الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقام الثاني في العلامات التي يُعرف بها، والأمارات الدالة على قرب خروجه عليه السلام
أما العلامات:
فمنها: أن معه قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيفه، ورايته من مِرْطٍ مُخَملّة مُعلّمة سوداء، فيها حُجَرٌ لم تُنشر منذ توفي صلى الله عليه وسلم، ولا تُنشر حتى يخرج المهدي، مكتوب على رايته: البيعة لله.
ومنها: أن على رأسه غَمامةً فيها منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه، وتخرج منها يَدٌ تشير نحو المهدي بالبيعة.
ومنها: أنه يَغْرِسُ قضيبًا يابسًا في أَرضٍ يَابسةٍ فيخضرُ ويُورِق.
ومنها: أنه يُطلب منه آية، فَيُومئ بيده إلى طَيْرٍ في الهواء فيسقط على يده.
ومنها: أنه يُخسفُ بجيش يقصدونه بالبيداء بين المدينة ومكة؛ كما سيأتي.
ومنها: أنه ينادي منادٍ من السماء: أيها الناس؛ إن الله قد قطع عنكم الجبارين والمنافقين وأشياعهم، وولاكم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالحقوا بمكة؛ فإنه المهدي، واسمه: أحمد بن عبد الله.
وفي رواية: وولاكم الجابر خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الحقوه بمكة؛ فإنه المهدي، واسمه: محمد بن عبد الله.
ومنها: أن الأرض تُخرج أفلاذ كبدها مثل الأسطوانات من الذهب.
ومنها: غنى قلوب الناس، وكثرة بركات الأرض؛ كما مر في سيرته عليه الصلاة والسلام.
ومنها: أنه يُخرج كنز الكعبة المدفون فيها، فيقسمه في سبيل الله تعالى. رواه نُعيم عن عليّ كرّم الله وجهه.
ومنها: أنه يَستخرِجُ تابوت السكينة من غار أنطاكية، أو من بحيرة طبرية، فيُخرج حتى يُحمل فيوضع بين يديه ببيت المقدس، فإذا نظر إليه اليهود أسلموا إلَّا قليلًا منهم.
ومنها: أنه يَنْفَلِقُ له البحر كما انفلق لبني إسرائيل؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه تأتي الرايات السود من خراسان، فيرسلون إليه بالبيعة.
ومنها: أنه يجتمع بعيسى ابن مريم عليهما السلام، ويُصلي عيسى خلفه.
ومنها: ما مر في حليته من علامة النبي صلى الله عليه وسلم، وثقل اللسان، وغير ذلك.
* وأما الأمارات الدالة على قرب خروجه:
فمنها: أنه ينشق الفرات، فينحسر عن جبل من ذهب.
ومنها: أنه ينكسف القمر أول ليلة من رمضان، والشمس ليلة النصف منه، وهذان لم يكونا منذ خلق الله السماوات والأرض.
ومنها: خُسوف القمر مرتين في شهر رمضان، وهذا لا يُنافي الأول؛ كما هو واضح.
ومنها: طُلوع القرن ذي السنين.
ومنها: طُلوع نجم له ذنب يُضيءُ.
ومنها: ظُهور نار عَظيمةٍ من قبل المشرق ثلاث ليال، أو سبع ليال.
ومنها: ظُهور ظُلمةٍ في السماء.
ومنها: حُمرةٌ في السماء، وتُنشر في أفقها، ليست كحمرة الأفق.
ومنها: نِداءٌ يَعُمُّ جميع أهل الأرض، ويسمع أهل كل لغة بلغتهم.
ومنها: خَسفُ قرية بالشام، يقال لها: حَرَستا.
ومنها: منادٍ يُنادي من السماء باسم المهدي، فَيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب
حتى لا يبقي رَاقدًا إلَّا استيقظ، ولا قائِمًا إلَّا قعد، ولا قاعِدًا إلا قام على رجليه.
وهذا غير الصوت الآتي بعد خروجه كما مر.
ومنها: عِصَابةٌ في شوال (1)، ثم مَعْمعةٌ في ذي القعدة، ثم حَربٌ في ذي الحجة، ونهب الحاج، وقتلهم حتى تسيل الدماء على جمرة العقبة.
وبعض هذه المذكورات من نجم ذي ذنب والحُمرة والسواد، قد وقع.
والمعمعة: صوت الحرب واليوم الشديد الحر، والمراد منها الفتن.
ومنها: أنه يكون اختلاف، وزلازل كثيرة.
ومنها: أنه يُنادي مُنادٍ من السماء: ألا إن الحق في آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويُنادي مُنادٍ من الأرض: ألا إن الحق في آل عيسى وآل العباس، وإن الأول نداء المَلك، وإن الثاني نداء الشيطان.
ومنها: ما يأتي مما نذكره من الفتن الواقعة قبل ظهوره.
(1) ذكره السيوطي في "اللآلئ"(ص 540) وفي "الموضوعات"، وفي "مجمع الزوائد"(7/ 310). (ز).
المقام الثالث في الفتن الواقعة قبل خروجه
ولنسقها مساقًا واحدًا تقريبًا إلى فهم العوام المقصودين بهذه الرسالة، وتكميلًا للفائدة، فنقول:
من الفتن التي قبله: أنه يَنْحَسِرُ الفرات عن جبل من ذهب (1)، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، واجتمع ثلاثة كلهم ابن خليفة يقتتلون عنده، ثم لا يصير إلى واحد منهم، فيقول مَنْ عنده: والله لئن تركت الناس يأخذون منه ليذهبن بكليته. فيقتتلون عليه حتى يُقتل من كل مئة تسعة وتسعون. وفي رواية: فيقتل تسعة أعشارهم.
وفي رواية: من كل تسعة سبعة، فيقول رجل: لعلي أكون أنا أنجو.
وفي "الصحيحين" وغيرهما: قال صلى الله عليه وسلم: "فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا".
ومنها: خروج السفياني، والأبقع، والأصهب، والأعرج الكندي:
أما السفياني (2): فعن أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه؛ أنه من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان.
ويزيد هذا هو أخو معاوية بن أبي سفيان: صحابي أسلم مع أبيه وأخيه يوم الفتح، مات في خلافة عمر رضي الله عنه.
والسفياني من ولده، وهو رجل ضخم الهامة، بوجهه آثار الجدري، وبعينه نُكتة بيضاء، هكذا ورد في حِلْيتهِ عن علي كرّم الله وجهه.
وأنه يخرج من ناحية مدينة دمشق، في وَادٍ يقال له: وادي اليابس.
(1) كذا في "البذل"(17/ 233)، وسيأتي أحاديثه (ص 218). (ز).
(2)
ذكر شيئًا من أحواله ابن حجر في "الفتاوى الحديثية"(ص 28، ص 31). (ز).
يُؤتى في منامه فيقال له: قُم فاخرج. فيقوم فلا يجد أحدًا، ثم يُؤتى الثانية فيقال له مثل ذلك، ثم يقال له في الثالثة: قم فاخرج فانظر إلى باب دارك. فينحدر في الثالثة إلى باب داره، فإذا هو بسبعة نفر أو تسعة، معهم لواء فيقولون: نحن أصحابك، مع رجل منهم لواء معقود لا يعرفون في لوائه النصر، يستفرش يديه على ثلاثين ميلًا لا يرى ذلك العَلَمَ أَحدٌ إلَّا انهزم.
فيخرج فيهم، ويتبعهم نَاسٌ من قريات الوادي، وبيد السفياني ثلاث قُضبان لا يقرع بها أحدًا إلَّا مات، فيسمع به الناس، فيخرج صاحب دمشق فيلقاه ليقاتله، فإذا نظر إلى رايته انهزم، فيدخل السفياني في ثلاث مئة وستين راكبًا دمشق، وما يمضي عليه شهر حتى يجتمع عليه ثلاثون ألفًا من كلب، وهم أخواله.
وعلامة خروجه: أنه يُخسَفُ بقرية من قُرى دمشق، ولعلها حَرسْتَا، ويسقط الجانب الغربي من مسجدها.
ثم يخرج الأبقع والأصهب، فيخرج السفياني من الشام، والأبقع من مصر، والأصهب من الجزيرة؛ أي: جزيرة العرب لا جزيرة ابن عمر، فإنها داخلة في جزيرة العرب.
ويخرج الأعرج الكندي بالمغرب، ويدوم القتال بينهم سَنةً، ويغلب السفياني على الأبقع والأصهب.
ويسير صاحب المغرب فيقتل الرجال، ويسبي النساء، ثم يرجع حتى ينزل الجزيرة إلى السفياني على قيس، فيظهر السفياني على قيس، وَيَحُوزُ ما جمعوا من الأموال، ويظهر على الرايات الثلاث.
تَنبيه
الأبقع، والأصهب، والأعرج، والمنصور، والحارث، والمهدي: صِفَاتٌ وألقاب، لا أسماء لهم، فَليُعْلم.
ثم يُقاتل الترك والروم بقرقيسيا فيظهر عليهم، ويفسد في الأرض، فيبقر بطون النساء، ويقتل الصبيان، ويهرب رجال من قريش إلى قسطنطينية، فيبعث إلى عظيم
الروم أن يبعث بهم في المجامع، فيبعث بهم إليه، فيضرب أعناقهم على باب المدينة بدمشق، ثم ينفتق عليهم فَتقٌ من خلفهم، فيرجع إليهم ويقتل طائفة منهم، فينهزمون حتى يدخلوا أرض خراسان، وتُقبل خيل السفياني في طلبهم كالليل والسيل، فلا تمر بشيء إلَّا أهلكته وهدمته، فيهدم الحصون، وَيُخرّب القلاع حتى يدخل الزوراء -وهي: بغداد- فيقتل من أهلها مئة ألف، ثم يسير إلى الكوفة، فيقتل من أهلها ستين ألفًا، ويسبي النساء والذراري، ويبث جنوده في البلاد، فتبلغ عامة المشرق من أرض خراسان، ويطلبون أهل خراسان في كل وجه، ويبعث بعثًا إلى المدينة، فيأخذون من قدروا عليه من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتلون من بني هاشم رجالًا ونساء، ويُؤتى بجماعة منهم إلى الكوفة، وتفترق بقيتهم في البراري، فعند ذلك يهرب المهدي والمُبَيض -وفي رواية: والمنصور- إلى مكة في سبعة أنفس، ويستخفون هناك، فيرسل صاحب المدينة إلى صاحب مكة: إذا قدم عليكم فلان وفلان -يكتب أسماءهم- فاقتلوهم. فَيُعظِم ذلك صاحب مكة، ثم يتآمرون بينهم، فيأتونه ليلًا ويستجيرون به، فيقول: اخرجوا آمنين. فيخرجون، ثم يبعث إلى رجلين منهم فيقتل أحدهما والآخر ينظر إليه، ويقتلون النفس الزكية بين الركن والمقام، فعند ذلك يَغْضَبُ الله ويَغْضَبُ أهل السماوات، ثم يرجع الآخر إلى أصحابه فيخبرهم، فيخرجون حتى ينزلوا جبلًا من جبال الطائف، فيقيمون فيه ويبعثون إلى الناس، فينساب إليهم ناسٌ، فإذا كان كذلك غزاهم أهل مكة، فيهزمون أهل مكة، ويدخلون مكة، ويقتلون أميرهم، ويكونون بمكة إلى خروج المهدي.
تَنبيه
ورد عن أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال لصاحب هذا الأمر -يعني: المهدي عليه السلام غيبتان؛ إحداهما تطول حتى يقول بعضهم مات، وبعضهم: ذهب، ولا يَطّلِعُ على موضعه أَحدٌ؛ من ولي ولا غيره، إلا المولى الذي يلي أمره.
وهاتان الغيبتان -والله أعلم- ما مر آنفًا، أنه يختفي بجبال الطائف، ثم يَنْسَاب إليه ناسٌ، ويظهر معهم، ويهزم أهل مكة، ثم إنه يختفي بجبال مكة، ولا يَطّلِعُ عليه أَحدٌ.
ويؤيده: ما رُوي عن أبي جعفر؛ محمد بن علي الباقر أنه قال: يكون لصاحب هذا الأمر غَيبَةٌ في بعض هذه الشعاب. وأومأ بيده إلى ناحية ذي طوى.
ويُلائمه: قول أبي عبد الله الحسين المار حتى يقول بعضهم: مات
…
إلخ؛ لأن الاختفاء بعد الظهور هو الذي يُظن فيه الموت.
وأما ما ذهب إليه الإمامية الشيعة من أنه محمد بن الحسن العسكري، وأنه غاب ثم ظهر لبعض خواص شيعته، ثم غاب ثانيًا، وأنه يراه خواص شيعته: فيرده أن الظهور لبعض الخواص لا يُسمى ظُهورًا.
وقوله في رواية الحسين: لا يطلع على موضعه أَحدٌ من ولي ولا غيره. فإن هذا يُنافي قولهم: يعرفه خواص شيعته، وكونه بناحية ذي طوى؛ لأنهم يقولون: غاب بسردَابٍ بِسُرَّ من رأى. والله أعلم.
ويحج الناس في هذه السنة؛ أعني: سنة خروجه من غير أمير، فيطوفون جميعًا فإذا نزلوا مِنَى أخذ الناس كالكَلِبْ، فيثور القبائل بعضهم على بعض فيقتتلون، ويُنْهبُ الحاج، وتسيل الدماء على جمرة العقبة، ويأتي سبعة رجال علماء من آفاق شتى على غير ميعاد، وقد بايع لكل منهم ثلاث مئة وبضعة عشر، فيجتمعون بمكة، ويقول بعضهم لبعض: ما جاء بكم؟ فيقولون: جئنا في طلب هذا الرجل الذي ينبغي أن تَهدَأَ على يديه الفتن، ويفتح له قسطنطينية، قد عرفناه باسمه واسم أبيه وأمه.
تَنبيه
لم أقف على اسم أُمِّ المهدي بعد الفحص والتَّتَبُّع، فلعلهم يعرفون اسمه من طريق الكشف، لا من طريق النقل، والله أعلم.
فيتفق السبعة على ذلك، فيطلبونه بمكة فيقولون: أنت فلان ابن فلان؟ فيقول: بل أنا رجل من الأنصار، فينفلت منهم، فيصفونه لأهل الخبرة فيه والمعرفة به، فيقولون: هو صاحبكم الذي تطلبونه وقد لحق بالمدينة. فيطلبونه بالمدينة فيخالفهم إلى مكة، وهكذا إلى ثلاث مرات.
ويسمع صاحب المدينة بطلب الناس للمهدي، فيجهز جيشًا في طلب الهاشميين
بمكة، ويأتي أولئك السبعة فيصيبونه بالثالثة بمكة عند الركن، ويقولون: إِثْمُنا عليك، ودِماؤُنا في عنقك إن لم تَمُدّ يدك نبايعك، هذا عسكر السفياني قد توجه في طلبنا عليهم رجلٌ من حزم. ويهددونه بالقتل إن لم يفعل.
فيجلس بين الركن والمقام ويمد يده فيُبايع، فيظهر عند صلاة العشاء مع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقميصه وسيفه.
فإذا صَلّى العشاء أتى المقام فصلى ركعتين، وَصَعِد المنبر، ونادى بأعلى صوته: أذكركم الله أيها الناس ومقامكم بين يدي ربكم.
ويخطب خطبة طويلة يرغبهم فيها في إحياء السُّنن، وإماتة البِدَع، فيظهر في ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا عدد أهل بدر، وعدد أصحاب طالوت حين جاوزوا معه النهر، من أبدال الشام، وعصائب أهل العراق، ونجائب مصر، على غير ميعاد قُزَعًا كَقُزع الخريف، رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار.
ويأتيهم جيش صاحب المدينة فيقاتلونه، فيهزمونهم ويتبعونهم حتى يدخلون المدينة ويستنقذونها من أيديهم.
تَنبيه
لا يشكل إتيانهم المدينة مرتين أو ثلاثًا مع وقوع البيعة ليلة عاشوراء، وإن المدة بعد انقضاء المناسك إلى ليلة عاشوراء قَريبٌ من عشرين يومًا، أو خمسة وعشرين يومًا، ومسافة ما بين الحرمين عشر مراحل أو أكثر بالسير المعتاد، مع ما يتخلل ذلك من طلبهم له في كل من الحرمين في كل مرة؛ إذ يمكن الإتيان على الركاب في خمسة أيام، فيمكن تكرره في خمس وعشرين، على أنهم كُلّهم أولياء فيمكن أن تُطوى لهم الأرض، أو يكونوا من أصحاب الخطوات، والله أعلم (1).
ويبلغ السفياني خروجه، فيبعث إليهم بعثًا من الكوفة، فيأتون المدينة فيستبيحونها ثلاثًا، ويقتلون قتلًا في الحرة عنده كضربة سوط، ويقصدون المهدي، فإذا خرجوا
(1) منشأ هذا القول من المُصَنِّف عدم تصور التطور في وسائل النقل السريعة وتسهيل الطرقات، وهذا مشاهد في عصرنا الحاضر، والله أعلم بما سيستجد مستقبلًا.
من المدينة وكانوا ببيداء من الأرض خُسِفَ بأولهم وآخرهم، ولم يَنْجُ أوسطهم، فلا ينجو منهم إلَّا نَذيرٌ إلى السفياني، وبشيرٌ إلى المهدي، فلما سمع المهدي بذلك قال: هذا أوان الخروج. فيخرج ويمر بالمدينة، فيستنقذ من كان أسيرًا من بني هاشم، وتُفتح له أرض الحجاز كلها.
ولنرجع إلى حكاية أهل خراسان: ثم يخرج رجل من وراء النهر يقال له: الحارث وحراث، على مقدمته رجلٌ يقال له: المنصور (1) يمكِّن لآل محمد صلى الله عليه وسلم، كما مَكّنت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجب على كل مؤمن نصره، فهذا الرجل يَحتَمِل أن يكون هو الهاشمي الآتي ذكره، ويلقب بـ: الحارث؛ كما يلقب المهدي بـ: بالجابر، ويَحتمل أن يكون غيره، ويثور أهل خراسان بعسكر السفياني، ويكون بينهم وقعات، وقعة بتونس، ووقعة بدولاب الري، ووقعة بتخوم الدرنيخ.
فإذا طال عليهم قتالهم إياه بايعوا رجلًا من بني هاشم بكفه اليمنى خَالٌ، سهل الله أمره وطريقه، هو أخو المهدي من أبيه أو ابن عمه، وهو حينئذ بآخر المشرق، فيخرج بأهل خراسان وطَالَقان ومعه الرايات السود الصغار، وهذه غير رايات بني عباس، على مُقَدّمته رَجلٌ من تميم من الموالي، رَبعَةٌ أصفر قليل اللحية كوسج، واسمه شعيب بن صالح التميمي، يخرج إليه في خمسة آلاف، فإذا بلغه خروجه شايعه وصيره على مقدمته، لو استقبلته الجبال الرواسي لهدها، يمهد الأمر للمهدي؛ كما مهدت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمعتم براياتٍ سوداء أقبلت من خراسان فَاْتوها ولو حبوًا على الثلج"(2).
(1) وحكى القاري (5/ 184): قيل: إن المراد أبو منصور الماتريدي، وقيل: الخضر. والحديث أخرجه أبو داود (ز).
(2)
فقد أخرج معناه في "المشكاة" برواية أحمد، عن ثوبان رضي الله عنه، قال القاري (5/ 185):"يحتمل أن يكون السواد كناية عن كثرة العساكر، والظاهر أنها عساكر الحارث والمنصور". اهـ
وأخرجه الترمذي برواية أبي هريرة رضي الله عنه (2/ 56)(ز).
وعن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: لو كنت في صندوق مُقفلٍ فاكسر ذلك القفل والصندوق والحق بها.
وفي رواية: فإنَّ فيها خليفة الله المهدي -أي: فيها نصره-، وإلَّا فهو حينئذ بمكة، كما مر.
فيلتقي هو وخيل السفياني، فيقتل منهم مَقتلةٌ عظيمة ببيضاء اصطخر حتى تطأ الخيل الدماء إلى أرساغها، ثم يأتيه جنود من قبل سجستان عظيمة عليهم رجلٌ من بني عدي، فيظهر الله أنصاره وجنوده.
تَنبيه
هكذا الروايات، وهذه الجنود يَحتَمِل أن تكون مددًا للهاشمي، فالمعنى: فيظهر الله أنصاره عليهم. والله أعلم.
ثم تكون وقعةٌ بالمدائن بعد وقعة الري، وفي عاقرقوقا وقعة صلبة يُخبر عنها كل ناج، وَتُقْبِلُ الرايات السود حتى تنزل على الماء. هكذا أطلق في الحديث، ولعله ماء دجلة.
فيبلغ من في الكوفة من أصحاب السفياني نزولهم هناك فيهربون، ثم ينزل الكوفة حتى يستنقذ من فيها من بني هاشم، ثم يخرج قَومٌ من سواد الكوفة يقال لهم: العَصَبْ، ليس معهم سلاحٌ إلَّا قليل، وفيهم بعض أهل البصرة قد تركوا أصحاب السفياني، فيستنقذون ما في أيديهم من سبي الكوفة، وتبعث الرايات السود بيعتهم إلى المهدي، ويُقبِلُ المهدي من الحجاز، والسفياني من الكوفة -بعد أن يبلغه خبر خَسْف جيشه، ولا يهوله ذلك- إلى الشام كأنهما فرسا رهان، فيسبقه الصخري (1)، فيقطع بعثًا آخر من الشام إلى المهدي، فيدركون المهدي بأرض الحجاز، فيبايعونه بيعة المهدي، ويُقبلون معه إلى الشام.
(1) هو: السفياني، ولعل سبب تسميته بذلك لأنه يُذبح على صخرة عند الكنيسة التي ببطن الوادي؛ كما سيأتي (ص 194).
تَنبيه
في بعض الروايات: أنَّ الجيش الذي يُخسف بهم يبعث من الشام، وفي بعضها من العراق، ولا منافاة كما قال ابن حجر؛ لأنَّ البعث من العراق، لكنهم لما كانوا من أهل الشام نُسِبُوا إليها في الروايات الأخرى.
وفي رواية: أنَّ المهدي يُقاتل هذا الجيش الثاني في عدد أهل بدر، وأصحاب المهدي يومئذ جُنَّتهم البرادع، فيسمع يومئذ صوت من السماء: ألا إنَّ أولياء الله أصحاب فلان. يعني: المهدي، فتكون الدَّبُرةَ على أصحاب السفياني، فيقتلون لا يبقى منهم إلَّا الشريد، فيهربون إلى السفياني فيخبرونه.
ويمكن الجمع بأنَّ بعضهم يُبايعه، وبعضهم يُقاتله، فينهزمون، أو أن الذين يقاتلونه هم الذين يبعثهم صاحب المدينة الأمير من قبل السفياني إلى مكة؛ كما مرت الإشارة إليه.
ويُؤيده: أنه يُقاتلهم في عدد أهل بدر، وأن جُنتهم يومئذ البرادع، فإنَّ هذه الصفات تناسب حالهم عند ابتداء البيعة.
وأما بعد الاستيلاء على أرض الحجاز فعسكره كثير. والله أعلم.
ثم إن السفياني يُفسد في الأرض، ويُظهر الكفر حتى إنه يُطاف بالمرأة وتُجامع نهارًا في مسجد دمشق على مجلس شُربٍ، حتى تأتي فخذ السفياني فتجلس عليه وهو في المحراب قاعد، فيقوم إليه رَجُلٌ مُسلمٌ من المسلمين، فيقول: ويحكم أكفرتم بعد إيمانكم؟ ! إن هذا لا يحل. فيقوم إليه فَيَضرب عُنقه في المسجد، ويقتل كل من شايعه.
فعند ذلك يُنادي مُنادٍ من السماء: أيها الناس؛ إن الله قد قطع عنكم الجبارين والمنافقين وأشياعهم، وولاكم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالحقوا بمكة؛ فإنه المهدي واسمه: أحمد بن عبد الله.
ويسير المهدي بالجيوش حتى يصير بوادي القُرى، وهو من المدينة على مرحلتين إلى جهة الشام في هدوء ورفق، ويلحقه هناك ابن عمه الحسني في اثني عشر ألفًا،
فيقول له: يا بن عم؛ أنا أحق بهذا الأمر منك، أنا ابن الحسن، وأنا المهدي. فيقول له المهدي: بل أنا المهدي. فيقول الحسني: هل لك من آية فأبايعك؟ فَيومئ المهدي عليه السلام إلى الطير فيسقط على يديه، ويغرس قضيبًا يابسًا في بقعة من الأرض فيخضر ويورق. فيقول الحسني: يا بن عمي؛ هي لك.
تَنبيه
في هذا الحديث فائدةٌ، وإشكال:
أما الفائدة: فإنها تدل على أن المهدي من أولاد الحسين، وأن ابن عمه هذا حسني، وأنه يظن أن الخلافة في بني الحسن حيث يقول: أنا ابن الحسن.
ومستنده في هذه الدعوى -والله أعلم- أمران:
أحدهما: أن الحسن اسْتُخلفَ؛ فيكون أولاده أحق بها.
الثاني: أنه نزل عنها حقنًا لدماء المسلمين، فعوضه الله الخلافة في أولاده.
وكلا الأمرين مُعارَضٌ:
أما الأول: فلأن بيعة الحسن من بعض الناس؛ وهم أهل العراق والمشرق واليمن، دون أهل الشام والمغرب ومصر، وقد بايع بعضهم للحسين أيضًا.
وأما الثاني: فلأن الحسن قد فَوّتَ حقه بعد ما ناله، وأما الحسين فلم ينل ما أراد، فحقه باقٍ، فأعطاه الله في أولاده.
وأما الإشكال: فهو أن هذا الحسني إن كان الذي قدم بالرايات السود فقد مر أنه بعثَ بالبيعة من الكوفة، وأنه لا يَقدمُ الحجاز، وإنما يلقاه ببيت المقدس.
وإن كان غيره فكيف ينازعه بعد أن بايعه أهل الحجاز كلها، وبايعه أهل المشرق والعراق؟
والجواب: أنه إن قلنا إن القادم بالرايات أخوه؛ كما في بعض الروايات فهذا غيره، وحينئذ فوجه دعواه: أن البيعة للمهدي من أهل البيت كائنًا من كان، فهي بيعةٌ للمتصف بهذا الوصف لا لشخصٍ بعينه فيدعي أن البيعة له لأنه المهدي، لا لأنه ينازعه في الخلافة، فإذا ظهر له أنه ليس بمهدي بايعه.
وإن قلنا: إنه ابن عمه: فإن كان غير هذا الحسني فالجواب ما مر. وإن كان هو فمعنى ملاقاته أنه يُرسل إليه جماعة اثني عشر ألفًا إمدادًا واحتياطًا أن لا يكون هو المهدي، فينازعوه على الخلافة ويُؤمر عليهم واحدًا، ويأمره بأن يمتحنه ويوكله في البيعة، فيقول له: إن كان هو المهدي فبايعه عني، وإن كنت أنا المهدي فخذ لي منه البيعة، فيكون بعث البيعة على التردد.
فلما بايعوه صح أن يقال: بعثوا له بالبيعة. وأن يقال: لقيه مجازًا.
هذا ما ظهر لي في هذا المقام، والله أعلم.
فيقبل المهدي حتى إذا انتهى إلى حد الشام الذي بين الشام والحجاز فيقيم بها، ويقال له: انفذ. فيكره المجاز، ويقول: أنا أكتب إلى ابن عمي -يعني: الصخري- فإن خلع طاعتي فأنا صاحبكم. فإذا أتاه كتاب المهدي قال أصحابه: إن هذا المهدي قد ظهر لتبايعنه أو لنقتلنك. فيبايعه ويسير إليه حتى ينزل بيت المقدس، ولا يترك المهدي بيد رجل من أهل الشام فترًا من الأرض إلَّا ردها إلى أهل الذمة، ورد المسلمين جميعًا إلى الجهاد، ثم يخرج رجل من كلب يقال له: كنانة، بعينه كوكب، في رهطٍ من قومه حتى يأتي الصخري فيقول: بايعناك ونصرناك، حتى إذا مَلكت بايعت هذا الرجل. ويعيرونه فيقولون: كساك الله قميصًا فخلعته. فيقول: ما ترون، أنقض العهد؟ فيقولون: نعم، فلنقاتلن، لا تبقى عامرية أمها أكبر منك إلَّا لحقتك، لا يتخلف عنك ذات خف ولا ظلف، فيرتحل وترحل معه عامر بأسرها.
وفي رواية: أنه ينقض العهد، ويستقيله البيعة بعد مضي ثلاث سنين من بيعته إياه، ويوجه إليهم المهدي راية، وأعظم رايةٍ في زمان المهدي مئة رجل.
فتصف كلب خيلها، ورجلها، وإبلها، وغنمها، فإذا تسامت الخيلان ولت كلب أدبارها فيقتلونهم ويسبونهم حتى تباع العذراء منهم بثمانية دراهم، ويؤخذ الصخري -أي: السفياني- فيؤتى به أسيرًا إلى المهدي، فَيُذْبح على الصخرة المعترضة على وجه الأرض عند الكنيسة التي ببطن الوادي على طرف درج طور زيتا المقنطرة التي على الوادي؛ كما تُذْبَحُ الشاة.
قال صلى الله عليه وسلم: "الخائب من خاب يومئذ من غنيمة كلب ولو بعقال، قيل: يا رسول الله؛ كيف يغنمون أموالهم ويسبون ذراريهم وهم مسلمون؟ قال صلى الله عليه وسلم: يكفرون باستحلالهم الخمر والزنا".
ويأتي الهاشمي بالرايات السود وسيفه على عاتقه ثمانية أشهر.
وفي رواية: ثمانية عشر شهرًا، يَقتل وَيُمَثّلُ حتى يقول الناس: معاذ الله أن يكون هذا من ولد فاطمة، ولو كان لرحمنا.
يغريه الله ببني عباس وبني أمية، فيكون لهم وقعةٌ بأرضٍ من أرض نصيبين، ووقعة بحران وشعارهم: أَمِت أَمِت -وفي رواية: بِكُشْ بِكُشْ. والمعنى واحد- حتى يُسلموها إلى المهدي.
تَنبيه
في بعض الروايات: يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر، وفي بعضها: ثمانية عشر شهرًا، وفي رواية: اثنين وسبعين شهرًا؛ وهي مدة ست سنين.
وفي بعض الروايات: أنه يُسَلّمُ الرايات إلى المهدي ببيت المقدس.
وفي رواية: فلا يبلغه حتى يموت.
وفي رواية: فتلتقي بعض رايات الهاشمي مع خيل السفياني، فيكون بينهم مقتلة عظيمة وتنهزم خيل السفياني، ثم تكون الغلبة للسفياني فيهرب الهاشمي، ويأتي التميمي مُستخفيًا إلى بيت المقدس يُمَهّد للمهدي إذا خرج للشام.
وطريق الجمع بين الروايات الأُوَل: أن اثنين وسبعين باعتبار جميع مدته.
ويَدُلُّ له ما في بعض الروايات: "إن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً وتشريدًا وتطريدًا حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون، فينصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يسلموه إلى المهدي".
وثمانية عشر باعتبار ما بعد مدة قتاله مع خيل السفياني، واجتماع شعيب بن صالح به.
وثمانية أشهر باعتبار مدة ما بعد نزوله الكوفة، وبعثه بالبيعة إلى المهدي.
وهذا جمعٌ حسن لا بأس به.
وطريق الجمع بين الروايات الأخيرة: وهو أن يقال -على بعد-: إن ضمير "يموت" راجع إلى السفياني؛ أي: فلا يلقى الهاشمي المهدي حتى يموت السفياني أو يرجع إليه، ويكون القادم بالرايات التميمي، ونسبته إلى الهاشمي مجاز للسبب، أو أنه يُوصل الرايات ويفتح الشام، ويموت قبل اجتماعه به بقليل.
على أن روايات قدومه بالرايات، ووصوله إليه أكثر وأشهر، فتُقدّم عند عدم إمكان الجمع، وإنما تتساقط إذا تعارضت، وكذلك روايات النصر والغلبة أكثر من روايات الهزيمة، فَتُقدّم، ولو جُمعَ فوجه الجمع: أنه ينهزم في بعض الوقعات، ثم تكون له الغلبة بعد ذلك، والله أعلم.
ثم تتمهد الأرض للمهدي، ويلقي الإسلام بجرانه، ويدخل في طاعته ملوك الأرض كلهم، ويبعث بعثًا إلى الهند فتفتح ويؤتى بملوك الهند إليه مغلولين، وتنقل خزائنها إلى بيت المقدس فتجعل حِليةً لبيت المقدس، ويمكث في ذلك سنين.
ذكر الملحمة الكبرى
وذلك أن بعد هلاك السفياني يُهَادِنون الروم صُلحًا أمنًا.
وفي بعض الروايات: أن مدة المهادنة تسع سنين، حتى يغزو المسلمون وهم عدوًا من وراءهم، فينتصرون ويغنمون وينصرفون حتى ينزلوا بمرج ذي تلوم، وهو موضع.
فيقول قائلٌ من الروم: غَلَبَ الصليب. ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب. فيتداولانها بينهم، فيثور المسلم إلى صليبهم وهو منهم غير بعيد، فيدقه، وتثور الروم إلى كاسر صليبهم فيقتلونه، وتثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العِصَابة من المسلمين بالشهادة، فَيُقْتلُونَ عن آخرهم.
فتقول الروم لملكهم: كفيناك شر العرب، وقتلنا أبطالها، فما تنتظر؟ فيجمعون في مدة تسعة أشهر مقدار حمل امرأة، فيأتون تحت ثمانين غاية.
وفي لفظ: فيسيرون بثمانين بندًا، والمعنى واحد.
تحت كل غاية أو بند اثنا عشر ألفًا، فينزلون بالأعماق أو بدابق، وهما موضعان قرب حلب وأنطاكية.
قال في "القاموس": العَمْق ويحرك: كُورةٌ بنواحي حلب. قال والأعماق: موضع بين حلب وأنطاكية مصب مياه كثيرة لا يجف إلَّا صيفًا، وهو العَمْقُ جُمِعَ بأجزائه. اهـ
فيخرج إليهم جَلَبٌ من أهل المدينة من خيار أهل المدينة يومئذ وهم الذين خرجوا مع المهدي، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا.
تَنبيه
(الغاية): -بالغين المعجمة، والياء؛ آخر الحروف-: الراية.
ويُروى بالباء الموحدة، وهي: الأَجمةُ من القصب، شَبَّه كثرة رماحهم بها.
و(الأعماق)، بالعين المهملة.
و(الدَّابق): بوزن الطابع؛ بكسر الباء وفتحها.
و(سبوا)، وروي بضم السين والباء على بناء المجهول، وبفتحهما على بناء المعلوم.
والمعنى على الأول: الذين سبيتموهم منا، وخرجوا عن ديننا، وصاروا يقاتلوننا.
وعلى الثاني: الذين سبوا أولادنا ونساءنا.
فينهزم من المسلمين ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح ثلث لا يفتنون أبدًا.
وفي رواية نُعيم بن حماد، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "يكون بين المسلمين وبين الروم هدنة وصلح، حتى يقاتلوا معهم عدوهم فيقاسمونهم غنائمهم،
ثم إن الروم يغزون مع المسلمين فارس، فيقتلون مُقَاتِلهم، ويسبون ذراريهم، فتقول الروم: قاسمونا الغنائم كما قاسمناكم. فيقاسمونهم الأموال وذراري الشرك، فتقول الروم: قاسمونا ما أصبتم من ذراريكم. فيقولون: لا نقاسمكم ذراري المسلمين أبدًا. فيقولون: غدرتم بنا. فترجع الروم إلى صاحب القسطنطينية فيقولون: إن العرب غدرت، ونحن أكثر منهم عددًا، وأتم منهم عدة، وأشد منهم قوة، فأمددنا نقاتلهم. فيقول: ما كُنت لأغدر بهم، ولقد كانت لهم الغلبة في طول الدهر علينا، فيأتون صاحب رومية فيخبرونه بذلك، فيوجه ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا في البحر، ويقول لهم صاحبهم: إذا أرسيتم بسواحل الشام فاحرقوا المراكب؛ لتقاتلوا عن أنفسكم. فيفعلون ذلك، ويأخذون أرض الشام كلها، برها وبحرها ما خلا مدينة دمشق والمُعْتَق، ويخربون بيت المقدس".
قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقلت: كم تسع دمشق من المسلمين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لتتسعنَّ على من يأتيها من المسلمين؛ كما يتسع الرحم على الولد"، قلت: وما المُعْتَق يا نبي الله؟ قال: "جبلٌ بأرض الشام من حمص على نهر يقال له: الأريط".
فيكون ذراري المسلمين في أعلى المعتق، والمسلمون على نهر الأريط يقاتلونهم صباحًا ومساء، فإذا أبصر صاحب القسطنطينية ذلك وجه في البر إلى قنسرين ثلاث مئة ألف، حتى تجيئهم مادة اليمن ألف ألف، أَلَّفَ الله بين قلوبهم بالإيمان، معهم أربعون ألفًا من حمير، حتى يأتوا بيت المقدس، فيقاتلون الروم فيهزمونهم، ويخرجونهم من جُنْدٍ إلى جند، حتى يأتوا قنسرين، تجيئهم مادة الموالي.
قلت: وما مادة الموالي يا رسول الله؟
قال: "هم عَتَاقتكُم، وهم منكم قوم يجيئون من قبل فارس، فيقولون: تعصبتم يا معشر العرب، لا يكون معكم أحدٌ من الفريقين، أتجتمع كلمتكم فنقاتل نزارًا يومًا والموالي يومًا؟ .
فيخرجون إلى المعتق وينزل المسلمون على نهر يقال له: كذا وكذا -يُعزى-، والمشركون على نهر يقال له: الرقية؛ وهو النهر الأسود، فيقاتلونهم، فيرفع الله
نصره عن العسكرين، وينزل الصبر عليهما، حتى يقتل من المسلمين الثلث، ويفر الثلث، ويبقى الثلث.
فأما الذين يقتلون: فشهيدهم؛ كشهيد عشرة من شهداء بدر، ويشفع الواحد من شهداء بدر بسبعين شهيدًا، ويفترقون ثلاثة أثلاث:
ثلثٌ يلحقون بالروم، ويقولون: لو كان لله بهذا الدِّين من حاجة لنصرهم.
ويقول ثلث وهم مُسْلِمةُ العرب: مروا حيث لا ينالنا الروم أبدًا، مروا بنا إلى البدو وهم الأعراب، سيروا بنا إلى العراق واليمن والحجاز، حيث لا يُغاثُ الروم.
وأما الثلث: فيمشي بعضهم إلى بعض فيقولون: الله الله فدعوا عنكم العصبية، ولتجتمع كلمتكم، وقاتلوا عدوكم، فإنكم لن تنصروا ما تعصبتم، فيجتمعون جميعًا يتبايعون على أن يقاتلوا حتى يلحقوا بإخوانهم الذين قتلوا.
فإذا أبصر الروم إلى من تحول إليهم ومن قتل، ورأوا قلة المسلمين قام رُوميٌّ بين الصفين ومعه بند في أعلاه صليب، فينادي: غَلبَ الصليب. فيقوم رجلٌ من المسلمين بين الصفين ومعه بندٌ وينادي: بل غلب أنصار الله، بل غلب أنصار الله وأولياؤه. فغضب الله على الذين كفروا من قولهم: غَلبَ الصليب.
فينزل جبريل عليه السلام في مئتي ألف من الملائكة ويقول: يا ميكائيل؛ أغث عبادي. فينزل ميكائيل في مئتي ألف من الملائكة، ويُنْزِلُ الله نصره على المؤمنين، ويُنْزِل بأسه على الكافرين، فَيُقْتلون ويهزمون.
ويسير المسلمون في أرض الروم حتى يأتوا عمورة وعلى سورها خلقٌ كثير يقولون: ما رأينا شيئًا أكثر من الروم! كم قتلنا وهرقنا دم أكثرهم في هذه المدينة! فيقولون: آمنونا على أن نُؤَدي إليكم الجزية. فيأخذون الأمان لهم، وتجتمع الروم على أداء الجزية؛ تجتمع إليهم أطرافهم فيقولون: يا معشر العرب؛ إن الدجال قد خالفكم إلى ذراريكم -والخبر باطلٌ- فمن كان فيهم منكم فلا يُلقين شيئًا مما معه، فإنه قوةٌ لكم على ما بقي.
فيخرجون فيجدون الخبر باطلًا، وتَثِبُ الروم على من بقي في بلادهم من العرب،
فيقتلونهم حتى لا يبقى بأرض الروم عربي ولا عربية ولا ولد عربي إلا قتل، فيبلغ ذلك المسلمين فيرجعون غَضَبًا لله، فيقتلون مقاتلهم، ويسبون ذراريهم، ويجمعون الأموال، ولا ينزلون على مدينة ولا حصن فوق ثلاثة أيام حتى يُفتح لهم.
وينزلون على الخليج حتى يفيض، فيصبح أهل القسطنطينية فيقولون: الصليب مدَّ لنا بحرنا، والمسيح ناصرنا. فيصبحون والخليج يابس، فتضرب فيه الأخبية، ويُحبس البحر عن القسطنطينية، فيقولون: الصليب مد لنا. ويُحيطُ المسلمون بمدينة الكفر ليلة الجمعة بالتحميد والتكبير والتهليل إلى الصباح، ليس فيهم نائم ولا جالس، فإذا طلع الفجر كَبّر المسلمون تكبيرةً واحدة، فيسقط ما بين البرجين، فتقول الروم: كنا نقاتل العرب، فالآن نقاتل ربنا، وقد هدم لهم مدينتنا، وخربها لهم. فيملؤون أيديهم، ويكيلون الذهب بالأترسة، ويقتسمون الذراري حتى يبلغ سهم الرجل ثلاث مئة عذراء، ويتمتعون بما في أيديهم ما شاء الله.
ثم يخرج الدجال حقًّا، ويَفْتَحُ الله القسطنطينية على يدي أقوام هم أولياء الله، يرفع الله عنهم الموت والمرض والسقم حتى ينزل عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام فيقاتلون معه الدجال".
أورد هذا الحديث بطوله السيوطي في "الجامع الكبير".
تَنبيه
قوله: "يكون بين الروم والمسلمين هُدنة حتى يقاتلوا معهم عدوهم": الضمير للروم؛ أي: حتى يقاتل المسلمون مع الروم عدو الروم، بدليل قولهم بعد هذا للمسلمين: قاسمونا الغنائم كما قاسمناكم. وفارس يكونون عدوًّا للمسلمين.
وهذا إما أن يقاتلوا المهدي وهم مسلمون؛ كما يقاتل بعض المسلمين بعضًا على الملك، وهو ظاهر قولهم:(لا نقاسمكم ذراري المسلمين)، أو أنهم يرجعون إلى الكفر، وهو ظاهر قوله:"فيقاسمونهم الأموال وذراري الشرك"، وهو المناسب للاستعانة بالروم عليهم، والروم كفارٌ؛ لعدم جواز الاستعانة بالكفار على المسلمين، وحينئذ فيكونون قد سبوا من أطراف بلاد المسلمين بعض الذراري.
ثم لما استولوا عليهم استردوا ذراريهم، وطلبت الروم منهم المقاسمة فيهم حيث صاروا في يد الكفار.
واستفيد من هذه الرواية: أن الروم تأتي من البحر، فلا يلزم من وصولهم دابق أو الأعماق -وهما بقرب حلب- استيلاؤهم على جميع بلاد المسلمين حتى يُظَنّ أن القسطنطينية التي الآن دار الإسلام دامت معمورة به إلى ساعة القيام ترجع دار الكفر والعياذ بالله؛ إذ المراد القسطنطينية الكبرى، كما سيأتي.
نعم؛ يُشْكل عليه قوله الآتي: "فإذا أبصر صاحب القسطنطينية ذلك وجه في البر ثلاث مئة ألف إلى قنسرين"، إلَّا أن يقال: إن صاحب القسطنطينية يُرسلهم مددًا للمسلمين، ولا ينافيه قوله الآتي:(فلما رأوا قِلّةَ المسلمين)؛ لأن ثلاث مئة ألف في جنب ثمانين غاية تحت كل غاية منها اثنا عشر ألفًا قليل، ولاسيما أن ذلك إنما يُقال بعد قتل من قتل، وتحول من يتحول إلى الروم منهم، أو يُقال: إن أهل القسطنطينية لما جاؤوا إلى المهدي تَخْلِفُهم الكفرة في بلادهم، فيأخذونها كما يأخذون أرض الشام، وهذا هو الظاهر.
قال في "القاموس": قسطنطينة، أو بزيادة ياء مشددة، وقد تضم الطاء الأولى منهما: دار مُلكِ الروم. وفتحها من أشراط الساعة، وتسمى بالرومية: بوزنطيا. وارتفاع سورها أحد وعشرون ذراعًا، وكنيستها مستطيلة، وبجانبها عمود عال من دور أربعة أبواع تقريبًا، وفي رأسه فرسٌ من نحاس وعليه فارس، وفي إحدى يديه كورة من ذهب، وقد فتح أصابع يده الأخرى مشيرًا بها وهو صورة قسطنطين؛ بانيها.
وقوله: "ما خلا دمشق": يوافقه ما في الرواية الأخرى أن فسطاط المسلمين عند الملحمة الكبرى دمشق، وعند خروج الدجال بيت المقدس. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
وَالأُرَيط؛ قال في "القاموس": كَزُبير؛ موضع، وقد ذكر في الحديث أنه عند حمص، فيحتمل أن يكون النهر نفسه، أو موضعًا أضيف إليه النهر.
وقوله: "فشهيدهم كشهيد عشرة". . . إلى قوله: "بسبعين شهيدًا"، معناه:
أن لكل شهيد شفاعة يوم القيامة، وأن لشهيد بدر شفاعة سبعين شهيدًا، وأن لهؤلاء الشهداء لكل واحد شفاعة عشرة من أهل بدر، فيكون لكل واحدٍ منهم شفاعة سبع مئة شهيد.
وهذا من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: "للواحد منهم أجر خمسين منكم"، فلا يلزم منه تفضيلهم على أهل بدر مُطلقًا؛ لأن فضيلة الصحبة لا يُعادلها شيء.
وسيأتي أنَّ التحقيق أن جهات التفضيل مختلفة، فيمكن أن يُفضل هؤلاء من جهة وأولئك من جهة أخرى، أو لأن بلاء أحدهم كبلاء عشرة من أهل بدر؛ لكثرة من يقاتلونهم من الروم، ولبعد زمن النبوة عنهم.
ويُؤيده: أن الملائكة المنزلين مددًا لهم أكثر من البدرية بمئة أمثالهم، فإن المقاتلين ببدر من الملائكة كانوا ثلاثة آلاف، وفي ذلك اليوم يكونون ثلاث مئة ألف.
ولا ينافي هذا ما مر في سيرته أنه يُمد بثلاثة آلاف من الملائكة؛ لأن هذا في خصوص هذه الملحمة، وذلك في عموم خلافته.
وعَمُّور: وجدناه في ثلاث نُسخ بغير هاء التأنيث وياء النسب، والذي في "القاموس" وغيره: عَمُّورية بهاء، فَلعل فيه لغةً أو نقصًا من النسخ.
وقول الروم في المرة الأولى: (الصليب مَدّ لنا)؛ معناه: مَدّ الخليج لنا حيث فاض ماؤه وزاد. وفي الثانية معناه: إنكار القول الأول وتكذيب من قال ذلك منهم، فهو بحذف همزة الاستفهام إلى الإنكار.
يدل لذلك قولهم: (كنا نُقاتل العرب فالآن نقاتل ربنا)
…
إلخ وتقدير الكلام: أن الله ناصرهم فلا نقدر على قتالهم، فيستسلمون للأسر، والله أعلم.
وقوله: "يابس ويحبس البحر"، أي: يُحبس الخليج.
وقد عبر عن هذه في الرواية الأخرى بفلق البحر، وهذه مُعجزةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتأييدٌ؛ لما قال بعض العلماء: من أنه لم يكن لنبي من الأنبياء مُعجزة إلَّا وللنبي صلى الله عليه وسلم مثلها، والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبقية ألفاظ الحديث معناها واضح.
وفي رواية: يشترط المسلمون شُرطَةً للموت لا ترجع إلَّا غالبة فيقتتلون حتى يَحْجُزَ بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كُلٌّ غير غالب، ثم يشترط المسلمون شُرطَةً للموت لا ترجع إلَّا غالبة، فيرجعون غير غالبين إلى ثلاثة أيام، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام، فيجعل الله الدَّبرة على الكافرين، فيقتلون مقتلة لم يُر مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلّفهم حتى يَخر ميتًا، فيتعاد بنو الأب؛ كانوا مئة فلا يجدون بقي منهم إلَّا الرجل الواحد، فلا يُقسم مِيراث، ولا يُفرح بغنيمة، ويكون لخمسين امرأة قيمٌ واحد.
تَنبيْه
(الشُّرطة)؛ بالضم: طائفة من الجيش تَتَقدَّمُ للقتال. و (نَهدَ إليهم): نهض. و (الدَّبرة): الهزيمة. و (جنباتهم)؛ بجيم فنون مفتوحتين ثم موحدة؛ أي: بنواحيهم. و (لا يخلّفهم)؛ بتشديد اللام، لا يجعلهم خلفه؛ أي: لا يتجاوزهم حتى ينقطع عن الطيران ويموت من بُعْدِ مسافة المقتلة وكثرة القتلى، ويتبعونهم ضربًا وقتلًا حتى ينتهوا إلى قسطنطينية؛ أي: الكبرى.
قال في "عقد الدرر": لها سبعة أسوار، عرض السور السابع منها المحيط بالستة إحدى وعشرون ذراعًا، وفيه مئة باب، وعرض السور الأخير الذي يلي البلد عشرة أذرع، وهو على خليج يَصُبُّ في البحر الرومي، وهي متصلة ببلاد الروم والأندلس (1). انتهى
فيركز المهدي لواءه عند البحر ليتوضأ للفجر، فيتباعد الماء منه، فيتبعه حتى يجوز من تلك الناحية، ثم يركزه وينادي: أيها الناس؛ اعبروا فإن الله عز وجل فَلَقَ لكم البحر كما فلقه لبني إسرائيل. فيجوزون فيستقبلها، فيكبرون فتهتز حيطانها، ثم يكبرون فتهتز، فيسقط في الثالثة منها ما بين اثني عشر بُرجًا، فيفتحونها ويقيمون بها سنة حتى يبنون بها المساجد، ثم يدخلون مدينة أخرى، فبينما هم يقتسمون بها
(1) هذا النقل يوضح أن القسطنطينية الكبرى هي روما عاصمة إيطاليا، فبلاد رومية هي إيطاليا وبها الفاتيكان مقر البابا مرجع معظم نصارى العالم. وسيأتي ما يوضح ذلك (ص 204).
بالأترسة إذا بصارخ: إن الدجال خلفكم في ذراريكم بالشام. فيرجعون فإذا الأمر باطل، فالتارك نادم، والآخذ نادم، ثم ينشئون ألف سفينة، ويركبون فيها من عكا، وهم أهل المشرق والمغرب والشام والحجاز على قلب رجل واحد، فيسيرون إلى رومية.
وعن عبد الله بن بسر المازني أنه قال: يا بن أخي؛ لعلك تُدرك فتح القسطنطينية، فإياك إن أدركت فتحها أن تترك غنيمتك منها؛ فإن بين فتحها وبين خروج الدجال سبع سنين. رواه نُعيم بن حماد في الفتن.
ويُستخرج كنز بيت المقدس وحليته التي أخذها طاهر بن إسماعيل حين غزا بني إسرائيل فسباهم، وسبى حلي بيت المقدس، وأحرقها بالنيران، وحمل منها في البحر ألفًا وسبع مئة سفينة حتى أوردها رومية.
قال حذيفة رضي الله عنه فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليستخرجن المهدي ذلك حتى يرده إلى بيت المقدس".
قال في "عقد الدرر": رومية: أم بلاد الروم، فكل من ملكها يقال له: الباب (1)، وهو الحاكم على دين النصرانية، بمنزلة الخليفة في المسلمين، وليس في بلاد المسلمين مثلها.
وقد ذكر المؤرخون في صفة رومية من العجائب ما لم يُسمع بأذني ذلك ببلد في العالم.
"وتقرب قسطنطينية منها، فيكبرون عليها أربع تكبيرات، فيسقط حائطها، فيقتلون ست مئة ألف، ويستخرجون منها حُلي بيت المقدس، والتابوت الذي فيه السكينة، ومائدة بني إسرائيل، ورضاضة الألواح، وحُلة آدم، وعصا موسى، ومنبر سليمان، وقفيزين من المَنِّ الذي أنزل الله عز وجل على بني إسرائيل، أشدُّ بياضًا من اللبن، ثم يأتون مدينة يقال لها: القاطع؛ طولها ألف ميل، وعرضها خمس مئة
(1) الظاهر من كلام السُّلَمي في "عقد الدرر" أن المراد برومية هي الفاتيكان، وأن من يطلق عليه الباب هو ما يسمى الآن: البابا، فهو الحاكم على دين معظم نصارى العالم كما هو معروف. والله أعلم.
ميل، ولها ستون وثلاث مئة باب، يخرج من كل باب ألف مقاتل، وهي على البحر، لا يحمل جارية -يعني: سفينة- فيه".
قيل: يا رسول الله؛ ولِمَ لا يُحمل فيه جارية؟
قال: "لأنه ليس له قعر، وإنما يمرون من خلجان من ذلك البحر جعلها الله منافع لبني آدم لها قعور، فهي تحمل السفن، فيكبرون عليها أربع تكبيرات فيسقط حائطها، فيغنمون ما فيها، ثم يقيمون بها سبع سنين، ثم ينتقلون منها إلى بيت المقدس، فيبلغهم أن الدجال قد خرج في يهود أصبهان".
أخرجه أبو عمرو الداني في "سننه".
وفي رواية: "ثم يأتي مدينة يقال لها: القاطع، وهي على البحر الأخضر المحيط بالدنيا، ليس خلفه إلَّا أمر الله عز وجل، طولها ألف ميل، وعرضها خمس مئة ميل، فيكبرون ثلاث تكبيرات فتسقط حيطانها، فيقتلون بها ألف ألف مقاتل، ثم يتوجه المهدي منها إلى بيت المقدس بألف سفينة، فينزلون بشام فلسطين بين عكا وصور وعسقلان وغزة، فيخرجون ما بها معهم من الأموال، وينزل المهدي ببيت المقدس ويقيم بها حتى يخرج الدجال؛ أي: وفسطاط المسلمين في الملحمة العظمى دمشق، وعند خروج الدجال يكون ببيت المقدس، ويدخل الآفاق كلها فلا تبقى مدينةٌ دخلها ذو القرنين إلَّا دخلها وأصلحها، ولا يبقى جبارٌ إلَّا هلك".
وعنه صلى الله عليه وسلم: "مَلكَ الدنيا مؤمنان وكافران، أما المؤمنان: فذو القرنين، وسليمان. وأما الكافران: فنمروذ، وبخت نصر.
وسيملكها خامسٌ من عترتي وهو المهدي".
وَروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، قال:"أصحاب الكهف أعوان المهدي".
قال العلماء: والحكمة في تأخيرهم إلى هذه المدة: ليحوزوا شرف الدخول في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إكرامًا لهم.
وورد أنَّ أول لواء يعقده المهدي يبعث به إلى التُّرك.
والظاهر أن هذه الفتوح تكون في مدة مهادنة الروم؛ لأنه بعد اشتغاله بهم لا يفرغ لغيرهم، أو أنه يَبْعَثُ البُعوث والسرايا، ونسبة دخول الآفاق إليه يكون مجازًا.
تَنبيْه
جاء من طريق أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الملحمة العُظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر".
وفي رواية: "سبع سنين".
قال أبو داود في "سننه": وهذه؛ يعني: رواية سبع سنين أصح، يعني: من رواية سبعة أشهر.
تَنبيه آخَر
وردت في مدة مُلك المهدي روايات مختلفة؛ ففي بعض الروايات: يملك خمسًا أو سبعًا أو تسعًا بالترديد، وفي بعضها: سبعًا، وفي بعضها: تسعًا، وفي بعضها: إن قَلَّ فخمسا، وإن كَثُرَ فتسعًا، وفي بعضها: تسع عشرة سنة وأشهرًا، وفي بعضها: عشرين، وبعضها: أربعة وعشرين، وبعضها: ثلاثين، وبعضها: أربعين منها تسع سنين يُهادن فيها الروم.
قال ابن حجر في "القول المختصر": ويمكن الجمع على تقدير صحة الكل؛ بأن ملكه متفاوت الظهور والقوة، فيُحمل الأكثر على أنه باعتبار جَمعِ مُدّة المُلك، والأقل على غاية الظهور، والأوسط على الوسط. انتهى
قُلْتُ: ويدل على ما قاله وجوه:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم بشر أمته، وخصوصًا أهل بيته ببشارات، وأن الله يعوضهم عن الظلم والجور قِسطًا وعَدلًا، واللائق بكرم الله أن تكون مدة العدل قدر ما ينسون فيه الظلم والفتن، والسبع والتسع أقل من ذلك.
الثاني: أنه يَفْتَحُ الدنيا كلها كما فتحها ذو القرنين وسليمان عليه السلام، ويدخل جميع الآفاق كما في بعض الروايات، ويبني المساجد في سائر البلدان، ويُحلي بيت المقدس.
ولا شك أن مدة التسع فما دونها لا يمكن أن يُساح فيها ربع أو خمس المعمورة سياحة، فضلًا عن الجهاد، وتجهيز العساكر، وترتيب الجيوش، وبناء المساجد، وغير ذلك (1).
الثالث: أنه ورد أن الأعمار تطول في زمنه كما مر في سيرته، وطولها فيه مُسْتَلزِمٌ لطوله، وإلَّا لا يكون طولها في زمنه، والتسع وما دونه ليست من الطول في شيء.
الرابع: أنه يُهادن الروم تسع سنين، ويقيم بقسطنطينية سنة، وبالقاطع سبعًا، ومدة المسير إليها مرتين والرجوع في أثنائه يكون سنين، ومدة قتاله مع السفياني، وأنه ينقض البيعة بعد ثلاث سنين، وفتحه للهند وسائر البلدان يكون سنين كثيرة؛ كما ورد كل ذلك في الروايات. وذلك أزيد من التسع بكثير.
وحينئذ فنقول: التحديد بالسبع باعتبار مدة استيلائه على جميع المعمورة.
فيكون معنى الحديث: أنه يملك سبعا مُلكًا كاملًا لجميع الأرض، وذلك بعد فتحه لمدينة القاطع، وبالتسع باعتبار مدة فتحه لقسطنطينية، وبتسعة عشر باعتبار مدة قتله للسفياني ودخول أهل الإسلام كلهم في طاعته.
فإنه يُهادن الروم تسع سنين، ومدة اشتغاله بحربهم وتملكه لهم يكون نحوًا من عشر سنين على طريقة جبر الكسر، وبأربع وعشرين باعتبار مدة خروجه إلى الشام ودخول السفياني في بيعته، وبثلاثين باعتبار خروجه بمكة واستيلائه على أرض الحجاز، وبأربعين باعتبار مدة ملكه في الجملة مشتملة على خروجه أولًا بالطائف وقتله لأمير مكة، وغيبته بعد ذلك وخروج الهاشمي بخراسان، وحمله السيف على عاتقه اثنين وسبعين شهرًا؛ كما في بعض الروايات.
وهذا الجمع أولى من إسقاط بعض الروايات، ولا شك أنه مُقدمٌ على الترجيح مهما أمكن، والله ورسوله أعلم بمرادهما.
(1) عدم الإمكانية في رأي المؤلف نظرًا للوسائل المتاحة في عصره، أما في عصرنا الحالي فوسائل النقل سريعة، وجهود المختصين في هذا المجال مستمرة لإيجاد وسائل أسرع من الصوت، وهي مشاهدةٌ معروفةٌ. فوقوع سياحة المعمورة في المدة المذكورة ليس مستحيلًا في زماننا وفي المستقبل، والله أعلم.
على أنه لا مانع أن يكون التسع وما دونه بعد نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال؛ فإن عيسى عليه السلام لا يسلب المهدي ملكه؛ فإن الأئمة من قريش مادام من الناس اثنان، وعيسى عليه السلام يكون من أَخَصّ وزرائه وتابعًا له لا أميرًا عليه، ومن ثم يُصلي خلفه ويقتدي به؛ كما يدل عليه حديث جابر رضي الله عنه عند "مسلم": أن عيسى عليه السلام يقول له حين يتأخر في الصلاة: إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة.
ولا يرد عليه ما ورد في بعض الروايات: أنَّ المهدي يُصلي بهم تلك الصلاة، ثم يكون عيسى إمامًا بعده؛ لأنه لما ثبتت إمامته وإمارته جاز له أن يعينه إماما للصلاة لأنه أفضل، وأفضليته لا تستلزم خلافته؛ لجواز خلافة المفضول مع وجود الفاضل، سيما إذا كان الفاضل من غير قريش.
قال الشهاب القسطلاني في "شرح البخاري" قال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى عليه السلام إمامًا لوقع في نفس الإشكال، ولقيل: أتراه نائبًا أو مبتدئًا شرعيًا؟ فيصلي مأمومًا؛ لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي". انتهى
قال ابن حجر: ومعنى "تُسلب قريش ملكها"؛ أي: بعد نزول عيسى عليه السلام: أنه لا يبقى لها معه اختصاص بشيء دون مراجعته، فلا يُعارض ذلك خبر:"لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان". انتهى
وستأتي الإشارة إلى هذا في كلام الشيخ في "الفتوحات"، ولا شك أن بهذا الوجه يندفع كثير من الإشكالات من كون زمان كل منهما مَوصُوفًا بالبركة والأمن، وأنه يملأ الأرض قِسطًا، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير؛ لأن الزمان يكون واحدًا، فينسب إلى هذا تارة، وإلى هذا أخرى، وقد يُستأنسُ له بقوله صلى الله عليه وسلم:"كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم حكمًا مُقسطا وإمامكم منكم"؛ فإنه لما احتمل أن يُفهم من قوله: "حكمًا مُقسطًا": الإمامة دفعه بقوله: "وإمامكم منكم"، وظاهر أنه ليس المراد إمامة الصلاة؛ لأن المراد إثبات اتباع عيسى لشرعه، وكونه رعية خليفته ورجلًا من آحاد أمته صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.
تَكْمِلَة
في فوائد تضمنتها الأحاديث، ودل عليها الكشف الصحيح، لخصتها من كلام إمام المحققين محيي الملة والدِّين محمد بن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي.
قال رحمه الله ورضي عنه في (الباب السادس والستين وثلاث مئة) من "الفتوحات المكية" ما ملخصه:
إن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جورًا وظُلمًا، فَيملَؤُها قِسطًا وعَدْلًا، يقفو أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئ؛ له مَلَكٌ يسدده من حيث لا يراه، يحمل الكَلَّ، ويقوي الضعيف، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، يفعل ما يقول، ويقول ما يعلم، ويعلم ما يشهد، يصلحه الله في ليلة، يبيد الظلم وأهله، ويقيم الدين، وينفخ الروح في الإسلام، ويعزه بعد ذُلّهِ، ويحييه بعد موته، ويمسي الرجل في زمانه جاهلًا بخيلًا جبانًا، فيصبح أعلم الناس، أكرم الناس، أشجع الناس، يضع الجزية ويدعو إلى الله بالسيف، فمن أبى قُتل، ومن نازعه خُذل، يظهر من الدين ما هو الذي عليه في نفسه ما لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا لحكم به، يرفع المذاهب من الأرض فلا يبقى إلَّا الدين الخالص، أعداؤه مقلدة العلماء أهل الاجتهاد؛ لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمتهم، فيدخلون كُرهًا تحت حكمه؛ خوفًا من سيفه وسطوته، ورغبة فيما لديه، فليس له عدو مبين إلَّا الفقهاء خاصة؛ فإنهم لا يبقى لهم رئاسة ولا تمييز عن العامة، بل لا يبقى لهم علمٌ بحكم إلَّا قليل، ويرتفع الخلاف عن العالم في الأحكام بوجود هذا الإمام، ولولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يُظهرهُ بالسيف والكرم، فيطمعون ويخافون، فيقبلون حكمه من غير إيمان، بل يضمرون خلافه، يفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم، أسعد الناس به أهل الكوفة، يبايعه العارفون بالله من أهل الحقائق عن شهود وكشف وتعريف إلهي، له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه، هم الوزراء، يحملون أثقال المملكة، ويعينونه على ما قلده الله، وهم تسعة على أقدام رجال من الصحابة، قال الله تعالى فيهم:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، وهم من الأعاجم، ما فيهم عربي لكن لا يتكلمون إلَّا بالعربية، لهم حافظ ليس من جنسهم
ما عصى الله قط، هو أخص الوزراء، وأفضل الأمناء.
أي: وكأن هذا إشارةٌ إلى عيسى عليه السلام؛ إذ لا معصوم إلَّا الأنبياء فيكون هو وزيره الأخص، وأما عصمة المهدي ففي حكمه كما يشير إليه كلامه فيما بعد، أو إشارة إلى الملك الذي يسدده، ويؤيده قوله:"ليس من جنسهم"؛ لأن عيسى عليه السلام من جنسهم؛ لأنه بشر، لكن قد يُطلق الجنس على النوع فيصدق على عيسى عليه السلام؛ لأنه من بني إسرائيل والأعاجم، وإن كان يُطلق على ما سوى العرب، لكن غلب إطلاقه في فارس، فحينئذ ليس عيسى عليه السلام من جنسهم؛ أي نوعهم، والله أعلم.
وأنشد رضي الله عنه:
أَلا إِنَّ خَتْمَ الأَوْلِيَاءِ شَهِيدُ
…
وَعَيْنَ إِمَامِ الْعَالَمِينَ فَقِيدُ
هُوَ السَّيِّدُ الْمَهْديُّ مِن آلِ أَحْمَدٍ
…
هُوَ الصَّارِمُ الْهِنْدِيُّ حِينَ يَبيدُ
هُوَ الشَّمْسُ يَجْلُو كُلَّ غَمٍّ وَظُلْمَةٍ
…
هُو الْوَابِلُ الوَسْمِيُّ حِينَ يَجُودُ
ومراده بـ (ختم الأولياء): المهدي. وبـ (إمام العالمين): النبي صلى الله عليه وسلم. و (الصارم): السيف. و (الوابل): المطر الكثير. و (الوسمي): هو الذي ينزل في أول الشتاء.
قال: وقد جاء زمانه، وأظلكم أوانه، وظهر في القرن الرابع اللاحق بالقرون الثلاثة الماضية، قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قرن الصحابة، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه.
وهو إشارةٌ إلى ما ورد في حديث ثلاث مرات: "ثم الذين يلونهم" بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني".
وورد في رواية: ثلاثة تَترى وواحد فُرادى، فيكون قرنه الرابع المفرد الملحق بالثلاثة تترى.
قال: ثم جاء بينها؛ أي: القرن الثالث والرابع، فنزلت وحدثت أمور، وانتشرت أهواء، وسفكت دماء، وعاثت الذئاب في البلاد، وكثر الفساد إلى أن طم
الجور، وطما سيله، وأدبر نهار العدل بالظلم حين أقبل ليله، فشهداؤه خير الشهداء، وأمناؤه خير الأمناء، وإن الله يستوزر له طائفةً خبأهم له في مكنون غيبه، أطلعهم كشفًا وشهودًا على الحقائق، وما هو أمر الله عليه في عباده، فبمشاورتهم يفصل ما يفصل، فهم العارفون الذين يعرفون ما هناك.
وأما هو في نفسه: فصاحب سيف حق وسياسة مرتبة، يعرف من الله قدر ما يحتاج إليه مرتبته ومنزلته؛ لأنه خليفة مُسدد، يعرف منطق الطير والحيوان، يسري عدله في الإنس والجان. من أسرار علم وزرائه الذين استوزرهم الله له قوله تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وهم على أقدام من قال الله فيهم:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، أعطاهم الله في هذه الآية التي اتخذوها هِجِّيرًا، وفي ليلهم سميرًا فضل علم الصدق حالًا وذوقًا، فعلموا أن الصدق سيف الله في الأرض ما قام بأحد، ولا اتصف به أَحَدٌ إلَّا نصره الله تعالى؛ لأن الصدق صفته تعالى، والصادق اسمه، وإذا علم الإمام المهدي هذا عمل به، فيكون أصدق أهل زمانه، فوزراؤه الهُداة وهو المهدي، فهذا القدر من العلم بالله يحصل للمهدي على أيدي وزرائه.
إِنَّ الإِمَامَ إِلَى الْوَزِيرِ فَقِيرُ
…
وَعَلَيْهِمَا فَلَكُ الْوُجُود يَدُورُ
وَالْمُلْكُ إِنْ لَمْ تَسْتَقِمْ أَحْوَالُهُ
…
بِوُجُودِ هَذَيْنِ فَسَوفَ يَبُورُ
إِلَّا الإِلَهُ الْحَق فَهْوَ مُنَزَّهٌ
…
مَا عِنْدَهُ فِيمَا يُرِيدُ وَزِيرُ
جَلَّ الإِلَهُ الْحَقُّ فِي مَلَكُوتِهِ
…
عَنْ أَنْ يَرَاهُ الْخَلْقُ وَهْوَ فَقِيرُ
وجميع ما يحتاج إليه المهدي مما يكون قيام وزرائه به تسعة أمور لا عاشر لها، ولا ينقص عن ذلك؛ وهي:
الأول: نفوذ البصر؛ ليكون دعاؤه إلى الله على بصيرة في المدعو إليه لا في المدعو، قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم:{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، فالمهدي ممن اتبعه، وهو صلى الله عليه وسلم لا يخطئ في دعائه إلى الله، فمتبعه لا يخطئ؛ فإنه يقفو أثره.
والثاني: معرفة الخطاب الإلهي عند الإلقاء، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}.
والثالث: علم الترجمة عن الله تعالى، وذلك لكل من كلمه الله تعالى في الإلقاء والوحي، فيكون المترجم مُهيأ لصور الحروف اللفظية والمرقومة التي يُوجِدُهَا، ويكون روح تلك الصورة كلام الله لا غير.
والرابع: تعيين المراتب لولاة الأمر، وهو العلم بما تستحقه كل مرتبة من المصالح التي خلقت لها، فينظر صاحب هذا العلم في نفس الشخص الذي يُريد أن يُوليه ويرفع الميزان بينه وبين المرتبة، فإذا رأى الاعتدال في الوزن من غير ترجيح لكفة المرتبة؛ ولاه، وإن رجح الوالي؛ فلا يضره، فإن رجحت كفة المرتبة عليه؛ لم يُولّه.
والخامس: الرحمة في الغضب، ولا يكون ذلك إلَّا في الحدود الموضوعة والتعزير، وما عدا ذلك فَغضَبٌ ليس فيه من الرحمة شيء.
والسادس: علم ما يحتاج إليه الملك من الأرزاق، وهو أن يعلم أصناف العالم، وليس إلَّا اثنان: عالم الصور، وعالم الأنفس المدبرين لهذه الصور فيما يتصرفون فيه من حركة أو سكون، وما عدا هذين الصنفين؛ فما له عليهم حكم، إلَّا من أراد منهم أن يحكمه على نفسه كعالم الجان.
والسابع: علم تداخل الأمور بعضها على بعض، وهو معنى قوله تعالى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، فالمولج ذكر، والمولوج فيه أنثى، وهو في العلوم العلم النظري، وفي الحس النكاح الحيواني والنباتي، ولولا السدى واللحام لما ظهر للشقة عين، وهو سَارٍ في جميع الصنائع العملية والعلمية.
فإذا علم الإمام ذلك لم يدخل عليه شبهة في أحكامه.
هذا هو الميزان الموضوع في العالم في المعاني والمحسوسات، فالإمام يتعين عليه الجمع بين علم ما يكون بطريق التنزيل الإلهي، وبين ما يكون بطريق القياس، ولا يعلم المهدي علم القياس ليحكم به، وإنما يعلمه ليجتنبه، فما يحكم المهدي إلَّا بما يُلقي إليه الملك من عند الله الذي بعثه الله إليه يُسدده، وذلك هو الشرع الحنيفي
المحمدي الذي لو كان محمد صلى الله عليه وسلم حيًا، ورفعت إليه تلك النازلة؛ لم يحكم فيها إلَّا بحكم هذا الإمام، فيعلمه الله أن ذلك هو الشرع المحمدي، فَيحْرُمُ عليه القياس مع وجود النصوص التي منحه الله تعالى إياها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في صفته:"يقفو أثري لا يخطئ".
فعرفنا أنه مُتبعٌ لا مُشرع، وأنه معصوم، ولا معنى للمعصوم في الحكم إلَّا أنه معصومٌ من الخطإِ؛ فإن حُكم الرسول لا يُنسب إليه خطأ؛ فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلَّا وحي يوحى؛ أي: فمعنى عصمته أنه معصوم في حكمه، وأما في باقي حالاته فمحفوظٌ لا معصوم؛ إذ لا عصمة إلَّا للأنبياء وهو ليس بنبي، وإنما هو ولي، والأولياء محفوظون لا معصومون.
والثامن: الاستقصاء في قضاء حوائج الناس، وأنه متعينٌ على الإمام خُصوصًا دون جميع الناس، فإن الله إنما قدمه على خلقه ليسعى في مصالحهم، والذي ينتجه هذا السعي عظيم، وحركة الأئمة كلهم إنما تكون في حق الغير لا في حق نفوسهم، فإذا رأيتم السلطانَ يشتغِلُ بغير رعيته وما يحتاجون إليه فاعلم أنه قد عزلته المرتبة لهذا الفعل، ولا فرق بينه وبين العامة.
والتاسع: الوقوف على علم الغيب الذي يحتاج إليه في الكون في مدته خاصة، وهي تاسع مسألةٍ ليس وراءها ما يحتاج إليه الإمام في إمامته، وذلك أن الله تعالى أخبر عن نفسه أن كل يوم هو في شأن، وهو ما يكون عليه العالم في ذلك اليوم، ومَعلومٌ أن ذلك الشأن إذا ظهر في الوجود ووقع أنه معلوم لكل من شاهده فهذا الإمام من هذه المسألة له اطلاع من جانب الحق على ما يُريد الحق أن يحدثه من الشؤون قبل وقوعها في الوجود، فيطلع في اليوم الذي قبل وقوع ذلك الشأن على ذلك الشأن، فإن كان مما فيه منفعةٌ لرعيته شكر لله وسكت عنه، وإن كان مما فيه عقوبة بنزول بلاءٍ عام، أو على أشخاصٍ معينين سأل الله فيهم وشفع وتضرع، فصرف الله عنهم ذلك البلاء برحمته وفضله، وأجاب دعوته وسؤاله، فلهذا يُطلعه الله عليه قبل وقوعه في الوجود بأصحابه، ثم يُطلعه الله في تلك الشؤون على النوازل الواقعة من الأشخاص، ويُعين له الأشخاص بحليتهم حتى إذا رآهم لا يَشُك فيهم أنهم عين ما رآهم.
ثم يُطلعه الله تعالى على الحُكم المشروع في تلك النازلة له التي شرع الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم به فيها، ولا يحكم إلَّا بذلك الحكم لا يُخطئ أبدًا، وإن أعمى الله عليه الحكم في بعض النوازل، ولم يقع له عليها كشف كان غايته أن يلحقها في الحكم بالمباح، ويعلم بعدم التعريف أن ذلك حكم الشرع فيها؛ فإنه معصومٌ عن الرأي والقياس في الدين؛ فإن القياس ممن ليس بنبي حكمٌ على الله في دين الله بما لا يعلم؛ فإنه طرد علة، وما يُدريك لعل الله لا يريد طرد تلك العلة، ولو أرادها لأبان عنها على لسان رسوله وأمر بطردها.
هذا إذا كانت العلة مما نص الشرع عليها في قضية، فما ظنك بعلةٍ يستخرجها الفقيه بنفسه ونظره من غير أن يذكرها الشرع ثم يطردها؟ !
فيكون تحكمًا على تحكم بشرع لم يأذن به الله.
هذا يمنع المهدي عليه السلام من القول بالقياس في دين الله، ولاسيما وهو يعلم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف في التكليف عن هذه الأمة، ولذلك كان يقول:"اتركوني ما تركتكم"، وكان يكره السؤال في الدِّين خوفًا من زيادة الحكم، فكل ما سُكِت له عنه؛ لم يطلع على حكم معين فيه جعل عاقبة الأمر فيه الحكم بحكم الأصل، وكل ما أطلعه الله عليه كشفًا وتعريفًا فذلك حكم الشرع المحمدي في المسألة.
وقد يطلعه الله في أوقات على المباح على أنه مباح وعافية، فكل مصلحة تكون في حق رعاياه فإن الله يطلعه عليها ليسأله فيها، وكل فَسادٍ يريد الله أن يوقعه برعاياه فإن الله يطلعه عليه ليسأل الله في دفع ذلك؛ لأنه عقوبة.
فالمهدي رَحْمةُ الله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، والمهدي يقفو أثره لا يخطئ، فلابد أن يكون رحمة.
فهذه تسعة أمور لم تصح بمجموعها لإمامٍ من أئمة الدين خلفاء الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، إلَّا لهذا الإمام المهدي، كما أنه ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمامٍ من أئمة الدين الذين يكونون بعده أنه
يرثه ويقفو أثره لا يخطئ إلَّا المهدي خاصة؛ فقد شهد بعصمته في أحكامه؛ كما شهد الدليل العقلي بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه من الحكم المشروع له في عباده.
قال رحمه الله تعالى: وينزل عيسى عليه السلام في زمانه بالمنارة البيضاء شرقي مسجد دمشق، والناس في صلاة العصر، فيتنحى له الإمام، فيتقدم فَيُصلي بالناس، يؤم الناس بسنّة محمد صلى الله عليه وسلم.
تَنبيْه
لا ينافي هذا ما في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام يقتدي بالمهدي في صلاة الصبح ويقول: إنها لك أُقيمت. لما يأتي في قصة الدجال في الجمع بين اختلاف الروايات أن المهدي حين نزول عيسى عليه السلام بدمشق يكون ببيت المقدس، فيكون الذي يتنحى له أمير المهدي على دمشق، ويوضحه أن هذا في صلاة العصر، وأنه يجتمع إليه اليهود والنصارى والمسلمون، كل يرجوه كما يأتي هناك وإن تقدم المهدي واقتدى عيسى عليه السلام به في صلاة الصبح وليس هناك إلَّا خالص المسلمين. وبالله التوفيق.
تَنبيه آخَر
ما أشرنا إليه سابقًا من أن السبع أو التسع من خلافة المهدي المذكور في الأحاديث يحتمل أن يكون في زمن عيسى عليه السلام لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لن تهلك أمةٌ أنا في أولها، والمهدي في أوسطها، وعيسى في آخرها"؛ لأن المهدي يسبق نزول عيسى عليه السلام بأكثر من ثلاثين سنة، وعيسى عليه السلام يتأخر عنه بضعًا وثلاثين؛ لما ورد في المهدي أنه يمكث أربعين، وفي عيسى عليه السلام أنه يمكث خمسًا وأربعين، فمدة اجتماعهما سبع أو تسع، والباقي مدة الافتراق.
تَنبيه آخَر
قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان، وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة عليها السلام بلغت حد التواتر المعنوي،
فلا معنى لإنكارها، ومن ثم ورد:"من كَذّب بالدجال فقد كفر، ومن كَذَّب بالمهدي فقد كفر". رواه أبو بكر الإسكاف في "فوائد الأخبار"، وأبو القاسم السهيلي في شرح "السير" له.
فما ورد في بعض الأحاديث: أنه "لا مهدي إلَّا عيسى ابن مريم" مع كونه ضعيفًا عند الحفاظ يجب تأويله بأنه: لا قول للمهدي إلَّا بمشورة عيسى عليه السلام إن قلنا أنه وزيره، أو لا مهدي معصومًا مطلقًا إلَّا عيسى عليه السلام.
فإن المهدي معصوم في الأحكام فقط، أو لا مهدي بعد عيسى عليه السلام؛ فإن بعده يكون أمراء مخلطون.
ولا يغتر بما قد يُفهم من كلام العلامة التفتازاني في "شرح العقائد" من نفيه بناءً على الحديث المذكور؛ لما مر أنه حديثٌ ضعيف خالف أحاديث صحيحة، والله أعلم.
قال الحافظ ابن القيم في "المنار": حديث "لا مهدي إلَّا عيسى ابن مريم". رواه ابن ماجه من طريق محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما تفرد به عن محمد بن خالد.
قال محمد بن الحسن الإسنوي في كتاب "مناقب الشافعي": محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل، وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته.
وقال البيهقي: تفرد به محمد بن خالد هذا، وقد قال الحاكم أبو عبد الله: هو مجهول، وقد اختلف عليه في إسناده. فَرُويَ عنه، عن أبان بن أبي عياش، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول، عن أبان بن أبي عياش، وهو متروك، عن الحسن، وهو منقطع.
والأحاديث الدالة على خروج المهدي أصح إسنادًا؛ كحديث ابن مسعود رضي الله عنه: "لو لم يبق على الدنيا إلَّا يوم لَطَوّل الله ذلك اليوم حتى يُبعث رجل مني، أو من
أهل بيتي"
…
الحديث، رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.
وفي الباب: عن علي، وأبي سعيد، وأم سلمة، وأبي هريرة رضي الله عنهم، ثم روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: صحيح. اهـ
وقال ابن القيم: وفي الباب: عن حذيفة بن اليمان، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثوبان، وأنس بن مالك، وجابر، وابن عباس رضي الله عنهم، وغيرهم. اهـ، والله أعلم.
تَنبيه آخَر
جاء عن ابن سيرين: أن المهدي خَيْرٌ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، قيل: يا أبا بكر؛ خير من أبي بكر وعمر؟ ! قال: قد كان يُفَضّل على بعض الأنبياء.
وعنه: لا يَفْضُل عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال السيوطي في "العَرف الوردي": هذا إسناد صحيح، وهو أخف من اللفظ الأول. قال: والأوجه عندي تأويل اللفظين على ما أُوِّلَ عليه حديث: "بل أجر خمسين منكم"؛ لشدة الفتن في زمان المهدي.
قُلْتُ: التحقيق أن جهات التفاضل مختلفة، ولا يجوز لنا التفضيل على الإطلاق في فَردٍ من الأفراد إلَّا إذا فضله النبي صلى الله عليه وسلم كذلك؛ فإنه قد وُجِدَ في المفضول مَزيةٌ من جهات أخر ليست في الفاضل.
وتَقدَّم عن الشيخ في "الفتوحات": أنه مَعصوم في حكمه، مُقتفٍ أثر النبي صلى الله عليه وسلم، لا يخطئ أبدًا، ولا شك أن هذا لم يكن في الشيخين، وأن الأمور التسعة التي مرت لم تجتمع كلها في إمام من أئمة الدين قبله.
فمن هذه الجهات يجوز تفضيله عليهما وإن كان لهما فضل الصحبة ومشاهدة الوحي والسابقة وغير ذلك، والله أعلم.
قال الشيخ علي القاري في "المشرب الوردي في مذهب المهدي": ومما يدل على أفضليته: أن النبي صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ: خليفة الله، وأبو بكر رضي الله عنه لا يقال له إلَّا: خليفة رسول الله.
خَاتِمَة
اشتملت قصة المهدي على جُملةٍ من أشراط الساعة، فلنشر إلى عدها وذكر بعض أحاديثها إجمالًا؛ وفاءً بما وعدناه من حفظ الأحاديث على المسلمين.
فمنها: حسر الفرات عن جبل من الذهب:
كما مر عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل عليه الناس فيقتل تسعة أعشارهم" رواه ابن ماجه عنه، ورواه أحمد، ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي آخره:"حتى يُقْتلَ من كلِّ مئة تسعة وتسعون" وكذا رواه مسلم عن أبي هريرة.
وروى عنه الشيخان، وأبو داود مختصرًا:"يوشك الفرات يحسر عن كنز، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا".
وفي رواية نُعيم بن حماد عنه: "فيقتل من كل تسعة سبعة، فإذا أدركتموه فلا تقربوه".
ومنها: قتل النفس الزكية:
عن مجاهد قال: حدثني رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قتلت النفس الزكية غضب عليهم من في السماء ومن في الأرض، فيأتي الناس المهدي فزفَّوْه كما تُزف العروس إلى زوجها ليلة عرسها" رواه ابن أبي شيبة.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه: "إذا قتلت النفس الزكية وأخوه يقتل بمكة ضيعة نادى مناد من السماء: إن أميركم فلان، وذلك المهدي الذي يملأ الأرض حقًا وعدلًا" رواه نُعيم بن حماد.
تَنبيه
النفس الزكية هذا غير النفس الزكية الذي قتل في زمن المنصور العباسي؛ قتله موسى بن عيسى عم المنصور، وهو: محمد النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، بايعه أهل
المدينة بالخلافة، وكان يقال: إنه المهدي، قتل هو بالمدينة، وقتل أخوه إبراهيم بن عبد الله بالعراق، ومات أبوهما في الحبس.
ومنها: طلوع الرايات السود من قبل خراسان:
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقاتلونكم قِتالًا شديدًا لم يقاتله قوم مثله، فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوًا على الثلج؛ فإنه خليفة الله المهدي" رواه ابن ماجه، والحاكم وصححه.
ومعنى كونه المهدي: أنَّ الرايات تصير إليه وتنصره.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي قومٌ من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون، فينصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قِسطًا كما ملؤوها جورًا، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوًا على الثلج". رواه ابن أبي شيبة، وابن ماجه (1).
تَنبيه
هذه الرايات السود غير الرايات السود التي أتت لنصر بني العباس، وإن كان كل منهما من قبل المشرق من أهل خراسان وقاتلت بني أمية؛ لأن هؤلاء قلانسهم سُود وثيابهم بيض، وأولئك كل ثيابهم سود، أو لأن هذه الرايات صغار، وتلك كانت عِظامًا، ولأن هذه يَقْدمُ بها الهاشمي الذي على مقدمته شعيب بن صالح التميمي، وتلك قَدمَ بها أبو مسلم الخراساني، ولأن هذه تقاتل بني أبي سفيان، وتلك قاتلت بني مروان.
وقد صرح بذلك في رواية سعيد بن المسيب رضي الله عنه، مُرسلًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج من المشرق رايات سود لبنِي العباس، ثم
(1) ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"، ورد عليه الحافظ ابن حجر في "القول المسدد"(ص 45)(ز).
يمكثون ما شاء الله تعالى، ثم تخرج رايات سود صغار تقاتل رَجُلًا من ولد أبي سفيان وأصحابه من قبل المشرق، ويؤدون الطاعة للمهدي" رواه نُعيم بن حماد.
ومنها: قذف الأرض أفلاذ كبدها من الذهب والفضة:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن هذا الدين قد تم، وإنه صائر إلى النقصان، وإن أمارة ذلك: أن تُقطع الأرحام، ويُؤخذ المال بغير حقه، وتُسفك الدماء ويشتكي ذو القرابة قرابته لا يعود عليه بشيء، ويطوف السائل لا يوضع في يده شيء.
فبينما هم كذلك إذ خارت الأرض خوار البقر، يحسب كل أناس أنها خارت من قبلهم، فبينما الناس كذلك إذ قذفت الأرض بأفلاذ كبدها من الذهب والفضة، لا ينفع بعد شيء منه لا ذهب ولا فضة" رواه ابن أبي شيبة.
ومنها: خسف عند معدن:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تخرج معادن مختلفة، معدن منها قريب من الحجاز يأتيه شرار الناس يقال له: فرعون، فبينما هم يعملون فيه إذ حُسِرَ عن الذهب فأعجبهم معتمله، فبينما هم كذلك إذ خُسِفَ به وبهم" رواه الحاكم وصححه.
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: "الفتن أربع: فتنة السراء والضراء، وفتنة كذا -فذكر: معدن الذهب-، ثم يخرج رجلٌ من عترة النبي صلى الله عليه وسلم يُصلح الله تعالى على يديه أمرهم" رواه نُعيم بن حماد بسندٍ صحيح على شرط مسلم.
ومنها: خسف قرية بالغوطة شرقي دمشق:
عن خالد بن معدان قال: "لا يخرج المهدي حتى يُخسف بقرية بالغوطة تسمى حرستا"، رواه ابن عساكر.
ومنها: خَسْفٌ بالبيداء:
عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجب أن ناسًا من أمتي يأتون البيت لرجل من قريش قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء
خُسِفَ بهم، فيهم المنتصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم" (1) رواه البخاري، ومسلم.
وعن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينتهي الناس عن غزو هذا البيت حتى يغزو جيش، حتى إذا كانوا بالبيداء -أو بيداء من الأرض- خُسِفَ بأولهم وآخرهم، ولم يَنْجُ أوسطهم".
قيل: فإن كان معهم من يكره؟ قال: "يبعثهم الله على ما في أنفسهم" رواه أحمد، وأبو داود، والتر مذي، وابن ماجه، ورواه أحمد، ومسلم، والطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها.
ورواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه عن حفصة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"يقطع الخليفة بالشام بعثًا فيهم ست مئة غريب إلى هاشميين بمكة، فإذا أتوا البيداء فينزلون في ليلة مقمرة، إذ أقبل راعٍ ينظر إليهم ويعجب، ويقول: يا ويح أهل مكة. فينصرف إلى غنمه، ثم يرجع فلا يرى أحدًا، فإذا هم قد خُسِفَ بهم، فيقول: سبحان الله! ارتحلوا في ساعةٍ واحدة، فيأتي فيجد قطيفةً قد خُسِفَ ببعضها وبعضها على وجه الأرض، فيعالجها فلا يُطيقها، فَيعلم أنه قد خُسِفَ بهم، فينطلق إلى صاحب مكة، فيبشره فيقول: الحمد لله؛ هذه العلامة التي كنتم تُخْبَرُونَ بها" رواه نُعيم بن حماد.
وفي رواية: "لا يُفلت منهم أحدٌ إلَّا بَشِيرٌ ونَذِيرٌ؛ بشير إلى المهدي، ونذير إلى السفياني، وهما رجلان من كلب".
تَنبيه
وجه الجمع بين الروايتين أن الرجلين يهربان، ثم يأتي الراعي فلا يرى أحدًا، فيأتي بالبشارة إلى المهدي أيضًا.
(1) هذا لفظ حديث "مسلم"، وأخرجه "البخاري" مختصرًا في "البيوع".
قال الحافظ (3/ 299): يعني أن الظاهر أنه يخسف بهم مرة، ويترك الآخرين فيهدمونهم.
وقال أيضًا (4/ 234): الظاهر أنه يخسف بهم قبل أن يصلوا إليها، ومال ابن التين إلى أن المخسوفين هم الهادمون، خُسفوا بعد الهدم انتقامًا لهم، وكذا قال العيني. (ز).
وفي رواية: "فيخسف بثلثهم، ويمسخ ثلثهم، فتصير وجوههم إلى أقفيتهم يمشون إلى ورائهم كما يمشون إلى أمامهم، ويلحق ثلثهم بمكة".
وهذه إن صحت يُحتاج في الجمع إلى تَمَحُّل وتَعَسُّف، ويمكن أن يقال بتكرار خسف الجيش، فمرةً يكون كذا ومرةً كذا.
ويَقربُهُ ما مر أن صاحب المدينة يبعث بعثًا قبل بعث السفياني، وأنه أمير على المدينة من قبله، فينسب إليه أيضًا، والله أعلم.
ومنها: انكساف الشمس والقمر في رمضان (1):
عن الإمام محمد بن علي الباقر قال: "لمهدينا آيتان لم يكونا منذ خلق الله السماوات والأرض: ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم تكونا منذ خلق الله السموات والأرض" رواه الدارقطني في "سننه"
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا يخرج المهدي حتى تطلع الشمس آية" رواه البيهقي، ونُعيم بن حماد.
ومنها: طلوع القرن ذي السنين:
عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: "إذا بلغ العباسي خراسان طلع بالمشرق القرن ذو السنين، وكان أول ما طلع بهلاك قوم نوح حين أغرقهم الله، وطلع في زمن إبراهيم حين ألقوه في النار، وحين أهلك الله قوم فرعون ومن معه، وحين قتل يحيى بن زكريا".
(1) أما اجتماع الخسوف والكسوف في شهرٍ واحد: فشائع كثير الوقوع، ذكر بعضها في كتاب "شهادة آسماني" للسيد أبي أحمد رحماني في رد القادياني، إذ قال:"إنه وقع في رمضان سنة مئة وسبعة هجري، وسنة مئة وثمانية هجري، وسنة مئة واثنين وخمسين هجري، وسنة ثلاث مئة وثمانية هجري، وسنة تسع مئة وعشرة هجري كلها في رمضان" اهـ
فالمراد بهذه العلامة أول رمضان ووسطه
…
إلخ كما بسطه في هذه الرسالة، وذكر أنه وقع اجتماعهما من بعد سنة ألف إلى سنة ألف وثلاث مئة واثنتي عشرة ستين مرة، وكذلك بسط الكلام على هذا الحديث وَفَصَّل الكسوفات في رسالته الأخرى المسماة:"دوسري شهادة آسماني"(ز).
فإذا رأيتم ذلك فاستعيذوا بالله من شر الفتن، ويكون طُلوعه بعد انكساف الشمس والقمر، ثم لا يلبثون حتى يطلع الأبقع بمصر" رواه نُعيم بن حماد.
ومنها: طلوع النجم ذي الذنب:
عن كعب قال: "يطلع من المشرق قبل خروج المهدي نجمٌ له ذنب يُضيء" أخرجه نعيم.
قلت: وقد ظهر في عام خمس وسبعين في شهر جمادى الثانية نجمٌ ذو ذنب، وأقام مقدار شهرين ثم غاب.
ومنها: خسوف القمر مرتين في رمضان:
عن شريك قال: بلغني: قبل خروج المهدي ينكسف القمر في شهر رمضان مرتين. رواه نعيم.
ومنها: نار من قبل المشرق:
عن أبي عبد الله الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: إذا رأيتم علامةً من السماء؛ نارًا عظيمة من قبل المشرق تطلع ليلًا فعندها فرج الناس، وهي إقدام المهدي.
وعن أبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنهما قال: إذا رأيتم نارًا من المشرق ثلاثة أيام أو سبعة أيام فتوقعوا فَرجَ آل محمد صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى.
ومنها: وقعة بالمدينة عظيمة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يكون بالمدينة وقعةٌ يَغْرقُ فيها أحجار الزيت، ما الحرة عندها إلَّا كضربة سوط، فيتنحى عن المدينة بريدين، ثم يبايع المهدي" رواه نعيم.
تَنبيه
قال في "سفر السعادة": أحجار الزيت قريبٌ من باب من أبواب المسجد، يقال له: باب السلام، إذا خرج شَخصٌ من باب السلام، وعطف على الجانب الأيمن، وصار نحو رمية حجر بلغ المكان المعروف بأحجار الزيت.
وعبارة السيد السمهودي في "الخلاصة": أن أحجار الزيت كانت عند مشهد مالك بن سنان، يضع عليها الزَّياتونَ رواياهم، فَعلَا الكَبْسُ عليها فاندفنت.
ولأبي داود، والترمذي، وغيرهما: عن مولى آبي اللحم: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء قائما يدعو
…
الحديث.
فاقتضى كلام كعب الأحبار أنها موضعٌ من الحرة بمنازل بني عبد الأشهل، به كانت وقعة الحرة. انتهى كلامه.
ومنها: نداء من السماء:
عن عاصم بن عمر البجلي قال: "لينادين باسم رجل من السماء لا ينكره الدَّليل، ولا يُمْنَع منه الذَّليل" رواه ابن أبي شيبة.
وعن علي رضي الله عنه قال: "إذا نادى مُناد من السماء: إن الحق في آل محمد صلى الله عليه وسلم فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، وَيُشْرَبُونَ حُبَّه، ولا يكون لهم ذكر غيره" رواه نعيم.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: "تكون فتنةٌ كأن أولها لعب الصبيان، فلا تتناهى حتى يُنادي مُنادٍ من السماء: ألا إنَّ الأمير فلان ذلكم الأمير حقًا. (ثلاث مرات) " رواه نعيم.
وعن أبي جعفر الباقر رضي الله عنه قال: ينادي مُنادٍ من السماء: ألا إنَّ الحق في آل محمد صلى الله عليه وسلم. وينادي مُنادٍ من الأرض: ألا إنَّ الحق في آل عيسى عليه السلام -أو قال: العباس، فَشَكَّ فيه- وإنما الأسفل كلمة الشيطان، والصوت الأعلى كلمة الله العليا". رواه نعيم.
وعنه رضي الله عنه قال: "إذا كان الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة فاسمعوا وأطيعوا، وفي آخر النهار صوت اللعين إبليس يُنادي: ألا إنَّ فُلانًا قد قتل مظلومًا. ليُشكِّكَ الناس ويفتنهم، فكم في اليوم من شَاكٍّ مُتحير! فإذا سمعتم الصوت في رمضان -يعني: الأول- فلا تشكّوا أنه صوت جبريل، وعلامة ذلك أنه يُنادي باسم المهدي واسم أبيه".
وعن إسحاق بن يحيى، عن أمه قالت: تكون فتنة تهلك الناس لا يستقيم أمرهم حتى يُنادي مُنادٍ من السماء: عليكم بفلان" رواه نُعيم بن حماد.
عن شهر بن حوشب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المُحَرَّم يُنادي مُنادٍ من السماء: ألا إن صفوة الله من خلقه فلان. فاسمعوا له وأطيعوا، في سَنةِ الصوت والمعمعة" رواه نُعيم.
وَمَرَّ عن عمار رضي الله عنه النداء عند قتل النفس الزكية قال في "عقد الدرر": وهذا النداء يَعُم أهل الأرض، ويسمعه كل أهل لغة بلغتهم.
وعن الحكم بن نافع قال: (إذا كان الناس بمنى وبعرفات نادى مُنادٍ بعد أن تتحارب القبائل: ألا إنَّ أميركم فلان. ويتبعه صوت آخر: ألا إنه قد صدق).
تَنبيه
لا مانع من تكرر النداء في رمضان، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وغيرها؛ كما يظهر من اختلاف الروايات.
ومنها: طلوع كَفٍّ من السماء:
عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: (تكون فرقة واختلاف، حتى يطلع كَفٌّ من السماء، ويُنادي مُنادٍ من السماء: إن أميركم فلان).
وعن أسماء بنت عُميس رضي الله عنها: (إن أمارة ذلك اليوم أن كفًّا من السماء مدلاة ينظر الناس إليها) رواه نُعيم بن حماد.
ومنها: إخراج كنز الكعبة وخزائنها:
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أنه قال حين وَلَج هو وعمر رضي الله عنهما البيت، فقال عمر رضي الله عنه: والله ما أدري! أأدع خزائن البيت وما فيه من السلاح والأموال، أو أقسمه في سبيل الله؟
فقال له علي رضي الله عنه: "امض يا أمير المؤمنين فلست بصاحبه، إنما صاحبه منا شاب من قريش يقسمه في سبيل الله في آخر الزمان" رواه نُعيم بن حماد.
ومنها: الملحمة العظمى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جلبٌ من المدينة. . ." الحديث. رواه مسلم، والحاكم وصححه، وقد مر تفصيله.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خير مدائن الشام" رواه أبو داود، والحاكم وصححه.
وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يُقْسمَ مِيراث، ولا يُفرح بغنيمة، ثم قال: يجتمعون لأهل الشام، ويجمع لهم أهل الإسلام -يعني: الروم-
…
إلى أن قال: فيجعل الله الدَّبَرة عليهم، فيقتلون مقتلة عظيمة لم يُر مثلها، حتى إنَّ الطائر يمر بجانبهم فما يُخلفهم حتى يخر ميتًا، فيتعادُّ بنو الأب، كانوا مئة فلا يجدون بقي منهم إلَّا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يُفرح، أو أي مِيراث يُقسم؟ ! " رواه مسلم.
وعن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِتٌّ من أشراط الساعة: موتي، وفتح بيت المقدس"
…
إلى أن قال: "وأن يغدر الروم فيسيرون بثمانين بندًا، تحت كل بند اثنا عشر ألفًا" رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والطبراني.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"سِتٌّ فيكم أيتها الأمة". فقال في الخامسة: "وهدنةٌ تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيجمعون لكم تسعة أشهر كقدر حمل المرأة، ثم يكونون أولى بالغدر منكم" رواه أحمد.
ومنها: أن يكون لخمسين امرأة قيمٌ واحد.
ومنها: أن لا يفرح بميراث ولا بغنيمة.
وهذان كلاهما يقع في الملحمة العظمى حتى يتعادَّ بنو الأب الواحد؛ كانوا مئة فلا يبقى منهم إلَّا الرجل الواحد، ويكون لخمسين امرأة قيم واحد.
ورَوى الستة غير أبي داود: عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "إن من أشراط الساعة أن يقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد".
ومرَّ: "لا تقوم الساعة حتى لا يُقسم مِيراث، ولا يُفرح بغنيمة".
تَنبيه
قيل: كثرة النساء؛ سببه: كثرة الفتن المُورثة لكثرة القتل في الرجال؛ لأنهم أهل الحرب دون النساء. انتهى
ويدل له حديث الملحمة، حيث ذكر كثرتهن بعد قتل الرجال.
لكن قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في (باب العلم): الظاهر أنها علامةٌ محضةٌ لا لسبب آخر، بل يُقدِّر الله في آخر الزمان أن يقل من يُولد من الذكور، ويكثر من يُولد من الإناث.
قال: وكون كثرة النساء من العلامات مناسبٌ لظهور الجهل ورفع العلم؛ أي: فعلى هذا ينبغي أن تُذكر عند رفع العلم، لكن استطردناها هنا للمناسبة.
ثم قال الحافظ ابن حجر: قوله: "لخمسين" يحتمل أن يراد به حقيقة هذا العدد، أو يكون مجازًا عن الكثرة.
ويؤيده: أن في حديث أبي موسى رضي الله عنه: "وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة" انتهى
ومنها: فتح القسطنطينية ورومية (1):
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هل سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟ " قالوا: نعم يا رسول الله. قال: "لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق. . ." الحديث. رواه مسلم، والحاكم. وقال الحاكم: يقال هذه المدينة هي القسطنطينية.
قال القاضي عياض: كذا هو في أصول مسلم (بني إسحاق)، والمعروف المحفوظ (بني إسماعيل)، وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه؛ لأنه إنما أراد العرب.
وقال الحافظ ابن حجر: قيل: صوابه (بني إسماعيل)؛ كما دلت عليه أحاديث أخر.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِتٌّ فيكم أيتها الأمة. . .". وقال في السادسة: "وفتح مدينة". قلت: يا رسول الله؛ أي مدينة؟ قال: "قسطنطينية".
وعن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب الدنيا حتى تقاتلوا بني الأصفر، يخرج إليهم دوقة
(1) وقد فتحت أولًا في زمن معاوية رضي الله عنه في سنة خمسين أو سنة واحد وخمسين؛ كما في "الخميس"(2/ 294)، وتوفي فيها أبو أيوب رضي الله عنه، وهي مصداق آخرى غزوتي في حديث أم حرام بنت ملحان:"كالملوك على الأسرة" وفي "الفتوحات الإسلامية"(2: 71) للسيد أحمد ابن السيد زيني دحلان مفتي الشافعية بمكة: أنهم افتتحوا في زمن معاوية رضي الله عنه طرفًا منها، ثم استرجع الروم الطرف الذي افتتح في ذلك الزمن. فالفتح التام حصل في زمن السلطان محمد من آل عثمان نهار الأربعاء لعشرين من جمادى الآخر سنة سبع وخمسين وثمان مئة، وكانت أيام محاصرتها إحدى وخمسين يومًا فغنم المسلمون من الأموال والدواب ما لم يسمع بمثله
…
إلخ
قلت: وحكى صاحب "المجمع" عن القرطبي فتحها في زمن عثمان رضي الله عنه، وليس بوجيه؛ فإنهم قاطبة صرحوا بأنها فتحت قريبًا من سنة خمسين هجري، ولعل القرطبي تجوز باعتبار أن مبدأ غزوة الروم في البحر كان في زمن عثمان رضي الله عنه، وهي مصداق أولى غزوتي في حديث أم حرام (ز).
المؤمنين أهل الحجاز الذين يجاهدون في سبيل الله ولا تأخذهم في الله لومة لائم، حتى يفتح الله عليهم قسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير، فينهدم حصنها. . ." الحديث. رواه ابن ماجه، والحاكم.
وعن أبي قبيل قال: "تذاكرنا فتح القسطنطينية ورومية، أيهما تُفتح أولًا؟ قال عبد الله فقيل: يا رسول الله؛ أي المدينتين تفتح أولًا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تُفتح أولًا"؛ يريد القسطنطينية رواه أحمد، والحاكم وصححه.
تَفهيمٌ في تَتمِيم
قال الحافظ ابن القيم في "المنار": قد اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال:
أحدها: أنه المسيح ابن مريم عليه السلام، وأنه هو المهدي على الحقيقة، واحتج أصحاب هذا القول بحديث محمد بن خالد الجُنْدي؛ أي المتقدم، وقد بينا حاله وأنه لا يصح، ولو صح لم يكن فيه حجةٌ؛ لأن عيسى عليه السلام أعظم مهدي بين يدي الساعة، فيصح أن يقال: لا مهدي في الحقيقة سواه، إن كان غيره مهديًا، يعني: هو المهدي الكامل المعصوم.
ثانيها: أنه المهدي الذي ولي من بني العباس قد انتهى، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه أحمد في "مسنده" عن ثوبان؛ مرفوعًا:"إذا رأيتم الرايات السود أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبوًا على الثلج؛ فإن فيه خليفة الله المهدي"، وفيه علي بن زيد ضعيفٌ وله مناكير، فلا يحتج بما ينفرد به.
وَرَوى ابن ماجه من حديث الثوري، عن ثوبان نحوه، وتابعه عبد العزيز بن المختار، عن خالد.
وفي "سنن ابن ماجه": عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ مرفوعًا: "إن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً وتشريدًا وتطريدًا، حتى يأتي قومٌ من أهل المشرق ومعهم رايات سود"
…
الحديث، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد؛ وهو سَيِّئ الحفظ، اختلط في آخر عمره، وكان يقبل الفلوس.
قال: وهذا والذي قبله لو صح لم يكن فيه دليلٌ على أن المهدي هو الذي تولى من بني العباس.
أقول: قد مر أن رايات المهدي أيضًا تأتي من خراسان وأنها سود، وأنها غير رايات بني العباس، والله أعلم.
ثالثها: أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من ولد الحسن؛ أي: أو ولد الحسين بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد ملئت الأرض جورًا، فيملؤها قِسطًا وَعدلًا، وأكئر الأحاديث على هذا.
وأما الرافضة والإمامية فلهم قول رابع:
وهو: أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي، لا من ولد الحسن بن علي، الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار، دخل سرداب سامراء طِفلًا صغيرًا من أكثر من خمس مئة سنة، فلم تره بعد ذلك عين، ولم يُحس عنه بخبر، وهم ينتظرونه كل يوم ويقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به: أن اخرج يا مولانا، اخرج يا مولانا. ثم يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم.
ولقد أحسن من قال:
مَا آنَ لِلسِّرْدَابِ أَنْ يَلِدَ الَّذِي
…
كَلَّمْتُمُوهُ لِجَهْلِكُمْ مَا آنَا
فَعَلَى عُقُولكُمُ الْعَفَاءُ فَإِنَّكُمْ
…
ثَلَّثْتُمُوا الْعَنْقَاءَ وَالْغِيلَانَا
ولقد أصبح هؤلاء عارًا على بني آدم، وَضُحكةً يَسخر منها كل عاقل.
أقول: وقد ادعى قومٌ من السلف في محمد بن عبد الله المحض النفس الزكية أنه المهدي، وقد مرت الإشارة [إليه]، والله أعلم.
قال: وأما مهدي المغاربة؛ محمد بن تومرت فإنه رجلٌ كَذابٌ ظَالمٌ متغلبٌ بالباطل، ملك بالظلم، فقتل النفوس، وأباح حريم المسلمين، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، وكان شرًّا على الملة من الحجاج بن يوسف بكثير، وكان يُودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء، ويأمرهم أن يقولوا للناس: إنه المهدي
الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يردم عليهم؛ لئلا يكذبوه بعد ذلك، وتسمى بالمهدي المعصوم.
ثم خرج الملحد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان جَدُّهُ يهوديًا من بنت مجوسي، فانتسب بالكذب والزور إلى أهل البيت، وادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وملك وتغلب واستفحل أمره، إلى أن استولت ذريته الملاحدة المنافقون الذين كانوا أعظم الناس عداوة لله ورسوله على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام، واشتدت غُربة الإسلام ومحنته ومصيبته، وكانوا يدعون الإلهية ويدعون أن للشريعة باطنًا يخالف ظاهرها، وهم ملوك الفاطمية الباطنية أعداء الدين، فتستروا بالرفض والانتساب إلى أهل البيت، ودانوا بدين أهل الإلحاد.
ولم يزل أمرهم ظاهرًا إلى أن أنقذ الله الأمة، ونصر الإسلام بصلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستنقذ الملة الإسلامية منهم وأبادهم، وعادت مصر دار إسلام بعد أن كانت دار نفاق وإلحاد في زمنهم.
انتهى ملخصًا بمعناه.
وقد مرت الإشارة إلى بعض قبائحهم، وبدعهم، وكفرهم، وإلحادهم في الباب الأول.
أقول: وقد ذكر الشيخ علي المتقي في رسالةٍ له في أمر المهدي: أن في زمانه خرج رجل بالهند ادعى أنه المهدي المنتظر واتبعه خَلقٌ كثير، وظهر أمره وطار صيته، ثم إنه مات بعد مدة، وأن أتباعه لم يرجعوا عن اعتقادهم.
قُلْتُ: وقد سمعت كثيرًا من القادمين من بلاد الهند إلى الحرمين من العلماء والصلحاء، أن أولئك القوم إلى الآن على ذلك الاعتقاد الخبيث، وأنهم يعرفون بالمهدوية، وربما سموا بالقتالية؛ لأن كل من قال لهم: إن اعتقادكم باطل. قتلوه، حتى إن الرجل الواحد منهم يكون بين الجمع الكثير من المسلمين، فإذا قيل له: إن اعتقادك باطل قتل القائل، ولا يبالي أيقتل أو يَسلم، وهم خَلقٌ كثير، وقد ضموا إلى ذلك الاعتقاد بدعًا أخر خرجوا بها عن سواء الصراط.
أخبرني بهذا جَمعٌ من ثقات أهل الهند.
وظهر بجبال شهرزور وأنا طفل إذ ذاك بقريةٍ يقال لها: أزمك -بهمزة مفتوحة
آخرها كاف- رجل يسمى محمدًا، وادعى أنه المهدي واتبعه خَلقٌ، ثم إن أمير تلك البلاد أحمد خان الكردي أغار عليه، فهرب، وأخذ أخاه، وخرب قريته، وقتل جماعةً من أتباعه، فزالت شوكته وَذَلَّ، فاجتمع عليه علماء الأكراد وأفتوه بكفره، وألزموه بتجديد إيمانه، وتجديد عقد نكاح أزواجه، فتاب ورجع عن ذلك ظاهرًا، لكن كان بعض من يخالطه يقول: إنه لم يرجع باطنًا.
وقد اجتمعتُ به سنة سبعين وألف فوجدته عابدًا كثير الاجتهاد، متورعًا في مأكله وملبسه عن الحرام، مُلازمًا للأوراد على طريقة الخلوتية، وكان أخوه ذاك الذي أُخِذَ وحُبِسَ لأجله شديد الإنكار عليه، كثير اللوم له، ثم إنه توفي رحمه الله.
فهؤلاء الذين ادعوا المهدية بالباطل، واتبعهم بعض السفهاء وحصلت منهم فِتنٌ وفسادٌ كثير في الدين.
وظهر قبل تأليفي لهذا الكتاب بقليل رَجُلٌ بجبال عقر، أو العمادية من الأكراد يسمى: عبد الله، ويدعي أنه شريفٌ حُسيني، وله ولدٌ صغير ابن اثنتي عشرة سنة، أو أقل أو أكثر، قد سماه محمدًا، ولقبه المهدي، فادعى أن ابنه هو المهدي الموعود، وتبعه جماعةٌ كثيرة من القبائل، واستولى على بعض القلاع، ثم ركب عليه والي الموصل، ووقع بينهم قتال وسفك دماء، وقد انهزم المدعي وأُخِذَ هو وابنه إلى استنبول، ثم إن السلطان عفا عنهما ومنعهما من الرجوع إلى بلادهما، وماتا جميعًا.
ومنها: الدجال:
ورد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب حضور الملحمة، وحضور الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال" رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه.
وحكى البيهقي عن شيخه الحاكم قال: أول الآيات ظُهورًا -أي: بعد المهدي- خروج الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم فتح يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها.
وسيأتي في كلام الحاكم أن خروج الدابة بعد طلوع الشمس وأنه الأوجه، فنذكرها بإذن الله على هذا الترتيب، وبالله التوفيق وعليه التكلان.
فنقول: ومن الفتن الواقعة في زمن المهدي، ومن الأشراط العظام القريبة: خروج الدجال، وأخباره تحتمل مجلدًا، أفردها غير واحد من الأئمة بالتأليف (1).
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "ثلاث إذا خرجن لم ينفع نَفْسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها" رواه الترمذي وصححه.
ومن دعواته صلى الله عليه وسلم: "اللَّهَم؛ إني أعوذ بك من فتنة المسيح الدجال".
ووقع في "تفسير البغوي": أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ، وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل على البعض.
وفي "صحيح البخاري": "ما من نبي إلَّا وقد أنذر قومه". زاد في رواية معمر: "لقد أنذر نوح قومه".
وعند أبي داود، والترمذي وحسنه عن أبي عبيدة رضي الله عنه:"لم يكن نبيٌّ بعد نوح إلَّا وقد أنذر قومه الدجال".
وعند أحمد: "لقد أنذر نوح أمته والنبيون من بعده"، وأخرجه من وجه آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما.
والكلام عليه يأتي في مقامات في اسمه ونسبه ومولده وحليته وسيرته وفتنته ومحل خروجه ووقته ومدته وكيفيته وكيف النجاة منه ومن يقتله.
(1) وبسط روايات خروجه عامة أهل الحديث سيما السيوطي في "الدُّر"(2/ 242) تحت قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} قبيل المائدة. (ز).
المقام الأول في اسمه، ونسبه، ومولده
هو: صافي بن الصياد، أو الصائد، ومولده المدينة هذا بناءً على أن ابن الصياد هو الدجال، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن الأصح أنه غيره.
وعليه: فإما أنه شيطانٌ موثقٌ في بعض الجزائر، أو هو من أولاد شِقّ؛ الكاهن المشهور، أو هو شِقٌّ نفسه، وكانت أمه جنية عشقت أباه فأولدها شقًّا، وكانت الشياطين تعمل له العجائب، فحبسه سليمان النبي عليه السلام ولقبه المسيح.
وصفته: الدجال؛ مشتقٌّ من الدجل؛ وهو: الخلط واللبس والخَدعُ، فمعنى الدجال: الخداع الملبس على الناس، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حين خطب إليه أبو بكر رضي الله عنه فاطمة عليها السلام:"إني وعدتها لعلي، ولست بدجال"؛ أي: لست بخداعٍ له ولا مُلبسٍ عليك أمرك.
وأما تلقبه بالمسيح (1): فلأن عينه الواحدة ممسوحة، يقال: رجل مسيح الوجه، إذا لم يبق على أحد شقي وجهه عين ولا حاجب إلَّا استوى. وقيل: لأنه يمسح الأرض؛ أي: يقطعها.
وقال أبو الهيثم: إنه المِسِّيح؛ بوزن سكين؛ وهو: الذي مُسِحَ خلقه وشوه. وقال بعضهم: إنه المسيخ، بالخاء المعجمة. وعيسى عليه السلام؛ بالمهملة.
قال في "فتح الباري": وبالغ القاضي ابن العربي فقال: ضلَّ قومٌ فروه بالخاء المعجمة، وشدد بعضهم السين ليفرقوا بينه وبين المسيح ابن مريم عليه السلام، قال: وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله في الدجال: "مسيح الضلالة"، فدل على أن عيسى عليه السلام مَسيحُ الهدى، فأراد هؤلاء تعظيم عيسى عليه السلام فحرفوا الحديث.
(1) وحكى صاحب "الدرجات"(ص 176) عن القرطبي أن في وجه تسميته بالدجال عشرة أقوال، وعن صاحب "القاموس" عن وجه تَلقُّبهِ بالمسيح خمسين قولًا (ز).
قال المجد في "القاموس" اجتمع لنا في سبب تسميته المسيح خمسون قولًا، وأما وجه تسمية عيسى عليه السلام مسيحًا؛ لأنه لا يمسح ذا عاهة إلَّا برئ، أو لأنه لا أخمص له، ومنه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم كان مسيح القدمين، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، أو لأنه يمسح الأرض ويقطعها.
المقام الثاني في حليته، وسيرته، وفتنته
أما حليته: فإنه رجلٌ شاب، وفي رواية: شيخ، -وسندهما صحيح- جسيم، أحمر. وفي رواية: أبيض أمهق. وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الطبراني: "أنه آدم".
قال في "فتح الباري": يمكن أن تكون أدمته صافية، وقد يوصف ذلك بالحمرة؛ لأن كثيرًا من الأُدْمِ قد تحمر وجنته، جعد الرأس، قطط، أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية. وفي رواية:"أعور العين اليسرى"(1). ووقع في حديث سمرة عند الطبراني، وصححه ابن حبان، والحاكم:"ممسوح العين اليسرى". وجاء في رواية: "أنه أعور العين مطموسها، وليست جحراء"، وهذا معنى (طافئة)؛ مهموزة.
قال في "فتح الباري" نقلًا عن القاضي عياض: الذي رويناه عن الأكثر وصححه الجمهور، وجزم به الأخفش:(طافية)؛ بغير همزة.
قال: وضبطه بعض الشيوخ بالهمزة، ومعناه: أنها ناتئةٌ نُتوء العنبة، وأنكره بعضهم ولا وجه لإنكاره.
ثم جمع القاضي عياض بين الروايات بأن عينه اليمنى طافية بغير همز وممسوحة؛ أي: ذهب ضوءها، وهو معنى حديث أبي داود:"مطموس العين ليست بناتئة ولا جحراء"؛ أي: ليست عالية ولا عميقة؛ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في "الصحيحين": "واليسرى طافئة" بالهمز؛ كما في الرواية الأخرى عنه.
وهي: الجاحظة التي كأنها كوكب، وكأنها نخاعة في حائط؛ أي: وهي الخضراء، كما جاء كل ذلك في الأحاديث.
(1) اختلفت الروايات في عيني الدجال، كما بسطها الحافظ (6/ 343)(13/ 78)، والعيني (ج 1، ج 2)، والنووي (1/ 96). (ز).
قال: وعلى هذا فهو أعور العينين معًا، فكل واحدة منهما عوراء، وذلك أن العور: العيب، والأعور من كل شيء: المعيب. وكلا عيني الدجال معيبة؛ إحداهما بذهاب نورها، والأخرى بنتوئها وخضرتها.
قال النووي: وهو في غاية الحسن، له على عينه ظفرة غليظة، وهي جلدة تغشى العين، وإذا لم تقطع عميت.
وقال البيضاوي: الظفرة: لحمة تنبت عند المأق.
وقيل: لحمة تخرج في العين في الجانب الذي يلي الأنف، وهما متقاربان.
قال الحافظ ابن حجر: وقد ورد في كلتا عينيه أن عليها ظفرة.
وفي بعض الروايات: عن أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد: "عينه اليمنى جاحظة لا تخفى، كأنها نخاعة في حائط مجصص، وعينه اليسرى؛ كأنها كوكب دري".
وفي حديث أُبَيّ عند أحمد، والطبراني:"إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء".
قال الحافظ: والذي يتحصل من مجموع الأخبار، أن الصواب في (طافية) أنه بغير همز، وصرح في حديث عبد الله بن مغفل وسمرة وأبي بكرة بأن عينه اليسرى ممسوحة، والطافية هي البارزة، وهي غير الممسوحة ولها الظفرة.
فجائز أن يكون في كل من عينيه؛ لأنه لا يضاد الطمس ولا النتوء، ويكون التي ذهب ضوءها هي المطموسة -يعني: اليسرى- والمعيبة مع بقاء عينها هي البارزة. انتهى
ومن حليته: أنه قصير أفحج -بفاء ساكنة، وجيم آخره- من الفحج؛ وهو: تباعد ما بين الساقين، وقيل: تداني صدور القدمين مع تباعد العقبين، وقيل: هو الذي في رجليه اعوجاج.
(جفال الشعر)؛ بضم الجيم وتخفيف الفاء؛ أي: كثيره.
(هجان)؛ بكسر أوله، وتخفيف الجيم؛ أي: أبيض.
(أقمر)؛ أي: شديد البياض. (ضخم فيلماني)؛ بفتح الفاء، وسكون
التحتانية؛ أي: عظيم الجثة كأن رأسه أغصان شجرة؛ أي: شعر رأسه كثير متفرق قائم.
وفي رواية: أن رأسه من ورائه حبك؛ أي: شعره متكسر من الجعودة كالماء والرمل إذا ضربته الريح.
قال في "النهاية": وهذا معنى ما مر أنه جعد قطط مكتوب بين عينيه: (ك ف ر)، بحروف متقطعة، يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب، ولا يقرؤها الكفار، لا يولد له، ولا يدخل المدينة ومكة، تتبعه أقوام كأن في وجوههم المجان المطرقة، وسبعون ألفًا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة.
وفي لفظ: عليهم من السيجان، وكلهم ذو سيف مُحَلّى.
تَنبيه
قال في "النهاية": السيجان جمع ساج وهو الطيلسان الأخضر، وقيل: هو الطيلسان المقور ينسج كذلك. ومنهم من يجعل ألفه منقلبة عن الواو، ومنهم من يجعلها منقلبة عن الياء. انتهى
ومن صفاته أنه تنام عيناه، ولا ينام قلبه، أبوه طوال ضرب اللحم كأن أنفه منقارًا. وأمه امرأة فرضاخية؛ أي: كثيرة اللحم طويلة الثديين. له حمار أهلب؛ أي: كثير الهلب، وهو الشعر الغليظ. ما بين أذنيه أربعون ذراعًا، يضع خطوة عند منتهى طَرْفهِ.
عن أبي الطفيل، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يخرج الدجال على حمار، رجس على رجس" رواه ابن أبي شيبة.
وعن عليّ كرّم الله وجهه: "يخرج الدجال، ومعه سبعون ألفًا من الحاكة (1)؛ وهي موضع، على مقدمته أشعر؛ أي: رجل كثير الشعر يقول: بِرَو بِرَو" رواه الديلمي؛ أي: وهي كلمة بالفارسية، ومعناه: اسع اسع.
(1) وقد ذكره الحافظ في "اللسان"(1/ 242) من رواية ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "سبعون ألف حائك" وقال: هذا باطلٌ (ز).
وعن أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه: "أن طول الدجال أربعون ذراعًا بالذراع الأول، تحته حمار أقمر؛ أي: شديد البياض، طول كل أذن من أذنيه ثلاثون ذراعًا، ما بين حافر حماره إلى الحافر الآخر مسيرة يوم وليلة، تُطوى له الأرض منهلًا منهلًا، يتناول السحاب بيمينه، ويسبق الشمس إلى مغيبها، يخوض البحر إلى كعبيه. . ." الحديث بطوله.
تَنْبيه
لا منافاة بين هذه ورواية أنه قصير؛ لاحتمال أن قصره بالنظر إلى ضخامته؛ فإن ضخامته تقضي أن يكون أطول من ذلك، أو أنه ابتداء قصير وهو خلقته في نفس الأمر، ثم إذا أظهر الكفر وادعى الإلهية زاد طوله وضخامته؛ ابتلاء من الله للعباد، وفتنة لهم كسائر فتنه، والله أعلم.
وأما سيرته: فإنه يخرج أولًا فيدعي الإيمان والصلاح، ويدعو إلى الدين، فَيُتبع ويظهر، فلا يزال حتى يقدم الكوفة، فيظهر الدين ويعمل فيه، فَيُتبع ويُحَبُّ على ذلك، ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لُبّ ويفارقه، ثم يمكث بعد ذلك أيامًا، ثم يدّعي الإلهية ويقول: أنا الله. فتغشى عينه، وتقطع أذنه، ويكتب بين عينيه: ك ف ر، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحدٍ من الخلق في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. هكذا رواه الطبراني عن عبد الله بن معتمر رضي الله عنه، وكان صحابيًا.
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه قال: "يتوجه الدجال فينزل عند باب دمشق الشرقي -أي: ابتداءً قبل خروجه- ثم يُلتمس فلا يُقدر عليه، ثم يُرى عند المنارة التي عند نهر الكسوة، ثم يُطلب فلا يُدرى أين توجه، فَيُنسى ذكرهُ، ثم يَظهَرُ بالمشرق فَيُعْطَى الخلافة، ثم يُظهر السحر، ثم يدعي النبوة، فيتفرق الناس عنه -أي: يعني: المسلمين- فيأتي النهر فيأمره أن يسيل فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس. . ." الحديث بطوله رواه نُعيم بن حماد.
ويتبعه سبعون ألفًا من يهود أصبهان، وثلاثة عشر ألف امرأة، وعامة من يتبعه اليهود، والترك، والنساء، ويبعث الله له شياطين فيقولون: استعن بنا على ما تريد.
فيقول: نعم، اذهبوا إلى الناس فقولوا: أنا ربهم. فيبثهم في الآفاق إلى غير ذلك.
وأما فتنه: فكثيرة لا تكاد تنحصر:
منها: "أنه يسير معه جبلان أحدهما فيه أشجار وثمار وماء، وأحدهما فيه دخان ونار، فيقول: هذه الجنة، وهذه النار" رواه الحاكم، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ومنها: "أن معه جنة ونارًا، ورجالًا يقتلهم ثم يحييهم، معه جبل من ثريد ونهر من ماء" رواه نُعيم عن حذيفة رضي الله عنه.
تَنبيه
لا ينافي هذا ما ورد أنه يُسلط على نفس واحدة ثم لا يقدر عليه ثانيًا، وأنه يقول: لا يفعل بعدي بأحدٍ من الناس. لأن هؤلاء الرجال هم شياطين، وقتله إياهم وإحياؤه إنما هو في رأي العين لا على الحقيقة.
وقيل: ذلك حقيقة؛ أي: وهو الخَضِرُ؛ كما سيأتي.
وفي رواية: "معه جِبالٌ من خبز، والناس في جهد إلَّا من اتبعه، ومعه نهران أنا أعلم بهما منه، نهر يقول له: الجنة، ونهرٌ يقول له: النار. فمن أدخل الذي يسميه الجنة فهو النار، ومن أدخل الذي يسميه النار فهو الجنة" رواه أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، وسعيد بن منصور، عن جابر رضي الله عنه.
وفي رواية: "لأنا أعلم بما مع الدجال منه؛ معه نهران يجريان: أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فأما إن أدرك ذلك واحد منكم فليأت النهر الذي يراه نارًا وَليغمض، ثم ليطأطئ رأسه فليشرب، فإنه ماء بارد".
وفي رواية البخاري، عن المغيرة بن شعبة:"معه جبل خبز".
زاد مسلم في روايته: "معه جبال خبز، ولحم، ونهر من ماء".
وفي رواية إبراهيم: "أن معه الطعام والأنهار".
وفي رواية يزيد بن هارون: "أنَّ معه الطعام والشراب".
وفي رواية: "معه مثل الجنة والنار".
وفي رواية نُعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه: "ومعه جبل من مرق، وعَرَاقٌ اللحم حار لا يبرد، ونهر جار، وجبل من جنان وخضرة، وجبل من نار ودخان، يقول: هذه جنتي، وهذه ناري، وهذا طعامي، وهذا شرابي".
تَنبيه
اختلفوا في هذه الجنة والنار؛ هل هي حقيقة أم تخييل؟
مال ابن حبان في "صحيحه" إلى أنه تخييل، واستدل بحديث المغيرة بن شعبة في "الصحيحين" أنه قال: كنت أُكْثِرُ من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال، فقال لي:"وما يضُرك؟ " قلت: لأنهم يقولون إن معه جبل خبز. قال: "هو أهون من ذلك".
معناه: أنه أهون على الله من أن يكون معه ذلك حقيقة، بل يُرى كذلك وليس بحقيقة؛ أي: ويدل له الرواية السابقة: "أحدهما في رأي العين ماء أبيض، والآخر في رأي العين نار تأجج".
وقال جماعة منهم القاضي ابن العربي: بل هي على ظاهرها؛ أي: فيكون ذلك امتحانًا من الله لعباده، ويكون معنى الحديث: هو أهون من أن يُخَاف، أو أن يضل الله به من يُحبه.
قُلْتُ: والتحقيق: الأول؛ كما يدل له قوله: "فليغمض، ثم ليطأطئ رأسه، فيشرب؛ فإنه ماء بارد"، وما في رواية:"فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه أنها نار؛ فإنه ماء عذب بارد"، وما في رواية:"فالنار روضة خضراء، والجنة غبراء ذات دخان"، والفرق بينهما وبين غيرهما من الخوارق حيث إن لها حقيقة، كما يظهر أن الجنة والنار لما كانا داري جزاءٍ وثواب وعقاب، ينبغي أن لا يكونا لغير الله حقيقة، بخلاف غيرهما من الخوارق، والله أعلم.
ومنها: أنه تُطوى له الأرض منهلًا منهلًا طي فروة الكبش، وأنه يسيح الأرض كلها في أربعين يومًا، وما من بلد إلَّا وسيطؤها إلَّا مكة والمدينة؛ كما سيأتي.
وسرعته في السير كالغيث استدبرته الريح.
ومنها: "أن له ثلاث صيحات يسمعها أهل المشرق وأهل المغرب، ويتناول الطير من الجو، ويشويه في الشمس شيًا" رواه الحاكم، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ومنها: "أنه يخوض البحر في اليوم ثلاث خوضات لا يبلغ حقويه، وإحدى يديه أطول من الأخرى، فيمد الطويلة في البحر فيبلغ قعره، فَيُخْرِجُ من الحيتان ما يريد" رواه أبو نعيم عن حذيفة رضي الله عنه.
ومنها: أنه يخرج في خفة من الدين وإدبار من العلم، فلا يبقى أحد يحاجّه في أكثر الأرض، ويذهل الناس عن ذكره، وأن أكثر ما يتبعه الأعراب والنساء، حتى إن الرجل ليردّ أمه وبنته وأخته وعمته، فيوثقهن رباطًا مخافة أن يخرجن إليه.
وأنه يأتي فيقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك، وبعثت لك أمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول له: نعم. فيتمثل له شيطان على صورة أبيه، وآخر على صورة أمه، فيقولان له: يا بني؛ اتبعه فإنه ربك. فيتبعه.
ومن ثَمَّ قال حذيفة رضي الله عنه: لو خرج الدجال في زمانكم لرمته الصبيان بالخزف، ولكنه يخرج في نَقصٍ من العلم، وخِفةٍ من الدين.
تَنبيه
المراد بالأعراب هنا: كل بعيدٍ عن العلماء ساكن في البادية والجبال، سواء كان من الأعراب أو الأتراك أو الأكراد أو غير ذلك؛ لأنهم ليس عندهم ما يميزون به بين الحق والباطل، وأكثر النفوس مائلةٌ إلى تصديق الخوارق.
فائِدَة
قال الحافظ ابن حجر: أخرج أبو نُعيم في ترجمة حسان بن عطية أحد ثقات التابعين من "الحلية" بسندٍ صحيح إليه قال: لا ينجو من فتنة الدجال إلَّا اثنا عشر ألف رجل، وسبعة آلاف امرأة. قال: وهذا لا يقال من قِبَلِ الرأي؛ فيحتمل أن يكون مرفوعًا أرسله، أو أخذه عن بعض أهل الكتاب. اهـ
وينبغي أن يُحْمَل على أن الذين ينجون من الأعراب والنساء هذا القدر؛ لما مر في
قصة المهدي أن معه في الغزو أكثر من هذا بكثير، ويمكن أن يقال: إذا رأوه اتبعوه، لكنه بعيدٌ إن شاء الله تعالى.
وقد ورد كما مر في قتل عثمان رضي الله عنه: أن كل من في قلبه مثقال حبة من قتل عثمان رضي الله عنه اتبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه آمن به في قبره.
فعلى هذا: كل من بقي من الرافضة على اعتقاده اليوم ولم يهتد بالمهدي الحق فإنه يتبعه؛ لأن كل رافضي يُحب قتل عثمان رضي الله عنه وراضٍ به، نسأل الله أن يُميتنا على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته آمين.
ومنها: أن معه ملكين من الملائكة يشبهان نبيين من الأنبياء، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فيقول الدجال: ألست ربكم أحيي وأميت؟ ! فيقول أحد الملكين: كذبت. فما يسمعه أحدٌ من الناس إلَّا صاحبه، فيقول له صاحبه: صدقت. ويسمعه الناس فيحسبون أنه صَدَّق الدجال، وذلك فتنة.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند نُعيم والحاكم:
فإذا قال: أنا رب العالمين قال له إلياس: كذبت. ويقول اليسع: صدق إلياس. فكأن النبيين الذين يشبههما الملكان هما إلياس واليسع.
ومنها: أن الله يبعث له الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها، فيقولون: استعن بنا على من شئت. فيقول: نعم، انطلقوا فأخبروا الناس أني ربهم، وأني قد جئتهم بجنتي وناري. فتنطلق الشياطين، فيدخل على الرجل أكثر من مئة شيطان، فيتمثلون له بصورة والده، ووالدته، وإخوته، ومواليه، ورفيقه، فيقولون: يا فلان؛ أتعرفنا؟ فيقول لهم الرجل: نعم، هذا أبي، وهذه أمي، وهذه أختي، وهذا أخي. فيقول الرجل: ما نبأكم؟ فيقولون: بل أنت أخبرنا ما نبأك؟ فيقول الرجل: إنّا قد أُخبرنا أن عدو الله الدجال قد خرج. فتقول له الشياطين: مهلًا، لا تقل هذا، فإنه ربكم يريد القضاء فيكم، هذه جنته قد جاء بها وناره، ومعه الأنهار والطعام، فلا طعام إلَّا ما كان قِبَلَهُ إلَّا ما شاء. فيقول الرجل: كذبتم، ما أنتم إلَّا شياطين وهو الكذاب، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدث حديثكم وحذّرنا
وأنبأنا به، فلا مرحبًا بكم، أنتم الشياطين، وهو عدو الله، وليسوقن الله إليه عيسى ابن مريم فيقتله، فيخسؤوا فينقلبوا خائبين.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أحدثكم هذا لتعقلوه وتفهموه وتفقهوه وتعوه، فاعملوا عليه، وحدثوا به من خلفكم، وليحدث الآخر الآخر، فإن فتنته أشد الفتن" رواه نُعيم.
وروى هو والحاكم في "المستدرك": عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "وتأتيه المرأة فتقول: يا رب؛ أحيي ابني وأخي وزوجي. حتى إِنها تعانق شيطانًا، وبيوتهم مملوءة شياطين، ويأتيه الأعرابي فيقول: يا رب؛ أحيي لنا إبلنا وغنمنا. فيعطيهم شياطين أمثال إبلهم وغنمهم سواء بالسن والسمة، فيقولون: لو لم يكن هذا ربنا لم يُحيي لنا موتانا"؛ أي: وكأن الحديث الأول وارد فيمن يكفر به، وهذا فيمن يُؤمن ويتبعه.
ومنها: "أنه يتناول السحاب بيمينه، ويسبق الشمس إلى مغيبها، يخوض البحر إلى كعبه، أمامه جبل دخان، وخلفه جبل أخضر، يُنادي بصوت له يَسمَعُ ما بين الخافقين: إليَّ أوليائي، إليَّ أوليائي، إليَّ أحبابي، إليَّ أحبابي، فأنا الذي خلق فسوّى، والذي قدر فهدى، وأنا ربكم الأعلى. كذبَ عدو الله ليس ربكم كذلك، ألا إن الدجال أكثر أتباعه اليهود وأولاد الزنا". رواه ابن المنادي عن عليّ كرم الله وجهه.
ومنها: "أنه يأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم -أي: ماشيتهم- أطول ما كانت ذُرى؛ أي: أسنمه، وأسبغَهُ؛ أي: أطوله ضروعًا وأمده خواصر، ثم يأتي على القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون مُمَحّلِين -أي: مقحطين- ليس بأيديهم شيء من أموالهم" رواه مسلم عن النواس بن سمعان.
ومنها: "أنه يمر بالخَربةِ فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل" رواه مسلم عن النواس.
واليعاسيب: جمع يَعْسُوب، وهو ذكر النحل. والمراد هنا: جماعة النحل، لكنه كَنّى عن الجماعة باليعسوب وهو أميرها؛ لأنه متى طار تبعته جماعته.
ومنها: "أنه يأتي على النهر فيأمره أن يسيل فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس" رواه نُعيم بن حماد عن كعب الأحبار.
ومنها: "أنه يأمر جبل طور سيناء وجبل زيتا أن ينتطحا فينتطحان، ويأمر الريح أن تُثير سحابًا من البحر فَتُمطرَ الأرضَ" رواه نُعيم عنه أيضًا.
ومنها: "أنه يقول: أنا رب العالمين، وهذه الشمس تجري بإذني، أفتريدون أن أحبسها؟ فيقولون: نعم. فيحبس الشمس حتى يجعل اليوم كالشهر، والجمعة كالسنة، ويقول: أتريدون أن أُسَيّرهَا؟ فيقولون: نعم. فيجعل اليوم كالساعة" رواه نُعيم بن حماد، والحاكم، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ومنها: "أن قبل خروجه ثلاث سنوات شدائد يُصيب الناس فيها جُوعٌ شَديدٌ، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تَحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تَحبس ثلث نباتها، ثم يأمر الله [السماء] في السنة الثانية فتحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها. ثم يأمر الله عز وجل السماء في السنة الثالثة فلا تُمْطر قطرة، ويأمر الأرض فلا تُنبت خضراء، فلا يبقى ذات ظِلْفٍ إلَّا هلكت إلَّا ما شاء الله"، قيل: يا رسول الله؛ فما يُعيشُ الناس إذا كان ذلك؟ قال: "التسبيح والتكبير، يجري ذلك منهم مجرى الطعام". رواه ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم عن أبي أمامة رضي الله عنه.
ومنها: "أنه يُسَلّطُ على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى يَلْقِيها شقين، فيمر الدجال بينهما ثم يقول: انظروا هذا، فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له ربًا غيري. ثم يبعثه الله فيقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله الدجال، والله ما كُنت قط أَشدَّ بصيرة فيك مني الآن. فيريد أن يقتله ثانيًا فلا يُسلّط عليه" رواه ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم، والضياء، عن أبي أمامة رضي الله عنه.
تَنبيه
المنشار؛ بالنون وبالياء المثناة التحتية: لغتان فصيحتان من النشر والوشر، وهما بمعنًى.
المقام الثالث في مَحلِّ خُروجه، وَوقتهِ، وَمُدّتهِ، وكيفيته، وطريق النجاة منه، ومن يقتله
أما محل خروجه: فالمشرق جزمًا (1)، ثم جاء في رواية: أنه يخرج من خراسان، روى ذلك أحمد، والحاكم، من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
وفي أخرى: أنه يخرج من أصبهان. أخرجها مسلم.
وعند الحاكم، وابن عساكر، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه يخرج من يهودية أصبهان؛ أي: محلة خارج أصبهان، ومثله عند أحمد عن عائشة رضي الله عنها.
وعند الطبراني من حديث فاطمة بنت قيس: يخرج من بلدة يقال لها: أصبهان، من قرية من قراها يقال لها: رستقباد.
وأما وقته: فعند فتح قسطنطينية؛ أي: بعده، وعند القحط الشديد ثلاث سنين كما مر في فتنته.
وفي بعض الروايات: أنه بعد فتح القاطع.
ووجه الجمع أن ابتداء خروجه ودعواه الخلافة والنبوة يكون عند فتح القسطنطينية وخروجه الأعظم، ودعواه الإلهية يكون عند فتح القاطع، والمقيد بالأربعين يومًا هو هذا الخروج.
وأما مدته (2): "فأربعون يومًا: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر
(1) وبذلك جزم الحافظ في "الفتح"(13/ 73)(ز).
(2)
قلت: وفيها رواية ثالثة في "المشكاة" عن "شرح السنة" برواية أسماء رضي الله عنها مرفوعًا، قال:"يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار".
وجمع القاري (5/ 195 - 211) بينها بالترجيح واختلاف الأحوال والرجال. (ز).
أيامه كأيامكم" كذا في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عند أحمد، ومسلم، والترمذي.
وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه عند ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم، والضياء:"إن أيامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والسنة كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة؛ يُصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي".
تَنبيه
اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فمنهم من قال: هو كنايةٌ عن اشتغال الناس بأنفسهم من الفتن حتى لا يدرون كيف يمضي النهار، فيكون مضي النهار عندهم كمُضي الساعة، والشهر كاليوم، والسنة كالشهر.
وقال بعضهم: بل هو على ظاهره. فقد ورد من حديث أنس رضي الله عنه عند أحمد، والترمذي في أشراط الساعة:"لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار".
والجواب عن اختلاف الحديثين إما بالترجيح وإما بالجمع، فإن رجحنا فحديث النواس عند مسلم أقوى؛ لأنه أصح. وإن كان الثاني أيضًا في "الصحيح" فَيقَدَّمُ. وإن جمعنا فطريق الجمع من وجوه:
الأول: أن أيامه أربعون سنة، وسمى السنين أيامًا مجازًا، ثم إن أول أيام سنته الأولى كسنة، وثانيها كشهر، وثالثها كجمعة، وباقي أيامها كأيامنا، ثم تتناقص أيام السنة الثانية حتى تكون السنة كنصف سنة، وهكذا إلى أن تكون السنة كشهر، والشهر كجمعة، حتى يكون آخر أيامه كالشررة؛ يُصبح أحدهم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يُمسي، فتكون السنة الأولى من سنينه مشتملة على مقدار سنين من سِنينا، وَسُنُوه الأخيرة مقدار سنة من سِنينا.
ويقربه رواية نُعيم والحاكم المارة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه يقول: أنا رب العالمين، وهذه الشمس تجري بإذني، أفتريدون أن أحبسها؟ فيحبس الشمس حتى
يجعل اليوم كالشهر، والجمعة كالسنة. ويقول: أتريدون أن أسيرها؟ فيجعل اليوم كالساعة.
فائِدَة
سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في اليوم الذي كالسنة: "أيكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: لا، ولكن اقدروا له"؛ أي: اقدروا مقدار كل يوم فصلوا فيه خمس صلوات، وقيس به اليومان الآخران.
وسُئِلَ عن الأيام القصار: فقالوا: كيف نُصلي يا رسول الله في تلك الأيام؟ قال: "تُقَدّرون فيها الصلاة كما تُقَدّرونها في هذه الأيام الطوال".
والظاهر أن التقدير هنا عكس الأول؛ بأن تُصلي الخمس في مقدار يوم من هذه الأيام، ولو اشتمل ذلك على أيام كثيرة من تلك الأيام، والله أعلم.
الوجه الثاني: يحتاج إلى مقدمة هي: أن عالم المثال موجود، وأنه ليس خيالًا محضًا، بل حقيقة وهو في الخارج محسوس.
قال الإمام السيوطي في: "المنجلي في تطور الولي" نقلًا عن العلاء القونوي شارح "الحاوي" ما نصه: وقد أثبت الصوفية عالمًا متوسطًا بين عالم الأجساد وعالم الأرواح سمَّوْه عالم المثال، وقالوا: هو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة في عالم المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} . انتهى الغرض منه.
وقال في "الفتوحات المكية" في الباب الثالث والستين: أظهر الله تعالى هذه الحقيقة -يعني: حقيقة عالم المثال- لعبده؛ ليعلم أنه إذا عجز وحار في هذا فهو بخالقه أجهل؛ فإن العقول لا تلحقه بالعدم المحض، ولا بالوجود المحض، ولا بالإمكان المحض.
وإلى هذه الحقيقة يصير الإنسان في نومه وبعد موته، فيرى الأعراض صورًا قائمة مُتجسدة لا يَشُكُّ فيها، والمكاشف يرى في يقظته ما يراه النائم في حال نومه، وما يراه الميت بعد موته، كما يُرى في الآخرة صور الأعمال توزن والموت يذبح، وكلها أعراض وَنِسب.
قال: ومن الناس من يُدرك هذا المُتَخيّلَ بعين الحس
…
إلى أن قال: فإن أدركت العين المتخيل، ولم تغفل عنه لم تختلف عليه التكوينات في الإرادة في مواضع مختلفات والذات واحدة لا يُشَكّ فيها، ولا انتقلت ولا تحولت في أكوان مختلفة، فيعلم أنه أدركها ببصره الحسي الذي يُدرك به المحسوسات. انتهى الغرض منه.
فعلم أنه ليس مَحْضَ خيال، بل هو مثالٌ محسوس، وقد وقع غير مرة تصديق هذا في الخارج؛ منها: أن رجلًا اغتسل بمصر فغطس في الماء وكان يوم الجمعة، فلما خرج منه رأى نفسه ببغداد، وتزوج هناك، وجاء بأولاد، وقعد سبع سنين فيها، ثم اغتسل في دجلة، فلما خرج منها رأى نفسه بمصر بمحل غسله في ذلك اليوم، وتلك الساعة، وأهله وأصحابه في انتظاره حتى يرجع ويلحق الجمعة. ثم بعد مدة قدمت امرأته وأولاده الذين ببغداد عليه ولحقوه بمصر.
إذا تمهد هذا فنقول: يحتمل أن يكون هذا من هذا القبيل، وأنه لبعض الناس أيام، ولبعضهم سُنُون، والكل موجود مُحقق. ولهذا تَرتبت عليه الأحكام، ووَجبت الصلاة فيها؛ كما في الحديث المار، وهنا وجه آخر أبعد من هذين فلا نذكره، والله أعلم.
وأما كيفية خروجه: فالروايات فيه مختلفة، وأبسط حَديثٍ فيه حديث النواس رضي الله عنه عند مسلم، وغيره.
وحديث أبي أمامة رضي الله عنه عند ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم، والضياء.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه عند نُعيم بن حماد، والحاكم.
وحديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم، وعند البخاري معناه.
وحديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا عند الحاكم.
فلنسق هذه الأحاديث مساقًا واحدًا، ولنجمع بين اختلافها بحسب الإمكان والتيسير، ونزيد بعض الزيادات من غيرها، وبالله التوفيق وعليه التكلان:
قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه لم يكن في الأرض منذ ذرأ الله
ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيًا إلَّا حذر أمته الدجال، أنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارجٌ فيكم لا محالة، فخفض فيه ورفع حتى ظَنَنَّاه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك منا، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكلٌّ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، وإنه يخرج من خَلّةً -أي: من طريق- بين الشام والعراق، فيعيث -أي: يفسد- يبعث السرايا والجنود يمينًا وشمالًا، وإن على مقدمته سبعين ألفًا من يهود أصبهان، عليهم رجل أشعر من فيهم يقول: بِرَو، بِرَو؛ أي: اِسعَ اِسعَ".
قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله؛ فاثبتوا، فإني سأصفه لكم صفة لم يَصِفها إياه نبيٌّ قبلي، وإنه يبدأ فيقول: أنا نبي. ولا نبي بعدي، ثم يُثَنَّي فيقول: أنا ربكم. ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب -أي: حروفًا مهجأة هكذا: (ك ف ر)؛ كما صرح به في بعض الروايات-، وأن من فتنته أن معه جنة ونارًا، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتليَ بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف، فتكون عليه بردًا وسلامًا؛ كما كانت النار على إبراهيم، وأن من فتنته كذا وكذا، وقد ذكرناها مُفصلًا، وأن معه اليسع عليه السلام يُنذر الناس؛ يقول: هذا المسيح الكذاب فاحذروه لعنه الله، ويعطيه الله من السرعة ما لا يلحقه الدجال.
وفي رواية: "أنَّ بين يديه رجلين يُنذران أهل القرى، كلما دخلا قرية أنذرا أهلها، فإذا خرجا منها دخلها أول أصحاب الدجال، ويدخل القرى كلها غير مكة والمدينة، فيمر بمكة فإذا هو بخَلْقٍ عظيم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا ميكائيل بعثني الله لأمنعك من حرمه. ويمر بالمدينة فإذا هو بخَلْقٍ عظيم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل بعثني الله لأمنعك من حرم رسوله".
وفي رواية: "وإنه لا يبقى شيءٌ من الأرض إلَّا وطئه وظهر عليه، إلَّا مكة والمدينة؛ فإنه لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلَّا لقيه الملائكة بالسيوف صَلتةً فيمر بمكة، فإذا رأى ميكائيل ولى هاربًا، ويصيح فيخرج إليه من مكة منافقوها، ويمر
بالمدينة كذلك حتى ينزل عند الظريب الأحمر، عند منقطع السبخة".
وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان في "صحيحه" في كتاب التوحيد: "فيسير حتى ينزل بناحية المدينة، وهي يومئذ لها سبعة أبواب، على كل باب ملكان، فيخرج الله شرار أهلها" اهـ
فيتوجه قِبَلهُ رجل من المؤمنين ويقول لأصحابه: والله لأنطلقن إلى هذا الرجل فلأنظرن: أهو الذي أنذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فيقول له أصحابه: والله لا ندعك تأتيه، ولو أنَّا نعلمُ أنه يقتلك إذا أتيته خلينا سبيلك، ولكنا نخاف أن يفتنك. فيأبى عليهم الرجل المؤمن إلَّا أن يأتيه، فينطلق يمشي حتى يأتي مسالح الدجال -أي: خفراءه وطلائعه- فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الرجل الذي خرج. فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء. فيقولون: اقتلوه. فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدًا دونه؟ ! فيرسلون إلى الدجال: إنَّا قد أخذنا من يقول: كذا وكذا، أفنقتله أو نرسله؟ قال: أرسلوه إليَّ. فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن عرفه بنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول: يا أيها الناس؛ هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيأمر به الدجال فيشبح، ثم يقول: لتطيعني فيما أمرتك، وإلَّا شققتك شقتين. فينادي المؤمن: أيها الناس؛ هذا المسيح الكذاب، من عصاهُ فهو في الجنة، ومن أطاعه فهو في النار. فيؤمر به فيوسع ظهره وبطنه ضربًا، فيقول له الدجال: والذي أحلف به؛ لتطيعني، أو لأشقنك شقتين. فيقول: أنت المسيح الكذاب. فيؤمر به فيؤشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه.
وفي رواية: "فمد برجله فوضع حديدته على عجب ذنبه، فشقه شقين ويبعد بينهما قدر رمية الغرض، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ويقول لأوليائه: أرأيتم إن أحييته ألستم تعلمون أني ربكم؟ قالوا: بلى. فيضرب أحد شقيه، أو الصعيد عنده ويقول له: قم. فيستوي قائما، فلما رآه أولياؤه صدقوه، وأيقنوا أنه ربهم وأجابوه واتبعوه، وقال للمؤمن: ألا تؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلَّا بصيرة".
وفي رواية: "يقول: لأنا الآن أشد فيك بصيرة مني قبل، ثم نادى في الناس:
ألا إنَّ هذا المسيح الكذاب، وإنه لا يفعل بعدي بأحدٍ من الناس. فيقول الدجال: والذي أحلف به؛ لتطيعني، أو لأذبحنك ولألقينك في النار. فيقول: والله لا أُطيعك أبدًا. فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسًا، فلا يستطيع إليه سبيلًا".
وفي رواية: "فيوضع على جلده صفائح من نحاس، فلا يحيك فيه سلاحهم، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه في النار، وإنما ألقي في الجنة".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أقرب امرئٍ درجة مني، وأعظم الناس شهادة عند رب العالمين".
تَنبيه
هذا الرجل المؤمن هو الخَضِرُ عليه السلام على الأصح؛ كما صرح به في بعض الأحاديث الصحيحة، ودل عليه الكشف الصحيح.
أما الأحاديث فكثيرة:
منها: ما رواه ابن حبان في كتاب التوحيد من "صحيحه" في ذكر الدجال أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ولعله يدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي".
وهذا البعض هو الخَضِرُ لأمور:
أحدها: أن من عدا الخضر وعيسى عليهما السلام لم يبق أحدٌ ممن رآه صلى الله عليه وسلم بالإجماع، وليس هذا هو عيسى عليه السلام؛ لأن عيسى عليه السلام يقتل الدجال، وهذا الرجل يقتله الدجال.
ثانيها: رَوى الدارقطني في "الأفراد": عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "نُسِئَ للخضر في أجله حتى يُكذّب الدجال". وله شاهدٌ صحيح.
ففي "صحيح مسلم" عقب رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ أي: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال أبو إسحاق: هو إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد راوي "صحيح مسلم" عنه، يقال: إنَّ هذا الرجل هو الخَضِر عليه السلام.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعد نقل ذلك: وقال معمر في "جامعه" بعد ذكر الحديث -يعني: أنَّ الذي يقتله الدجال-: هو الخَضِر.
قال الحافظ: وقد يتمسك لمن قاله بما أخرجه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في ذكر الدجال رفعه: "لعله أن يدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي. . ." الحديث. اهـ
فدل هذا الحديث الصحيح على أن بعض الصحابة يُدرك الدجال، ودلت رواية الدارقطني على أن هذا المبهم هو الخَضِر.
قال: فصح بالمجموع أن الخَضِر صحابي، وأنه مُؤخرٌ؛ لتكذيب الدجال، فيصح التمسك بما ذكر في أن الذي يقتله الدجال هو الخَضِر.
ثالثها: في بعض الروايات: أن الذي يقتله الدجال يقول: يا أيها الناس؛ هذا الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. مكان قوله: (ذكر رسول الله)، والأصل في الكلام الحقيقة، فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بلا واسطة، ولا شك أن الحمل على التحديث بوسائط مجازٌ.
وأما الكشف: فقد ذكر ذلك محققو الصوفية كالشيخ علاء الدولة السمناني وغيره، وقيل: هو أحد أصحاب الكهف؛ لما مر أنهم يكونون من أصحاب المهدي، وهذا القول الثاني ضَعيفٌ؛ قاله في "الفتوحات".
"وترجف المدينة يومئذ ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي المدينة يومئذ خبثها؛ كما ينفي الكير خبث الحديد، ويُدعى ذلك اليوم يوم الخلاص، ويكون آخر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى أمه وبنته وأخته وعمته، فيوثقهن رباطًا مخافة أن تخرج إليه".
وفي رواية: "يوم الخلاص، وما يوم الخلاص؟ قال ثلاث مرات: يجيء الدجال فيصعد أُحُدًا فيطلع، فينظر إلى المدينة ويقول لأصحابه: ألا ترون إلى هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد".
تَنبيه
هذه إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإخبارٌ منه بأن مسجده يُرفع ويُبيض بالجص؛ لأنه في زمنه كان مبنيًا بالجريد والسعف، وقد وقع ما أخبر به، فإن مسجده الشريف يُرى أبيض من مسافة بعيدة، ومنائره تلمع بياضًا، ولعل خروجه قريب، ويرى هذا البناء. والله أعلم.
"ثم يأتي إلى المدينة، فيجد بكل نَقبٍ من أنقابها مَلكًا مصلتًا، فيأتي سبخة الجُرف".
وفي لفظ: "بهذه السبخة ينزل بمر قناة، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فتخلص المدينة وذلك يوم الخلاص" رواه أحمد، والحاكم، عن محجن بن الأدرع.
فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله؛ فأين العرب يومئذ؟ قال: "هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم المهدي رجلٌ صالح، فيتوجه إلى الشام، فيفر المسلمون إلى جبل الدخان بالشام، فيأتيهم فيحصرهم، ويشتد حصارهم، ويجهدهم جهدًا شديدًا".
وفي رواية: "فَيَشُك الناس فيه -أي: حين لم يقدر على قتل ذلك الرجل ثانيًا- ويبادر إلى بيت المقدس، فإذا صعد عقبة أَفِيق وقع ظله على المسلمين، فيوترون قسيهم لقتاله، فأقواهم من برك أو جلس من الجوع والضعف، وذلك لأن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شِداد، يصيب الناس فيها جُوعٌ شَديدٌ كما مر في فتنته، وإن قوت المؤمن التهليل والتسبيح والتحميد.
حتى إذا طال عليهم الحصار قال رجلٌ: إلى متى هذا الجهد والحصار؟ ! اخرجوا إلى هذا العدو حتى يحكم الله بيننا: إما الشهادة، وإما الفتح، هل أنتم إلا بين إحدى الحسنيين؟ بين أن تستشهدوا، أو يُظْهِركُم الله عليهم، فيتبايعون على القتال بيعة يعلم الله أنها الصدق من أنفسهم.
ثم تأخذهم ظُلمةٌ لا يُبصر أحدهم كفه، فينزل ابن مريم عليه السلام فيحسر عن أبصارهم وبين أظهرهم رجل عليه لأمة، فيقولون: من أنت؟ فيقول: أنا عبد الله وكلمته؛ عيسى، اختاروا إحدى ثلاث: أن يبعث الله على الدجال وجنوده عذابًا جسيمًا، أو يَخْسِفَ بهم الأرض، أو يُرسل عليهم سلاحكم ويكف سلاحهم عنكم؟ فيقولون: هذه يا رسول الله أشفى لصدورنا. فيومئذ يُرى اليهودي العظيم الطويل الأكول الشروب لا تقل يده سيفه من الرعب، فينزلون إليهم فيسلطون عليهم".
وفي رواية: "فبينما إمامهم -أي: المهدي- وقد تقدم يُصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام للصبح، فرجع المهدي قهقرى؛ ليتقدم عيسى صلى الله عليه وسلم يُصلي بالناس، ويقال له: يا روح الله؛ تقدم -أي: يقول له بعض من لم يحرم بالصلاة-. فيقول: ليتقدم إمامكم فليُصلِّ بكم. ويضع عيسى عليه السلام يده بين كتفيه، فيقول له: تقدم فإنها لك أُقِيمت. فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام: افتح. فيفتح، ووراء الدجال سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلىً بوساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وانطلق هاربًا، فيقول له عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها. فيدركه عند باب لُدّ الشرقي، فيقتله، ويهزم الله اليهود".
تَنبيه
لُدّ؛ بضم اللام وتشديد الدال المهملة، بوزن مُدّ: بلد بناحية بيت المقدس، بينه وبين الرملة مقدار فرسخ إلى جهة دمشق، متصلة نخيله بنخيلها.
وفي رواية لمسلم: "فبينما هو -أي: الدجال- كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهروذتين -أي: بالذال المعجمة والمهملة؛ أي: مصبوغتين بالهرذ؛ وهو شيء أصفر أو بالزعفران أو الورس- واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر -أي: الماء- من شعره، وإذا رفعه تحدر منه مثل الجُمان -أي؛ بضم الجيم وتخفيف الميم: حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار- كاللؤلؤ، فلا يَحِلُّ لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي
حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يُدركه بباب لُدّ فيقتله".
وفي رواية: "ثم ينزل عيسى عليه السلام فينادي من السَّحر فيقول: يا أيها الناس؛ ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث؟ ! ويسمعون النداء: جاءكم الغوث. فيقولون: هذا كلام رجل شبعان. وتشرق الأرض بنور ربها، وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، ويقول: يا معشر المسلمين؛ احمدوا ربكم وسبّحوه -أي: لأنه قُوتهم كما مر-. فيفعلون، ويريدون -أي: أصحاب الدجال- الفرار، فيضيق الله عليهم الأرض، فإذا أتوا باب لُدّ في نصف ساعة فيوافقون عيسى عليه السلام، فإذا نظر -أي: الدجال- إلى عيسى عليه السلام -يقول -أي: لبعض أصحابه-: أقم الصلاة. خوفًا منه، فيقول الدجال: يا نبي الله؛ قد أقيمت الصلاة. فيقول: يا عدو الله؛ زعمت أنك رب العالمين، فلمن تُصلي؟ ! فيضربه بمقرعته فيقتله".
تَنبيه
طريق الجمع (1) بين هذه الروايات: أن عيسى صلوات الله عليه ينزل أولًا بدمشق على المنارة البيضاء -وهي موجودة اليوم- لست ساعات من النهار، وقد مر عن "الفتوحات" أنه يُصلي بالناس صلاة العصر، فيحتمل أنه ينزل بعد الظهر، ثم مع اشتغاله بالقرعة بين اليهود والنصارى يدخل وقت العصر، فيصلي بهم العصر؛ كما في رواية، ثم يأتي إلى بيت المقدس غوثًا للمسلمين، ويلحقهم في صلاة الصبح وقد أحرم المهدي والناس كلهم، أو بعضهم لم يحرموا، فيخرج إليه بعض من لم يُحرم بالصلاة فيأتي والمهدي في الصلاة، فيتقهقر ويقول لعيسى عليه السلام بعض الناس: تقدم. لما رأى تقهقر المهدي، فيضع يده على كتف المهدي أن تقدم، ويقول
(1) وسيأتي إليه الإشارة مختصرًا (ص 271)، ومال القاري (5/ 197) إلى أرجحية رواية بيت المقدس، وأوّل الباقي إليها.
واختار مولانا رفيع الدين ابن الشاه ولي الله في "قيامة نامة" نزوله عليه السلام بجامع دمشق عند صلاة العصر، ورجحه الدَّمنتي في "نور مصباح الزجاجة"(ص 84)، وحكى عن ابن كثير أنه قال: هو الأشهر. (ز).
للقائل: ليتقدم إمامكم. فيجيب المهدي بالفعل، والقائل بالقول؛ ليكون جواب كُلٍّ على طبق قوله، ثم إذا أصبحوا شرد أصحاب الدجال، فتضيق عليهم الأرض، فيدركهم بباب لُدّ، فيصادف ذلك صلاة الظهر، فيتحيل اللعين إلى الخلاص منه بإقامة الصلاة، فلما عرفَ أنه لا يتخلص منه بذلك ذاب خوفًا منه كما يَذُوبُ الملح، فأدركه فقتله، أو لأنه يُنشيء صلاةً في غير وقتها، وهو أدل على ضلالته وجهالته بالله.
ويقرب هذا التأويل، ما في رواية ابن المنادي عن علي رضي الله عنه:"يقتله الله بالشام على عقبة أَفِيق، لثلاث ساعات يمضين من النهار على يد عيسى ابن مريم".
قال في "القاموس": أَفِيق كأمير، ومنه: عقبة أفيق. اهـ
وهنا وجه آخر أقرب إلى التحقيق، وهو أنه مَرّ أن الصلاة في الأيام القصار التي هي آخر أيام الدجال تُقدر، فيحتمل أن يُصادف التقدير ذلك الوقت، وعلى هذا فلا إشكال بين كونه ينزل بدمشق لست ساعات مضين من النهار، وبين أنه يُصلي بالناس صلاة العصر. وهذا جوابٌ مبنيٌّ على التحقيق، والله يهدي للحق وهو يهدي السبيل.
ويهزم الله اليهود وأصحاب الدجال، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا شجر ولا حجر ولا حائط ولا دابة إلا قال: يا عبد الله المسلم؛ هذا يهودي.
وفي رواية: "هذا دجال فتعال فاقتله، إلَّا الغرقد؛ فإنها من شجر اليهود لا ينطق".
قال صلى الله عليه وسلم: "فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حَكَمًا عَدلًا، وإمامًا مُقْسطًا"، وسيأتي قصته مستوفاة إن شاء الله تعالى.
وأما كيفية النجاة منه: فاعلم أن النجاة منه بالعلم والعمل.
أما العلم: فبأن يُعْلَمَ أنه يأكل ويشرب، وأنَّ الله منزه عن ذلك، وأنه أعور، وأن الله ليس بأعور، وأن أحدًا لا يرى ربه حتى يموت، وهذا يراه الناس أحياء قبل موتهم، إلى غير ذلك مما مر.
وأما العمل: فبأن يلتجيء إلى أحد الحرمين؛ فإنه لا يَدْخُلهما، أو إلى المسجد الأقصى، أو إلى مسجد طور سينا، ففي بعض الروايات لا يدخلهما أيضًا، وبأن يقرأ عشر آيات من أول سورة الكهف، وقد مرت أحاديث ما ذكر؛ فلا نعيدها.
وبأن يهرب منه في الجبال والبراري؛ فإنه أكثر ما يدخل القرى.
فعن عبيد بن عمر: "ليصحَبنَّ الدجال أقوام يقولون: إنا لنصحبه وإنا لنعلم أنه لكافر، ولكنا نصحبه نأكل من طعامه، ونرعى من الشجر. فإذا نزل غضب الله نزل عليهم كلهم" رواه نُعيم بن حماد.
وبأن يُتْفَلُ في وجهه.
فعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: "فمن لقيه منكم فَليَتْفُل في وجهه" رواه الطبراني.
وبالتسبيح والتكبير والتهليل؛ فإنه قُوتُ المؤمن في ذلك القحط.
وأن من ابتلي به فليثبت وليصبر، وإن رماه في النار فَليُغْمِض عينيه، وليستعن بالله تكن عليه بردًا وسلامًا.
وأما من يقتله: فقد عُلم أنه يقتله عيسى عليه السلام. والحمد لله رب العالمين.
فائِدَة
قال ابن ماجه: سمعت الطنافسي يقول: سمعت المحاربي يقول: ينبغي أن يُدفع هذا الحديث -يعني: حديث الدجال- إلى المُؤدب حتى يُعلمه الصبيان في الكُتَّاب. اهـ
وقد ورد أن من علامات قُرب خروجه: نِسيان ذكره على المنابر.
خَاتِمَة
اختلفت الصحابة فمن بعدهم وهكذا: هَل هو ابن الصياد أو غيره؟ على قولين، ولِكُلٍّ أدلة، فلنشر إلى الراجح منها بعون الله تعالى وحسن توفيقه:
وأحسن ما جُمع في ذلك كلام الإمام الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن
حجر العسقلاني في شرح البخاري المسمى: "فتح الباري"، فلنذكر مقاصده؛ ففيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: مما يدل على أن ابن الصياد هو الدجال حديث جابر رضي الله عنه الذي في البخاري أنه كان يحلف أنَّ ابن الصياد هو الدجال، ويقول: سمعت عمر رضي الله عنه يَحْلفُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم، وعند عبد الرزاق بسندٍ صحيح، قال: لقيت ابن الصياد مرتين. فذكر المرة الأولى، ثم قال: ثم لقيته أخرى، فإذا عينه قد طفئت.
وفي لفظ: قد نفرت عينه، وهي خارجة مثل عين الجمل، فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري. قلت: لا تدري وهي في رأسك. قال: إن شاء الله تعالى جعلها في عصاك هذه. فمسحها، ونخر ثلاثًا كأشد نخير حمار سمعت، فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأنا والله ما شعرت.
وفي لفظ: وكان معه يهودي، فزعم اليهودي أني ضربت بيدي صدره، وقلت: اخسأ، فلن تعدو قدرك. فذكرت ذلك لحفصة قالت: ما تريد إليه؟ ألم تسمع أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها.
وفي لفظ: إنما يبعثه على الناس غضب يغضبه.
ووقع لابن الصياد مع أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قصة تتعلق بأمر الدجال، فأخرج مسلم من طُرقٍ عنه قال: صحبني ابن الصياد فقال لي: ألا ترى ما لقيت من الناس؟
وفي لفظ: لقد هممت أن آخذ حبلًا فأعلقه بشجرة، ثم أختنق به مما يقول لي الناس، يا أبا سعيد؛ يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه يهودي، وقد أسلمت؟ ! يقول: لا يدخل مكة ولا المدينة وقد ولدت بالمدينة وها أنا أُريد مكة؟ ! ويقول: إنه لا يُولد له وقد وُلد لي؟ !
زاد في رواية: حتى كدت أعذره.
ثم قال: لكني أعرفه وأعرف مولده، وأين هو الآن.
وفي رواية: لو عرض عَليَّ أن أكون أنا هو لم أكره، قال: فقلت له: تبًا لك سائر اليوم.
قال الحافظ: وهذه الأحاديث كلها ليست نصًا، ولا صريحًا في أن ابن الصياد هو الدجال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ردد فيه القول فقال:"إن يكن هو"؛ أي: وهذا كان عند أول قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم لما أخبره تميم الداري جزم بأن الدجال هو ذلك المحبوس الذي رآه تميم، وسيأتي حديثه.
وأما حَلفُ عمر رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: فبناءً على ظنه وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان مُترددًا فيه إذ ذاك.
وأما حَلفُ جابر رضي الله عنه: فبناء على حَلف عمر رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه: فغايته أن يكون ابن صياد أحد الدجاجلة، وأحد أتباع الدجال الكبير.
قُلْتُ: أو أنه لم يكن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يُحدث عن تميم، فقال بناء على ذلك.
قال الحافظ: وأما ما أخرجه أبو داود (1) من حديث أبي بكرة؛ مرفوعًا: "يمكثُ أبوا الدجال ثلاثين عامًا لا يُولد لهما، ثم يولد لهما غلام أعور، أضر شيء، وأقله نفعًا إنه تنام عينه ولا ينام قلبه". ونعت أباه وأمه.
قال: فسمعنا بمولودٍ ولد في اليهود، فذهبت أنا والزبير بن العوام فدخلنا على أبويه فإذا النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: هل لكما ولد؟ قالا: مكثنا ثلاثين عامًا لا يُولد لنا، ثم وُلد لنا غلام أعور أضر شيء وأقله نفعًا
…
الحديث.
فقال البيهقي في الجواب عنه: تفرد به علي بن زيد بن جُدعان، وليس بالقوي.
قال الحافظ: وَيُوهي حديثه أن أبا بكرة رضي الله عنه أسلم حين نزل من الطائف لما حُوصرت سنة ثمانية من الهجرة.
(1) الظاهر أنه في نسخة ابن داسة، ولم نجده في "اللؤلؤيِّ"(ز).
وفي حديث "الصحيحين": أنه حين اجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم في النخل كان كالمُحتلم.
وفي لفظ: وقد قارب الحُلم. فلم يُدرك أبو بكرة زمان مولده بالمدينة، وهو لم يسكن المدينة إلا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكيف يتأتى أن يكون في الزمن النبوي كالمحتلم؟ فالذي في "الصحيحين" هو المعتمد.
ثم نقل عن البيهقي: أنه ليس في حديث جابر رضي الله عنه أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر رضي الله عنه، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان متوقفًا في أمره، ثم جاء التثبيت من الله تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري.
قال الحافظ: وقد توهم بعضهم أن حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم فردٌ، وليس كذلك؛ فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم.
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فهو حديث فاطمة المذكور عن الشعبي، قال: ثم لقيت القاسم بن محمد فقال: أشهد على عائشة؛ حدثتني كما حدثت فاطمة بنت قيس.
وأما حديث جابر رضي الله عنه: فأخرجه أبو داود بسندٍ حسن.
وأما حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: فأخرجه مسلم وأبو داود بمعناه، والترمذي وابن ماجه، قال الترمذي: حسنٌ صحيح.
ولفظ رواية مسلم قال: سمعت مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنادي: الصلاة جامعة. فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال:"ليلزم كل إنسان مُصلاه". ثم قال: "هل تدرون لم جمعتكم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:
"إني والله ما جمعتكم لرغبةٍ ولا لرهبة، ولكن جمعتكم؛ لأنَّ تميمًا الداري كان رجلًا نصرانيًا، فجاء وأسلم وحدثني حديثًا وافق الذي كُنت أحدِّثكم به عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب سفينة بحرية مع ثلاثين رجلًا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرًا في البحر، فأرفؤوا -أي: بالهمز: لجؤوا- إلى جزيرة حين مغرب الشمس، فجلسوا في أَقرُب السفينة -أي: بضم الراء جمع قارب، بفتح الراء وكسرها؛ وهو سفينة صغيرة تكون مع الكبيرة يكون فيها ركاب السفينة لقضاء الحوائج-، فدخلوا الجزيرة فلقيهم دابة أَهلَبُ -أي: غليظ الشعر كثيره-"، وفي رواية أبي داود:"فإذا أنا بامرأة تجر شعرها، قالوا: ويلك، ما أنت؟ قالت: أنا الجُسَّاسة". أي: بضم الجيم وتشديد السين الأولى، سميت بذلك لتجسسها الأخبار.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن هذه هي دابة الأرض التي تخرج في آخر الزمان فتكلمهم.
"فقالت: انطلقوا إلى هذا الرجل في الدّير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق.
قال: لما سمت لنا رجلًا فرقنا منها -أي: خفنا أن تكون شيطانة-.
قال: فانطلقنا سِراعًا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأينا قط خَلقًا، وأشده وِثاقًا، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك، من أنت؟
قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم؟
قالوا: نحن أُناسٌ من العرب ركبنا في سفينة بحرية، وأخبروه الخبر فقال: أخبروني عن نَخل بَيسان -أي: بفتح الموحدة، ولا يقال بالكسر: قرية بالشام- هل تُثمر؟
قلنا: نعم.
قال: أما إنها يوشك أن لا تُثمر.
قال: أخبروني عن بُحيرة طبرية؛ هل فيها ماء؟
قالوا: هي كثيرة الماء.
قال: أما إن ماءها يُوشك أن يذهب.
قال: أخبروني عن عين زُغَر أ-ي: بضم الزاي، وفتح الغين المعجمة على وزن صُرَد: بلدة معروفة من الجانب القبلي من الشام-؛ هل في العين ماء، وهل يزرع أهلها بماء العين؟
قلنا: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها.
قال: أخبروني عن نبيّ الأميين ما فعل؟
قلنا: قد خرج من مكة ونزل يثرب.
قال: أقاتله العرب؟
قلنا: نعم.
قال: كيف صنع بهم؟
فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه.
قال: أما إن ذلك خَيْرٌ لهم أن يطيعوه، وإني مُخبركم: أني أنا المسيح وإني أوشك أن يُؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، ولا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة هما مُحرمتان عليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني مَلكٌ بيده السيف صَلتًا يَصُدني عنها، وإن على كل نَقْبٍ من أنقابهما ملائكة يحرسونهما.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمِخصرته -أي؛ بكسر الميم: عصا أو قضيب يكون مع الملك أو الخطيب يشير بها إذا خاطب في المنبر-: هذه طيبة (ثلاثًا) -يعني المدينة- ألا هل كنت حدثتكم؟
فقال الناس: نعم، أَلا إِنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو: وأومأ بيده إلى المشرق.
قال القاضي عياض: لفظة "ما" زائدة صلة للكلام، ليس نافية.
والمراد إثبات أنه من قبل المشرق. وفي بعض طرقه عند البيهقي: أنه شيخ، وسنده صحيح.
قال البيهقي: فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن الصياد، وأن ابن الصياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وَكأنَّ هؤلاء الذين كانوا يقولون: إن ابن صياد هو الدجال. لم يسمعوا بقصة تميم، وإلا فالجمع بينهما بَعيدٌ جدًا، إذ كيف يلتئم من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المُحتلم ويجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم، ويسأله أن يكون في آخرها شيخًا مسجونًا في جزيرة من جزائر البحر موثقًا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا؟ . فالأولى أن يُحمل على عدم الاطلاع.
قال: وأما إسلام ابن صياد وحجه وجهاده: فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال؛ لاحتمال أنه يختم له بالشر.
فقد أخرج أبو نُعيم في "تاريخ أصبهان": عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها ونمتار منها، فأتيتها يومًا فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقًا لي منهم، فقال: مَلِكُنَا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبت عنده على سطح، فصليت، فلما طلعت الشمس إذا الوهج من قبل العسكر، فنظرت فإذا رجلٌ عليه قبة من ريحان واليهود يزفنون، فنظرت فإذا هو ابن الصياد، فدخل المدينة فلم يَعُد حتى الساعة.
قال الحافظ: وحسان بن عبد الرحمن ما عرفته، والباقون ثِقات.
قال: وقد أخرج أبو داود بسندٍ صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: فقدنا ابن الصياد يوم الحرة. ورواه غيره بسندٍ حسن.
وخبر جابر رضي الله عنه هذا يُضعف خبر أنه مات بالمدينة، وأنهم صلوا عليه، وكشفوا عن وجهه، ولا يلتئم أيضًا مع خبر حسان بن عبد الرحمن المار؛ لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر رضي الله عنه؛ كما أخرج أبو نُعيم في "تاريخها"، وبين
قتل عمر رضي الله عنه، ووقعة الحرة نحو أربعين سنة؛ لأن وقعة الحرة كانت في زمن يزيد.
وغاية ما يُعتذر عنه أن القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان هذه المدة، ويكون جوابًا لما في قوله:(لما افتتحنا أصبهان)، محذوفًا تقديره: صرت أتعاهدها وأتردد إليها. فجرت قصة ابن صياد.
وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" مرفوعًا من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أن الدجال يخرج من أصبهان، ومن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
وأخرج أحمد بسندٍ صحيح، عن أنس رضي الله عنه: أنه يخرج من يهودية أصبهان.
قال أبو نُعيم: كانت اليهودية من جملة قرى أصبهان، وإنما سميت اليهودية؛ لأنها كانت تختص بسكنى اليهود، ولم تزل كذلك إلى أن مصرها أيوب بن زياد أمير مصر في زمن المهدي بن المنصور العباسي، فسكنها المسلمون وبقيت منها لليهود قطعة.
هذا ملخص كلام الحافظ ابن حجر.
وحاصله: أن الأصح أن الدجال غير ابن صياد وإن شاركه ابن صياد في كونه أعور ومن اليهود، وأنه ساكن في يهودية أصبهان
…
إلى غير ذلك. وذلك لأن أحاديث ابن صياد كلها محتملة، وحديث الجُسَّاسة نَصٌّ، فيقدم.
قُلْتُ: ومما يرجح أنه غيره أن قصة تميم الداري مُتأخرةٌ عن قصة ابن صياد، فهو كالناسخ له، ولأنه حين إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق كان ابن الصياد بالمدينة، فلو كان هو لقال: بل هو بالمدينة.
لا يقال: إنما لم يقل خوفًا عليه من أن يقتلوه، فأخبر بما يؤول إليه أمره. لأنا نقول هذا ليس بشيء، إذ كيف يقتلون شخصًا قبل أجله، والمُقَدّر أنه إنما يقتله نبي الله عيسى عليه السلام، ولو كان كذلك لما كان بينَ ضئضئ الخوارج بأن له أصحابًا كذا وكذا، ولما بيّنَ قاتل علي كرّم الله وجهه بأنه يُخضب لحيته من يافوخه،
ولما بَيّنَ الحكم بن أبي العاصي بأنه يخرج من صلبه من يُغير سُنَّته
…
إلى غير ذلك.
ويؤيده أيضًا: ما أخرجه نُعيم بن حماد من طريق جبير بن نفير، وشريح بن عبيد، وعمر بن الأسود وكثير بن مرة؛ قالوا جميعًا: الدجال ليس هو إنسان، وإنما هو شيطانٌ موثقٌ بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن، لا يُعْلَم من أوثقه سليمان النبي عليه السلام أو غيره، فإذا آن ظهوره فك الله عنه كل عام حلقة، فإذا برز أتاه أتانٌ عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعًا، فيضع على ظهرها منبرًا من نحاس ويقعد عليه، وتتبعه قبائل الجن يخرجون له خزائن الأرض.
قال الحافظ: وهذا لا يمكن مع كون ابن صياد هو الدجال، ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب. انتهى
ولا ينافي ذلك قوله: في بعض جزائر اليمن؛ لأنه يَحتَمِل أن قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تميم الداري: من قبل المشرق، باعتبار آخر وقته حين يخرج.
وذكر ابن وصيف المؤرخ: أنَّ الدجال من ولد شِق الكاهن المشهور، قال: ويقال: بل هو شِقٌّ نفسه أنظره الله تعالى، وكانت أمه جنية عشقت أباه، فأولدها شِقًا، وكان الشيطان يعمل له العجائب، فأخذه سليمان عليه السلام فحبسه في جزيرة من الجزائر.
لكن قال الحافظ: هذا واهٍ جدًا ..
قال: وغاية ما يُجمع به وبين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال، وأن الذي شاهده تميم موثقًا هو الدجال بعينه، وأن ابن صياد شيطانه ظهر في صورة الدجال في تلك المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها. والله أعلم. اهـ
فإن قيل: كيف يُحكم بكفر ابن الصياد فضلًا عن كونه دجالًا بعد أن ثبت إسلامه وحجه وجهاده، والأصل بقاؤه على الإسلام إلى الموت؟
قلْتُ: قوله في حديث أبي سعيد: لا يكره أن يكون دجالًا، ولو عرض عليه ذلك لقبله. دل على عدم إسلامه في الباطن، إذ كيف يرضى المسلم أن يَدّعي الربوبية أو النبوة؟ ! ! فهذا الذي جوز الحكم بذلك، والله أعلم وبالله التوفيق.
تَذْنيبٌ
اشتملت قصة الدجال على جُملةٍ من الأشراط:
منها: القحط الشديد ثلاث سنين، وقد مر حديثه، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"تكون بين يدي الساعة سنوات خِدَاعات، يُصدق فيها الكاذب، ويُكذب الصادق"
…
الحديث.
ومنها: تقارب الزمان، حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كالضرمة بالنار.
ومنها: إخراج الأرض كنوزها، وكان هذا يقع في زمن كل من المهدي وعيسى عليهما السلام والدجال، فَيُخرَجُ لكل منهم شيء منها، لكنه في زمنهما رحمة، وفي زمن الدجال بلاءٌ وامتحان.
ومنها: خروج الشياطين، وإتيانهم بالأخبار الكاذبة، وقراءتهم قرآنًا على الناس، وقد مر أحاديث جميع ذلك.
ومنها: كُفر أقوام بعد إيمانهم ورجوعهم إلى عبادة الأوثان.
أخرج الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يرجع ناسٌ من أمتي إلى عبادة الأوثان يعبدونها"، وأحاديثه كثيرة.
ومن الأشراط القريبة: نزول عيسى (1) على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، وقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} ، وقُرئ في الشواذ:(لعَلَم) بفتح العين واللام، بمعنى: العلامة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حَكمًا عَدلًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية. . ." الحديث. رواه الشيخان.
(1) وقد حُكِمَ على رواياته بالتواتر؛ كما حكاه مولانا أنور شاه الديوبندي في رسالته في الرد على القادياني المسماة: "عقيدة الإسلام". (ز).
وفي رواية مسلم عنه: "والله لينزلن ابن مريم حَكمًا عدلًا فليكسرن الصليب" بنحوه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أُمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"، قال:"فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعال صَلَّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" رواه مسلم.
والكلام عليه في مقامات؛ في حليته وسيرته، ووقت نزوله ومحله وما يجري على يديه من الملاحم، ومدته وموته.
وأما اسمه ونسبه ومولده فكل ذلك معلومٌ مما مر آنفًا.
المقام الأول في حليته وسيرته
أما حليته: فعند البخاري من حديث عقيل بن خالد: أنه أحمر جَعْدٌ عريض الصدر.
وفي رواية: "آدم كأحسن ما أنت رَاءٍ من أُدُمِ الرجال، سبط الشعر ينطِفُ -أي: بكسر الطاء المهملة؛ أي: يقطر- زاد في رواية: له لِمَّة -بكسر اللام، وتشديد الميم- كأحسن ما أنت رَاءٍ من اللِّمَم، قد رجّلها". أي؛ بتشديد الجيم: سرحها.
وفي رواية: "لمتُهُ بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء".
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس".
زاد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه: "كأنما خرج من دِيماس"؛ يعني: الحمام.
ولا مُنافاة بين الحمرة والأدمة؛ لجواز أن تكون أدمته صافية؛ كما مر في الدجال: "لا يجد ريح نَفَسِه -بفتح الفاء- كَافرٌ إلَّا مات، عليه مهروذتان"
…
إلى غير ذلك؛ كما مر أكثرها.
وأما سيرته: فإنه يَدُقُّ الصليب ويقتل الخنزير والقردة، ويضع الجزية، فلا يَقبل إلَّا الإسلام، ويتحد الدين فلا يُعبد إلا الله، ويَترك الصدقة -أي: الزكاة- لعدم من يقبلها، وتَظهر الكنوز في زمنه، ولا يُرغَبُ في اقتناء المال -أي: للعلم بقرب الساعة- ويرفع الشحناء والتباغض -أي: لفقد أسبابهما غالبًا-، وينزع سُمُّ كل ذي سُمٍّ حتى تلعب الأولاد بالحيات والعقارب فلا تضرهم، ويرعى الذئب مع الشاة فلا يضرها، ويملأ الأرض سِلمًا وينعدم القتال، وَتُنبِتُ الأرض نبتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، وكذا الرمانة، وترخص الخيل؛ لعدم القتال، ويغلو الثور؛ لأن الأرض تُحْرث كلها، ويكون مقررًا للشريعة النبوية لا رسولًا إلى هذه الأمة، ويكون قد علم بأمر الله في السماء قبل أن ينزل، وهو نبي، ومع ذلك
فهو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابي؛ لأنه اجتمع به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وحينئذ فهو أفضل الصحابة.
وقد أَلغَزَ التاج السبكي في ذلك حيث يقول:
مَنْ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ
…
خَيْرِ الصَّحَابِ أَبِي بَكْرٍ وَمِنْ عُمَرِ
وَمِنْ عَلِيٍّ وَمِنْ عُثْمَانَ وَهْوَ فَتىً
…
مِنْ أُمَّةِ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ
وتُسلب قريش مُلكها؛ قال ابن حجر الفقيه في "القول المختصر"، وسبقه إليه السخاوي في "القناعة": معناه: لا يبقى لقريش اختصاص بشيء دون مراجعته، فلا يُعارض ذلك خبر:"لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان". انتهى
قُلْتُ: ويدل لما قاله حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: "فيقول أميرهم -أي: لعيسى: تعال صَلَّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة".
وعلى هذا؛ فلا مُنافاة أن يكون المهدي هو الأمير حتى في زمن عيسى عليه السلام، ويكون مُراجعته في الأمور لعيسى عليهما السلام، وهذا وجه آخر في الجمع بين اختلاف الروايات في مدة ملك المهدي؛ بأن التسع ونحوه مَحمولٌ على ما بعد نزول عيسى عليه السلام، والأربعين ونحوه باعتبار جميع المدة حتى في زمن عيسى عليه السلام، وقد مرت الإشارة إلى ذلك، والله أعلم.
فإن قيل: كيف يصح معنى حديث: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان"، مع أنا نُشاهد أن قريشًا لم تملك منذ قرون؟
قُلنا: معنى هذا الحديث استحقاق الخلافة لقريش وإن ظَلمها ظَالم، ولا شك أن عيسى عليه السلام يُظهر كمال العدل، فلا يجوز أن يأخذ حقهم، وبالله التوفيق.
المقام الثاني في وقت نزوله، ومحله، وما يجري على يديه من الملاحم
وقد سبق اختلاف الروايات في محل نزوله والجمع بين الروايات، وفي وقته، ونُشير إلى حاصل الجمع ههنا إجمالًا.
وهو أنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، أي: وهي موجودة اليوم، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين لست ساعات مضين من النهار حتى يأتي مسجد دمشق، يقعد على المنبر، فيدخل المسلمون المسجد وكذا النصارى واليهود، وكلهم يرجونه، حتى لو ألقيت شيئًا لم يُصب إلا رأس إنسان من كثرتهم، ويأتي مُؤذن المسلمين، وصاحب بوق اليهود وناقوس النصارى، فيقترعون فلا يخرج إلا سهم المسلمين، وحينئذ يُؤذن مُؤذنهم، وتخرج اليهود والنصارى من المسجد، ويُصلي بالمسلمين صلاة العصر.
ومر الجمع (1) بين نزوله لست ساعات، وكونه يُصلي العصر. فراجعه.
ثم يخرج عيسى عليه السلام بمن معه من أهل دمشق في طلب الدجال، ويمشي وعليه السكينة والأرض تقبض له، وما أدرك نَفَسُهُ من كافرٍ قتله، ويدرك نَفَسُهُ حيث ما أدرك بصره، حتى يُدركهم بصره في حصونهم وَقُرَيّاتِهم، إلى أن يأتي بيت المقدس فيجده مُغلقًا قد حصره الدجال، فيصادف ذلك صلاة الصبح؛ كما مر، ومر قتله للدجال اللعين، وسيأتي هلاك يأجوج ومأجوج بدعائه، فهذا المقام الثاني لا نحتاج إلى ذكره.
(1)(ص 256).
المقام الثالث في مدته، ووفاته
أما مدته: فقد ورد في حديث عند الطبراني، وابن عساكر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل عيسى ابن مريم فيمكث في الناس أربعين سنة".
وفي لفظ للطبراني: "يخرج الدجال فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلًا وحكمًا مُقسطًا".
وعند ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود، وابن جرير، وابن حبان؛ عنه:"أنه يمكث أربعين سنة ثم يُتَوفّى، ويُصلي عليه المسلمون، ويدفنونه عند نبينا صلى الله عليه وسلم".
وأخرج ابن أبي شيبة، والحاكم في "المستدرك": عن ابن مسعود رضي الله عنه: "وينزل عيسى فيقتله -أي: الدجال لعنه الله-، فيتمتعون أربعين سنة لا يموت أحد، ويقول الرجل لغنمه ولدوابه: اذهبوا فارعوا، وتمر الماشية بين الزرع لا تأكل منه سنبلة، والحيات والعقارب لا تؤذي أحدًا، والسبع على أبواب الدور لا يؤذي أحدًا، ويأخذ الرجل المُدّ من القمح فيبذره بلا حرث، فيجيءُ منه سبع مئة مُدّ، فيمكثون في ذلك حتى يُكسر سد يأجوج ومأجوج. . . ." الحديث.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن عساكر: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إماما عادلًا وحَكمًا مُقسطًا".
وأخرج أحمد في "الزهد": عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يلبث عيسى ابن مريم في الأرض أربعين سنة، لو يقول للبطحاء: سيلي عسلًا لسالت.
وفي رواية: (خمسة وأربعين سنة)، والقليل لا ينافي الكثير، ولعل روايات الأربعين وردت بإلغاء الكسر، وفي رواية:(سبع سنين)، وجمع بعضهم بأنه كان
حين رفع ابن ثلاث وثلاثين وينزل سبعًا؛ فهذه أربعون، وقد علمت أنَّ القليل لا ينافي الكثير فلا حاجة إلى هذا الجمع.
وعند أحمد، وابن جرير، وابن عساكر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير، ويمحي الصليب، وتجمع له الصلاة، ويُعطي المال حتى لا يُقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر، أو يجمعهما".
وفي رواية مسلم، وابن أبي شيبة عنه:"لَيُهِلَّنَّ عيسى ابن مريم بفج الروحاء بالحج أو العمرة، أو لينشئنهما جميعًا".
(الفج): الطريق. و (الروحاء): مكان بين المدينة ووادي الصفراء في طريق مكة.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن عساكر عنه:"ليهبطن ابن مريم حَكَمًا عَدلًا وإمامًا مُقسطًا، وليسلكن فجًا حاجًا أو معتمرًا، وليأتين قبري حتى يُسلم عليَّ، ولأردن عليه".
قال أبو هريرة رضي الله عنه: أي بني أخي؛ إن رأيتموه فقولوا: أبو هريرة يُقرئك السلام.
وأخرج الحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من أدرك منكم عيسى ابن مريم فليقرئه مني السلام".
وورد أنه يتزوج بعد ما ينزل ويولد له، ثم يموت بالمدينة، ولعل موته عند حجه وزيارته النبي صلى الله عليه وسلم، وإلَّا فهو إنما يكون ببيت المقدس.
وأخرج الترمذي وحسنه، وابن عساكر: عن عبد الله بن سلام [عن أبيه، عن جده] قال: مكتوب في التوارة صفة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى ابن مريم، يُدفن معه.
وأخرج البخاري في "تاريخه"، والطبراني، وابن عساكر: قال: "يُدفن عيسى ابن مريم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فيكون قبره رابعًا".
وذكر البقاعي في "سر الروح" أنَّ ابن المراغي قال في "تاريخ المدينة"، وفي "المنتظم" لابن الجوزي: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ مرفوعًا: "ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له، فيمكث خمسًا وأربعين سنة، ثم يموت فيه، فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر".
وعزاه القرطبي في آخر "تذكرته" إلى أبي حفص المَيّانشي. اهـ
تَذنيبٌ
وقع لبعض جهلة عوام الحنفية أنه ادعى أن كُلا من عيسى عليه السلام والمهدي يقلدان مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وذكره بعض مشايخ الطريقة ببلاد الهند في تصنيفٍ له بالفارسية شاع في تلك الديار، وكان بعض من يَتوسم بالعلم من الحنفية ويتصدر للتدريس يُشْهِرُ هذا القول ويفتخر به، ويقرره في مجلس درسه بالروضة النبوية.
فَذُكِرَ لي ذلك، فأنكرته وجهلتُ قائله وناقله ومقرره، فلما بلغه إنكاري نسبني إلى التنقيص في حق الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وحاشاه من ذلك، ولو سمعه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه لأفتى بتعزير، أو تكفير قائله.
ثم بعد مدة وقفت للشيخ علي القاري الهروي نزيل مكة المشرفة رحمه الله على تأليف سماه: "المشرب الوردي في مذهب المهدي"، نقل فيه هذا القول، ورد عليه ردًا شنيعًا وجهله، فأرسلت بالكتاب لمجلس درسه، فقرئ عليه وافتضح بين تلامذته.
فلننقل كلام الشيخ عليٍّ هنا مختصرًا؛ فإنه أعون على قبول عوام الحنفية؛ فإنهم جامدون على نُقُول أهل مذهبهم وإن لم يتعلق بالفقه.
قال رحمه الله: ولقد عارضني في هذه القضية -يعني: مسألة التقليد المذكورة- من هو عارٍ من الفضيلة بالكلية، وأبرز نقلًا مما كتب في قفا الدفاتر يقطع ببطلانه حتى ذو العقل القاصر، ومع هذا فهو منقولٌ من كتاب مجهول، وقد صرح الإمام ابن الهمام بعدم جواز النقل من غير الكتب المتداولة، سواء العلوم الأصلية والفرعية، ثم
إن ركاكة ألفاظه ومبانيه تدل على بطلان معانيه، وها أنا أذكره بلفظه لتحيط به علمًا حيث قال، ولم يخش ما عليه من الوبال وغضب الملك المتعال:
اعلم أن الله قد خص أبا حنيفة بالشريعة والكرامة، ومن كراماته أن الخَضِر عليه السلام كان يجيء إليه كل يوم وقت الصبح، ويتعلم منه أحكام الشريعة إلى خمس سنين، فلما توفي أبو حنيفة ناجى الخَضِر ربه قال: إلهي؛ إن كان لي عندك مَنزلةٌ فأذن لأبي حنيفة حتى يعلمني من القبر على حسب عادته حتى أعلم شرع محمد صلى الله عليه وسلم على الكمال؛ لتحصل لي الطريقة والحقيقة. فنودي: أن اذهب إلى قبره، وتعلم منه ما شئت. فجاء الخَضرُ، وتعلم منه ما شاء كذلك إلى خمس وعشرين سنة أخرى، حتى أتم الدلائل والأقاويل، ثم ناجى الخَضِرُ ربه، وقال: إلهي ماذا أصنع؟ فنودي أن اذهب إلى صفائك، واشتغل بالعبادة إلى أن يأتيك أمري
…
إلى أن قال له: اذهب إلى البقعة الفلانية وعلم فُلانًا علم الشريعة. ففعل الخَضِرُ عليه السلام ما أُمر، ثم بعد مدة ظهر في مدينة ما وراء النهر شاب وكان اسمه أبا القاسم القشيري، وكان يخدم أمه ويحترمها، ثم إنه قال وقتًا من الأوقات لأمه: يا أماه قد حصل لي الحرص على طلب العلم وقد قال علي كرم الله وجهه: من كان في طلب العلم كانت الجنة في طلبه فأذني لي حتى أذهب إلى بخارى وأتعلم العلم، فتفكرت والدته، وقالت: إن لم أعطه الإذن أكون مانعة للخير، وإن أذِنتُ له لم أصبر على فِراقه. فلم يكن لها بُدٌّ حتى أذنت له، فودع القشيري أمه وعزم على السفر مع شاب صاحب له يطلبان العلم، فقعدت أمه على الباب باكية حزينة، وقالت: إلهي؛ اشهد أني حَرَّمتُ على نفسي الطعام والمنزل، ولا أقوم من مقامي حتى أرى ولدي. فمضى القشيري وصاحبه حتى نزلا في منزل ليأكلا فيه طعامًا، فقام القشيري ليقضي حاجته، فتلوثت ثيابه ببوله، وقال لصاحبه: اذهب أنت، فإني أريد أن أرجع إلى المنزل، وأخاف أن تُصيب النجاسة جسمي في المنزل الثاني، ويصيب روحي في الثالث، فقعودي عند والدتي أولى. ورجع إلى أمه وكانت قاعدة على مكانها الذي ودعت ابنها فيه، فقامت وتصافحت مع ولدها وقالت: الحمد لله. فأمر الله تعالى الخَضِر: أن اذهب إلى القشيري وعلمه ما تعلمت من أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنه
أرضى أمه. فجاء الخَضِرُ إلى أبي القاسم وقال: أنت أردت السفر لأجل طلب العلم وقد تركته لرضا أمك، وقد أمرني الله تعالى أن أجيء إليك كل يوم على الدوام وأعلمك. فكل يوم يجيء إليه الخَضِر حتى ثلاث سنين، وعلمه العلم الذي تعلم من أبي حنيفة في ثلاثين سنة، حتى علمه علم الحقائق والدقائق ودلائل العلم، وصار مشهور دهره، وفريد عصره، حتى صنف ألف كتاب، وصار صاحب كرامات، وكثر مريدوه وتلاميذه، فكان له مُريدٌ كبيرٌ متدين لا يفارق الشيخ، فعد له الشيخ ألف كتاب من مصنفاته، ووضعهم في الصندوق وأعطى لذلك المريد وقال: قد بدا لي أمر، فاذهب وارم هذا الصندوق في جيحون. فحمل المريد الصندوق، وخرج من عند الشيخ، وقال في نفسه: كيف أرمي مصنفات الشيخ في الماء؟ ! لكن أذهب، وأحفظ الكتب، وأقول للشيخ: رميتها. وحفظ الكتب، وجاء وقال للشيخ: رميت الصندوق في الماء. قال الشيخ: وما رأيت في تلك الساعة من العلامات؟ قال: ما رأيت شيئًا. قال الشيخ: اذهب وارم الصندوق. فذهب المريد إلى الصندوق وأراد أن يرميه، فلم يَهُن عليه، ورجع إلى الشيخ مثل الأول، وقال: رميته؟ قال: نعم. قال وما رأيت؟ قال: لم أر شيئًا. قال الشيخ: ما رميته، فاذهب وارمه فإن لي فيها سرًا مع الله، ولا ترد أمري. فذهب المريد، ورمى الصندوق. فخرج من الماء يَدٌ وأخذ الصندوق، قال المريد له: من أنت؟ فنادى في الماء: إني وُكلت أن أحفظ أمانة الشيخ. فرجع المريد وجاء إلى الشيخ، فقال: رميت؟ قال: نعم. قال: وما رأيت؟ قال: رأيت الماء قد انشق وخرج منه يَدٌ وأخذ الصندوق، وقد صرتُ مُتحيرًا، وما السر في ذلك؟
قال الشيخ: السر في ذلك أنه إذا قربت القيامة، وخرج الدجال، ونزل عيسى عليه السلام ببيت المقدس فيضع الإنجيل بجنبه ويقول: أين الكتاب المحمدي؟ وقد أمرني الله أن أحكم بينكم بكتابه، ولا أحكم بالإنجيل.
فيطلبون الدنيا، ويطوفون بالبلاد، فلم يوجد كتابٌ من كتب الشرع المحمدي، فيتحير عيسى عليه السلام ويقول: إلهي؛ بماذا أحكم بين عبادك ولم يوجد غير الإنجيل؟ ، فينزل جبريل ويقول: قد أمر الله تعالى أن تذهب إلى نهر جيحون،
وتُصلّي ركعتين بجنبه، وتنادي: يا أمير صندوق أبي القاسم القشيري؛ سلم إليَّ الصندوق وأنا عيسى ابن مريم وقد قتلت الدجال.
فيذهب عيسى عليه السلام إلى جيحون، ويُصلّي ركعتين، ويقول مثل ما أمره جبريل، فينشق الماء ويخرج الصندوق، ويأخذه ويفتح ويجد فيه ختمة وألف كتاب، فيحيي الشرع بذلك الكتاب.
ثم سأل عيسى عليه السلام جبريل: بم نال أبو القاسم هذه المرتبة؟ فقال: برضاء والدته.
نُقل من كتاب "أَنيس الجلساء" اهـ
قال الشيخ علي: "ولا يخفى أن هذا -مع ركاكته ولحنه- كلام بعض الملحدين الساعين في إفساد الدين إذ حاصله أن الخَضر الذي قال تعالى في حقه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} ، وقد تعلم منه موسى عليه السلام فيكون من جملة تلاميذ أبي حنيفة، ثم عيسى عليه السلام وهو من أُولي العزم يأخذ أحكام الإسلام من تلميذ تلميذ أبي حنيفة، وما أسرع فهم هذا التلميذ حيث أخذ عن الخَضِر في ثلاث سنين ما تعلمه الخضر من أبي حنيفة حيًا وميتًا في ثلاثين سنة! ! وأعجب منه أن أبا القاسم القشيري ليس معدودًا في طبقات الحنفية! ! ثم العجب من الخَضِر أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتعلم منه شرائع الإسلام، ولا من علماء الصحابة الكرام؛ كعلي رضي الله عنه باب مدينة العلم وأقضى الصحابة، وزيد أفرضهم، وأُبَيّ أقرئهم، ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام. ولا من عظماء التابعين؛ كالفقهاء السبعة، وسعيد بن المسيب بالمدينة، وعطاء بمكة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام، وقد رضي بجهله بالشريعة حتى تعلم مسائلها في أواخر عُمر أبي حنيفة! !
قال: فهذا مما لا يخفى بُطلانه حتى على ذوي العقول السخيفة، حتى أن علماء المذاهب أخذوا هذه المقالة على وجه السخرية، وجعلوها دليلًا على قلة عقل الطائفة الحنفية، حيث لم يعلموا أن أحدًا منهم لم يرض بهذه القضية بالكلية.
ثم لو تعرضت لما في نقوله من الخطأ في مبانيه ومعانيه الدالة على نقصان معقوله
لصار كتابًا مُستقلًا، إلا أني أعرضت عنه صفحًا؛ لقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
فبطل قول القائل، بل وكفر فيما ظهر، لاسيما فيما أبرز بالنسبة إلى نبي الله عيسى عليه السلام المُجمع على نبوته سابقًا ولاحقًا، فمن قال بسلب نبوته كفر حقًا؛ كما صرح به الإمام السيوطي؛ فإن النبي لا يَذْهَبُ عنه وصف النبوة ولا بعد موته.
وأما حديث: "لا وحي بعدي" فباطلٌ لا أصل له.
نعم؛ ورد: "لا نبي بعدي"، ومعناه عند العلماء: أنه لا يحدث بعده نبي بشرع يَنْسَخُ شرعه.
وقد صرح الإمام السبكي في تصنيفٍ له: أن عيسى عليه السلام يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسُّنَّة (1)، وحينئذ يترجح أن أخذه للسُّنَّة من النبي صلى الله عليه وسلم بطريق المشافهة من غير واسطة، أو بطريق الوحي والإلهام.
وقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لما أكثر الحديث، وأنكر عليه الناس قال: لئن نزل عيسى ابن مريم قبل أن أموت لأحدثنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصدقني.
فقوله: (فيصدقني) دليلٌ على أن عيسى عليه السلام عَالِمٌ بجميع سُنَة النبي صلى الله عليه وسلم، من غير احتياج إلى أن يأخذها عن أحدٍ من الأمة، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم احتاج إلى أن يلجأ إليه؛ ليُصدقه فيما رواه ويزكيه.
فإن قلت: هل ثبت أن عيسى عليه السلام بعد نزوله يأتيه الوحي؟
فالجواب: نعم؛ ثبت في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عند مسلم وغيره، فإن فيه:"فيقتل عيسى الدجال عند باب لُدّ الشرقي، فبينما هم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم: أني قد أخرجت عِبادًا من عبادي لا يَدَانِ لك بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور. . ." الحديث.
(1) وقريبًا منه ما في "الفتاوى الحديثية" لابن حجر (ص/ 131 ص 132). (ز).
ثم الظاهر أن الجائي إليه بالوحي هو جبريل عليه السلام، بل هو الذي نقطع به ولا نتردد فيه؛ لأن ذلك وظيفته، وهو السفير بين الله وبين أنبيائه، لا يُعْرَفُ ذلك لغيره من الملائكة، وقد أخرج أبو حاتم في "تفسيره": أنه وُكّلَ جبريل عليه السلام بالكتب والوحي إلى الأنبياء.
وأما ما اشتهر على ألسنة العامة أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا أصل له، وقد ورد في غير ما حديث نزوله إلى الأرض؛ كحضور موت من يموت على طهارة، ونزوله ليلة القدر، ومنعه الدجال من دخول مكة والمدينة
…
إلى غير ذلك.
ثم وقفت على سؤالٍ رفع إلى شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني: هل ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان حافظًا للقرآن العظيم، ولسنّة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، أو يتلقى الكتاب والسُّنّة عن علماء ذلك الزمان؟
فأجاب: لم يُنقل في ذلك شيءٌ صريح، والذي يليق بمقام عيسى عليه السلام أنه يتلقى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكم في أمته كما تلقاه عنه؛ لأنه في الحقيقة خليفة عنه".
انتهى ما أردنا نقله من كلام العلامة الشيخ علي القاري الحنفي عامله الله باللطف الخفي، وهو في غاية النفاسة.
ثم رد أيضًا قول القائل: إن المهدي يقلد الإمام أبا حنيفة رحمه الله، بالأدلة الشافية، لكنه قرر أنه مجتهدٌ مطلق، وهو يُخالف ما مر عن الشيخ محيي الدين في "الفتوحات" أن المهدي لا يعلم القياس ليحكم به، وإنما يعلمه ليجتنبه، فلا يحكم المهدي إلا بما يُلْقِي إليه المَلَكُ من عند الله الذي بعثه الله إليه يُسدده، وذلك هو الشرع الحنيفي المحمدي الذي لو كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيًا، ورُفعت إليه تلك النازلة لم يحكم فيها إلا بحكم المهدي، فيعلم أن ذلك هو الشرع المحمدي، فيحرم عليه القياس مع وجود النصوص التي منحه الله إياها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في صفته:"يقفو أثري لا يخطئ"، فعرفنا أنه مُتبع لا مُشرع. انتهى كلام "الفتوحات".
فعلى هذا: المهدي ليس بمجتهد؛ لأن المجتهد يحكم بالقياس، وهو يحرم
عليه القياس، ولأن المجتهد قد يخطئ، وهو لايخطئ قط، فإنه مَعصومٌ في أحكامه لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له، وهذا مبنيٌّ على عدم جواز الاجتهاد في حق الأنبياء، وهو التحقيق وبالله التوفيق.
ثم نقول: إن كلام القائل المذكور بَاطلٌ وزورٌ وافتراءٌ من وجوه كثيرة:
منها: ما أشار إليه الشيخ علي القاري.
ومنها: أن أبا القاسم القشيري من الفقهاء الشافعية ومشايخه في الفقه والكلام والتصوف معلومةٌ؛ كما تنطق به رسالته المتداولة في أيدي المسلمين شرقًا وغربًا.
ومنها: أنه لا يُعْرَفُ له من التآليف غير كتاب "الرسالة"، و"التفسير"، وكتب أخر معدومة لا تبلغ ألف ورقة، فضلًا عن ألف كتاب.
ومنها: أن في زمن المهدي النازل عيسى ابن مريم عليه السلام في زمانه الفقهاء في سائر المذاهب باقية، وأنهم أكبر أعداء المهدي؛ لذهاب جاههم وعلمهم، والقرآن باقٍ إذ ذاك لم يُرفع بعد.
ومنها: أنه كيف يجوز أن يتحير عيسى عليه السلام ويُعطل أحكام المسلمين إلى أن يذهب إلى نهر جيحون وَيُخْرِجَ الكتب، وكم من حدود وخصومات ووقائع تقع في تلك المدة.
ومنها: أن جبريل عليه السلام إذا نزل عليه، وأمره بأن يذهب إلى جيحون، فنزوله عليه بالوحي. ما المانع منه أن يعلمه شرع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحوجه إلى كتب أبي القاسم؟ !
ومنها: أن الخَضِر المعلم لأبي القاسم حيٌّ عند نزول عيسى عليه السلام، فإنه الذي يقتله الدجال ثم يحييه، فلم لا يُعْلِمُ عيسى عليه السلام كما علم أبا القاسم حتى يكون بين عيسى عليه السلام وبين الإمام أبي حنيفة واسطة واحدة؟ ! .
ومنها: أن المسلمين في الصلاة حين نزول عيسى عليه السلام، وأن المؤذن يُؤذن، وأنه يقول للمهدي: تقدم فإنها لك أقيمت. فإن لم يكن القرآن باقيًا والمذاهب باقية، كيف يصلون وكيف تصح صلاتهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -
في حقهم إنهم ملحقون بالقرون الثلاثة التي هي خير القرون؟ !
ومنها: أن الخَضِر الذي يُخاطب ربه ويُناجيه، ويُجيبه ربه ويناديه؛ لم لا يسأل ربه أن يعلمه شرائع الإسلام من غير واسطة أحد حتى يتعلم من قبر أبي حنيفة رضي الله عنه؟ !
ومنها: أن الخَضِر إما أن يكون مأمورًا بتعلم شرع النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، فإن كان مأمورًا به فتركه التعلم إلى زمن أبي حنيفة رضي الله عنه، بل إلى بعد موته، وهو إنما مات في سنة مئة وخمسين تَركٌ للواجب.
وكيف يجوز للمعصوم أن يترك الواجب مئة وخمسين سنة؟ ! إذ الأصح أنه نبي وإن لم يكن مأمورًا بذلك، وإنما هو زيادة تحصيل للكمال، فلم لم يأخذه من النبي صلى الله عليه وسلم غضًا طريًا؟ ! وإن لم يعلم أنه كمال إلا بعد موت أبي حنيفة رضي الله عنه فقد جوز الجهل بالكمال على الأنبياء.
ومنها: أن عيسى عليه السلام معصومٌ مُطلقًا، والمهدي معصومٌ في الأحكام، والإمام أبو حنيفة رضي الله عنه مُجتهدٌ، والمجتهد قد يُصيب وقد يُخطئ، ولذا خالفه صاحباه في أكثر من ثلث قوله، فكيف يُقلد من لا يُخْطِئُ قط من يُخْطِئُ ويصيب؟ !
ومنها: أن جميع فقه أبي حنيفة رضي الله عنه يمكن أن تُجمع أصوله وفروعه في كتاب واحد، أو في كتابين، فما الذي في ألف كتاب؟ ! إن كان معرفة الله أو الحقائق أو السلوك أو غير ذلك يلزم أن يكون عيسى عليه السلام ما كان عرف الله قبل ذلك واعتقاد ذلك كُفرٌ، وإن كان غير ذلك فليبين ما فيها.
ومنها: أن من مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن يقبل الجزية من الكفار ويخرج الزكاة، ويبقي الصليب والخنزير في يدهم، وأن لا يجمع بين الصلاتين، وعيسى عليه السلام لا يقبل الجزية، ولا يُخْرِجُ الزكاة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتُجمع له الصلاة
…
إلى غير ذلك.
فإن كانت هذه الأحكام في كتب أبي القاسم القشيري فقد خالف أبا حنيفة رضي الله عنه، فيلزم أن يكون مُجتهدًا مطلقًا، وحينئذ فيكون الفضل له لا لأبي حنيفة.
وإن لم يكن في كتبه يلزم أن يكون عيسى عليه السلام لم يعمل بما في مذهب أبي حنيفة.
ومنها: مَفاسِدُ كثيرة لا تنحصر، ولا تسعها هذه الأوراق، تظهر لمن تتبع الأحاديث المارة في هذا الكتاب.
ثم إن مثل هؤلاء الجهلة لفرط تعصبهم وعنادهم ليس مطمح نظرهم إلا تفضيل أبي حنيفة رضي الله عنه، ولو بما لا أصل له، ولو بما يؤدي إلى الكفر، وليس عندهم عِلْمٌ بفضائله الجمة التي أُلفت فيها الكتب، فيرضون بالأكاذيب والافتراءات التي لا يرضاها الله ورسوله ولا أبو حنيفة رضي الله عنه نفسه، ولو سمعها أبو حنيفة رضي الله عنه لأفتى بكفر قائلها.
وفي فضائل أبي حنيفة رضي الله عنه المقررة المحررة كفايةٌ لمحبيه، ولا يحتاج في إثبات فضله إلى الأقوال الكاذبة المُفتراة المُؤدية إلى تنقيص الأنبياء.
ومن العجائب أنه وقع للقهستاني مع فضله وجلالته شيءٌ من ذلك، فقال في شرح خطبة "النقاية" أن عيسى عليه السلام إذا نزل عمل بمذهب أبي حنيفة، كما ذكره في "الفصول الستة"، وليت شعري ما "الفصول الستة"، وما الدليل على هذا القول، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فعليك باتباع السُّنَّة الغراء؛ فإنها حِرزٌ وحِصنٌ من الأهواء والآراء، وَجُنّة من سهام الشيطان المريد لعنه الله. وإياك والاغترار بأمثال هذه الترهات الباطلة، ودع التعصب؛ فإنه بابٌ عظيمٌ من أبواب الشيطان الرجيم.
اللَّهم؛ إنا نعوذ بك من شر الشيطان ونفثه ونفخه، ونسألك التوفيق لما تحب وترضى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين وأصحابه أجمعين آمين.