المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وروى هو، وأحمد عن عائشة رضي الله عنها؛ أنه صلى - الإشاعة لأشراط الساعة

[البرزنجي]

الفصل: وروى هو، وأحمد عن عائشة رضي الله عنها؛ أنه صلى

وروى هو، وأحمد عن عائشة رضي الله عنها؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال لها:"كيف بإحداكُن إذا نَبحتها كِلابُ حوأب! ".

وَروى ابن أبي شيبة، والبزار بسندٍ رجاله ثقات عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحاكم من حديث قيس بن أبي حازم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب؟ ؛ تسير-أو تخرج- حتى تَنْبحها كِلابُ الحوأب، يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة، وتنجو بعدما كادت".

‌تَنبيْهَان

الأول: قال الدَّميري في "حياة الحيوان": قال ابن دِحية: والعجب من ابن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتاب "العواصم والقواصم" له، وذكر أنه لا يوجد له أصل، وهو أشهر من فَلَقِ الصبْح.

الثاني: الأَدْبَب؛ بهمزة مفتوحة، ودال مهملة ساكنة، وموحدتين؛ الأولى مفتوحة. قال في "القاموس": الأَدبُّ: الجمل الكثير الشعر، وبإظهار التضعيف جاء في الحديث:"صاحبة الجمل الأدبب". اهـ

قال الطائي في "شرح التسهيل": "فَكُّ الإدغام على غير القياس؛ لمناسبة الحوأب". اهـ بمعناه.

وَروى أحمد، والطبراني عن أبي رافع؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه:"سيكون بينك وبين عائشة أمر"، قال: فأنا أشقاهما يا رسول الله. فقال: "لا، ولكن إذا كان ذلك؛ فارددها إلى مأمنها".

وروى نُعيم بن حماد في "الفتن" بسندٍ صحيح عن طاوس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: "أيتكن تَنْبحُها كذا وكذا؟ " فضحكت عائشة متعجبة، فقال:"انظري لا تكوني أنت يا حُميراء".

وعن أُم سلمة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ذَكَر النبي صلى الله عليه وسلم خُروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة رضي الله عنها، فقال:"انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت"، ثم التفت إلى علي رضي الله عنه، فقال: "إن وليت من أمرها

ص: 45

شيئًا فارفق بها" رواه الحاكم وصححه، والبيهقي.

وعن حُذيفة رضي الله عنه أنه قال: "لو حَدّثتُكم أن بعض أمهات المؤمنين تغزوكم في كتيبة تَضربُكم بالسيف؛ ما صَدقْتمُوني". قالوا: سبحان الله! ومن يُصدّق بهذا؟ ! قال: "أتتكم الحميراء في كتيبة تسوقها أعلاجها" رواه الحاكم وصححه، والبيهقي، وقال: أَخبر بهذا حُذيفة ومات قبل مَسِير عائشة رضي الله عنهما.

وسبب ذلك: قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": قد جمع عمر بن شبّة في كتاب "أخبار البصرة" قصة الجمل مطولة، وها أنا أُلخصها وأقتصر على ما أورده بسندٍ صحيح، أو حسن. انتهى

فنذكر حاصله هنا مُختصرًا: وهو أنه لما كان الغَدُ من قتل عثمان رضي الله عنه خرج علي رضي الله عنه ومعه سفيان الثقفي فدخل المسجد، فإذا جماعةٌ على طلحة، فخرج أبو جهم بن حُذيفة فقال: يا علي؛ ألا ترى؟ فلم يَتكلّم، ودخل بيته فأتي بثريد فأكل، ثم قال: يُقتل ابن عمي ويُغلب على مُلكه؟ ! فخرج فأتاه الناس وهو في سوق المدينة فقالوا: ابسُط يَدك نُبايعك. فقال: حتى يتشاور الناس. فقال بعضهم: لئن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان رضي الله عنه، ولم يقم بعده قائم لم يؤمن الاختلاف وفساد الأمة، فأخذ الأشتر بيده فبايعوه، وذهب إلى بيت المال ففتحه، فلما تسامع الناسُ تركوا طلحة، فلم يعدلوا به طلحة ولا غيره، ثم أرسل إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما فبايعاه، ثم إنهما ندما على خِذلان عثمان رضي الله عنه، فطلبوا أن يُقتل قَتلةُ عثمان رضي الله عنه، فلم يُجِبهما؛ وذلك لأنَّ قاتله كان غير معلوم، وكان ينتظِرُ أولياء عثمان رضي الله عنه أن يتحاكموا إليه، ثم استأذناه في العُمرة، فأخذ عليهما العهود وأذن لهما، فلقيا عائشة رضي الله عنها، فاتفقا معها على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه، وكان يعلى بن أمية عامل عثمان رضي الله عنه على صنعاء، وكان عظيم الشأن عنده، وكان مُتمولًا، فقدم حاجًّا فأعانهما بأربع مئة ألف، وحمل سبعين رجلًا من قريش، واشترى لعائشة رضي الله عنها جملًا -يقال له: عسكر- بثمانين دينارًا.

وكان علي رضي الله عنه يقول: أتدرُونَ بمن ابتليتُ؟ بأطوع الناس في الناس؛

ص: 46

عائشة، وأدهى الناس طلحة، وأشد الناس الزبير، وأثرى الناس يعلى بن أمية.

فتوجهوا إلى البصرة، فنزلوا بعض مياه بني عامر، فنبحت الكلاب، فقالت عائشة رضي الله عنها: أي ماء هذا؟ قالوا: الحَوْأب -أي: بفتح المهملة، وسكون الواو بعدها همزة، ثم موحدة بوزن: كوكب. قال في "القاموس": موضعٌ بالبصرة، وقال الدَّميري: نهر بقرب البصرة- قالت: ما أظنني إلَّا راجعة. فقال لها الزبير: بل تَقْدُمِين، فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم.

قالت: ما أظنني إلَّا راجعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كيف بإحداكُن إذا نَبَحتها كلابُ الحوأب؟ ! " رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم، والبيهقي، وأبو نُعيم: عن قيس، قال: لما بلغت عائشة رضي الله عنها بعض ديار بني عامر، نبحت عليها الكلاب. فذكره.

فقدموا البصرة فتعجب الناس، وسألوهم عن مسيرهم، فذكروا أنهم خرجوا غَضَبًا لعثمان رضي الله عنه، وتوبةً لما صنعوا من خِذلانه، وقبضوا على عامل علي رضي الله عنه عليها؛ ابن الأحنف، وأقبل عليٌّ رضي الله عنه لما سمع بخروجهم من المدينة ومعه تسع مئة راكب، فنزل بذي قار، فبلغه أنَّ أهل البصرة اجتمعوا لطلحة والزبير رضي الله عنهما، فشق ذلك على أصحابه، فقال: والذي لا إله غيره لتَظْهرُن على أهل البصرة، ولتقتلُن طلحة والزبير، وبعث ابنه الحسن وعمارًا رضي الله عنهما إلى أهل الكوفة يَستنفِرهم، فدخلا المسجد، وصَعِدا المنبر، وكان الحسنُ في أعلى المنبر، وقام عمار أسفل منه، فَتكلّم عمار رضي الله عنه، وقال: إنَّ أمير المؤمنين بعثنا إليكم يَستَنفِرُكم، فإنَّ أُمَّنا قد سارت إلى البصرة، والله إني أقول لكم هذا، ووالله إنها لزَوجة نَبيكُم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا؛ ليعلم إياه نُطيع، أو إياها.

وقال الحسن رضي الله عنه: إنَّ أمير المؤمنين يقول: إني أُذَكِّرُ الله رجُلًا رعى لله حقًا إلَّا نفر، فإن كُنْت مظلومًا أعانني، وإن كُنْتُ ظالمًا أخذ مني، والله إنَّ طلحة والزبير لأول من بايعني ثم نكثا، ولم أستأثر بمال، ولا بدلت حُكمًا.

فخرج إليه اثنا عشر ألف رجل، ولما قدم قام إليه قيس بن سعد بن عبادة، وابن

ص: 47

الكَوّا، فقالا: أخبرنا عن مسيرك هذا؛ أوصية أوصاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأيٌ رأيته؟ فقال: أما والله لئن كُنت أول من صَدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أكون أَوّل من كَذبَ عليه، والله لأن يَكُون عَهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ فلا، ولكن ما مات رسول الله فجأةً، ولا قُتل قتلًا، ولقد مَكث في مرضه أيامًا وليالي؛ كُلّ ذلك يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيقول:"مروا أبا بكر فَليصَلِّ بالناس"، ولقد تركني وهو يرى مكاني، وما كنت غائبًا، ولو عهد إليَّ شيئًا لقمت به، حتى إنَّ امرأةً من نسائه عارضت في ذلك؛ فقالت: إنَّ أبا بكر رجلٌ رقيق إذا قام مقامك لم يُسْمِع الناس، فلو أمرت عمر فَلُيصلِّ بالناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"إنكن صواحب يوسف".

فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا فإذا رسول الله قد وَلاهُ أمر ديْننا، فَولينَاهُ أمر دنيانا، فبايعته في المسلمين ووفيت بيعته، ثم بايعت عمر رضي الله عنه ووفيت بيعته، ثم بايعت عثمان رضي الله عنه ووفيت بيعته، فعدا الناس عليه فقتلوه وأنا مُعْتزلٌ عنهم، ثم وَلّوني، ولولا الخشية على الدِّين ما أجبتهم، ثم وثب فيها من ليس سابقته كسابقتي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي. يعني: معاوية رضي الله عنه.

قالوا: صدقت، فأخبرنا عن قتالك لهذين صاحباك في بدر وحُديبية وأُحُد، وأخواك في الدِّين والسابقة والهجرة. يعني: طلحة والزبير رضي الله عنهما.

فقال: إنهما بايعاني بالمدينة، وخلعاني بالبصرة، ولو أنَّ رجُلًا ممن بايع أبا بكر رضي الله عنه خلعه لقاتلناه، ولو أنَّ رجُلًا ممن بايع عمر رضي الله عنه خلعه لقاتلناه.

ثم دعاهم ثلاثة أيام، حتى إذا كان اليوم الثالث، دخل عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، فقالوا: قد أكثروا فينا الجراح. وذلك أنَّ قتلة عثمان رضي الله عنه كانوا متفرقين في العسكرَيْن، فخشوا أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب، فتسابَّ صبيان العسكرين، ثم تراموا، ثم تبعهم العبيد، ثم السفهاء، فصلى عليٌّ رضي الله عنه ركعتين، ودعا ربه، ثم قال: إن ظهرتم على القوم فلا تطلبوا مُدبرًا، ولا تَجَهَزُوا على جريح، وانظروا ما حضرت به الحرب من

ص: 48

آنية فاقبضوه، وما كان سوى ذلك فهو لورثتهم.

ونادى على الزبير رضي الله عنه وقال: تعال ولك الأمان. فخلا به، وقال: أَنشُدك الله؛ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأنت لاوٍ يدي: "لتقاتلنَّهُ وأنت له ظالم، ثم ليُنصرنَّ عليك".

قال: لقد ذكرتني شيئًا أنسانيه الدهر، لا جرم لا أُقاتلك.

فقال له ابنه: ما جِئتَ للقتال إنما جِئتَ للصلح، فأعتق غلامك وقِف. فأعتق غلامه ووقف.

فلما رَأى الحرب نشبت، وأيس من الصُّلح خرج عن العسكرين، فغلب أصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألفًا، وقُتل طلحة رضي الله عنه.

رَوى الحاكم عن ثور بن مَجْزَأةَ قال: مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أصحاب أمير المؤمنين علي. فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسطت يدي، فبايعني، وقال: هذه بيعة علي. وفاضت نفسه، فأتيتُ عليًا فأخبرته، فقال: الله أكبر، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلَّا وبيعتي في عنقه. ثم جمع الناس وبايعهم.

وانتهى عبد الله بن يزيد بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة رضي الله عنها وهي في الهودج، فقال: يا أم المؤمنين؛ أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان، فقلت: ما تأمرينني؟ فَقُلْتِ: الزم عليًا؟ ! فسكتت. فقال: اعقروا الجمل. فعقروه، فنزل محمد بن أبي بكر أخوها، ورجلٌ آخر، فاحتملا هودجها، فوضعاه بين يدي علي رضي الله عنه، وإنه كالقنفذ من السهام.

فسألها محمد: هل أصابك شيء منها؟ فقالت: لا. وأمر علي كرم الله وجهه أخاها محمدًا وعمارًا أن يضربا عليها قبة، ففعلا، فجاء إليها عليّ رضي الله عنه مُسَلِّمًا، فقال: كيف أنت يا أمُّ؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. وجاء وجوه الناس والأعيان يُسَلّمُون عليها.

ص: 49

فلما كان الليل دخلت البصرة ومعها أخوها، ونزلت في دار عبد الله بن خُليد، وهي أعظم دار بالبصرة، على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة العبدري؛ وهي أم طلحة الطلحات، وأقام علي رضي الله عنه بظاهر البصرة ثلاثًا، ثم دخلها فبايعه أهلها أجمعون حتى الجرحى، وعَرض على أبي بكرة إمارة البصرة، فامتنع، وأشار عليه بابن عباس رضي الله عنهما، فولى عليها ابن عباس، ثم جاء إلى أم المؤمنين رضي الله عنها فاستأذن عليها، ودخل وَسلّمَ عليها، فردت السلام، ورحبت به، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين؛ إنَّ بالباب رجلين ينالان من عائشة. فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحدٍ منهما مئة جلدة، وأن يُجردهما من ثيابهما.

فلما رأت الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب، وزاد، ومتاع، وغير ذلك، وأذن لمن نجا من الجيش الذي معها أن يرجع إلَّا أن يُحب المُقَام، وأرسل معها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمدًا.

فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي رضي الله عنه فوقف على الباب، وحضر الناس، وخرجت من الدار في الهودج، فودعت الناس، ودعت لهم، وقالت: يا بَنِيَّ؛ لا يَعْتِب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلَّا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار. فقال علي رضي الله عنه: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلَّا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. وسار معها عليٌّ رضي الله عنه مشيًا أميالًا، وسَرَّح بنيه معها بقية ذلك اليوم.

ذكر هذا الفصل الحافظ عماد الدين بن كثير في "تاريخه"، وهذا ملخصه.

وفعل ذلك معها؛ إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثالًا لقوله المار:"إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها"، وأداءً لحق الأمومة، فإنها أُمُّ المؤمنين بنص الكتاب العزيز، فتلطف بها غاية التلطف، ولم يُعنفها، ولم يُوبخها، بل أكرمها، وردها، وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة، فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذاك، ثم رجعت إلى المدينة.

ص: 50

ولما وَلّى الزبير رضي الله عنه تبعه عمرو بن جُرْمُوز فقتله، وجاء بسيفه إلى علي رضي الله عنه، فأخذه، فنظر إليه، وقال: أما والله؛ لَرُبّ كُربةٍ قد فَرّجها صاحب هذا السيف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذن عليه ابن جُرْمُوز، فأبطأ عليه الإذن. فقال: أنا قاتل الزبير. فقال: أبقتل ابن صفية يُفتخر؟ ! فليتبوأ بالنار، إنه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قاتل ابن صفية في النار".

وجاء عمر بن طلحة عليًا رضي الله عنه فقال: مرحبًا يا بن أخي، إني لم أقبض مالكم لآخذه، ولكن خِفْتُ عليه من السفهاء.

انطلق فخذ مَالَكَ، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .

ثم أَمَّر ابن عباس رضي الله عنهما على البصرة، ورجع إلى الكوفة.

عن عروة قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: من كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: علي بن أبي طالب. قلت: ما سبب خروجك عليه؟ قالت: لِمَ تزوج أبوك أمك؟ قلت: ذلك من قدر الله. قالت: وكان ذلك من قدر الله.

وذكر لها مرة يوم الجمل، فقالت: والناس يقولون يوم الجمل؟ قالوا: نعم، قالت: وددت أني جلست كما جلس غيري، فكان أحب إليَّ من أن أكون وُلّدتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم هلكى لا يفلحون، قائدهم امرأة، قائدهم في الجنة" رواه البزار، والبيهقي.

وعن أبي البختري قال: سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلَّا قليلًا. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بَغوا علينا.

ص: 51

ومنها: وقعة صفين:

وقد صَحّ: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، تكون بينهما مَقتلةٌ عَظِيمةٌ، دعواهما واحدة"(1).

وعن عطاء بن السائب قال: حدثني غير واحد: أنَّ قاضيًا من قُضاة الشام أتى عمر رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين؟ رأيت كأنَّ الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم معهما نصفين. قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس. فقال عمر رضي الله عنه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} انطلق فوالله لا تَعملُ لي عملًا أبدًا.

قال عطاء: فبلغني أنه قُتل مع معاوية رضي الله عنه يوم صِفّين.

وسببها بالاختصار: أنه لما قُتل عثمان رضي الله عنه، وبويع علي رضي الله عنه أرسل إلى معاوية رضي الله عنه أن يَدْخُل فيما دخل فيه المسلمون، وينعزل عن العمل، وكان عاملًا لعمر، ثم لعثمان رضي الله عنهما على الشام، وكان يرجو أن يُبقيه علي رضي الله عنه على عمله، وقد كان الحسن بن علي، وابن عباس رضي الله عنهم، وغيرهما أشاروا عليه بإبقائه على الشام حتى يأخذ له البيعة، ثم يقول فيه ما شاء، فقال: هيهات، لو علمت أنَّ المُدَاهنة تسعني في دين الله؛ لفعلت، ولكن الله لم يرض لأهل القرآن بالمُدَاهنة.

فبلغ معاوية رضي الله عنه، فحلف أنه لا يلي لعلي رضي الله عنه عملًا أبدًا، وكان

(1) وكذا حمل الحديث على صفين: القاري (5/ 154)"المرقاة". والأوجه عندي حرب الدول الحادث التي يسمونها الحرب العالمية، فإن الفئتين كانتا أعظم ما تكون، ودعواهما كان توريث الأمن في العالم. اهـ (ز).

تعليق: إنما حمل الشيخ الحديث على الحرب العالمية الثانية؛ لإطلاق الحديث، فإنَّ في صِفّين كانت دعوى الفريقين مختلفة، فأما فئة سيدنا معاوية رضي الله عنه فكانت تطالب بالقصاص من قتلة سيدنا عثمان رضي الله عنه، وأما مطلب فئة سيدنا علي رضي الله عنه فكان تثبيت الأمن، وتوحيد الصف. وكذا فنص الحديث يذكر كون الفئتين عظيمتين، وهذا يصدق على ما حدث في الحرب العالمية؛ فإنَّ الدنيا انقسمت إلى فئتين؛ كما لا يخفى.

ص: 52

عمرو بن العاص رضي الله عنه على مصر فعزله أيضًا، فاجتمع عمرو ومعاوية رضي الله عنهما واتفقا على الخُروج.

وقد رَوى الطبراني عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص جميعًا، ففرقوا بينهما"، وكان شداد إذا رآهما جالسين على فراش، جلس بينهما.

ولما فرغ علي رضي الله عنه من الجَمل، ورجع إلى الكوفة أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فامتنع، فقال له أبو مسلم الخَولاني: أنت تنازع عليًا في الخلافة، أفَأنت مثله؟ قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل، لكن ألستم تعلمون أنَّ عثمان رضي الله عنه قُتِلَ مظلومًا وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه، فأتوا عليًا فقولوا له: يَدفَع لنا قتلة عثمان. فأجاب أهل الشام.

فأرسل إليه معاوية رضي الله عنه أبا مسلم يطلب بدم عثمان رضي الله عنه وأنه وليه وابن عمه. قال: يدخل في البيعة كما فعل الناس، ثم يُحاكمهم إليَّ.

فتجهز معاوية رضي الله عنه من الشام، وعليّ رضي الله عنه من الكوفة، فالتقيا بصفين، فتقاتلوا قتالًا شديدًا حتى بلغت القتلى ثلاثين ألفا، فلما رأى أصحاب معاوية رضي الله عنه منهم العجز قال عمرو لمعاوية رضي الله عنهما: أرسلوا إلى عليّ بالمصحف، وادعوه إلى كتاب الله، فإنَّ عليًا يجيبكم إلى ذلك، ففعلوا. فقال علي رضي الله عنه: نعم، نحن أحق بالإجابة إلى كتاب الله، فقال القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا أمير المؤمنين؛ ما تنظر من هؤلاء؟ ألا نمشي عليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا. فقال سهل بن حنيف: يا أيها الناس؛ اتهموا رأيكم. فآل الأمر إلى التحكيم.

فَحكّمَ عليٌّ أبا موسى رضي الله عنهما بعد أن أراد أن يُحكّم ابن عباس رضي الله عنهما فمنعه أهل الكوفة، وحَكّم معاوية عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فاتفق الحكمان على أن يَخْلع كل منهما صاحبه. وكان عمرو رضي الله عنه داهية، فَقدّم أبا موسى رضي الله عنه فخلع عليًا رضي الله عنه، ثم قام عمرو رضي الله عنه، فقال: إنَّ أبا موسى خَلع عليا، وإني نَصبتُ معاوية، فاختلف الناس، وأخذ أبو موسى

ص: 53

- رضي الله عنه يَسبُّ عمروًا، ويقول: إنك غَدرت. فرجع عليّ إلى الكوفة، ومعاوية إلى الشام.

ثم تجهز علي رضي الله عنه لقتال أهل الشام مرة بعد أخرى، فشغله أمر الخوارج، ثم تجهز في سنة تسع وثلاثين، فلم يتهيأ ذلك؛ لافتراق آراء أهل العراق عليه، ثم وقع الجِدُّ منه في ذلك في سنة أربعين، وجعل على مُقَدِّمتهِ قيس بن سعد بن عبادة، وكانوا أربعين ألفًا بايعوه على الموت، فَقُتلَ علي رضي الله عنه، وكان ما قدر الله.

وعن عروة عن [أبيه] رويم قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صارعني. فقام إليه معاوية رضي الله عنه فقال: أنا أُصارعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يُغلب معاوية أبدًا"، فَصَرعَ الأعرابيَّ.

فلما كان يوم صِفّين قال علي كرّم الله وجهه: لو ذَكرتُ هذا الحديث؛ ما قاتلت معاوية. رواه ابن عساكر.

وعن يزيد بن الأصم قال: سُئل علي رضي الله عنه عن قتلى يوم صِفّين؟ فقال: قتلانا وقتلاهم في الجنة، ويَصِيرُ الأمر إليَّ وإلى معاوية.

وعن المسيب بن نجبة قال: أخذ علي رضي الله عنه بيدي يوم صفين، فوقف على قتلى أصحاب معاوية رضي الله عنه فقال: يرحمكم الله، ثم مال إلى قتلى أصحابه فترحم عليهم بمثل ما ترحم على أصحاب معاوية. فقلت: يا أمير المؤمنين؛ استحللت دماءهم ثم تترحم عليهم؟ ! قال: إنَّ الله جعل قَتْلنَا إياهم كفارة لذنوبهم.

وعليٌّ كرّم الله وجهه قال: من كان يريد وجه الله مِنّا ومنهم نجا.

وما أحسن ما أخرج ابن عساكر قال: جاء رجل إلى أبي زُرعة الرازي فقال: إني أُبغض معاوية. قال: لِمَ؟ ، قال: لأنه قاتل عليًا بغير حق. فقال أبو زُرْعة: ربُّ معاوية رَبٌّ رحيم، وخصمه خصمٌ كريم، فما دخولك بينهما؟

ومنها: وقعة النهروان:

عن مِخْنف بن سُلَيم قال: أتينا أبا أيوب رضي الله عنه فقلنا: يا أبا أيوب؛ قاتلت المشركين بسيفك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت تقاتل المسلمين؟ !

ص: 54

فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بقتال ثلاثة: الناكثين، والقاسطين، والمارقين، فقد قاتلت الناكثين، والقاسطين، وأنا مقاتلٌ إن شاء الله المارقين. رواه ابن جرير.

وفي رواية أبي صادق عنه: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتل مع عليٍّ الناكثين؛ فقد قاتلناهم -يعني: أهل الجَمل-، وعهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين؛ فهذا وجهنا إليهم -يعني: معاوية وأصحابه-، وعهد إلينا أن نقاتل معه المارقين؛ فلم أرهم بَعْد.

وَروى الزبير بن بكار في "الموفقيات": عن عليّ رضي الله عنه؛ أنه أوصى حين ضربه ابن مُلْجم في وصيته: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني بما يكون من اختلاف أمته بعده، وأمرني بقتال الناكثين، والمارقين، والقاسطين، وأخبرني بهذا الذي أصابني، وأخبرني أنه يملك معاوية وابنه يزيد، ثم يصير إلى بني مروان يتوارثونها، وأنَّ هذا الأمر صائرٌ إلى بني أُمية، ثم إلى بني العباس، وأراني التربة التي يُقْتلُ بها الحسين رضي الله عنه.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: "إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويَدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم، لأقتلنهم قتل عاد وثمود".

وعن أبي ذر رضي الله عنه نحوه، وزاد:"هم شر الخَلْق والخَلِيقة".

وعن علي رضي الله عنه نحوه، وزاد:"فاقتلوهم؛ فإنَّ في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة".

وعن أنس رضي الله عنه نحوه، وزاد:"طُوبى لمن قتلهم وقتلوه، يَدْعُونَ إلى كتاب الله وليسوا منه، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، سيماهم التحليق".

وعن علي رضي الله عنه أيضًا نحوه، وزاد: "لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضيَ لهم على لسان نبيهم، لاتَّكلوا عن العمل، وآية ذلك أنَّ فيهم رجلًا له عضد

ص: 55

ليس فيه ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شَعراتٌ بيض".

وعن أبي سعيد رضي الله عنه: تَمرقُ مَارقةٌ عند فُرقةٍ من المسلمين، فيقتلها أولى الطائفتين بالحق.

أقول: وفي هذا دليلٌ على أن أصحاب معاوية رضي الله عنه ما خرجوا عن الإسلام، بل لم يفسقوا؛ لأنهم مجتهدون، وأنهم مخطئون في اجتهادهم، وأنَّ أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه وأصحابه كانوا أولى بالحق؛ لأنه الذي قَتلهم، وقد صرح به في رواية ابن عمرو:"يقتلهم علي بن أبي طالب".

والأحاديث في الخوارج كثيرةٌ لا تكاد تنحصر.

وسبب وقعتهم بالاختصار: أنهم لما حَكّمُوا الحكمين، قالت القراء: كفر عليّ، وكفر معاوية. فاعتزلوا أمير المؤمنين، ونزلوا بحروراء بضعة عشر ألفًا، فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما يناشدهم الله: ارجعوا إلى خليفتكم، فبم نقضتم عليه: أفي قِسمةٍ أو قضاء؟ قالوا: نخاف أن ندخل في الفتنة. قال: فلا تعجلوا ضلالة العام مخافة فتنة عام قابل.

فرجع بعضهم إلى الطاعة، وقال بعضهم: نكون على ناحيتنا، فإن قَبِلَ القضية -يعني: التحكيم- قاتلناه على ما قاتلنا عليه أهل الشام بصِفِّين، وإن نقضها؛ قاتلنا معه. فساروا حتى قطعوا النهر، وافترقت منهم فرقةٌ يقتلون الناس، فقال أصحابهم: ما على هذا فارقنا عليًا.

فلما بلغ عليًا رضي الله عنه صنيعهم، وكان متجهزًا إلى الشام قام فقال: أتسيرون إلى عدوكم، أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في دياركم؟ فقالوا: بل نرجع إليهم. فقال: ابسطوا عليهم، فوالله لا يُقتل منكم عشرة، ولا ينجو منهم عشرة. فكان كذلك، فقال: اطلبوا رجلًا صفته كذا وكذا. فطلبوه فلم يجدوه، ثم طلبوه فوجدوه على النعت الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجلٌ: الحمد لله الذي أبادهم، وأراحنا منهم.

فقال عليّ رضي الله عنه: كلا، والذي نفسي بيده إنَّ منهم لمن في أصلاب الرجال

ص: 56

لم تحمله النساء بعد، وليكونن آخرهم لصاصًا حَرّادِين.

وروى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج ناسٌ من المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون آخرهم يخرج مع المسيح الدجال".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: من قَتلهُ الحرورية فهو شهيد.

وعن الحسن قال: لما قَتلَ علي رضي الله عنه الحرورية قالوا: من هؤلاء يا أمير المؤمنين؟ أكفارٌ هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلَّا قليلًا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرًا. قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنةٌ فعموا فيها وصموا.

ومن بقايا هؤلاء القرامطة، ومنهم: الباطنية، والإسماعيلية، وفتنتهم مشهورة أهلكوا العباد، وأفسدوا البلاد، وستأتي الإشارة إليهم.

ومنها: نزول أمير المؤمنين الحسن بن عليّ لمعاوية رضي الله عنهما:

روى نُعيم، عن سفيان [بن الليل] قال: أتيت حسن بن عليّ رضي الله عنه بعد رجوعه إلى المدينة، فقلت له: يا هَلاكَ المؤمنين. فكان مما احتج به عَليَّ أن قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب الأيام والليالي حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السَّرمِ، ضخم البلعُوم، يأكل ولا يشبع"؛ وهو معاوية، فعلمت أنَّ أمر الله واقع.

وَروى الديلمي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية".

تَنبيْه

قال في "النهاية": السَّرم: الدُّبر. والضخم: العظيم. ومعناه: الشديد الذي يملك الأرض كلها. انتهى

[قوله صلى الله عليه وسلم: "يأكل ولا يشبع"] أهو على حقيقته؟ فإن معاوية

ص: 57

- رضي الله عنه دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يُشبع الله بطنه، فلم يشبع بَعْدُ.

روى مسلم، والبيهقي واللفظ له، عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ادع لي معاوية". فقلت: إنه يأكل. فقال في الثالثة: "لا أشبع الله بطنه". فما شبع بطنه أبدًا. أورده السيوطي في "الخصائص".

وقد كان سليمان بن عبد الملك من بني أمية كذلك، يأكل ولا يشبع، فيحتمل أن يكون هو المراد في الحديث، والله أعلم.

وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: إذا رأيتم الشام قد اجتمع أمره على ابن أبي سفيان فالحقوا بمكة.

وَروى ابن عساكر، والطبراني عن عائشة رضي الله عنها؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية رضي الله عنه:"إنَّ الله ولاك أمر هذه الأمة، فانظر ما أنت صانع". قالت أم حبيبة رضي الله عنها: أو يُعطِي الله أخي يا رسول الله؟ قال: "نعم، وفيها هنات، وهنات، وهنات".

وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معاوية؛ إن وليت أمرًا فاتق الله واعدل. قال معاوية: فما زلت أظن أني مبتلىً بعملٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتُلِيتُ".

وسببه: أنه لما رجع علي رضي الله عنه من قتال الخوارج، وتجهز للشام كما مر قُتِل في سابع عشر شهر رمضان وهو خارج لصلاة الصبح، قتله أشقى الآخرين؛ اللعين عبد الرحمن بن مُلْجَم، ضربه بسيفٍ مسموم على جبهته فأوصله دماغه، ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين.

فبويع للحسن رضي الله عنه بالخلافة، فسار الحسن إلى معاوية رضي الله عنهما بكتائب أمثال الجبال يريد الشام، وخرج إليه معاوية يريد الكوفة، وأرسل عبد الله بن عامر، وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن رضي الله عنه يطلب الصُّلح.

فقال الحسن: إني أحقن دماء المسلمين وأنزل عن الخلافة لمعاوية، ولكن إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال -أي: جُبِلْنا على الكرم، والتوسعة على

ص: 58

أتباعنا حتى صار لنا عادة -فلا نقدر على القلة، وإنَّ هذه الأمة قد عاثت في دمائها- أي: العسكرين الشامي والعراقي -وقد قتل بعضهم من بعض- فلا يَكُفُّون إلَّا بالصفح، وعدم الانتقام.

قالا: فإنه يَعرضُ عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به.

فكتب إليه معاوية أن اطلب ما شئت، واشرط؛ فإني أُوفي لك بذلك. وأرسل إليه ورقًا بياضًا، وختم في أسفله، وقال: اكتب فيه ما شئت، فشرط الحسن أشياء منها: أن يكون له بيت مال الكوفة، وأن يكون له خراج دار أبجرد، وأن تكون الخلافة بعد معاوية رضي الله عنه له ولأخيه الحسين.

وفي رواية: تكون للمسلمين يولون من شاؤوا، وأن لا يَتعرّضَ لأهل العراق، ولا ينتقم منهم.

فنزل الحسن رضي الله عنه وبايعه، فقال معاوية رضي الله عنه: تكلم يا حسن.

فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أيها الناس؛ إنَّ الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإنَّ معاوية نازعني أمرًا أنا أحق به منه، وإنى تركته حقنًا لدماء المسلمين، وطلبًا لما عند الله.

فشهد جماعة من الصحابة أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الحسن: "إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين يكون بينهما مقتلةٌ عظيمة".

وسميت تلك السنة: سنة الجماعة؛ لاجتماع الناس، ورفع القتال بينهم.

وعن الحارث قال: لما رجع عليّ رضي الله عنه من صفين علم أنه لا يملك أبدًا، فتكلم بأشياء كان لا يتكلم بها، وحَدّثَ بأحاديث كان لا يُحدِّث بها.

وقال فيما يقول: أيها الناس؛ لا تكرهوا إمارة معاوية، والله لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تنزل عن كواهلها كالحنظل.

ص: 59

ومنها: مُلْكُ بني أمية؛ يزيد بن معاوية ومن بعده:

المشتمل على الفتن العظام؛ كقطع الليل المظلم:

عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أَبغضُ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو أمية، وثقيف، وبنو حنيفة.

وعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: "إذا بلغت بنو أمية أربعين رجلًا اتخذوا عباد الله خَولًا، ومال الله نِحَلًا، وكتاب الله دَغَلًا".

وفي رواية: "ومال الله نِحَلًا، وكتاب الله نفلًا".

وفي رواية: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلًا اتخذوا دين الله دخلًا". إلخ.

قال في "النهاية": الخَولُ: حَشَمُ الرجل وأتباعه، وأحدهم: خائلٌ، وقد يكون واحدًا ويقع على العبد والأمة. انتهى. وهذا الثاني هو المراد هنا.

وعن ابن الموهب؛ أنه كان عند معاوية رضي الله عنه فدخل عليه مروان، فقال له: اقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فوالله إن مؤُنتي لعظيمة، وإني أبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة.

فلما أدبر مروان، وابن عباس جالس مع معاوية على السرير فقال معاوية: يا بن عباس؛ أما تعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلًا اتخذوا مال الله بينهم دُوَلًا، وعباد الله خَولًا، وكتاب الله دَغلًا، فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربع مئة رجل كان هلاكهم أسرع من أكل أَوَّلِ تمرة"، فقال ابن عباس: اللهم؛ نعم.

وذكر مروان حاجةً له، فرد مروان عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية: يا بن عباس؛ أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا؟ فقال: "أبو الجبابرة الأربعة". فقال ابن عباس: اللهم؛ نعم. رواه البيهقي.

وعن عليّ كرّم الله وجهه قال: لكل أمة آفة، وآفة هذه الأمة بنو أمية.

ص: 60

وعن عمران بن جابر الحنفي -وكان أحد الوفد- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل لبني أمية"(ثلاث مرات).

وعن محمد بن كعب القُرظِي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم وما وَلَدَ، إلَّا الصالحين منهم، وهم قليل.

وعن عمرو بن مرة الجهني قال: استأذن الحكم بن أبي العاصي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته، فقال:"ائذنوا له، حية، أو ولد حية، لعنة الله عليه وعلى كل من يخرج من صُلبه، إلَّا المؤمن منهم، وقليل ما هم".

قُلْتُ: وهذا الاستثناء إشارةٌ إلى عمر بن عبد العزيز وأمثاله منهم، يشرفون في الدنيا، ويوضعون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، يُعظَّمُون في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خلاق.

وعن زهير بن الأقمر قال: كان الحكم بن أبي العاصي يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقل كلامه إلى قريش، فلعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يخرج من صلبه إلى يوم القيامة.

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما؛ أنه قال وهو على المنبر: وربِّ هذا البيت الحرام والبلد الحرام؛ إنَّ الحكم بن أبي العاصي وولده ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

وعنه وهو يطوف: وَربِّ هذه البَنِيَّة؛ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم وما وَلَد.

وعن أبي يحيى النخعي قال: كنت بين الحسن والحسين، والحسين ومروان يتشاتمان، فجعل الحسن يكف الحسين، فقال مروان: أهل بيت ملعونون. فغضب الحسن رضي الله عنه وقال: أَقُلتَ أهل بيت ملعونون، فوالله لقد لعنك الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنت في صلب أبيك.

وفي لفظ: لعن الله أباك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنت في صلبه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت

ص: 61

في النوم بني الحكم ينزون على منبري؛ كما تنزو القردة". قال: "فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكًا مستجمعا حتى تُوفي" رواه أبو يعلى، والحاكم، والبيهقي.

وعن ابن المسيب رضي الله عنه قال: رَأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فَأُوحي إليه:(إنما هي دنيا أُعْطُوهَا)، فقرَّت عينه. رواه البيهقي.

وعن الحسن بن علي عليهما السلام قال: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى بني أمية يَخْطُبونَ على منبره رجلًا رجلًا، فساءه ذلك، فنزلت:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، ونزلت:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يملكها بنو أمية.

قال القاسم بن الفضل: فَحَسبنا مدة مُلكَ بني أمية، فإذا هي ألف شهر، لا تزيد ولا تنقص. رواه الترمذي، والحاكم، والبيهقي.

وعن الزُّهري، وعطاء الخراساني؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للحكم:"كأني أنظر إلى بَنِيكَ يصعدون منبري وينزلون". رواه الفاكهي.

وعن جُبير بن مُطعم قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر الحكم بن أبي العاصي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ لأمتي مما في صلب هذا".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليَرْعُفَنَّ جبار من جبابرة بني أمية على منبري هذا"، فَرعفَ عمرو بن سعيد بن العاصي على منبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى سال الدم على درج المنبر.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: هَجَّرتُ الرواح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو الحسن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن. فلم يزل يُدنيه حتى التقم أذنيه، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يُسَارُّهُ؛ إذ رفع رأسه كالفزع، فإذا قَرعٌ بسِيفَةِ الباب، فقال لعلي:"اذهب فَقُدْهُ كما تُقَادُ الشاة إلى حالبها"، فإذا عليٌّ يُدْخِل الحكم بن أبي العاصي آخذًا بأذنه ولها زَنْمةٌ حتى أوقفه بين يدي النبي

ص: 62

- صلى الله عليه وسلم، فلعنه نبي الله ثلاثًا، ثم قال:"أجلسه ناحية"، حتى راح إليه قومٌ من المهاجرين والأنصار، ثم دعاه فلعنه، ثم قال:"إنَّ هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه، وسيخرج من صلبه فتنٌ يبلغ دخانها السماء"، فقال نَاسٌ من القوم: هو أقل وأذل أن يكون هذا منه، قال:"بلى، وبعضكم يومئذ شيعته".

ثم إنه صلى الله عليه وسلم نَفاهُ إلى الطائف فكان هناك حياته، ولم يرده أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما، فرده عثمان رضي الله عنه في خلافته.

وهذا أحد الأمور التي انتقدوها عليه، وهم صاروا سبب قتله، فكانت دولتهم مقتضيةً لمفاسد كثيرة، ومظالم لا تُعد ولا تُحصى.

فمما وقع في زمن يزيد: قتل الحسن بن عليّ رضي الله عنه:

وسببه: أنَّ يزيد بن معاوية أرسل إلى زوجة الحسن جعدة الكندية أنها تَسُمَّهُ ويتزوجها، وبذل لها مئة ألف درهم، ففعلت، فمرض أربعين يومًا، وجهد به أخوه الحسين أن يخبره عمن سمَّه، فأبى، وقال: الله أشد نقمة، وأجد كبدي تَقَطَّع، وإني لعارفٌ من أين دُهِيتُ -أي: يشير إلى أنه من قِبَل يزيد-، فبحقي عليك لا تكلمت في ذلك بشيء. ثم قال: أُقسم عليك ألا تريق في أمري مَحْجَمة دم.

ومن كلامه له: إياك وسفهاء الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك، والله ما أرى أن يجمع الله فينا النبوة والخلافة، وقد كنت طلبت من عائشة أن أُدفنَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابت، فإذا مِتُّ فاطلب منها وما أظن القوم -يعني: بني أمية- إلَّا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم، وادفني عند أمي فاطمة بالبقيع.

فمات رضي الله تعالى عنه بعد أربعين يومًا، والأكثرون أنه سنة خمسين.

فلما مات سأل الحسين عائشة رضي الله عنها فقالت: نعم وكرامة. فمنعهم مروان -وكان أميرًا بالمدينة من جهة معاوية رضي الله عنه ومن معه من بني أمية، فَلَبس الحسين رضي الله عنه ومن معه السلاح، وقالوا: نقاتل. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: والله لا يمنعه إلَّا ظالم، والله إنه لابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال أبو هريرة للحسين رضي الله عنهما: لا تكن أول من ترك وصية أخيك؛

ص: 63

فقد أوصاك بعدم القتال، فما زال به حتى رده، ودفنوه بالبقيع عند أمه.

وأرسلت جعدة إلى يزيد تطلب ما وعدها به، فأبى ولم يتزوجها.

ومنها: قتل الحسين رضي الله عنه:

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك يا معاذَ وأحصِ، فلما بلغت خمسًا -يعني: من الخلفاء- قال: يزيد، لا بارك الله في يزيد، نُعي إليَّ حسين، وأُتيت بتربته، وأُخبرت بقاتله، والذي نفسي بيده لا يُقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه إلَّا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم، وسلط عليهم شرارهم، وألبسهم شيعًا".

قُلْتُ: في هذا ذمُّ الذين بايعوه وأخرجوه، ثم أَسلَمُوه إلى العدو ولم يمنعوه.

"واهًا لفراخ آل محمد من خليفةٍ مُستخلف، يقتل خلفي وخلف الخلف، أمسك يا معاذ". قال: فلما بلغت عشرة وقال: الوليد اسم فرعون، هادم شرائع الإسلام، يَبوءُ بدمه رجل من أهل بيته. . ." الحديث.

وقوله: (فلما بلغت عشرة): يحتمل عشرة مع الخلفاء الراشدين، وحينئذ فهو الوليد بن عبد الملك؛ لأنَّ الخلفاء أربعة، والخامس: معاوية، والسادس: يزيد، والسابع: ابنه معاوية، والثامن: ابن الزبير، أو مروان، والتاسع: عبد الملك، والعاشر: الوليد ابنه.

وإن كان عشرة بعد يزيد فهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك؛ لأنه تولى بعد الوليد هذا سليمان أخوه، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد وهشام ابنا عبد الملك، فهؤلاء أربعة، إذا انضموا إلى الخمسة يكونون تسعة، والعاشر الوليد بن يزيد.

ويؤيد هذا الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "يبوء بدمه رجل من أهل بيته"؛ لأنه قتله ابن عمه يزيد بن الوليد، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"سَلَّ الله سيفه فلا إغماد له"؛ لأنهم اختلفوا فَقتلَ بعضهم بعضًا، فغلب عليهم بنو العباس، ومن ثَمَّ قال الزهري: إن تولَّى الوليد بن يزيد فهو هو، وإلَّا فهو الوليد بن عبد الملك.

وجاء من طُرقٍ صَحّح الحاكم بعضها: أنَّ جبريل -وفي رواية: مَلكَ القَطْر- جاء

ص: 64

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنَّ الحسين مقتول، وأراه من تربة الأرض التي يُقتل فيها، فأعطاه لأُمّ سلمة وأخبرها أن يوم قتله يتحول دمًا، فكان كذلك. وشم صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال:"رِيحُ كَرْبٍ وبلاء".

وسببه: أنه لما مات الحسن رضي الله عنه أخذ معاوية رضي الله عنه البيعة ليزيد من أهل الشام، وجاء حاجًّا، فأراد أن يأخذها من أهل الحجاز من المهاجرين والأنصار فامتنعوا، وقالوا: إن كان لك رغبةٌ فيها فهي لك، وإن سئمتها فردها على المسلمين.

فلما مات معاوية رضي الله عنه، وبُويع ليزيد بالشام وغيرها أرسل يزيد لعامله بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين رضي الله عنه، فهرب الحسين إلى مكة خوفًا على نفسه، فأرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه، فنهاه ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر له غدرهم وقتلهم لأبيه، وَخِذْلانهم لأخيه، وأمره أن لا يذهب بأهله، فأبى، فبكى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: واحسيناه. وقال له ابن عمر رضي الله عنهما نحو ذلك، فأبى، فقبّل بين عينيه، وقال: أستودعك الله من قتيل. وكذلك نهاه ابن الزبير رضي الله عنهما، بل لم يبق بمكة أحدٌ إلَّا حَزن لمسيره.

ولما بلغ أخاه محمد بن الحنفية بكى حتى ملأ طستًا بين يديه، وقَدّمَ أمامه مسلم بن عقيل، فبايعه من أهل الكوفة اثنا عشر ألفًا أو أكثر، فأرسل إليه يزيد ابن زياد وحرضه على قتله، وأخذوا مسلم بن عقيل فقتلوه، وتفرق المبايعون.

وسار الحسين رضي الله عنه غير عَالمٍ بذلك، فلقي الفرزدق فسأله، فقال: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء.

ولما قرب من القادسية تلقاه من أخبره الخبر، وأمره بالرجوع فهمَّ بالرجوع، فقالت إخوة مسلم بن عقيل: والله لا تَرجِع حتى نأخذ بثأرنا، أو نُقتل. فقال: لا خير في الحياة بعدكم.

ثم سار فلقيه أوائل خيل ابن زياد، فعدل إلى كربلاء، فجهز إليه ابن زياد عشرين ألف مقاتل، فلما وصلوا إليه طلبوا منه النزول على حكم ابن زياد، والمبايعة ليزيد، فقال: دعوني أذهب إلى يزيد. فأبى ابن زياد إلَّا النزول على حكمه.

ص: 65

فقال: والله لا نَزلتُ على حكمه أبدًا. فقاتلوه، وكان أكثر مقاتليه المكاتبين له، والمبايعين له، فلعنة الله على قاتليه مرة، وعلى خاذليه مئة مرة؛ حيث جعلوا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فِداءً لأنفسهم، قاتلهم الله ما أغدرهم وأخذلهم! !

ومن ثَمَّ قال لهم أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه: والله لو قدرت لبعتكم بأهل الشام؛ صَرفَ الدرهم بالدينار، كل عشرة منكم بواحد منهم.

فحارب رضي الله عنه ذلك العدد الكثير، ومعه من أهله نيف وثمانون، فثبت في ذلك الموقف ثباتًا باهرًا، ولولا أنهم حالوا بينه وبين الماء ما قدروا عليه.

فلما بلغ القتلى من أهله خمسين نادى: أما ذابٌّ يذُبُّ عن حريم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج يزيد بن الحارث رجاء شفاعة جده صلى الله عليه وسلم، فقاتل بين يديه حتى قتل، ثم فني أصحابه، وبقي بمفرده، فحمل عليهم حملة عمه حمزة وأبيه عليّ رضي الله عنهما، وقتل كثيرًا من شُجعانهم، فكثروا عليه حتى حالوا بينه وبين حريمه.

فصاح عليه السلام: كفوا سفهاءكم عن النساء والأطفال. فكفوا.

ثم لم يزل يقاتلهم حتى أثخنوه بالجراح؛ لأنه طُعِنَ إحدى وثلاثين طعنة، وضرب أربعًا وثلاثين ضربة.

ومع ذلك غلب عليه العطش فسقط على الأرض، وحزوا رأسه الشريف يوم الجمعة عاشر محرم عام إحدى وستين.

ولما وضعه قاتله بين يدي اللعين ابن زياد أنشد متبجحًا شعرًا:

أوقر ركابي فضة وذهبا

أني قتلت ملكًا مُحجبا

قتلت خير الناس أُمًّا وأبا

وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فأمر بضرب عنقه، وقال: إذا علمت أنه كذلك فلم قتلته؟ !

والظاهر: أنه ما قتله إلَّا لأنه مدحه، لا لأنه قتله.

ويَدُلّ لذلك أنه جعل الرأس الشريف في طست، وجعل يضرب ثناياه الشريفة بقضيبٍ، ويدخله أنفه، ويتعجب من حسن ثغره.

ص: 66

فبكى أنس رضي الله عنه، وقال: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال زيد بن أرقم: ارفع قضيبك، فوالله لطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبّل ما بين الشفتين. وبكى، فأغلظ عليه اللعين ابن زياد، وهدده بالقتل، فقال: لأُحدّثَنّك بما هو أَغيظُ عليك من هذا: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعد حَسنًا على فَخِذه اليمنى، وحُسينًا هذا على فَخِذه اليسرى، ثم وضع يده الكريمة على يافُوخِهما، ثم قال:"اللهم؛ إني استودعتك إياهما وصالحَ المؤمنين".

فكيف كانت وديعة النبي صلى الله عليه وسلم عندك يا بن زياد؟ !

وقد انتقم الله منه؛ فقد رَوى الترمذي بسندٍ صحيح؛ أنَّ رأس ابن زياد لما قتل وضع موضع رأس الحسين، وإذا حَيّةٌ عَظيمةٌ قد جاءت، فتفرق الناس عنها، فتخللت الرؤوس حتى جاءت رأس ابن زياد، فجعلت تدخل من فمه، وتخرج من منخريه، وتدخل من منخريه، وتخرج من فمه، فعلت ذلك مرتين، أو ثلاثًا.

ولما دخل قصر الإمارة بالكوفة أُمر بالرأس فوضع على تُرْسٍ عن يمينه، والناس سِمَاطَان، ثم أُنزلَ، وَجُهزه مع رؤوس أصحابه، وسبايا آل الحسين على أقتاب الجمال موثقين في الحبال، والنساء مكشفات الوجوه والرؤوس إلى يزيد لعنه الله.

ولما نزل الذين أرسلهم ابن زياد بالرأس أول منزل جعلوا يشربون بالرأس، فخرجت عليهم يَدٌ من الحائط فكتبت سطرًا بدم:

أترجو أمة قتلت حُسينًا

شفاعة جده يوم الحساب

فهربوا وتركوا الرأس، ثم عادوا وأخذوه.

ولما قَدِمُوا به على يزيد أقام الحريم على درج الجامع، حيث تقام الأسارى والسبي.

ومما ظهر يوم قتله: أنَّ السماء أمطرت دمًا، وأنَّ أوانيهم مُلئت دمًا، وانكسفت الشمس، ورؤيت النجوم، واشتد الظلام حتى ظنَّ الناس أنَّ القيامة قد قامت، وأنَّ الكواكب ضربت بعضها بعضًا، وأنه لم يُرفع حَجرٌ إلَّا رُئِيَ تحته دَمٌ عبيط، وأنَّ الورس انقلب دمًا، وأنَّ الدنيا أظلمت ثلاثة أيام.

ص: 67

وقتل معه من إخوته، وبنيه، وبني أخيه الحسن، ومن أولاد جعفر، وعقيل تسعة عشر رجلًا.

قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: وما كان على وجه الأرض لهم يومئذ شبيهٌ، وأنشدوا:

عينُ ابكي بعبرةٍ وعَويل

واندبي إن ندبت آل الرسول

تسعة منهم لصلب عليٍّ

قد أبيدوا وتسعة لعقيل

ومنها: وقعة الحرة.

روى عمر بن شَبّة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"والذي نفسي بيده ليكونن بالمدينة مَلحمةٌ يقال لها: الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدِّين، فاخرجوا من المدينة ولو على قدر بَرِيد".

وَرُوي أيضًا: "ويل للعرب من شر قد اقترب (1)، على رأس الستين تصير الأمانة غنيمة، والصدقة غرامة، والشهادة بالمعرفة، والحُكم بالهوى" رواه الحاكم.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه، يقول: اللهم؛ لا تدركني سنة ستين، ولا إمارة الصبيان. يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"هلاك أمتي على أيدي أُغَيلمةٍ من قريش"(2)، فإنَّ يزيد فيها تولى.

وعن أيوب بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُقتل في هذه الحرة خِيَارُ أمتي بعد أصحابي".

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتل بحرة زُهرة خِيَار أمتي".

(1) قال القاري (5/ 105): الأظهر المراد منه: ما فتح من ردم يأجوج ومأجوج، وقيل: مقتل عثمان رضي الله عنه، وقيل: صفين، وقيل: الحرة اهـ

قلت: وهذا الأخير متعين؛ لما ورد من زيادة قوله: "على رأس الستين"، ويؤيد الأول رواية الترمذي:"ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج" والحديث أخرجه الشيخان. اهـ (ز).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه" بطرقٍ وألفاظ مختلفة في "علامات النبوة" اهـ (ز).

ص: 68

وعن أبي عُبيدة: "لا يزال هذا الدِّين قائمًا بالقسط حتى يكون أول من يَثْلُمهُ رجلٌ من بني أمية".

وعن أبي العالية قال: كنا بالشام مع أبي ذر رضي الله عنه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول رجل يُغَيّر سنتي، رجل من بني فلان -يعني: بني أمية-، فقال يزيد بن أبي سفيان؛ أخو معاوية: أنا هو؟ قال: لا".

قال: وقد أخرج أبو يعلى، عن أبي عُبيدة مرفوعًا:"لا يزال أمر أمتي قائمًا بالقسط حتى يكون أول من يَثْلُمهُ رجل من بني أمية يقال له: يزيد".

وأخرج الرُّوياني عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا: "أول من يُبدِّل سنتي رجل من بني أمية يقال له: يزيد".

وسبب هذه الوقعة: أنَّ معاوية رضي الله عنه لما أراد أخذ البيعة ليزيد من أكابر أهل الحجاز؛ كابن عمر، وابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أرسل إليهم في ذلك، فلم يُجيبوه، فأرسل إلى ابن عمر رضي الله عنهما بمئة ألف درهم فأخذها، فَدّس إليه رجلًا فقال له: ما يمنعك أن تبايع؟ فقال له: إنَّ ذاك لذاك -يعني: عطاء المال للمبايعة-، إنَّ ديني إذًا عندي لرخيص، لا أُبايع أميرين أبدًا.

وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فأجابه بكلامٍ غليظ.

وأرسل إلى عبد الله بن الزبير، فأجابه بنحو ذلك، فظن أنهم لا يرضون بخلافة يزيد، ولا يبايعونه.

فلما احتضر معاوية رضي الله عنه قال لابنه يزيد: لقد وَطّأتُ لك البلاد، ومَهدتُ لك الناس، ولست أخاف عليك إلَّا أهل الحجاز، فإن رابك منهم أمر فوجه إليهم مسلم بن عقبة؛ فإني قد جربته، ورأيت نصيحته.

فلما مات وصار أمر الحسين رضي الله عنه إلى ما ذكر أظهر ابن الزبير رضي الله عنهما الخلاف على يزيد، والتجأ إلى مكة، وقام أهل المدينة، فشاركوا ابن الزبير في الخلاف، وخلعوا يزيد بعد أن بايعوه، وحاصروا بني أمية الذين كانوا بالمدينة، فأرسل مروان: إنَّا حُصرنا، ومُنعنا الماء العذب، فواغوثاه.

ص: 69

فَوجّه إليهم يزيد مسلم بن عقبة المِرّي في اثني عشر ألفًا، وقيل: عشرين ألفًا، وقال: ادعهم ثلاثًا، فإن رجعوا، وإلَّا فقاتلهم، فإذا ظهرت فأبحها للجيش ثلاثًا، وأجهز على جريحهم، واتبع منهزمهم، فتوجه إليهم، فوصل في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، فحاربوه.

وكان الأمير على الأنصار: عبد الله بن حنظلة؛ غسيل الملائكة، وعلى قريش: عبد الله بن مُطيع، وعلى غيرهم من القبائل: مَعْقِل بن سنان الأشجعي، وكانوا اتخذوا خندقًا.

فلما رآهم أهل الشام خافوهم، وكرهوا قتالهم، فأدخل بنو حارثة قومًا من الشاميين من جانبة الخندق، فلما سمعوا التكبير في جوف المدينة خافوا على أهلهم، فتركوا القتال، ودخلوا المدينة، فكانت الهزيمة.

وأباح مُسلِمٌ المدينة ثلاثًا يقتلون الناس، ووقعوا على النساء، وقاتل عبد الله بن مُطيع حتى قُتِلَ هو وبنون له سبعة، وبُعِثَ برأسه إلى يزيد، وَقُتلَ من وجوه الناس أكثر من سبع مئة من قريش، ومن أخلاط الناس من الموالي والعبيد والصبيان والنساء أكثر من عشرة آلاف، وسبوا الذرية، واستباحوا الفروج، وأحبلوا أكثر من ألف امرأة من الزنا، وسمي أولادهن أولاد الحَرّة، وربطوا الخيل بسواري المسجد الشريف، وجالت الخيل فيه، وراثت، وبالت بين القبر الشريف والمنبر، وتعطل المسجد الشريف ثلاثة أيام؛ لم يُصل فيه.

وكان ابن المسيب رضي الله عنه في المسجد تلك الأيام يَسْمَعُ من القبر الشريف الأذان والإقامة، وكانوا يضحكون منه ويقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون يُصلي.

وذلك أنهم جاؤوا به ليبايع يزيد على أنه عَبْدُ قِنٍّ ليزيد في طاعة الله ومعصيته كما بايع الناس، فقال: بل على كتاب الله، وسنَّة نبيه، وسيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فأمر بقتله، فقال بعض الناس: دعوه فإنه مجنون. فتركوه.

وكل من أبى أن يبايع على أنه عَبْدٌ ليزيد في طاعة الله ومعصيته أُمِر بقتله، ودخلت

ص: 70

طائفة بيت أبي سعيد الخُدري، فأخذوا ما فيه من المتاع، ودخلت طائفةٌ أخرى فلم يجدوا شيئًا، فأضجعوه، ومعطوا لحيته خصلة خصلة.

ولم يَتعرّض لعلي بن الحسين زين العابدين؛ لأنَّ يزيد وصاه به، وقال: إنه لم يدخل في شيءٍ من أمرهم.

وَسَمَّوا مُسلمًا: هذا مُسرفًا؛ لإسرافه في القتل والفساد.

ثم توجَّهَ إلى ابن الزبير؛ فإنه قال له يزيد: إذا فرغت من أمر المدينة فتوجه إلى مكة، وكان مريضًا، فمات في الطريق.

وكان من غاية جهله وضلاله يقول: اللهم؛ إني لم أعمل بعد شهادة أن لا إله إلَّا الله عملًا أرجى لي من قتل أهل المدينة، ولئن دخلت النار بعدها إني لشقي.

ثم نادى حُصين بن نُمير، وقال له: أمير المؤمنين -يعني: يزيد- ولاك بعدي، فأسرع السير ولا تؤخر ابن الزبير. وأمره أن يَنْصِب المجانيق على مكة، وقال: إن يعوذوا بالبيت فارمه.

فذهب وحاصر مكة أربعًا وستين يومًا، وجرى فيها قتال شديد، وَرمى البيت بالمجانيق، وأخذ رجلٌ قبسًا في رأس رمح فطارت به الريح فأحرق البيت، فجاءهم نَعْيُ يزيد.

وكان بين الحرة وموته ثلاثة أشهر، وقيل دونه.

واجترأ أهل مكة والمدينة على أهل الشام، فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجلٌ إلَّا أُخذ بلجام دابته فنكس عنها، فقال لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام. ففعلوا، ومضى ذلك الجيش حتى دخل الشام، فبويع لابن الزبير بالحجاز، وبايع أهل الآفاق كلها لمعاوية بن يزيد، وكان رجلًا صالحًا فيه دين وعقل، فأقام فيها أربعين يومًا، وقيل: أقام فيها خمسة أشهر وأيامًا وخلع نفسه.

وذكر غير واحدٍ أنَّ معاوية بن يزيد لما نزع نفسه صَعِد المنبر وجلس طويلًا، ثم حمد الله تعالى، وأثنى عليه بأبلغ ما يكون من الحمد والثناء، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يُذْكَر به، ثم قال: أيها الناس؛ لست أنا بالراغب في الائتمار

ص: 71

عليكم؛ لعظيم ما أكرهه منكم، وإني أعلم أنكم تكرهوننا أيضًا؛ لأنّا بُلينا بكم، وبُليتُم بِنا، ألا إنَّ جدي معاوية نازع في هذا الأمر من كان أولى به منه ومن غيره؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظيم فضله وسابقته، أعظم المهاجرين قدرًا، وأشجعهم قلبًا، وأكثرهم عِلمًا، وأولهم إيمانًا، أشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره، وأخوه، زَوَّجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، وجعله لها بعلًا باختياره لها، وجعلها له زوجةً باختيارها له، أبو سبطيه سيدا شباب أهل الجنة، وأفضلا هذه الأمة، تربية الرسول صلى الله عليه وسلم، وابنا فاطمة البتول رضي الله عنها، من الشجرة الطاهرة الزكية، فركب جدي منه ما تعلمون، وركبتم ما لا تجهلون، حتى انتظمت لجدي الأمور، فلما جاء القدر المحتوم، واخترمته أيدي المنون بقي مُرتَهنًا بعمله، فريدًا في قبره، ووجد ما قدمت يداه، ورأى ما ركبه واعتداه، ثم انتقلت الخلافة إلى يزيد، فتقلد أمركم لهوىً كان أبوه فيه، ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه غير خَلِيقٍ بالخلافة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فركب هواه، واستحسن خَطَأهُ، وأقدم على ما أقدم من جراءته على الله، وبغيه على من استحل حرمته من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَلَّتْ مُدته، وانقطع خبره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته، ورهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته، وحَصّل ما قَدّم، وندم حيث لا ينفعه الندم، وشغلنا الحُزْنُ له عن الحُزنِ عليه. فليت شعري ماذا قال؟ وماذا قيل له؟ هل عُوقِب بإساءته وجوزي بعمله؟ وذلك ظني.

ثم اختنقته العبرة؛ فبكى طويلًا، وعلا نحيبه، ثم قال: وصرت أنا ثالث القوم، والساخط عَليَّ أكثر من الراضي، وما كنت لأتحمل آثامكم، ولا يراني الله جلت قدرته مُتقلدًا أوزاركم وألقاه بتبعاتكم، شأنكم وأمركم فخذوه، ومن رضيتم به عليكم فولوه، وخَلعتُ بيعتي من أعناقكم، والسلام.

فقال له مروان بن الحكم -وكان تحت المنبر-: أسُنّةٌ عمرية يا أبا ليلى؟ فقال: ابعد عني، أعن ديني تخدعني؟ ! ، فوالله ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرع مرارتها، ائتني برجالٍ مثل رجال عمر على أنه ما كان حين جعلها شورى، وصرفها عمن

ص: 72

لا يشك في عدالته ظلومًا، والله لئن كانت الخلافة مغنمًا لقد نال أبي منها مغرمًا ومأثمًا. ولئن كانت شرًّا فحسبه منها ما أصابه.

ثم نزل، فدخل عليه أقاربه وأمه فوجدوه يبكي، فقالت له أمه: ليتك كنت حَيْضَةً، ولم أسمع بخبرك. فقال: وددت والله ذلك. ثم قال: ويلي إن لم يرحمني ربي.

ثم إنَّ بني أمية قالوا لِمُعَلِّمهِ عمرو المقصوص: أنت عَلّمته هذا، ولقنته إياه، وصددته عن الخلافة، وزينت له حُبّ عليٍّ وأولاده، وحملته على ما وسمنا به من الظلم، وحَسّنت له البدع حتى نطق بما نطق، وقال ما قال. فقال: والله ما فعلته، ولكنه مجبولٌ ومطبوعٌ على حُبِّ عليٍّ. فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حيًّا حتى مات.

وتوفي معاوية بن يزيد بعد خلعه نفسه بأربعين يومًا، وقيل: تسعين ليلة، وكان عمره ثلاثًا وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين سنة، وقيل: ثماني عشرة سنة، وقيل: عشرين سنة.

ويقال: إنه لما احتضر قيل له: أما تستخلف؟ فأبى، وقال: ما أصبت من حلاوتها شيئًا فلم أتحمل مرارتها. ولم يُعْقِب، رحمه الله رحمة الأبرار، ورحم به.

وكان قتل الحسين رضي الله عنه، ووقعة الحرة، وقتل ابن الزبير رضي الله عنه، ورمي الكعبة بالمنجنيق، واستحلال الحرم، من الشنائع التي وقعت في زمن يزيد.

قال ابن حجر في "شرح الهمزية": ولا عجب؛ فإنَّ يزيد بلغ من قبائح الفسق والإخلال بالتقوى مبلغًا لا يستكثر عليه صدور تلك القبائح منه.

بل قال الإمام أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به ورعًا وعِلمًا يقضيان بأنه لم يقل ذلك إلَّا لقضايا وقعت منه صريحة في ذلك، ثبتت عنده، وإن لم تثبت عند غيره؛ كالغزالي.

وبالغ ابن العربي المالكي فقال: لم يقتل يزيد الحسين رضي الله عنه إلَّا بسيف جده؛ أي لأنَّ البيعة سبقت ليزيد، وهو باغٍ عليه؛ لأنَّ كثيرين قدموا عليها مختارين

ص: 73

على أنَّ أباه قد استخلفه، ومع الاستخلاف لا يشترط ذلك، ولا شك أنَّ أباه قد صار خليفةً حقا بنزول الحسن رضي الله عنه له، واجتماع الناس عليه.

وَيُرَدُّ بأنَّ هذا إنما هو بعد استقرار الأحكام وانعقاد الإجماع على تحريم الخروج على الإمام الجائر، أما قبل ذلك فكان الأمر منوطًا بالاجتهاد، واجتهاد الحسين رضي الله تعالى عنه اقتضى جواز بل وجوب الخروج على يزيد؛ لجوره وقبائحه التي تصمُّ عنها الآذان، ويزيد لم تنعقد بيعته عند الحسين رضي الله عنه وغيره ممن لم يبايعوه، والمبايعون له مكرهون على البيعة.

وغاية أمر يزيد إن لم يكن كافرًا؛ أنه جائرٌ فاسقٌ متغلب، وحرمة الخروج على الجائر محلها بعد استقرار الأمور، وانقضاء تلك الأعصار. انتهى

قُلْتُ: وأيضًا فإنَّ يزيد كان فاسقًا جاهلًا، وشرط الاستخلاف ابتداء العلم بالأحكام والعدالة، وقولهم: إنَّ الإمام الأعظم لا ينعزل بالفسق، إنما هو دوامًا لا ابتداء؛ فإنه يمنع من البيعة.

وأما تَغلبُ يزيد فإنما حصل بعد قتل الحسين رضي الله عنه، بل وبعد الحَرّة، حيث قُتِلَ أكثر من يستحق الخلافة.

على أنَّ أهل مكة لم يبايعوه، وأصروا مع ابن الزبير رضي الله عنهما على القتال زمنه وزمن أبيه معاوية.

ثم بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل الآفاق كلها لابن الزبير، وانتظم له مُلك الحجاز، واليمن، ومصر، والعراق، والمشرق كله، وجميع بلاد الشام، حتى دمشق، لم يَتخلّف عن بيعته إلَّا بنو أمية ومن يهوى هواهم، وكانوا بفلسطين.

حتى إنَّ مروان همَّ بالرحلة إلى مكة ليبايعه، فمنعه بنو أمية وبايعوه بالخلافة، وخرج بمن أطاعه إلى دمشق وقاتل الضحاك بن قيس المبايع لابن الزبير، فاقتتلوا بمرج راهط، فَقُتِل الضحاك، وغَلَبَ مروان على الشام، ثم توجه إلى مصر فحاصر عامل ابن الزبير بها حتى غلب عليها في ربيع الآخر سنة خمس وستين، ومات في تلك السنة، فكانت مدته ستة أشهر.

ص: 74

وعهد إلى ابنه عبد الملك فقام مقامه، وكَمُلَ له مُلك الشام، ومصر، والمغرب، ولابن الزبير ملك اليمن، والحجاز، والعراق، والمشرق. إلَّا أنَّ المختار بن أبي عبيد غلب على الكوفة، وكان يدعو إلى المهدي من أهل البيت، ويقول: إنه محمد ابن الحنفية، فأقام على ذلك نحو السنتين، ثم سار إليه مصعب بن الزبير أمير البصرة لأخيه عبد الله بن الزبير، فحاصره حتى قُتل في شهر رمضان في سنة سبع وستين.

وانتظم أمر العراق كله لابن الزبير، فدام ذلك إلى سنة إحدى وسبعين، فسار عبد الملك إلى مصعب بن الزبير، وقاتله حتى قتله في جمادى منها، وملك العراق كله، ولم يبق مع ابن الزبير إلَّا الحجاز واليمن فقط.

فجهز إليه عبد الملك الشقي الحجاج بن يوسف الثقفي، فحاصره في سنة اثنتين وسبعين إلى أن قُتل عبد الله بن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان مجموع مدة ابن الزبير تسع سنين وشيء.

ثم اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، ثم بعده على ابنه الوليد، ثم ابنه الآخر سليمان، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم ابنه الآخر يزيد، ثم ابنه الآخر هشام.

فهؤلاء كلهم أولاد عبد الملك إلَّا عمر؛ فإنه ابن أخيه عبد العزيز.

ثم بعد هشام تولّى ابن أخيه الوليد بن يزيد، فقام عليه ابن عمه يزيد بن الوليد فقتله، وقام عليه مروان الحمار بن محمد بن مروان.

ولما مات ولي أخوه إبراهيم، فغلبه مروان، واختل أمرهم حتى غلب على المُلْكِ بنو العباس وقتلوهم أشد قِتلة.

فلله الأمر من قَبلُ ومن بَعْد.

ومنها: خراب المدينة بعد الحرة:

أخرج ابن شَبّة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: لَيخرُجَن أهل المدينة من المدينة أَعْمَرَ ما كانت، نصفًا زَهوًا ونصفًا رُطبًا، قيل: من يُخْرِجهم؟ قال: أمراء السوء.

وروى أحمد برجال الصحيح؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صَعِد أُحُدًا، فأقبل

ص: 75

على المدينة، فقال:"ويل أُمّها، قريةٌ يدعها أهلها كأينع ما تكون".

وَروى ابن شبة عن شريحِ بن عبيد؛ أنه قرأ كتابًا لكعب: ليغشين أهل المدينة أمرٌ يُفْزِعهم حتى يتركوها وهي مُذللةٌ، وتبول السنانير على قطائف الخز ما يروعها شيء، وحتى تخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء.

وفي "الموطأ": "لتتركنّ المدينة على أحسن ما كانت، حتى يدخل الكلب أو الذئب فيقذي -أي: يبول- على بعض سواري المسجد".

ورواه ابن شَبّة، ولفظه:"فيقذي على سواري المسجد والمنبر".

قال القاضي عياض: إنَّ هذا جرى في العصر الأول، وإنها تركت أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا، أما الدين: فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا: فلعمارتها واتساع حال أهلها.

وذكر الإخباريون: أنه رحل عنها أكثر أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي، وخلت مدة ثم تراجعوا.

قال: وقد حكى قومٌ كثيرون أنهم رأوا ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تقذية الكلاب على سواري مسجدها. انتهى

وقال النووي: الظاهر المختار أن الترك لها يكون آخر الزمان.

قال السيد السمهودي في "تاريخها": إنه ورد ما يقضي أن الترك لها يكون مُتعددًا؛ فقد روى ابن شبة: "ليخرجن أهل المدينة منها ثم ليعودون إليها، ثم ليخرجن منها ثم لا يعودون إليها".

وروي أيضًا عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: "يخرج أهل المدينة منها، ثم يعودون إليها فيعمرونها، ثم تمتلئ وتبنى، ثم يخرجون منها ولا يعودون إليها أبدًا".

قال: فالظاهر أن ما ذكره القاضي عياض هو الترك الأول، وسببه كائنة الحرة؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"يخرجهم أمراء السوء"، وأنه بقي الترك الذي يكون آخر الزمان. انتهى ملخصًا.

ص: 76

قُلْتُ: ويؤيد ما ذكره ما في رواية شريح السابقة: "ليغشين أهل المدينة أمرٌ يفزعهم حتى يتركوها"، فإن خروجهم عنها آخر الزمان يكون للهجرة إلى بيت المقدس؛ طلبًا للجهاد لا للفزع.

نعم؛ يمكن أن يقال: إن ذلك يقع في زمن السفياني أيضًا، وهو من أمراء السوء، وهو في آخر الزمان. لكن إذا ثبت التعدد سهل الأمر بأن يقال: يخرجون منها ثلاث مرات، وإنما ذُكِرَ في الحديث مرتين إيجازًا واختصارًا.

وبالجملة: فقد وقع ذلك في زمن يزيد، وهو من جملة قبائحه الشنيعة، ولابد من وقوعها مرة أخرى في آخر الزمان؛ كما صرحت به الأحاديث الصحيحة، وسيأتي إن شاء الله هذا الترك الثاني في القسم الثالث، وبالله التوفيق.

ومن الفتن التي وقعت في زمن بني مروان: قتل ابن الزبير، وهدم الكعبة، وتولية الحجاج؛ فإنه قتل مئة ألف وعشرين ألفًا وأربعة آلاف نفس حرام صبرًا، غير ما قتله في المحاربات، وأهان جماعةً من الصحابة، وختمهم في رقابهم إهانةً، منهم: أنس رضي الله عنه؛ خادم النبي صلى الله عليه وسلم، ودسَّ على ابن عمر رضي الله عنهما من ضربه بحربة مسمومة فقتله

إلى غير ذلك من القبائح، ولا شك أنه سيئة من سيئات عبد الملك؛ فإنه كان أميرًا له على العراق وعلى الحجاز.

وعن حبيب بن أبي ثابت قال: قال علي رضي الله عنه لرجل: لا متَّ حتى تدرك فتى ثقيف. قيل: ما فتى ثقيف؟ قال: ليُقالن له يوم القيامة: اكفنا زاويةً من زوايا جهنم؛ رجل يملك عشرين أو بضعًا وعشرين سنة، لا يدع لله معصية إلَّا ارتكبها، حتى لو لم تبق إلَّا معصيةٌ واحدة وكان بينه وبينها بابٌ مغلق لكسره حتى يرتكبها، يَقتُلُ بمن أطاعه من عصاه. رواه البيهقي في "الدلائل".

ومنها: قتل زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، وصلبه، وحرقه بالنار، وقتل ولده يحيى في زمانهم، وشربهم للخمر، وصلاتهم بالناس سكارى، وتقديمهم الجواري في المحراب، وغير ذلك من أنواع القبائح:

بل نقل السيوطي في "تاريخ الخلفاء": أن الوليد بن يزيد عزم على الحج؛ لأجل

ص: 77

أن يشرب فوق ظهر الكعبة، فَقُتِلَ قبل أن يبلغ مراده.

عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم: ألم يكن فيما تقرأ: (قاتلوا في الله في آخر مرة كما قاتلتم أول مرة)؟ قال: متى ذاك؟ قال: "إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو مخزوم الوزراء"، رواه الخطيب.

وقد مر لعنهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم.

هذا وطريق السلامة والورع السكوت عنهم، والاشتغال بعيوب النفس وبذكر الله تعالى؛ فإن الاشتغال بهم بابٌ عظيمٌ من أبواب الشيطان، ولقد أحسن من قال:

لَعَمْرُكَ إِنَّ فِي ذَنْبِي لَشُغْلًا

بِنَفْسِي عَنْ ذُنُوبِ بَنِي أُمَيَّه

عَلَى رَبِّي حِسَابُهُمُ تَنَاهَى

إِلَيْهِ عِلْمُ ذَلِكَ لا إِلَيَّه

وَلَيْسَ بِضَائِرِي مَا قَدْ أَتَوْهُ

إِذَا مَا اللهُ يَغْفِرُ مَا لَدَيَّه

ومنها: دولة بني العباس:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقبلت رايات ولد العباس من عقبات خراسان جاؤوا بنعي الإسلام، فمن سار تحت لوائهم لم تنله شفاعتي يوم القيامة" رواه أبو نُعيم في "الحلية".

وعن أبي أمامة قال [: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "ستخرج راياتٌ من المشرق لبني العباس، أولها مثبور، وآخرها مثبور، لا تنصروهم، لا ينصرهم الله، من مشى تحت راية من راياتهم أدخله الله تعالى النار يوم القيامة. ألا إنهم شرار خلق الله، وأتباعهم شرار خلق الله، يزعمون أنهم مني وما هم مني". رواه الطبراني.

وعن ثوبان، وعن مكحول مرسلًا، وعن علي رضي الله عنه موصولًا:"ما لي ولبني العباس؟ ! شيعوا أمتي، وسفكوا دماءها، وألبسوها ثياب السواد، ألبسهم الله ثياب النار" رواه الطبراني.

لكن قد رَوى السهروردي وغيره بسندٍ جيد: أن جبريل عليه السلام نزل لابسًا

ص: 78

السواد، فقال: يا محمد؛ هذه ثياب بني عمك العباس، فدعا لهم صلى الله عليه وسلم.

وقال: اللهم؛ اغفر للعباس وولده.

فَتُحْمل الأحاديث الأُول إن صحت على شرارهم، وهذا وأمثاله على خيارهم، على أن هذا أصح وله شواهد.

ومن الفتن التي وقعت في زمنهم:

- قتال أهل المدينة.

- وقتل محمد النفس الزكية ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.

- وقتل أخيه إبراهيم بن عبد الله.

- وقتل جماعةٍ كثيرةٍ من العلويين.

- وحبس الإمام جعفر الصادق في زمن المنصور.

- وموت الإمام موسى الكاظم في الحبس في زمن الرشيد.

- وإدخال الفلسفة في الإسلام.

- ونصرة الاعتزال في زمن المأمون.

- وقتل كثير من العلماء.

- وتكليفهم القول بخلق القرآن.

- وضرب الإمام أحمد بن حنبل في زمنه وزمن المعتصم والواثق وغيرهم.

ولم تتفق الكلمة في زمنهم، ولم تَصْفُ لهم الخلافة، فكان أول من رجع عن الاعتزال منهم، ونصر السُنّة: المتوكل؛ فإنه رأى في المنام كأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تَلٍّ وحوله خلقٌ كثير، وهو ينادي بأعلى صوته:"ألا إن محمد بن إدريس الشافعي ترك فيكم عِلمًا نَفيسًا فاتبعوه تهتدوا"، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وعين من بيت المال اثني عشر ألفًا لنشر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 79

ثم لا زالوا في التناقص إلى أن بقي لهم من الخلافة مُجرد الاسم، وغلب آل سلجوق على معظم البلاد، فكان آخرهم بالعراق المستعصم الذي قتله التتار، ثم انتقلوا إلى مصر.

وكان زمانهم مشحونًا بالعلماء في كل فنٍّ؛ من التفسير، والحديث، والنحو، واللغة، والقراءات، والفقه، والكلام، والتاريخ، وغير ذلك، حتى أن زمان الرشيد كان يسمى: عروس الدهر.

ومنها: فتنة الفاطمية:

واستيلاؤهم على المغرب ومصر نحوًا من ثلاث مئة سنة، وإظهارهم الرفض، ونصرهم مذهب الباطنية، وإلحادهم في الدين.

وكان استيلاؤهم على جزيرة الفسطاط سنة ثمان وثلاث مئة، وكان انتزاعها منهم على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب الملك الناصر، في سنة أربع وستين وأربع مئة، فرحم الله روحه، وجزاه عن الإسلام خيرًا.

ومن فتن هؤلاء: أنَّ الحاكم منهم بنى دارًا وفرشها، وأجلس الفقهاء والمحدثين فيها، ثم بعد ثلاث سنين هدمها، وقتل الفقهاء والمحدثين.

وأنَّ الظاهر بن الحاكم جمع ألفين وست مئة وستين جارية مزينات بحليهن في قصرٍ، وأمر ببناء أبوابه إلى أن مِتن كُلُّهن، وبعد ستة أشهر أضرم عليهن النار، فأحرقهن بثيابهن وحليهن، فلا رحمه الله، ولا رحم من خلفه. ذكر ذلك السيوطي في "حُسْنِ المحاضرة".

قال ابن أبي حَجلَة في "السكردان": إن الحاكم قتل من العلماء ما لا يُحصى، وأمر بِسَبِّ الصحابة، وأمر بكتب ذلك على أبواب المساجد والشوارع، ثم محاه بعد مدة، وهدم قمامةً، وبنى مكانها مسجدًا، ثم أعادها كما كانت.

وبنى المدارس، وجعل فيها العلماء والمشايخ، ثم قتلهم وهدمها، ونهى عن أكل الملوخية والجرجير، وعلل تحريمها بكون معاوية رضي الله عنه يميل إلى الملوخية، وعائشة رضي الله عنها إلى الجرجير.

ص: 80

ونهى عن بيع الرطب، ثم جمع منه شيئًا كثيرًا وأحرقه، وكان مقدار النفقة على إحراقه خمس مئة دينار.

ونهى عن بيع العنب، وقلب خمسة آلاف ألف جرة من جرار العسل في البحر، وكسر جراره.

وأمر النصارى واليهود بالدخول في الإسلام كُرهًا، ثم أمرهم بالعود إلى أديانهم، فارتد منهم في سبعة أيام ستة آلاف، وخرب كنائسهم ثم أعادها.

وادعى الربوبية، وكتب: باسم الحاكم الرحمن الرحيم.

واجتمع له كثير من الجهال، وبذل لهم المال، ونادوه باسم الإله، فكانوا إذا رأوه قالوا: يا واحد، يا أحد، يا محيي، يا مميت.

وصَنَّف له بعض الباطنية كتابًا ذكر فيه: أن روح آدم انتقل إلى عليٍّ، ثم إليه، وقُرِئَ هذا الكتاب بجامع القاهرة، وَسُيِّر هذا المُصَنِّفُ إلى جبال الشام، فنزل بوادي التيم، وناحية بانياس، واستمال الناس، وأعطاهم المال، وأباح لهم الخمر والزنا، ودعاهم إلى معتقد الحاكم، فَأضلّ منهم خلقًا كثيرًا.

وفي وادي التيم إلى يومنا هذا قرىً كَثيرة يعتقدون رجوع الحاكم، وأنه يعود ويمهد الأرض. هذا كلامه مُلخصًا.

واستمروا بها ظالمين إلى أن أبادهم الله على أيدي السلاطين الأكراد الأيوبية، وتولى هؤلاء أيضًا قَريبًا من مئتي سنة؛ من سنة أربع وستين وأربع مئة إلى سنة ثمان وأربعين وست مئة، آخرهم الملك المعظم تورانشاه قتله أتباعهم الأتراك، وتولى أولئك أيضًا؛ من هذه السنة إلى سنة ثمان وسبعين وسبع مئة، ثم استولى على الأمر أتباعهم الجراكسة إلى سنة اثنتين وعشرين وتسع مئة، ثم غلبهم ملوك بني عُثمان إلى يومنا هذا.

فالملك والأرض لله يُورِثُها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، والحمد لله رب العالمين.

ص: 81

ومنها: فتنة القرامطة:

وإهانتهم الدين، واستحلالهم الحُرُمْ، وستأتي الإشارة إليهم فيما بعد (1).

ومنها: قتال الترك وفتنتهم؛ وهم التتار:

فقد رَوى الستة إلَّا النسائي: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر (2)، وحتى تقاتلوا الترك؛ صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف؛ كأن وجوههم المجان المطرقة".

وفي رواية للبخاري: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوز وكرمان؛ قومًا من الأعاجم، حمر الوجوه".

وفي لفظ له: "عراض الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، وجوههم المجان المطرقة، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر".

تَنبيه

قوله: (نعالهم الشعر) على ظاهره.

قال البيهقي: وقد وقع ذلك؛ فإن قومًا من الخوارج قد خرجوا بناحية الري وكانت نعالهم الشعر، وقوتلوا. ذكره السيوطي في "الخصائص الكبرى".

قيل: ويحتمل أن يكون من جلود مشعرة غير مدبوغة، ويحتمل أن المراد: وفور شعرهم حتى يطؤوها بأقدامهم.

قال المناوي في "تخريج المصابيح": وحمر الوجوه: بيض الوجوه مشربة بحمرة، وذلف الأنوف بالذال المعجمة في رواية الجمهور.

(1) انظر الصفحة (115).

(2)

قال الحافظ (6/ 66): الأحاديث تدل على أن الذين ينتعلون الشعر غير الترك، وقد وقع للإسماعيلي قال: بلغني أن أصحاب بَابِك كانت نعالهم الشعر، وكانوا من الزنادقة؛ استباحوا المحرمات، وقامت لهم الشوكة في أيام المأمون، وغلبوا على كثير من بلاد العجم كطبرستان والري إلى أن قُتِلَ بَابِك في أيام المعتصم، وكان خروجه سنة مئتين وواحد، وقتله سنة مئتين وعشرين هجرية. اهـ مختصرًا (ز).

ص: 82

قال صاحب "المشارق": وهو الصواب.

ويروى بالمهملة؛ وهو بضم الدال، وسكون اللام: جمع أدلف؛ كأحمر.

وَحُمر: معناه: فُطْسُ الأنُوف؛ كما في الرواية الأخرى؛ أي: قصارها مع انبطاح، وقيل: غلظ أرنبة الأنف. قاله النووي.

والمَجانَّ؛ بفتح الميم، وتشديد النون: جمع مِجَنٍّ؛ بكسر الميم؛ وهو التُّرس.

والمُطْرقة؛ بضم الميم، وسكون الطاء، وحكي: فتح الطاء، وتشديد الراء.

قال النووي: الأول هو المشهور في الرواية وكتب اللغة، ومعناه: أنَّ وجوههم عريضة؛ كما في الرواية الأخرى، ووجناتهم ناتئةٌ كالتُّرس المطرقة.

وخوز: ضبطه في "النهاية" بالخاء والزاي المعجمتين؛ مُضافًا إلى كرمان.

قال: وهو جبل معروف، وهو من بلاد الأهواز من عراق العجم، بحيث قيل: إنه صِنْفٌ منهم.

وكرمان: صقعٌ معروف في العجم.

قال السخاوي: وهي بلدة معمورة من بلاد العجم بين خراسان وبحر الهند.

قال في "النهاية": ويروى بالراء المهملة؛ وهو من أرض فارس.

وصوبه الدارقطني قال: وروي خوزًا (1)، وكرمان، وقيل: إذا أضيف فبالراء، وإذا عطف فبالزاي المعجمة.

وورد: "اتركوا التُّرك ما تركوكم؛ فإنَّ أوّل من يَسلُبُ أمتي مُلْكَهم بنو قنطوراء. . . ." الحديث.

زاد في رواية: "فإنهم أصحاب بأسٍ شديد، وغنائمهم قليلة".

(1) وبسط القاري (5/ 156) في ضبطهما، ثم حكى عن الشارح: المراد صنفان من الترك؛ سماهما باسم أبويهما، ولا نحمله على أهل خوزستان وكرمان؛ لأنهم لم يوجدوا على النعت المذكور في الحديث، بل وجد عليه الترك. اهـ (ز).

ص: 83

قال النووي: هذه الأحاديث كلها معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد عُرِفَ هؤلاء الترك بجميع صفاتهم التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم المسلمون مرات.

قال السخاوي (1) في "القناعة": ومن المرات التي قاتل فيها المسلمون الترك في دولة بني أمية، وكان ما بينهم وبين المسلمين مسدودًا، إلى أن فُتِحَ ذلك شيئا بعد شيء، وكثر السبي منهم؛ لما فيهم من الشدة والبأس، حتى كان أكثر عسكر المعتصم منهم، ثم غلبت الأتراك على المُلْك، فقتلوا ابنه المتوكل، ثم أولاده؛ واحدًا بعد واحد، إلى أن خالط المملكة الديلم.

ثم كانت الملوك السامانية من الترك أيضًا، فملكوا بلاد العجم، ثم غلب على تلك المماليك آل سُبْكتُكِين، ثم آل سلجوق، وامتدت مملكتهم إلى العراق، والشام، والروم.

وكان بقايا أتباعهم بالشام، وهم آل زِنْكي، وأتباع هؤلاء؛ وهم بيت أيوب، واستكثر هؤلاء أيضًا من الترك فغلبوهم بالديار المصرية، والشامية، والحجازية، وخرج على آل سلجوق في المئة الخامسة الغُزْ، فخربوا البلاد، وفتكوا في العباد.

ثم جاءت الطامة الكبرى بالتتار بعد الست مئة، فكان خروج جنكيز خان، واستعرت الدنيا بهم نارًا، لاسيما المشرق بأسره، حتى لم يبق بلدٌ منه حتى دخله شرهم، ثم كان خراب بغداد، وقتل الخليفة المستعصم على أيديهم، وهو آخر الخلفاء العباسية ببغداد؛ الذي رثاه مصلح الدين السعدي الشيرازي بالقصيدة الفارسية التي مطلعها:

آسمان راحق بُوَدُ كرون بكَريد برزمين

برزوال ملك مستعصم أمير المؤمنين

ومعناه: حُقَّ للسماء أن تبكي على الأرض؛ لزوال ملك المستعصم أمير المؤمنين في سنة ست وخمسين وست مئة.

قال التاج السبكي في "طبقاته": لم يكن منذ خلق الله الدنيا فتنةٌ أكبر من فتنةِ

(1) ذكره الحافظ في "الفتح"(6/ 397)(ز).

ص: 84

التتار؛ فإنهم خربوا المساجد، وحرقوا المصاحف والكتب، وقتلوا الرجال وسبوا النساء، وبقروا بطونهن، فأخرجوا أولادهن وقتلوهم.

قال السخاوي: ثم لم تزل بقاياهم يخرجون إلى أن كان آخرهم الأمير تيمور الأعرج، فطرق الديار الشامية، وعاث فيها، وحرق دمشق حتى جعلها خاوية على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن مات، وتفرق بنوه في البلاد.

وظهر بجميع ذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أول من يَسْلُبُ أمتي مُلكها بنو قنطوراء".

قال في "القناعة": وقنطوراء؛ بالمد والقصر، قيل: كانت جارية لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فولدت له أولادًا، فانتشر منهم الترك، حكاه ابن الأثير واستبعده، وجزم به المجد في "القاموس". انتهى

ومصداق ما رَوى الخطيب عن عليّ رضي الله عنه: تكون مدينة بين الفرات ودجلة، يكون فيها ملك بني العباس؛ وهي الزوراء، تكون فيها حرب مفظعة، تسبى فيها النساء، وتُذبح فيها الرجال؛ كما تذبح الغنم.

قال: وإسناده شديد الضعف.

قال الحافظ السيوطي في "الجامع الكبير": وقعت هذه الحرب بعد موت الخطيب بأكثر من مئتي سنة، وذلك مما يقوي الحديث.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كأني بالترك وقد أتتكم على براذين مخرمة الآذان، حتى تربطها بشط الفرات.

وفي حديث آخر: يُلْحِقُونَ أهل الشام بمنابت الشِّيح؛ كأني أنظر إليهم وقد ربطوا خيولهم بسواري المسجد.

فائِدَة

قال السخاوي في "القناعة": أسند الحاكم صاحب "الصحيح" في "مستدركه" إلى محمد بن يحيى أبي بكر الصولي النحوي قال: أول من مدح الترك من شعراء

ص: 85

العرب علي بن عباس الرومي؛ حيث يقول:

إِذَا ثَبَتُوا فَسَدٌّ مِنْ حَدِيدٍ

تَخَالُ عُيونَنَا فِيهَا بِحَارَا

وَإِنْ بَرَزُوا فَنِيرَانٌ تَلَظَّى

عَلَى الأَعْدَاءِ يضرمها استعارا

ومنها (1): نار الحجاز التي أضاءت أعناق الإبل ببصرى؛ كما أخبر به صلى الله عليه وسلم:

روى البخاري، والحاكم في "المستدرك": عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى".

وروى ابن أبي شيبة، وأحمد، والحاكم وصححه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري متى تخرج نار من جبل وراق تضيء لها أعناق البخت ببصرى كضوء النهار؟ ! ".

وروى الطبراني بسنده عن عاصم بن عدي الأنصاري قال: سألَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثان ما قَدِمَ -أي: أول ما قدم المدينة- قال: "أين حَبْسُ سيل؟ " قلنا: لا ندري. فمر بي رجل من بني سليم، فقلت: من أين جئت؟ قال: مِنْ حَبْس سيل. فدعوت بنعلي، فانحدرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله؛ سألتنا عن حَبْس سيل، فقلنا: لا علم لنا به، وإنه مر بي هذا الرجل، فسألته، فزعم أنه من أهله. فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال: أين أهلك؟ " فقال: بحبس سيل. فقال: "أخرج أهلك؛ فإنه يوشك أن تخرج منها نار تضيء أعناق الإبل ببصرى".

وروى هو، وأبو يعلى، والإمام أحمد من رواية رافع بن بشر السُّلمي، عن أبيه -

(1) ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء"(ص 324)، وحكي عن الذهبي: تواترت الأخبار بذلك، قال: وحكى غير واحد ممن رأى ببصرى أعناق الإبل بها

إلخ.

وأيضًا ذكره الحافظ في "الفتح"(13/ 63). وجعل القاضي عياض هذه النار أيضًا حاشرة، فرد عليه النووي (2: 393) وقال: قد مضى. وبسط الكلام على هذه النار في مبدأ "وفاء الوفا" و"خلاصته" اهـ (ز).

ص: 86

قال الحافظ الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، غير رافع، وهو ثقة- قال: "يُوشِكُ نار تخرج من حبس سيل، تسير سير بطيئة الإبل، تسير النهار، وتقيم الليل

" الحديث.

وفي "مسند الفردوس": عن عمر رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يسيل وادٍ من أودية الحجاز بالنار، تضيء أعناق الإبل ببصرى".

قال نور الدين السيد علي السمهودي في "تاريخ المدينة": وقد ظهرت هذه النار بالمدينة، واشتهرت اشتهارًا بلغ حد التواتر، وتقدمها زلازل مهولة، وأشفق أهل المدينة منها غاية الإشفاق، والتجؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة مستهل جمادى الآخرة، وآخر جمادى الأولى، سنة أربع وخمسين وست مئة؛ أي: فيكون قبل قتل المستعصم وخراب بغداد بسنتين.

قال: لكنها كانت خفيفة، واشتدت يوم الثلاثاء، وظهرت ظُهورًا عظيمًا، ثم لما كان ليلة الأربعاء؛ ثالث الشهر، أو رابعه في الثلث الأخير منها حدثت زلزلة عَظِيمة انزعجت القلوب لهيبتها، واستمرت بقية الليل إلى يوم الجمعة، ولها دَويٌّ أعظم من الرعد، فَتمُوجُ الأرض، وتُحَرِّكُ الجُدُرات، حتى وقع في يَومٍ وَاحدٍ دون ليلته ثمان عشرة حركة، فسكنت ضحى يوم الجمعة، ولما كان نصف النهار ظهرت تلك النار، فثار من محل ظُهورها دُخَانٌ متراكم غشي الأفق سواده.

فلما تراكمت الظلمات، وأقبل الليل سطع شُعَاعُ النار، وظهر بقريظة بطرف الحرة ترى في صفة البلد العظيم، عليها سُورٌ محيط، عليه شراريف وأبراج ومنائر، وترى رجال يقودونها لا تمر على جبلٍ إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق، له دويٌّ كدوي الرعد، يأخذ الصخور من بين يديه، وينتهي إلى محط الركب العراقي، واجتمع من ذلك رَدْمٌ صار كالجبل العظيم، وانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك، فكان يأتي المدينة نَسِيمٌ بَارِدٌ، وشوهد لهذه النار غليانٌ؛ كغليان البحر.

وقال بعض أصحابنا: رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رُؤيَت من مكة، ومن جبال بصرى.

ص: 87

وقال القاضي سنان: وطلعت إلى الأمير -أي: أمير المدينة- وكان عز الدين منيف، وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، فارجع إلى الله تعالى.

قال: فأعتق كل مماليكه، ورد على الناس مظالمهم، وأبطل المكس، ثم هبط الأمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبات في المسجد ليلة السبت، ومعه جميع أهل المدينة، حتى النساء والصغار، وحتى أهل النخيل، وباتوا يَتَضرعُون ويبكون، وأحاطوا بالحجرة الشريفة، كاشفين رؤوسهم، مقرين بذنوبهم، مستجيرين بنبيهم، فصرف الله عنهم تلك النار العظيمة ذات الشمال، فسارت من مخرجها وسارت ببحر عظيم من النار، وأخذت في وادي أُحْيليين، وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم؛ كأنها عندهم، واستمرت مدة ثلاثة أشهر.

قال المطري: وكانت تُذِيبُ الحجر، ولا تَحرقُ الشجر.

وذكر القسطلاني: أن هذه النار لم تزل مارةً على سبيلها حتى اتصلت بالحرة ووادي الشظاة، وهي تسحق ما والاها، وتُذِيبُ ما لاقاها من الشجر الأخضر والحصى؛ من قوة الحر، وأن طرفها الشرقي آخذ بين الجبال، فحالت دونها فوقفت، وأن طرفها الغربي -وهو الذي يلي الحرم- اتصل بجبل يقال له: وعيرة؛ على قرب من شرقي جبل أُحُد، ومضت في الشظاة التي في طرفه وادي حمزة، ثم استمرت حتى استقرت تجاه حرم النبي صلى الله عليه وسلم، فَطُفِئت.

قال: وأخبرني من أعتمد عليه أنه عاين حجرًا ضخمًا من حجارة الحرة كان بعضه خارجًا عن حد الحرم، فعلقت بما خرج منه، فلما وصلت إلى ما دخل منه في الحرم طفئت، وخمدت.

قال: وهذا أولى بالاعتماد من كلام المطري أنها كانت تحرق الحجر دون الشجر، وأن رجُلًا مد إليها نبلًا فأحرقت النصل ولم تحرق الخشب. فإن المطري لم يُدرك هذه النار.

وقال المؤرخون: واستمرت هذه النار مدة ظهورها تأكل الأحجار والجبال، وتسير سيرًا ذريعا في وادٍ يكون مقداره أربعة فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه

ص: 88

قامتان ونصف، وهي تجري على وجه الأرض، والصخر يَذُوبُ حتى يبقى مثل الآنك، فإذا خمد اسود بعد أن كان أحمر.

ولم يزل يجتمع من هذه النار الحجارة المذابة في آخر الوادي عند منتهى الحرة حتى قطعت في وسط وادي الشظاة إلى جهة جبل وعيرة، فسدت الوادي المذكور بسدٍّ عَظيمٍ من الحجر المسبوك ولا كسدِّ ذي القرنين؛ يُعْجَزُ عن وصفه، ولا مسلك لإنسان فيه ولا دابة.

وقال العماد بن كثير: أخبرني القاضي صدر الدين الحنفي قال: أخبرني والدي صفي الدين؛ مدرس مدرسة بُصرى، أنه أخبره غير واحد من الأعراب ممن كان بحاضرة بلدة بُصرى: أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار مصداق قوله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان إقبال هذه النار من جهة شرق المدينة في جهة طريق السوارقية، وهناك حَبْسُ سيل؛ فإنه بين حرة بني سُلَيم، والسوارقية.

وبعد انطفاء النار في هذه السنة احترق مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وزادت دجلة زيادةً عظيمةً، فغرق أكثر بغداد، وتهدمت دار الوزير، وكان ذلك إنذارًا لهم.

وفي السنة التي تلي هذه السنة وقعت الطَّامةُ الكبرى (1)؛ وهي أخذ التتار لبغداد، وقتل الخليفة المستعصم، وبذل السيف ببغداد نَيفًا وثلاثين يومًا، وأُخرجت الكتب فألقيت تحت أرجل الدواب، وشوهد بالمدرسة النظامية معالف الدواب مبنية بالكتب موضع اللَّبِنْ، وخلت بغداد من أهلها، واستولى عليها الحريق، واحترقت دار الخلافة، وعم الحريق أكثر الأماكن حتى القصور البرانية وتربة الرِّصَافة مدفن ولاة الخلافة. ورُئِيَ على بعض حيطانها مكتوبًا شعر:

إِنْ تُرِدْ عِبْرَةً فَهذِي بَنُو الْعَبَّـ

ـاسِ دَارَتْ عَلَيْهِمُ الدَّائِرَاتُ

اُسْتُبِيحَ الْحَرِيمُ إِذْ قُتِلَ الأَحْـ

ـيَاءُ مِنْهُمْ وَأُحْرِقَ الأَمْوَاتُ

(1) ذكر السيوطي في "تاريخ الخلفاء"(ص 324) فتنة التتار في سنة (655 هـ). (ز).

ص: 89

وقال بعضهم شعرًا:

سُبْحَانَ مَنْ أَصْبَحَتْ مَشِيئَتُهُ

جَارِيَة فِي الْوَرَى بِمِقْدَارِ

فِي سَنَةٍ أَغْرَقَ الْعِرَاقَ وَقَدْ

أَحْرَقَ أَرْضَ الْحِجَازِ بِالنَّارِ

ثم كثر الموت والفناء ببغداد، وطُوي بِسَاطُ الخلافة منها، فلله الأمر من قبل ومن بعد، يعز من يشاء ويذل من يشاء. هذا ملخص "تاريخ السمهودي".

وهذه النار غير النار التي تَخْرُج آخر الزمان تحشر الناس إلى محشرهم، تبيت معهم وتقيل، وستأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى.

ومنها: ظهور الرفض، واستبداد الرافضة بالملك، وإظهار الطعن واللعن على جَنابِ الصحابة الكرام:

وهذا أعظم الفتن، وأشد المِحَن، وموت السُّنن.

فقد روى الدارقطني عن فضيل بن مرزوق، عن أبي الحجاف داود بن أبي عوف، عن محمد بن عمرو بن الحسين، عن زينب -يعني: بنت عليّ بن أبي طالب-، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"يا أبا الحسن؛ أما إنك وشيعَتك في الجنة، وإن قومًا يزعمون أنهم يحبونك يُصَغِّرُون الإسلام، ثم يرفضونه ويلفظونه، يمرقون منه كما يَمْرقُ السهم من الرمية، لهم نُبَزُ، يقال لهم: الرافضة، فإن أدركتهم فقاتلهم؛ فإنهم مشركون".

وأخرجه من طريق أبي الحجاف، عن أبي جعفر الباقر، عن فاطمة الصغرى، عن فاطمة الكبرى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به.

ثم قال الدراقطني: ولهذا الحديث عندنا طُرقٌ كثيرة كتبناها في "مسند فاطمة رضي الله عنها"، وتقصيناها هناك.

ثم أخرج عن أم سلمة رضي الله عنها نحوه، وزادت في آخره:"قالوا: يا رسول الله؛ ما العلامة فيهم؟ قال: لا يشهدون جُمعة ولا جماعة، ويطعنون على السلف الأول".

ص: 90

وروى الطبراني، وأبو نُعيم في "الحلية"، والخطيب البغدادي، وابن الجوزي -وفي سنده محمد بن جحادة "ثقة غالٍ في التشيع، روى له الشيخان-، ورواه ابن أبي عاصم في "السُّنّة"، وابن شاهين، وابن بشران، والحاكم في "الكنى"، وخيثمة بن سليمان الطرابلسي في "فضائل الصحابة"، واللالكائيُّ في "السُّنّة"؛ كلهم عن علي كرم الله وجهه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت وشيعتك في الجنة، وسيأتي قوم لهم نَبزٌ -أي: لقب- يقال لهم: الرافضة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإنهم مشركون".

زاد ابن أبي عاصم، وابن شاهين في روايتهما:"قلت: يا رسول الله؛ ما العلامة فيهم؟ قال: يُقَرِّظُونك -أي: يمدحونك- بما ليس فيك، ويطعنون على أصحابي ويشتمونهم".

وفي رواية ابن بشران، والحاكم:"ينتحلون حُبّكَ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم".

وفي رواية خيثمة، واللالكائي به: قال علي رضي الله عنه: سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا تكون علينا مارقة، وآية ذلك أنهم يَسُبون أبا بكر وعمر.

وفي لفظ اللالكائي: لهم نبز، يسمون: الرافضة، يعرفون به، ينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا، وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر.

وروى أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:"يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم؛ فإنهم مشركون".

ولفظ الطبراني بإسنادٍ حَسنٍ عنه: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده علي، فقال صلى الله عليه وسلم:"سيكون في أمتي قوم ينتحلون حُبَّ أهل البيت، لهم نبز يسمون الرافضة، فاقتلوهم فإنهم مشركون".

وأخرج أيضًا من طُرقٍ من طريق أهل البيت، عن علي رضي الله عنه؛ مرفوعًا:"يظهر في أمتي آخر الزمان قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام".

ص: 91

وروى خشيش، وابن أبي عاصم، والأصبهاني، عنه كرم الله وجهه قال: يهلك فينا أهل البيت فريقان: مُحبٌّ مُفرط، وباهِتٌ مُفترٍ.

وفي لفظ: يهلك فِيَّ رجلان مُحبٌّ مُفرط؛ يقرظني بما ليس فيّ، ومُبغضٌ مُفرط؛ يحمله شنآني على أن يبهتني. ورواه أحمد في "مسنده" بهذا اللفظ.

وفي رواية: يحبني قَومٌ حتى يدخلهم حبي النار، ويبغضني قوم حتى يدخلهم بغضي النار. وفي رواية: اللهم؛ العَن كل مبغض لنا، وكل محب لنا غالٍ.

وفي لفظ: يقتل في آخر الزمان كل من على رأي عليّ وحسن.

وفي لفظ: كل من على رأي حسن وأبي حسن، وذلك إذا أفرطوا فيَّ؛ كما أفرطت النصارى في عيسى ابن مريم، فانثالوا على ولدي فأطاعوهم طلبًا للدنيا.

وأخرج محمد بن سوقة، عنه كرّم الله وجهه قال: تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، شرها من ينتحل حُبنا ويفارق أمرنا.

وصح أن من أشراط الساعة: أن يلعن آخر هذه الأمة أولها.

ومن فتن هذه الطائفة: أنهم قتلوا العلماء بأكثر البلاد، بل ونبشوا قبورهم، واستهانوا بكثير من مشاهد هذه الأمة، حين استولوا على بغداد، ولار، وشيراز، وغيرها.

وناهيك أن شيراز كان دار العلم والسُّنّة، والآن صار معدن الرفض، وحصر هؤلاء العبادة والدين في السبِّ، وضموا إلى الصحابة السلف الصالح وأئمة المذاهب؛ فلم يتركوا أحدًا من أهل السُّنّة والجماعة حيًا وميتًا إلا وسبوه على المنابر والمنائر، ويدعون أنهم شِيعةُ عليّ رضي الله عنه، وينتحلون حُبَّ أهل البيت، وليسوا من ذلك في شيء؛ فإن من علامة المُحِب الاقتداء بمن يُحبه، وأدنى صفاته كرّم الله وجهه: الزهد في الدنيا، وعدم شق عصا الإسلام.

وعن موسى بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم وكان فاضلًا، عن أبيه، عن جده قال: إنما شيعتنا من أطاع الله تعالى وعمل مثل أعمالنا.

ص: 92

وقد ورد غير ما حديث في مدح شيعته، وأنهم يدخلون الجنة معه، منها ما مر.

ومنها: ما رواه الإمام علي بن موسى الرضا، عن آبائه، عن علي رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"أنت وشيعتك تردون عليَّ الحوض رواء مرويين مبيضة وجوهكم، وإن عدوكم يردون عليّ الحوض ظماء مقمحين" أخرجه الطبراني في "الكبير" بسندٍ ضعيف.

وما رواه الحافظ جمال الدين الزرندي، عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ لما نزل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو أنت وشيعتك؛ تأتون يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوك غِضَابًا مقمحين، فقال: ومن عدوي؟ قال: من تبرأ منك ولعنك".

فقد بيّن صلى الله عليه وسلم عدوه، وأن من لم يفعل ذلك فهو من شيعته لا من عدوه، وقد بيّن عليٌّ كرم الله وجهه صِفات شيعته وعلاماتهم حتى لا يلتبس بهم مُدَّعٍ.

فقد روى الدينوري، وابن عساكر عن المدائني، قال: نظر علي بن أبي طالب إلى قوم ببابه، فقال لقنبر: يا قنبر من هؤلاء؟ قال: هؤلاء شيعتك. قال: وما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة؟ قال: وما سيما الشيعة؟ قال: خُمصُ البطون من الطوى، يُبسُ الشفاه من الظمأ، عُمشُ العُيون من البكاءِ.

وقد صح عنه كرّم الله وجهه، قوله: لا يجتمع حبي وبُغْضُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قلب مؤمن.

وروى صاحب "المطالب العالية": عن نوف البكالي، أن أمير المؤمنين عليًا كرّم الله وجهه خرج يَؤُمُّ المسجد وقد أقبل إليه جندب بن نصير، والربيع بن خثيم، وابن أخيه همام بن عباد بن خثيم، وكان من أصحاب البرانس المتعبدين، فأفضى عليّ وهم معه إلى نَفَرٍ، فأسرعوا إليه قيامًا وسلموا عليه، فرد التحية، ثم قال: من القوم؟ فقالوا: أناسٌ من شيعتك يا أمير المؤمنين. فقال لهم خيرًا، ثم قال: يا هؤلاء؛ ما لي لا أرى فيكم سمة شيعتنا، وحلية أحبتنا؟ ! فأمسك القوم حَياءً، فأقبل عليه جُنْدُب والربيع، فقالا له: ما سمة شيعتكم يا أمير المؤمنين؟ فسكت،

ص: 93

فقال همام -وكان عَابدًا مُجتهدًا-: أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت، وخصكم وحباكم لما أنبأتنا بصفة شيعتكم. قال: فسأنبئكم جميعًا. ووضع يده على مَنْكِب همام وقال: شيعتنا هم العارفون بالله، العاملون بأمر الله، أهل الفضائل، الناطقون بالصواب، مأكولهم القوت، وملبوسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، نجعوا الله بطاعته، وخضعوا إليه بعبادته، مضوا غاضين أبصارهم عما حرّم الله عليهم، موقفين أسماعهم على العلم بدينهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء؛ رضاءً عن الله بالقضاء، فلولا الآجال التي كتب الله تعالى لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين؛ شوقًا إلى لقاء الله تعالى والثواب، وخوفًا من أليم العقاب، عَظُمَ الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن رآها، فهم على أَرائِكِهَا متكئون، وهم والنار كمن رآها، فهم فيها يعذبون، صبروا أيامًا قليلة، فأعقبهم راحةً طويلة، أرادتهم الدنيا فلم يُرِيدُوها، وطلبتهم فأعجزوها.

أما الليل: فصافُّون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن ترتيلًا، يعظون أنفسهم بأمثاله، ويستشفون لدائهم بدوائه تارة، وتارة مفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يمجدون جبارًا عظيمًا، ويَجْأرُون إليه في فكاك رقابهم. هذا ليلهم.

فأما نهارهم: فحكماء علماء، بررةٌ أتقياء، براهم خوف بارئهم؛ فهم تحسبهم مرضى أو قد خولطوا وما هم بذلك، بل خامرهم من عظمة ربهم وشدة سلطانه ما طاشت له قلوبهم، وذهلت منه عقولهم، فإذا استفاقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال الزكية، لا يرضون له بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، ترى لأحدهم قوة في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا على علم، وفهمًا في فقه، وعلمًا في حلم، وكيسًا في قصد، وقصدًا في غناء، وتَجمُّلًا في فاقة، وصبرًا في شدة، وخُشوعًا في عبادة، ورحمة لمجهود، وإعطاءً في حق، ورفقًا في كسب، وطلبًا في حلال، ونشاطا في هدىً، وإعتصامًا في شهوة، لا يضرُّه ما جهله، ولا يدع إحصاء ما عمله، يستبطئ نفسه في العمل، وهو من صالح عمله على وَجل، يُصبح وشُغله الذِّكرُ، ويمسي

ص: 94

وهمه الشُّكْرُ، يَبيتُ حَذِرًا من سِنَة الغفلة، ويصبح فرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة، رغبته فيما يبقى، وزهادته فيما يفنى، وقد قرن العلم بالعمل، والحلم بالعلم، دائمًا نشاطه، بعيدًا كسله، قريبًا أمله، قليلًا زلله، متوقعًا أجله، خاشعًا قلبه، ذاكرًا ربه، قانعة نفسه، مُحرزًا دينه، كَاظِمًا غيظه، آمنًا منه جاره، سهلًا أمره، معدومًا كبره، بيِّنًا صبره، كثيرًا ذكره، لا يعمل شيئًا من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً.

أولئك شيعتنا وأحبتنا، ومنا ومعنا، ألا ما أشوقنا إليهم! .

فصاح همام صيحةً فوقع مغشيًا عليه، فحركوه فإذا هو قد فارق الدنيا، فغُسِل وصَلى عليه أمير المؤمنين ومن معه رحمه الله.

فهؤلاء هم شيعته، لا من لا يَعْلَمُ من دينه إلا حلق اللحية أو قصها، وتعمير القدرة بالتنباك ومصها، وسبَّ الشيخين وبغضهما، ورفع النَّصير المُنَجّم وخفضهما، والطعن على الصحابة والصدر الأول، والتمسك بأكاذيب ما عليها معول، ونسبة أُم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها المبرأة في بِضْعِ عشرة آية من القرآن إلى الفاحشة.

ولنِعْمَ ما قال زين العابدين علي بن الحسين السجاد رضي الله عنه لجماعة نالوا من الصحابة عنده: هل أنتم من المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا. . .} الآية؟ ، قالوا: لا.

قال: هل أنتم من {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. . .} الآية؟ ، قالوا: لا. قال: فأنا أشهد بين يدي الله يوم القيامة أنكم لستم من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، فمن أنتم؟ !

نسأل الله العفو والعافية في الدارين، ونعوذ به من الخذلان والمكر والاستدراج، ومن يضلل الله فما له من هاد.

ص: 95

ومنها: خروج (1) دَجّالين كَذّابين كلهم يَدّعي أنه رسول الله؛ كما أخبر به صلى الله عليه وسلم:

فقد روى أبو داود، والترمذي، وصححه ابن حِبّان، وهو طرفٌ من حديث أخرجه مسلم عن ثوبان؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:"سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي".

وفي رواية البخاري: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله".

ولأحمد، وأبي يعلى من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:"وبين يدي الساعة ثلاثون دجالًا كذابًا".

وفي حديث علي رضي الله عنه عند أحمد نحوه، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند الطبراني نحوه.

وفي حديث سمرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابًا، آخرهم الأعور الدجال" أخرجه أحمد، والطبراني، وأصله عند الترمذي وصححه.

وفي حديث ابن الزبير رضي الله عنهما: "إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابًا؛ منهم الأسود العَنَسي صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة" يعني: مُسَيلمة.

وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "وثلاثون كذابًا أو أكثر، قلت: ما آيتهم؟ قال: يأتونكم بسُنّة لم تكونوا عليها، يغيرون سُنتكم، فإذا رأيتموهم فاجتنبوهم".

(1) قال الحافظ (6/ 402): ليس المراد من ادعى النبوة مطلقًا؛ فإنهم لا يحصون كثرة؛ لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة. اهـ

قلت: وسيأتي ذكر بعضهم (ص 227).

وذكر صاحب رسالة: "شهادة آسماني في الرد على القادياني" بعضهم؛ منهم: طريف أبو صبيح، وولده صالح بن طريف، وعبيد الله صاحب إفريقيا، والسيد محمد الجونفوري، وذكر تراجم بعض هؤلاء مفصلًا في رسالته الأخرى المسماة:"معيار المسيح"، ورسالته الأخرى المسمّاة:"فيصل آسماني" الجزء الثاني. (ز).

ص: 96

وفي رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند الطبراني: "لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذابًا".

ونحوه عند أبي يعلى من حديث أنس رضي الله عنه.

قال الحافظ ابن حجر: وسندهما ضعيف.

وهو إن ثبت؛ محمولٌ على المبالغة لا على التحديد.

وأما التحديد: ففيما أخرجه أحمد عن حذيفة رضي الله عنه بسندٍ جيد: "سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة، وأنا خاتم النبيين؛ لا نبي بعدي". وهذا يَدُل على أن رواية الثلاثين بالجزم على طريق جبر الكسر، ويُؤيده حديث البخاري المار قريب من ثلاثين.

قال: ويحتمل أن يكون ما ذكره من الثلاثين أو نحوها يدَّعون النبوة، ومن زاد عليهم كما في رواية (أو أكثر)، ورواية (سبعون) يكون كذابًا فقط، لكن يدعون إلى الضلال؛ كغُلاة الرافضة والباطنية، والحلولية وسائر الفرق الدعاة إلى ما يُعلَمُ بالضرورة أنه خلاف ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال: ويُؤيده أن في حديث علي رضي الله عنه عند أحمد: فقال علي لعبد الله بن الكَوّاء: وإنك لمنهم.

وابن الكواء لم يدع النبوة، وإنما كان يَغْلُو في الرفض. انتهى

قُلْتُ: ويؤيده أيضًا ما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المار: "قلت: وما آيتهم؟ قال: يأتونكم بسُنّة لم تكونوا عليها. . ." إلخ.

وقد كان منهم الأسود العنسي صاحب صنعاء، ومُسيلمة الكذاب صاحب اليمامة؛ كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وقد مر آنفًا في حديث ابن الزبير.

وكان من خبرهما؛ كما ذكره البقاعي في "اللامعة المنيرة": أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من حَجّة الوداع حصل له مرضٌ عوفي منه، ثم مَرِض عن قريب مرض الموت، فطارت الأخبار في ذلك المرض الأول بأنه صلى الله عليه وسلم قد اشتكى، فادعى الكذابان ما ادعيا، وفعلا من الشر ما فعلاه. فبلغ النبي - صلى الله عليه

ص: 97

وسلم - خبرهما وهو مَريضٌ بعد ما حزّب بعث أسامة رضي الله عنه.

فخرج صلى الله عليه وسلم عَاصبًا رأسه، فقال:"إني رأيتُ في يَديّ سوارين من ذهب، فكرهتهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما؛ صاحب اليمن، وصاحب اليمامة".

فارتد الأسود العنسي في مذحج، وكان صاحب شعبذة يظهر بها عجائب، وله شيطانان يخبرانه بغالب أسرار الناس، يقال لأحدهما: سحيق، وللآخر شفيق، وله مَنْطِقٌ حُلو، فغلب على اليمن في ناحية صنعاء، وهرب منها أمراؤه صلى الله عليه وسلم. وكان يقال له: ذو الخمار؛ لأنه لا يزال مُتَبرقعًا مُعتمًا، وقيل: ذو الحمار بالمهملة؛ لأنه كان له حِمارٌ مُعلَّم، يقال له: اسجد لربك فيسجد، ويقال له: ابرك فيبرك.

ولما سمع أهل نجران خبر الأسود أرسلوا إليه فدعوه إلى بلادهم، فجاءهم، فتبعوه وارتدوا عن الإسلام، ثم أخذ منهم ست مئة وسار بهم إلى صنعاء فغلب عليها، ونزل غمدان واستنزل الأبناء.

وأما مُسيلمة الكذاب فخرج في بني حنيفة، ونازعه قومه، فقال: إني أُشرِكتُ في الأمر، وجعل يَسجَعُ لهم بما يضاهي القرآن بزعمه، فاستخفهم بذلك.

فلما مالوا إليه أسقط عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا، ونحو ذلك، وكثر أتباعه.

وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأبناء في أمر الأسود، وكانوا قد ثبتوا على الإسلام، فقتله فيروز الديلمي غِيلةً بمواطأة زوجته المرزبانة، وكان قد قهرها على نكاحها، وكانت من الخَيِّرات، ومن عظماء أهل فارس، ونادوا بالأذان عند الصباح، فقالوا: نشهد أن الأسود كذاب، وشنوها غارة، فتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتفرق أصحابه، فقتلوا منهم خَلقًا، وَجاءَ النبي صلى الله عليه وسلم خَبرُ السماء بذلك، فأخبر الناس به قبل موته بيوم أو بليلة، وقيل بخمسة أيام.

ثم وصل الكتاب بذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم بعشرة أيام، وكانت مُدة الأسود أربعة أشهر.

ص: 98

وأما مُسيلمة فغزاه خالد بأمر أبي بكر رضي الله عنهما، وقتل منهم خَلقًا كثيرًا، وصالح بقيتهم على ربع الخيل والسلاح، وقُتِلَ من الصحابة رضي الله عنهم خَلقٌ كثير من قُراءِ القرآن، وكان ذلك سبب جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن في المصحف.

وكذا ابن الصياد إن قُلنا إنه ليس الدجال الكبير؛ كما هو ظاهر حديث الجساسة التي رآها تميم الداري، وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، وسيأتي تحقيقه.

وخرج في زمن أبي بكر رضي الله عنه طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد بناحية خيبر، وآزرهم غطفان، وادعى النبوة، ثم تاب ورجع إلى الإسلام. كذا قال في "فتح الباري".

لكن عند ابن عساكر من طُرق أنه خرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فوجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم ضِرار بن الأزور، فأشجوا طليحة وأخافوه، ثم جاءهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، فَارفَضّ الناس إلى طليحة، واستطار أمره، فلم يقدروا عليه حتى غزاه خالد بأمر أبي بكر رضي الله عنهما، فهزمه خالد، فهرب منه إلى الشام إلى ملوك غسان، ثم رجع إلى الإسلام وحسن إسلامه، فعلى هذا نسبة خروجه إلى زمان أبي بكر رضي الله عنه؛ لاستطارة أمره فيه.

وتنبأت أيضًا سجاح بنت سويد بن يربوع في فرسان تغلب، واتفقت تميم كُلها على نصرها، وفيهم رؤساء الناس؛ كالأحنف بن قيس، وحارثة بن بدر ونظرائهما، وفيها يقول عطارد بن حاجب:

أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا

وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا

فركبت على ذياب، وقتلت فيهم قتلًا ذريعًا، ثم قصدت اليمامة، فلما سمع مُسيلمة ضاق ذرعًا وتحصن، فأحاطت جيوشها به، فاستشار وجوه قومه، فقالوا: الرأي أن تُسلم الأمر إليها وتنجو بنفسك. فقال: سأنظر في أمري.

ثم أرسل إليها يقول: أما بعد فإنه أُنزِلَ عليك وَحيٌّ وعليَّ وَحيٌّ، فهلم نتدارس ما أُنزلَ علينا، فمن غلب صاحبه اتبعه الآخر. فأجابته إلى ما طلب، فضرب لها قُبة

ص: 99

من أدمٍ، وأمر بالعود المندلي فأحرق، وقال: كثروا لها الطيب؛ فإن المرأة إذا شمت الطيب تذكرت الباه، فانتهت إلى القبة، وسألته عما أنزل عليه، فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، وأمات وأحيى، وإلى الله المنتهى.

قالت: ثم ماذا؟ قال: ألم تر أن الله خلقنا أفواجًا، وجعل النساء لنا أزواجًا، نُولج فيهن إيلاجًا، ونخرج منهن إذا شئنا إخراجًا. فضحكت، فأنشأ يقول:

أَلَا قُومِي إِلَى الْمِخْدَعْ

فَقَدْ هُيِّئْ لَكِ الْمَضْجَعْ

فَإِنْ شِئْتِ فَرَشْنَاكِ

وَإِنْ شِئْتِ عَلَى أَرْبَعْ

وَإِنْ شِئْتِ بِثُلْثَيْهِ

وَإِنْ شِئْتِ بِهِ أَجْمَعْ

قالت: بل به أجمع، قال: كذلك أُمرت. وواقعها.

فلما قام عنها قالت: إن مثلي لا تُنْكح هكذا؛ فإنه وصمةٌ على قومي، ولكني مُسلمةٌ إليك النبوة، فإذا سلمتها إليك فاخطبني إلى أوليائي، ففعلت، واتبعته، فتزوجها، وسألوه عن المهر، قال: قد وضعتُ عنكم صلاة العصر.

قال الرُّشَاطي: فبنو تميم إلى الآن بالرملة لا يصلون صلاة العصر، ويقولون: مَهْرُ كريمة لنا لا نرده.

وفي ذلك قول الشاعر:

إِنَّ سَجَاحِ لَاقَتِ الْكَذَّابَا

بنِيَّةٍ فَحَلَّتِ الْكِتَابَا

وَجَعَلَتْ كُتبهَا قِرَابَا

أَوْقَبَ فِيهِ أَيْرَهُ إِيْقَابَا

ثم رجعت إلى الإسلام في زمن معاوية رضي الله عنه، وحسن إسلامها.

وخرج المختار في زمن ابن الزبير وعبد الملك؛ فإنه كان يدعي أنه يُوحى إليه، ويكتب في مكاتيبه:"من المختار رسول الله". وحكاياته، ووقائعه، وفتنته كثيرة شهيرة.

عن عدي بن خالد؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أحذركم الدجالين الثلاثة". قيل يا رسول الله؛ قد أخبرتنا عن الدجال الأعور، وعن أكذب الكذابين، فمن

ص: 100

الثالث؟ قال: "رجلٌ من قوم أولهم مثبور، وآخرهم مثبور، عليهم اللعنة دائبة في فتنة يقال لها: الجارفة، وهو الدجال الأكلس، يأكل عباد الله بآل محمد، وهو أبعد الناس من سنته" رواه ابن خزيمة، والحاكم، والطبراني.

وعن أسماء رضي الله عنها: "يخرج من ثقيف ثلاثة: الذيال، والكذاب، والمبير" رواه نُعيم بن حماد.

وفي رواية: "يخرج من ثقيف كذاب ومبير".

قالوا: الكذاب هو مختار بن أبي عبيد، والمُبِير هو الحجاج بن يوسف الثقفيان. وخرج المتنبي الشاعر المشهور، ثم تاب.

وخرج جماعة في زمن بني العباس منهم في أيام المعتمد: قائد فتنة الزنج بهبود لعنه الله، الذي أفسد في العراق، وأهان آل الرسول صلى الله عليه وسلم، وستأتي الإشارة إلى أحواله في أواخر هذا الباب.

كان يدعي أنه أُرسل إلى الخلق فرد الرسالة، وأنه مُطلعٌ على المغيبات.

وفي خلافة المكتفي: خرج يحيى بن زكرويه القَرمَطي، ثم بعده أخوه الحسين، وأظهر شامةً في وجهه، وزعم أنها آيته، وجاء ابن عمه عيسى بن مهرويه، وزعم أن لقبه المدثر، وأنه المعني في السورة، ولَقّب غُلامًا له: المطوَّق بالنور، فظهر على الشام، وعاث وأفسد، ودعا له الناس على المنابر، ثم قُتِلَ إلى لعنة الله تعالى.

وخرج في خلافة المقتدر: أبو طاهر القَرمَطي الذي قلع الحجر الأسود.

وكان يقول:

أَنَا بِاللهِ وَبِاللهِ أَنَا

يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأَفْنِيهِمْ أَنَا

وستأتي الإشارة إلى فتنته.

وفي خلافة الراضي: ظهر محمد بن علي الشلمغاني؛ المعروف بابن أبي العراق، وقد شاع عنه أنه يدعي الإلهية، وأنه يحيي الموتى، فقتل وصلب، وقتل معه جماعة من أصحابه.

ص: 101

وظهر في خلافة المطيع: قوم من التناسخية، فيهم شابٌّ يَزعُمُ أن روح علي رضي الله عنه انتقلت إليه، وامرأته تزعم أن روح فاطمة رضي الله عنها انتقلت إليها، وآخر يدعي أنه جبريل عليه السلام، فضربوا، فتعزوا بالانتماء إلى أهل البيت، فأمر معز الدولة بإطلاقهم.

وفي خلافة المستظهر في سنة تسع وتسعين وأربع مئة: ظهر رَجلٌ بنواحي نهاوند، وادعى النبوة وتبعه خلق، فَأُخِذَ وقُتِل.

وخرج جماعة آخرون بالمغرب وغيرها، في الرجال والنساء.

فمنهم: رَجلٌ تسمى بـ (لا)، وحَرَّفَ الحديث المشهور:"لا نبي بعدي"، فجعله إخبارًا منه صلى الله عليه وسلم بأن (لا)؛ أي: صاحب هذا الاسم نبي بعدي، ويقول: إنّ "لا" في الحديث مبتدأ، ونبي خبره.

ومنهم: الفزاري الساحر الذي بمالقة، وأُخرج بسببه أبو جعفر بن الزبير إلى غرناطة، ثم اتفق قدوم الفزاري رسولًا من أميرها إلى غرناطة، فسعى أبو جعفر المذكور في قتله، فقتلوه.

ومنهم امرأة ادعت النبوة، فذكروا لها الحديث، فقالت: إنما قال: "لا نبي"، ولم يقل: لا نبية

إلى غير ذلك.

والحاصل أن عددهم سبعة وعشرين قد تم أو كاد يتم، وأما مُطلق الكذابين فلا حصر لهم.

ومن هذا القسم من يدعي أنه مهدي، وهؤلاء أيضًا كثيرون.

وبعد تأليف الكتاب بأشهر خرج أيضًا بنواحي عقراء، خرج رجل اسمه عبد الله وكان سمّى ابنًا له محمّدًا ولقبه مهديًّا، فادعى أنَّ ابنه المهدي المنتظر، فاتبعه أجلاف الأكراد وعوامَّهم، فاستولى على بعض القلاع، ثم ركب عليه عامل الموصل، فقتل منهم جماعة، وهربَ ابنهُ إلى بعض النواحي، وحُبسَ هو، فادعى أنَّ ابنه قد غاب، وأنه الغيبة الأولى، فأثبت للمهديّ غيبتان كما في بعَض الروايات، ثم إنهم أخذوا ابنه أيضًا وأرسلوا بهما إلى استانبول.

ص: 102

ومنهم من ادعى أنه صحابي رأى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كالمعمر المشهور: رتن الهندي.

ولا شك أن ما أخبر به الصادق لصادق، وأن الدين لواقع.

ومنها: فتح بيت المقدس:

عن عوف بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: "اعدد بين يدي الساعة سِتًّا: موتي، وفتح بيت المقدس. . .".

وقد فُتح مرتين: مرةً في زمن عمر رضي الله عنه؛ ومرة في زمن الأكراد الأيوبية، فتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الملك الناصر، وكان من أعظم فتوح الإسلام، ثم بعد موته رده بعض أولاده إلى النصارى، ثم استرده حفيده داود الملك الناصر.

وأنشد في ذلك بعض الشعراء يُهنيه:

اَلْمَسْجِدُ الأَقْصَى لَهُ عَادَةٌ

سَارَتْ فَصَارَتْ مَثَلًا سَائِرَا

إِذَا غَدَا بِالْكُفْرِ مُسْتَوْطِنًا

أَنْ يَبْعَثَ اللهُ لَهُ نَاصِرَا

فَنَاصِرٌ طَهَّرَهُ أَوَّلًا

وَنَاصِرٌ طَهَّرَهُ آخِرَا

ومنها: فتح المدائن:

عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا تقوم الساعة حتى يُفتح القصر الأبيض الذي في المدائن، ولا تقوم الساعة حتى تسير الظَّعِينَةُ من الحجاز إلى العراق آمنة لا تخاف شيئًا".

قال عدي: فقد رأيتهما جميعا، وكان وقوعهما في زمن عمر رضي الله عنه.

ومنها: هلاك العرب:

أعني: زوال ملكهم.

عن طلحة بن مالك قال: "من اقتراب الساعة هلاك العرب" رواه الترمذي، وقد زال ملك العرب بزوال المُلْكِ عن بني العباس، وقد مرَّ.

ص: 103

ومنها: كثرة المال (1) وفيضه:

روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال فيكم، فيفيض حتى يُهِمَّ رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب -أي: لا حاجة- لي فيه".

وهذا وقع في زمن عثمان رضي الله عنه، كثرت الفتوح حتى اقتسموا أموال الفرس والروم، ووقع في زمان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أن الرجل يعرض ماله للصدقة فلا يجد من يقبل صدقته. وسيقع في آخر الزمان في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وسيأتي في القسم الثالث.

ومنها: أن تَزُول الجبال عن أماكنها:

روى الطبراني عن سَمُرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن أماكنها".

ونقل السيوطي في "تاريخ الخلفاء" أن في سنة اثنتين وأربعين بعد المئتين في خلافة المتوكل سار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين، وفي سنة ثلاث مئة في خلافة المقتدر ساخ جبل بدينور في الأرض، وخرج من تحته ماءٌ كثير أغرق القرى.

ومنها: فقد الصحابة رضوان الله عليهم:

عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى يُلْتَمسَ الرجل من أصحابي كما تلتمس الضالة فلا توجد" رواه أحمد.

ومنها: وقوع ثلاث خسوفات:

عن أم سلمة رضي الله عنها: "سيكون بعدي خَسفٌ بالمشرق، وخَسفٌ بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب"، قيل: أتخسف الأرض وفيهم الصالحون؟ !

(1) قال الحافظ (13/ 66): يحتمل أن يكون ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز، أو ما سيقع في زمن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وهكذا في (ص 180)(ز).

ص: 104

قال: "نعم؛ إذا أكثر أهلها الخبث" رواه الطبراني.

وعن حذيفة بن أَسِيد رضي الله عنه قال: اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر الساعة، فقال:"إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات. . ."، فذكر منها ثلاثة خسوف: خسفًا بالمشرق، وخسفًا بالمغرب، وخسفًا بجزيرة العرب. رواه الستة إلا البخاري.

وقد وقعت الخسوفات الثلاثة: فوقع في خلافة سليمان بن عبد الملك أنه ورد كتاب ابن هبيرة فيه: أن ببخارى وقت السّحَرِ سمع قعقعةٌ عظيمةٌ من السماء، ودويٌّ كالرعد القاصف، أسقطت منه الحوامل، فنظروا فإذا قد انفرج من السماء فرجةٌ عظيمةٌ، ونزل أشخاصٌ عِظامٌ؛ رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض، وقائلٌ يقول: يا أهل الأرض؛ اعتبروا بأهل السماء، هذا صفوائيل المَلَكْ عصى الله فَعُذّب، فلما طلع النهار أتى الناس إلى ذلك الموضع فوجدوا خسفًا عظيمًا لا يُدرك له قرار، يصعد منه دخانٌ أسود.

أُثبتَ ذلك على قاضي بُخارى بأربعين عدلًا، كذا في "السكردان" وفيه شيء؛ لقوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ، لكن تجوزه قصة هاروت وماروت، والله قادر على كل شيء.

وفي سنة ثمان ومئتين خُسِفَ بثلاث عشرة قرية بالمغرب.

وفي سنة أربع وثلاثين وثمان مئة في شعبان وقعت زلزلة بغرناطة، وخسف بعدة أماكن، وانهدم بعض القلعة. ذكر ذلك في "إنباء الغمر".

وفي خلافة المطيع في سنة ست وأربعين وثلاث مئة وقع بالري ونواحيها زلازل عظيمة، وخسفٌ ببلد طالقان، ولم يفلت من أهلها إلا نحو ثلاثين نفسًا، وخُسِفَ بمئة وخمسين قرية من قرى الري، واتصل الأمر إلى حُلْوَان، فخسف بأكثرها، وقذفت الأرض عظام الموتى، وتفجرت فيها المياه، وتقطع بالري جبل، وعلقت قرية بين السماء والأرض بمن فيها نصف نهار، ثم خُسف بها، وانخرقت الأرض خُروقًا عظيمة، وخرج منها مياه مُنْتِنة، ودخانٌ عظيم. كذا نقله السيوطي عن ابن الجوزي.

ص: 105

وفي سنة سبع وتسعين وخمس مئة خُسفت قرية من أعمال بُصرى.

وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمس مئة: خُسف بلد بحيرة، وصار مكان البلد ماء أسود.

وخُسف في زماننا بعدة قرى من ناحية أذربيجان وخراسان وغيرهما من ديار العجم.

ولا تكاد تنحصر الخسوفات.

ومنها: كثرة الزلازل وكثرة القتل والرجف:

عن أبي هريرة رضي الله عنه[قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم]: "لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج؛ وهو القتل" رواه البخاري، وابن ماجه.

وعند ابن عساكر عن عروة بن رويم، عن [جابر] الأنصاري، عنه صلى الله عليه وسلم:"يكون في أمتي رَجفةٌ يهلك فيها عشرة آلاف، عشرون ألفًا، ثلاثون ألفًا، يجعلها الله موعظة للمتقين، ورحمةً للمؤمنين، وعذابًا على الكافرين".

وقد وقع في أول خلافة المتوكل سنة اثنتين وثلاثين ومئتين زلزلة مَهُولةٌ بدمشق، سقطت منها دور، وهلك تحتها خلق، وامتدت إلى أنطاكية فهدمتها، وإلى الجزيرة فأحرقتها، وإلى الموصل، فيقال: هلك من أهلها خمسون ألفًا.

وفي سنة اثنتين وأربعين ومئتين: زُلْزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس وأعمالها، وخراسان، ونيسابور، وطبرستان، وأصبهان، وتقطعت جبال، وتشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل في الشِّق، وكان بين الزلزلتين عشر سنين.

وفي سنة خمس وأربعين ومئتين: عَمّت الزلازل الدنيا، فأخربت المدن والقلاع والقناطر، وسقط من أنطاكية جبل في البحر.

وفي خلافة المعتضد سنة مئتين وثمانين: وقعت في الدَّيبل زلزلة عظيمة هدمت عامة البلد، فكان عدة من أخرج من تحت الردم مئة ألف وخمسين ألفًا.

ص: 106

وفي سنة أربع مئة وستين: وقع بالرَّملة زلزلة هائلة، خَرّبتها حتى طلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفًا، وبَعُد البحر عن ساحله مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون؛ فرجع الماء عليهم فأهلكهم.

وفي سنة أربع وأربعين وخمس مئة: وقعت زلزلة عظيمة، وماجت بغداد نحو عشر مرات، وتقطع بِحُلْوان منها جبل.

وفي سنة سبع وتسعين وخمس مئة: جاءت زلزلة كبرى بمصر، والشام، والجزيرة، فأخربت أماكن كثيرة، وقلاعًا متعددة.

وفي سنة اثنتين وخمس مئة: وقعت زلازل عظيمة بالشام، وحلب، وشيراز، وأنطاكية، وطرابلس، وهلك خَلْقٌ كثير حتى إنَّ مُعلمًا بحماة قام من المكتب، ثم عاد فوجد المكتب قد وقع على الصبيان فماتوا كلهم، ولم يأت أحدٌ يسأل عن ولده؛ لأنَّ أهلهم ماتوا أيضًا، وهلك كل من في شيراز إلَّا امرأة وخادمًا واحدًا، وانشق تَلٌّ في حران فظهر فيه بيوتٌ، وعمائر، ونواويس، وانشق في اللاذقية موضعٌ فظهر فيه صنم قائمٌ في الماء.

وخربت صيدا، وبيروت، وطرابلس، وعكار، وصور، وجميع بلاد الفرنج، وانفرق البحر إلى قبرص وقذف بالمراكب إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق، ومات خَلقٌ كثير.

قال صاحب "المرآة" مات في هذه السنة نحو ألف ألف ومئة ألف إنسان. كذا في "السُّكْردان".

وفي سنة اثنتين وستين وست مئة: زُلزلت مصر زلزلة عظيمة، وقد مرت الزلزلة الواقعة بالمدينة قبل خروج النار بها.

ووقعت في سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة بحيرة زلزلةٌ عظيمة عشرة فراسخ في مثلها، فأهلكت خلائق كثيرة.

وفي سنة اثنتين وعشرين وتسع مئة: وقع بأزرنكان زلزلةٌ عظيمة، وهلك بسببها عالمٌ كثير، والله يفعل ما يشاء.

ص: 107

وفي سنة ألف وقعت ببلدة لار زلزلةٌ عظيمة، انهدمت منها البيوت كلها واندكت، بحيث لا يكادون يعرفون محل بيوتهم.

وكانت قبلها بأيام زلازل صغار في كل يوم، فخرجوا منها، فمن خرج منها نجا، ومن لا هلك.

ووقعت بعد تأليف هذا الكتاب بنحو ستة أشهر زلزلةٌ هائلة ما نجى منها إلَّا القليل، فألحقناها بهذا المحل.

فهذه هي الزلازل العظام والرجفات التي اعتني بنقلها في كتب التواريخ، وأما الزلازل الصغار فلا تكاد تنحصر، وبالله التوفيق.

ومنها: المسخ والقذف:

عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "يكون في أمتي خسفٌ، ومسخٌ، وقذف" رواه أحمد، ومسلم، والحاكم.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "بين يدي الساعة مسخٌ، وخسفٌ، وقذفٌ" رواه ابن ماجه.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه: "ليبيتن أقوام من أمتي على أكل، ولهو، ولعب، ثم ليصبحن قردة وخنازير" رواه الطبراني.

وعن عائشة رضي الله عنها: "يكون في آخر هذه الأمة خسفٌ، ومسخٌ، وقذف"، قيل: يا رسول الله؛ أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث" رواه الترمذي.

وعن عبد الرحمن بن صحار، عن أبيه:"لا تقوم الساعة حتى يُخسف بقبائل حتى يقال: من بقي من بني فلان؟ " رواه أحمد، والبغوي، وابن قانع، والطبراني، والحاكم، وغيرهم.

وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما: "يكون في هذه الأمة خَسفٌ، ومَسخٌ، وقذف" رواه الترمذي، وابن ماجه.

ص: 108

أما الخَسفُ فقد مَرّ.

وأما المَسخُ (1): فقد وقع لأشخاص.

فقد صح الخبر عن غير واحد أن في زمن فاطمية مصر كانوا يجتمعون بالمدينة يوم عاشوراء في قبة العباس رضي الله عنه ويسُبُّون الشيخين والصحابة رضي الله عنهم، فجاء رجل فقال: من يطعمني في محبة أبي بكر رضي الله عنه؟ فخرج إليه شيخٌ وأشار إليه أن اتبعني، فأخذه إلى بيته، وقطع لسانه، ووضعه في يده، وقال: هذه لمحبة أبي بكر. فذهب الرجل إلى المسجد وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بقلبه، ورجع ولسانه في يده، فقعد حزينًا عند باب المسجد وغلبه النوم، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فقال لأبي بكر:"إنَّ هذا قطعوا لسانه في محبتك، فرد عليه لسانه". قال: فأخرج لسانه من يده، ووضعه في محله، فانتبه فإذا لسانه كما كان قبل القطع وأحسن، فلم يخبر أحدًا بذلك، ورجع إلى بلاده.

فلما كان العام القابل، رجع إلى المدينة، ودخل القبة يوم عاشوراء وطلب شيئًا بمحبة أبي بكر رضي الله عنه، فخرج إليه شابٌّ وقال: اتبعني. فتبعه، فأدخله الدار التي قطع فيها لسانه، فأكرمه الشاب، فقال الرجل: إني تعجبت من هذا البيت، لقيت فيه العام الماضي مُصيبةً ومَهانةً، وهذه السنة لقيت ما أرى من الإكرام.

فقال الشاب: كيف القصة؟ فأخبره بالقصة، فأكب على يديه ورجليه، وقال: ذلك أبي وقد مسخه الله قردًا، وكشف عن ستارة فأراه قردًا مربوطًا، فأحسن إليه، وتاب عن مذهبه وقال: اكتم عليَّ أمر والدي.

(1) وأورد السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 59) حديثًا أخرجه أبو الشيخ، وابن مردويه مرفوعًا:"صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في هذه الأمة قردة وخنازير". وورد في "أبي داود" من حديث أنس في ذكر البصرة: "يكون بها خسفٌ، ومسخ، يبيتون ويصبحون قردة وخنازير".

وذكر الشاه عبد العزيز في تفسير سورة البقرة (ص 223) ثلاث عشرة صورة للمسخ، أعاذنا الله منها. (ز).

ص: 109

ذكر هذه القصة السيد السمهودي، وابن حجر في "الزواجر"، و"الصواعق"، والقسطلاني في "المواهب اللدنية"، وغيرهم.

وذكر في "الزواجر" أنه كان بحلب رَجلٌ سَبّابٌ للشيخين، فلما مات، اتفق شباب على أن ينبشوا قبره، فلما نبشوه، رأوه قد مسخ خنزيرًا، فأخرجوه، ثم أحرقوه بالنار. ويقال: قَلّ رافضيٌّ إلا ويمسخُ في قبره خنزيرًا، والله أعلم.

وذكر السيوطي في "تاريخ الخلفاء" أنَّ في سنة اثنتين وثمانين وسبع مئة في خلافة المتوكل سادس الخلفاء العباسيين الذين كانوا بمصر، ورد كتابٌ من حلب يتضمن أن إمامًا قام يُصلِّي، وأن شخصًا عَبَثَ به في صلاته، فلم يقطع الإمام الصلاة حتى فرغ، وحين سلم انقلب وجه العابث وجه خنزير، وهرب إلى غابة هنالك. وكتب بذلك محضرًا.

وأما القذف: فقد نقل السيوطي في "تاريخ الخلفاء": أنَّ في سنة خمس وثمانين ومئتين: مُطرت قريةٌ بالبصرة حجارة سوداء وبيضاء، ووقع بَردٌ، ووزن البَردَةُ مئة وخمسون درهمًا.

وفي سنة اثنتين وأربعين ومئتين: رُجِمت قرية السويداء بالحجارة، وَوُزِنَ حَجرٌ من الحجارة فكان عشرة أرطال.

وفي سنة ثمان وسبعين وأربع مئة في خلافة المقتدي: جاءت رِيحٌ سوداء ببغداد، واشتد الرعد والبرق، وسقط رمل وترابٌ كالمطر.

وأخبرني ثِقةٌ أنَّ في سنة نيف وستين بعد الألف: مُطرت حجارة سوداء كثيرة عريضةٌ؛ قدر بيض الدجاج وأكبر، في الصيف والسماء مُصحيةٌ، ببلاد الأكراد بين هيزان وكفرا، وكان يُسمع لها حِسٌّ من مسافة يوم.

وفي وسط شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وسبع مئة: ورد كتاب إلى مصر من حماة يُخْبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين؛ من عمل حماة بَرَدٌ على صور حيوانات مختلفة، منها: سِباعٌ، وحَيّاتٌ، وعَقاربٌ، وطُيورٌ، ومَعزٌ، وبلشون، ورجالٌ

ص: 110

في أوساطهم حوايص، وإن ذلك ثبت بمحضرٍ شرعي عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة. كذا في "السكردان"، والله يفعل ما يشاء.

ومنها: الريح الحمراء -أي: الشديدة- والأمور العظام:

عن علي بن أبي طالب، وأبي هريرة (1) رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اتُّخِذ الفيء دُولًا، والأمانة مَغْنمًا، والزكاة مَغْرمًا، وتُعُلِّم لغير الدِّين، وأطاع الرجل امرأته وَعقَّ أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وَأُكرِمَ الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك رِيحًا حمراء، وزلزلة، وخَسفًا، ومَسخًا، وقذفًا، وآيات تتابع؛ كنظام بالٍ قُطعَ سلكه فتتابع" رواه الترمذي.

وعن عبد الله بن حوالة (2) رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل، والبلابل، والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب من يدي هذه إلى رأسك" رواه أبو داود، والحاكم.

وهذا إن أُريد بالخلافة النازلة إلى الأرض المقدسة مُلْكُ بني أمية، فقد وقع من الأمور العظام ما سنذكر بعضها.

وإن أُريد خلافة المهدي فالمراد بها الآيات القريبة إلى الساعة؛ كالدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك.

أما الريح: ففي سنة اثنتين وثلاثين ومئتين في أول خلافة المتوكل هبت بالعراق رِيحٌ شَديدةُ السموم ولم يُعهد مثلها، أحرقت زرع الكوفة، والبصرة، وبغداد، وقتلت المسافرين، ودامت خمسين يومًا، واتصلت بهمذان، فأحرقت الزرع والمواشي، واتصلت بالموصل وسنجار، ومنعت الناس من المعاش في الأسواق،

(1) ذكرهما صاحب "المشكاة"(ص 462) مع الاختلاف فيهما في بعض الكلمات، وكذا الترمذي (2/ 48) وسيأتي (ص 163)(ز).

(2)

كذا في "المشكاة"(ص 462). (ز).

ص: 111

ومن المشي في الطرقات، وأهلكت خَلقًا عَظيمًا.

وفي سنة ثمانين ومئتين في شوال في خلافة المعتضد أصبحت الدنيا مُظلمة إلى العصر، فهبت رِيحٌ سوداء، فدامت إلى ثلث الليل، وأعقبها زلزلة عظيمة أذهبت عامة بلد الدِّيبل.

وفي سنة خمس وثمانين ومئتين في خلافته: هبت رِيحٌ صفراء بالبصرة، ثم صارت خضراء، ثم صارت سوداء، وامتدت في الأمصار.

وفي خلافة المقتدر: جاءت رِيحٌ سوداء ببغداد، واشتد الرعد والبرق حتى ظُنَّ أنها القيامة.

وفي خلافة المستظهر: هبت بمصر رِيحٌ سوداءُ مُظلمةٌ أخذت الأنفاس حتى لا يبصر الرجل يده، ونزل على الناس رمل، وأيقنوا بالهلاك، ثم انجلى قليلًا، وعاد إلى الصفرة.

وفي سنة أربع وعشرين وخمس مئة: طلعت سَحابةٌ على بلد الموصل، فأمطرت نارًا، وأحرقت ما نزلت عليه، وظهر بالعراق عقارب طيارة، فقتلت خَلقًا عَظيمًا. ذكره ابن أبي حجلة.

وفي سنة ست وتسعين وخمس مئة: هبت رِيحٌ سوداء مُظلمة بمكة عمت الدنيا، ووقع على الناس رمل أحمر، ووقع من الركن اليماني قطعة.

وفي سنة ست وعشرين وثمان مئة في ولاية الأشرف برسباي: هبت بمصر رِيحٌ بَرِقةٌ تحمل تُرابا أصفر إلى الحمرة، وذلك قبل غروب الشمس، فاحمر الشفق جدًا بحيث صار من لا يدري يَظُنُّ أن بجواره حَريقًا، وصارت البيوت كلها ملأى تُرابًا ناعمًا جدًا يدخل الأنوف والأمتعة، ثم لما تكامل غيبوبة الشفق اسود الأفق، وعصفت الريح وكانت معلقة، فلو وصلت الأرض لكان أمرًا مَهُولًا، وكثر ضجيج الناس في الأسواق والبيوت بالذكر والدعاء والاستغفار إلى أن لطف الله بإدرار المطر، ولم تَهُب هذه الريح مُنذ ثلاثين سنة قبلها، وانتشرت حتى غطت الأهرام، والجيزة، والبحر، واشتدت حتى ظنوا أنها تُدَمِّرُ كل شيء، فدامت تلك الليلة ويومها إلى العصر، وكانت

ص: 112

سببًا في هيف الزرع، وغلاء السعر. ذكره الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر".

وأما الأمور العظام: فوقع القحط الشديد مرات.

منها: ما وقع في زمن الظاهر العُبيدي بمصر [مِن] الغلاء الذي لم يقع مثله منذ زمن يوسف عليه السلام، ودام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وقيل: بيع فيه رغيف بخمسين دينارًا.

وفي زمن المستنصر العُبيدي: وقع بمصر أيضًا القحط سنين متوالية حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وبلغ الإردبُّ: من الحنطة مئة دينار، والإردبُّ: أربعون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وشيء، وبيع الكلب بخمسة دنانير، والهرة بثلاثة دنانير.

وفي سنة خمس وأربعين في خلافة المقتفي العباسي: جاء مطر باليمن كله دم، وصارت الأرض مرشوشة بالدم، وبقي أثره في ثياب الناس.

وفي سنة ثمان وخمسين وأربع مئة: ظهر كوكب؛ كأنه دارة القمر ليلة التمام، بشعاع عظيم وهال الناس ذلك، وأقام عشر ليال، ثم تناقص ضوءه وغاب.

وفي سنة ستين وأربع مئة في خلافة القائم: غرق بالرملة خلقٌ كثير.

وفي سنة ست وستين وأربع مئة في خلافة القائم كان الغَرقُ العظيم ببغداد، وزادت دجلة ثلاثين ذراعًا، ولم يقع مثل ذلك قط، وهلكت الأموال والأنفس والدواب، وركب الناس في السفن، وأقيمت الجمعة في التيار على ظهر الماء مرتين، وصارت بغداد كلها مَلَقة، وانهدم مئة ألف دار.

وفي سنة أربع وثمانين وأربع مئة في خلافة المقتدي: غلب الإفرنج على جميع جزيرة صقلية، وأسروا وسبوا ذراري المسلمين.

وفي سنة اثنتين وخمسين وست مئة في خلافة المستعصم: ظهرت نارٌ في أرض عدن (1)، وكان يطير شررها في الليل إلى البحر، ويصعد منها دُخان عَظيمٌ في النهار.

(1) ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء"(ص 323) في سنة 652 هـ (ز).

ص: 113

وفي أيام المعتمد في سنة ست وستين ومئتين دخلت الزنج البصرة وأعمالها، وخربوها، وبذلوا السيف وسبوا؛ وهم من الخوارج الذين قتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وأعقب ذلك الوباء العظيم، فمات خَلق كثير لا يحصون، ثم أعقبه هدات وزلازل، فمات تحت الردم ألوفٌ من الناس، واستمر القتال مع الزنج إلى سنة سبعين.

قال الصولي: إنه قتل من المسلمين ألف ألف وخمس مئة آدمي، وقتل في يوم واحدٍ بالبصرة ثلاث مئة ألف، وكان له منبر في بلده يَصعَدُ عليه يسب عثمان، وعليًا، ومعاوية، وطلحة، والزبير، وعائشة رضي الله عنهم، وكان ينادى على المرأة العلوية في عسكره بدرهمين وثلاثة، وكان عند الواحد منهم العشر من العلويات يستخدمهن ويطؤهن، فقُتل اللعين رئيس الزنج سنة سبعين، وكان اسمه بهبود، وكان يدعي أنه أُرسِلَ إلى الخلق فرد الرسالة، وأنه مطلع على المغيبات، وقع في زمنه غلاء مُفرطٌ بالحجاز والعراق، وبلغ كَرُّ الحنطة ببغداد مئة وخمسين دينارًا، والكَرُّ: ستة أحمال الحمير والبغال، أو اثنا عشر وسقًا.

وفي أيامه انبثق في نهر عيسى بثقٌ، فجاء الماء إلى الكرخ فهدم سبعة آلاف دار.

وفي زمنه ظهرت القرامطة (1) بالكوفة، وهم نوع من الملاحدة، وهم الباطنية يَدّعُونَ أنه لا غسل من الجنابة، وأن الخمر حلال، وأن الصوم في السنة يومان، ويزيدون في أذانهم:(محمدٌ ابن الحنفية رسول الله) وأن الحج والقِبلَة إلى بيت المقدس، وأشياء أخر.

وفي سنة ست وتسعين وخمس مئة كان بمصر الغلاء المُفرط بحيث أكلوا الجيف والآدميين، وفشا أكل بني آدم واشتهر، وتعدوا إلى حفر القبور وأكل الموتى، وكثر الموت من الجوع؛ بحيث كان الماشي لا يقع قدمه أو بصره إلَّا على ميتٍ أو قريبٍ من

(1) ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء"(ص 255) في زمان المعتمد، وذكر صاحب "الخميس"(2/ 343) مختصرًا، وذكرها في "شرح المواقف"(8/ 388) في فِرَقِ الشيعة، وفي حاشية "الفوائد البهية"(ص 13). (ز).

ص: 114

الموت، وهلك أهل القرى قاطبة، بحيث إن المسافر يمر بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار، وتجد البيوت مُفتحةً وأهلها موتى، وصارت الطرق مزرعةً للموتى، ومأدبة بلحومهم للطير والسباع، وبيعت الأحرار والأولاد بالدراهم اليسيرة، واستمر ذلك سنتين.

قال أبو شامة في "الذيل": إنَّ العادل الكبير في هذه السنة كَفّنَ من ماله في مدة يسيرة نحوًا من مئتي ألف وعشرين ألف ميت، وقيل: ثلاث مئة ألف من الغرباء، وَأُكلَتْ الكلاب والميتات في مصر، وأكل من الصغار والأطفال خَلقٌ كثير، حتى إن الوالد يشوي ولده ويأكله، وكَثُر في الناس هذا حتى صار لا ينكر عليهم، ثم صاروا يحتالون بعضهم على بعض، ويأكلون من يقدرون عليه، وإذا غلب القوي على الضعيف ذبحه وأكله، وفُقِدَ كثيرٌ من الأطباء يدعونهم إلى المرضى فيذبحونهم ويأكلونهم. انتهى.

وفي سنة ثمان عشرة وسبع مئة حصل بديار بكر، والموصل، وإربل، وماردين، والجزيرة، وميافارقين، وغيرها الغلاء العظيم، وخربت البلاد، وبيع الأولاد، وكثر الموت في الناس، حتى إنه مات من جزيرة ابن عمر خمسة عشر ألفًا بالجوع، وبيع من الأولاد نحو ثلاثة آلاف صبي، وكان يُباع الصبي بنحو عشرة دراهم أو أكثر، ويشتريهم التتار.

ومات أكثر أهل ميافارقين بحيث لم يبق من أسواقها غير ست حوانيت، والموصل كان الغلاء بها أكثر من ماردين، وبيع بها الأولاد بحيث خلت الدور من أهلها، وأكلوا الجيف والميتات، وباع رجل ولده باثني عشر درهما.

وقال: قد أنفقت في ختانه خمسين دينارًا، وكان المشترون يَتحرّجُون من شراء أولاد المسلمين، فكانت المرأة والصبية تجعل نفسها نصرانية وتقر بالنصرانية؛ ليرغب فيها، وأهل إربل أكلوا النبات، ثم قشور الشجر، ثم الجيف، وجاءهم الموت الذريع، وجلا الباقي، ومات كثيرٌ منهم بالثلج. ذكر ذلك البِرْزَالي في "ذيل الروضتين"، وذكرت ملخصه.

اللهم؛ إنا نعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع.

ص: 115

وفي سنة ثمان وثلاثين ومئتين في خلافة المتوكل: سمع أهل أخلاط صَيحةً عظيمةً من جو السماء، فمات منها خلقٌ كثير.

وفي سنة اثنتين وأربعين: وقع بجبلٍ طائر أبيض دون الرَّخمة في رمضان، فصاح: معاشر الناس؛ اتّقوا الله، الله، الله. فصاح أربعين صوتًا، ثم طار وجاء من الغد، ففعل كذلك، وَكُتبَ البريد بذلك، وشهد خمس مئة إنسان سمعوه

إلى غير ذلك من الأمور العظام التي وقعت.

ومنها: انقطاع طريق الحج، ورفع الحجر الأسود من الكعبة:

عن أبي سعيد رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت" رواه الحاكم وصححه، والبزار، وأبو يعلى، وابن حبان.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن" رواه السِّجزي.

وهذان كلاهما قد وقعا.

أما انقطاع طريق الحج: ففي سنة عشرين وثلاث مئة انقطع الحج من بغداد إلى سنة سبع وعشرين بسبب فتنة القرامطة.

وفي سنة تسع وأربعين وثلاث مئة: رجع حجيج مصر في مكة، فنزلوا واديًا، فجاءهم السيل، فأخذهم كلهم فألقاهم في البحر عن آخرهم.

وفي سنة خمس وخمسين: قطعت بنو سُلَيم الطريق على الحجيج من أهل مصر، وأخذوا منهم عشرين ألف بعير بأحمالها، وعليها من الأمتعة ما لا يُقَومُ كثرة، وبقي الحجاج في البوادي فهلك أكثرهم.

وفي سنة ثلاث وستين: خرج بنو هلال وطائفةٌ من العرب على الحجاج، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام، ولم يحصل لأحدٍ حج في هذه السنة سوى أهل درب العراق وحدهم.

وفي سنة أربع وثمانين وثلاث مئة: رجع الحاج العراقي من الطريق؛ اعترضهم

ص: 116

الأصفر الأعرابي، ومنعهم الجواز إلَّا بالباج، فعادوا ولم يحجوا، ولا حج أيضًا أهل الشام ولا اليمن، إنما حَجَّ أهل مصر فقط.

وانقطع في زمن بني عثمان من طريق الشام سنين في زمن الشيخ علوان الحموي.

وفي سنة اثنتين وتسعين وثلاث مئة: انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أحدٌ من بغداد وبلاد الشرق؛ لَعَبثِ الأعراب بالفساد، وكذا في سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة.

وفي سنة سبع وتسعين: انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق؛ لفساد الطريق بالأعراب.

وفي سنة سبع وأربع مئة: انفرد المصريون أيضًا، ولم يحج أحدٌ سواهم، وكذا في سنة ثمان وأربع مئة.

وفي سبع عشرة وأربع مئة: انفرد المصريون أيضًا بالحج، ولم يحج غيرهم.

وفي سنة ثمان عشرة وأربع مئة: لم يحج أحدٌ لا من المشرق ولا من مصر وغيرها، إلا طائفة من خراسان حجوا من البحر.

وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة: تعطل الحج من الأقاليم بأسرها، ومن السنة التي بعدها إلى سنة أربعين وأربع مئة لم يحج أحدٌ غير أهل مصر. ذكر هذا كله السيوطي في "حسن المحاضرة".

وذكر الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر": أن في السنة الثالثة، والرابعة، والخامسة بعد الثمان مئة، لم يحج أحدٌ من طريق الشام، وذلك بعد أن طرق تيمور الشام، وعاث فيها.

أما رفع الحجر: ففي خلافة المقتدر، وذلك أن المقتدر سير الحجَّاج مع منصور الديلي إلى مكة سالمين، فوافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي، فقتل الحجيج في المسجد الحرام قتلًا ذريعًا، وطرح القتلى في بئر زمزم، وضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره، ثم اقتلعه، وأقام بها أحد عشر يومًا، ثم رحلوا وبقي الحجر الأسود عندهم أكثر من عشرين سنة، ودُفِعَ لهم فيه خمسون ألف دينار، فأبوا رَدّهُ حتى أُعيد في خلافة المطيع.

ص: 117

وقيل: إنهم لما أخذوه هلك تحته أربعون جملًا من مكة إلى هَجَرْ، فلما أُعيد حمل على قعود هزيل فسمن.

قال محمد بن الربيع بن سليمان: كنت بمكة سنة القرامطة، فصعد رجل لقلع الميزاب وأنا أراه، فَعِيلَ صبري، وقلت: ربي ما أَحْلَمكَ! ! فسقط الرجل على دماغه فمات.

وصعد القرمطي المنبر وهو يقول:

أَنَا بِاللهِ وَبِاللهِ أَنَا

يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأَفْنِيهِمْ أَنَا

ولم يفلح أبو طاهر القرمطي بعد ذلك؛ تقطع جسده بالجدري.

وقال محمد بن نافع الخزاعي: تأملت الحجر وهو مقلوع، فإذا السواد في رأسه فقط، وسائره أبيض، وطوله قدر عَظْمِ الذراع.

وأما هدم البيت كله، وانقطاع الحج بالكلية فإنما يكون في آخر الزمان والعياذ بالله.

وكذلك رفع القرآن، وسيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى.

ومنها: رضخ رؤوس أقوامٍ بكواكب من السماء:

عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تقوم الساعة حتى تُرضَخَ رؤوس أقوام بكواكب من السماء باستحلالهم عمل قوم لوط" رواه الديلمي.

وفي سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة: انقض كوكبٌ عظيم، سُمِعَ لانقضاضه صوتٌ هائل، واهتزت الدور والأماكن، فاستغاث الناس، وأعلنوا بالدعاء، وظنوا أنه من أمارات القيامة.

وفي سنة إحدى وأربعين ومئتين: ماجت النجوم في السماء، وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل، وكان أمرًا مُزعجًا لم يُعْهد مثله.

وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة في خلافة الراضي في ذي القعدة: انقضّت النجوم سائر الليل انقضاضًا عَظيمًا ما رُئي مثله، وقد وقع بعد ذلك كثيرًا أن النجوم والشهب انقضّت وقتلت ناسًا.

ص: 118

ومنها: ظهور كوكب له ذنب:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان، إذا كان حج الملوك تَنزُّها، والأغنياء للتجارة، والمساكين للمسألة، والقراء رياءً وسمعة فعند ذلك يظهر نجم له ذنب" رواه ابن مردويه.

وهذا الكوكب قد ظهر (1) مرات، آخرها في سنة خمس وسبعين وألف في شهر جمادى الآخرة، بقي شهرًا أو أكثر، وكان يسير سيرًا أسرع من القمر.

فائِدَة

جاء من بلاد النصارى إلى بلاد بني عثمان في سنة سبع وسبعين وألف في شهر جمادى الأولى وأنا إذ ذاك بأدرنة كتابٌ منقوشٌ فيه صورة حيوان، طوله عشرون ذراعًا، وسمكه خمسة أذرع، جسده جسد السمكة، له أربع قوائم، في يديه خمس أصابع كأصابع الأسد، وفي رجليه حافرٌ مثل حافر الفرس، ورأسه رأس الثور، له أربعة قرون، اثنان بين عينيه أسودان، واثنان أصغران بين أذنيه الآخرين واغربَ كلُّ اثنين إلى جهة الآخرين، وعلى فكه الأسفل أربعة كذلك، وله ذنب السمكة، وعلى كفله متصلًا مخلوقٌ نصف إنسان عريان له أربع أيدي، في كل واحدة خمس أصابع، وله ذؤابتان سوداوان، ولحيةٌ، وثديان كثدي المرأة.

ومضمون الكتاب: أنَّ هذا الحيوان صار في جبال الإفرنج حين ظهر هذا النجم في سنة خمس وسبعين، وأنه ظهر على جسده مثل النجم المذكور، وهلك بِنَفَسِهِ خلقٌ كثير من دواب الأرض، وأنهم رموه بالمجانيق فلم تؤثر فيه، وأهلك منهم اثنين وثلاثين ألف آدمي، ثم بَعُدَ مُدةً عنه ذلك الكوكب الذي ندي عليه، فرموه بالمنجنيق فقتلوه، وكتبوا بذلك إلى البلدان، والله على كل شيء قدير.

(1) وقد ظهر بعد ذلك أيضًا مرات، وقد ظهر في هذا الشهر المحرم سنة (1368 هـ) منذ أيام، يظهر كل يوم في آخر الليل، وتكلم المجدد السرهندي رحمه الله في "مكاتيبه"(2/ 118) في المكتوب الثامن والستين كلامًا مبسوطًا (ز).

ص: 119

ومنها: كثرة الموت:

عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعدد بين يدي الساعة ستًا: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوْتانا كَقُعاص الغنم. . ." الحديث. رواه البخاري، وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك".

و(المُوتان)؛ بضم الميم، وإسكان الواو، على وزن بُطلان: الموت الكثير الوقوع. قاله في "النهاية".

و(قُعاص الغنم)؛ بضم القاف، وبالعين والصاد المهملتين، بينهما ألف: داءٌ يأخذ الغنم فلا تلبث أن تموت، ومنه: ضربه فأقعصه؛ أي: مات مكانه.

وهذا وقع في زمن عمر رضي الله عنه في طاعون عمواس، وبعد ذلك في طاعون الجارف، وفي الطواعين والوباءات الواقعة في أقطار الأرض.

ذكر الحافظ السيوطي في كتاب "ما رواه الواعون في أخبار الطاعون" ما لفظه: سرد الطواعين الواقعة في الإسلام.

قال ابن أبي حجلة في تأليفه في "الطاعون":

أول طَاعونٍ وقع في الإسلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة بالمدائن، ويُعْرفُ بطاعون شيرويه فيما حكاه المدائني، ولم أعلم كم مات فيه فأحكيه.

قُلْتُ: ولم يمت فيه أحدٌ من المسلمين.

وقد أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" من طريق حماد بن زيد، عن أيوب قال: قال محمد: لم يكن طاعون أشد من ثلاثة طواعين: طاعون ازدجرد، وطاعون عمواس، وطاعون الجارف.

وقال المدائني: كانت الطواعين العظام المشهورة في الإسلام خمسة: طاعون شيرويه بالمدائن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاعون عمواس، ثم طاعون الجارف، ثم طاعون الفتيات، ثم طاعون الأشراف. انتهى.

ص: 120

الثاني: طاعون عَمواس؛ بفتح العين المهملة، وسكون الميم، وقد تحرك، وتخفيف الواو وآخره سين مهملة: اسم موضع بالشام.

وكان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشرة، وقيل: ثمان عشرة، ومات فيه من جيش المسلمين خمسة وعشرون ألفًا، وقيل: ثلاثون ألفًا، وقيل: سُمِّي طاعون عَمواس، لأنه لم يقع في شيء من المواضع سوى ما وقع فيه، حكاه الحافظ عبد الغني المقدسي.

وذكر سيف بن عمر، عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عَمواس وقع مرتين لم ير مثلهما، وطال مكثه، وذلك أنه وقع بالشام في المحرم وصفر ثم ارتفع، ثم عاد، وفني فيه خلقٌ كثير من الناس حتى طمع العدو، وتخوفت قلوب المسلمين لذلك.

قال سيف: وأصاب أهل البصرة أيضًا تلك السنة طاعون، فمات بشرٌ كثير، وجمٌّ غفير.

في "مرآة الزمان": لما كان سنة ثمان عشرة أصاب جماعة من المسلمين بالشام الشراب، فجلدهم أبو عبيدة بأمر عمر رضي الله عنه، وقال رضي الله عنه عند ذلك: ليحدثن في هذا العام حادث. فوقع الطاعون.

وقال هشام: إنما حدث الطاعون بالشام؛ لأجل هؤلاء الذين شربوا الخمر.

وممن مات في طاعون عَمواس من مشاهير الصحابة: أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وشرحبيل بن حسنة، والفضل بن العباس؛ وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو مالك الأشعري، ويزيد بن أبي سفيان؛ أخو معاوية، والحارث بن هشام؛ أخو أبي جهل -وأبو جندل الذي جاء يوم الحديبية يَرسُفُ في قيوده، وسهيل بن عمرو الذي قام بمكة يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم فَثبّتَ الناس، وهو والد أبي جندل.

ومما قيل في طاعون عَمواس من الشعر: قول امرئ القيس، حشيش الكندي، أورده أبو حذيفة البخاري في كتاب "المبتدأ"، وابن عساكر في "تاريخه".

رُبَّ حرفٍ مِثْلَ الْهِلَالِ وَبَيْضَا

ء حصان بالجزع من عمواس

ص: 121

قَدْ لَقُوا اللهَ غَيْرَ بَاغٍ عَلَيْهِمْ

ثُمَّ أَضْحَوْا فِي غَيْرِ دَارِ التَّنَاسِي

فَصبرنا لَهُمْ كَمَا عَلِم اللهُ

وَكُنَّا فِي الْمَوْتِ أَهْلَ تَآسِي

وقال سيف عن شيوخه: خرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى مرتفع الشام فلم يرجع منها إلا أربعة، فقال المهاجر بن خالد في ذلك:

مَنْ يَسْكُنِ الشَّامَ يُقَدّسْ بِهِ

وَالشَّام إِنْ لَمْ يَأْتِنَا كَارِبُ

أَفْنَى بَنِي ريطة فُرْسَانُهُمْ

عِشْرُونَ لَمْ يُقْصَصْ لَهُمْ شَارِبُ

وَمِنْ بَنِي أَعْمَامِهِمْ مِثْلُهُمْ

لِمِثْلِ هَذا يَعْجَبُ الْعَاجِبُ

طَعْنًا وَطَاعُونًا مَنَايَاهُم

ذَلِكَ مَا خَطَّ لَنَا الْكَاتِبُ

وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير: عَمواس: بُليدةٌ صَغِيرةٌ بين القدس والرملة، كان الطاعون أول ما نجم بها، ثم انتشر بالشام منها فَنُسب إليها.

وقال البيهقي في "دلائل النبوة": باب ما جاء في إِخْبارِ النبي صلى الله عليه وسلم بالطاعون الذي وقع بالشام في أصحابه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ئم أخرج عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في خِبَاءٍ من أَدَمٍ، فقال:"يا عوف؛ احفظ خِلالًا سِتًّا بين يدي الساعة: إحداهن موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوَتان يظهر فيكم، يستشهد الله به ذراريكم وأنفسكم، ويزكي به أعمالكم، ثم استفاضة المال بينكم". . . الحديث.

وأخرج الحاكم عن عوف بن مالك؛ أنه قال في طاعون عَمواس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اعدد سِتًّا بين يدي الساعة". قال: فقد وقع منهن ثلاث. يعني: موته، وفتح بيت المقدس، والطاعون. قال: وبقي ثلاث. فقال معاذ: إن لها أمدًا.

ثم وقع الطاعون بالكوفة سنة تسع وأربعين، فخرج المغيرة بن شعبة منها فارًّا. فلما ارتفع الطاعون رجع إليها فأصابه الطاعون، فمات في سنة خمسين. ذكره ابن كثير في "تاريخه".

ثم وقع في سنة ثلاث وخمسين، ومات فيها زياد. ذكره في "مرآة الزمان".

ص: 122

وقال ابن كثير: في سنة ثلاث وخمسين في رمضان توفي زياد بن أبي سفيان، -ويقال له: زياد ابن أبيه، وزياد بن سُمّية؛ وهي: أمه- مطعونًا.

وكان سبب ذلك: أنه كتب إلى معاوية رضي الله عنه يقول له: إني قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة. وهو يُعَرِّضُ له أن يستنيبه على بلاد الحجاز أيضًا، فلما بلغ أهل الحجاز جاؤوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فشكوا إليه ذلك، وخافوا أن يلي عليهم زياد فَيَعسِفهم كما عَسَفَ أهل العراق، فقام ابن عمر رضي الله عنهما فاستقبل القبلة، فدعا على زياد والناس يُؤمِنون، فَطُعِنَ زياد بالعراق في يده.

فضاق ذرعًا بذلك؛ واستشار شُريحًا القاضي في قطع يده، فقال له شريح: إني لا أرى لك ذلك؛ فإنه إن لم يكن في الأجل فُسحة لقيت الله أجذم قد قطعت يدك خوفًا من لقائه، وإن كان لك أجل بقيت في الناس أجذم فيعير وَلَدُكَ بذلك، فصرفه عن ذلك.

وَيُقال: إن زيادًا جعل يقول: أنام أنا والطاعون في فراشٍ واحد؟ ! !

وأخرج ابن أبي الدنيا، عن عبد الرحمن بن السائب الأنصاري قال: جمع زياد أهل الكوفة، فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر؛ ليحرضهم على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال عبد الرحمن: فإني لمع نَفرٍ من أصحابي من الأنصار والناس في أمرٍ عظيم، فَهُوِّمْتُ تَهْويمة، فرأيت شيئًا أقبل طويل العنق مثل عنق البعير، أهدب أهدل، فقلت: ما أنت؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بُعِثت إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعًا، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا. فأخبرتهم. وخرج علينا خَارجٌ من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم: انصرفوا عني؛ فإني عنكم مشغول. وإذا الطاعون قد أصابه.

ثم وقع بالبصرة طاعون الجارف:

وسُمِّي بذلك؛ لأنه جرف الناس كما يجرف السيل الأرض فيأخذ معظمها، واخْتُلِفَ في سنته. فقيل: وقع في سنة أربع وستين، وجزم به ابن الجوزي في "المنتظم"، وقيل: كان في شوال سنة تسع وستين.

ص: 123

قال ابن كثير: وهذا هو المشهور الذي ذكره شيخنا الذهبي وغيره، وقيل: سنة سبعين، وقيل: سنة ست وسبعين، وقيل: سنة ثمانين.

قال ابن كثير: حكاه ابن جرير عن الواقدي، ومات فيه لأنس بن مالك رضي الله عنه ثلاثة وثمانون ولدًا، ولأبي بكرة رضي الله عنه أربعون ولدًا.

قال ابن كثير: كان ثلاثة أيام، مات في أول يوم منه من أهل البصرة سبعون ألفًا، وفي اليوم الثاني منه واحدٌ وسبعون ألفًا، وفي اليوم الثالث منه ثلاثة وسبعون ألفًا. وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا القليل من آحاد الناس، حتى ذُكِر أن أُم الأمير بها ماتت، فلم يجد من يحملها.

وقال صاحب "المرآة": مات فيه أهل الشام إلا اليسير.

وقال الحافظ أبو نُعيم الأصفهاني: حدثنا عبيد الله، حدثنا أحمد بن عصام، حدثني معدي، عن رجل يُكنى أبا الفضل وكان قد أدرك زمن الطاعون، قال: كُنا نطوف في القبائل وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقدر على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فَنسد بابها.

فدخلنا دارًا نُفَتشها فلم نجد فيها أحدًا حيّا، فسددناها، فلما مضت الطواعين كُنا نَطوفُ فَننزعُ تلك السُّدَد عن الأبواب، ففتحنا سُدةَ الباب التي كنا قد فتشناها، فإذا نحن بغلام في وسط الدار طَريٌ دهين، كأنما أُخِذ ساعتئذ من حِجر أمه.

قال: فنحن وقوفٌ على الغلام نتعجب منه، فدخلت كلبةٌ من شق الحائط، فجعلت تلوذُ بالغلام، والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها.

قال معدي: وأنا رأيت ذلك الغلام في مسجد البصرة قد قبض على لحيته.

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "الاعتبار": حدثني يحيى بن عبد الله الخثعمي، عن محمد بن سلام الجُمحي قال: زعم يحيى أنه لما وقع الطاعون الجارف بالبصرة، وذهب الناس فيه، وعجزوا عن موتاهم، وكانت السباع تدخل البيوت فتصيب من الموتى، وذلك سنة سبعين أيام مُصعب، وكان يموت في اليوم سبعون ألفًا فبقيت جاريةٌ من بني عجل ومات أهلها جميعا، فَسَمِعت عواء الذئب فقالت:

ص: 124

أَلَا أَيُّهَا الذِّئْبُ الْمُنَادِي بِسَحْرَةٍ

هَلُمَّ أُنبِّئْكَ الَّذِي قَدْ بَدَا لِيَا

بَدَا لِي أَنِّي قَدْ يَتُمْتُ وَأَنَّنِي

بقيَّةُ قَوْمٍ أَوْرَثُونِي الْمَبَاكِيَا

وَلَا ضَيْرَ أَنِّي سَوْفَ أَتْبَعُ مَنْ مَضَى

وَيَتْبَعُنِي مِنْ بَعْدِي مَنْ كَانَ تَالِيَا

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني الفضل بن جعفر، حدثنا أحمد بن محمد البجلي، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال: نزل بنا حَيٌّ من العرب فأصابهم الطاعون، فماتوا وبقيت جويرية مريضة، فلما أفاقت جعلت تسأل عن أبيها وأمها وأختها، فيقال: مات، ماتت، ماتت. فرفعت يدها وقالت:

وَلَوْلَا الأَسَى مَا عِشْتُ فِي النَّاسِ سَاعَةً

وَلكِنْ مَتَى نَادَيْتُ جَاوَبَنِي مِثْلِي

قال الحافظ ابن حجر: وكان بمصر سنة ست وستين طاعون، ثم في سنة وفاة عبد العزيز بن مروان سنة خمس وثمانين، وقيل: سنة اثنتين، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة ست، وكان بالشام طاعون سنة تسع وسبعين، ذكره ابن جرير وغيره.

ثم وقع بالبصرة طاعون الفتيات سنة سبع وثمانين.

وسمي بذلك؛ لكثرة من مات فيها من النساء الشَّوابِ والعذارى.

قال ابن أبي الدنيا في "الاعتبار": حدثني محمد بن علي بن عثام الكلابي قال: سمعت حامد بن عمر بن حفص البكراوي قال: حدثني أبو بحر البكراوي، عن أمه؛ قالت: خرجنا هاربين من طاعون الفتيات، فنزلنا قريبًا من سنام، قالت: وجاء رجل من العرب معه بنون له عشرة، فنزل قريبًا منا، فلم يمض إلا أيام حتى مات بنوه أجمعون، وكان يجلس بين قبورهم فيقول:

بِنَفْسِي فِتْيَةٌ هَلَكُوا جَمِيعًا

بِرَابِيَةٍ مُجَاوِرَةٍ سَنَامَا

أَقُولُ إِذَا ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهُمْ

بِنَفْسِي تِلْكَ أَصْدَاءٌ وَهَامَا

فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا

وَلَمْ أَرَ مِثْلَ هَذَا الْعَامِ عَامَا

قالت: وكان يُبْكِي من سمعه.

ص: 125

ثم طاعون الأشراف: وقع والحجاج بواسط حتى قيل فيه: لا يكون الطاعون والحجاج في بلد واحد. سُمي بذلك؛ لكثرة من مات فيها من أشراف الناس.

ثم وقع بالشام طاعون، مات فيه ولي العهد أيوب بن الخليفة سليمان بن عبد الملك.

أخرج ابن أبي الدنيا في "الاعتبار" من طريق عبد الله بن المبارك، عن أبي كنانة، قال: أخبرني يزيد بن المهلب قال: حملت حملين مِسكًا من خُراسان إلى سليمان بن عبد الملك، فانتهيت إلى باب ابنه أيوب؛ وهو ولي العهد، فدخلت عليه؛ فإذا دارٌ مجصصةٌ حيطانها وسقوفها خضر، وإذا وصِيف ووصائف عليهم حُلل خُضر وحليٌّ من الزمرد، فوضعت الحملين بين يدي أيوب وهو قاعدٌ على سريره، فانتهب المسك من بين يديه، ثم عُدت بعد أحد عشر يومًا، فإذا أيوب وجميع من معه في داره قد ماتوا بعد إصابتهم بالطاعون.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن حاتم بن عطارد قال: حدثني أبو الأبطال قال: بُعثت إلى سليمان بن عبد الملك ومعي ستة أحمال مسك، فمررت بدار أيوب بن سليمان فَأُدْخِلْتُ عليه، فمررت بدارٍ بيضاء، وما فيها من الثياب والنجد بياض، ثم أُدْخِلْتُ منها إلى دار أخرى صفراء، وما فيها كذلك، ثم أدخلت منها إلى دار حمراء، وما فيها كذلك، ثم أدخلت منها إلى دارٍ خضراء، وما فيها كذلك، فإذا أنا بأيوب على سرير، ولحقني من كان في تلك الدور، فانتهبوا ما معي من المسك، ثم مررت بدار أيوب بعد سبعة عشر يومًا، فإذا الدار بَلاقع. فقلت: ما هذا؟ قالوا: طاعون أصابهم.

قال ابن أبي الدنيا: كان أيوب ولي عهد أبيه من بعده، قد رشحه للخلافة، فأصابه الطاعون، فمات في حياة أبيه، وكانت وفاته في سنة ثمان وتسعين.

وقال الحافظ ابن حجر: وقع بالشام طاعون عدي بن أرطاة سنة مئة.

قُلْتُ: وذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز.

ص: 126

وأخرج ابن سعد، عن أرطاة بن المنذر، قال: كان عند عمر بن عبد العزيز نَفرٌ يسألونه أن يَتحفّظَ في طعامه، ويسألونه أن يكون له حَرسٌ إذا صلى؛ لئلا يثور ثائرٌ فيقتله، ويسألونه أن يتنحى عن الطاعون، ويخبرونه أنَّ الخلفاء قبله كانوا يفعلون ذلك.

قال لهم عمر: فأين هم؟ فلما أكثروا عليه قال: اللهم؛ إن كُنتَ تعلم أني أخاف يومًا دون يوم القيامة، فلا تؤمِّن خَوفي.

وأخرج محمد بن خلف المعروف بوكيع في كتاب "الغُرَر من الأخبار" عن أبي الزناد قال: قال عبد الله بن حسن بن حسن: كنت عند عمر بن عبد العزيز فوقع طاعون بالشام، فقال: ارحل؛ فإنك لن تَغْنَم أهلك مثل نفسك، فقضى حوائجي، وأتبعني إياها.

قال الحافظ ابن حجر: ثم وقع أيضًا بالشام في سنة سبع ومئة، ثم سنة خمس عشرة، وكذا في "تاريخ" ابن كثير.

وفي "المرآة": وقع في سنة ست عشرة طاعون شديد بالشام والعراق، وكان أعظم ذلك في واسط. ذكره ابن كثير أيضًا.

ثم وقع بالبصرة طاعون غُراب؛ وهو رجل مات فيه سنة سبع وعشرين ومئة.

ثم وقع بالبصرة طاعون مسلم بن قتيبة في رجب وشعبان ورمضان سنة إحدى وثلاثين ومئة، ثم خَفّ في شوال، وبلغ في كل يوم ألف جنازة.

قال ابن سعد: وتوفي فيه إسحاق بن سويد العدوي، وفرقد بن يعقوب السَّبخي، وأيوب السَّختياني.

قال ابن سعد: وأخبرنا علي بن عبد الله؛ حدثنا سفيان قال: سمعت داود بن أبي هند يقول: أصابني الطاعون فَأُغمي عَليَّ، فكأن اثنين أتياني فغمز أحدهما عكوة لساني، وغمز الآخر أخمص قَدميّ، فقال: أي شيء تجد؟ . قال: تسبيحًا وتكبيرًا، وشيئًا من خطوة إلى المسجد، وشيئًا من قراءة القرآن. قال: ولم أكن أخذت القرآن يومئذ. قال: فكنت أذهب في الحاجة فأقول: لو ذكرتُ الله حتى آتي حاجتي. قال: فعوفيت، فأقبلت على القرآن فَتعلّمتهُ.

ص: 127

هذا كله في الدولة الأموية، بل نقل بعض المؤرخين أن الطواعين في زمن بني أمية كانت لا تنقطع بالشام، حتى كان خلفاء بني أمية إذا جاء زمن الطاعون يخرجون إلى الصحراء، ومن ثم اتخذ هشام بن عبد الملك الرُّصافة منزلًا.

ثم خَفَّ ذلك في الدولة العباسية، فيقال: إن بعض أمرائهم خطب بالشام، فقال: احمدوا الله الذي رفع عنكم الطاعون منذ وُلِّينَا عليكم، فقام بعض من له جراءةٌ، فقال: الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون، فقتله.

وأخرج ذلك ابن عساكر في "تاريخه"، وَسمّى الذي قال: جَعوَنة بن الحارث.

وأخرج ابن عساكر عن الأصمعي قال: لقي المنصور أعرابيًا بالشام، فقال: احمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت، قال: إن الله لم يجمع علينا حَشفًا وَسُوء كَيل؛ ولايتكم والطاعون.

ثم كان في سنة أربع وثلاثين بالري، ثم في سنة ست وأربعين ببغداد، ثم في سنة إحدى وعشرين ومئتين بالبصرة.

قُلْتُ: كذا ذكره الحافظ ابن حجر والمؤرخون قبله، فكان بين هذين الطاعونين خمس وسبعون سنة، وفي هذه المدة كان مولد الإمام الشافعي رضي الله عنه ووفاته، فلم يقع في حياته طاعون.

وبذلك يُعْرف أن قوله السابق: (لم أر للوباء أنفع من البنفسج) لم يُرِد به الطاعون؛ لأنَّ الوباء غير الطاعون، كما تَقدّم الفرق بينهما، ويحتمل أنه أراد الطاعون، والمراد: الذي نَصَل صاحبه وقام واحتاج إلى علاجه، فَيدّهِنُ به كما يستعمل الناس الآن في علاجه الدهان بزبد اللبن البقري ودهن اللوز.

وظن طائفةٌ من الناس أنَّ مراد الإمام: أنَّ الادهان بدُهن البنفسج يمنع الطاعون من أصله، وليس كما ظنوه، والله أعلم.

ثم في سنة تسع وأربعين ومئتين بالعراق.

ثم في سنة ثمان ومئتين بأذربيجان وبرذعة، فمات لمحمد بن أبي الساج ثمانون ولدًا. ذكره صاحب "المرآة".

ص: 128

ثم في سنة تسع وتسعين ومئتين بأرض فارس.

ثم في سنة إحدى وثلاث مئة ببغداد.

ثم في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة بأصبهان.

ثم في سنة ست وأربعين وثلاث مئة بالعراق، وكثر فيه موت الفَجأة، حتى إن القاضي لبس ثيابه ليخرج إلى الحُكْم، فمات وهو يلبس إحدى خفيه.

تَذنيبٌ

رأيت في كتاب "نِشْوار المحاضرة" للتنوخي أن موت الفجأة وقع للناس في كل حال، منهم من مات وهو يُصلي، ومنهم من مات وهو يأكل، ومنهم من مات وهو يمشي، ومنهم من مات بالجامع، ومنهم من مات في الحمام.

وفي جميع الأحوال إلَّا حالة واحدة وهي الخطبة، فلم يُنقل قط أن خطيبًا مات فجأة على منبر.

ثم وقع في سنة أربع مئة بالبصرة.

ثم وقع في سنة ثلاث وعشرين وأربع مئة طاعونٌ عظيمٌ ببلاد الهند والعجم، وبلاد الجبل وامتد إلى بغداد، وَفَنِيَ الناس، ولم يشاهدوا مثله، ومات بالموصل في هذه السنة أربعة آلاف صبي بالجدري.

ثم وقع بشيراز سنة خمس وعشرين وأربع مئة، ووصل إلى البصرة وبغداد.

ثم في سنة تسع وثلاثين وأربع مئة بالموصل والجزيرة وبغداد، بحيث صَلّى الجمعة بالبصرة أربع مئة نفس، وكانوا أكثر من أربع مئة ألف.

ثم وقع سنة ثمان وأربعين بمصر والشام وبغداد.

ثم وقع بالعجم سنة تسع وأربعين.

ثم وقع بمصر سنة خمس وخمسين وأربع مئة، ودام فيها عشرة أشهر.

ثم بدمشق سنة تسع وستين، وكان أهلها نحو خمس مئة ألف، فلم يبق منهم سوى ثلاثة آلاف وخمس مئة.

ص: 129

ثم وقع في سنة ثمان وسبعين وأربع مئة بالعراق.

ثم في سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة بالحجاز واليمن.

ثم في سنة خمس وسبعين وخمس مئة ببغداد.

ثم في سنة تسع وأربعين وسبع مئة لم يُعهد نظيره في الدنيا؛ فإنه طَبّق الأرض شرقًا وغربًا، ودخل البلاد كلها حتى دخل مكة المشرفة، ووقع في الحيوانات أيضًا، وعمل فيه ابن الوردي مقامةً مشهورة.

وقلت في ذلك:

فِي عَامِ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَا

مِنْ بَعْدِ سَبْعِ مِئَةٍ سِنِينَا

قَدْ دَهَمَ الْخَلائِقَ الطَّاعُوْنُ

وَمَا أَرَادَ رَبُّنَا يَكُونُ

طَبَّقَ الأَرْضَ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا

أَوْسَعَ طَعْنًا فِي الْوَرَى وَمَضْرِبَا

أَهَلَّ نِصْفَ النَّاسِ بَلْ وَأَكْثَرَا

وَأَدْخَلَ الْفَنَاءَ فِي أُمِّ الْقُرَى

فِيْ الْحَيَوَانِ قَدْ بَدَا تَأْثِيرُهُ

لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا أَخُو نَظِيرُهُ

فِيهِ مَقَامَة عَنِ ابْنِ الْوَرْدِي

خُذْ هَذِهِ عَنِ السِّيُوطِي الْفَرْدِ

نَاظِمُهُ مُحَمَّدُ الْبَرْزَنْجِي

يَرْجُو النَّجَاةَ وَالإِلهُ الْمُنْجِي

وقال ابن أبي حَجَلة: مات فيه على جهة التقريب نصف العالم أو أكثر، وبلغ الموت في القاهرة كل يوم زيادةً على عشرين ألفًا.

ثم وقع في سنة أربع وستين وسبع مئة بالقاهرة ودمشق.

ثم في سنة إحدى وسبعين بدمشق.

ثم في سنة إحدى وثمانين بالقاهرة.

ثم في سنة إحدى وتسعين.

ثم في سنة ثلاث عشرة وثمان مئة.

ثم في سنة تسع عشرة.

ص: 130

ثم في سنة إحدى وعشرين.

ثم في التي تليها.

ثم في سنة ثلاث وثلاثين وثمان مئة، وهو أوسع هذه الطواعين كلها.

ولم يقع بمصر بعد الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبع مئة نظير هذا.

ثم وقع في سنة إحدى وأربعين بمصر، وكان خفيفًا وأكثر ما بلغ في اليوم ألف نفس.

ثم وقع في سنة تسع وأربعين في ذي الحجة، ودام إلى ربيع الأول سنة خمسين.

ثم في سنة ثلاث وخمسين، وبلغ في كل يوم خمسة آلاف.

ثم في سنة أربع وستين بمصر والشام.

ثم في سنة ثلاث وسبعين بهما.

ثم في سنة إحدى وثمانين وثمان مئة.

ثم بالروم سنة ست وتسعين وثمان مئة، ودخل حلب في افتتاح سنة سبع وتسعين.

ثم وصل إلى مصر في شهر ربيع الآخر منها، أحسن الله ختامها في خير.

هذا كلام الحافظ السيوطي رحمه الله.

وقد وقع بعده أيضًا طواعين كثيرة يطول ذكرها.

ومنها: استباحة مكة:

عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه حين خرج إلى الكوفة فنصحوه في الخروج قال: إن أبي حدثني أنه تُستحل حرمتها، ولأن أُقتل خارجها بشبر أحب إلي من أن أُقتل داخلها

الحديث.

وهذه وقعت في زمن يزيد كما مر، وفي زمن عبد الملك حين أرسل الحجاج، وقتل ابن الزبير رضي الله عنه، وهدم البيت، وفي زمن أبي طاهر القَرمطي كما مر أيضًا.

ص: 131

ووقع بعد ذلك مرات قُتِلُوا بها جماعة من الأشراف من بني حسن، وسيقع قبيل خروج المهدي.

وآخر من يَستبيحُها ذو السَّويقتين من الحبشة؛ فإنه يبيحها ويهدم البيت حجرًا حجرًا.

وهذان سيأتيان في الباب الثالث إن شاء الله تعالى.

ومن راجع التواريخ؛ كتاريخ مصر، والشام، وبغداد، وغيرها، ولاسيما تاريخ بغداد لابن الجوزي المسمى بـ"المنتظم" وجد من ذلك شيئًا كثيرًا لا يُعد ولا يُحصى، فلنكتف من هذا القسم بهذا المقدار؛ فإنما المقصود التنبيه على وقوعه لا التحذير منه؛ فإنه قد فات، وإنما الحذر مما يأتي، وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين.

خَاتمَة

الفتن الواقعة بين الصحابة رضوان الله عليهم، الحَقُّ في كلها مع أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه، وأنه المُصيب (1) دائمًا وغيره المُخطئُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"عَليٌّ مع القرآن والقرآن معه"، وقوله:"عَليٌّ يدور مع الحق حيث دار"، وقوله:"يا عَلي؛ تُقَاتِل على تأويل القرآن كما قَاتلتُ أنا على تنزيله".

وقوله للزبير رضي الله عنه: "تُقَاتله وأنت له ظالم"، وقوله:"ما خُيِّر عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما"، وقوله:"عمار تقتله الفئة الباغية".

وعمار كان معه، وقتل في صفين؛ قتله أصحاب معاوية رضي الله عنه.

ولقول حذيفة رضي الله عنه حين قال: سيكون قتال بين المسلمين. فسئل مع من نكون؟ فقال: انظروا إلى الفئة التي تدعو إلى أمر عليِّ، فكونوا معها، فإنها على الحق.

وغير ذلك من الأحاديث.

(1) جزم ابن عابدين (3/ 338) بأنه كان مصيبًا وغيره كان مخطئًا. (ز).

ص: 132

وحينئذ فنقول: أما طلحة، والزبير، وعائشة رضي الله عنهم فهم مُجتهدون قطعًا؛ لأنهم لم يطمعوا في الخلافة، ولم يكونوا جَاهلين بفضل أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وعلمه وقرابته وسابقته، وإنما حملهم على ذلك طلب دم عثمان رضي الله عنه لِمَا أَدّى إليه اجتهادهم من وجوب قتلهم على الإمام، وكان أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ينتظر مُحاكمة الورثة إليه، وإقامة البينة على القاتل.

وقد كان طلحة والزبير رضي الله عنهما من أهل بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه:"وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ ! ".

وقال لغلام حاطب حين شكاه إليه: يا رسول الله؛ إن حاطبًا يدخل النار، قال:"كذبت، لا يدخل النار؛ إنه شهد بدرًا والحديبية"، ولأنهما من العشرة المبشرين بالجنة، وبشارته صلى الله عليه وسلم حق، ولأنهما رجعا عن الخروج وتابا.

أما الزبير رضي الله عنه: فحين ذَكّره عَليٌّ رضي الله عنه بالحديث ترك القتال، وخرج من العسكرين.

وأما طلحة رضي الله عنه: فبعدما جُرح وأُثْخِنَ، مرَّ به رَجلٌ من أصحاب علي رضي الله عنه فسأله: ممن أنت؟ قال: من أصحاب علي. قال: مُدَّ يدك أبايعك عن علي. فلما سمع علي رضي الله عنه ذلك قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أبى الله أن يَدخُل طلحة الجنة إلَّا وبيعتي في عنقه. كما تقدم.

وقال: أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . وَأكرم ابن طلحة، وَردّ عليه جميع ماله.

وأما عائشة رضي الله عنها: فإنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؛ كما ثبت في "الصحيح"، ولأنها أرادت الرجوع من الطريق حين سمعت كلاب حوأب نبحتها، وتذكرت الحديث.

فقالوا: بل تَقدّمين، لعل الله أن يُصلح بك ذات بين المسلمين، فما قصدت إلَّا الصُّلح لا الفساد. وإنما قَتلةُ عثمان رضي الله عنه أنشبوا الحرب خِيفةً على أنفسهم،

ص: 133

ولأنها أُمُّ المؤمنين وَحَبيبةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلهم مأجورون، إلا أن عليا له أجران؛ أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، وغيره له أجر الاجتهاد فقط.

وأما معاوية رضي الله عنه: فهو وإن كان باغيًا لم يدخل في البيعة، بل كان طالبًا للمُلك، وإنما جعل طلب الدم وسيلة إلى طاعة أهل الشام له، وقد ظهر له بغيه بقتل عمار بن ياسر (1) رضي الله عنه، فأخبروه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"إنما تقتلك الفئة الباغية"(2)، ولأنه لما تَولّى بعد نزول الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لم يَقتُل (3) أحدًا بدم عثمان رضي الله عنه ولا طالبه، ولم يكن له سابقة ولا هجرة على الأصح، فإنه من مُسلِمَةُ الفتح.

وقد قال عمر رضي الله عنه: إن هذا الأمر في أهل بدر والمهاجرين الأولين ما بقي منهم أحد، وليس لطَليقٍ ولا لمُسلمة الفتح فيه نصيب.

لكنه لكونه صِهرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتبًا للوحي، وله صحبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا ذُكِر أصحابي فأمسكوا"، وقال:"الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي. . ." الحديث ينبغي الإمساكُ عن ذكره إلا بخير، على أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبره بأنه يتَولّى وقال:"يا معاوية؛ إذا وُليتَ فأحسن"، ودعا له فقال:"اللهم؛ اجعله هاديًا مهديًا، واهد به".

وقال أمير المؤمنين عَليٌّ رضي الله عنه: لا تكرهوا إمرة معاوية، والله لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تنزل عن كواهلها كالحنظل.

وأما الحَرُورية: فلا حاجة إلى الاعتذار عنهم بعدما قال صلى الله عليه وسلم: "يمرقون من الدِّين مروق السهم من الرمية"، ونحوه من الأحاديث.

(1) لكن بعد ثبوت أنه قتله شيعته، وقيل: قتلته الخوارج؛ كما في العيني (2/ 393). (ز).

(2)

لكن للمخالف أن طلحة رضي الله عنه كان ممن قتله جماعة علي رضي الله عنه، وكان ممن قضى نحبه؛ كما في الترمذي (2/ 169)، وبسطه في "الكوكب"(ج 2)، والسيوطي في "الدر"(5/ 191)(ز).

(3)

ذكر الحافظ في "تهذيبه" في ترجمة محمد بن أبي بكر: أنه قتله وجماعة كبيرة غيره في دم عثمان رضي الله عنه (ز).

ص: 134

وأما يزيد (1)، وبنو الحكم: فهم ملعونون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال أحمد ابن حنبل حين سأله ابنه عن لعن يزيد: كيف لا يُلعن من لعنه الله في كتابه، فقال: قد قرأت كتاب الله، فلم أر فيه لعن يزيد. فقال: إن الله يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} ، وأي فساد وقطيعة رحم أَشدُّ مما فعله يزيد يا بني؟ ! ! .

نعم؛ عمر بن عبد العزيز من الأئمة الراشدين، والخلفاء المهتدين، ويجب استثناؤه من بني أمية؛ كما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"إلا الصالحون منهم، وَقليلٌ مَا هُمْ"، بخلاف بقية بني أمية كما مر.

وكذلك من بعدهم؛ من بني العباس؛ وغيرهم، فأكثرهم أو عامتهم ظَلمةٌ فَسقةٌ، وأحسن من فيهم المتوكل؛ وهو كان في النَّصْب بحيث هدم قبر الحسين رضي الله عنه، وجعله مزرعة، ومنع الناس زيارته، وقال في ذلك بعض الشعراء شعرًا:

تاللهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ

قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومَا

فَلَقَدْ أتاهُ بَنُو أَبِيْهِ بِمِثْلِهِ

هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومَا

أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا

فِي قَتْلِهِ فتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا

وَحكى ابن خلكان في ترجمة ابن السِّكِّيت: أنه كان جالسًا يومًا مع المتوكل، وكان يُؤَدّبُ أولاده، فجاء ولداه؛ المعتز، والمؤيد، فقال: يا يعقوب؛ أيما أحب إليك: ابناي هذان، أم الحسن والحسين؟ فقال: والله إن قَنبر خادم علي بن أبي طالب خَيرٌ منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك: سُلُّوا لسانه من قفاه. ففعلوا، فمات ليلة الإثنين لخمس خلون من شهر رجب سنة أربع وأربعين ومئتين، ثم أرسل المتوكل لولده عشرة آلاف درهم وقال: هذا دية والدك. انتهى

(1) أنكر الغزالي رحمه الله في "الإحياء"(3/ 108) جواز لعنه. انظر: "شرح الإحياء"(7/ 488)، و"حياة الحيوان"(2/ 186)، و"تهذيب التهذيب"(ج 12)، و"الشامي"(2/ 587)، و"الفتاوى الرشيدية"(1/ 3/ 26)، و"فتاوى عبد الحي اللكنوي"(1/ 36) و"شرح العقائد"(ص 117). وتقدم أيضًا في "الإشاعة"(ص 61)(ز).

ص: 135

وهذا إن صَحَّ فهو الغاية في التعصُّب، ولعله لا يصح.

نعم؛ كان المهتدي منهم زاهدًا يتأسَّى بعمر بن عبد العزيز في هديه، لكنه قُتِل بعد سَنةٍ، ولم تَطُل مُدته.

هذا، وأما ما توسع فيه الرافضة من سَبّ السلف الصالح حتى الصحابة الكرام، سيما الشيخين فخروج من طريق العقل والنقل، وضلال مُبين، وإلحادٌ في الدِّين، وتَجهيلٌ لجميع المسلمين حتى علي رضي الله عنه أمير المؤمنين.

كلا ثم كلا، بل هم خير أُمةٍ أُخرجت للناس بشهادة القرآن، وشُهداء الله على الأمم يوم الحشر والميزان، وهم أهل بَدرٍ وأُحُدٍ وبيعة الرضوان، اختارهم الله لصُحبة نبيه صلى الله عليه وسلم من بين الأكوان، لم تكن فيهم شائبة نفسانية، ولا مَيلٌ إلى الباطل والعدوان.

وقد صح عن علي رضي الله عنه أنه قال: أبو بكر خَير من مؤمن آل فرعون؛ إنه كان يَكتمُ إيمانه، وأبو بكر كان يُظهر إيمانه، ويدفع عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أتقتلون رجُلًا أن يقول ربي الله.

وقال حين سأله ابنه محمد ابن الحنفية: مَنْ خير الناس؟

قال: أبو بكر. قال: ثُمّ مَنْ؟ قال: عمر. قال: ثُمّ أنت يا أبت؟ قال: إنما أبوك رَجل من المسلمين.

وقال: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصَلَّى أبو بكر، وَثلّث عمر، ثم غشيتنا فِتنٌ، فلا حول ولا قوة إلَّا بالله.

وقوله: (صَلّى أبو بكر)؛ معناه: أنه تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإمامة أو في الفضل؛ من قولهم: فرسٌ مُصَلٍّ: إذا كان ثانيًا في ميدان السبق.

ويُؤيده حديث: "كنت أنا وأبو بكر كفرسي رِهان، سبقته فآمن بي، ولو سبقني لآمنت به"، لكن فيه مقال، بل قيل بوضعه، والله أعلم.

والأحاديث الواردة في فضلهما، بل وفضل عثمان رضي الله عنهم وعن عليّ كرّم الله وجهه وأبرار أهل بيته؛ تنوف عن مئتين، فرحم الله امرأً عرف قدره، وعرف

ص: 136

لهم حقهم، فأحبهم بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهلك مع الهالكين، والعياذ بالله تعالى.

فائِدَة

قد تُفهم الإشارةُ إلى مدح الخلفاء الراشدين وأهل الشورى، وذم من بعدهم والباغين عليهم من الآيات التي في سورة الشورى بعد قوله تعالى:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .

فقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إشارة إلى الصديق رضي الله عنه.

أما إيمانه: فيشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: "لو وُزِنَ إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم إيمان أبي بكر".

وأما توكله: فيشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، أبو بكر منهم". قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يكوون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون".

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} إشارةٌ إلى عمر رضي الله عنه.

أما تركه للفواحش: فيشهد له حديث: "ما سَلكتَ فجًا إلا سلك الشيطان فجًا غير فجك".

وأما مغفرته عند الغضب: فيدل له حديث عيينة بن حصن لما دخل عليه، فقال: هيه يا بن الخطاب؛ فوالله إنك لا تعطينا الجزل، ولا تقسم فينا بالعدل. فغضب عمر رضي الله عنه حتى همّ أن يُوقع به.

فقال ابن أخيه حُرُّ بن قيس: يا أمير المؤمنين؛ إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وهذا من الجاهلين. فوالله ما تعداها عمر حين سمعها، وكان وَقافًا عند كتاب الله رضي الله عنه.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} إشارةٌ إلى أصحاب الشورى، ومنهم عثمان وعليّ رضي الله عنهم.

ص: 137

وقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} إشارة إلى عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، ونحوهما.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} إشارةٌ إلى عليّ كرّم الله وجهه، وأن ما فعله من انتصاره على أهل البغي مما يُثَابُ ويُمدح عليه.

وكذلك قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} إشارة إلى عفوه وكرمه. ومن ثَمّ نادى يوم الجمل: أن لا يُتبع منهزمهم، ولا يُجهز على جريحهم، ولا تؤخذ أموالهم.

وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إشارةٌ إلى نُزولِ الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة، وعفوه عن إساءة معاوية رضي الله عنه وأهل الشام، وإصلاحه بين المسلمين، وحقنه دماءهم.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} : إشارةٌ إلى من ظلَم المذكورين وقتلَهم، أو بغى عليهم؛ كقاتِل عمر وقتلَة عثمان وقاتِل علي رضي الله عنهم، والخارجين عليه؛ كالحرورية.

وقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} إشارةٌ إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وقيامه على يزيد، وقتاله على حقه إلى أن قتل هو وأهل بيته.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إشارةٌ إلى يزيد ومن بعده من بني أمية وغيرهم، والله أعلم برموز كتابه، وأسرار خطابه.

تنبيه

ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الآيات بعد المئتين"، وهذا يحتمل بعد المئتين من الهجرة، ويحتمل بعد المئتين بعد الألف.

ويُؤيد الأول: أن جميع أو أكثر الآيات المذكورة؛ من الزلازل، والرياح، والرجفات، ومطر الدم، والحجارة، وفتن الاعتزال، والقرامطة، والزنج، وصياح الطير، والصيحة من السماء، والغرق، والنار، وغير ذلك مما مر مُفصلًا إنما وقعت

ص: 138

بعد المئتين في أواخر خلافة المأمون، إلى أن كَثُر في زمن المتوكل جدًا، وتوالى.

ويَدُل له أيضًا حديث: "خياركم بعد المئتين كل خفيف الحاذ"، وما رُوي مع ضَعفٍ:"لا يولد بعد المئتين مولود لله فيه حاجة".

وعلى هذا، فلا يتقيد ظُهور الآيات القريبة من الساعة بما بعد المئتين بعد الألف، ولو سُلّم أن المراد هو الاحتمال الثاني، وأنه المئتان بعد الألف فلا يلزم تأخر المهدي إلى ذلك الوقت؛ لجواز أن يخص الآيات ببعضها؛ كالدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وهدم الكعبة، ونحوها.

وعلى كل تقدير: فظهور المهدي على رأس هذه المئة محتمل احتمالًا قويًا ظاهرًا، وإن تأخر عنها فلا يتأخر عن المئة الثانية قطعا (1).

ونسأل الله تعالى أن يُميتنا على الإيمان غير مفتونين ولا مُبدّلين.

وكل واحدةٍ من هذه الفتن تحتمل مُجلدًا، بل تفصيلها يحتمل مجلدات، وإنما اختصرنا وأشرنا إليها إشارةً؛ لأنها غير مقصودة حيث مضت، والمقصود ما نحن بصدده، ولئلا يَمَل السامعون، ولأن الوقت لا يَسعُ غير ذلك؛ فإن الموسم قريب، ولأن تفصيلها يُورث قسوة القلب والضَغائِن وما لا ينبغي، والمهم ذكر ما يلين القلوب ويحزنها ويزجرها عن الغفلة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

(1) سيأتي التعليق على هذه المسألة لاحقًا في حاشية (ص 344).

ص: 139