الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جـ-
حقوق الطفل في الإسلام:
إن العناية التي يجب أن تصرف لها الدول والحكومات جهودها وإمكاناتها، لا بُدَّ لها من أن تتوجه فيما تتوجه، إلى الطفل باعتباره الأحوج إلى الرعاية، بحكم ضعف خلقته وعجزه عن القيام بنفسه دون الاستناد إلى غيره، وعلى وفق العناية به يتحدد مصير الشعوب قوةً وضعفًا، وترتسم ملامح إنسان الغد، وتصاغ شخصيته المستقبلية؛ فالطفل كما يقال: هو نصف الحاضر وكل المستقبل.
إن استعمالات الطفل في غير ما هو مؤهل للقيام به -من أعمالٍ بدنية شاقة، واستغلاله في غايات جنسية دنيئة، دُنِّسَتْ فيه طهارته، ودمرت براءته، وقضت على مواهبه الفطرية الطبيعية، وحولته إلى كتلة سوداء من الغضب والتمرد، وجنحت به إلى ظلمات الانحراف العقلي والنفسي والشذوذ السلوكي، ونزلت به إلى دركات الانحطاط والتدني- نبهت المجتمع الإنساني إلى ضرورة تلافي هذا الوضع المزري البائس، وإيلاء الطفولة حقها في العناية والرعاية، والأخذ بيدها منذ سن مبكرة، بما يطوّر مواهبل الطفل وينمي عقله وجسده، ويصون نفسه، ويهيئه التهيئة اللازمة، ليكون عضوًا منتجًا فاعلًا، وعنصرًا صالحًا إيجابيًّا في أسرته ومجتمعه.
ومن الحقوق الأساسية المسداة إلى الطفل:
- الحق في الرعاية الحسنة والتنشئة الصالحة:
إن الطفل، منذ لحظة تكونه جنينًا في بطن أمه، فولادته، إلى أن يشب ويشتدَّ عوده، ويغدو قادرًا على القيام بنفسه، هو أمانة بين يدي أبويه، أو من هو في كفالته. وفي كل هذه المراحل، وضع الإسلام من التشريعات والقواعد ما يحقق الرعاية الكاملة التامة، بما يضمن التنشئة الروحية والجسدية المتوازنة التي تعدّه ليكون رجلًا صالحًا لأمته ووطنه، وقد نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن المولود طينة طيّعة لزجة، يعركها أبواه إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فقال:"ما من مولود إلّا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصِّرَانه، أو يمجِّسَانه"1. ولقد بلغ اهتمام الإسلام بالطفل مبلغًا عظيمًا، من ذلك عنايته باختيار التسمية الحسنة التي يعدها من شروط التربية الحسنة، وفي الحديث: "أحسنوا أسماءكم" 2. وأثبت علماء النفس في
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز.
2 رواه أبو داود والدارمي.
زمناننا، ما لإطلاق الاسم على المواليد من تأثيراتٍ نفسيةٍ إيجابية أو سلبية، بحسب حسن الاختيار أو إساءته، وحظي الطفل في التشريعات الإسلامية بحظْوَةٍ لا نظير لها، تترجم عن مدي ما يوليه ديننا الحنيف من أهمية بلغت ذروتها، حينما وجّه عنايته إلى كل الجوانب المتصلة من قريب أو بعيد بحياة الطفل، سواء منها النفسية أو الروحية أو العقلية، بتحميل الأبوين مسئولية حضانته وتربيته ورعايته رعاية صحية متكاملة، وتعليمه وتنشئته على مكارم الأخلاق، دون التغاضي عن الجوانب الجسدية واحتياجات الطفل في ملبسه ومضجه وغذائه، ووقايته من الأمراض، حتى يكتمل نمو الطفل في إطار محكم متوازن، بعيدًا عن العقد والعلَّات النفسية والجسدية.
ولقد أولى المجتمع الدولي في أواخر القرن المنصرم، اهتمامًا بالغًا بالتشريعات الموجهة إلى الطفل، من أجل حمايته مما يمكن أن يلحقه من أشكال الامتهان النفسي والجسمي، التي قد تدفعه إلى التشرد والضياع عند فقدان السند، وأصدرت الهيئات العالمية المختصة المواثيق والعهود التي من شأنها أن تضمن للطفل أسباب النمو الطبيعي السليم، وتحميه من كل مزالق الانحراف والزيغ.
ولم يغفل المشرِّع التونسي عن إيلاء الطفولة أهمية قصوى، تشريعًا وتطبيقًا، وإحاطة وتربية وعناية، لتكون هذه السياسة المتبعة علامة مضيئة في تاريخ تونس الحديث، وتُعَدُّ تونس كذلك، من الدول التي سبقت إلى المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وقد أصدرت مجلة مختصة، هي مجلة حماية الطفل التونسي، لتكون مكسبًا لحقوق الطفل في بلادنا1.
1 بمناسبة إصدار مجلة حماية الطفل التونسية، يوم 9نوفمبر 1995، أبرز رئيس الجمهورية التونسية قيمة هذا الحديث، مبينًا في خطابه الذي ألقاه بهذه المناسبة، ما لتكريس حقوق الطفل على أرض الواقع من حفاظ على متانة الروابط العائلية وتماسك الأسرة، وتخفيف من وقع المتغيرات السلبية الناتجة عن مظاهر التفكك العائلي، وعن الآفات الاجتماعية كالانحراف والجريمة والبطالة والإخفاق المدرسي، بمعالجة العوامل المؤدية إلى هذه الظواهر، والحدِّ من انعكاساتها السلبية على الصحة النفسية للطفولة والشباب، وعلى توازن الأسرة والمحتمع.
ومن أبرز المبادئ الواردة بهذه المجلة "والتي احتوت على تسعة عشر فصلًا":
- اعتبار مصالح الطفل الفضلى في كل الإجراءات والقرارات التي تتخذ تطبيقًا لأحكام المجلة وفق ما يضبطه الفصل الرابع من المجلة.
- إيلاء أهمية قصوى لمسئولية الوالدين، وتشريكهما بصفة فعّالة في كل مراحل التدخل التي قررتها المجلة في فصولها 7 - 8 - 9.
- احترام آراء الطفل، وتشريكه وجوبًا في كل التدابير الاجتماعية والقضائية التي تُتَّخَذُ لفائدته، كما ضبط ذلك الفصل 9 - 10 من المجلة.
- حق الطفل الذي تعلقت به تهمة، في معاملة ملائمة لوضعه، تضمن كرامته وشرفه، كما أوصى المشرِّع بتغليب التدابير الوقائية والتربوية على غيرها من التدابير الزجرية، تيسيرًا لإعادة إدماجه اجتماعيًّا1.
- الحق في التعليم:
دعا الإسلام، باعتباره دين كتاب وحضارة، إلى إيلاء العلم والعلماء الدرجة المرموقة، ورفع منزلتها إلى مقامٍ عالٍ، حتى جعلهم ورثة الأنبياء، وهداة الأنام، يرجع إليهم الحاكم والمحكوم في بيان حقيقة الشرع والاستهداء بأحكامه.
وعلى هذه النظرة من التقديس والتبجيل، أورفت الحضارة الإسلامية بظلالها على العالم قرونًا من الدهر، وكانت لها المزية العظمى فيما وصلت إليه الأمم المتقدمة اليوم من إنجازات علمية وحضارية.
ولا يكون العلم إلّا بالتعلم، من أجل ذلك ازدهرت الحركة العلمية في الأوطان الإسلامية في عهودها المشرقة، وانتشرت دور التعليم والمكتبات في
1 انظر الفصل "12" والفصل "13" من مجلة الطفل التونسي وما بعدهما، وهي فصول تنص في مجملها على احترام الطفل في نفسيته وجسده، ومعالجة انحرافه بالطرق الوقائية التربوية، وإعادة إدماجه، في المجتمع، دون الحاجة إلى العقوبات الزجرية الردعية التي قد تنهك الطفل وتلحقه بصنف المجرمين.
كل مكان، وأقبل طلبة العلم بأعداد كبيرة ينهلون من العلم الديني والدنيوي، ويجلسون في حلقات التدريس حول مشائخهم وأساتذتهم يتلقون عنهم طارف العلم وتالده.
وفي الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، ومواعظ العلماء، من النصوص التي تحثّ على العلم وتدعو إليه، ما لا يحصره عدٌّ ولا ينتهي إلى حد، وكان أول ما افتتح به القرآن من الآيات والسور قول الله تبارك وتعالى في أول سورة العلق:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].
إن طلب العلم في الإسلام فريضة على الذكر والأنثى، تأثم الأمة بتركه والتهاون في الأخذ بأسبابه، والنصوص من قرآنٍ وسنة، تتعاضد كلها في الترغيب في العلم، وترتيب الجزاء العظيم عليه، حتى سمت به إلى درجة العبادة، بل فضَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم العالم على العابد، في قوله:"فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" 1، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
إن التعليم يُعَدُّ من الحقوق الأساسية التي لا غنى عنها في كل عصر ومصر، والغرض منه تربية الإنسان منذ بواكير عمره في ملكاته النفسية والذهنية، وتنمية مداركه العقلية، وتهذيب مواهبه الفطرية وميولاته الطبيعية، معاضدة لدور الأسرة والمجتمع في إعداد أجيال المستقبل، وتأهيلهم نفسيًّا وعقليًّا للاضطلاع بالمسئوليات التي ستوكل إليهم.
ولقد أختارت عديد الدول في العالم اليوم، أن يكون التعليم إجباريًّا، غايتها في ذلك القضاء على الأمية، التي كانت لعهد غير بعيد مستفحلة في عديد الأوساط والشرائح الاجتماعية، مما يعوق قدرة الشعوب على بلوغ أهدافها في التنمية والتقدم.
وإن تخلّفت بعض الشعوب العربية والإسلامية في اللحاق بركب الأمم
1 رواه الترمذي وحسنه.
المتحضرة في هذا المجال وغيره، وعذرها في ذلك أنها لم تتخلص من الرواسب الاستعمارية إلّا في زمن متأخر "النصف الثاني من القرن العشرين"، فإنها لم تتوان عن استجماع قواها وقدراتها المتاحة من أجل تعميم التعليم على أبنائها، وتطوير مناهجه بإدخال العلوم الصحيحة التي لا بُدَّ منها للاستجابة للحاجيات المتنامية للمجتمعات المعاصرة.
وتونس، من هاته البلدان التي لم تدَّخر جهدًا، رغم قلة ذات اليد، ومحدودية الإمكانيات، في صرف كامل طاقاتها منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى تعميم التعليم ونشره، ويحدوها في ذلك طموح لا متناهٍ إلى التعويل على الرأسمال البشري كرصيد لازم لأي تنمية مرتجاة، وتقدُّمٍ مأمول؛ فالمدرسة من منظور تونسي، هي المحضن أو الرحم الذي تزرع فيه بذور الشخصية المطلوب تشكليها، وتتخلق وتنمو به قابليات الإنسان، وتكوّن شخصيته، وتنمي مهاراته، وتصوغ ثقافته، ولقد نجحت تونس، في رفع هذا الرهان أيما نجاح، واستطاعت أن تخطو خطوات عملاقة نحو الاعتماد على الكفاءات الوطنية، وأن تفيد بذلك غيرها من الدول العربية والإسلامية الشقيقة، بما لها من الخبرات الجيدة في شتّى الاختصاصات التعليمية والخبرات الفنية والتكنولوجية.