المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌من نور كتاب الله:

- ‌دعاء

- ‌مَعْذِرَةً إِلَى القَانُونِ:

- ‌أَنَا قَاضٍ وَلَكِنِّي مُسْلِمٌ:

- ‌ذَلِكُمْ هُوَ حُكْمُ الإِسْلَامِ:

- ‌عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ وَاجِبَهُ:

- ‌وَظِيفَةُ القَانُونِ:

- ‌أُصُولُ القَانُونِ:

- ‌قَانُونُ كُلِّ أُمَّةٍ قِطْعَةٍ مِنْهَا:

- ‌قَوَانِينُنَا غَرِيبَةٌ عَنَّا:

- ‌القَانُونُ يُوضَعُ لِحِمَايَةِ العَقَائِدِ:

- ‌مَتَى يَكُونُ لِلْقَانُونِ سُلْطَاٌن

- ‌القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ يُبْطِلُهَا الإِسْلَامُ:

- ‌القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِحُكْمِ نَفْسِهَا

- ‌مَاذَا فَعَلَتْ بِنَا القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ

- ‌خَسِرْنَا مَعْرَكَةَ الاِسْتِقْلَالِ بِالاِنْحِرَافِ عَنْ الإِسْلَامِ:

- ‌القَوَانِينُ الوَضْعِيَّةُ تُهَدِّدُ نِظَامَنَا الاِجْتِمَاعِي:

- ‌لِمَاذَا يُحَالُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَالإِسْلَامِ

- ‌1 - الاسْتِعْمَارُ:

- ‌2 - الحُكُومَاتُ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌أَيُّهَا المُسْلِمُونَ آنَ أَنْ تَعْمَلُوا

الفصل: ‌1 - الاستعمار:

‌1 - الاسْتِعْمَارُ:

عداوة الاستعمار للإسلام طبيعية:

وعدو الإسلام الأول هو الاستعمار، فهو الذي هيأ لنبذ أحكامه واستبدال القوانين الوضعية به، وإنها لعداوة طبيعية فما يستطيع الاستعمار أن يقف على قدميه في بلد يطبق أحكام الإسلام.

ذلك أن الإسلام لا يقبل أَنْ يُدنِّسَ الاستعمار بلاد الإسلام، ولا يسمح أن تعلو في البلد المسلم إلا كلمة الإسلام.

والإسلام يحرم على المسلم أن يخضع لغير المسلم، ويوجب على المسلم جهاد الغزاة المستعمرين وقتالهم وقتلهم حتى يخرجوا من بلاد الإسلام.

والإسلام يبيح للمسلم دم المستعمر وماله، لأن المستعمِر ليس إلا حربيًا معتديًا، فكل ما يسفكه المسلمون من دم المستعمرين إنما هو دم مباح، وكل ما يأخذون من أموالهم إنما هو مال مباح، وكل ذلك إذا ما أتاه المسلمون بنية خالصة إنما هو عمل يتقربون به إلى الله.

ص: 134

والإسلام يحرم على المسلم موالاة المستعمر وموادته، ويوجب عليه مقته وكراهته، فكيف يعيش الاستعمار بين قوم لا يوالونه ولا يوادونه بل يكرهونه ويمقتونه.

والإسلام يوجب على المسلمين في كل بقاع الأرض أن يتكتلوا ضد من يغزو بلدًا إسلاميًا، فقيام أحكام الإسلام يؤدي إلى تكتل المسلمين وتحزبهم ضد الاستعمار، وقد يطيق المستعمرون أن يواجهوا بلدًا إسلاميًّا ولكنهم لا يطيقون أن يواجهوا وحدة حقيقية تجتمع فيها كل بلاد الإسلام.

والإسلام لا يجيز للمسلمين أن يعاهدوا المستعمرين أو يهادونهم ما دام في المسلمين قوة، فهي إذن الحرب المشبوبة الدائمة ما دام الاستعمار، أو هي الهدنة الموقوتة التي لا تنتهي إلا بالقتال.

والإسلام يجيز للمسلمين في حالة ضعفهم أن يهادنوا المستعمرين هدنة مؤقتة قصيرة على أن يعدوا ويستعدوا، فإذا خافوا الإضرار بالمسلمين أو خشوا خيانة المستعمرين نبذوا إليهم عهدهم وعادوا إلى حربهم بعد إنذارهم، فأحكام الإسلام تمنع من مسالمة المستعمرين إلا إلى أجل، وتجيز نقض الهدنة والعود إلى الحرب كلما اقتضت ذلك مصلحة المسلمين والإسلام.

ص: 135

والإسلام بعد ذلك يحرم الاحتكار، ويحرم الاستغلال، ويحرم الربا في كافة الصور والأشكال، ولا يقوم الاستعمار إلا على هذه كلها، فإذا لم يكن احتكار ولا ربا ولا استغلال، فما نفع المستعمرين من الاستعمار؟

لذلك كله ولغيره، حرص الاستعمار على أن يبعد المسلمين عن أحكام الإسلام، فما دَخَلَ بَلَدًا إلا بعد أن هَيَّأَ لإبعاده عن الإسلام، وما استقر في بلد إلا بعد أن أقصى عنه سلطان الإسلام.

أساليب الاستعمار في محاربة الإسلام:

وللاستعمار في الحيلولة بين المسلمين والإسلام وتحويلهم عنه أساليب شتى، منها أنه يغري الحكام المسلمين بالإسلام، ويزين لهم أن يحلوا مكانه القوانين الوضعية، ويوسوس لهم أن هذه القوانين ستؤدي بهم إلى المدنية والقوة والتقدم، وما تؤدي في الواقع إلا إلى الضعف والتحلل والفساد والدمار، وما يقصد المستعمر من هذا كله إلا اتقاء الحرب التي يشنها عليه الإسلام، وقطع المعين الذي يمد المسلمين بالقوة ويحثهم على مقاومة الاستعمار ونضال المستعمرين، ولعل هذا هو بعض ما قصد إليه الوزير الانجليزي (جلادستون) حين وقف في مجلس العموم من عشرات السنين يقول:«إِنَّ قَدَمَ الإِمْبْرَاطُورِيَّةَ الإِنْجْلِيزِيَّةَ لَنْ تُرَسَّخَ فِي بِلَادِ الإِسْلَامِ مَا دَامَ القُرْآنُ مَوْجُودًا» .

والاستعمار كما يستعين على الإسلام بالحكام المسلمين،

ص: 136

يستعين بالتبشير بالمبشرين الذين رأوا أن من الصعب تكفير المسلم وتحويله عن دينه تحويلاً عاجلاً مباشرًا، فاختطوا خطة بارعة لتحويل المسلمين عن دينهم تَحْوِيلاً بَطِيئًا وغير مباشر، وإذا تحول المسلمون عن دينهم خطوة أمكن أن يتحولوا عنه خطوة أخرى خصوصًا إذا كان التحول غير مباشر، وهكذا حتى يأتي يوم يتحول المسلمون فيه عن إسلامهم، ويكونون حَرْبًا على دينهم.

وتقوم خطة المبشرين على أَنْ يُعَلِّمُوا المسلمين في مدارسهم أن الدين شيء والعلم شيء، وَأَنَّ الدِّينَ طَالَمَا عَادَى العِلْمَ الذي هو أساس تقدم البشر والعامل الأول في حضارتهم. والأمثلة على ذلك حاضرة عندهم في تاريخ الكنيسة المسيحية. كذلك يُعَلِّمُونَ المسلمين أن تأخرهم راجع إلى التمسك بالدين وتحكيمه في شؤون الدنيا، وأنهم لن يتقدموا ما لم يفصلوا بين الحُكْمِ وَالدِّينِ، وتكون لهم حكومة مدنية كما يفعل الأوربيون.

وهكذا سلك التبشير والاستعمار طريقًا واحدًا وتعاونًا على إصابة هدف واحد.

وقد أفلح المبشرون إلى حد كبير، إِذْ تَخَرَّجَ من مدارسهم كثير من حكام المسلمين وَكُتَّابِهِمْ، وهؤلاء نهجوا نهج أساتذتهم، فَسَمَّمُوا أفكار المسلمين، ووجهوهم نفس الاتجاه الذي يعمل له الاستعمار والمبشرون.

ويشتري الاستعمار والمبشرون أقلام بعض المسلمين بثمن بخس ليستخدموهم في مهاجمة الدين، وليزينوا لهم إقصاء الدين في كل ما يتعلق بشؤون الدنيا، والتشبه بالأوروبيين

ص: 137

في فصل الدين عن الدولة، وبذلك يُمَكِّنُ الاستعمار لنفسه ويثبت قدميه كلما حال بين المسلمين وبين الدين.

وقد ساعد على نجاح المستعمرين والمبشرين أن الحكومات الإسلامية تمنع تعليم الدين في المدارس، وأن كتب التعليم جميعها مترجمة عن الكتب الأوروبية، وأن الإشراف على التعليم كان فيما سلف للأوروبيين من مستعمرين ومبشرين، فطبع المسلمون أفواجًا أفواجًا بطابع التبشير والاستعمار، وخرجوا من المدارس لا يعرفون إلا أن الدين الذي لم يتعلموا شَيْئًا منه لا يصلح لشؤون الحكم والسياسة، وأنه يجب أن ينحى عن الشؤون الدنيوية، وأن يكون علاقة بين الإنسان وربه، وأن التخلص من شيء من أحكام الدين يُقَرِّبُ الشعب خطوة من المدنية والتقدم، وسيطر هؤلاء المسلمون فيما بعد على شؤون الحكم والتعليم وغيرهما من شؤون الأمة، فداروا في نفس الدائرة التي رُسِمَتْ لهم، وكانوا أمناء على تعاليم أساتذتهم، ولم يخرج عليها إلا من هيأت له ظروفه أن يدرس وأن ينقد وأن يوازن. وحينئذ استطاع أن يعرف أنه أُلعوبة في يد المستعمرين والمبشرين.

الفصل بين الدين والدولة:

وَقَدْ اسْتُغْفِلَ المسلمون إلى حد كبير حين أُفْهِمُوا بأن سبب تقدم أوروبا هو الفصل بين الدين والدولة، لأن الدين المسيحي الذي تدين به أوروبا لَمْ يَأْتِ بمبادئ وأحكام يقوم عليها نظام الحكم والإدارة والسياسة والمعاملات وغيرها. وقد جاء هذا الدين في عصر الدولة الرومانية، فاحتضنته تلك الدولة

ص: 138

ونشرته بين الناس، وكان لهذه الدولة قانون كامل هو القانون الروماني الذي يعتبر أساسًا ومصدرًا لكل القوانين الأوروبية العصرية، ولذلك لم يكن للدين محل في التشريع، خصوصًا وأن الدين المسيحي لم يأت بتشريع خاص، ولكن احتضان الدولة للدين الجديد وقيامها بنشره اقتضى أن يضاف إلى القانون بعض النصوص التي تلائم هذا التطور. ثم جاء بعد ذلك عهد استغل فيه رجال الكنيسة سلطانهم وثقة الجماهير فيهم، فاتبعوا أهواءهم، وجروا وراء مطامحهم وألبسوا كل ذلك ثَوْبًا مِنَ الدِّينِ، لِيُخْضِعُوا له الناس باسم الدين، وليتغلبوا بسهولة على منافسي سلطانهم من السياسيين والمفكرين، ولكن الغلبة كانت للآخرين، حيث انتهت المعركة بعزل رجال الدين عن الحكم والسلطان.

فالمنافسة بين رجال الدين ورجال السياسة لم تكن على الدين أو السياسة، وإنما كانت على السلطان ولا شيء غيره، والنزاع الذي حدث في أوروبا لم يكن نزاعا بين أهواء رجال الكنيسة وأهواء رجال السياسة، وَحَرْبًا بين التدجيل باسم الدين، والتدجيل باسم الشعوب. وقد انتهى كل هذا بالفصل بين رجال الدين وسلطان الدولة وبما يسمى اختصارًا: الفصل بين الدين والدولة. وليس أدل على ذلك من أن القوانين الأوروبية لا تزال كما هي لم تتأثر بنظرية الفصل بين الدين والدولة، ولم يحذف منها إلا بعض النصوص التي وضعت في العصور الوسطى لحماية السلطان الذي اغتصبته الكنيسة لنفسها، ولا تكاد القوانين الأوروبية العصرية

ص: 139

تختلف في اتجاهاتها عما كان عليه القانون الروماني في عصور المسيحية الأولى إلا بالقدر الذي اقتضاه التطور الطبيعي للعادات والتقاليد.

ولعل كل الذي ترتب على الفصل بين الدين والدولة لا يخرج عن نتيجتين:

الأولى: حرمان رجال الكنيسة من أن يكون لهم سلطان دنيوي لحماية سلطانهم الديني، فقد كانوا يرون أن قيامهم على الدين يقتضي أن يكون لهم من سلطان الحكم ما يمكنهم من أداء وظيفتهم.

الثانية: إعلان الحرية الدينية. فقد كان رجال الكنيسة يُكْرِهُونَ الناس على عقيدة معينة، فلما ذهب سلطانهم، تُرِكَ للناس أن يعتقدوا ما يشاؤون.

وحدوث هاتين النتيجتين ليس فيه فصل حقيقي بين الدين والدولة، لأن قيام الدولة على الدين لا يقتضي أن يكون لرجال الدين أي سلطان خاص ولا يقتضي حمل الناس على عقيدة معينة، وأفضل مَثَلٍ لذلك هو الإسلام. فالإسلام يوجب أن تقوم الدولة على أساس الدين الإسلامي، ويوجب أن يكون الحكم والسياسة والإدارة والتشريع، وكل ما له أثر في حياة الأمة مُسْتَمَدًّا من الدين الإسلامي وقائمًا عليه، وبالرغم من ذلك فإن الإسلام لا يعطي علماء الإسلام وفقهاءه أي سلطان، ولا يميزهم من هذه الوجهة عن أي فرد عادي، كما أن الإسلام يحمي كل الحماية حرية التدين، وَيُحَرِّمُ أَنْ يُكْرَهَ شَخْصٌ على عقيدة معينة، أو دين معين، وذلك قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ

ص: 140

فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].

لا وجه لقياس البلاد الإسلامية بأوروبا:

وإذا كانت هذه هي حقيقة الحال في أوروبا، فإن حال البلاد الإسلامية جد مختلفة، إذ فيها دين أتى بنصوص صريحة وأساليب واضحة واجبة الاتباع في كل شأن من شؤون الحياة، وهذه النصوص تكون شريعة كاملة ناضجة هي الشريعة الإسلامية، وهذه الشريعة ظلت تحكم بلاد الإسلام على خير وجه ثلاثة عشر قَرْنًا على الأقل، ففصل الدين الإسلامي عن الدولة مع أن الدولة جزء من الدين، وإقصاء الشريعة الإسلامية التي يتعبد بتطبيقها المسلمون، وإحلال القوانين الوضعية محلها، ليس إلا خروجًا على الدين أو إخراجًا له من قلوب المسلمين.

ولا وجه لقياس البلاد الإسلامية على البلاد الأوروبية، لأن الدين الإسلامي أتى بشريعة كاملة أوجب تطبيقها، والدين المسيحي لَمْ يَأْتِ بشيء، ولأن الدين الإسلامي يجعل الحكومة جُزْءًا من الدين، وليس الدين المسيحي كذلك، ولأن فصل الدين عن الدولة لم يؤد إلى تعطيل المسيحية وإلزام المسيحيين قوانين غير قوانينهم، أما فصل الدين عن الدولة في بلاد الإسلام فقد أدى إلى تعطيل الإسلام وإلزام المسلمين قوانين خارجة على أحكام الإسلام، ولأنه ليس في بلاد الإسلام سلطة دينية وسلطة مدنية يتنازعان الحكم والسلطان

ص: 141

كما هو الحال في أوروبا، وإنما في بلاد الإسلام سلطة واحدة تجمع في يديها شؤون الدنيا والدين، وتقيم الدولة على أساس الإسلام الذي مزج بين الدين والدولة مَزْجًا جعل الدولة هي الدين وجعل الدين هو الدولة.

الدين لا يؤخر الشعوب:

أما ما يدعيه المستعمرون والمبشرون من أن الدين يؤخر الشعوب فينقضه أن المستعمرين جَمِيعًا يتمسكون في بلادهم بالدين، وليس في البلاد الاستعمارية بلد واحد ألغى الدين، وينقضه أن البلاد الأوروبية الاستعمارية والبلاد الاستغلالية تنفق كل عام مئات الملايين من الجنيهات على التبشير بالمسيحية في بلاد الإسلام، ولو كان الدين يؤخر الشعوب كما يدعون لألغوه في بلادهم ليستكملوا الرقي والتقدم، ولما أنفقوا على نشره أموالاً طائلة هم أولى بإنفاقها في وجوه أخرى تنفعهم وتعود عليهم بالخير.

وإذا كان في أي دين من الأديان ما يدعو إلى التأخر، فليس في طبيعة الدين الإسلامي إلا ما يدعو إلى التقدم والتفوق، فهو يوجب على المسلم أن يأخذ بأسباب القوة والعزة والتفوق والسيادة، وهو يوجب على المسلم أن يعمل ولا يتبطل، وهو يأمر بالخير والبر والتعاون والتراحم، وهو يقيم الجماعة على أساس المساواة التامة والأخوة المتعاونة والعدالة المطلقة، وهو يدعو الجماعة إلى التحرر من الخوف والجهل والضعف والفقر، وينكر الاستعلاء والأثرة والاحتكار والاستغلال

ص: 142

والإساءة والظلم، وَلَوْ طُبِّقَ الإِسْلَامُ كما أنزله الله لوجد العالم كله في الإسلام ما يحل مشاكله ويوحد مناهجه، ويجمع كلمته ويدفع عنه ما يعانيه من أهوال.

رجعة إلى الاستعمار:

والاستعمار بعد أن حقق إلى حد كبير هدفه في البلاد الإسلامية، لا يزال يؤمن أشد الإيمان بأن لا حياة له في حياة الإسلام، ولا سلطان له مع سلطانه، ومن ثَمَّ فهو يخشى الإسلام أشد الخشية حتى ليقلقه ويقض مضجعه تكوين جمعية إسلامية صغيرة أكثر مما يقلقه تكوين حزب سياسي ضخم لمناهضته، ذلك أن الاستعمار يعلم جيدا أن الأحزاب تبحث عن مغانم الدنيا وهي في قبضة المستعمرين، أما المسلم الحقيقي فإنه يبحث عن الشهادة وهي في قتال المستعمرين وقتلهم.

وبعد أن تيقظ الوعي الإسلامي في البلاد الإسلامية، وفَهم المسلمون لُعْبَةَ المستعمرين، استطاع الاستعمار في كثير من الأحيان أن يستعين بالحكومات الإسلامية ليتغلب على دعاة الإسلام وينحيهم عن طريقه، ولكنهم أبَوْا أن يستسلموا أو يسالموا وصبروا على حرب الاستعمار وظلم الحكومات الإسلامية، وفتحت هذه الحرب المستمرة وذلك الظلم الغاشم عيون الوطنيين على الحقائق المرة، فعلموا أن الاستعمار يخشى الإسلام، وكان ذلك وحده كَافِيًا لأن يتحول كثير من المسلمين الوطنيين أنصارًا ودعاة للفكرة الإسلامية.

ص: 143

المعركة الحاسمة:

والمعركة بين الإسلام والاستعمار تمر اليوم بأدق مراحلها، وستنتهي إن شاء الله بالتمكين للإسلام وهزيمة الاستعمار.

إن الاستعمار اليوم في أحرج مواقفه بعد أن تبين مَا تُبَيِّتُهُ له الشيوعية، وهو يعلم حق العلم أنه لن يَقْضِيَ على الشيوعية في البلاد الإسلامية إلا الإسلام.

إن الاستعماريين بين أمرين أحلاهما مُرٌّ، فهم على يقين بأن الشيوعية إذا ظفرت بهم فلن تبقى على عظم ولا لحم، ولا على أصل ولا فرع. سيزول الاستعمار ويزول السلطان، ويصبح المتبوع تابعًا والمسيطرون عبيدًا. ستطير المستعمرات، وتستعمر الأوطان التي أنبتت الاستعمار. وهم على يقين أيضًا بأنهم لو سالموا الإسلام وتركوه يُمَكِّنُ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ، فإنه لن يلبث أن يقضي على الاستعمار، وَحِينَئِذٍ يُحْبَسُ المُسْتَعْمِرُونَ في أوطانهم التي لا تقوم بأودهم وينالهم الجوع والحرمان، ويذهب عنهم الجاه والسلطان.

إن الاستعمار يحلم بأن يجند المسلمين تحت رعايته لمحاربة الشيوعية، ويحاول جَاهِدًا أن يستثير مخاوف المسلمين بما في الشيوعية من إلحاد، وإنه لحلم لذيذ للمستعمرين ولكنه لن يتحقق من جهة المسلمين بإذن الله.

إن الإسلام يكره الاستعمار ويكره الشيوعية إلى درجة المقت، وإن كراهتهما بمنزلة سواء، لأنهما يكرهان الإسلام، وكلاهما يقاتل الآخر للتسلط على بلاد الإسلام، ولن ينال

ص: 144

الإسلام خيرًا من الميل مع أحد العدوين ضد الآخر، لأن الخسارة محققة بمحاربة أحد العدوين، والكسب غير محقق لبقاء العدو الثاني، ولكن الإسلام قد ينال خيرًا ولا يخسر شَيْئًا إذا وقف وقفة المتربص بأعدائه العامل لنفسه لا لغيره، وَلَمْ يُفْلِتْ أي فرصة تسنح له.

إن اشتباك الاستعمار مع الشيوعية هو الفرصة الوحيدة التي ستمكن الإسلام أن يتخلص بإذن الله منهما مَعًا، وما الاستعمار في محاربته الشيوعية إِلَاّ كَلِصَّيْنِ يتقاتلان على الاستئثار بسرقة رجل يعرف ما يريد كِلَا اللصين منه، فإن شاء الرجل أن يعجل بوقوع السرقة ساعد أحد اللصين على الآخر، وإن شاء أن يعمل على نجاة نفسه تركهما يقتتلان وبحث لنفسه عن مخرج يبعده عنهما أو يعصمه من أذاهما.

والمسلمون الحقيقيون لا يمكن أن تنطلي عليهم ألاعيب الاستعمار ولن يسكتوا عليها، ولا يمكن أن يثقوا بالمستعمرين ما دام لهم في بلاد الإسلام سلطان، أو ما داموا يضمرون استبقاء ذلك السلطان. فليرح الاستعمار نفسه، وليرح المسلمين من دجله وإفكه، وعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتأهبوا ليومهم الموعود، فقد اقترب والله أجله، ويومئذ يفرح المسلمون بنصر الله يؤتيه من يشاء، وسيعلم المستعمرون والبلاشفة لمن عقبى الدار.

ص: 145