الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
الأمير خالد - من دمشق إلى الجزائر
كان صورة عن عصره، ومرآة انعكست عليها أحداث أمته ووطنه، غير أنه لم يكن مجرد صورة سلبية أو مرآة جامدة فحسب، بكلمة أوضح، لم يعش حياته العامة منفعلا بقدر ما كان فاعلا، ولم يشترك في أحداث قومه متأثرا بقدر ما كان إيجابيا ومؤثرا. لقد حمل في أعماق نفسه، وهو ما زال صغيرا، جراح أسرته، وما كانت تعانيه من مرارة البعد عن الوطن، وضغوط القهر. وصحيح أن العالم الإسلامي كان في تلك الحقبة التاريخية مفتوح الرحاب أمام كل المسلمين للحركة والتنقل، لا حدود ولا سدود أمام الإنسان المسلم في وطنه الكبير، وصحيح أيضا أن العرب والمسلمين قد احتفظوا حتى تلك الفترة بعاداتهم وتقاليدهم الموروثة منذ مئات السنين، ومنها استعدادهم الدائم للارتحال والاستيطان في أي مكان يختارونه، وأي موقع يريدونه في كل ديار الإسلام. وصحيح بعد ذلك، أن دمشق الخالدة بقيت أبدا كعهدها، قاعدة صلبة للعروبة والإسلام، بحيث يستطيع الإنسان
المسلم أن يركن إليها ويرتاح فيها، ويجد في رحابها أهلا تربطه بهم وتشدهم إليه روابط الإسلام الوشيجة. غير أن الظروف التي أحاطت بانتقال أهله وعشيرته وذوي قرابته وبني قومه، لم تكن في كل الأحوال ظروفا طبيعية.
لقد احتل الاستعمار الإفرنسي موطن الآباء والأجداد. وقام جده بتولي قيادة الجهاد في سبيل الله، حتى إذا ما انتصر الباطل على الحق في غفلة من الزمن، لم يعد باستطاعة قائد الأحرار البقاء فوق ميادين جهاده ومنتجع قومه، فغادر موطن صباه، ومضى في رحلة العمر الشاقة حتى وصل (دمشق). وهنالك، استقر بمن معه، واستمرت دورة الحياة في مسيرتها. فكبر الأبناء وتكاثر الأحفاد. وكان منهم ذلك الشاب الذي نشأ وهو يحمل في أعماق نفسه آمال أمته وآلامها، ذلك هو الأمير خالد بن الهاشمي بن الحاج عبد القادر الجزائري، أبرز قادة المقاومة الجزائرية في وجه الاستعمار الإفرنسي.
ولد الأمير خالد في دمشق يوم 20 شباط - فبراير - 1875. وكان أبوه الهاشمي بن الأمير عبد القادر، أما أمه فكانت سوداء. ولم يكن العرب، المسلمون، يفرقون بين العروق والأجناس منذ أن أطلق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم صيحته الإنسانية الخالدة في الديار المقدسة:(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). وهكذا نشأ خالد في (بيت التقوى). وتردد على معاهد دمشق الدينية، وأمضى في رحاب دورها ومساجدها ومراتعها مرحلة طفولته المبكرة وشبابه الغض، حتى إذا ما بدأ ساعده
يصلب على الحياة، وحتى إذا ما أخذ عوده يقسو على الأيام، قرر (الهاشمي) العودة إلى الجزائر، في سنة 1892، وخلف وراءه مئات الأفراد من أبناء عمومته، ممن ضمتهم الدولة العثمانية إلى أجهزتها وقياداتها العسكرية والسياسية والإدارية، ومضى الأمير خالد وأخوه في رفقة أبيهما إلى موطن الآباء ومثوى الأجداد في (الجزائر المحروسة).
لم يستقر الأمير خالد في الجزائر طويلا، إذ لم تمض سوى أشهر قليلة حتى تم إرساله وأخيه إلى باريس للدراسة في ثانوية
(ليسيه لويس لوغيراند) بصفتهما طلابا داخليين يتقاضى المعهد منهما التعويضات المقررة للدراسة.
استخدمت السياسة الاستعمارية الإفرنسية، في جملة وسائلها، أسلوب اختيار أبناء زعماء البلاد الخاضعة لاستعمارها، وضمهم إلى الجيش، فكانت بذلك تحتفظ بهم كرهن - رهائن -. وتضعهم في الوقت ذاته تحت مراقبتها المباشرة، بالإضافة إلى استخدامهم لضرب الحركات الوطنية إذا ما تطلب الأمر.
وميزت السلطات الإفرنسية بين هؤلاء الذين يقبلون التخلي عن جنسيتهم ويقبلون الجنسية الإفرنسية، حيث كانت تفتح لها المجالات للترفيع في سلم الرتب العسكرية، مع تعيينهم في القوات الإفرنسية. أما أولئك الذين يرفضون اعتناق الجنسية الإفرنسية، فكان ترفيعهم يتوتف عند رتبة نقيب (كابتن)، مع تعيينهم في القوات الوطنية فقط (الأنديجين). وعلى هذا، قبلت
الكلية العسكرية الإفرنسية (سان سير)(1) الأمير خالد - بدون إجراء الفحص العادي للقبول - وذلك في 7 تشرين الثاني - نوفمبر - 1893. وحاولت الإدارة الإفرنسية قبول الأمير خالد لا كأجنبي، وإنما كمواطن فرنسي - على أمل قبوله الجنسية الإفرنسية قبل تخرجه من الكلية.
وأظهر الأمير خالد تفوقا واضحا في دراسته العسكرية، غير أنه ترك الكلية قبل الوقت المحدد لامتحانات التخرج - وغادر باريس في مطلع سنة 1895. وذكر أن السبب في ذلك هو ما تضمنته إضبارته من أوصاف في غير مصلحته مثل:(متكتم منطو على ذاته، يميل إلى العنف، يحتقر رؤساءه ويزدريهم). والحقيقة أن سبب تركه للكلية هو إصابة والده بمرض وصل به إلى مرحلة خطيرة، ونفاد موارده المالية، مما دفعه إلى استدعاء ابنه خالد للوقوف إلى جانبه في آخر أيامه. المهم في الأمر هو أن حكومة باريس شعرت بالقلق تجاه تقلب مزاج الأمير الهاشمي، ونواياه المضادة لفرنسا. علاوة على الديون الضخمة التي بات يرزح تحت أعبائها، مما قد يدفعه إلى الثورة أو ترك الجزائر مع كل أفراد
(1) سان سير: (SAINT CYR L'ECOLE) مدينة صغيرة تقع في مقاطعة (السين والواز - SEINE ET OISE) في دائرة فرساي. وبها الكلية الحربية التي تحمل اسمها، وقد أنشئت هذه الكلية سنة 1808 في منزل قديم كان شيد لتعليم الفتيات الصغيرات في سنة 1685 - أيام الملك لويس الرابع عشر، وبإشراف السيدة مانتونون: MAINTENON وقد دمرت الكلية الحربية أثناء الحرب العالمية الثانية
(1940 - 1944) فنقلت مؤقتا إلى كوتكيدام COETQUIDAM سنة 1947. وأعيدت بعد ذلك إلى مكانها في (سان سير).
أسرته مما قد يثير النقمة في ظروف كانت الإدارة الإفرنسية تحرص كل الحرص خلالها على تهدئة البلاد وإخماد عوامل النقمة. وعلى هذا تلقى رئيس المباحث الخاصة أمرا بإعاقة سفر الأمير خالد إلى الجزائر. ولكن هذا الأمر لم يكن ليعيق عائلة الأمير الهاشمي من ركوب البحر بصورة سرية ومغادرة الجزائر، وعلى هذا فرضت السلطات الإفرنسية على عائلة الهاشمي الإقامة الإجبارية في (بوسعادة).
وكانت السلطات العسكرية الإفرنسية تتابع باهتمام ما كانت تقوم به السلطات المدنية من أعمال ضد عائلة الهاشمي، وأدركت مدى الخطأ الكبير الذي وقعت فيه هذه السلطات المدنية، فأخذت على عاتقها تصحيح الموقف، ونجح الجنرال (كوليه)(1) في رفع هذه العقوبة، وأعيد قبول الأمير خالد من جديد في الكلية الحربية (سان سير) فالتحق بها يوم 15 أيار - مايو - 1896 وذلك لإكمال المدة المحددة لدراسته العسكرية.
تجاوز الأمير خالد هذه البدايات الشاقة، ورفض قبول الجنسية الإفرنسي، ولم يبق أمامه إلا متابعة حياته العسكرية العادية (ضابطا في جيش المواطنين الجزائريين)(2).
تخرج الأمير خالد برتبة ملازم ثان في الجيش، وكان عليه الانتظار لمدة خمس سنوات حتى يتم ترفيعه لرتبة ملازم - هذا في
(1) كوليه: GENERAL COLLET MEYGRET.
(2)
ضابطا في جيش المواطنين - ترجة الاصطلاح: OFFICIER AU TITRE INDIGENE.
حين كانت المدة المحددة للترفيع هي أربعة أعوام فقط - ولم يكن باستطاعة الأمير خالد تفسير هذا التأخير إلا أنه وسيلة للإزعاج المتعمد. وقد مارس الخدمة في وحدات فرنسية لمدة سبعة أعوام وذلك خلافا لرغبته حيث كان قد طلب تعيينه في إحدى كتائب الصبايحية الجزائرية. وكان تعليقه على ذلك - في وقت لاحق - بما يلي: (لقد كنت دائما، وبدون أي حجة أو ذريعة موضعا للشبهات والشكوك).
كان الأمير خالد يعاني في هذه الفترة من الإحباطات المتتالية، فقد كان يعتبر نفسه ممثلا لقومه، غير أن السلطات الإفرنسية لم تكن لتتعامل معه إلا كملازم في الجيش الجزائري. ولعل هذا ما يفسر سبب إرساله لبرقية التهنئة التالية لرئيس مجلس النواب
الإفرنسي في الأول من كانون الثاني - يناير - 1902: (لنضرع إلى الله من أجل رفاه فرنسا وعظمتها). وقد رد الرئيس الإفرنسي على هذه التهنئة، غير أن الحاكم العام للجزائر تدخل في الأمر، وعمل على تأخير تسليم الرد حتى يوم 14 تموز - يوليو - حيث مناسة عيد الثورة الإفرنسية.
وكان الأمير خالد قد طلب في سنة 1900 منحه لقب - آغا - غير أن السلطات الحاكمة في الجزائر رفضت الاستجابة حتى لهذا الطلب المتواضع الذي لا يشير إلا إلى رغبة الأمير في تجاوز حدود رتبة الملازم - التي هي رتبة أصغر من شأنه دونما ريب -. وخلال ذلك، لم تكن هموم مواطنيه لتغيب عن أنظاره، مما تركه نهبا لمشاعر القسوة والمرارة. يضاف إلى ذلك ما كان يعانيه من نقص
الموارد المالية، الأمر الذي جعله - كأبيه - ساخطا باستمرار على مجمل الأوضاع العامة والخاصة في أموره الحياتية.
المهم في الأمر، هو أن الأمير خالد نقل لفترة قصيرة، للخدمة في كتيبة الصبايحية الأولى، في سنة 1904 أو1905، وفي سنة
1907، استدعيت كتيبته للعمل في المغرب - مراكش - للإسهام فيما أطلق عليه صفة (عمليات تهدئة الشوايا). وأظهر الأمير خالد كفاءة عالية في قيادة قوته تحت نيران المعركة، الأمر الذي استحق الإشادة بسلوكه في تعميم (الأمر اليومي للجيش). وتم ترفيعه سنة 1908 إلى رتبة نقيب (كابتن) فكانت هذه أعلى رتبة يمكن أن يبلغها طابط جزائري لا يحمل الجنسية الإفرنسية. وكان رؤساؤه قد وعدوه بمنحه وسام جوقة الشرف (ليجيون دونور) تقديرا لجهوده وبطولته، كما وعدوه بتعيينه نائبا للحاكم العام للجزائر غير أن شيئا من هذه الوعود لم يتحقق. ومقابل ذلك، أقر له الحاكم العام للجزائر حتى تقاضي تعويض سنوي قدره (2800) فرنك إفرنسي، تم رصده في موازنة الجزائر، بالإضافة إلى التعويض السنوي الذي كان يتلقاه من وزارة الخارجية الإفرنسية، شأنه في هذا التعويض شأن كل ورثة وأحفاد الأمير عبد القادر الذين كانوا يتقاضون تعويضات مماثلة. وعلم الأمير خالد في هذه الفترة بأن رئيسه قد تلقى توبيخا من الحاكم العام للجزائر، لأنه أرسل الأمير خالد إلى (الشوايا) بدون استشارته أو أخذ رأيه.
لقد كانت الإدارة الإفرنسية ترغب يقينا في عدم إتاحة الفرصة أمام الأمير خالد للحصول على هيبة عسكرية، غير أن سلوكه في
المغرب ضد رغبة الإفرنسيين هو الذي ساعد الحاكم العام للجزائر عل اتخاذ موقفه العدواني، فقد كانت فرنسا تتظاهر بالحياد من الصراع الدائر في المغرب بين السلطان عبد العزيز وبين ابن عمه الثائر ضده مولاي عبد الحفيظ. وقد اتخذ الأمير خالد موقفا صريحا إلى جانب السلطان عبد العزيز، وعندما نجح مولاي عبد الحفيظ في خلع السلطان، حاول التحرك لدعمه. وهكذا اتجه الأمير خالد للاتقاء بعمه الأمير عبد الملك الذي كان قائدا سابقا - جنرالا - في الجيش العثمانى، ثم انتقل للعمل مع القوات الإفرنسية، فقاد رتلا فرنسيا من طنجة بهدف استثارة القبائل لمصلحة السلطان المخلوع والذي لجأ إلى طنجة. وصرح الأمير خالد فيما بعد - بأنه تحرك لإنقاذ عمه ودعمه، وذلك بعد أن أعلم رؤساءه بتحركه. وزعمت السلطابت الإفرنسية أن هذا التحرك قد سبب لها حرجا كبيرا في المغرب - وفقا لتقيوم الجنرال ليوتي الحاكم العام للجزائر -. وصدر الأمر إلى النقيب خالد بتجنب إجراء أي اتصال مع عمه الأمير عبد الملك.
اعترفت فرنسا بنظام السلطان الجديد - مولاي عبد الحفيظ، وأصبح الأمير خالد خصما في نظر النظام الجديد في مراكش - المغرب - ولم يعد باستطاعته العودة إلى المغرب بصفته ضابطا في الجيش الإفرنسي. وهكذا فعندما جاء دور كتيبته للتوجه إلى (وجدة) في سنة 1910، طلب إليه عدم مرافقة كتيبته من جند الصبايحية، الأمر الذي أغاظ الأمير خالد، ودفعه إلى الاستقالة من الجيش في نيسان - إبريل - 1910. وهنا تدخل قائد الفيلق
الإفرنسي التاسع عشر - الجنرال بايود - (1) والذي كان شأنه شأن معظم القادة الإفرنسين ممن كانوا ينظرون بتقدير كبير لكفاءة الأمير خالد وقدراته. وطلب إلى السلطات الإفرنسية في الجزائر السماح له بضم الأمير خالد إلى قواته في الدار البيضاء - كازابلانكا - غير أن وزير الخارجية الإفرنسية رفض هذا الطلب بتحريض من الحاكم العام للجزائر - الجنرال ليوتي -. غير أن الجنرال بايود نجح في النهاية بإقناع الأمير خالد بالعدول عن استقالته وسحبها، كما حصل له على إجازة من القيادة في تموز - يوليو - 1911، لمدة أشهر عديدة يقضيها في دمشق.
وعندما عاد إلى كتيبته في سنة 1912 كان على هذه الكتيبة ركوب البحر، والانتقال إلى المغرب، وعادت المشكلة للظهور من جديد: ماذا يفعلون بالأمير خالد؟ وقام الجنرال بايود بطرح المشكلة مباشرة على الجنرال ليوتي، بقوله:(يجب أن يرافق الأمير خالد سريته، ذلك لأنه إن لم يرافقها فسيصاب بحرج - معنوي - قد يدفعه ليصبح عدوا). ولكن الحاكم العام للجزائر، ليوتي، أجاب بقوله: (إني أعرف خالدا معرفة وثيقة جدا،
(1) الجنرال بايود: GENERAL BAILLOUD- قائد إفرنسي، كان الأمين العام لرئيس الجمهورية الإفرسة فيليكس فور FELIX FAURE ،1895 - 1899. ثم تولى قيادة الفيلق التاسع عشر في الجزائر والتابع للجيش الإفريقي، وأحيل إلى التقاعد سنة 1914، فرشح نفسه لانتخابات المجلس النيابي - نائبا عن الجزائر - وممثلا لجبهة الدفاع عن العلاقات الإسلامية - الإفرنسية. غير أن خصمه (بروسيه - BROUSSAIS المدافع عن مصالح الاستعماريين - الكولون - فاز عليه في الانتخابات.
واعترف له بذكائه الحاد جدا، وبإخلاصه لأصوله ووفائه بالتزاماته تجاه تقاليده العرقية. غير أنه سبب حرجا لنا في أزمة سنة 1908. إنه عنصر شغب واضطراب. خذه إلى الجزائر).
على كل حال، لقد شعر النقيب خالد بالشكوك وهي تحيط به، فقرر أخذ المبادأة، وتقدم إلى حكومة باريس بطلب لإعفائه من الخدمة وتسريحه من الجيش، ولم يستسلم للوعود أو الإغراءات بإمكانية استدعائه في وقت لاحق للخدمة في المغرب - مراكش -.
ولم يبق أمام وزير الحربية الإفرنسي (ميسيمي) إلا أن يعبر عن أسفه، وقبل اسقالة النقيب خالد في 15 حزيران - يونيو 1913. ولكن هذه الاستقالة حددت على شكل إجازة مفتوحة لمدة ثلاث سنوات، ومنح وسام جوقة الشرف برتبة فارس للأمير خالد مكافأة له على شجاعته في حملة سنة 1908.
حانت الفرصة التي طالما تطلع إليها الأمير خالد وهي الانتقال للعمل السياسي، وإظهار خصومته الدفينة للاستعماريين. ولم يبق لديه مجال للانتظار، فقد تفجرت القروح التي طالما عانى من آلامها بعد كل تلك المتاعب والعقبات. فبدأ بالتدخل منذ سنة 1913، في الانتخابات المخصصة لاختيار المندوبين الماليين. وعمل على دعم أحد أصدقائه (زروق الحلاوي) ضد مرشح الإدارة الإفرنسية (بن سيام) وكان الفشل من نصيب صديق الأمير خالد.
وأفادت الإدارة الإفرنسية من هذه المناسبة لتوجه إلى الأمير خالد اتهاما: (بأنه يخطط لإثارة الاضطرابات) وأنه (يحرض على
توجيه الانتخابات بصورة سيئة) وأنه يجب - نتيجة لذلك حرمانه من (التعويض السنوي الذي يتقاضاه من خزانة الجزائر). فكان رده على ذلك: (بأنه لم يترك له الخيار لخدمة فرنسا من أجل المال). ولم يعد من الصعب على الأمير خالد اتخاذ قراره للمضي قدما في مجال الصراع السياسي. وقد التف حوله أصدقاؤه وهم يشجعونه لممارسة دوره السياسى. وقال الأمير خالد فى ذلك: (لم أرغب أبدا أن أكون أكثر من جندي. غير أني لم أعد قادرا على الخدمة منذ الآن فصاعدا، بدون أن أخسر علاقاتي بفرنسا وبإخواني في الدين).
بدأ الأمير خالد اعتبارا من هذا التاريخ في الظهور كواحد من أبرز قادة حركة (الجزائر الفتاة) وكانت هذه الحركة السياسية قد أخذت طريقها إلى الظهور منذ سنة (1900) وضمت في صفوفها نفرا من الشباب الجزائريين المسلمين الذين تلقوا دراساتهم في المدارس الإفرنسية بالإضافة إلى العناصر المستقلة من رجال الإدارة الإفرنسية. وبذلت الحركة جهدا واضحا لضم العناصر المثقفة والنشطة والتي تعتقد بجدوى الدمج مع فرنسا، مع فتح المجال أمام المسلمين، لتمثيلهم بدرجة أكبر في المجالس المحلية وأجهزة الإدارة الوطنية.
وقد اصطدمت هذه الحركة، منذ البداية، بالإدارة الإفرنسية في الجزائر والصحافة التابعة لها، غير أنها لقيت بالمقابل دعما قويا من فرنسا، ومن الشخصيات السياسية الليبرالية بصورة خاصة (1)
(1) كان في مقدمة هذه الشخصيات ألبان روزيه ALBIN ROZET.
غير أن حركة (الجزائر الفتاة) بقيت حركة محدودة لا تمثل أكثر من فئة محدودة من المواطنين، ولا تحتل مركزا مناسبا بين مراكز القوى المتصارعة على الساحة الجزائرية - الإفرنسية. وقد حاولت الحركة إقناع الرأي العام في أوساط المسلمين بقبول الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإفرنسي (والتي فرضت بموجب قانون صدر سنة 1912)، وذلك مقابل منح المواطنين المسلمين الحقوق السياسية. غير أن الحركة فشلت في إقناع المسلمين كما فشلت في الحصول على الحقوق السياسية. ورفض المسلمون المحافظون الذين كانت تدعمهم الإدارة الاستعمارية الجزائرية الاعتراف بحركة (الجزائر الفتاة) التي اعتبروها حركة لا تمثل إلا الشباب السياسي الطموح.
أما الاستعماريون فكان رأيهم حاسما وواضحا: (اطردوا هؤلاء الشبان الأتراك - أنصار الجامعة الإسلامية). في حين كان الموقف في فرنسا مناقضا تماما لموقف الاستعماريين في الجزائر، حيث أخذت أكثر العقول السياسية المتطرفة في مناصرة حركة (الجزائر الفتاة) والمطالبة بفتح المدن الإفرنسية أمام هذه النخبة المتطورة، وذلك تجنبا لما قد يحدث في المسقبل من اضطراب أو ثورة. وكان هذا الموقف السياسي لحركة (الجزائر الفتاة) الذي يصدم الإدارة الإفرنسية في الجزائر، هو الذي جذب إليه الأمير خالد بن
= ومسيمي: A. MESSIMY وآبيل فيري: ABEL FERRY وجورج ليغس: GEORGES LEYGUES وجورج كليمنصو: GEORGES CLEMENCEAU.
الهاشمي. وقد كان هناك يقينا بعضا من التناقض بالنسبة لهذا الضابط، الذي يمثل في سلوكه السيد الشرقي الكبير والذي أخذ إخوانه في مناداته منذ ذلك الحين (بالأمير خالده). ثم أصبح لزاما عليه أن يمثل دوره السياسي، باعتباره بطلا لنظام الدمج مع فرنسا.
غير أن هذا التناقض لم يكن مثيرا في تلك الحقبة التاريخية، وها هو نائب نانسي - المقدم دريانت - يقدم الأمير خالد إلى أعضاء الحركة بقوله:(إنه رجل له مكانته السامية، يتحدث باللغة الإفرنسية بطريقة مثيرة للإعجاب، وهو يعرف تماما متطلبات مواطنيه واحتياجاتهم، وليس إخلاصه لهم بالأمر المثير، كما أنه من غير المثير أيضا وفاءه بالتزاماته تجاه فرنسا وطنه بالتبني). ثم أليس الأمير خالد، واحدا من هذه النخبة المختارة من أبناء المسلمين الذين اكتسبوا الظواهر الإفرنسية واللسان الإفرنسي، مع بقائهم أوفياء لتقاليدهم العربية وعقيدتهم الإسلامية؟ وهل باستطاعة الأمير خالد التنكر لما يحق له أن يفخر به من أصالة المولد ونبل المحتد، الشريف، بالإضافة إلى تلك السنوات الطوال التي عاشها في ظروف متناقضة وصعبة؟ فلماذا لا يمارس بعد ذلك الدور الذي يتناسب مع تكونه الطبيعي وليعمل على استرداد الحقوق السياسية المسلوبة من قومه؟ وليحاول أن يكون مفيدا لقومه ولإخوانه في الدين بما لا يتناقض مع مصلحة فرنسا.