الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
من الأشراط العظيمة القريبة
خروج يأجوج ومأجوج
(1):
وهي من الفتن العظام، وقد أُشير إليهم في غير آية فقال تعالى:{قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} ، وقال تعالى في سورة الأنبياء:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)} .
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يكون عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، وثلاث خسوفات، ونارٌ تخرج من قعر عدن أبين". الحديث رواه ابن ماجه عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه.
والأحاديث الواردة فيهم كثيرة، والكلام عليهم (2) في مقامات في نسبهم، وحليتهم وسيرتهم، وخروجهم وإفسادهم وهلاكهم.
(1) وبوب عليهما البخاري في "صحيحه"، وبسط الكلام عليهما الحافظ (13/ 86). (ز).
(2)
وقد بسطه الدميري في "حياة الحيوان"(2/ 336)، والسيوطي في "الدر"(4/ 250)(ز).
المقام الأول في نسبهم
وفي ذلك أقوال:
أحدها: أنهم من بني آدم من بني يافث بن نوح، وبه جزم وهب وغيره، واعتمده كثير من المتأخرين.
وقيل: إنهم من الترك؛ قاله الضحاك. وقيل: يأجوج من الترك ومأجوج من الديلم.
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه: هم ولد آدم من غير حواء، وذلك أن آدم نام فاحتلم، فامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله منها يأجوج ومأجوج، ورُدَّ بأن النبي لا يحتلم، وأجيب بأن المنفي أن يرى في منامه أنه يجامع، فيحتمل أن يكون دفق الماء فقط، وهو جائزٌ كما يجوز أن يبول.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": والأول هو المعتمد، وإلا فأين كانوا حين الطوفان.
وقال النووي في "الفتاوى": يأجوج ومأجوج من أولاد آدم من غير حواء عند جماهير العلماء، فيكونون إخوتنا لأب.
قال الحافظ: ولم يرد هذا عن أحدٍ من السلف إلا عن كعب الأحبار.
قال: ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح، ونوح من ذرية حواء قطعًا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ رفعه: "ولد لنوح سام، وحام، ويافث. فولد لسام: العرب وفارس والروم. وولد لحام: القبط والبربر والسودان. وولد ليافث: يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة".
قال الحافظ: وفي سنده ضعف.
المقام الثاني في حليتهم، وسيرتهم
أما حليتهم: فأخرج ابن أبي حاتم من طريق شريح بن عبيد، عن كعب قال: هم ثلاثة أصناف:
صِنْفٌ أجسادهم كالأَرز؛ وهو بفتح الهمزة وسكون الراء ثم زاي معجمة: وهو شجر كبير جدًا.
قال في "النهاية": هو شجر الأَرز وهو خشب معروف، وقيل: شجر الصنوبر.
وصِنْفٌ منهم أربعة أذرع في أربعة أذرع.
وصِنْفٌ يفترشون إحدى آذانهم، ويلتحفون الأخرى.
ووقع في حديث حذيفة نحوه.
وأخرج هو والحاكم من طريق أبي الجوزاء: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "يأجوج ومأجوج شبرًا شبرًا، وشبرين شبرين، وأطولهم ثلاثة أشبار".
وأخرج عن قتادة قال: "يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين على إحدى وعشرين، وكانت منهم قبيلة غائبة في الغزو وهم الأتراك، فبقوا دون السد".
وأخرج ابن مردويه من طريق السُدّي قال: "الترك سريةٌ من سرايا يأجوج ومأجوج تغيبت، فجاء ذو القرنين فبنى السَدّ فبقوا خارجًا".
وأخرج أحمد والطبراني عن خالد بن عبد الله بن حرملة، عن خالته؛ مرفوعًا:"إنكم تقولون لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى تقاتلوا يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه، صغار العيون، صُهْب الشعور من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة".
قُلْتُ: وهذا يؤيد أن الترك قبيلة منهم، والصهبة بين الحمرة والسواد، ورجل أصهب وامرأة صهباء.
وأما سيرتهم: أخرج ابن حبان في "صحيحه": عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ رفعه، قال:"إن يأجوج ومأجوج قل ما يترك أحدهم من صلبه ألفًا من الذرية".
وللنسائي من رواية عمرو بن أوس، عن أبيه؛ رفعه:"إن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاؤوا، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا".
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه:"إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا. . ." الحديث.
وأخرج الحاكم، وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:"إن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، وراءهم ثلاث أمم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا".
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، والبيهقي، وعَبدُ بن حُميد: عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، وزاد:"فَسمّى الأمم الثلاث: تأويل، وتأريس، ومنسك".
وأخرج عَبدُ بن حُميد بسندٍ صحيح عن عبد الله بن سَلام، مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "الجن والإنس عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء يأجوج ومأجوج، وجزء سائر الناس".
وقد جاء في خبر مرفوع: "إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم"، وهو فيما أخرجه الترمذي وحسنه، وابن حبان، والحاكم وصحّحاه: عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ رفعه: في السد: "يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم: ارجعوا فتخرقونه غدًا، فيعيده الله كأشد ما كان، حتى إذا بلغ مدتهم، وأراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدًا إن شاء الله تعالى، واستثنى، قال: فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه، فيخرقونه فيخرجون على الناس. . . ." الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: أخرجه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وعَبدُ بن حُميد، وابن حبان؛ كلهم عن قتادة، ورجال بعضهم رجال الصحيح.
قال ابن العربي: في هذا الحديث ثلاث آيات:
الأولى: أن الله منعهم أن يوالوا الحفر ليلًا ونهارًا.
الثانية: منعهم أن يحاولوا الرقي على السد بالسلم، أو الآلة، فلم يُلْهِمهُم ذلك، ولا علمهم إياه؛ أي: مع أنه ورد في خبرهم عند وهب: أن لهم أشجارًا وزُرُوعًا، وغير ذلك من الآلات.
الثالثة: أنه صَدَّهم أن يقولوا: إن شاء الله تعالى. حتى يجيء الوقت المحدد.
قال الحافظ: وفيه أن فيهم أهل صناعات، وأهل ولاية وسلاطة -لعل الصواب: وسُلْطة. تأمَّل-، ورعية تُطيع من فوقها، وأن فيهم من يعرف الله، ويقر بقدرته ومشيئته.
ويحتمل أن تكون تلك الكلمة تجري على لسان ذلك الوالي من غير أن يعرف معناها، فيحصل المقصود ببركتها.
ثم روى لكل من الاحتمالين حديثًا.
فقال: وعند عَبد بن حُميد من طريق كعب الأحبار نحو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال فيه:"فإذا جاء الأمر ألقي على بعض ألسنتهم: نأتي غدًا إن شاء الله تعالى فنفرغ منه".
وعند ابن مردويه من حديث حذيفة رضي الله عنه نحو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:"فيصبحون وهو أقوى منه بالأمس، حتى يُسلم رجل منهم حين يريد الله أن يبلغ أمره فيقول المؤمنُ: غدًا نفتحه إن شاء الله تعالى، فيصبحون ثم يغدون عليه فيفتح. . . ." الحديث وسنده ضعيف. انتهى كلام الحافظ.
وحاصله: يحتمل أن يلقى (إن شاء الله تعالى) على لسان أحدهم؛ وهو أقوى، ويحتمل أن يُسلم واحد منهم؛ كما يدل على كُلٍّ رواية.
ولا يردّ الأول ما رواه نُعيم بن حماد في "الفتن" عن ابن عباس رضي الله عنه؛ مرفوعًا قال: "بعثني الله حين أسري بي إلى يأجوج ومأجوج، فدعوتهم إلى دين الله وعبادته، فأبوا أن يجيبوني، فهم في النار مع من عصى من ولد آدم وولد إبليس"؛ كما هو واضح.
المقام الثالث في خروجهم، وإفسادهم، وهلاكهم
فقد ورد في حالهم عند خروجهم، ما أخرجه مسلم من حديث النواس بن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه على يد عيسى عليه السلام وغيره قال:"ثم يأتيه -يعني: عيسى عليه السلام قومٌ قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: أن قد أخرجت عبادًا لي لا يَدَان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، فينشفون الماء، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه، حتى يتركوه يبسًا، حتى إن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة. حتى إذا لم يبق من الناس أَحَدٌ إلا أخذ في حصن أو مدينة، ويمرون ببحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء. ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه، حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرًا من مئة دينار".
وفي روايةٍ لمسلم وغيره: "فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هَلُمَّ فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيردها الله عليهم مخضوبة دمًا".
وفي رواية: "ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي إلى السماء، فترجع إليه مخضبة دمًا للبلاء والفتنة، فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم النَّغَف في رقابهم".
وفي رواية: "دودًا كالنغف في أعناقهم -وهو بفتح النون والغين المعجمة: دودٌ يكون في أنوف الإبل والغنم- فيصبحون موتى كموت نفسٍ واحدة لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ فيتجرد رجل منهم محتسبًا نفسه قد وطنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين؛ ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم.
فيخرجون من مدائنهم وحصونهم وَيُسرّحُون مواشيهم، فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكَر عنه -بفتح الكاف؛ أي: تسمن- بأحسن ما شكَرت عن شيء، وحتى إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم، ويهبط نبي الله عيسى وأصحابهم إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأ زهمهم -أي: شحمهم-، ونتنهم -أي: ريحهم- من الجيف، فيؤذون الناس بنتنهم أشد من حياتهم، فيستغيثون بالله فيبعث ريحًا ثمانية غبراء، فتصير على الناس غمًا ودخانًا، وتقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاث وقد قذفت جيفهم في البحر".
وفي رواية: "فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل طيرًا كأعناق البُخت فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله تعالى".
وفي رواية: "في النار"، ولا منافاة فإن البحر يسجر فيصير نارًا يوم القيامة.
ثم يرسل الله مطرًا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة -أي: المرآة، بحيث يرى الإنسان فيها وجهه من صفائها-، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك. فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين.
فائِدَة
اختلفوا في اشتقاق يأجوج ومأجوج، فقيل: من أجيج النار؛ وهو التهابها.
وقيل: من الأجة بالتشديد؛ وهي الاختلاط أو شدة الحر. وقيل: من الأج؛ وهو سرعة العدو. وقيل: من الأُجاج؛ وهو الماء الشديد الملوحة.
وعلى التقادير كلها: وزنهما يفعول ومفعول، وهو ظاهر قراءة عاصم؛ فإنه وحده قرأه بالهمزة. وكذا قراءة الباقين إن كانت الألف مُسهلة من الهمزة.
وقيل: فاعول، من يج ومج.
وقيل: مأجوج؛ من ماج إذا اضطرب، ووزنه أيضًا مفعول، قاله أبو حاتم قال: والأصل موجوج.
وجميع ما ذكر من الاشتقاق مناسب لحالهم، ويؤيد الاشتقاقَ وقولَ من جعله من ماج قوله تعالى:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، وذلك حين يخرجون من السد.
خَاِتمَة
اشتملت قصة عيسى عليه السلام على جملة من الأشراط، فلنشر إليها:
منها: قتال اليهود:
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا عبد الله؛ هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود".
ومنها: قتال يأجوج ومأجوج:
أخرج أحمد، والطبراني: عن خالة خالد بن حرملة: "إنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى تقاتلوا يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه، صغار العيون، صُهْب الشعور، من كل حدب ينسلون".
ومنها: مطرٌ لا يكن منه بيت مدر ولا وبر:
أخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يمطر الناسُ مطرًا لا تكن منه بيوت المدر ولا بيوت الوبر".
ومنها: انقطاع الجهاد ورجوع الناس حراثين:
أخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى ترجعوا حراثين".
ومنها: نزول الخلافة في الأرض المقدسة:
أخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم: عن ابن حوالة؛ مرفوعًا: "يا بن حوالة؛ إذا رأيت الخلافة نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل، والبلابل، والأمور
العظام، والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك"، وكان وضع يده على رأسه.
وهذا: إن أريد مطلق الخلافة فقد وقع في زمن بني أمية، فيكون من القسم الأول وقد ذكرنا هناك بعض الأمور العظام. وإن أريد الخلافة الكاملة فسيكون في زمن المهدي وعيسى عليهما السلام.
والأمور العظام هي:
الدابة، والشمس، والنار، والريح. . . إلى غير ذلك.
ويدل للثاني آخر الحديث: "الساعة يومئذ أقرب". . . إلى آخره.
ومنها: كثرة المال:
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مُروجا وأنهارًا".
وفي رواية: "حتى يكثر المال فيكم".
وقد ذكر هذا في القسم الأول، ولا مانع أن تكون الرواية الثانية إشارة إلى ما وقع في زمن عثمان وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما؛ لقرينة قوله:"فيكم"؛ يعني: الصحابة. والرواية الأولى لما سيقع في زمن المهدي وعيسى عليهما السلام، ولذا ذكرناه في القسمين.
ومنها: أن يكون رأس الثور بالأوقية:
أخرج ابن أبي شيبة عن قيس: لا تقوم الساعة حتى يُقَوَّمَ رأس البقرة بالأوقية؛ أي: وذلك في حصار يأجوج ومأجوج لعيسى عليه السلام وأصحابه؛ كما مر.
ومنها: نُشُوفُ بحيرة طبرية: كما مر أنها يشربها يأجوج ومأجوج.
ومنها: رخص الخيل، وغلاء الثور:
أخرج ابن ماجه، وابن خزيمة، وغيرهما: عن أبي أمامة رضي الله عنه: "إن من
أشراطها: "أن يكون الفرس بالدريهمات، ويكون الثور بكذا وكذا مئة دينار"، قيل: وما يُرخِصُ الخيل يا رسول الله؟ قال: "عدم الجهاد". قيل: فما يُغلي الثور؟ قال: "إن الأرض تُحرث كلها".
ومنها: نزول البركات:
ونَزعُ سُمِّ كل صاحب سُمْ
…
إلى غير ذلك.
ومن الأشراط القريبة: خراب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة، وخروج أهلها منها:
أخرج أبو داود عن معاذ رضي الله عنه؛ مرفوعًا: "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال".
وَروى الطبراني: "سيبلغ البناء سَلعًا، ثم يأتي على المدينة زمان يمر السفر على بعض أقطارها فيقول: قد كانت هذه مرة عامرة من طول الزمان وعفو الأثر"، وروى أحمد نحوه بإسنادٍ حسن.
وروي أيضًا برجال ثقات: "المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة، قالوا: فمن يأكلها؟ قال: السباع والعوافي".
وفي "الصحيحين": "لتتركن المدينة على خير ما كانت، مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي -يريد: عوافي الطير والسباع- وآخر من يحشر منها راعيان من مُزينة. . . ." الحديث.
وَروى ابن زَبالة، وتبعه ابن النجار:"لا تقوم الساعة حتى يَغْلِبَ على مسجدي هذا الكلاب والذئاب والضباع، فيمر الرجل ببابه فيريد أن يُصلي فيه، فما يقدر عليه".
وَروى ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح حديث: "أما والله لتدعنها مذللة أربعين عامًا للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع". ورواه ابن زَبالة بنحوه.
وَروى الديلمي في "مسند الفردوس": عن عوف بن مالك قال: "تخرب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة".
ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يجيء الثعلب فيربضَ على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينهضه أحد".
وَروى ابن شبة حديث: "ليخرجن أهل المدينة منها، ثم يعودون إليها، ثم ليخرجن منها، ثم لا يعودون إليها أبدًا، وليدعنها خير ما تكون مونقة"، وروي أيضًا عن عمر رضي الله عنه نحوه مرفوعًا.
وقد مر في القسم الأول الترك الأول، وهذا هو الترك الثاني.
وسبب خرابها -والله أعلم- أنهم يخرجون مع المهدي إلى الجهاد، ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال، ثم يبقى فيها المؤمنون الخُلص، فيهاجرون إلى بيت المقدس.
فقد ورد: "ستكون هجرة بعد هجرة، وخِيَارُ الناس يومئذ ألزمهم مهاجر إبراهيم. . . ." الحديث.
ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة -التي يأتي ذكرها- أرواحهم، فتبقى خاوية، وهذا سر خرابها قبل غيرها.
تنبيه
رَوى المَرجاني في "أخبار المدينة": عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "ليعودن هذا الأمر -أي: الدِّين- إلى المدينة كما بدأ منها، حتى لا يكون إيمان إلَّا بها. . . ." الحديث.
ورَوى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "آخر قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة"، ورواه ابن حبان بلفظ:"آخر قرية في الإسلام خرابًا المدينة".
وصح: "إنَّ الدين ليأرز إلى المدينة؛ كما تأرز الحية إلى جحرها".
وهذه الروايات بحسب الظاهر تنافي الروايات السابقة، وطريق الجمع بينها أن
الفتن تَعُمّ الدنيا كلها كما مر في خروج المهدي، ويبقى أهل المدينة مع المهدي، فيأرز الدين إلى المدينة حينئذ؛ لأنهم المؤمنون الكاملون التابعون للخليفة الحق، فإنه إذا كان الإمام الحق موجودًا فمن لم يعرفه، ولم يبايعه مات مِيتةً جاهلية، فهذا محط:"إن الدين ليأرز إلى المدينة".
ثم إنها تنفي خبثها في زمن الدجال، وتخرج منافقيها ويبقى فيها الإيمان الخالص، بخلاف بيت المقدس وغيرها من البلدان؛ فإنه يبقى فيهم أهل الذمة والمنافقون؛ لأنهم إنما يؤمنون بعد نزول عيسى عليه السلام، وهذا محط حديث جابر رضي الله عنه:"حتى لا يكون إيمان إلَّا بها"؛ أي: إيمان خالصٌ لا يشوبه نفاق.
ثم إنه تجيء الريح الباردة -الآتية فيما بعد-، فتقبض كل مؤمن ومؤمنة، وإنها تأتي من الشام أو من اليمن، أو من كليهما؛ كما جُمِعَ به بين الروايتين، ولا شك أن التي تأتي من الشام تبدأ بأهل الشام، وأن التي تأتي من اليمن تبدأ بأهل اليمن، فلا تنتهيان إلى المدينة إلا بعد هلاك أهل الإقليمين من المؤمنين، فيكون آخر من يُقبض من المؤمنين أهل المدينة، وهذا محط حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي عند النسائي، والترمذي، وابن حبان المارّ.
ثم إنها حينئذ لا يكون بها غير المؤمنين؛ لأنها تخلصت في زمن الدجال، فبمجرد موتهم تخرب، وتبقى بقية الدنيا عامرة بشرار الناس، وعليهم تقوم الساعة، كما يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وهذا مما ظهر لي عند كتابتي لهذا المحل، ولعله ليس بعيدًا عن الصواب، ولم أقف في كلام أحدٍ عليه، فإن يكن خطأ فهو مني لا من أحد، ونسأل الله السداد.
وإنما ذكرته هنا وإن كان يصلح أن يذكر بعد طلوع الشمس من مغربها والدابة أيضًا؛ لأن ابتداء خرابها بالخروج عنها كما دلت عليه الأحاديث، والخروج يكون في زمن عيسى عليه السلام، فلهذا ذكرناه هنا، والله أعلم.
ومنها: بلوغ بناء المدينة سلعًا:
وهذا وقع زمن الصحابة، وهو واقعٌ اليومَ أيضًا، وقد مرَّ حديثُه.
ومنها: بلوغ بنائها إهاب أو يهاب؛ بالهمز أو الياء:
فقد ورد: "لا تقوم الساعةُ حتى يبلغ البناء إهاب أو يهاب" وهو موضعٌ قريبٌ بالحرة العربيَّة. وهذا قد كادَ أن يقع.
ومنها: مطرٌ لا تكنُّ منه بيوت الشعر:
فقد وردَ: "لا تقوم السَّاعة حتى يمطر بالمدينة مطر لا تكن منه بيوت المدر، إنما تكنّ منه بيوت الشعر".
وفي لفظٍ: "ولا يكن منه إلا بيوت الشعر"، والله أعلم.
ومنها: خروج القحطاني (1)، والجهجاه، والهيثم، والمقعد، وغيرهم بعد عيسى والمهدي عليهما السلام:
أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ويمكث أربعين عامًا يعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسنتي، ويموت، فيستخلفون بأمر عيسى رجلًا من بني تميم يقال له: المقعد، فإذا مات المقعد لم يأت على الناس ثلاث سنين حتى يُرفع القرآن من صدور الرجال؛ أي: من صدور
(1) اختُلِفَ في أن القحطاني والجهجاه واحدٌ؛ كما حكى الحافظ (13/ 62) عن القرطبي، أو اثنان، وأشار صاحب "علامة قيامة" إلى الوحدة، وميل المُصنف إلى الثاني كما سيأتي قريبًا.
ثم ظاهر ميل الحافظ إلى أن القحطاني فاسقٌ، ويظهر مما سيأتي من كلام المصنف أنه على سيرة المهدي. فتأمل.
وبذلك جزم ابن حجر في "الفتاوى الحديثية"(ص 32). هذا وقد مضى في سالف الزمان رجلٌ يُسمى: القحطاني في خلافة يزيد بن عبد الملك، كان اسمه: يزيد بن المهلب كما في "الخميس"(2/ 318).
والجهجاه أيضًا له ذكر في "الخميس"(1/ 471)، وذكر الحافظ في (13/ 170) ما يتعلق بالقحطاني أيضًا. (ز).
بعضهم، ويبدو النقص فيهم"؛ ليوافق ما يأتي من بقاء الدين مدة مديدة بعد عيسى عليه السلام.
وأخرج الطبراني عن علياء السلمي قال: "لا تقوم الساعة حتى يملك الناس رجل من الموالي يقال له: جهجاه".
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له: الجهجاه".
وأخرج الشيخان عنه: "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه".
وأخرج الطبراني في "الكبير"، وابن منده، وأبو نُعيم، وابن عساكر: عن قيس بن جابر، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون من بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جَورًا، ثم يؤمر القحطاني، فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه".
وأخرج نُعيم بن حماد، عن سليمان بن عيسى قال: بلغني أن المهدي يملك أربع عشرة سنة ببيت المقدس، ثم يموت، ثم يكون من بعده رجلٌ من قوم تبع يقال له: المنصور؛ أي: وهو القحطاني، يمكث ببيت المقدس إحدى وعشرين سنة، ثم يقتل، ثم يملك رجلٌ من الموالي ويمكث ثلاث سنين، ثم يقتل، ثم يملك بعده هيثم المهدي ثلاث سنين وأربعة أشهر وعشرة أيام.
وأخرج نُعيم بن حماد: عن كعب قال: يموت المهدي ثم يلي الناس بعده رجل من أهل بيته فيه خيرٌ وشَرّ، وشره أكثر من خيره، يُغْضِبُ الناس يدعوهم إلى الفرقة بعد الجماعة، بقاؤه قليل، يثور به رجلٌ من أهل بيته فيقتله.
وأخرج أيضًا عن الزُّهري قال: يموت المهدي موتًا يصير الناس بعده في فتنة، ويُقْبِلُ إليهم رجلٌ من بني مخزوم فيبايع له، فيمكث زمانًا، ثم يُنادي مُنادٍ من السماء ليس بإنس ولا جان: بايعوا فلانًا، ولا ترجعوا على أعقابكم بعد الهجرة. فينظرون
فلا يعرفون الرجل، ثم يُنادي ثلاثًا، ثم يُبايع المنصور، فيسير إلى المخزومي فينصره الله عليه فيقتله ومن معه.
وأخرج أيضًا عن كعب قال: يتولى رجل من بني مخزوم، ثم رجلٌ من الموالي، ثم يسير رجلٌ من العرب جسيم طويل عريض ما بين المنكبين، فيقتل من لقيه حتى يدخل بيت المقدس، فيموت موتًا، ثم تكون الدنيا شرًا مما كانت، ثم يلي بعده رجل من مضر، يقتل أهل الصلاح، ظلوم غشوم، ثم يلي من بعد المضري اليماني القحطاني، يسير بسيرة المهدي، وعلى يديه تفتح مدينة الروم.
وأخرج أيضًا عن الوليد، عن معمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما القحطاني بدون المهدي؟ ! ".
وأخرج أيضًا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "بعد الجبابرة الجابر، ثم المهدي، ثم المنصور، ثم السلام، ثم أمير العصب".
وأخرج أيضًا عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: "ثلاثة أمراء يتوالون يفتح اللهُ الأرض كلها عليهم: صالح الجابر، ثم المفرج، ثم ذو العصب، يمكثون أربعين سنة، ثم لا خير في الدنيا بعدهم".
وأخرج أيضًا عن كعب قال: "يكون بعد المهدي خليفة من أهل اليمن من قحطان أخو المهدي في دينه، يعمل بعمله وهو الذي يفتح مدينة الروم ويصيب غنائمها".
وأخرج أيضًا عن أرطاة قال: بلغني أن المهدي يعيش أربعين عامًا، ثم يموت على فراشه، ثم يخرج رجلٌ من قحطان مثقوب الأذنين على سيرة المهدي، بقاؤه عشرين سنة، ثم يموت قتيلًا بالسلاح، ثم يخرج من بيت النبي صلى الله عليه وسلم مهديٌّ حسن السيرة يغزو مدينة قيصر، وهو آخر أمير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يخرج في زمانه الدجال.
تنبيه
هذه الأحاديث أكثرها متعارضة، وقد قال الفقيه ابن حجر في "القول المختصر": الذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي
المنتظر الذي يخرج الدجال، وعيسى عليه السلام في زمانه، ويُصلي عيسى خلفه، وأنه المراد حيث أُطْلِقَ المهدي، والمذكورون قبله لم يصح فيهم شيء، والذين بعده أمراء صالحون أيضًا لكن ليسوا مثله، فهو الأَخْيَر في الحقيقة. انتهى
أقول: غاية ما يمكن في الجمع: أن المهدي الكبير هو الذي يفتح الروم، ويخرج الدجال في زمنه، ويُصلي عيسى عليه السلام خلفه، وأن الخلافة تكون له ولقريش من بعده، وأن عيسى عليه السلام لا يَسْلبُ قريشًا مُلكها رأسًا، وإنما تكون إليه المشورة وهو الحَكَمُ فيهم يعلمهم الدين، ومر إشارةٌ إلى ذلك، ثم يلي بعد المهدي رجلٌ من أهل بيته في سيرته، ويكون القحطاني مع المهدي في زمانه.
ومعنى فتحه لمدينة الروم كما ورد عن كعب: أنه يكون أميرًا على السرية التي يُرسلها المهدي إلى فتح مدينة الروم، فيفتحها في حال تابعيته لا في حال خلافته ومتبوعيته، ثم يموت عيسى عليه السلام، ثم بعد عيسى عليه السلام يتولى باستخلافه المقعد؛ وهو أيضًا من قريش، فإذا مات تولى من قريش من لا يحسن سيرته، فيخرج عليه المخزومي، ولعله الجهجاه، ويدعو إلى الفُرقَة، فيخرج عليه القحطاني بسيرة المهدي؛ وهو الملقب بالمنصور، وهو المراد: بـ"رجل من تبع" وبـ"رجل من اليمن"، ويمكث إحدى وعشرين سنة، والذي قال: عشرين. ألغى الكسر، ثم تنتقص الدنيا ويملك الموالي، ويغلب الشر إلى أن تطلع الشمس من المغرب، والله أعلم.
ومن الأشراط العظام: هدم الكعبة، وسَلبُ حُلِيها، وإخراج كنزها:
أخرج الشيخان والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".
وأخرج أحمد عن ابن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وزاد:"ويَسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أُصَيلع أُفَيدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله".
وأخرج الأزرقي عنه: "يجيش البحر بمن فيه من السودان، ثم يسيلون سيل النمل
حتى ينتهوا إلى الكعبة فيخربونها، والذي نفسي بيده إنى لأنظر إلى صفته فى كتاب الله تعالى؛ أُفَيحج أُصَيلع أُفَيدع، قائمًا يهدمها بمسحاته".
وأخرج الحاكم عن الحارث بن سويد قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يقول: حجوا قبل أن لا تحجوا، فكأني أنظر إلى حبشي أصلع وأفدع، بيده معول يهدمها حجرًا حجرًا، فقلت له: شيء تقول برأيك أو سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا والذي فَلق الحبة وبرأ النَّسمة، ولكني سمعته من نبيكم.
وفي "الصحيحين": "كأني به أسود أفحج يهدمها حجرًا حجرًا".
وفي حديث علي كرم الله وجهه عند أبي عُبيد في "غريب الحديث": من طريق أبي العالية قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يُحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع، أو قال: أصمع، أحمش الساقين، قاعد عليها وهي تُهدم.
ورواه الفاكهي من هذا الوجه ولفظه: "أصعل" بدل "أصلع"، وقال: قائمًا عليها يهدمها بمسحاته. ورواه يحيى الحِمّاني في "مسنده" من وجه آخر عن عليٍّ مرفوعًا، ورواه الأزرقي عنه بنحوه.
تنبيه
(السويقتان): تصغير الساقين؛ أي: دقيق الساقين؛ كما هو غالب في سوق الحبشة.
و(الأصلع): من ذهب شعر مقدم رأسه، و (الأُصيلع): تصغيره.
و(الأفيدع): تصغير (الأفدع)؛ وهو من في يديه اعوجاج.
و(الأصعل): الصغير الرأس، و (الأصمع): الصغير الأذنين، وقيل: الكبير الأذن، و (الأسود) واضح، و (الأفحج): المتباعد الفخذين.
قال في "فتح الباري": ووقع في هذا الحديث عند أحمد من طريق سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة رضي الله عنه بأتم من هذا السياق.
ولفظه: "يبايع لرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل هذا البيت إلَّا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم يجيء الحبشة فيخربونه خرابًا لا يَعْمُر بعده أبدًا، وهم الذين يستخرجون كنزه"، ورواه بهذا اللفظ الأزرقي في "تاريخ مكة"، والحاكم وصححه.
وفي رواية عنه مرفوعًا: "لا يستخرج كنز الكعبة إلَّا ذو السويقتين من الحبشة".
تنبيه
قيل: هذا مخالفٌ لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} ، ولأن الله رد عن مكة الفيل ولم يُمكِّن أصحابه من تخريب الكعبة، ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين؟
وأجيب: بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة، حتى لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله وفيه: أنه يخالف ما يأتي عن كعب أنه يقع في زمن عيسى.
والأولى ما أشار إليه في "فتح الباري"؛ وهو أن يقال: قد أشار صلى الله عليه وسلم إلى الجواب في الحديث بقوله: "ولن يستحل هذا البيت إلا أهله"، ففي زمن أصحاب الفيل ما كان أهله استحلوه، فمنعه الله منهم، وأما الحبشة فلا يهدمونه إلَّا بعد استحلال أهله له مرارًا، فقد استباحها أهل الشام في زمن يزيد بأمره، ثم الحجاج في زمن عبد الملك بأمره، ثم القرامطة بعد الثلاث مئة، فقتلوا من المسلمين في المطاف ما لا يُحصى، وقلعوا الحجر ونقلوه لبلادهم، وقد مر جميع ذلك في القسم الأول.
فلما وقع استحلاله من أهله مرارًا أمكن الله غيرهم من ذلك أيضًا، على أنه ليس في الآية استمرار إلا من المذكورين فيه.
خاتمة
اختلفوا في هدم الكعبة: هل هو في زمن عيسى (1) عليه السلام، أو عند قيام الساعة حين لا يبقى أحد يقول: الله الله؟
(1) وبهذا جزم صاحب "الإحياء" كما في هامش "الإتحاف"(4/ 279). (ز).
فعن كعب رضي الله عنه: أنه في زمن عيسي عليه السلام، وكذا قال الحليمي، وأن الصريخ يأتي عيسى عليه السلام بذلك، فيبعث إليه طائفة ما بين الثمانية إلى التسعة.
وقيل: هدمها في زمانه، وبعد هلاك يأجوج ومأجوج يحج الناس ويعتمرون؛ كما ثبت، وأن عيسي عليه السلام يحج أو يعتمر، أو يجمعهما، ولا ينافيه ما ورد:"لا تقوم الساعة حتي لا يُحَج البيت".
وفي لفظ: "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يُرفع؛ فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة".
قال الحافظ ابن حجر: وجدت في كتاب "التيجان" لابن هشام: أنَّ عمر بن عامر كان ملكًا مُتوجًا، وكان كاهنًا مُعمرًا، وأنه قال لأخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا لما حضرته الوفاة: إن بلادكم ستخرب، وإن لله في أهل اليمن سخطتين ورحمتين، فالسخطة الأولي: هدم سد مأرب، وخراب البلاد بسببه.
والثانية: غلبة الحبشة علي اليمن.
والرحمة الأولي: بِعثَةُ نبي من تهامة اسمه محمد يرسل بالرحمة، ويغلب أهل الشرك.
والثانية: إذا خرب بيت الله يبعث الله رجلًا يقال له: شعيب بن صالح، فَيُهلك من خَرّبهُ، ويخرجهم حتي لا يكون في الدنيا إيمان إلا بأرض اليمن.
قال الحافظ: إن ثبت هذا عُلم منه اسم القحطاني وسيرته وزمانه. اهـ
قُلْتُ: ليس فيما ذكر أنَّ ذلك هو القحطاني، ولم لا يجوز أن يكون شعيب بن صالح التميمي القادم بالرايات السود إلي المهدي، وأنه يُرسله عيسي عليه السلام إليه حين يأتيه الصريخ؟ ويؤيده كون لقبه: المنصور، وبتقدير أن يكون هو إياه، فجائز أن يكون قبل خلافته، ويكون فيمن أرسله عيسي عليه السلام أميرًا عليهم، وكونه رحمة لأهل اليمن لا يلزم أن يكون منهم، ويكفي في كونه رحمة لهم كونه يدفع الحبشة عنهم بحيث لا يبقي إيمان إلَّا باليمن، ثم إنَّ الحجاز من اليمن، ولذا يقال للكعبة يمانية، ومنه يُعلم أن ليس في هذا دليلٌ علي تأخر إيمان أهل اليمن عن أهل
المدينة حتي يتعارض الحديثان، ويؤيد ذلك: أن المراد باليمن الحجاز؛ لأن الخلافة حينئذ تكون بالأرض المقدسة لا باليمن، والله أعلم.
وأيما كان فهذا أيضًا يدل علي تقدم هدمها علي موت المؤمنين.
ولكن يبقي احتمال أن يكون بعد الدابة؛ لما مر أنها تخرج ليلة المزدلفة، وأنها تطوف علي الناس بمني، إلا أن يقال إنها تحج بعد خرابها أو هدمها، وأن مكة تبقي معمورة بعدها.
وقيل: إن هدمها بعد الآيات كلها قرب قيام الساعة حتي ينقطع الحج، ولا يبقي في الأرض من يقول: الله الله.
ويؤيد هذا: أن زمن عيسي عليه السلام كله زمن سِلْمٍ وخير وبركة وأمن، وأنها قبلة المسلمين والحج إليها أحد أركان الدين، فينبغي أن تبقي ببقاء المسلمين، وأنها تهدم مع رفع القرآن، وسنشير إليه ثَمَّ أيضًا إن شاء الله تعالي.
فائِدَة
قال الفقهاء: إذا هدمت الكعبة -والعياذ بالله- فَعَرصَتُهَا بمنزلتها، فمن صلى خارجها جاز استقبالها مُطلقًا ولو كان أعلي منها؛ كمن صلي علي أبي قُبيس، ومن صلي فيها لابد وأن يستقبل شاخصًا قدر ثلثي ذراع إلى ذراع من بنائها، أو ما لحق بذلك؛ كعصًا مُسَمّرة، أو شجرة نابتة ولو يابسة، أو تراب منها مجتمع، أو حجر منها، أو حفرة ينزل فيها مقدار ما ذكر، وإلا فلا تصح صلاته.
وكذا الطواف يجب أن يكون خارجها، وبالله التوفيق.
تَذْنيبٌ يناسب ذكره المقام، نورده تتميمًا للفائدة
في "مسند الروياني": عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون رجل من قريش أخنس يلي سُلطانًا، ثم يُغلب عليه -أو: يُنْزَعُ منه- فيفر إلى الروم، فيأتي بهم إلى الإِسكندرية، فيقاتل أهل الإسلام بها، فذلك أول الملاحم".
وفي رواية عنه: "سيكون بمصر رجلٌ من بني أمية أخنس"، بنحوه.
وروي نُعيم بن حماد: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "يقاتلكم أهل الأندلس بوسيم، فيأتيكم مددكم من الشام فيهزمهم الله".
وعن عمر رضي الله عنه: أنه قال لرجل من أهل مصر: ليأتينَّكم أهل الأندلس فيقاتلونكم بوسيم حتي تركض الخيل في الدم؛ يهزمهم الله، ثم تأتيكم الحبشة في العام الثاني.
وأخرج أيضًا عن أبي قبيل قال: خرج يومًا وردان من عند مسلمة بن مخلد وهو أمير علي مصر، فمر علي عبد الله بن عمرو مستعجلًا، فناداه فقال: أين تريد؟ فقال: أرسلني الأمير إلى مَنَفْ فأحفر له كنز فرعون. قال: فارجع إليه، وأقرئه مني السلام، وقل له: إن كنز فرعون ليس لك، ولا لأصحابك، إنما هو للحبشة، يأتون في سفنهم يريدون الفسطاط، فيسيرون حتي ينزلوا منفًا، فيظهر الله لهم كنز فرعون، فيأخذون منه ما شاؤوا، فيقولون: ما نبغي غنيمة أفضل من هذه. فيرجعون ويخرج المسلمون في آثارهم حتي يدركوهم، فيهزم الله الجيش، فيقتلهم المسلمون، ويأسرونهم. أخرجها الحافظ السيوطي في جزءٍ له.
وقال في "أزهار العروش في أخبار الحبوش": أخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق عبد الله بن صالح: حدثني الليث: حدثني أبو قبيل: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلًا من أعداء المسلمين بالأندلس يقال له: ذو العرف، يجمع من قبائل الشرك جمعًا عظيمًا، يعرف من بالأندلس أن لا طاقة لهم، فيهرب أهل القوة من المسلمين في السفن فيجيزون إلى طنجة ويبقي ضعفة الناس وجماعتهم ليس لهم سفنٌ يجيزون عليها، فيبعث الله وَعْلًا وينشره لهم في البحر، فيجيز الوعل لا يغطي الماء أظلافه، فيراه الناس فيقولون: الوعل الوعل؛ اتبعوه. فيجيز الناس علي أثره كلهم، ثم يصير البحر علي ما كان عليه، ويجيز العدو في المراكب، فإذا حستهم أهل إفريقية هربوا كلهم من أفريقية ومعهم من كان بالأندلس من المسلمين حتي يدخلوا الفسطاط، وَيُقْبِل ذلك العدو حتي ينزلوا فيما بين ترنوط إلى الأهرام مسيرة خمسة بُرُد، فيملؤون ما هناك شرًا، فتخرج إليهم راية المسلمين علي الجسر فينصرهم الله
عليهم، فيهزمونهم ويقتلونهم إلى لوعة مسيرة عشر ليال، ويستوقد أهل الفسطاط بعجلهم وأوانيهم سبع سنين، وينفلت ذو العرف من القتل ومعه كتابٌ لا ينظر فيه إلَّا وهو منهزم، فيجد فيه ذكر الإسلام، وأنه يؤمر فيه بالدخول في السلم، فيسأل الأمان علي نفسه وعلي من أجابه إلى الإسلام من قومه، فيسلم.
ثم يأتي في العام الثاني رجلٌ من الحبشة يقال له: أسيس، وقد جمع جمعًا عظيمًا، فيهرب المسلمون منهم من أسوان حتي لا يبقي فيها ولا فيما دونها أَحدٌ من المسلمين إلا دخل الفسطاط، فينزل أسيس بجيشه منف، فتخرج إليهم راية المسلمين علي الجسر فينصرهم الله عليهم، فيقاتلونهم ويأسرونهم حتي يباع الأسود بعباءة. قال الحاكم: موقوفٌ صحيح الإسناد. اهـ
وفي هذا الحديث إشكال؛ وهو أن واقعة ذي العرف المذكورة لم تقع إلى الآن، وإلا لكان ذكر في التواريخ، وإن قلنا إنها ستقع فيما سيأتي يُشكُل عليه أن الأندلس ليس بها إذ ذاك، بل ولا اليوم مسلم، فكيف يهربون في السفن وغيرها؟ وقد يقال: يمكن أن يكون هناك مسلمون قد أقروا علي الجزية، وإذا آن الأوان هربوا.
ويقربه: أن في هذه الأعصر قدمت طائفة من المسلمين من الأندلس في المراكب إلى طنجة؛ وهي نهرٌ في بلاد الروم عليها مدينة أدرنه. فيسمون: المنجل، فيمكن أن يكون لهم هناك بقايا ضعفة إذا أراد الله تعالي أجازهم البحر.
ويمكن أن يقال: إن هذا إنما يقع بعد موت المهدي، وتناكص الدين، ورجوع الناس إلى الشرك، وأن مصر إذ ذاك لكون الخلفاء ببيت المقدس تكون عامرة بالإسلام، فيكون قُبَيل هدم البيت أو بعده علي ما سبق من الخلاف في وقته، وبالله التوفيق.
لكن في "التذكرة" للقرطبي: أن أولئك أولياء المهدي وأتباعه، وأن المحل الذي يمشي فيه الوعل جسرٌ بناه ذو القرنين لهذا الأمر، وأنه إذا جاء أوانه مروا عليه. والله أعلم بحقيقة الحال.
ومن الأشراط العظام: طلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض:
وهذان أيهما سبق الآخر فالآخر علي أثره، فإن طلعت الشمس قبل خرجت الدابة ضحي يومها أو قريبًا من ذلك، وإن خرجت الدابة قبل طلعت الشمس من الغد.
أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعَبدُ بن حُميد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول الآيات خُروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة ضحيً، فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخري علي أثرها.
قال عبد الله -وكان يقرأ الكُتُب-: وأظن أولهما خروجًا طلوع الشمس من مغربها.
وقال أبو عبد الله الحاكم: والذي يظهر أن طلوع الشمس من مغربها قبل خروج الدابة.
قال الحافظ ابن حجر معتمدًا لما قاله الحاكم: ولعل الحكمة في ذلك أن بطلوع الشمس من مغربها ينسد باب التوبة، فتجيء الدابة، فتميز بين المؤمن والكافر تكميلًا للمقصود من إغلاق باب التوبة. اهـ
فلنبدأ بطلوع الشمس من المغرب:
ونقول: أما طلوع الشمس من مغربها: فقد قال الله تعالي: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ، أجمع المفسرون أو جمهورهم علي أنه طلوع الشمس من مغربها.
وقال تعالي: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} .
وروي الفريابي، وعَبدُ بن حُميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ: عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالي: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} قال: طلوع الشمس والقمر من مغربهما مقترنين كالبعيرين القرينين، ثم قرأ:{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} .
وروي عبد الرزاق، وأحمد، وعَبدُ بن حُميد، والستة غير الترمذي، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتي تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها"، ثم قرأ الآية.
وروى ابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آية طلوع الشمس من مغربها؟ فقال: تَطُول تلك الليلة حتي تكون قدر ليلتين".
وروي هو، وابن أبي حاتم: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "آية تلكم الليلة أن تطول قدر ثلاث ليال"، والقليل لا ينافي الكثير.
وفي رواية البيهقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ: "قدر ليلتين أو ثلاث، فيستيقظ الذين يخشون ربهم فيصلون، ويعملون كما كانوا ولا يري قد قامت النجوم مكانها، ثم يرقدون، ثم يقومون، ثم يقضون صلاتهم والليل كأنه لم ينقض فيضطجعون، حتي إذا استيقظوا والليل مكانه حتي يتطاول عليهم الليل، فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم، ففزع الناس وهاج بعضهم في بعض فقالوا: ما هذا؟ فيفزعون إلى المساجد، فإذا أصبحوا طال عليهم طلوع الشمس، فبينما هم ينتظرون طلوعها من المشرق إذا هي طلعت عليهم من مغربها، فضج الناس ضجةً واحدة، حتي إذا صارت في وسط السماء رجعت فطلعت من مطلعها".
وروي أبو الشيخ، وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في هذه الأمة قردة وخنازير، وتطوي الدواوين، وتجف الأقلام؛ لا يزاد في حسنة، ولا ينقص من سيئة، ولا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا".
وروي البيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "فيذهب الناس فيتصدقون بالذهب الأحمر فلا يُقْبَلُ منهم ويقال: لو كان بالأمس".
وروي ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتي يأتي الوقت الذي جعل الله لتوبة عباده، فتستأذن الشمس من أين تطلع، ويستأذن القمر من أين يطلع، فلا يُؤذن لهما، فيحبسان مقدار ثلاث ليال للشمس، وليلتين للقمر، فلا يَعْرِفُ مقدار حبسهما إلا قليل من الناس، وهم بقية أهل الأرض، وحملة القرآن، يقرأ كل رجلٍ في تلك الليلة منهم ورده، حتي إذا فرغ منه نظر؛ فإذا الليلة علي حالها، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا حملة القرآن فينادي بعضهم بعضًا، فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، ومقدار تلك الليلة ثلاث ليال، يرسل الله جبريل إلى الشمس والقمر فيقول: إن الرب تعالي يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منها؛ فإنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور. فيبكي الشمس والقمر من خوف يوم القيامة وخوف الموت، وترجع الشمس والقمر فيطلعان من مغاربهما، فبينما الناس كذلك يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل والغافلون في غفلاتهم إذ نادي مُنادٍ: ألا إن باب التوبة قد أُغْلِق، والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما. فينظر الناس وإذا بهما أسودان كالعكمين ولا ضوء لهما ولا نور، فذلك قوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} ".
تَنبيه
(العكمة): الغرارة؛ أي: كالغرارتين العظيمتين، ومنه يقال لمن يشد الغرائر علي الجمل: العكام، وفي حديث أم زرع:"عكومها رداح".
"فيرتفعان مثل البعيرين المقرونين ينازع كل منهما صاحبه استباقًا، ويتصايح أهل الدنيا، وتذهل الأمهات عن أولادها، وتضع كل ذات حملٍ حملها.
فأما الصالحون والأبرار: فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب لهم عبادة.
وأما الفاسقون والفجار: فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب عليهم حسرة.
فإذا بلغت الشمس والقمر سُرَّةَ السماء؛ وهو منتصفها جاءهما جبريل فأخذ بقرونهما فردهما إلى المغرب، فلا يغربهما في مغاربهما -أي: مغارب طلوعهما ذلك اليوم؛ وهو جهة المشرق- ولكن يغربهما في مغاربهما الذي في باب التوبة".
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: وما باب التوبة؟ فقال: "يا عمر؛ خلق الله بابًا للتوبة خلف المغرب، فهو من أبواب الجنة، له مصراعان من ذهب، مكللان بالدر والجواهر، ما بين المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عامًا للراكب المسرع، فذلك الباب مفتوحٌ منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة، عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما، ولم يتب عَبْدٌ من عباد الله توبةً نصوحًا من لدن آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب، ثم تُرْفَعُ إلى الله".
فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا رسول الله؛ وما التوبة النصوح؟ قال: "أن يندم العبد علي الذنب الذي أصاب، فيهرب إلى الله منه، ثم لا يعود إليه حتي يعود اللبن في الضرع".
قال: "فيغربهما جبريل في ذلك الباب ثم يرد المصراعين، فيلتئم ما بينهما ويصيران كأنهما لم يكن فيهما صدع قط ولا خلل، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل لعبد بعد ذلك توبة، ولم تنفعه حسنة يعملها بعد ذلك إلا ما كان قبل ذلك فإنه يجري لهم وعليهم بعد ذلك ما كان يجري لهم قبل ذلك، فذلك قوله تعالي:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ}
…
الآية".
فقال أُبي بن كعب: يا رسول الله؛ فداك أبي وأمي، فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك؟ وكيف بالناس والدنيا؟ قال:"يا أُبيّ؛ إن الشمس والقمر يكسبان بعد ذلك ضوء النور، ثم يطلعان علي الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس: فإنهم حين رأوا ما رأوا من تلك الآية وعظمها، يلحون علي الدنيا فيعمرونها ويجرون فيها الأنهار، ويغرسون فيها الأشجار، ويبنون فيها البنيان، فأما الدنيا: فإنه لو نتج رجلٌ مهرًا لم يركبه حتي تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى يوم ينفخ في الصور".
فائِدَة
قال الفقهاء: تلك الليلة عن ليلتين ويوم، فيقضي خمس صلوات؛ لأن الليلة الأولي ما فيها صلاة؛ لأن الفرض أنهم ناموا بعد فعل العشاءين، والليلة الثانية مع
اليوم فيها خمس صلوات، فتقضي قياسًا علي أيام الدجال بجامع الطول، كما قاسوا يوميه الأخيرين علي يومه الأول.
وعلي هذا: فمن نام عن صلاته فعليه مع قضاء الخمس قضاء ما نام عنه، وهو واضح، ويدخل وقت صلاة الصبح يوم طلوعها من مغربها بطلوع الفجر، وصلاة الظهر برجوعها عن وسط السماء فإنه بمنزلة الزوال، والعصر والمغرب والعشاء كبقية الأيام، وبالله التوفيق.
تَنبيه
رَوي ابن أبي شيبة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"الأشرار بعد الأخيار عشرين ومئة سنة"، كذا في الأصل المنقول عنه، فيحتمل أن الناصب سقط، وأن يُقدر بدليل الروايتين بعدها؛ فتمكث، أو تبقي.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "يمكث الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومئة سنة".
وروي عبدُ بن حُميد عنه أيضًا قال: "يبقي شرار الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومئة سنة".
وروي نُعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لا تقوم الساعة حتي تعبد العرب ما كان يَعْبدُ آباؤهم عشرين ومئة عام بعد نزول عيسي ابن مريم وبعد الدجال".
وروي عَبدُ بن حُميد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتي يلتقي الشيخان الكبيران، فيقول أحدهما لصاحبه: متي ولدت؟ فيقول: زمن طلعت الشمس من مغربها".
وروي هو وابن أبي شيبة، وابن المنذر عنه قال:"الآيات كلها في ثمانية أشهر".
وأخرجوا غير ابن أبي شيبة عن أبي العالية، قال:"الآيات كلها في ستة أشهر". ومَرَّ: "لو أن رجلًا نتج مهرًا لم يركبه حتي ينفخ في الصور".
قال في "فتح الباري" وتبعه في "القناعة": وطريق الجمع بين الروايات أن المدة
كما في الروايات الأول عشرون ومئة سنة، لكنها تمر مرًا سريعًا كمقدار عشرين ومئة شهر، كما في "صحيح مسلم": عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "لا تقوم الساعة حتي تكون السنة كالشهر"
…
الحديث، وفيه:"اليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة". اهـ
وعلي هذا: فيكون تقارب الزمان وتقاصر الأيام مرتين، مرةً في زمن الدجال، ثم ترجع بركة الأرض وطول الأيام إلى حالها الأولي، ثم تتناقص بعد موت عيسي عليه السلام إلى أن تصير في آخر الدنيا إلى ما ذكر.
وهذا تنبيهٌ حسن لم أر من نبه عليه، وبالله التوفيق.
وأقول: ما قالاه يقتضي أن تكون المدة مقدار اثنتي عشرة سنة من سنينا، فالإشكال بحاله؛ لأن المهر قد يركب في سنتين، وبتسليم ذلك وتمحل أن المراد الركوب للكر والفر في الحرب، وذلك في الخيل الأصيل لا يكون إلا في العشر وما بعدها، ولا يمكن الجمع بينها وبين رواية ثمانية وستة أشهر.
وأيضًا ينافيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه المار عند عَبد بن حُميد؛ مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتي يلتقي الشيخان الكبيران. . . ." الحديث، إلا أن يقال: إن كِبَرَ أهل ذلك الزمان علي حسب سنيهم، وعليه فَيُقدرُ إنتاج المهر وركوبه في السنين المعتادة، والأولي أن يُجمع بأن المدة القليلة بالنظر لبقاء المؤمنين، والمئة والعشرون للكفار والأشرار؛ كما تصرح به الروايات السابقة:"الأشرار بعد الأخيار".
مع هذا لابد من القول بتقاصر الزمان؛ ليكون أربعون سنة الواقعة في حديث ابن مسعود السابق في بقاء المؤمنين مقدار أربعين شهرًا، فيكون التقدير بإنتاج المهر وركوبه واضحًا.
ومعني: "تقوم الساعة" علي هذا: أنها تقوم علي المؤمنين بموتهم، ونظيره ما في البخاري: أن رجلًا سأله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فنظر إلى أحدث القوم سنًا فقال: "إن يستنفد هذا عمره لم يمت حتي تقوم الساعة".
قال العلماء: أراد ساعة الحاضرين، لا ساعة عامة الخلق.
ولكن رواية الثمانية أشهر، والستة أشهر، فيجب -إن صحتا- تأويلهما قطعًا.
تَنبيه آخَر
اختلفوا: هل إذا كان كذلك، وامتدت الدنيا بعد ذلك إلى أن يُنسي هذا الأمر، أو ينقطع تواتره، ويصير الخبر عنه آحادًا، فمن أسلم حينئذ وتاب تُقْبَلُ منه أم لا؟
ذكر أبو الليث السمرقندي في "تفسيره": عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: إنما لا يقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع، فمن أسلم أو تاب بعد ذلك قُبِلت توبته.
قال الحافظ في "فتح الباري" ما حاصله: إن الذي دلت عليه الأحاديث الثابتة الصحاح والحسان أن قبول التوبة مَلغِيٌّ بطلوع الشمس من مغربها، ومفهومها: أن بعد ذلك لا تقبل، بل وفي بعض الروايات التصريح بعدم القبول.
كما عند أحمد، والطبراني: عن مالك بن يخامر، ومعاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو؛ رفعوه:"لا تزال التوبة مقبولة حتي تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع علي كل قلب بما فيه، وَكُفي الناس العمل".
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن مردويه السابق: "فإذا أُغْلِقَ ذلك الباب لم تقبل بعد ذلك توبة، ولا تنفع حسنة".
وعند نُعيم بن حماد، عن ابن عمرو رضي الله عنهما:"فيناديهم مُنادٍ: يا أيها الذين آمنوا؛ قد قُبِلَ منكم، ويا أيها الذين كفروا؛ قد أُغْلِقَ عنكم باب التوبة، وجفت الأقلام، وطويت الصحف".
ومن طريق يزيد بن شريح، وكثير بن مرة:"إذا طلعت الشمس من المغرب يُطبع علي القلوب بما فيها، وترتفع الحفظة، وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملًا".
وأخرج عَبدُ بن حُميد، والطبري بسندٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها:"إذا خرجت أول الآيات -يعني: طلوع الشمس من المغرب- طُرِحت الأقلام، وطويت الصحف، وخلصت الحفظة، وشهدت الأجساد علي الأعمال".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "الآية التي تختم بها الأعمال: طلوع الشمس من مغربها".
قال: فهذه آثارٌ يَشُدُّ بعضها بعضًا متفقةٌ علي أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة ولم يُفتح بعد ذلك، ولا يختص ذلك بيوم طلوعها، بل يمتد إلى يوم القيامة.
قُلْتُ: ويؤيد هذا ما يأتي في الخاتمة: أن إبليس يخر عند طلوعها ساجدًا، وأن الدابة تقتله؛ فإنه لا يموت إبليس إلا وقد فُرغ من العمل.
تَنبيه آخَر
ورد في بعض الروايات: أن أول الآيات (1) خروج الدجال. وفي بعضها: أن أولها طلوع الشمس من مغربها. وفي بعضها: الدابة. وفي بعضها: نارٌ تحشر الناس إلى محشرهم.
قال الحافظ ابن حجر: وطريق الجمع: أن الدجال أول الآيات العظام المُؤذِنة بتغيير أحوال العامة في الأرض؛ أي: فلا ينافي تقدم المهدي عليه.
قال: وينتهي ذلك بموت عيسي ابن مريم عليه السلام، ومِنْ بَعْدِه القحطاني وغيره، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات المؤذنة بتغيير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة؛ أي: والدابة معها، فهي والشمس كشيء واحد، وأن النار أول الآيات المؤذنة بقيام الساعة. انتهي
وهذا جَمعٌ حسن رحمه الله تعالي.
(1) وذكر صاحب "درجات مرقاة الصعود"(ص 184) ترتيبها هكذا، فقال: ذكر القرطبي عن بعض العلماء ترتيبها هكذا: أولها: الخسوفات، فالدجال، فنزول عيسي عليه السلام، فخروج يأجوج ومأجوج، فريح تقبض أرواح المؤمنين، فتقبض روح عيسي عليه السلام مع من معه، فتهدم الكعبة، ورفع القرآن، واستيلاء الكفر علي الخلق، فتطلع الشمس من مغربها، فتخرج الدابة.
وذكر البيهقي عن الحاكم مثله، إلا أنه جعل خروج الدابة قبل طلوع الشمس. ثم ذكر إيراد أهل الهيئة أنه لا يمكن، وأجاب عنه إلخ.
قلت: ينبغي خروج الدابة قبل الريح القابضة كما لا يخفي أنها هي تَسِمُ المؤمن والكافر، فإذا لم يبق مؤمن لأجل الريح فمن تَسِمهُ؟ ! (ز).
ويدل علي ذلك ما في بعض الروايات: "وآخر ذلك -يعني: الآيات- نارٌ تحشر الناس إلى محشرهم".
ورَوي نُعيم عن وهب بن منبه قال: أول الآيات: الروم، ثم الدجال، والثالثة يأجوج ومأجوج، والرابعة عيسي عليه السلام.
أي: وكون عيسي عليه السلام رابعة باعتبار تأخره عن يأجوج ومأجوج، وإن كان باعتبار وقت نزوله مُقدّمًا عليهما فهو باعتبارٍ ثالث، وباعتبار آخر رابع.
والخامسة: الدخان، وسيأتي بيانه وتفصيله.
والسادسة: الدابة؛ أي: وَعَدُّه هذا باعتبار الآيات الأرضية، ومن ثم لم يعد طلوع الشمس، فهو أيضًا يؤيد ما ذكره الحافظ، لكن لو قال: وينتهي ذلك بخروج الدابة بدل قوله: بموت عيسي عليه السلام لكان أولي وأوضح، وكون الروم أولًا حقيقي، وكون الدجال أولًا إضافي؛ لأنه أعظم من الروم، وكأن الروم بالنظر إليه ليس بشيء.
تَبْصِرَة
قوله تعالي: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} : فيه بحسب الظاهر إشكال.
وتقريره: أن قوله: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} صفة لـ (نفسًا) فصل بينها وبين موصوفها بالفاعل.
وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ} ، عطف علي الصفة.
فيكون المعني: إذا جاء بعض الآيات لا ينفع الإيمان نفسًا، موصوفةً بأحد الأمرين:
عدم الإيمان، ويلزمه عدم كسب الخير فيه.
وعدم كسب الخير في الإيمان ولو وجد الإيمان واتصفت به.
وهذا إنما يتأتي علي مذهب الاعتزال، وأهل السُّنَّة لا يقولون بذلك.
ومن ثم قال صاحب "الكشاف". لم يفرق كما تري بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقتها ولم تكتسب خيرًا؛ ليعلم أن قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} جَمعٌ بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخري حتي يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك. انتهي كلام "الكشاف".
وأشار البيضاوي لظهور دلالة الآية لهذا المعني؛ فقال: والمعني أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسًا غير مقدمة إيمانها، أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرًا، وهو دليل لمن لا يعتبر الإيمان المجرد عن العمل؛ أي: بل يجعل العمل جزءًا من أصل الإيمان وحقيقته كالمعتزلة، لا من يجعله جزءًا من كماله، وزيادته كجمهور أهل السُّنَّة وعامة أهل الحديث وأكثر الأئمة.
ثم أشار البيضاوي إلى الجواب عن ذلك بثلاثة أجوبة اختصارًا؛ فقال: وللمُعْتبِر؛ أي: لمن يعتبر الإيمان المجرد عن العمل تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم، وحمل الترديد علي اشتراط النفع بأحد الأمرين علي معني {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا} خلت عنها إيمانها، والعطف علي {لَمْ تَكُنْ} بمعني لا ينفع نفسًا إيمانها الذي أحدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيرًا. انتهي
وتقرير كلامه: أنا نُجِيبُ أولًا: بأنا نُسَلّم أن المعني كذلك لكن نَخُصُّ الحكم بذلك اليوم، ولا نعممه بجميع الأزمنة؛ فمن مات مؤمنًا قبل ذلك اليوم نفعه إيمانه وإن لم يكن كسب فيه خيرًا ولم يعمله، ومن أدرك ذلك اليوم: إن قدم الإيمان عليه، وكسب فيه خيرًا نفعه، وإلا؛ بأن لم يقدمه أو قدمه من غير كسب خير فيه فلا.
هذا حاصل الجواب الأول، وفيه أن العمومات دلت علي أن الإيمان المجرد نافعٌ في جميع الأحوال والأوقات.
وحاصل الجواب الثاني: أن (أو) تكون تارة لعموم النفي؛ كقوله تعالي: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} ؛ أي: واحدًا منهم، وأخري لنفي العموم وذلك إذا قدر عطف النفي علي النفي، ثم جيء بـ (أو) والآية من الأول، فالمعني: لا ينفع نفسًا لم تقدم
إيمانًا ولا كسبت فيه خيرًا؛ أي: نفسًا خالية من الأمرين جميعًا، عارية عنهما، وعليه اقتصر أبو السعود في "تفسيره".
واعترض هذا الوجه بأن انتفاء الإيمان مُستلزمٌ لانتفاء كسب الخير فيه، فلا وجه للترديد بينهما.
وأجاب عنه أبو السعود بأجوبة، وأطال فيها الكلام، وكلها مخدوشة، وهي بالنكات البيانية الخطابية أشبه منها بالأجوبة.
وأقربها: قوله: ولك أن تقول المقصود من وصف نفسًا بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحدٍ من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطًا بالآخر؛ كما في قوله عز وجل: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} تسجيلًا علي كمال طغيانهم، وإيذانًا بتضاعف عقابهم؛ لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع في حق المؤاخذة؛ كما يُنبيء عنه قوله:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} اهـ
وهذا الذي قاله قريبٌ، لكنه خلاف مذهبه، فإن الكفار عندهم غير مكلفين بالفروع، والله أعلم.
وحاصل الجواب الثالث من أجوبة البيضاوي: أنَّا لا نعطف {أَوْ كَسَبَتْ} علي {آمَنَتْ} كما في الوجهين الأولين حتي يلزم دخول الأمرين في حيز النفي، بل نعطفه علي النفي نفسه، أعني:{لَمْ تَكُنْ} ، فيكون الترديد بين النفي والإثبات لا بين المنفيين.
فالمعني: لا ينفع نفسًا لم تقدم إيمانًا علي ذلك اليوم إيمانها، سواء لم تؤمن أصلًا؛ لأنه يصدق علي من لا يؤمن أنه لا ينفعه الإيمان؛ لأن النفع فرع الوجود، فإذا انتفي انتفي نفعه أيضًا. أو أحدثته ذلك اليوم وكسبت فيه خيرًا أيضًا؛ لأن الإيمان شرطه أن يكون بالغيب، فإذا صار الأمر معاينة لم ينفعها. وهذا هو معني قول البيضاوي: بمعني لا ينفع نفسًا إيمانها الذي أحدثته وإن كسبت فيه خيرًا.
فانظر إلى هذا السحر الحلال: كيف أدرج رحمه الله ثلاثة أجوبة في مقدار
سطرين، وغيره سود وجه ورقة كاملة بجوابٍ واحد ولم يقدر علي بيانه حق البيان! ! قال صلى الله عليه وسلم:"إنّ من البيان لسحرًا، وإنَّ من الشعر لحكمة". ولا شك أن التأييد والهداية من الرحمن؛ فإنه الذي: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} .
ثم لما كان كلٌّ من الجوابين الأولين فيه ما مر، والثالث فيه خَفاءٌ وفي دلالة الكلام عليه بعد اختيار جَمْعٍ من المحققين -كالعلامة التفتازاني، وابن الحاجب، وصاحب "الانتصاف"، وابن هشام، وعليه اقتصر المحقق الكوراني في "تفسيره"- جوابًا آخر غير الثلاثة، وهو أن الآية من قبيل اللف التقديري؛ أي: لا ينفع نفسًا إيمانها، ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا.
والمعني: أن الناس في التوبة قسمان؛ قسمٌ تائب عن الكفر، وقسمٌ عن المعاصي، فالكافر إن قدم الإيمان علي ذلك اليوم قُبِل منه ونفعه إيمانه بعد ذلك اليوم أيضًا، وإلا فلا، والعاصي إن تاب عن المعصية قبل ذلك قُبِلت منه ونفعته بعد ذلك اليوم أيضًا، وإلا فلا قبول ولا نفع.
وهذا هو معني ما مر في الحديث: أنهم يجري لهم وعليهم بعد ذلك اليوم ما كانوا يعملون قبل ذلك اليوم.
قال صاحب "الانتصاف": هذا الفن من الكلام في البلاغة يُلقب باللف التقديري، وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد، ولا نفسًا لم تكتسب في إيمانها خيرًا قبل ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلهما كلامًا واحدًا؛ اختصارًا وإيجازًا وبلاغة.
قال: فظهر بذلك أنه لا يُخالف مذهب أهل الحق، ولا ينقطع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير؛ أي: في النوع الذي كان يعمله قبل، لا في مطلق الخير؛ لئلا يُخالف ما مر، وأن نفع الإيمان المتقدم باقٍ في السلامة من الخلود في النار.
وقال: فهو بالرد علي مذهب الاعتزال أولي من أن يدل له.
وقال ابن هشام: بهذا التقدير تندفع هذه الشبهة.
قال: وقد ذكر هذا التأويل ابن عطية، وابن الحاجب. اهـ
واعترض أبو السعود هذا الجواب: بأن مبني اللف التقديري أن يكون المقدر من مُتممات الكلام ومُقتضيات المقام، وقد ترك ذكره تعويلًا علي دلالة الملفوظ عليه، واقتضائه إياه، ولا ريب في أن ما هنا ليس مما يستدعيه قوله:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ، ولا هو من مقتضيات المقام. اهـ
أقول: إنكار دلالة الكلام عليه واقتضاء المقام يُشبه مكابرة المحسوس في المرام أمام دلالة الكلام؛ فلأنه بدون التقدير يؤدي لاختلال النظام أو لتناقض الأحكام، وأما اقتضاء المقام فلأنه في بيان حكم عام لكافة الأيام، فيعم الكفر والإسلام والطاعة والآثام، وبالله التوفيق؛ وليِّ الإنعام.
وقد أجابوا بأجوبةٍ أُخر فلنشر إليها:
أحدها: أن الآية من قبيل القلب؛ أي: لم تكن كسبت خيرًا أو آمنت من قبل، وذِكر نفي الإيمان بعد نفي الكسب مُفيدٌ؛ لأنه ترقٍّ، وليس كعكسه السابق في عدم إفادة الترديد، ونكتة القلب التنبيه بتقديم الإيمان في أنه الأصل الذي نيط به النجاة.
ثانيها: حمل الإيمان علي اللغوي السابق علي نزول القرآن وهو المعرفة؛ أي: وهو من قبيل التصور لا من قبيل التصديق، وقد فسر به الإيمان في قوله تعالي:{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} .
قال البيضاوي: معناه منهم من يُصدق به ويعلم أنه حَقٌّ ولكن يُعاند، وسبقه إليه "الكشاف"، ويُحمل الكسب علي الإذعان والقبول.
ثالثها: أن يُحمل الإيمان علي التصديق القلبي، والكسب علي الإقرار اللساني؛ أي: وهو كسبٌ؛ لأنه بالجارحة.
وهذا ظاهرٌ؛ لأن الإسلام غير الإيمان، فيصح أن يقال: إن الإيمان النافع في الدارين ما يكون جامعًا بينهما، فيكون الظاهر معنا لا مع المخالف.
أشار إلى الجوابين الأخيرين شيخ مشايخنا العلامة المحقق الشريف صبغة الله الحسيني رحمه الله فيما كتب علي هامش "تفسير الكوراني" بخطه، لكن قوله: (إن
الإيمان النافع في الدارين ما يكون جامعًا بينهما) مبنيٌّ علي القول بأن الشهادتين شطرٌ من الإيمان لا شرط، والأصح خلافه كما هو مُبينٌ في محله.
ولبعض متأخري مُحققي العجم علي هذه الآية رسالة مبسوطة بلسان المناطقة، أتي فيه بالعجب العجاب، وكشف عن وجه المقصود الحجاب، لكن لبعدها عن أفهام العامة سيما المبتدئين لم ننقل منها شيئًا هنا، ولبعض المحشين علي البيضاوي هنا خَبطٌ واضطراب، فاجتنبه؛ فإنه جعل الأجوبة الثلاثة واحدًا، وإنما نبهنا عليه؛ لئلا يُغتر به فيظن أن كلام البيضاوي متناقض، والله أعلم.
خَاتِمَة
أخرج نُعيم بن حماد في "الفتن"، والحاكم في "المستدرك": عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يلبثون -يعني: الناس- بعد يأجوج ومأجوج حتي تطلع الشمس من مغربها، وجفت الأقلام، وطويت الصحف، ولا يقبل من أحدٍ توبةٌ ويخر إبليس ساجدًا يُنادي: إلهي؛ مُرني أن أسجد لمن شئت، وتجتمع إليه الشياطين فتقول: يا سيدنا؛ إلى من تفزع؟ فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث، فأنظرني إلى يوم الوقت المعلوم، وقد طلعت الشمس من مغربها، وهذا يوم الوقت المعلوم، وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتي يقول الرجل: هذا قريني الذي كان يغويني، فالحمد لله الذي أخزاه، ولا يزال إبليس ساجدًا باكيًا حتي تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد".
قُلْتُ: وهذا يدل علي تأخر الدابة عن الشمس، ويتمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئًا إلا أعطوه، حتي يتم أربعون سنة بعد الدابة، ثم يعود فيهم الموت ويسرع فلا يبقي مؤمن، ويبقي الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم، حتي ينكح الرجل أمه في وسط الطريق، يقوم واحد عنها، وينزل واحد، وأفضلهم من يقول: لو تنحيتم عن الطريق كان أحسن. فيكونون علي مثل ذلك حتي لا يُولد أحدٌ من نكاح، ثم يُعْقِمُ الله النساء ثلاثين سنة، ويكونون كلهم أولاد زنا؛ شرار الناس، عليهم تقوم الساعة.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه: عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدًا يُنادي ويجهر: إلهي؛ مُرني أسجد لمن شئت، فتجتمع إليه زبانيته فيقولون: يا سيدنا، ما هذا التضرع؟ فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم، وهذا الوقت المعلوم.
قال: "وتخرج دابة الأرض من صدعٍ في الصفا، فأول خطوة تضعها بأنطاكية، فتأتي إبليس فتخطمه".
تَنبيه
في طلوعها من المغرب ردٌّ علي أهل الهيئة ومن وافقهم أن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها، ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه.
قال الكرماني: وقواعدهم منقوضة، ومقدماتهم ممنوعة، وعلي تقدير تسليمها فلا امتناع من انطباق منطقة البروج علي المعدل بحيث يصير المشرق مغربًا والمغرب مشرقًا. اهـ
وأما دابة الأرض (1): فقد قال تعالي: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
…
} الآية.
قال أهل التفسير: إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر.
وقال البيضاوي: إذا دنا وقوع معناه؛ وهو ما وعدوا من البعث والعذاب.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا مات العلماء، وذهب العلم، ورُفِعَ القرآن {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، من الكلام، ويؤيده: أنه قُريء: (تنبئهم) وقُريء: (تحدثهم)، وقُريء وحمل علي التفسير:(تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوي الإسلام).
وقيل: من الكلم الجرح، والتفعيل للتكثير، ويؤيده أنه قُريء (تَكْلمهم) بفتح فسكون، وقريء:(تجرحهم).
(1) وهي المذكورة في قوله تعالي: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ}
…
الآية في آخر النمل. وذكر رواياتها السيوطي في "الدر"(5/ 115) وبسطها.
وفي "حاشية ابن ماجه"(ص 314) عن ابن عمرو بن العاص أنها: الجساسة (ز).
وسأل أبو الحواري ابن عباس رضي الله عنهما: تُكَلِّمُهم أو تَكْلَمُ؟ فقال: كِلا ذلك تفعل؛ تُكَلِّمُ المؤمن وتَكْلُمُ الكافر، وقد مر أنه قيل: إنها الجساسة، وجزم به البيضاوي وغيره.
وقرأ الكوفيون ويعقوب: {أَنَّ النَّاسَ} بفتح الهمزة، والباقون بكسرها علي أنه حكاية معني قولها وحكايتها لقول الله.
ويؤيدهما ما يأتي أنها تُنادي بأعلي صوتها: (إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)، أو استئناف علة لخروجها، أو علة لتكلمها علي قراءة الكسرة، أو علة فحذف الجار علي قراءة الفتح؛ أي: إنما أخرجناها؛ لأن الناس كانوا، أو إنما تكلمهم؛ لأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وعن أبي العالية: أن وقوع القول؛ سَدُّ باب الإيمان والتوبة.
قُلْتُ: وعلي هذا التفسير يكون في القرآن أيضًا الإشارة إلى تأخرها عن طلوع الشمس من مغربها؛ لأنه به يقع القول.
والكلام في حليتها، وسيرتها، وخروجها:
أما حليتها: فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن لها عُنقًا مُشرفًا؛ أي: طويلًا، يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب، ولها وجه الإنسان ومنقار كمنقار الطير، ذات وبر وزغب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنها ذات عصب وريش.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها ذات وبر وريش مؤلفة، وفيها من كل لون لها أربع قوائم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: زغباء ذات وبر وريش.
وعن حذيفة رضي الله عنه: أنها ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب، ولن يفوتها هارب.
وعن علي (1) بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقد قيل له: إن ناسًا يزعمون أنك دابة الأرض. فقال: والله إن لدابة الأرض ريشًا وزغبًا، وما لي ريشٌ ولا زغب، وإن لها حافرًا وما لي حافر، وإنها لتخرج حُضْرُ الفرس الجواد ثلاثًا، وما أخرج ثلثاها.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن رأسها يمس السماء، وما خرجت رجلاها من الأرض.
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما: أنها تخرج كجري الفرس ثلاثة أيام، لم يخرج ثلثها، وهذا يقرب من رواية علي كرم الله وجهه المارة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن فيها من كل لون، ما بين قرنيها فرسخ للراكب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها مؤلفة ذات زغب وريش، فيها من ألوان الدواب كلها، وفيها من كل أمة سيما، وسيماها من هذه الأمة أنها تكلم الناس بلسان عربي مبين، تكلمهم بكلامهم.
تَنبيه
الزغب: صغار الريش أول ما يطلع، قاله في "النهاية".
وعن أبي الزبير أنه وصف الدابة؛ فقال: رأسها رأس ثور، وعيناها عينا خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير.
أي: وقد مر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن وجهها وجه إنسان، ومنقارها منقار طير، بين كل مفصلين منها اثنا عشر ذراعًا.
(الأيل)؛ بفتح الهمزة وكسر التحتانية مشددة، وبالعكس، وبضم وفتح: الوعل، وهو تيس الجبل.
وعن عاصم بن حبيب بن أصبهان قال: سمعت عليًا رضي الله عنه علي المنبر
(1) حكاه السيوطي في "الدر"(ز).
يقول: إن دابة الأرض تأكل بفيها، وتكلم من استها.
وعن الحسن رضي الله عنه: أن موسي سأل ربه أن يريه الدابة؟ فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لا يُري واحدٌ من طرفيها.
قال: فرأي منظرًا فظيعًا، فقال: رَبِّ؛ ردها. فردَّها.
وأما سيرتها: فإن معها عصا موسي، وخاتم سليمان بن داود، تُنادي بأعلي صوتها:{أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} وإنها تسم الناس المؤمن والكافر، فأما المؤمِن فَيُرَي وجهه كأنه كوكب دُري، وَيُكتَب بين عينيه مؤمن، وأما الكافر فَيُكْتَبُ بين عينيه نكتةٌ سوداء: كافر.
تَنبيْه
يجوز في إعراب هذا أن يكون "نكتة" مرفوعًا علي أنه نائب فاعل (يكتب)، و (سوداء) صفتها، و (كافر) بدلًا منه، وأن يكون (كافر) نائب الفاعل، و (نكتة) منصوبًا علي أنه حال منه تقدمت عليه، و (سوداء) نعتها.
وفي رواية: "فتلقي المؤمن لتسمه في وجهه، ولكنه يبيض له وجهه، وتسم الكافر ولكنه يسود وجهه".
وفي رواية: "فارفضَّ -أي: تفرق- الناس عنها شتي ومعًا، وثبت عصابة من المؤمنين، وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله، فبدأت بهم؛ حلت وجوههم حتي جعلتها كأنها الكوكب الدُري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب، حتي إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان؛ الآن تُصلي! فيقبل عليها فتسمه في وجهه، ثم تنطلق، ويشترك الناس في الأموال ويصطحبون في الأمصار يصرف المؤمن الكافر وبالعكس، حتي إن المؤمن يقول: يا كافر؛ اقضني حقي، وحتي إن الكافر ليقول: يا مؤمن؛ اقضني حقي".
وفي رواية: "تخرج فتصرخ ثلاث صرخات، فيسمعها مَنْ بين الخافقين".
وفي لفظ: "تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفذها، ثم تستقبل الشام فتصرخ
صرخة تنفذها، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذها، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذها".
وفي رواية: "لا يبقي مؤمن إلَّا نكتت في مسجده (1) بعصا موسي نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة حتي يَبْيَضَّ لها وجهه، ولا يبقي كافر إلا نكتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان، فتفشو تلك النكتة حتي يسود لها وجهه، حتي إن الناس ليتبايعون في الأسواق: بكم ذا يا مؤمن؟ وبكم ذا يا كافر؟ ويقول هذا: خذ يا مؤمن. ويقول هذا: خذ يا كافر".
وفي رواية: "تأتي الرجل وهو يُصلي في المسجد، فتقول: ما الصلاة من حاجتك، ما هذا إلا تعوذٌ ورياء. فتخطمه وتكتب بين عينيه كذاب".
وقد مر أنها تقتل إبليس أو تخطمه.
وأما خروجها: فقد ورد أن لها ثلاث خرجات في الدهر، فتخرج خرجةً من أقصي البادية.
وفي رواية: "من أقصي اليمن، ولا يدخل ذكرها القرية -يعني: مكة-، ثم تكمن زمانًا طويلًا، ثم تخرج خرجة أخري دون تلك، فيعلو ذكرها في أهل البادية، ويدخل ذكرها القرية -يعني: مكة-".
قال صلى الله عليه وسلم: "ثم بينما الناس في أعظم المساجد علي الله حرمة وأكرمها المسجد الحرام لم ترعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب، فارفض الناس عنها شتي".
هكذا ورد عن ابن عباس، وحذيفة رضي الله عنهم، وبعض طرق حديث حذيفة صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: أنها تخرج من بعض أودية تهامة -أي: وهذا في بعض خرجاتها-، والأول في خرجاتها الأخيرة.
(1) أي: موضع سجود جبهته.
وعن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عمرو، وعائشة رضي الله عنهم: أنها تخرج بأجياد.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه المكان الذي تخرج منه الدابة، وأنه من قبل الشق الذي في الصفا.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يكون خروجها من الصفا ليلة مِني، فيصبحون بين ذنبها ورأسها، لا يدحض داحضٌ، ولا يخرج خارجٌ، حتي إذا فرغت مما أمر الله، فهلك من هلك ونجي من نجي كان أول خطوة تضعها بأنطاكية.
وفي بعضها: أنها تخرج من المروة. وفي بعضها: من مدينة قوم لوط. وفي بعضها: من وراء مكة.
تَنبيْه
وجه الجمع بين هذه الروايات من وجهين:
أحدهما: أن لها ثلاث خرجات، ففي بعضها تخرج من مدينة قوم لوط، ويصدق عليها أنها من أقصي البادية، وفي بعضها تخرج من بعض أودية تهامة، ويصدق عليها أنها من وراء مكة، ومن اليمن؛ لأن الحجاز يمانية، ومن ثم قيل: الكعبة يمانية. وفي المرة الأخيرة تخرج من مكة، وهي من عظم جثتها وطولها يمكن أن تخرج من بين المروة والصفا وأجياد، فإنها تمسك مقدار ثلاثة أيام وأكثر، وحينئذ يصدق عليها أنها خرجت من المروة، ومن الصفا، ومن أجياد، ومن المسجد، وبالله التوفيق.
والوجه الثاني: أنها تخرج من جميع تلك الأماكن في آنٍ واحد خرقًا للعادة في صور مثالية، وهذا أيضًا مبنيٌّ علي تحقق المثال المحسوس.
وقد أفتي السيوطي في رجلين حلفا بالطلاق كُلٌّ حلف علي أن الشيخ عبد القادر الطحطوحي بات عنده في ليلةٍ واحدة معينة، بأنه لا يقع طلاق واحد منهما بناءً علي هذا.
قال: وقد وقعت هذه المسألة قديمًا، وأفتي فيه العلماء بعدم الحنث. انتهي
ثم رأيت ابن عَلَّان قال في تفسيره "ضياء السبيل" ما لفظه: وقيل: تخرج في كل بلدٍ دابةٌ مما هو مثبوت نوعها في الأرض وليست واحدة، فدابة علي هذا القول اسم جنس. انتهي
وإذا قلنا بتعدد الصور المثالية أغني عن القول بالجنسية، وبالله التوفيق.
ومن الأشراط: الدخان:
عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: "اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: الساعة يا رسول الله. قال: إنها لن تقوم حتي تروا قبلها عشر آيات. . . ." فذكر الدخان والدجال. الحديث رواه مسلم، والترمذي، وابن ماجه، ورواه حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: وأنه يمكث في الأرض أربعين عامًا.
وفي رواية: "أنه يأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام".
وقد مر أنه يكون دُخانٌ عند هلاك يأجوج ومأجوج، وأنه يمكث ثلاثًا، فيحتمل أن يكون هذا هو ويحتمل غيره، لكنه لابد أن يكون قبل الريح الآتية؛ لأن بعد الريح لا يبقي مؤمنٌ، وعند الدخان يُوجد المؤمنون؛ كما هو صريح العبارة.
ومنها: ريح طيبة تقبض روح كل مؤمن، ورجوع الناس إلى عبادة الأوثان ودين آبائهم:
أخرج مسلم وغيره: عن عائشة رضي الله عنها: "لا تذهب الأيام والليالي حتي تُعبد اللات والعزي من دون الله. . . ." الحديث.
وفيه: "فيبعث الله ريحًا طيبة فيتوفي بها كل مؤمن في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيبقي من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم".
وله شاهدٌ من حديث حذيفة بن أسيد.
وأخرج أحمد ومسلم: عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: "ثم يُرسل الله -يعني: بعد موت عيسي- ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقي علي وجه الأرض أحَدٌ
في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، حتي لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتي تقبضه، فيبقي شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، فيعبدونها: وهم في ذلك دَارٌّ رزقهم، حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور".
تَنبيْه
هذا ينافي ما مر من قتل الدابة إبليس بحسب الظاهر، ويمكن أن يُقال علي بُعْدٍ: إن هذا الشيطان غير إبليس.
وروي أحمد، ومسلم، والترمذي: عن النواس بن سمعان: "فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقي شرار الناس يتهارجون فيها -أي: يتسافدون- تهارج الحُمُر، فعليهم تقوم الساعة".
وقد مر عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أن المؤمنين يتمتعون بعد الدابة أربعين سنة، ثم يعود فيهم الموت ويُسرع، فلا يبقي مؤمن، ويبقي الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم. . . ." الحديث.
وفيه: "فيكونون علي مثل ذلك حتي لا يُولد أحدٌ من نكاح، ثم يُعقم الله النساء ثلاثين سنة، ويكونون كلهم أولاد زنا؛ شرار الناس، عليهم تقوم الساعة".
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن الله يبعث ريحًا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته".
تَنبيْه
قال المناوي في "تخريج أحاديث المصابيح": ويُجاب عن اختلاف الروايتين -يعني: كون الريح من قبل الشام ومن اليمن- بأنهما ريحان شامية ويمانية.
وأخرج ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: يَدْرُسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتي لا يُدري ما صيام، ولا صلاة، ولا نُسك، ولا صدقة،
ويبقي طوائف من الناس الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا علي هذه الكلمة فنحن نقولها.
فقال رجلٌ لحذيفة: فما تغني عنهم الكلمة؟ فأعرض عنه حذيفة، فأعاد عليه السؤال ثانيًا وثالثًا، فقال في الثالثة: تُنْجِيهم من النار.
وأخرج أحمد بسندٍ قوي عن أنس رضي الله عنه قال: "لا تقوم الساعة حتي لا يُقال في الأرض: لا إله إلا الله".
وهو عند مسلم، لكن بلفظ:"الله الله".
فدلت الأحاديث المذكورة علي أن المراد بالشرار في الحديث: هم الذين لا يقولون: (لا إله إلا الله)، و (الله الله)، وأنه ما دام في النوع الإنساني من يقول هذه الكلمة لا تقوم الساعة، وإنما تقوم علي الكفار الذين لا يعرفون نكاحًا ولا يولدون من نكاح، فيكونون بهائم في صورة الإنسان وليسوا بإنسان حقيقة، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
تَكْمِلَة
في فائدةٍ ذكرها الشيخ الكبير محيي الدين بن عربي رحمه الله في "الفصوص" في (الفص الشيثي)، فلنذكر كلامه مع شرحه للعلامة المحقق نور الدين عبد الرحمن الجامي قدس الله أسرارهما.
قال رحمه الله: (وعلي قدم شيث عليه السلام بل علي قلبه في التهيؤ للتجليات الذاتية، والعطايا الوهبية (يكون آخر مولود يولد في النوع الإنساني)؛ لأن مراتب الوجود دورية، فكما أن شيثَ عليه السلام كان أول مولود من سلسلة أولاد آدم المنتهية إلينا ينبغي أن يكون آخر مولود أيضًا كذلك؛ ليتم الدائرة بانطباق آخرها علي أولها (وهو حامل أسراره) من علومه وتجلياته؛ لما ذكرنا (وليس يولد بعده) ولدٌ آخر (في هذا النوع الإنساني، فهو خاتم الأولاد يولد معه) في بَطنٍ واحد (أخت له) كما أن شيثَ عليه السلام أيضًا كان كذلك؛ فإن حواء كانت تلد لآدم في كل بَطنٍ ذكرًا وأنثي (فتخرج أخته) قبله (ويخرج) هو بعدها؛ لأنه لو لم يتأخر عنها في الولادة لم
يكن خاتم الأولاد، ويشبه أن يكون شيث عليه السلام مع أخته بعكس ذلك، ليكون أول مولود (يكون رأسه عند رجليها، ويكون مولده بالصين) أقصي البلاد (ولغته لغة بلده، ويسري بعد ولادته العقم في الرجال والنساء، فيكثر النكاح من غير ولادة، ويدعوهم إلى الله، فلا يُجاب في هذه الدعوة، (فإذا قبضه الله)، وقبض مؤمني زمانه (بقي من بقي مثل البهائم)، فهم حيوانات في صور الإنسان؛ لإظهار كمال الحقائق الحيوانية الطبيعية البهيمية السبعية في الصورة الإنسانية تمامًا علي ما تقتضيه الطبيعة من حيث هي هي، من غير وازعٍ عقلي أو مانعٍ شرعي، (لا يحلون حلالًا، ولا يحرمون حرامًا، ويتصرفون) بحكم الطبيعة (بشهوة مجردة عن) العقل والشرع، (فعليهم تقوم الساعة، وتخرب الدنيا، وانتقل الأمر إلى الآخرة). انتهي
تَنبيْه
مراد الشيخ رضي الله عنه بقوله: (ليس يُولد بعده ولدٌ في هذا النوع الإنساني فهو خاتم الأولاد). انتهي
الإنساني الحقيقي، فهو خاتم أولاد المؤمنين، أو خاتم أولاد النكاح، فيكون العقم مرتين مرةً في المنكوحات، ومرةً في مطلق النساء؛ كما يشير له قول الشارح:(فيكثر النكاح من غير ولادة)، فإن النكاح يُطلق علي العقد كما يطلق علي الجِمَاع، فلا يُنافي أن يُولد بعده بهائم في صورة الإنسان كما يشير إليه كلامه، أو من الزنا كما صرح به حديث ابن مسعود رضي الله عنه المار:"فيكونون علي مثل ذلك حتي لا يُولد أحدٌ من نكاح، ثم يعقم الله النساء ثلاثين سنة، ويكونون كلهم أولاد زنا، شرار الناس، عليهم تقوم الساعة".
فلا منافاة بين الحديث وكلام الشيخ، والحديث وإن ضعفه الحاكم فالكشف الصحيح يدل علي صحة هذا المقدار منه، ولبقيته، بل ولمجموعه شواهد، وقد مرت.
تَنبيْه آخَر
حكمة عقم النساء ثلاثين سنة -والعلم عند الله تعالي- أنهم لو توالدوا لزم تعذيب الصبيان قبل البلوغ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة"، ومنهم:
"الصبي حتي يبلغ"، والبلوغ وإن كان يحصل بخمسة عشر لكنه تعالي يُمهلهم حتي يبلغوا أشدهم إلزامًا للحُجة.
لا يُقال هم أهل الفترة فكيف يعذبهم؛ لأنه قد مر عن "شرح الفصوص" أن المولود المذكور يدعوهم إلى الله فلا يُجاب، ولا مانع أن يُبْقِي الله ذلك المولود بعد هلاك جميع المؤمنين إلزامًا للحجة، وبالله التوفيق.
وهذا إنما يوافق القول بأن الشيطان لا تقتله الدابة، وأن الأعمال تكتب بعد طلوع الشمس من مغربها.
تَنبيْه آخَر
ينافي ما ذكر بحسب الظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون علي الحق ظاهرين. . . ." الحديث.
فإن ظاهر الروايات السابقة: أنه لا يبقي أحدٌ من المؤمنين فضلًا عن القائم بالحق، وظاهر هذا البقاء.
قال الحافظ في "فتح الباري": يمكن أن يكون المراد بقوله: أمرُ الله هبوب تلك الريح، فيكون ظهور تلك الطائفة قبل هبوبها.
قال: فبهذا الجمع يزول الإشكال بتوفيق الله تعالي. انتهي
ولا يأبي هذا كل الإباء ما ورد في بعض الروايات مكان "أمر الله": "يوم القيامة"؛ لأن ما قارب الشيء يُعطي حكمه، فهذا الوقت لقربه من القيامة يطلق عليه القيامة، وجمعه هذا أحسن من جمع غيره بأن يَكفر بعض الناس ويبقي بعضهم؛ لمنافاته للكليات الواردة كما لا يخفي.
ويوضحه: ما رواه الحاكم وصححه عن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عِصَابةٌ من أمتي يقاتلون علي أمر الله قاهرين علي العدو، لا يضرهم من خالفهم حتي تأتيهم الساعة".
فقال عبد الله بن عمرو: أجل ويبعث ريحًا ريحها المسك، ومسها مس الحرير،
فلا تترك نفسًا في قلبه من مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقي شرار الناس، عليهم تقوم الساعة.
فإن قول ابن عمرو رضي الله عنهما هذا في مقابلة ما رواه عقبة كالصريح فيما قلناه، والله أعلم.
ومنها: رفع القرآن من المصاحف ومن الصدور:
رَوي الديلمي عن حذيفة، وأبي هريرة رضي الله عنهما معًا؛ قالا:"يُسري علي كتاب الله ليلًا فيصبح الناس وليس منه آية ولا حرف في جوف إلا نسخت".
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: "لا تقوم الساعة حتي يرجع القرآن من حيث جاء، فيكون له دويٌّ حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب عز وجل: مالك؟ فيقول: منك خرجت وإليك عُدت، أتلي فلا يُعمل بي. فعند ذلك رفع القرآن".
وأخرج السجزي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لا تقوم الساعة حتي يرفع الركن والقرآن".
وروي الأزرقي في "تاريخ مكة": "أول ما يرفع الركن، والقرآن، ورُؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام".
وروي ابن ماجه بسندٍ صحيح قوي، والحاكم، والبيهقي، والضياء: عن حذيفة رضي الله عنه: "يدرس الإسلام كما يدرس وشْي الثوب، حتي لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويُسري علي كتاب الله في ليلة، فلا يبقي في الأرض منه آية، وتبقي طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا علي هذه الكلمة (لا إله إلا الله) فنحن نقولها".
ومنها: هدم الكعبة:
وقد مر بأحاديثه وتوجيهها، وإنما ذكرته هنا؛ لأن بعضهم قال: ذلك بعد موت المؤمنين قرب القيامة عند انقطاع الحج.
ومنها: رجوع الناس إلى عبادة الأوثان:
وقد مرت أحاديثها وأن بعضهم يُؤمن بالدجال، فهذا مَحطُّ حديث:"تلحق قبائل من أمتي بالمشركين ويكفرون جميعًا قبل يوم القيامة" وهذا محطُّ الأحاديث المصرحة بالعموم، وكلاهما من الأشراط، والله أعلم.
ومنها: رِيحٌ تُلقي الناس في البحر:
أخرج الستة إلا البخاري عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنهما؛ مرفوعًا: "لن تقوم الساعة حتي تروا قبلها عشر آيات. . . ."، وقال في العاشرة:"ورِيحٌ تلقي الناس في البحر".
وفي لفظ الترمذي: "والعاشرة: إما ريحٌ تطرحهم في البحر، وإما نزول عيسي ابن مريم"؛ بالشك من الراوي.
والمراد بكون عيسي عليه السلام عاشرًا في العَدِّ لا في الوقوع.
وظاهره (1) أن هذه غير الريح التي تلقي يأجوج ومأجوج في البحر كما مر، وأن هذه تكون عند خروج النار الآتي ذكرها، ويحتمل أن تكون إياها، والله أعلم.
ومنها: تقارب الزمان، وقصر الأيام:
أخرج مسلم عن أبي هريرة، والترمذيُّ عن أنس: "لا تقوم الساعة حتي يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار. واللفظ للترمذي.
وقد مر في بحث الدجال أن هذا يصير في زمانه أيضًا، ولا مانع من تكرره مرتين: مرة في زمنه، ومرة في آخر الزمان، فالقدرة صالحة لكل شيء.
(1) وقال القاري (5/ 188): لعل المراد من الناس الكفار، وأن نارهم تكون منضمة إلى ريحٍ شديدة الجري، سريعة التأثير في إلقائها البحر، وهو موضع شر الكفار
…
إلخ.
قلت: والظاهر أنه ليس إذ ذاك إلا الكفار؛ لتقدم الريح القابضة علي ذلك، لكن يخالفه ما سيأتي (ص 335):"يحشر الناس علي ثلاثة طوائف طاعمين كاسين" الحديث، إلا أن يقال: إن المراد أن الفرق كلهم من الكفرة. فتأمل. (ز).
ومن الأشراط العظام وهي آخرها: نارٌ تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى محشرهم.
أخرج أحمد، والبخاري: عن أنس رضي الله عنه: "أما أول أشراط الساعة فنارٌ تخرج من المشرق فتحشر الناس إلى المغرب، وأما أول ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. . . ." الحديث.
وأخرج الستة غير البخاري: عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنهما مرفوعًا: "لن تقوم الساعة حتي تروا قبلها عشر آيات. . . ." الحديث.
وفيه: "وآخر ذلك نارٌ تَخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم".
ويُروي: "نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر".
وفي لفظ: "من قعر عدن أبين".
و(أبين)؛ بوزن أحمر: اسم الملك الذي بناها. قال في "النهاية": وقد مَرَّ وَجْهُ الجمع بين أوليتها وآخريتها.
وأخرج أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو وأبو داود والحاكم وأبو نُعيم عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال:"ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقي في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، وتقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تُخَلّف".
تَنبيْه
قوله: "تقذرهم نفس الله" من المتشابهات، فيجب الإيمان بها علي مراد الله ومراد رسوله، ولا حاجة إلى تأويله، فإن الحديث كالقرآن لا يَعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم؛ لأنهم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، فينتج لهم إيمانهم به العلمَ بتأويله.
وأخرج أحمد والترمذي وقال: حسنٌ صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما:
"ستخرج نارٌ من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس، قالوا: يا رسول الله؛ فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام"، وهذا هو المراد بمهاجر إبراهيم عليه السلام في الرواية السابقة.
وأخرج الطبراني وابن عساكر، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:"لتقصدنكم نارٌ هي اليوم خامدةٌ في وادٍ يقال له: برهوت. تغشي الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال، وتدور الدنيا كلها في ثمانية أيام، تطير طير الريح والسحاب، حرها بالليل أشد من حرها بالنهار، ولها بين السماء والأرض دويٌّ كدوي الرعد القاصف، وهي من رؤوس الخلائق أدني من العرش، قيل: يا رسول الله؛ أسليمةٌ يومئذ علي المؤمنين والمؤمنات؛ قال: وأين المؤمنون والمؤمنات يومئذ؟ ! هم شَرٌّ من الحُمُر، يتسافدون كما يتسافد البهائم وليس فيهم رجلٌ يقول: مه مه".
وأخرج أحمد، والبغوي، والباوَردي، وابن قانع، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، وأبو نُعيم: عن رافع بن بشر السلمي قال: "يوشك أن تخرج نارٌ من حبس سيل، تسير سير بطيئة الإبل، تسير بالنهار وتقيم بالليل، تغدو وتروح، يقال: غدت النار أيها الناس؛ فاغدوا، قالت النار أيها الناس؛ فقيلوا، راحت النار أيها الناس؛ فروحوا. من أدركته أكلته".
تَنبيْه
هذه النار المذكورة في هذه الأحاديث الخارجة من قعر عدن غير نار المدينة المار ذكرها في القسم الأول، ولا ينافي هذه الرواية أن هذه تخرج من حبس سيل أيضًا؛ لأن أصل خروجها من برهوت، ويقال له: وادي النار. وهو في قعر عدن، وعدن بناحية حضرموت وعلي ساحل البحر، فالعبارات مآلُها واحد، وتمر بحبس سيل أيضًا، والخطاب مع أهل المدينة.
وحبس سيل شرقي المدينة، فوصول النار إليها يكون قبل وصولها المدينة، فيصح أن يقال لهم: تخرج نارٌ من حبس سيل.
فائِدَة
نقل الحافظ ابن حجر عن القرطبي: إن الحشر أربعة: حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة، فالذي في الدنيا المذكور في سورة الحشر، وهو حشر اليهود إلى الشام، والثاني: الحشر المذكور في أشراط الساعة (1).
وفي حديث أنس رضي الله عنه في مسألة عبد الله بن سلام لما أسلم: "أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب".
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند الحاكم؛ رفعه: "تُبعَثُ علي أهل المشرق نارٌ فتحشرهم إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتخلّف، وتسوقهم سَوْقَ الجمل الكبير".
قال الحافظ ابن حجر: وكونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب؛ لأن ابتداء خروجها من عدن، فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها؛ أي: كما في رواية الطبراني، وابن عساكر عن حذيفة رضي الله عنه المارة أنها تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام.
أو أن المراد تعميم الحشر، لا خصوص المشرق والمغرب؛ أي: يكون المعني: تحشر من بين المشرق والمغرب، أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق.
تَنبيْه
يجمع بين قوله: (تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام)، وبين (أنها تسير سير بطيئة الإبل والجمل الكبير، وتبيت وتقيل) بأن انتشارها في ثمانية أيام، ثم تسير علي سير الناس بعد ذلك.
والثالث: حشر الأموات من قبورهم بعد البعث جميعًا:
قال تعالي: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} .
(1) وبسط الحافظ (11/ 300) في باب "المحشر" من البخاري الكلام علي روايات الباب، والجمع بينها وذكر الأقوال فيها أشد البسط. فارجع إليها (ز).
والرابع: حشرهم إلى الجنة أو النار:
قال الحافظ: الحشر الأول ليس حشرًا مُستقلًا، فإن المراد حشر كل موجودٍ يومئذ، والأول إنما وقع لفرقةٍ مخصوصة، وهذا وقع كثيرًا كما وقع لبني أمية أن ابن الزبير رضي الله عنه أخرجهم من المدينة إلى جهة الشام. اهـ
قُلْتُ: المراد ما سُمي حشرًا علي لسان الشارع، وقد سَمَّي الله الأول حشرًا بخلاف غيره، فظهر الفرق.
خَاتِمَة
اختلف الناس: هل هذا الحشر قبل يوم القيامة، أو هو يوم القيامة؟
وعلي الأول: هل النار حقيقةٌ أو مجاز، أو المراد بها الفتن؟ مال إلى الثاني الحليمي، وجزم به الغزالي.
قالوا: ويدل له حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "الصحيحين" وغيرهما: "يحشر الناس علي ثلاث طرائق راغبين راهبين، واثنان علي بعير وثلاثة علي بعير، وعشرة علي بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا"؛ أي: فالحديث كالتفسير لقوله تعالي: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً
…
} الآية.
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده حديث أبي ذر رضي الله عنه عند أحمد، والنسائي، والبيهقي:"حدثني الصادق المصدوق أن الناس يحشرون يوم القيامة علي ثلاثة أفواج: فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون، وفوج تسحبهم الملائكة علي وجوههم. . . ." الحديث.
ثم اختلفوا علي هذا القول في الجمع بين حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في "الصحيحين" وغيرهما مرفوعًا: "إنكم تحشرون حُفاةً عُراةً غُرلًا. . . ." الحديث.
فقال الإسماعيلي: الحشر يُعبر به عن النشر أيضًا؛ لاتصاله به؛ وهو إخراج
الخلق من القبور، فيخرجون من القبور حُفاة عُراةً، فيساقون ويجمعون إلى الموقف للحساب، ثم يحشر المتقون رُكبانا علي الإبل؛ أي: والمجرمون علي وجوههم.
وقال غيره: يخرجون من القبور علي ما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ثم يحشرون إلى الموقف علي ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال بعض شراح "المصابيح" -أي: وهو التُّوربشتي-: حَملُ الحشر علي هذا أقوي من وجوه:
أحدها: إذا أطلق الحشر يُراد به شرعًا: الحشر من القبور، ما لم يُخصصه دليل.
ثانيها: أن التقسيم المذكور في الخبر لا يستقيم في الحشر إلى أرض الشام؛ لأن المُهَاجِر لابد أن يكون راغبًا أو راهبًا، أو جامعًا بين الصفتين، فأما أن يكون راغبًا راهبًا فقط، وتكون هذه طريقة واحدة لا ثاني لها من جنسها فلا.
ثالثها: حشر البقية علي ما ذكر، وإلجاء النار لهم إلى تلك الجهة وملازمتها حتي لا تفارقهم قَولٌ لم يرد به التوقيف، وليس لنا أن نحكم بتسليط النار في الدنيا علي أهل الشقوة من غير توقيف.
رابعها: أن الحديث يُفسر بعضه بعضًا، وقد وقع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"ثلثًا علي الدواب، وثلثًا ينسلون علي أقدامهم، وثلثًا علي وجوههم".
قال: ونري أن هذا التقسيم نظير التقسيم الذي في سورة الواقعة: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً}
…
الآيات.
فقوله في الحديث: "راغبين راهبين": يُريد عموم المؤمنين المخلطين عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وهم أصحاب الميمنة.
وقوله: "اثنان علي بعير"
…
إلى آخره: يُريد السابقين وهم أفاضل المؤمنين ركبانًا.
وقوله: "وتحشر بقيتهم النار": يُريد أصحاب المشأمة.
فيحتمل أن البعير يحمل عشرة دفعة واحدة؛ لأنه يكون من بديع قدرة الله، فيقوي
علي ما لا يقدر عليه عشرة من بُعران الدنيا، ويحتمل أن يتعاقبوه. انتهي ملخصًا.
وقال الخطابي والقرطبي، وصوبه القاضي عياض وقواه بحديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: إن هذا الحشر يكون قبل يوم القيامة، يُحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور فهو علي ما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قال: وقوله: "اثنان علي بعير إلى عشرة" يريد: أنهم يعتقبون أنهم يتعاقبون البعير الواحد يركب بعض ويمشي بعض؛ أي: وذلك لقلة الظهر كما في بعض الأحاديث.
قال القاضي عياض: ويقويه آخر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "تقيل معهم وتبيت، وتصبح وتُمسي"، وأن هذه الأوصاف مُختصةٌ بالدنيا.
ورجحه الطيبي وتعقب علي الشارح المذكور، وأجاب عن أول وجوه ترجيحه بأن الدليل المخصص ثابت، فقد ورد في عدة أحاديث وقوع الحشر في الدنيا إلى جهة الشام، وذكر حديث حذيفة بن أسيد السابق ذكره، وحديث معاوية بن حيدة رفعه:"إنكم محشورون -ونحى بيده نحو الشام- رجالًا ورُكبانًا وتخرون علي وجوهكم"، أخرجه الترمذي، والنسائي، وسنده قوي.
وحديث: "ستكون هجرة بعد هجرة، وينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم، ولا يبقي في الأرض إلا شرارها، تلفظهم أرضوهم، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا" أخرجه أحمد بسندٍ لا بأس به.
وحديث: "ستخرج نارٌ من حضر موت تحشر الناس. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام".
قال: فليس المراد بالنار في هذه الأحاديث نَارَ الآخرة كما زعمه المعترض، وإلا لقيل: تحشر بقيتهم إلى النار، وقد قال:"تحشر بقيتهم النار" فأضاف الحشر إليها.
قال: والجواب عن الثاني أن التقسيم المذكور في سورة الواقعة لا يستلزم أن يكون
هو التقسيم المذكور في الحديث، فإن الذي في الحديث ورد علي القصد من الخلاص من الفتنة، فمن اغتنم الفرصة سار علي فسحة من الظّهر، ويُسرة في الزاد، راغبًا فيما يستقبله، راهبًا مما يستدبره، وهؤلاء هم الصنف الأول في الحديث.
فمن تواني حتي قل الظهر، وضاق أن يسعهم لركوبهم اشتركوا أو ركبوا عقبة، فيحصل اشتراك الاثنين في البعير الواحد، وكذا الثلاثة يمكنهم كل من الأمرين.
وأما الأربعة فالظاهر من حالهم التعاقب، وقد يمكن الاشتراك إذا كانوا خِفَافًا أو أطفالًا.
وأما العشرة فبالتعاقب لا غير.
وسكت عما فوقها إشارةً إلى أنها المنتهي في ذلك، وعما بينها وبين الأربعة إيجازًا واختصارًا، وهؤلاء هم الصنف الثاني في الحديث.
وأما الصنف الثالث: فعبر عنه بقوله: "تحشر بقيتهم النار"؛ إشارةً إلى أنهم عجزوا عن تحصيل ما يركبونه، ولم يقع في الحديث بيان حالهم، بل يحتمل أنهم يمشون أو يسحبون فرارًا من النار.
ويؤيد ذلك: ما وقع في آخر حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي تقدمت الإشارة إليه في كلام المعترض، وفيه أنهم سألوا عن السبب في مشي المذكورين، فقال: تُلقي الآفة علي الظهر حتي لا يبقي ذات ظهر، حتي إن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف -أي: الناقة- المسن ذات القتب؛ أي: يشتريها بالبستان الكريم؛ لهوان العقار الذي عزم علي الرحيل عنه، وعزة الظهر الذي يوصله إلى مقصوده، وهذا لائِقٌ بحال الدنيا دون الآخرة، مُؤكدٌ لما ذهب إليه الخطابي وغيره.
ويتنزل علي وفق حديث الباب؛ يعني: حديث "المصابيح"، وهو أن قوله:"فوج طاعمين كاسين راكبين" مُوافقٌ لقوله: "راغبين راهبين".
وقوله: "وفوج يمشون"، مُوافقٌ للصنف الذين يتعاقبون علي البعير؛ فإن صفة المشي لازمة لهم.
وأما الصنف الذين تحشرهم النار فهم الذين تسحبهم الملائكة.
قال: والجواب عن الثالث: أنه تبين بشواهد الحديث أنه ليس المراد بالنار نار الآخرة، وإنما هي نارٌ تخرج من الدنيا أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها، وذكر كيفية ما تفعل في الأحاديث المذكورة.
والجواب عن الرابع: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه من رواية علي بن زيد -أي: الذي استدل به المعترض- مع ضعفه لا يُخالف حديث الباب؛ لأنه مُوافقٌ لحديث أبي ذر رضي الله عنه في لفظه، وقد تبين من حديث أبي ذر رضي الله عنه ما دل علي أنه في الدنيا، لا بعد البعث في الحشر إلى الموقف، إذ لا حديقة هناك ولا آفة تلقي علي الظهر.
ووقع في حديث علي بن زيد المذكور عند أحمد: أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، وأرض الموقف مستوية لا عوج فيها ولا أمتًا، ولا حدب ولا شوك.
قال: هذا ما سنح لي علي سبيل الاجتهاد، ثم رأيت في "صحيح البخاري" في باب المحشر:"يحشر الناس يوم القيامة علي ثلاث طرائق"، فعلمت من ذلك أن الذي ذهب إليه الإمام التُّوربشتي هو الحق الذي لا محيد عنه. انتهي كلام الطيبي مع التلخيص.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعدما نقل ذلك عنه ما نصه: قلت: ولم أقف في شيءٍ من طرق الحديث الذي أخرجه البخاري علي لفظ: "يوم القيامة"، لا في "صحيحه"، ولا في غيره، وكذا هو عند مسلم، والإسماعيلي، وغيرهما ليس فيه:"يوم القيامة".
نعم؛ ثبت لفظ: "يوم القيامة" في حديث أبي ذر رضي الله عنه المنبه عليه قبل، وهو مُؤولٌ بأن المراد بذلك: أن يوم القيامة يعقب ذلك فيكون من مجاز المجاورة، ويتعين ذلك لما وقع فيه أن الظهر يقل بما يلقي عليه من الآفة، وأن الرجل يشتري الشارف الواحد بالحديقة المعجبة، فإن ذلك ظاهرٌ جدًا في أنه من أحوال الدنيا لا بعد البعث. انتهي كلام الحافظ بلفظه.
وحاصله: أن حمل لفظة من الحديث علي المجاز أهون من إلغاء جملة من ألفاظه وإبطال معني الحديث، فيتعين.
وعلي هذا: فلو ثبت لفظ: "يوم القيامة" في "البخاري" أيضا لوجب تأويله بذلك كذلك؛ لذلك.
وأقول: قد مر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد، والترمذي وقال: حسنٌ صحيح: "ستخرج نار من حضرموت، أو من بحر حضرموت، قبل يوم القيامة تحشر الناس. . . ." الحديث.
فقد صرح بكونه قبل يوم القيامة، وحديث حذيفة بن أسيد عند غير البخاري:"لن تقوم الساعة حتي تروا قبلها. . . ." الحديث، فقد تعارض مع حديث البخاري المذكور علي تقدير ثبوت لفظة:"يوم القيامة"، ولا يمكن تأويلهما بخلافه، فوجب المصير إليه دفعًا للتعارض، فثبت أن الحق أن النار قبل يوم القيامة، وبالله التوفيق.
فإن قلت: كون النار آخر الآيات يستلزم أن لا يكون في الأرض خيار، وقد صُرح بذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه عند الطبراني، وابن عساكر المار؛ فإن فيه:"قيل: يا رسول الله؛ أهي سليمة علي المؤمنين والمؤمنات؟ قال: وأين المؤمنون والمؤمنات يومئذ؟ ! . . . ." الحديث.
وفي حديث ابن عمرو رضي الله عنهما عند أحمد، وأبي عبيدة، وعند أبي داود، والحاكم، وأبي نُعيم:"فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم".
وفي بعض الأحاديث: "راغبين راهبين وطاعمين كاسين"، فيلزم أن يوجد الخيار يومئذ، وهذا تناقض أو كالتناقض.
قُلْتُ: ليس في الحديث إلا أن خير الناس يهاجرون باختيارهم إلى الشام في رفاهية ورخاء، ولا يلزم من ذلك أن يبقوا إلى خروج النار، بل الثابت أن الريح تقبضهم ولا يبقي إلا الشرار، وأن المراد خيارهم في حال حياة الدنيا من يذهب بنفسه، وهم الطاعمون الكاسون الذين يجدون الظهر والسعة، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا خيارًا عند الله، وكونهم راغبين في الوصول إلى السلامة، راهبين من النار كما فسره به الطيبي لا يلزم منه أن يكونوا مؤمنين.
وهذا واضح، وبالله التوفيق لسلوك أوضح طريق، إنه بالإجابة حقيق، وبعباده رفيق.
تَذْنيبٌ
ورد في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن آخر من يحشر راعيان من مُزينة يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشًا، حتي إذا بلغا ثنية الوداع خرا علي وجوههما".
وثنية الوداع: قرب المدينة إلى جهة الشام علي الأصح (1).
وفي رواية ابن أبي شيبة عنه: "رجلان: رجلٌ من جهينة، وآخر من مزينة، فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يجدان إلا الثعلب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما علي وجوههما حتي يلحقانهما بالناس".
وَروي ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: "آخر الناس محشرًا رجلان من مزينة يفقدان الناس، فيقول أحدهما لصاحبه: قد فقدنا الناس منذ حين، انطلق بنا إلى شخصٍ من بني فلان، فينطلقان فلا يجدان أحدًا، ثم يقول: انطلق بنا إلى المدينة، فينطلقان فلا يجدان بها أحدًا، فيقول: انطلق بنا إلى منزل قريش ببقيع الغرقد، فينطلقان فلا يريان إلا السباع والثعالب، فيتوجهان نحو البيت الحرام".
قال السمهودي في الجمع بينهما: وكأنه إذا توجها نحو البيت الحرام ينزل إليهما الملكان قبل ذهابهما، فلا يُخالف ما تقدم. انتهي
قُلْتُ: وكونهما من مزينة تغليب؛ لأن أحدهما من جهينة؛ كما في رواية ابن أبي شيبة، والله أعلم.
(1) للمدينة أكثر من ثنية، فمن جهة الشمال تقع الثنية المشهورة، ومن جهة الجنوب توجد ثنايا أيضًا معروفة الآن، فتحديد ثنية الوداع بالشامية؛ بناءً علي الشهرة، أو لموقع قبيلة مزينة من قبل المُصَنِّف، أمَّا الحكم بأنه لا ثنية إلَّا الثنية الشامية؛ فهذا محل نظر، وليس هذا محل بسطه.
وهذا الحشر لهما من نفخ الصور، فإن بعد النار المذكورة يُنفخ في الصور وتقوم الساعة.
روي الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ مرفوعًا: "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما يتبايعانه، فلا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه؛ أي: يلطخه بالطين".
يقال: لاط حوضه، يليطه، ويلوطه؛ إذا لطخه بالطين وأصلحه.
فلا يَسقي فيه -أي: إبله ودوابه- ولتقومن الساعة وقد رفع أُكْلَتهُ -أي؛ بضم الهمزة؛ يعني: لقمته- إلى فِيه فلا يطعمها -أي: لا يأكلها-.
وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند مسلم والنسائي: "يخرج الدجال فيمكث أربعين. لا أدري أربعين يومًا أو شهرًا أو عامًا. . . ." الحديث.
وفيه: "يبقي شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع"
…
إلى أن قال: "ثم يُنفخ في الصُّور فلا يسمع أحدٌ إلا أصغي لِيتا -ورفع لِيتا- قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فَيَصعق ويَصعق الناس".
قال في "النهاية": (اللِّيت) -أي: بكسر اللام- صفحة العنق، وهما ليتان. و (أصغي): أمال. انتهي
والمعني: أنه يرفع إحدي أذنيه نحو السماء، كمن يستمع النداء من فوق.
وفي "الصحيحين": عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ما بين النفختين أربعون عامًا"، ونحوه عند أبي داود وابن مردويه عنه. وروي ابن المبارك عن الحسن مثله.
وعند مسلم والنسائي: "ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل فتنبت منه أجساد بني آدم، ثم ينفخ فيه أخري فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس؛ هَلمَّ إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)}. . . ." الحديث.
ونسأل الله العفو، والعافية التامة، والمغفرة العامة في الدارين لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، ولمشايخنا في الدين ولإخواننا دينًا وطينًا، ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين؛ إنه أرحم الراحمين. آمين.
خَاتمَة نختم بها الكتاب إن شاء الله تعالي تتميمًا للفائدة
فنقول: قال الإمام الحافظ الحجة جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في رسالته المسماة بـ"الكشف في مجاوزة هذه الأمة الألف": الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد علي ألف سنة، ولا تبلغ الزيادة عليها خمس مئة سنة، وذلك لأنه ورد من طُرقٍ أن مدة الدنيا -أي: من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة- سبعة آلاف سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث في آخر الألف السادسة.
قال: ورد أن الدجال يخرج علي رأس مئة سنة، وينزل عيسي عليه السلام فيقتله، فيمكث في الأرض أربعين سنة، وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مئة وعشرين سنة، وأن بين النفختين أربعين سنة، فهذه مئتا سنة لابد منها.
قال: ولا يمكن أن تكون المدة ألفًا وخمس مئة سنة أصلًا، ثم ساق بسنده الأحاديث الدالة علي ما ذكره مُستوفيًا لطرقها.
أقول: الذي فُهم مما مر من الأحاديث التي ذكرناها في القسم الثالث أن المهدي يمكث في الأرض أربعين سنة، وأن عيسي عليه السلام يمكث بعد الدجال أربعين سنة، كما رواه الحاكم في "المستدرك" عن ابن مسعود رضي الله عنه:"أن عيسي عليه السلام ينزل فيقتل الدجال، فيتمتعون أربعين سنة، لا يموت أحدٌ، ولا يمرض أحد، ويقول الرجل لغنمه ولدابته: اذهبوا فارعوا، وتمر الماشية بين الزرعين لا تأكل منه سنبلة، والحيات والعقارب لا تؤذي أحدًا، والسبع علي أبواب الدور، ويأخذ الرجل المُدّ من القمح فيبذره بلا حرث فيجيءُ منه سبع مئة مُدٍّ. . . ." الحديث.
فإنه ظاهر في أن الأربعين بعد الدجال، وأن بعد عيسي عليه السلام يتولي أمراء؛ منهم القحطاني يتولي إحدي وعشرين سنة، ولنفرض لبقيتهم إلى طلوع الشمس من المغرب عشرين سنة أيضًا إن لم تكن أكثر، فهذه مئة وعشرون سنة، ومر أن الدجال يمكث أربعين سنة، فإن لم تكن سنين فلا أقل من مقدار سنتين؛ لأن أيامه طوال،
وأن بعد طلوع الشمس من مغربها يمكث الناس مئة وعشرين سنة.
وفي رواية: أن الشرار بعد الخيار عشرون ومئة سنة.
ومر أيضًا: أن المؤمنين يتمتعون بعد طلوعها أربعين سنة، ثم يُسرع فيهم الموت.
فهذه ثلاث مئة وعشرون سنة، وقد مضي بعد الألف قريبٌ من ثمانين، فهذه أربع مئة، وإلي تمام هذه المئة تبلغ أربع مئة وثلاثين، وقد مر عن السيوطي أنه لا تبلغ خمس مئة، بل أخذ بعضهم من قوله تعالي:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} ، وقوله:{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} أن الساعة تقوم سنة سبع بعد أربع مئة، فإن عدد حروف {بَغْتَةً}: ألف وأربع مئة وسبع والعلم عند الله تعالي.
فيحتمل خروج المهدي علي رأس هذه المئة احتمالًا قويًا بل قبل المئة، إذ الدجال يخرج في خلافته، وهو كما مر يخرج علي رأس المئة.
ويحتمل أن يتأخر للمئة الثانية، ولا يفوتها قطعًا (1)، وإذا تأخر فلابد أن يبعث الله علي رأس هذه المئة من يحيي للأمة أمر دينها؛ كما ورد في حديث مشهور.
قال الحافظ السيوطي في منظومته:
وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَمْضِي الْمِئَهْ
…
وَهْوَ عَلَي حَيَاتِهِ بَيْنَ الْفِئَهْ
يُشَارُ بِالْعِلْمِ إِلَي مَقَامِهِ
…
وَيَنْصُرُ السُّنَّةَ فِي كَلامِهِ
وَأَنْ يَكُونَ فِي حَدِيْثِ قدْ رُوِي
…
مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمُصْطَفَي وَهْوَ قَوِي
(1) وهكذا قال في الصفحة (139) بظهور المهدي في المئة الثانية بعد الألف قطعًا، وهذا مُشْكلٌ؛ فإنه قد مرت المئة الثانية، والثالثة، والرابعة، وها نحن قد دخلنا في الخامسة، اللهم؛ إلَّا أن يُقال: لما تظاهرت العلامات علي خروج المهدي فأحدث ذلك يقينا قطعيًا في رأي المؤلف، فقال ذلك الكلام، والحال أن دلالة العلامة علي المعلم لها ظنية دائمًا، فخروج المهدي وظهوره ثابتٌ بالأحاديث الصحيحة المتواترة، وأما وقت ظهوره فلا يعلمه قطعًا إلَّا الله تعالي، وقد أشار المُصَنِّف إلى ذلك بقوله (ص 345):"وهذه كلها مظنونات"، وقد وقع مثل هذا لكثير من الأئمة مثل الحافظ السيوطي كما تقدم النقل عنه، والإمام محمد عمر بحرق تلميذ الحافظ السخاوي في "حدائق الأنوار"، وغيرهم من الأئمة حسبما ظهر لهم من فهمٍ للنصوص.
ويرجح الاحتمال الثاني: ما أخرج نُعيم بن حماد عن محمد ابن الحنفية قال: يقوم المهدي سنة مئتين.
وأخرج عن جعفر الصادق قال: يقوم المهدي سنة مئتين.
وأخرج أيضًا عن أبي قبيل قال: اجتماع الناس علي المهدي سنة أربع ومئتين.
تَنبيْه
وجه الجمع بين الروايات: أن كمال ظهوره وذلك إنما يكون بفتح القسطنطينية يكون سنة مئتين، وتجتمع عليه الناس أجمعون سنة أربع ومئتين وذلك بعد فتح الرومية والقاطع، وهذا لا ينافي خروج الدجال علي رأس مئة؛ لأنه باعتبار أول خروجه بالمشرق وادعائه الخلافة، أو لأن الأربع والخمس بل والعشر من أول المئة يعد من رأس المئة عُرفًا.
وعلي هذا: فيكون خروج المهدي بسبع أو بتسع أو بثلاثين أو بأربعين قبل المئة، لا يخرجه عن كونه يخرج علي رأس المئة، وكذلك إن تأخر آخر مدته عن رأس المئة.
وهذه كلها مظنونات وردت بأخبار الآحاد، بعضها صحاح وبعضها حسان، وبعضها ضعاف مع شواهد، وبعضها بغير شواهد.
وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الصريحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها بل أولها خروج المهدي، وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة رضي الله عنها يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت ظُلمًا، وأنه يقاتل الروم في الملحمة ويفتح القسطنطينية، ويخرج الدجال في زمنه وينزل عيسي عليه السلام ويُصلي خلفه، وما سوي ذلك كله أمور مظنونة أو مشكوكة، والله أعلم بحقيقة الحال.
ونعوذ بالله من الزيغ والضلال، والغلو في المقال، والحمد لله علي كل حال، والصلاة علي حائز قصبة الكمال، في الغدو والآصال، وعلي آله وصحبه خير صحب وآل، وغفر الله لنا ولوالدينا وآبائنا وإخواننا طينًا ودينًا وصلبًا وقلبًا ولجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم آمين.
قال مؤلفه الفقير إلى الله تعالي محمد بن رسول بن عبد السيد العلوي الحسيني الموسوي الشهرزوري البرزنجي ثم المدني عفا الله عنه: ختمتُها يوم الأربعاء بين الصلاتين حادي عشر شهر الله الحرام ذي القعدة من شهور سنة (1076 هـ) بالمدينة النبوية، بمنزلي بالزقاق المعروف بالسويقة، حامدًا ومُصليًا، مُستغفرًا مُحسبلًا ومُحوقلًا داعيًا بالمغفرة للمسلمين والمسلمات.
جعلها الله ذريعة ليوم المعاد بجاه سيد العباد آمين. وصلي الله علي سيدنا ومولانا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين آمين.
آخر ما ورد بالمخطوطة "أ":
وكان الفراغ من تعليق هذه النسخة المباركة بين الصلاتين سابع عشر شهر رجب الفرد المبارك سنة مئة بعد الألف يوم الإثنين، بين الصلاتين، علي يد الفقير إليه تعالي محمد بن إبراهيم بن محمد بن ياسين غفر الله له ولوالديه ولمن قرأ لهم الفاتحة ولكافة المسلمين أجمعين، آمين، آمين، آمين (1).
* * *
آخر ما ورد بالمخطوطة (ب):
نجز تحرير زبرها بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه، يوم الجمعة قبيل الزوال، خامس عشرين رمضان المعظم من شهور سنة ثمان وأربعين ومئتين وألف، بقلم العبد الضعيف الراجي من الخبير اللطيف الوصول إلى كل مقام شريف: منصور بن أبي مدين. والحمد لله رب العالمين. آمين.
* * *
آخر ما ورد بالمخطوطة (ج):
قال مؤلفه الفقير إلى الله تعالي: محمد بن رسول بن عبد السيد العلوي الحسيني الموسوي الشهرزوري البرزنجي ثم المدني عفي عنه: ختمتها يوم الأربعاء بين
(1) وعلي هامشها: بلغ قراءة ومقابلة.
الصلاتين حادي عشر شهر الله الحرام ذي القعدة من سنة (1076 هـ) بالمدينة النبوية بمنزلي بالزقاق المعروف بسويقة، حامدًا ومصليًا، مستغفرًا محسبلًا، محوقلًا داعيًا بالمغفرة للمسلمين والمسلمات، جعلها الله ذريعة ليوم المعاد بجاه سيد العباد. آمين.
وصلي الله علي سيدنا ومولانا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين. آمين، آمين، آمين.
ذَيْل الإشَاعَةِ في الفِتَنِ البَاقِيَةِ
ذَيْل الإِشَاعَةِ فِي الفِتَنِ البَاقِيَةِ
أسئلة الدجال "جمع الفوائد"(2 ص 293)
1 -
عن نخل بيسان قال: هل يثمر؟ قالوا: نعم. قال: يوشك أن لا يثمر.
2 -
وعن بحيرة طبرية. هل فيها ماء؟ قالوا: نعم. قال: يوشك أن يذهب.
3 -
عين زغر. قالوا: يزرع، وفيها ماء كثيرة (1).
(1) أشار شيخنا رحمه الله تعالى إلى حديث معروف بين طلاب العلم بحديث الجسّاسة، رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصحابي تميم الداري رضي الله تعالى عنه، قد رواه الإمام مسلم، والإمام أبو داود، والإمام الترمذي رحمهم الله تعالى، وفي الحديث لطيفةٌ إسنادية حديثية؛ وهي رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن الصحابي.
عن فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فنودي الصلاة جامعة، فلما قضى الصلاة جلس على المنبر وهو يضحك فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه. قال: هل تدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميمًا الداري كان رجلًا نصرانيًا، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال:
حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلًا من لَخْم وجُذَام، فلعب بهم الموج شهرًا في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حيث مغرب الشمس، فجلسوا إلى أَقْرُب السفينة، فلقيتهم دابةٌ أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قُبله من دُبره، فقالوا: ويلك! ما أنت؟ قالت: أنا الجسّاسة. قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم؛ انطلقوا إلى هذا الرجل الذي في الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال: لما سمت لنا رجلًا فرقنا منها أن تكون شيطانة، فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقًا وأشده وثاقًا، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قال: نحن ناسٌ من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرًا ثم أَرْفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أَقْرُبِها، فدخلنا الجزيرة، فلقينا دابة أهلب كثير الشعر لا ندري ما قُبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: الجساسة. قلنا: وما الجساسة؟ قالت اعمدوا إلى هذا الرجل الذي في الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعًا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة. قال: أخبروني عن نخل بيسان. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ فقلنا له: نعم. قال: أما إنها توشك أن لا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة طبرية. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إنها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر. قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء، وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل. قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب، وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني: أنا المسيح، وإني يوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلَّا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة؛ فإنهما محرمتان عَليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب من أنقابها ملائكة يحرسونها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وطعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم. قال: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة، إلَّا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق وما هو من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق، ما هو. وأومأ بيده إلى المشرق، قالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن رواياته قالت: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب، فقال: إن بني عم لتميم الداري ركبوا في البحر
…
وساق الحديث.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج تميمًا إلى الناس فحدثهم.
ومنها: قال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس حدثني تميم الداري أن أناسًا من قومه كانوا في البحر في سفينة لهم، فانكسرت بهم السفينة، فركب بعضهم على لوح من ألواح السفينة، فخرجوا إلى جزيرة
…
وساق الحديث.
ومنها: قالت: صلّى الظهر، ثم صعد المنبر.
ومنها: أنه أَخَر العشاء الآخرة ذات ليلة، ثم خرج فقال: إنه حبسني حديث كان يحدثنيه تميم الداري عن رجل كان في جزيرة
…
بنحوه.
وفيه أن الجساسة قالت له: اذهب إلى ذلك القصر، فأتيته فإذا رجل يجر شعره، مسلسل في الأغلال، ينزو فيما بين السماء والأرض.
ومنها: أن ناسًا من أهل فلسطين ركبوا سفينة في البحر، فجالت بهم
…
نحوه. وفيه: قالت: أنا الجساسة. قالوا: فأخبرينا. قالت: لا أخبركم، ولا أستخبركم، ولكن ائتوا أقصى القرية فإن ثَمَّ من يخبركم ويستخبركم. فأتينا أقصى القرية فإذا رجل موثق
…
بنحوه. وفيه قال: أخبروني عن نخل بيسان الذي بين الأردن وفلسطين؛ هل أطعم؟ قلنا: نعم.
لمسلم، والترمذي، وأبي داود، وله عن جابر نحوه. وفيه: شهد جابر أنه ابن صياد، قلت: فإنه قد مات. قال: وإن مات. قلت: فإنه أسلم. قال: وإن أسلم. قلت: فإنه دخل المدينة. قال: وإن دخل المدينة.
"جمع الفوائد"(ج 3 ص 293)(كتاب الملاحم وأشراط الساعة).
4 -
عن أبي ذرّ رضي الله عنه: قال عليه الصلاة والسلام له: "كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت؟ "(1).
وحمله القاري (ج 5 ص 135) على وقعة يزيد. قال: وكان الأمير على تلك الجيوش مسلم بن عقبة المُرّي.
5 -
حذيفة مرفوعًا: "يكون بعد هذا الخير شر؟ (2) قال: نعم. [قال] فما العصمة؟ قال: السيف". "البذل"(ج 5 ص 90)، حمله الشيخ على مقتل
(1) إشارة إلى حديث طويل رواه أبو داود عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه؛ رفعه: يا أبا ذر. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال. كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله. قال: عليك بمن أنت منه. قلت: يا رسول الله؛ أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذًا. قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك. قلت: فإن دَخَل عَليَّ بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه. لأبي داود مطولًا.
"جمع الفوائد"(ج 3 ص 283 كتاب الفتن -أعاذنا الله منها-).
(2)
أشار الشيخ رحمه الله تعالى إلى ما رواه الإمام أبو داود رحمه الله تعالى بسنده عن سبيع بن خالد قال: أتيت الكوفة في زمن فتحت تُستر أجلب منها بغالًا، فدخلت المسجد فإذا صدعٌ من الرجال، وإذا رجل جالس تعرف إذا رأيته أنه من رجال أهل الحجاز، قال: قلت: من هذا؟ فتجهمني القوم وقالوا: أما تعرف هذا؟ ! هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال حذيفة: إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر. فأحدقه القوم بأبصارهم، فقال: إني قد أرى الذي تنكرون، إني قلت: يا رسول الله؛ أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله تعالى، أيكون بعده شر كما كان قبله؟ قال: نعم. قلت: فما العصمة من ذلك؟ قال: السيف. قلت: يا رسول الله؛ ثم ماذا يكون؟ قال: إن كان لله تعالى خليفة في الأرض، فضرب ظهرك، وأخذ مالك فأطعه، وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجّال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره، وَحُطَّ وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره، وَحُطّ أجره. قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم هي قيام الساعة.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن نصر بن عاصم عن خالد بن خالد اليشكري بهذا الحديث قال: قلت: بعد السيف قال: بقية على أقذاء، وهدنة على دخن. ثم ساق الحديث.
قال: وكان قتادة يضعه على الردّة التي في زمن أبي بكر، على أقذاء يقول: قذي، وهدنة يقول: صلح على دخن على ضغائن.
"بذل المجهود"(ج 12 ص 136 كتاب الفتن).
عثمان رضي الله تعالى عنه، وعندي الردّة.
6 -
"وبعد السيف قال: بقيةٌ على أقذاءٍ، وصلحٌ على دخن"(1)"البذل"(ج 5) حملهُ قتادة على الردّة، وأوّله الوالد كما حكاه الشيخ في "البذل"، وحمله من عند نفسه على صلح معاوية وعليّ رضي الله عنهما في التحكيم، وعندي صُلْحُ الحسن (1).
7 -
عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ رفعه: "ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار (2). "جمع الفوائد" (ج 3 ص 282) عن الترمذي، وأبي داود، وحمله في حاشية كليهما على وقعة الصفين، وكذا القاري (ج 5 ص 147) مع الاحتمال.
8 -
فتنة الأحلاس (3)"جمع الفوائد"(ج 3 ص 286) حمله الشيخ الشاه ولي الله
(1) قال الإمام الشاه ولي الله رحمه الله تعالى: الفتنة التي يكون العصمة فيها السيف ارتداد العرب في أيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأما إمارة على أقذاء: فالمشاجرات التي وقعت في أيام عثمان وعلي رضي الله عنهما. وهدنة على دخن: الصلح الذي وقع بين معاوية والحسن بن علي رضي الله عنهما. ودعاة الضلال: يزيد بالشام، ومختار بالعراق، ونحو ذلك، حتى استقر الأمر على عبد الملك.
"حجة الله البالغة"(ج 3 ص 196 باب الفتن).
(2)
أشار إلى ما رواه أبو داود، والترمذي: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقوع السيف".
"بذل المجهود"(ج 12 ص 121 باب في كف اللسان).
ولكن قال شيخنا رحمه الله تعالى في "حاشية البذل": حملها عامة المحشّين على أبي داود والترمذي [على] القتال بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وسكت عنه محشي ابن ماجه، وكذا حكاها القاري وقال: لا يجوز حمله على هذه الفتنة. وهكذا في الكوكب الدرّي أن الأسلم أنها لم تعلم أيّها هي.
(3)
إشارة إلى ما رواه الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في حديث طويل وفيه ذكر فتن عديدة، عن عبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما، يقول: كنا قعودًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الفتن فأكثر في ذكرها، حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله؛ وما فتنة الأحلاس؟ قال: "هرب وحرب، ثم فتنة السرَّاء، دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي، يزعم أنه مني وليس مني، وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع =
الدهلوي في "حجة الله"(ج 3 ص 159)(1) على قتال أهل الشام ابن الزبير رضي الله عنه، وفي "البذل"(ج 5 ص 88) على مقتل عثمان رضي الله عنه.
9 -
"ثم فتنة السراء، دخنها تحت قدمي رجل مني"(2). قال: وفي "حجة الله"(ج 3 ص 159): هو تغلّب المختار، أو خروج أبي مسلم الخراساني لبني العباس (3).
وفي "البذل"(ج 5 ص 89): على فتنة شريف مكة سنة 1334 هـ (4).
= أحدًا من هذه الأمة إلَّا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقضت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإن كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده".
"بذل المجهود"(ج 17 ص 132 كتاب الفتن والملاحم).
(1)
قال الإمام الشاه ولي الله رحمه الله: يشبه والله أعلم أن تكون فتنة الأحلاس قتال أهل الشام عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بعد هربه من المدينة.
"حجة الله البالغة"(ج 3 ص 196).
(2)
إشارة إلى ما ورد من حديث أبي داود الطويل الذي ذكرناه من قبل.
(3)
قال الإمام الشاه ولي الله رحمه الله: وفتنة السراء: إما تغلب المختار وإفراطه في القتل والنهب يدعو ثأر أهل البيت.
فقوله عليه السلام: "يزعم أنه مني"؛ معناه: من حزب أهل البيت وناصريهم، ثم اصطلحوا على مروان وأولاده.
أو خروج أبي مسلم الخراساني لبني العباس، يزعم أنه يسعى في خلافة أهل البيت، ثم اصطلحوا على السفاح.
"حجة الله البالغة"(ج 3 ص 196).
(4)
قال الإمام السهارنفوري رحمه الله تعالى: والذي يظهر لي: أنها هي الفتنة التي حدثت في رمضان سنة ألف وثلاث مئة وأربع وثلاثين، ومنشأها أن الشريف حسين بن علي كان في زمن حكومة الأتراك شريفًا تابعًا لحكومتهم، ثم راسل إحدى سلطنة من النصارى في زمان الحرب الكبير، وكان الحرب بين سلطنة الأتراك وحكومة النصرانية، فلحق بالحكومة النصرانية سرًا، ووافق معهم على حرب الأتراك، فقتل الأتراك الذين كانوا في مكة المكرمة من جند الأتراك، وسبى نساءهم، ثم تولى الحكومة بنفسه، وسمى نفسه: ملك الحجاز. وبقيت حكومته قريبًا من عشر سنين، ثم اضمحل أمره، واصطلح الناس على حكومة ابنه علي بن الحسين، ولم ينتظم له أمر فبقي كورك على ضلع.
وإنما سمى هذه الفتنة فتنة السرَّاء؛ لأن مبناه وأسباب حديثها كانت في السرّ، فإن الحكومة =
10 -
"ثم يصطلح الناس على رجل كورك"(1)، وفي "حجة الله" ص (2).
11 -
"ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدًا من هذه الأمة إلَّا لطمته حتى يصير الناس فسطاطين"(3)"جمع الفوائد"(ج 3 ص 286) حمله في "البذل"(ج 5 ص 89) على فتنة تمتد إلى خروج المهدي (4).
12 -
"حتى يصير الناس فسطاطين: إيمان لا نفاق فيه، ونفاق لا إيمان فيه فانتظروا الدجال من يومه أو غده"(5)"جمع الفوائد"(ج 3 ص 286).
13 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، دعوتهما واحدة""البخاري".
= النصرانية، أمَالته إليها، وأرسلت إليه من الجنيهات ألوفًا في السر؛ ليبغي على حكومة الإسلام وينحرف عنها، فقسم من هذه الجنيهات في أهل البدو، وتوافق معهم على قتال الأتراك المسلمين، وكل ذلك في السر. واتفق أن قائد الأتراك الذي كان بمكة أخبر بشيء من هذه الفتنة، فسأل الشريف عنها، فحلف عند الكعبة أنه لا أصل لها حتى اطمأن قائد الأتراك، ثم وقع ما وقع من قتل المسلمين، وسبي نسائهم، وإرسالهم إلى الكفار، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم.
ويحتمل أن يكون السراء من السرور، لأن في ذاك الزمان بعد الحصار والمضايقة الشديدة نثرت على العرب الجنيهات، والحبوب، وسائر الأطعمة بعد الفقر الشديد حتى أن أحدهم من أفقر العربان لا يملك جنيهين مَلَكَ ثمانية وأربعين ألف جنيهًا، وهو عبيد الله بن هويمل الحازمي، وكذلك غيره، سمعت هذا من أحد علماء المدينة كان موصوفًا بالثقة والإتقان.
"بذل المجهود"(ص 134 ج 7 كتاب الفتن).
(1)
انظر الحديث الذي فيه ذكر الأحلاس.
(2)
هكذا ترك الشيخ البياض في الأصل، وانظر الحاشية التي كتبناها على لفظة السرّاء، ومحصل كلام الإمام الشاه ولي الله رحمه الله: أنه إن كان المراد بفتنة السراء تغلب المختار، فمعنى:"يصطلح الناس على رجل كورك": اصطلاحهم على مروان، وإن كان المراد خروج أبي مسلم الخراساني لبني العباس فالمراد اصطلاحهم على السفاح.
(3)
انظر الحديث الذي ذكرنا في فتنة الأحلاس.
(4)
فيه اختصار مُخلٍّ كأنّه حمله على فتنة تكون من قبيل خروج المهدي، وتمتد إلى نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، قال في "البذل" (ج 17 ص 136) -بعد ذكر الفسطاطين-: وهذه الفتنة بعدُ، وسيكون قبيل ظهور المهدي ويمتد إلى نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. اهـ
(5)
انظر الحديث في حاشية فتنة الأحلاس (ص 354).
المراد بهما: علي رضي الله عنه ومن معه، ومعاوية رضي الله عنه ومن معه (1)، "فتح الباري"(ج 13 ص 69)"الإشاعة" ص 52.
14 -
"فتنة عمياء (2) صمّاء عليها دعاة على أبواب النار". من رواية حذيفة رضي الله عنه.
قال في "البذل"(ج 5 ص 91): ولا يبعد أن يحمل هذا على ما وقع في أيّام يزيد بن معاوية؛ من قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وجماعته، أو على ما وقع في أيام الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك، حيث قتل ابن الزبير رضي الله عنه.
15 -
أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم، ويرث دنياكم شِراركم": حمله في "إزالة الخفاء"(ص 183) على شهادة عثمان رضي الله عنه، وتقدّم.
16 -
أبو بكر رضي الله عنه رفعه قال: "ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له: دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين، قال ابن يحيى: قال أبو معمر: ويكون من أمصار المسلمين، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عِراضُ الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر، فيتفرق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية، وهلكوا، وفرقة
(1) تقدم ص (52) وانظر رأي شيخنا رحمه الله تعالى في مصداق "فئتان عظيمتان" في الحاشية هناك.
(2)
إشارة إلى ما رواه الإمام أبو داود رحمه الله تعالى من حديث حذيفة رضي الله عنه عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط من بني ليث، فقال: من القوم؟ فقلنا: أتيناك نسألك عن حديث حذيفة، فذكر الحديث: قال: "يا رسول الله؛ هل بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر. قال: قلت: يا رسول الله؛ بعد هذا الشر خير؟ قال: يا حذيفة؛ تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه. ثلاث مرات. قال: قلت: يا رسول الله؛ هل بعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء فيها أو فيهم. قلت: يا رسول الله؛ الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه. قال: قلت: يا رسول الله؛ هل بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار، فإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدًا منهم".
"بذل المجهود"(ج 17 ص 141).
يأخذون لأنفسهم؛ وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم؛ وهم الشهداء".
في "البذل"(ج 4 ص 108) عن "فتح الودود": قيل: المراد بالبصرة بغداد.
وفيه باب يسمى: باب البصرة، فسماه صلى الله عليه وسلم باسم البصرة، ويؤيده: أن دجلة جريها في بغداد. ولم يقع مثل هذه الواقعة بالبصرة قط، وإنما وقع في بغداد زمان المعتصم بالله العباسي، فالظاهر أن في الحديث إشارة إلى ذلك، وفي بين سطور أبي داود (ج 3 ص 235) عن "مرقاة الصعود": وقع كما قال في صفر سنة 656 هـ.
17 -
حارثة بن وهب مرفوعًا: "سيأتي على الناس زمان يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها""البخاري".
يحتمل أن يراد به ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز، ويحتمل ما سيقع في زمن عيسى عليه السلام، "فتح الباري"(ج 13 ص 66) تقدم في "الإشاعة" ص 104.
18 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ مرفوعًا: "ستكون فتنة واختلاف -أو اختلاف وفتنة- فعليكم بالأمير وأصحابه"، وأشار إلى عثمان رضي الله عنه. "إزالة الخفاء"(ص 171 وص 266)"الإشاعة" ص 40.
19 -
ابن عمر رضي الله عنهما؛ رفعه: "يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سُلاح"
قال الزهري: "سلاح" قريبٌ من خيبر "جمع الفوائد"(ج 3 ص 389) عن "أبي داود"(ج 3 ص 337)، وفي هامشه: لعله في زمن الدجال، أو زمن آخر: وسكت في "البذل".
20 -
"لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى""البخاري".
ووقع في جمادى الأخرى سنة 654 هـ تقدم في "الإشاعة" ص 86.
21 -
"ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب""فتح الباري"(1)(ج 13 ص 87) تقدم في "الإشاعة" ص 68.
22 -
أبو مالك؛ رفعه: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحة لهم؛ فيأتيهم رجل لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدًا فيبيتهم الله، ويضع العَلَم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة""جمع الفوائد"(ج 3 ص 286).
23 -
أبو هريرة رضي الله عنه؛ رفعه: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أَليات نساء دوس على ذي الخَلَصة""جمع الفوائد"(ج 3 ص 391).
24 -
عوف بن مالك؛ رفعه: "تكون هدنة بينكم وبين بني الأصفر، ثم يغدرون، فيأتون تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفًا""جمع الفوائد"(ص 393 عن البخاري) وَتقدّم.
25 -
بريدة بن الحصيب مرفوعًا في حديث: "يقاتلكم قوم صغار الأعين"؛ يعني: التُّرك، تسوقونهم ثلاث مرار حتى تلحقوهم بجزيرة العرب، فأما في السياقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما في الثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأمّا في الثالثة فيصطلحون أو كما قال. "بذل المجهود"(ج 17 ص 318).
وحمل الشاه ولي الله رحمه الله في "حجة الله"(ج 3 ص 159) أنَّ السياقة الأولى بقتال جنكيز خان، والثانية بوطء تيمور، والثالثة بغلبة العثمانية (2).
(1) كأنه أشار إلى ما قال الحافظ في "الفتح" في تخصيص العرب بالذكر؛ حيث قال: إنما خص العرب بالذكر؛ لأنهم أول من دخل في الإسلام، وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهلاك أسرع إليهم. "الفتح"(ج 13 ص 14).
(2)
هذا مختصر من كلام الإمام الدهلوي رحمه الله، وتمام كلامه: قال بعد ذكر الحديث مختصرًا: معناه أن العرب يجاهدونهم ويغلبونهم، فيصير ذلك سببًا لأحقاد وضغائن حتى يؤول الأمر إلى أن يذب العرب من بلادهم، ثم لا يقتصرون على ذلك، بل يدخلون بلاد العرب، وهذا هو المراد من قوله:"حتى تلحقوهم بجزيرة العرب"، أما في السياقة الأولى فينجو من العرب من هرب من قتالهم، بأن يفرّ من بين أيديهم، وذلك صادق بقتال الجنكيزية، فهلك العباسية الذين كانوا ببغداد، ونجا العباسية =
مُلْتَقطُ أَبْوَابِ الفِتَنِ مِنْ إِزَالَةِ الخَفَاءِ (للإمام ولي الله الدهلوي)
حديث: "تدور رَحى الإسلام بخمس وثلاثين -أو ست وثلاثين
…
أو سبع وثلاثين- فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عامًا"
…
الحديث.
فإنَّ مقتل عثمان رضي الله عنه كان لخمس وثلاثين، ثم انتشر أمر الجهاد حتى استقر في زمن معاوية رضي الله عنه، ومن هذا اليوم إلى انتشار أمر بني أمية سبعون سنة، وإلى مقتل عثمان رضي الله عنه يشير حديث:"لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم، وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم".
حديث ابن مسعود رفعه: "أحذّركم سبع فتن تكون من بعدي: أولها فتنة تُقْبِل من المدينة"، الحديث، وفتنة المدينة من قبل طلحة والزبير.
ثم النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقعود في هذه الفتنة (أي: الفتنة بعد عثمان) فقال: "القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير
…
إلخ".
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خيرية الرجال بقبل الفتنة، وشريتهم بعدها بوجوه:
الأول: بحديث: "تدور رَحى الإسلام"
…
إلخ، فإن رَحى الإسلام عبارة عن غلبة الحق ووجود الجهاد، والهلاك جامع لجميع أنواع الشرور أهمها انقطاع الجهاد.
والثاني: بأحاديث الخلافة في المدينة والملك بالشام، وقال عليه الصلاة والسلام:"إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل"
…
إلخ.
والثالث: بنزوع الأمانة؛ فقد روى حذيفة رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين. رأيت أحدهما، وأنتظر الآخر، الحديث. فيه نزول
= الذين فرّوا إلى مصر. وأما في السياقة الثانية فينجو بعض، ويهلك بعض، وذلك صادق بوطء تيمور ديار الشام، وإهلاك أمر العباسية، وأما في الثالثة فيصطلحون، وذلك صادق بغلبة العثمانية على جميع العمل، والله أعلم. "حجة الله"(ج 3 ص 197).
الأمانة ورفعها، ولا شك أن حذيفة رضي الله عنه رأى اختلال الأمانة بعد هذه الفتنة، ولذا قال: أما اليوم فلم أكن أبايع إلَّا فلانًا وفلانًا.
والرابع: بأحاديث ظهور الكذب؛ كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم، ثم يفشو الكذب"
…
إلخ.
وأخرج مسلم قال: "جاء بُشَير بن كعب إلى ابن عباس رضي الله عنهما فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا بن عباس؛ مالي لا أراك تسمع لحديثي؟ ! أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع.
فقال ابن عباس: إنّا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلَّا ما نعرف".
ولا شك أن أول زمان ابن عباس كان زمان أمانة، وبعد الفتنة كان زمان ركب الصعب والذلول.
والخامس: تعمقهم في تجويد ألفاظ القرآن، وذهولهم عن معانيه، كما وردت الروايات بهذا المعنى.
السادس: تعمقهم في تأويل متشابهات القرآن، وقد ورد النهي عنه.
والسابع: تعمقهم في الصور الفرضية الفقهية، وقد تحاشا عنه السلف.
والثامن: ظهور الأسئلة في الإلهيات.
والتاسع: ظهور الروايات عن بني إسرائيل، وأهل الكتاب.
والعاشر: ظهور الأوراد والوظائف تقربًا إلى الله تعالى.
والحادي عشر: جرأتهم على الوعظ والفتوى ويتحاشا عنه السلف.
والثاني عشر: وقوع القتال بين المسلمين؛ قال عليه الصلاة والسلام: "إن بين يدي الساعة لهرجًا"
…
الحديث، وما في معناه.
الثالث عشر: سب السلف؛ ففي أحاديث علامات القيامة: "سَبَّ آخر هذه الأمة أوّلها"، وقد ظهر بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.
والرابع عشر: افتراق المسلمين؛ قال عليه الصلاة والسلام: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين".
والخامس عشر: ظهور الخوارج، وقد ورد حديثٌ متواترًا معنى. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"ينشأ نشأ يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع"؛ يقول عليه السلام: كلما خرج قرن قطع عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال".
السادس عشر، إلى الثامن عشر: ظهور القدرية، والمرجئة، والروافض.
التاسح عشر: استحلال الفروج بتأويل المتعة، واستحلال الخمر بتأويل النبيذ، واستحلال المعازف.
العشرون: ارتفاع الأمن عن المسلمين.
الحادي والعشرون: استخلاف من ليس بأهل، قال عليه الصلاة والسلام:"يرث دنياكم شراركم"، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"إذا مشت أمتي المطيطاء، وخدمتهم أبناء الملوك أبناء فارس والروم سلط الله شرارها على خيارها"، وقد وقع هذا المعنى في زمن عثمان رضي الله عنه.
الثاني والعشرون: الفتور في أركان الإسلام من إماتة الصلاة، وَيُعْلَم من التاريخ أن بعد عثمان رضي الله عنه لم يُقِمْ الحج أميرٌ بنفسه، بل كانوا يرسلون نوابهم حتى أن عليًا رضي الله تعالى عنه لم يستطع في بعض السنين على النائب أيضًا، ومعاوية رضي الله تعالى عنه جعل أبانًا أمير الحج، والسابقون من الخلفاء كانوا يقيمون الحج بأنفسهم.
والثالث والعشرون: التشديد في العبادات وعدم قبول الرخص، وقال عليه الصلاة والسلام:"الدين يسرٌ، ولن يشادّ الدين أحد إلَّا غلبه"، ووردت الآثار في قبول الرخص، وعلم منه أن التقاط الرخص من أقوال الأئمة الأربعة ما لم يعارضه نص
حسن، بخلاف قول المتأخرين، حتى إنهم عدوه من الفسق.
الرابع والعشرون: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتنتين، فقال حذيفة رضي الله عنه:"أيكون بعد هذا الخير شر؟ قال نعم، قلت: فما العصمة؟ قال: السيف. قلت: وهل بعد السيف بقية؟ قال: نعم؛ إمارة على أقذاء، وهدنة على دخن. قلت: ثم ماذا؟ قال ينشأ دعاة الضلالة".
وفي لفظ: "قلت يا رسول الله؛ كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بالخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ فقال: نعم، وفيه دخن. قلت: ما دخنه؟ قال: قوم يَهِدُّونَ بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعده من شر؟ قال: نعم؛ دعاة على أبواب جهنم. قلت: صفهم لنا. قال: هم من جِلدتنا"
…
الحديث.
وَفسّر سعيد بن المسيب رضي الله عنه هاتين الفتنتين؛ فقال: ثارت الفتنة الأولى؛ فلم يبق ممن شهد بدرًا أحدٌ، ثم كانت الثانية؛ فلم يبق ممن شهد الحديبية أحد، وأظن لو كانت الثالثة لم ترتفع وفي الناس طباخ.
قال البغوي: أراد بالفتنة الأولى مقتل عثمان رضي الله عنه، وبالثانية الحرة.
فالفتنة الأولى بدأت من مقتل عثمان رضي الله عنه، حتى استقر أمر معاوية رضي الله عنه. والفتنة الثانية من موت معاوية رضي الله تعالى عنه، حتى استقر أمر عبد الملك.
ففي الحديث الأول عُدّت الردة من الفتنة؛ لشدتها على المسلمين، ولم تُعَدّ في الحديث الثاني لأنها كانت بين المسلمين والكفار، لا بين المسلمين في أنفسهم.
الخامس والعشرون: عيّن عليه الصلاة والسلام صورة علو الإسلام ورفعته إلى آخر عهد عثمان رضي الله عنه، ثم أنذر الفتن.
فقال أعرابي: هل للإسلام منتهىً يا رسول الله؟ قال: "نعم، أيما أهل بيت من العرب والعجم أراد الله بهم خيرًا أدخل الله عليهم الإسلام، ثم تقع الفتن كأنها الظُّلل". الحديث أخرجه البغوي.
السادس والعشرون: عَدّ النبي صلى الله عليه وسلم الفتن، فقد أخرج البغوي عن عوف رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام:"اعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتان، ثم استفاضة المال، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلَّا دخلته، ثم هدنة بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا".
فاستفاضة المال في زمن عثمان رضي الله عنه، وبعدها فتنة مستطيرة بسبب شهادة عثمان رضي الله عنه.
السابع والعشرون: أخرج البغوي عن معاذ رضي الله عنه مرفوعًا: "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروجها فتح القسطنطينية". . . . الحديث.
والمراد ببيت المقدس: مُلْكُ الشام، وعمرانه كان في زمن عثمان بإمارة معاوية رضي الله تعالى عنهما، وخراب يثرب بمقتل عثمان رضي الله عنه. والملحمة حرب الجمل والصّفين، وفتح القسطنطينية في زمن معاوية رضي الله عنه.
وَيُشْكِلُ هاهنا ترتّبُ خروج الدجال بفتح القسطنطينية، وكذا في قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم، وتجتلدوا بأسيافكم"، ولم يظهر أثر الدجال، ولا أثر الساعة، وقد مضى أكثر من ألف سنة، وكذا في أكثر الأحاديث.
والجواب: أن خروج الدجال، وكذا قيام الساعة، وكذا كل فتنة لها خصيصة وارتباط خاصٌّ بالقيامة، كارتباط غرس الشجر ببدُوِّ ثمارها، وبهذا المعنى أنذر نوح عليه السلام قومه الدجال مع بُعْدِ زمانه أشد البعد، وههنا سرٌّ عظيم لا يسعه المقام.
الثامن والعشرون: قال عليه الصلاة والسلام: "بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملكًا عَضُوضًا، ثم عتوًا وجبرية" الحديث.
التاسع والعشرون: أخرج ابن ماجه من حديث زيد بن وهب، عن عبد الرحمن قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
…
فذكر حديثًا طويلًا في الفتن.
الثلاثون: أخرج البغوي عن مرداس الأسلمي رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: "يذهب الصالحون؛ الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير لا يباليهم الله". ومر تفسيره من قول سعيد بن المسيب رضي الله عنه.
وغير ذلك من الروايات الكثيرة في الفتن، وتغير الناس، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأحكام خاصة عند ذلك من عدم الخروج ما لم يكن كفرًا بواحًا، ومن السمع والطاعة ولو عبدًا حبشيًا، ومن قوله:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وهي أيضًا كثيرة:
الأول: وجوب الطاعة فيما وافق الشرع.
والثاني: عدم الخروج ما لم يكن كفرًا بواحًا.
والثالث: إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر؛ يعني: سواء كان فاضلًا، أو مفضولًا.
والرابع: إذا أمات الصلاة فليصلِّ الصلوات لوقتها.
والخامس: إذا تعدَّوا في أخذ الزكاة، فقال عليه الصلاة السلام:"سيأتيكم ركب مبغضون فرحّبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون".
والسادس: التخلي للعبادة كان ممنوعًا أولًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا رهبانية في الإسلام"، وما في معناه، ومندوب.