الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
مدخل تاريخي:
إن ما يبدو، في العصر الحديث، أنه اهتمام واسع شامل لقضايا حقوق الإنسان، تناولته أنظار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ القرن السابع عشر الميلادي، وحبَّرَتْ في شأنه المواثيق والعهود، قد بقي في حقيقة الأمر منحصرًا في القوانين والدساتير، واكْتُفِيَ بالتعبير عنه في شكل مبادئ وقواعد مجملة، ولم تتدرج العناية به إلى المستوى الدولي، إلّا بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولم يخرج الاهتمام به إلى الآفاق الرحبة الواسعة، إلّا أثناء احتدام الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذت في تقدير البعض من حقوق الإنسان ذريعةً للإجهاز على المعسكر الشرقيّ الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، ونجحت في تفكيك منظومته، ودحر أيديولوجيته، لتتبلور بذلك الصور الجديدة في شكلها المستحدث لقضايا حقوق الإنسان، ولتتحول إلى أداة فاعلة ضاغطة تستخدمها الدول المتقدمة لممارسة الهيمنة، وفرض السيطرة، وبسط النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي على دول العالم بأسره، بينما يرى آخرون، ممن ينتصرون لثقافة العولمة، أن في التراث الإنساني ما يبرز النضالات من أجل حقوق الإنسان، وأن الاهتمام العالمي المتزايد يومًا بعد يوم، ما هو إلّا تتويجٌ لهذه النضالات، وتكريس لانتصار الإنسان في نهاية المطاف، من أجل تجذير حقوقه في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتأصيلها كقيم عالمية كونية، وحمايتها من مخاطر الانتكاس والردة من خلال المواثيق والمعاهدات والتنظميات الدولية.
إن ما يُسَمَّى اليوم بالنظام العالمي الجديد، والذي ظهرت بوارقه الأولى منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، لم يحقق في نظر معارضيه الغايات المرجوّة منه، ولم يثمر في تقديرهم نتائجه المؤملة، وهم يرون أن استفراد القوى
الصناعية الكبرى بحقِّ التصرف في المقدّرات العالمية، قد عمَّقَ التبعية الاقتصادية لدول العالم الثالث تجاهها، بسبب الاحتياج الماسِّ لمساعدات هذه الدول لأغراض التنمية، وتوسّع الخرق الفاصل بين الشمال الغني والجنوب الفقير، ولم تتبلور المنظومة الجديدة في صورتها الجلية الواضحة، ولم تكشف عن نفسها، إلّا بعد سقوط المعسكر الشرقي وتفكيك منظومته، لتفتتح بذلك مرحلة تاريخية جديدة فريدة من نوعها في العالم، تنتفي فيها الأضداد، وينتصر فيها النموذج الأوحد، وتولدت عن هذا الوضع الجديد تكتلاتٌ سياسية واقتصادية جديدة، مستفيدة في ذلك من التطور التكنولوجي الهائل، خاصة في مجالات الاتصال، أمكن بفضله أن تنحصر المسافات وتتقلص الحدود، ليتحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة.
هذا الموقف المتوجس خطرًا مما يمكن أن تجره العولمة من آثارٍ سيئة، قد عبَّرَتْ عنه نزعات الانطواء، وترجمت عنه الأصوات الداعية إلى العودة إلى الجذور والقيم الأولى، والتمسك بالثقافة التقليدية، كرد فعلٍ ارتدادي على هذه التغيرات التي يراها البعض تهديدًا جديًّا للثقافات الوطنية والإقليمية، ونذير شؤم ينبئ باشتداد العواصف التي قد تقلع الجذور وتأتي على الأصول.
في خِضَمِّ هذا الصراع بين أنصار العولمة وما تحمله في نظرهم من بشائر الانفتاح وتداخل المصالح بين الشعوب وتحسين أنماط عيشها، وبين أنصار المحافظة والتشبث بالنظام القديم، تأخذ إشكالية حقوق الإنسان منعطفًا جديدًا وخطيرًا في الوقت نفسه، وتطرح على الشعوب تساؤلات مصيرية، منها:
1 -
مدى قدرة الثقافات المحلية على الصمود والثبات أمام التيار القويّ للعولمة؟
2 -
كيف السبيل إلى المحافظة على الخصوصيات، في عالمٍ يسير نحو الاندماج عبر التكتلات الاقتصادية والسياسية؟
3 -
هل يحق للإنسان اليوم أن تأمل، عبر ميلاد ثقافة عالمية جديدة، توفر ضمانات قوية من شأنها أن تحمي الحقوق الإنسانية من أيّ انتهاكٍ أو انتكاسٍ أو انحراف؟
وفي مقابل هذه الاستفهامات، تطرح تساؤلات موازية تعبِّرُ في جوهرها عن عمق الحيرة وتوتر الفكرة، ومنها:
1 -
كيف تتسنَّى الإجابة على هذه الإشكاليات المبنية أساسًا على معطياتٍ متناقضة وأنظار متباينة؟
2 -
كيف يمكن التوفيق بين عنصري التقابل والتضادِّ في الرؤى والتصورات المتناولة للقضايا الإنسانية عمومًا؟
3 -
كيف يمكن لقضية حقوق الإنسان أن تتحوّل من إطار الخصوصية التي تتميز بها، إلى إطار العولمة الزاحفة عليها؟
4 -
هل يمكن فعلًا تجاوز الخصوصيات التاريخية والحضارية والاجتماعية لهذه القضية وهي معدودة من لوازمها وشروطها؟