الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
الثورة الجزائرية (1897 - 1899)
ومواقف الاشتراكيين
باتت المواقف العقائدية - المبدئية - للاشتراكيين تجاه الاستعمار والامبريالية معروفة تماما. غير أن هذه المواقف، ليست كذلك تجاه العمل السياسي للاشتراكيين في تعاملهم مع القضية الجزائرية. وفي الحقيقة، فإنه لم يكن للاشتراكيين الإفرنسيين مواقف واضحة وموحدة، مع الاستعمار أو ضده، وعلى هذا، فإنه بالإمكان اعتبار (جوريس)(1) و (بلوم) ومدرستهما الاشتراكية نموذجا لما كانت عليه مواقف الاشتراكيين الإفرنسيين من القضية الجزائرية.
(1) جوريس - جان (JAURES JEAN) رجل سياسي فرنسي. من موايد كاستر CASTRES (1859 - 1914) اشتهر ببلاغته في الخطابة وقوى حجته. وهو واحد من أبرز الزعماء الاشتراكيين الإفرنسيين، أسس جريدة أومانيتيه L'HUMANITE كما أسس الحزب الاشتراكي الموحد. مارس دورا كبيرا في إضراب مقاطعة كرامو CRAMAUX وفي قضية اليهودي دريفوس DREYFUS وقد اعتبر ممثلا للاشتراكية والفكر الاشتراكي ورائدا من رواده لا في فرنسا وحدها وإنما على المستوى العالمي. وقد قتل غيلة غشية يوم اندلاع الحرب العالمية الأولى.
كتب (جوريس) بأن أول معرفة له بالقضية الجزائرية، قد جاءته عن طريق (محاسب معهد كاستر) حيث كان (جوريس) في سنته الدراسية الثالثة عشرة. وإن هذا المحاسب ذكر له بأنه أمر حاجبه بمساعدته من أجل ضرب عامل الحديقة ضربا مبرحا. وذلك عندما كان يعمل في الجزائر، لأن عامل الحديقة العربي تجرأ على استخدام (المرحاض) الخاص ببيت المحاسب فشعر الشاب اليهودي جوريس (بالهوة التي انحدرت إليها عبودية الإنسان) وكتب عن ذلك ما يلي: (شعرت بالشفقة الكبيرة تجاه هذا العرق
العربي، الذي يعمل الجنود والقسس على تجريده وسلبه كل حقوقه. وتخيلت هذا الرجل وقد جلس يحكي لأطفاله، بكل هدوء، تلك الأعمال البشعة والمجردة من الشجاعة. ولا ريب أن العادة المستمرة في ممارسة الضغط غير المسؤول قد جرد هؤلاء الناس من ضمائرهم).
تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة (الشفقة على مخلوقات المستعمرات - من العرب المسلمين خاصة) كانت في تلك الفترة هي البدعة السائدة - المودة - في وسط دهاقنة الاستعمار. فتولى الجمهوريون الإفرنسيون، قضية الدفاع عن حقوق مواطني المستعمرات. وعمل (بول بيرت) وزير التعليم الإفرنسي، على تشكيل (جمعية حماية الجزائريين) في سنة 1883، وكذلك عمل الاقتصادي (ليوري - بوليو) صاحب نظرية التوسع الاستعماري والذي ترأس (الجمعية الإفرنسية لحماية أبناء البلاد الجزائريين). ومن المعروف أن (ظاهرة الشفقة) هذه كانت مرتبطة تاريخيا بعملية النهب الاستعماري، واستغلال اليد العاملة في المستعمرات.
المهم في الأمر، وبصرف النظر عن تلك البدايات لذكريات (جوريس)، فإن اهتمامه بالقضية الجزائرية لم يظهر واضحا قبل رحلته إلى الجزائر في (نيسان - أبريل - 1890) ويذكر عنه أنه أثار أمام التحالف الإفرنسي في سنة 1884:(ضرورة نشر اللغة الإفرنسية في المستعمرات، وبصورة خاصة بين العرب والقبائل، وذلك لمساعدة المستعمرين الإفرنسيين في مهمتهم الصعبة لإنجاح عملية الدمج والغزو المعنوي). وكان من رأيه في عملية الدمج: (بأنه ليس هناك في الجزائر حاليا إلا جمع من الناس المغلوبين على أمرهم ومائة ألف من المنتصرين. وليس هناك ما يمكن أن يطلق عليه اسم (شعب حقيقي) إلى جانب (الشعب الإفرنسي) وهذا ما يتطلب تعميم اللغة الإفرنسية).
وكان الشاب (جوريس) في تلك الفترة، مرشحا للبرلمان على لائحة (الاتحاد الجمهوري) في سنة 1885. ولهذا لم يكن من
الغريب أن يظهر تعلقه بسياسة التوسع الاستعماري للجمهوريين، وكان قوله المعروف في ذلك:(لقد أضاعت علينا الإمبراطورية إقليمين ومنحتنا الجمهورية مستعمرتين) والمقصود بالإقليمين: الألزاس واللورين اللذين فقدتهما فرنسا بنتيجة حربها مع بروسيا سنة 1870 وانهارت على أثرها إمبراطورية نابوليون الثالث، أما المقصود بالمستعمرتين فهما: المغرب العربي الإسلامي والمكسيك.
في الوقت ذاته، لم يحاول (جوريس) التستر أو إخفاء إعجابه بالاستعماري (جوليوس فيري) الرجل الذي استطاع خلال ثلاث
سنوات: (نقل مركز ثقل فرنسا إلى بلاد بعيدة فيما وراء البحار). وفي سنة 1887 (استنفر كل إمكاناته لإثارة حماسة الجنود وفخر المواطنين بانتصارهم على القبائل، واحتفل بأبطال هذه المعارك الرائعة). ولم يعرف عن (جوريس) أنه أظهر اهتماما بتلك المناقشات البرلمانية بشأن القضية الجزائرية، لا بصفته نائبا في مجلس النواب، ولا بصفته صحافيا، ولا حتى بصفته ممثلا لليسار. مع العلم أن تلك المناقشات التي احتدمت في سنة 1892، قد استأثرت باهتمام الجميع.
لم يعد (جوريس، نائبا عن الجمهوريين في سنة 1893، وإنما أصبح ممثلا للاشتراكيين. وبصفته هذه ذهب إلى الجزائر - لاكتشافها والتعرف عليها - في نيسان - أبريل 1895. وفي الجزائر، اشترك جوريس (بالمؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي العمالي الجزائري،،ولم يعرف عن (جوريس) أنه تحدث في هذا المؤتمر، أو تعرض لأي موقف من المواقف. وما إن مضى شهر على مغادرة (جوريس) للجزائر، حتى فرضت السلطالت الإفرنسية الحصار على (65) عضوا من أعضاء المؤتمر في ضاحية (مصطفى) - حاليا حي الجزائر - خلال أيام 22 و23 و24 حزيران - يونيوا - ولم يحرك (جوريس) ساكنا حول هذه القضية. وعبر (جوريس) عن مشاعره تجاه (المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي العمالي الجزائري) بقوله:(من المعتقد بأن الجزائر المستعمرة تسير في طريقها نحو الاستقلال الإداري، وستعلن بحزم أنها ضد اليهود). كما أعلن عند مغادرته للجزائر: (بأنه من الصعب القيام بعمل له أهميته بشأن الجزائر).
يمكن هنا التوقف قليلا عند مقولة (ضد اليهود) وهي التي سبقت مقولة (ضد السامية) في الجزائر. ويتطلب ذلك العودة إلى
ردود فعل المهاجرين اللاتين تجاه اليهود، والذين هاجروا للاستيطان في الجزائر حاملين معهم أفكارهم ومعتقداتهم المضادة لليهود. ومعروف أن اللاتين يحملون حقدا ضد اليهود (قتلة السيد المسيح - بحسب اعتقادهم). وقد بقي هذا الاعتقاد قويا في وسط الإسبانيين الذين استوطنوا في (وهران) والمالطيين والإيطاليين الذين استقروا على ساحل قسنطينة وفي (الجروة). وعندما صدر (قانون كريميو) - بمنح الجنسية الإفرنسية لليهود - أفاد هؤلاء الكاثوليك منه لإثارة الأحقاد في أوساط المواطنين الجزائريين المسلمين، والتظاهر في الوقت ذاته بالأسف لاضطرارهم لمحاباة اليهود الذين أصبحت لكتلة أصواتهم الانتخابية ثقلها في التحكم بانتخاب نوابهم. وأصبحت الحركة المضادة لليهودية في الجزائر، منذ ذلك الحين، قاعدة في لعبة الانتخابات البرلمانية.
تشكلت أول (جمعية ضد اليهود) في الجزائر، غداة انتخابات تموز - يوليو - 1871. وقام أفراد المعسكر الذي فشل في الانتخابات بتوجيه اتهاماتهم لليهود، كما أدانوا قانون كريميو الذي تسبب في إثارة القبائل الكبرى التي احتضنت ثورة المقراني والحداد (سنة 1871). واستخلص الجمهوريون (الانتهازيون) النتيجة من ذلك، فقرروا استثمار القوة الانتخابية لليهود، وأخذوا في إجراء الاتصالات مع سماسرة اليهود الذين تعهدوا لهم بضمان النجاح في الانتخابات بصورة مستمرة. وذهب اليهودي الشهير
(سمعون كانوي)(1) إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد أعطى اسمه لجهازه (الكانوي) الذي ضمن النجاح في الانتخابات (اللحزب الجزائري) طوال عشرين عاما، وهو الحزب الذي كان من أبرز نوابه المعروفين (برتانيا وطوسون)(2).
وأمام هذا الموقف، قرر اليسار الراديكالي - المتطرف - والذي كان محروما من السلطة، استخدام ورقة (الحركة المضادة لليهود) كبوق انتخابي، ولم يلبث أن أطلق على (الحزب الإفرنسي) صفة (الحزب المناضل ضد الحزب اليهودي). وعندما خاض اليساريون الجزائريون الانتخابات البلدية، انبرى الحزب اليهودي لمحاربتهم فأطلق عليهم ألقاب (الانتهازيين الجزائريين) و (نقابة الانتهازيين)، وأمكن لهم دونما كبير عناء الانتصار على اليساريين الجزائريين. وعمل هؤلاء على إثارة الفضائح المتعلقة بتزوير الانتخابات، وأضعفت هذه الفضائح من قوة (الحزب اليهودي) غير أنها لم تزحزحه عن مواقعه. وأمام هذا الموقف، قرر الحاكم العام للجزائر (تنظيف إسطبلات أوغياس)(3) ولم يتردد في إفساح
(1) سمعون كانوي: SIMON KANOUI.
(2)
برتانيا وطومسون: BERTAGNA ET THOMSON.
(3)
تنظيف إسطبلات أوغياس (NETTOYER LES ECURIES D'AUGIAS) تعبير ورد في أسطورة أوغياس (AUGIAS) ملك الأياذة: ELIDE، والذي كانت إسطبلاته تضم ثلاثة آلاف ثور. وقد تركت هذه الإسطبلات بدون تنظيف طول ثلاثين عما. وقد قام ملك مسينا: MYCENE (الملك أوريشينية
EURYSTHENE) بإرسال هرقل (لتنظيف إسطبلات أوغايس) الذي عمل على تحويل نهر ألفيه: ALPHEE لتنظيف الإسطبلات بعمل تمير بالبطولة: وأصبح =
المجال أمام المواطنين الجزائريين المقربين من السلطة، ودعم الراديكاليين المعادين لليهود بصورة سرية. وهكذا ظهرت في
انتخابات سنة 1895، البيانات الانتخابية التي تصف اليهود - بالأجانب والغرباء -. ومنذ ذلك الحين تعاظم نفوذ الراديكاليين اليساريين المدعومين من قبل الإدارة الحكومية. وتبع ذلك اقتراب الحزب الإفرنسي من السلطة، مستفيدا في ذلك من الاستثمارات المالية الضخمة التي كانت تجنيها فرنسا من الجزائر.
لم تكن الظروف السياسية هي التي صنعت كل شيء على كل حال، فلقد انفجرت المشاعر المضادة لليهود اعتبارا من سنة 1895، وكان ذلك بعد الأزمة الاقتصادية الحادة (1893 - 1894) والتي عرفت باسم (أزمة الخمور). وكان باستطاعة المصارف مجابهة هذه الأزمة بسهولة عن طريق تقديم (السلف) للمزارعين الأوروبيين. غير أن المصارف (البنوك) امتنت عن تقديم مثل هذه السلف، بحجة الضغط الكبير الذي تتعرض له والذي يفوق قدرتها. ولم يبق أمام المستوطنين (المعمرين) إلا اللجوء للمرابين من اليهود (مستثمري البؤس والشقاء)؛ وأدى ذلك إلى تعاظم النقمة ضد اليهود، مما أدى إلى انتشار أرجوزة مضادة لهؤلاء المرابين التاريخيين تقول:
= اصطلاح (تنظيف اسطبلات أوغياس) رمزا لما تقوم به قيادات الدول والأحزاب والتنظيمات لتطهير أجهزتها من الفساد، وإعادة تنظيم أمورها الداخلية على أسس سليمة
.
عشنا طويلا في بؤس وشقاء
وعلينا اليوم طرد الغرباء
فلنبعد ولنطرد هؤلاء الغرباء
عصابة اليهود القذرة
وعلى الرغم من كل الظواهر، فقد تبين بوضوح بأنه لم يبق إلا خطوة واحدة للانتقال من الحركة (المضادة لليهود) إلى
(الاسقلال الإداري). وقد أدان (جوليوس فيري) و (جوليوس كامبون)(1) بصورة رسمية، سياسة الدمج التي عرفت منذ سنة 1881 بسياسة (إلحاق الجزائر بفرسا). وكانت سياسة الدمج أو الإلحاق هذه هي سياسة (الانتهازيين واليهود) كما وصفها اليساريون الراديكاليون، ومقابل ذلك تبنى هؤلاء سياسة الاستقلال الإداري للجزائر، وإقامة موازنة خاصة وبرلمان خاص لها. ولقد كان هذا الاتجاه تعبيرا عن ظهور الجيل الجديد من الإفرنسيين الاستعماريين، وهو الجيل الذي أخذ في الجنوح إلى الاستقلال بالجزائر، والذي رفع شعار (الجزائر الحرة). وكان الاعتقاد الأشد في وسط هذا الجيل هو: ضرورة صهر العروق
الأوروبية فوق أرض الجزائر لتكوين شعب جديد - وظهر عدد من
(1) جوليوس كابون: (JULES CAMBON) ديبلوماسي إفرنسي؛ من مواليد باريس (1845 - 1935) أصبح حاكما عاما على الجزائر، ثم سفيرا لبلاده في برلين من سنة 1907 إلى سنة 1914.
الكتاب والزعماء الذين عبروا عن هذا الاتجاه، لعل من أبرزهم (دانييل سوران) (1) الذي كان من رأيه:
(الجزائر غير فرنسا، ولو أن الجزائريين فرنسيون. فغدا أو بعد غد، ستكون الجزائر مستقلة. إن فرنسا ترزح على صدورنا دونما شفقة أو رحمة، وهي بذلك تدفعنا لسوء الحظ نحو المخرج المرعب، وسيأتي يوم لن تكون الجزائر هي فرنسا، هذا إذا لم تصبح عدوة لها). ولماذا لا يستقل الإفرنسيون المهاجرون إلى الجزائر؟ ألم يحصل الإنكليز الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة - على الاستقلال، وحاربوا الإنكليز ذاتهم بقيادة جورج واشنطن؟
وعلى هذا، فعندما عقد المؤتمر الاشتراكي الثالث، بحضور (جورس) سنة 1895. تحدث الخطباء كثيرا عن اليهود، وهاجموهم بعنف، غير أن المؤتمر لم يتخذ توصيات محددة
(1) دانييل سوران: (DANIEL SAURIN) محام وصحفي، بدأ حياته فوضويا وكتب نشرة بعنوان (النظام عن طريق الفوضى) ثم انتهى إلى الإشتراكية. وأصبح في سنة 1898 رئيسا لهيئة (سانت فانسان دوبول)، وزعيما للحركة المضادة للسامية، ثم منظما أساسيا في حركة الإشتراكيين الجزائريين. وهي الحركة التي ولدت في الجزائر في وسط الظروف الاقتصادية الصعبة. وكان ينكر على اليهود (اختلاساتهم واستخدامهم لرأس المال كوسيلة للضغط) غير أنه كان مضادا للسامية بقدر معادل لمعاداته للرأسمالية. وهو الذي نظم المؤتمر الاشتراكي الأول في قسنطينة سنة ثم 1881، ثم المؤتمر الاشتراكي الثاني في بونة. - عنابة - سنة 1893 وبعد ذلك المؤتمر الاشتراكي الثالث سنة 1895 في الجزائر.
وواضحة ضدهم. وتركز الحوار حول الاستقلال الإداري للمستعمرين، وإجراء تشريع يناسبهم.
ومما قيل في هذا المجال: (يجب إعداد القوانين هنا في الجزائر، حيث بإمكاننا الإسهام بدعمها على الأقل، بدون انتظار طويل أو بذل عناء كبير، و (تقضي الضرورة بوضع تشريع يستجيب لحاجات المستعمرين - المستوطنين). ولم يمارس (جوريس) في المؤتمر دورا كبيرا، باستثاء بعض الملاحظات والتوجيهات والتوصيات التنظيمية والإدارية. أما الحوار حول العلاقة مع أبناء البلاد الأصليين - العرب المسلمين - فلم يتعرض له أعضاء المؤتمر إلا من ناحية متطلبات أمن الأوروبيين، ومما قيل بهذا الشأن:(إن الاستجابة لما يرضي - العرب المسلمين - في حدود الشرعية، ستسهم يقينا في إزالة القسم الأكبر من ظواهر العنف القائمة يين الاستعماريين والمواطنين - انديجين).
كان ذلك هو موقف الإفرنسيين - الجزائريين - الاشتراكيين في مؤتمرهم سنة 1895. وخرج (جوريس) من المؤتمر بنتيجة
واحدة وهي: (أن العرب والمستعمرين متفقون في نقطة واحدة على الأقل - وهي عداءهم لليهود). وأمام هذا الموقف كتب
مقالا جاء فيه:
(ما هو التطور الدقيق للممتلكات العربية؟ وما هو العدد الأقصى للعائلات العربية التي انتزع اليهود بمهارتهم ملكيتها؟ ثم ما هي حركة أو معدلات الرواتب بين العرب والأوروبيين؟ ثم ما هي سبل الأوروبيينس والعرب واليهود في مختلف الفروع الإدارية
ومختلف المؤسسات القائمة في الجزائر؟). وطرح (جوريس) قضية تعليم العرب، فأجابه المستوطنون بأنه لا فائدة ترجى من
تعليم العرب الذين يشكلون خطرا في عدائهم للأوروبيين. وعندئذ قال لهم جوريس بحزم: (ألم يحتفظ العرب بمؤهلاتهم الفكرية وقيمهم الأخلاقية؟ أليست لديهم القدرة على سبيل المثال، لإدراك معطيات الأعمال الجيدة، والأخوة الإنسانية والشجاعة والإخلاص والعرفان بالجميل، وهي القيم التي لم تزدهر في التاريخ بمثل ما ازدهرت في التاريخ العربي؟ وبالاختصار، هل توقف عرب الجزائر عن ممارسة دورهم في التاريخ، وأصبحوا يعيشون على هامشه؟).
وحمل (جوريس) على فكرة انفصال الجزائر عن الوطن الإفرنسي، بزعم أنه من المحال فصل السياسة الجزائرية، عن السياسة العامة للاشتراكية الإفرنسية في العالم. وأعلن عن اعتقاده بإمكانات قيام اليهود بدور الوساطة - المصالحة بين الأوروبيين والعرب في الجزائر. وحدد لاشتراكيي الجزائر - الإفرنسيين - دورا مزدوجا: طرد الانتهازيين من اليهود وإبعادهم عن السلطة، وتنسيق جهودهم مع الاشتراكيين الإفرنسيين، والاهتمام كذلك بالعرب - على اعتبار أنهم كتلة من البروليتاريا الفقيرة والمحرومة والتي تعيش أقسى درجات البؤس.
لقد حدد (جوريس) دور الاشتراكية في عالم الاستعمار بقوله:
(لا ينتظر التيار الإنساني منا إيقافه من أجل تصفية شوائبه. وكل ما يجب على الاشتراكيين عمله، هو أخذ المبادأة لتقديم مقترحات إنسانية أو تقديم الاحتجاجات الضرورية، سواء كان الأمر يتعلق
بالهندوس الذين يستعمرهم الإنكليز أو العرب الذين يستعمرهم الإفرنسيون).
استمرت بعد ذلك أعمال التحريض ضد اليهود في الجزائر، جنبا إلى جنب مع نشاط الجيل الإفرنسي الجديد العامل على الاستقلال الإداري. وأمكن بذلك خلق مناخ مثير ساعد على تشكيل موقف درامي، تفجر عن اضطرابات مثيرة في شهر أيار - مايو 1897، حيث دمرت المخازن والمتاجر اليهودية، وقام الأوروبيون بانتهاك حرمة المعابد اليهودية، كما هاجموا العمال العرب في معتقلاتهم، وأشعلوا النيران التي امتدت ألسنة لهيبها لتحرق الجزائر كلها. وامتدت الاضطرابات من مستغانم إلى أنكرمان ثم إلى عين تيموشنت ووصلت إلى وهران ثم إلى الجروة فالجزائر. ووقف رجال الشرطة موقف المتفرج، ولم يحاولوا مجابهة مثيري الاضطراب أو التعرض لهم. كما قامت البلديات بإبعاد اليهود. وعندما استدعت السلطات الجيش للتدخل، أظهر الضباط رغبة في عدم التعرض لمثيري الاضطراب، نتيجة حقدهم ضد اليهود، وتأثرهم بالخائن اليهودي دريفوس (الضابط الإفرنسي الذي خان فرنسا لمصلحة بروسيا)(1).
(1) دريفوس - ألفريد: (DREYFUS ALFRED) ضابط فرنسي، يهودي، من مواليد مولهاوس: MULHOUSE (1859 - 1935). قام بالتجسس لمصلحة بروسيا، فأدانته المحكمة العسكرية في 22/ 12 / 1894 بتهمة الخيانة العظمى، وأرسل إلى (جزيرة الشيطان في غيانا الإفرنسية) حيث قضى خمسة أعوام. ومارس اليهود خلال ذلك نشاطا محموما حتى أعيد دريفوس إلى فرنسا وأعيدت محاكمته، فأدانته المحكمة من جديد، غير أن رئيس الجمهورية (لوبيه) أصدر مرسوما بإلغاء
=
واسؤنفت الاضطرابات طوال الفترة من 19 حتى 25 كانون الثاني - يناير - 1898، وفي هذه المرة:(وخلال دقيقتين فقط، احترقت مخازن اليهود في شارع باب الواد. واقتلعت الأبواب والنوافذ وألقي بها وسط الشارع. وتطايرت البضائع في الفضاء. غير أن أحدا لم يسرق - أو ينهب - شيئا. ولم يشترك العرب في ذلك باستثناء بعض الأولاد). ولم تتوقف الاضطرابات إلا عندما تدخلت كتائب القناصة المسلمين، والتي قامت باعتقال خمسمائة من المتظاهرين. وكانت الظاهرة المثيرة في هذه (الحركة الشعبية الكبرى) اقترانها بطلب الاستقلال والعداء لليهود. واتخذ الاشتراكيون موقفا واضحا من (اللاسامية) ومن العداء لليهود، فكان موقفهم هذا ممثلا بالمقولة التالية:(ليسوا اشتراكيين أولئك الذين يناصبون اليهود العداء).
لقد كان هدف (جوريس) ومدرسته الاشتراكية الإفرنسية، على ما يظهر بوضوح هو: 1 - إصلاح سوءات النظام الاستعماري لمصلحة فرنسا. 2 - إصلاح الإنحرافات اليهودية لمصلحة اليهود ذاتهم. 3 - تنفيذ مخطط دمج العرب المسلمين بالمجتمع الإفرنسي وهو ما تبرزه المقولات التالية:
(لماذا لا يسمح للعرب بانتخاب عدد من ممثليهم الذين يتم
= تجريد (دريفوس) من رتبته، وتبرئته، وفي 12/ 7/ 1906 صدر الحكم ببراءة دريفوس وإلغاء كل الأحكام السابقة. مع منحه وسام جوقة الشرف وإعادته إلى الخدمة. وقد قسمت قضية دريفرس فرنسا إلى معسكرين متصاوعين، معسكر القوى اليمينية والدينية المتعصبة - ضد دريفوس - والقوى التقدمية والليبرالية مع اليهود مع قضية دريفوس
.
استدعاؤهم للحضور إلى هنا بصورة دورية للمثول أمام مجلس الوزراء الإفرنسي من أجل مناقشة ميزانية الجزائر، ومن أجل طرح
رغبات الشعب العربي وتطلعاته، وللاشتراك في المناقشات وفي الاقراع على القوانين التي تتعلق بالجزائر). - غير أن (جوريس) حدد أمام مجلس الوزراء شروط اختيار من يجب منحهم حتى تمثيل الجزائريين - من العرب - أو أن يقتصر هذا الحق على الموظفين والعسكريين المسلمين بالإضافة إلى أولئك الذين تخرجهم المدارس الإفرنسية، و (منح العرب المسلمين ضمانات المواطنين الإفرنسيين، حتى يعتادوا شيئا فشيئا على التنكر للضمانات التقليدية التي يجدونها في كتابهم المقدس - القرآن الكريم).
بذلك يمكن لفرنسا على ما يعتقده (جوريس) امتصاص نقمة العرب المسلمين: (فالغضب عند المسلمين هو أقوى من الخوف) ويمكن عن طريق الاشتراكية: (جمع كل البروليتاريا على صعيد واحد سواء منهم الإفرنسيون أو الإيطاليون أو الإسبان أو العرب البؤساء - وبذلك يتم توحيد كل العروق في الجزائر، وتوفير مناخ الثقة المتبادلة فيما بينهم، و (يبقى موقد العدالة الاجتماعية هو الوسيلة لصهر العناصر المتنافرة التي تثير الاضطراب في الجزائر. وإننا على ثقة بأن المستقبل والسلام، مرتبطان بهذه العدالة).
عقد بعد ذلك المؤتمر الخامس (للحزب الاشتراكي للعمال الجزائريين) في سنة 1902 وقدم فيه، وللمرة الأولى، تقرير عن سياسة الاشتراكيين تجاه المسلمين، وتضمن هذا التقرير: (1 - يجب على البروليتاريا الجزائرية الاهتمام بالمواطنين - المسلمين -
والدفاع عن حقوقهم لفرض المساواة في الرواتب. 2 - تطبيق سياسة الدمج وفرضها بالقوة. 3 - جعل التعليم الإفرنسي إلزاميا ومجاني. 4 - فرض اللغة الإفرنسية على كل المواطنين المسلمين، حتى في المساجد. 5 - منع إصدار الصحف باللغة العربية).
وكان تعليق (جوريس) على هذا التقرير - ما يلي: (أهنىء نفسي وأنا أرى ما يتم اتخاذه من إجراءات ضد الفقر وما يتم التوصية به من مضاعفة لعدد المدارس والمستوصفات، وإحياء تلك الصناعات الوطنية الأصيلة التي كان يمارسها الجزائريون. ومنح هذا الشعب أخيرا الشعور بأن فرنسا تستخدم تجاهه الكرم والطيبة،. وحدد (جوريس) الهدف من ذلك، وهو:(دعم التوسع السلمي بأساليب معقولة لمصلحة فرنسا والحضارة الإفرنسية، وتجنب التوسع عن طريق الغزو العسكري، (1).
عقد بعد ذلك مؤتمر أمستردام سنة 1904، والذي ضم ممثلي اليسار في العالم، وتمخض عن هذا المؤتمر ولادة (الحزب الاشتراكي الموحد). ثم عقد هذا الحزب مؤتمرا في شتوتغارت بألمانيا سنة 1907، واتخذ مواقف واضحة ضد الاستعمار واستغلال الشعوب بعضها لبعض وأدان سياسة الدمج التي كان يتبناها الحزب الاشتراكي الإفرنسي. وأوصى بتوجيه نداء للمسلمين في العالم كله من الهند حتى المعرب، لإعادة بعث مؤسساتهم الدينية، غير أنه كان من المحال تحقيق ذلك، بعد أن
(1) المرجع الرئيسي لهذا البحث - إفرنسي (السياسات الاستعمارية في المغرب - أغرون) ص 152 - 177.
عملت الدوائر الاستعمارية على تحطيم كل القيادات والمؤسسات الدينية في المغرب العربي - الإسلامي.
غير أن الجزائر لم تعدم الوسيلة للتأكيد على أصالتها الثوروية، وبرز ذلك من خلال جهد (الأمير خالد) لتأسيس (حزب الجزائر الفتاة). والغريب في الأمر أن (الحزب الاشتراكي الإفرنسي) لم يحاول بذل أي اهتمام بقضايا المواطنين الجزائريين، إلا عندما اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى، في سنة 1914. وكان ظهور حزب الجزائر الفتاة، في واقعه، وعلى الرغم من كل
الظروف التي أحاطت به، مجرد تعبير عن (يقظة الإسلام). كما كان اشتراك الجزائريين في الحرب، وما قدموه من تضحيات تعبيرا آخر عن (الوجود الإسلامي) غير أن هذا التعبير بقي مرتبطا بالإدارة الاستعمارية. ولعل ذلك هو الذي دفع بالحزب الاشتراكي الإفرنسي إلى إعادة تقويم موقفه من الجزائر الإسلامية وقضيتها.