المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحقوق الاجتماعية ‌ ‌مدخل … 2 - الحقوق الاجتماعية: أ- تمهيد: إن المكاسب الإنساية والحضارية التي - الإسلام وحقوق الإنسان في ضوء المتغيرات العالمية

[كمال الدين جعيط]

الفصل: ‌ ‌الحقوق الاجتماعية ‌ ‌مدخل … 2 - الحقوق الاجتماعية: أ- تمهيد: إن المكاسب الإنساية والحضارية التي

‌الحقوق الاجتماعية

‌مدخل

2 -

الحقوق الاجتماعية:

أ- تمهيد:

إن المكاسب الإنساية والحضارية التي أمكن إنجازها اليوم، إنما هي ثمرة نضال طويل وتضحياتٍ جسام، أسهمت فيها الشعوب والأمم، وقدَّمَت فيها الأجيال على اختلاف مشاربها، وتنوع أجناسها وأعراقها، وتوجهاتها الثقافية، واختلاف نزعاتها العقدية، عصارة نتاجها الفكريّ، وخلاصة تجربتها وفعلها الحضاري، وهذا ما يفسر ثراء التجربة الإنسانية الموضوعة في خدمة الإنسان أينما كان، باعتباره الهدف والغاية والوسيلة، انتصارًا لآدميته المقدسة التي أسجد الله لها ملائكته الكرام في قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]، وتأكيدًا لقيمة التكريم فيه على سائر الموجودات بما أنه كائن حرّ مكلَّف مستخلف على الأرض، وبما خصه الله من المواهب وزوَّدَه من الملكات، ومنحه من القدرات، بها يحقق كينونته، ويصيغ وجوده بهدي الرسالات السماوية، وعلى بينة من عقله المستنير، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].

إلَّا أن التاريخ الإنسان النظالي الطوزيل، لم يسلم من الانتكاسات والسقطات، التي تبررها الطبائع والميولات الأنانية، وغلبة الأهواء والنزاعات الفردية، في غيبوبةٍ من العقل والضمير، أدت فيما أدت إليه، أن تحوّل الإنسان وقودًا لهذه النار المتأججة على مدى حِقَبٍ ممتدة في الزمن التاريخي، انعكست دلالاتها في ظهور فلسفات ومذاهب فكرية وأيديولوجية، وأنظمة سياسية متطرفة مدمرة هدامة؛ كالنازية والفاشية وغيرها من سائر الحركات الاستعمارية التي ظهرت في العالم منذ زمن غير بعيد، والتي حوّلت حياة الإنسان إلى جحيمٍ اكتوت بناره البشرية جمعاء، وكان من آثارها المزلزلة أن أخضعت رقاب شعوب بأكملها، واستنزفت طاقاتها الحيوية، وأهدرت ثرواتها الطبيعية، وعطَّلَت

ص: 16

حركيتها، وكبَّلَت أياديها وأرجلها، وارتفع دوي الحرب، وانتصرت الآلة العسكرية، وتفنن صانعوها في تطوير وسائل القتل والدمار، وأتت النار على الأخضر واليابس، وكان الإنسان هو الخاسر في الأول والآخر.

ثم صحت الإنسانية على صوت هذه الفواجع، واستيقظ العقل والضمير بتأثير حدة الآلام البشرية وشدة المصائب وهول الكوارث، وغدا السلم حتميةً تاريخيةً حضاريةً كسبيلٍ إلى إنقاذ البشرية من الدمار والهلاك، وقيمة عالمية لا مناص من أن يتشبث بها المجتمع الإنساني كطريقٍ أوحدٍ إلى الخلاص، إيمانًا بأن الحروب لما كانت تنشأ أولًا في عقول الناس، كان لا بُدَّ -من أجل الوقاية والاحتماء منها- أن تبني في الوجدان البشري حصون السلم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، وقال أيضًا:{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].

وإن ميلاد المنتظم الأممي إبَّان انتهاء الحرب الكونية الثانية، هو تعبير عميق عن وحدة الشعور الإنساني، وغلبة الوعي الإيجابي، وانتصار الإنسان في نهاية المطاف، لتسقط في مقابل ذلك الجدران السميكة والحواجز الحديدية التي طالما فرَّقَت بين الشعوب، وآثارت أسباب العدوان والفتنة بينها.

إن من مشمولات الدول ومهامها الأساسية في العصر الحديث، وضع الأسس والقواعد والتشريعات الضامنة للحقوق، الكفيلة بتوفير حياة اجتماعية كريمة، تطلق فيها الكوامن، ويفسح فيها مجال التعبير والفعل الحر، لا تحدُّه إلّا ضوابط المصلحة العامة، من أجل أن يرقى الإنسان وتسعد البشرية.

ولأهمية الأسرة كدعامةٍ أساسية لا محيص عنها في البناء الاجتماعي اهتم الإسلام، قرآنًا وسنةً وفقهًا وقضاءً، بهذا الصرح الاجتماعي، فوضع له عن طريق التشريع والإرشاد والتوجيه مجموعة من القوانين المحكمة والنظم الشاملة والتشريعات الدقيقة الكفيلة بتنظيم البناء الأسري والمحافظة عليه، ومما تتجلَّى به العناية الإسلامية الفائقة بالأسرة الحضّ على الزواج الذي به تتكوّن الأسرة، ليكون كلٌّ من الزوجين مسئولًا عن هذا الميثاق الغليظ، يعملان على بقائه

ص: 17

ونمائه، ويذودان أسباب وهنه واضطرابه، قال تعالى:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]. وسبيل ذلك أن يعرف كل طرفٍ دوره في هذه الغاية، وأن يؤدي واجبه فيه على الصورة المطلوبة المرتضاة، فقد أوجب الله على الزوج والزوجة حقوقًا لن يرضى الله سبحانه عن أحدهما، إلّا بقدر ما يؤدي منها لشريكه، وحين يتكافل كلاهما في أداء دور الرعاية، وتكون الحقوق والواجبات مراعاة ماثلة في البيت وخارجه، يتولّد الأمل، ويعظم الرجاء في الله بأن تستقيم الأسرة على النهج الذي ارتضاه الله لها، فتثمر ثمرتها الطيبة، وتورف بظلالها على المجتمع بأسره.

وللمرأة في هذا كله دورٌ مركزيٌّ على غايةٍ من الأهمية، لا سبيل لأيّ مجتمعٍ أن يستغني عنه، ولا أن يسيء تقديره، أو أن يتهاون إزاءه، ولقد مرَّتْ على المرأة ظروف وأحقاب من التاريخ، سيمت فيه الظلم والخسف، إلى أن تداركتها رحمة الإسلام الذي أقرَّ لها بالكرامة الإنسانية، مثلها في ذلك مثل الرجل، فهي ليست من طينة مغايرة للذكر، ولا أحقر ولا أذل، فتحتقر وتمتهن وتذل.

ولقد ذكَّر الإسلام البشرية جمعاء بأن الزوجات خلقن من أنفس أزواجهن في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وقال عليه الصلاة والسلام:"إنما النساء شقائق الرجال"1.

ولقد خلع الإسلام على المرأة من المكرمات والمنن، ما رفعها إلى مقام عالٍ، وأمكنها من حقوقها كاملة من غير نقصان، قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، وهيأها خير تهيئة لتتحمل دورها، فكان للنساء في الإسلام من الفضل ما استأهلت به ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهن، ودعوته إلى الرفق بهن وإكرامهن:"خياركم خياركم لنسائهم خلقًا"2.

1 أخرجه أحمد في مسنده: 6/ 256 - 277.

2 رواه الترمذي في سننه، كتاب الرضاع.

ص: 18