَلَّ شَأْنُهُ -:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16]. وقوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ

ص: 113

تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9]. وقوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].

8 -

التحلي بالفضائل:

ويقيم الإسلام المجتمع على الأخلاق الفاضلة، والفضائل الإنسانية العليا، فيوجب الإسلام على المسلمين التخلق بالأخلاق الحسنة، والتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، ليكون المجتمع الإسلامي مجتمعًا فاضلاً مِثَالِيًّا، فإذا دعا المسلم الناس إلى الإسلام فليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا جادل غيره جادله بالحسنى، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وليس للمسلم أن يجهر بالسوء من القول إلا إذا ظُلم، فما لم يظلم فليس له أن يجهر بقولة السوء، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]. وليس للمسلم أن يسخر من أحد أو يلمزه ولا أن يتنابز بالألقاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]. وليس لمسلم أن يظن بأخيه المسلم الظنون، ولا أن يأخذه بالظن، ولا أن يتجسس عليه، ولا أن يغتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ

ص: 114

بَعْضًا} [الحجرات: 12]. وليس للمسلم أن يتعالى أو يتكبر {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23]. وليس للمسلم أن يختال أو يتفاخر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 36].

وعلى المسلم أَنْ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، ويعطي من حرمه، وأن يأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وعليه أن يدفع عن نفسه بالتي هي أحسن، فإن ذلك أقرب إلى أن يحيل العداوة صداقة ويقرب بين القلوب {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. وعلى المسلم أن يصلح بين الناس {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. وعليه أن يعرض عن اللغو {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]. وليس للمسلم أن يبخس الناس أشياءهم {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]. ولا أن يتمنى ما فضل الله به بعض الناس عليه {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]. ولا ينسى وهو صاحب حق أن يتفضل على أخيه المسلم {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].

وهذا قليل من كثير من الفضائل العليا التي جاء بها الإسلام وألزم المسلمين التحلي بها، ويكفي المسلمين من الأخلاق الفاضلة أن الله جعل لهم في رسول الله أسوة حسنة {لَقَدْ

ص: 115

كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وأن الله وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالخُلُق العظيم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. فإذا سار المسلمون على نهج رسوله، واتخذوا من أفعاله وأقواله وأخلاقه أسوة، فقد أفلحوا وبلغوا ذروة الفضل.

9 -

الاستخلاف في ملك الله:

ويَعتبر الإسلام الأرض وما عليها مالاً لله وَمُلْكًا له {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]. استعمر فيه الآدميين وأعده لانتفاعهم {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. فالمال مال الله لا مالهم وملكه لا ملكهم، ولكنهم مستخلفون فيه وَقُوَّامٌ عَلَيْهِ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165]، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. (({أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 55، 56]. {وَأَمْدَدْنَاكُمْ

ص: 116

بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6]. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60].

وإذا كان المال على اختلاف أنواعه وأشكاله مال الله والناس مستخلفين فيه ووكلاء عليه، فليس لأحدهم أن يحبس ما في يده من هذا المال عن غيره إذا كان في حاجة ماسة إليه، وليس له أن يحبسه عن المصالح العامة، وليس له أن يستأثر به دون غيره، وليس له أن يكنزه وقد خلق لينتفع به الناس، وليس له أن يظن إذا أعطى غيره شَيْئًا من هذا المال أنه يعطي شَيْئًا من عنده، وإنما هو وسيط أعطى غيره من مال الله كما [أخذ هو] لنفسه من مال الله، وهذا المعنى ظاهر في قوله تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. أي أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - فضل بعض الناس على بعض في الرزق وجعل بعضهم خَدَمًا ومماليك للبعض الآخر، فالذين فضلوا في الرزق ليسوا هم الذين يرزقون خدمهم وعمالهم ومماليكهم، وإنما هم وسطاء في إيصال رزق الله إليهم، فالكل سواء يستمدون من الله الرزق وهو الذي يرزق المالك والمملوك، والسيد والخادم، والأمير والحقير.

وهذا المعنى ظاهر أيضًا في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. وهذا النص خاص بالمكاتبين من الأرقاء، وحكمه إعانة هؤلاء المكاتبين على أداء

ص: 117

المال الذي كاتبوا عليه، والنص حين يأمر بإعانة المكاتبين، على أداء ما التزموه يذكر الناس بأنهم لا يعطون المكاتبين شَيْئًا من أموالهم، وإنما يعطونهم من مال الله الذي آتاهم وجعلهم خلفاء فيه.

ويترتب على اعتبار المال مال الله والناس مستخلفين فيه أن يكون للحكومة الإسلامية الحق في أن تقتطع من ثروات الأفراد ما يقوم بالمصالح العامة وما يرد الحاجة عن المحتاجين، وأن تراقب توزيع الثروات فتحد من ثراء الأغنياء والمترفين، لترفع مستوى الفقراء والكادحين.

10 -

تفتيت الثروات:

ويقوم النظام الاجتماعي الإسلامي على تفتيت الثروات وتوزيعها. وللإسلام في ذلك ثلاث وسائل إيجابية: (الأولى) الميراث، وهو يؤدي طِبْقًا للنظام الإسلامي إلى توزيع ثروة الميت بين أبويه وزوجته وأبنائه وأبناء أبنائه، وأحيانا يأخذ عصبة الميت وذوو رَحِمِهِ بعض ميراثه (الثانية) ضريبة الزكاة، وهي تقتطع جُزْءًا من رأس المال في كل سنة، لا من الأرباح، ويبلغ هذا الجزء 2.5% من رأس المال يؤخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء. (الثالثة) حق الحكومات في أن تقتطع من ثروات الأفراد ما يقوم بالمصالح العامة وَيُقَرِِّبَ بين مستوى الطبقات كما بَيَّنَّا من قبل.

ص: 118

وهناك وسيلة (رابعة) سلبية هي تحريم الاكتناز، فالإسلام يحرم على المسلم أن يكنز المال ويعطله فلا ينتفع به {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].

هذه هي الوسائل الأربع التي يفتت بها الإسلام ثروات الأفراد ويمنعها من التضخم، وهي وسائل إجبارية، وهناك وسائل أخرى اختيارية ترك أمرها للأفراد كالتصدق والإنفاق في سبيل الله، وقد حرص الإسلام على أن يأتي الأفراد هذه الوسائل الاختيارية، فدعاهم إليها ووعدهم حُسن المثوبة ومضاعفة الأجر عليها، فالإسلام يدعو إلى التصدق في السر والعلن في قوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ} [الحديد: 18]. والإسلام يدعو المسلمين إلى الإنفاق ويبين لهم أنهم لن ينالوا رضاء الله حتى ينفقوا مما يحبون وأن ما ينفقون من خير سوف يخلفه الله ويجزيهم عليه أجرًا عظيمًا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]. {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7]. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [الأنفال: 60].

ص: 119

وهكذا يمنع الإسلام الثروات أن تتضخم، وينقلها من يد واحدة إلى أيد كثيرة، ويعطي للحكومات الحق في أن تقتطع من ثروات الأفراد ما يصلح حال الجماعة، ويرفع مستوى الفقراء والمعدمين، ويحول بين الأغنياء وبين الترف الذي يفسد الأفراد والجماعات، ويجعل المال في يد الفقراء والأغنياء على السواء، ولا يتركه في يد الأغنياء وحدهم:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. ويتبين مما سبق أن سياسة الإسلام في المال تقوم على المبادئ الآتية:

[أ] المال مال الله والناس مستخلفون فيه، فهم قُوَّامٌ عليه ووكلاء فيه وليسوا أصلاء.

[ب] إذا كان للقائم على المال حق فيه فإن للغير أيضًا حقوقًا على هذا المال يجب أن تقضى منه، كرِه ذلك القائم على المال أو أحبه، والنصوص في ذلك صريحة منها قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]. وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]. وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة: 103].

ويلاحظ أن حقوق الغير على المال معينة، أي لا تتجاوز نسبة معينة منه.

ص: 120

[ج] إن للحكومات الحق في أن تأخذ من هذا المال فوق ما سبق ما تصلح به حال الجماعة كلما اقتضى الأمر ذلك دون أن يكون هناك حد لما تأخذه، ولا تتقيد الحكومات في ذلك إلا بقيد المصلحة العامة.

[د] إن الإسلام يدعو القائمين على المال أن ينفقوا منه طوعًا في كل وجوه الخير والنفع ويعدهم على ذلك أعظم الأجر.

[هـ] إن المال ينتقل محملاً بكل هذه الحقوق كلما انتقل من يد القائم عليه إلى يد غيره بالتصرف، أو إلى ورثته بالموت.

11 -

البر والتراحم:

والإسلام بعد ذلك كله يقيم المجتمع على البر والخير، وعلى التراحم والتعاطف، ويوجب على القوي والضعيف والغني والفقير والقريب والبعيد أن يكون كل منهم بَارًّا بأخيه راحمًا له عطوفا عليه، وأن يحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يعمل كل منهم لخير أخيه ويؤثره على نفسه ما استطاع، وأن يكون كل منهم بارا بوالديه وأهله واصلا لرحمه، والنصوص في ذلك صريحة متعددة منها قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]. وقوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} [المجادلة: 9]. ويقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ} [المائدة: 2]. وقوله: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ

ص: 121

بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» ، وقوله:«البِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» ، وقوله:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: لأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وقوله:«رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الوَالِدِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الوَالِدِ» ، وقوله:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» ، وقوله:«لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ»

يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ، وقوله:«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» ، وقوله:«مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» ، وقوله:«مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» .

12 -

الاستمساك بالشورى:

والإسلام يرد نظام الحكم في الجماعة إلى الشورى لتستطيع الجماعة أن تختار الحكام الصالحين للقيام بأمر الله في الجماعة، ولتستطيع أن تعزلهم كلما عجزوا عن أداء].

ص: 122

واجباتهم أو حادوا عن الطريق القويم، كما أن نظام الشورى يحول بين الحكام وبين الاستئثار بشؤون الجماعة، إذ يجعل الجماعة رقيبة على الحكام الذين اختارتهم. وقد جاء الإسلام بنظام الشورى وطبقه المسلمون قبل أن تعرفه الدول الغربية بأحد عشر قَرْنًا على الأقل، وقد فرض هذا النظام بقوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وبقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].

أوضاعنا الاجتماعية اليوم:

رأينا فيما سبق بعض الأسس التي يقيم الإسلام المجتمع عليها، ولكن هذه الأسس الإسلامية لا تقوم عليها المجتمعات الإسلامية اليوم بعد أن عطلت الإسلام أهواء الحكام وقوانينهم التي ينقلونها عن بلاد لا تدين بالإسلام، تلك القوانين التي وجهت المسلمين اتجاهات غير إسلامية، وأَنْسَتْهُم الإسلام حتى لم يعد فيهم من الإسلام شيء.

إن حكامنا وزعماءنا وأصحاب الرأي فينا لم يعودوا إخوانًا متحدين متعاونين كما يقتضي ذلك الإسلام، وإنما هم أحزاب وشيع، يعيشون متفرقين متنابذين، يتآمر بعضهم على البعض، ويتقول كل منهم على الآخر بالحق والباطل، ويتبادلون القذف والسباب كما لو كانوا يتقارضون المدح والثناء،

ص: 123

كل يحاول تحقير الآخر وتشويهه، وكل يريد أن يهدم أخاه ليرتفع على هامته، أو ليخلو له الجو ينطلق فيه، وقد حرصوا على هذه التقاليد التي ينكرها الإسلام ومارسوها كلهم حتى مزقوا أعراضهم، وقطعوا أرحامهم، وهدموا أنفسهم، وتركوا أسوأ مَثَل لمن بعدهم.

والعدل الذي يوزعه الإسلام بالقسطاس المستقيم على القريب والبعيد والعدو والصديق، هذا العدل قد ذهب من بلاد الإسلام، فنحن اليوم لا نعرف من العدل إلا اسمه، ولا نجد تحت هذا الاسم إلا المحاباة الكريهة، والمحسوبية العمياء، حتى ليريد كل حزب أن يستأثر أعضاؤه وأنصاره بكل ما في البلد من حقوق وخيرات ولو قل عدده وَضَؤُلَ شَأْنُهُ، فإذا ما زحزح عن الحكم جاء الحزب الذي يخلفه بأسوأ مما فعل سلفه، فإذا قيل له في ذلك احتج بالسوابق وهكذا يبررون الظلم بالظلم والمحاباة بالمحاباة.

ولقد فسدت أخلاقنا وضعف إيماننا بأنفسنا وانحدرنا إلى الحضيض، ورأينا كبراءنا وهم المثال الذي يحتذيه الشعب يتلونون كل يوم بلون ويلبسون لكل حالة لبوسها، فهم يومًا يؤيدون حكم الأقلية، وفي اليوم التالي ينادون بالحكومة الدستورية، وهم بعد ذلك منابذون لهؤلاء وهؤلاء، يجرون وراء فرد ليس له جماعة تؤيده ولا حزب يسنده، وهم يفعلون كل ذلك لا تَمَشِّيًا مع عقيدة يعتقدونها، ولا

ص: 124

خضوعًا لمبادئ يطبقونها، وإنما جريًا وراء الأهواء والشهوات، وتحقيقًا للمنافع أَوْ تَخَوُّفًا من الحرمان، ذلك أنهم يربطون أنفسهم بكل ذي سلطان طَالَمَا كان له سلطان، فإذا ما أحسوا بهذا السلطان في طريق الزوال انقلبوا على صاحبه ينهشون عرضه ويسخرون منه، وَطَالَمَا والله عبدوه من دون الله، وضحوا في سبيل إرضائه بكرامة الرجل وحياء الإنسان.

ومن أجل هذا الذي درج عليه كبراؤنا فإن كل الحكومات على اختلاف أغراضها وألوانها وعلى اختلاف الجهات التي تسندها، تجد مؤيدين من كل الطبقات، وتستطيع أن تعيش مسنودة بأغلبية برلمانية طَالَمَا كان بقاؤها في الحكم مكفولاً أو على الأقل مأمولاً.

ولقد تمثل الشعب بسادته وكبرائه في نفاقهم وسوء أخلاقهم، فعم النفاق وفشا الرياء وضاعت الأخلاق والكرامات، ولم يبق في الشعب من له ذمة أو ضمير أو خُلُقٍ إلا القليل، ومن المؤلم أن نجد كثيرًا من شباب الأمة وجيلها الحديث ينظرون إلى هؤلاء الذين يتمسكون بالفضائل على اعتبار أنهم قوم يحلمون ويعيشون في العصور البائدة، ويعتقدون أن المدنية والتقدم في التحلل من كل شيء، من الخلق والكرامة ومن الذمة والضمير، بل التحلل من الشفقة والرحمة ومن الآدمية والإنسانية.

ص: 125

إن الكثيرين من شباب اليوم فارغو النفوس والقلوب والرؤوس، فلا علم ولا عمل، ولا دين ولا إيمان، وهم لا يجيدون إلا تزجيج الحواجب وتصفيف الشعر، واختيار الملابس والتشبه بالممثلين والممثلات. ولا عمل لهؤلاء الشباب إلا ارتياد المحلات العامة والاندفاع وراء الشهوات. وقد وقع الكثير منهم فريسة سهلة للشيوعيين، لأنه ليس في تربيتهم المدرسية ولا في حياتهم المنزلية ما يَحُولُ بينهم وبين الآراء الهدامة أو ما يحصنهم ضد الفساد.

والناس اليوم يستحلون كل شيء ما دام يؤدي للغاية، فالسرقة، والرشوة، والاختلاس، وبيع الأعراض والكرامات، والمساومة على المصالح العامة، والتستر على الخيانة والفساد، وإسكات صوت الحق، كل ذلك جائز ما دام يؤدي إلى المال، أو الجاه، أو كراسي الحكم.

وكل فرد يحسد غيره ويتمنى ما بيده، فالمستوزر يحسد الوزير ويتمنى أن يحل محله، والفلاح الصغير يحسد المزارع الكبير، والعامل يحسد صاحب العمل، والفقير يحسد الغني، ويتمنى كُلٌّ أن يكون له ما للمحسود من مال ونعمة، بل لا يرى بَأْسًا من أن يحصل على ما يتمناه دون حق ودون جهد وعن طريق غير مشروع.

إن في مصر غِنًى أتخم الأغنياء، وَفَقْرًا ألصق الفقراء

ص: 126

بالطين، ولكن هؤلاء المتخمين بالثروة يأبون أن يردوا على الفقراء والمساكين بعض حقهم الذي يوجبه الدين وتفرضه طبيعة الاجتماع. والقوانين عاجزة عن معالجة هذه الحالة لأنها لا توجد ولا تنفذ إلا إذا رضي بها السادة الأغنياء.

وفي مصر ماليون يكدسون الأموال عقارات ومنقولات ومشروعات صناعية، ويستخدمون عمالاً يكدحون ويشقون بأجور تافهة لا تقوم باللقمة الجافة والكساء الذي يستر العورة، وليس في مصر قانون يلزم أصحاب الأموال أن يشركوا في أرباحهم العمال كما يقضي بذلك الإسلام، وصاحب المال يكدس خزائنه ذهبا وفضة، والعامل يكدس في قلبه غَضَبًا وَحِقْدًا ينمو ويزيد كل يوم.

إن حياتنا الاجتماعية قائمة على المنفعة، وعلى التحلل من كل القيود، ومن أجل ذلك لا يوقر الصغير كبيرًا، ولا يعطف الكبير على صغير، ولا يرحم القوي ضعيفًا، وَلَا يَبَرُّ الغني فقيرًا، ولا تحترم الرعية رَاعِيًا، وقد جرف هذا التيار الأسرة، فتقطعت الصِلَاتُ والأواصر بين الزوجة وزوجها، والابن وأبيه، والأخ وأخيه، وحق أن يحدث هذا ما دامت حياتنا قائمة على المنفعة والأثرة.

إن أداة الحكم في مصر قد تعفنت وتعطلت حتى لم يعد لوجودها معنى إلا زيادة الفساد، وكل شيء في مصر الآن

ص: 127

يشترى ويباع ويساوم عليه، فكراسي الحكم لها ثمن، والبقاء فيها له ثمن، والترشيح لعضوية المجالس النيابية له ثمن، وانتخاب المرشحين للنيابة له ثمن، والوظائف لها أثمان مختلفة، والمساعدة على عمل الخير والشر لها ثمنها، والظهور بمظهر القوة والكرامة له ثمن، والنذالة لها ثمنها، وليس في هذا البلد التاعس من يعمل عَمَلاً من حق أو باطل قبل أن يحصل على ثمنه، ويا ضيعة أصحاب الحقوق العاجزين عن دفع الأثمان! ويا بؤس أصحاب الكرامات الذين يرفضون أن يدفعوا الأثمان!.

لقد فسدت أداة الحكم في مصر حتى لتفوح روائح الفساد من كل جوانب مصر ومن كل شيء فيها، ولقد شهدنا في عام واحد من فضائح الحكم في مصر ما يخجل كل مصري إلى يوم القيامة، بل لقد تجمع في يوم واحد على صفحات الجرائد تسع فضائح كبرى هي قضية الجيش الأولى التي أحيلت على القضاء العادي، وقضية انفجار الذخائر في القلعة، وقضية استيراد الأسلحة من الصحراء الغربية، وقضية التموين بما فيها من فضائح استيراد الشاي والذرة والصفيح والأخشاب والأغنام وغيرها، وقضية الاختلاسات الكبرى في وزارة المعارف، وقضية تهريب السيارات لإسرائيل عن طريق بور سودان، وقضية السرقة والاختلاس من مخازن تفتيش مباني الغرب، وقضية اختلاسات مخازن الصحة، وقضية

ص: 128

الأوكار وما حدث فيها من تعذيب للمتهمين تقشعر منه الأبدان، ويعجز عن وصف بشاعته اللسان.

وكل فضيحة من هذه الفضائح تكفي لتلويث سمعة الأمة، ولكن الفضيحة الأخيرة وَأَدَتْ سُمْعَةَ مِصْرَ، وأثبتت أن رجال السلطات الإدارية وسلطات التحقيق نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وخانوا أماناتهم، وأتوا من الأعمال ما لا يغتفر.

إن المتهم وديعة المجتمع يسلمها أمانة لرجال الإدارة والنيابة، وإن لهؤلاء حتى سؤاله واستجوابه، ولكن ليس لهم أن يهددوه أو يكرهوه أو يعذبوه أو يسيئوا استعمال الحقوق التي خولتهم الجماعة إياها، فإذا ما فعلوا ذلك فقد انقلبت الأوضاع، وضاعت الأمانات، وزالت الضمانات، وتقوضت العدالة بأيدي القائمين عليها.

وقد يحتمل أن يهدد متهم أو يكره أو يعذب أو يساء بأي وجه إذا كان هذا العمل فرديًا، فما يخلو رجال الإدارة والنيابة من أن يكون بينهم فرد ينزع إلى الإجرام بطبعه، أو ينزلق إليه بضعفه، ولكن الذي لا يحتمل ولا يغتفر هو أن تتآمر الحكومات ورجال البوليس وسلطات التحقيق على الإساءة للمتهمين، وتهديدهم وإكراههم بشتى الوسائل وأقذرها، وتعذيبهم بأبشع الأساليب وأنكرها.

إن تعذيب المتهمين بأيدي صغار رجال البوليس وكبارهم

ص: 129

على مرأى ومسمع من رئيس الحكومة والمشرفين على التحقيق والقائمين به، وتكرار هذا التعذيب ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم وأسابيع وشهورًا، معناه أن مصر ليس فيها عدالة، وليس فيها نظام، وإنما فيها وحوش لا تفلت فرائسها، وحيوانات جامحة تحركها نزواتها، وهذه الوحوش المفترسة والحيوانات الجامحة هي التي تمسك بزمام الحكم، وتحمل ميزان العدل بين الناس.

إن هذه الفضيحة قد أصابت مصر بجرح مميت وسبة لا تزول، وإن على كل مصري يشعر بكرامته وبحق مصر عليه أن يقوم فلا يقعد حتى تحقق هذه الفضيحة الكبرى، وحتى يلاقي كل ناكث أثيم، وكل خائن زنيم، جزاء ما اقترف من الإثم، وجزاء ما شارك فيه، وجزاء ما أغضى عليه.

إن في مصر فَسَادًا يوشك أن يدمرها، وفيها تَحَلُّلاً يوشك أن يقضي عليها، إن فيها ظُلْمًا لا يخشع وعدلاً لا ينفع، وأهواء تفرق، واتجاهات تمزق.

إن في مصر هوة بين الفقراء والأغنياء، وهوة بين أصحاب الأعمال والعمال، وهوة بين الضعفاء والأقوياء، وهوة بين الآباء والأبناء، وهوة بين الحكام والمحكومين.

إن الأمة المصرية مجموعة من المتنافرين المتنابذين، ليس

ص: 130

فيها عدل ولا نظام، وليس بين أفرادها تعاون ولا بر ولا تراحم.

إن مصر تقف على شفا الهاوية، ولن يحول بينها وبين أن تتردى فيها إلا الإسلام، فهو الكفيل بإحياء النفوس، وتطهير القلوب، وتصحيح الأوضاع، وتوحيد القوى، وهو الكفيل بقيادة الأمة إلى بر السلام والأمان.

ص: 131