الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
من الجد عبد القادر إلى الحفيد خالد
عملت الإدارة الاستعمارية في الجزائر، وهي تحكم قبضتها على الوطن الجزائري أرضا وشعبا، على تشويه سمعة الأمير عبد القادر وذلك على نحو ما فعلته مع كل القيادات الجزائرية المتتالية ضمن إطار الحملة الشاملة لتدمير قواعد الصمود، وفصل الجماهير عن قياداتها، وتدمير الجماهير وقياداتها معا بعد ذلك حتى تفرغ الساحة من كل زعامة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
وقد أدرك الأمير خالد ذلك لدى انتقاله بصحبة والده وأفراد عائلته من دمشق إلى الجزائر. فكان لابد له من التصدي لتصحيح المواقف الخاطئة والأفكار المشوهة، ولهذا لم يعد من الغريب عليه أن يحاول الإفادة من كل موقف للتذكير بأعمال جده العظيم، والإشادة بجهوده ومنجزاته، والتذكير بتضحياته ومعاناته. ولم يكن هدف الأمير خالد- يقينا - التأكيد على رابطة عصبية كتلك العصبية الجاهلية، بدلالة عدم وقوفه إلى جانب أقاربه في المواقف التي
تتناقض مع هدفه السياسي.
وهكذا - وعلى سبيل المثال - فعندما نسب إليه سلوك أقاربه من أمثال خاله الأمير علي باشا وابن عمه الأمير سعيد من أعضاء اللجنة الإسلامية لاستقلال الجزائر وتونس، المنشأة في برلين في شهر يناير - كانون الثاني - 1916. رد الأمير خالد على ذلك بقوله:(بأنه يطلب ألا يحاكم إلا على نشاطه السياسي فقط، وعلى أعماله وحدها، لا على أعمال أقربائه). ومن هنا يظهر أن تركيز الأمير خالد على سيرة جده إنما كان بهدف تحقيق ما يلي:
1 -
ربط وحدة الجهاد على أرض الجزائر في نسيج متصل.
2 -
الالتزام بالقيم والأهداف التي جاهد في سبيلها الأمير عبد القادر والتي يسير عليها هو أيضا باعتبار أنها تشكل القاعدة الثابتة والصلبة للجهاد ضد الحملة الصليبية الجديدة.
وليس من الغريب أن يردد الأمير في كل مناسبة على أسماع مواطنيه العبارة التالية: (لا تنسوا أن آباءكم قد هبوا للنضال لأول
إشارة من جدي الكريم).
وعند هذه النقطة، نقطة الجهاد والنضال يلتقي الجد والحفيد في قضية الدفاع عن الإسلام والمسلمين، في الجزائر المجاهدة خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة، وقد تكون ملاحظة هذا الخط المشترك واضحة من خلال الموافف المعروفة والتي يمكن استقراء بعض ملامحها عبر النماذج والأمثولات التي لا تشكل في كل الحالات إلا قليلا من كثير، ووجيزا من ملحمة متطاولة تتجاوز في
مضمونها وأهدافها كل الحدود.
كانت الفكرة الشائعة، والتي طالما روج لها الاستعماريون في فرنسا:(بأن جماهير المسلمين لا تزال تعيش في غياهب الجهل، وهي بعيدة كل البعد عن - نور الحضارة الأوروبية. فالمسلمون متخلفون جدا، منعزلون بأنفسهم بسبب تعصبهم الديني، الذي لا ينسجم مع مطالبتهم بالحصول على حق التمثيل السياسي والاجتماعي على قدم المساواة مع الإفرنسيين، وعلى هذا فإن منحهم مقاعد النيابة أو عضوية مجلس الشيوخ هو أمر سوف لا يجديهم نفعا، وهم في حاجة أكيدة إلى زيادة في التربية والتعليم - الإفرنسي - حتى تصبح لديهم القابلية لفهم المدنية الأوروبية، ويصبحوا قادرين على اكتساب الأساليب الحديثة للتنمية الاقتصادية وتطبيقها. وقد يطالب نوابهم باستقلال الجزائر - باسم مبادىء ويلسن - في الحين الذي تباع فيه نساؤهم رقيقا).
ويتصدى الأمير خالد للرد على هذه المقولة، بنخوة الرجل العربي، وإيمان الإنسان المسلم، فيقول:(لقد أفاد المسلمون أوروبا إلى حد بعيد جدا بحضارتهم ومدنيتهم. وإذا كانوا متأخرين الآن، فلأن (30) ألفا على الأكثر من أصل خمسة ملايين جزائري يترددون على المدارس. ويمكن للجزائريين على غرار السنغاليين، الذين اعتبروا مواطنين إفرنسيين مع احتفاظهم بنظام أحوالهم الشخصية الإسلامية، أن يكون لهم ممثلون في مجلس النواب. وأنه لا جدوى من الحديث مع الوطنيين الجزائريين عن
أساليب التنمية، ما دام هناك استمرار في إحداث مراكز جديدة
للاستعمار، وما دام تطبيق قانون - طورانس - مستمرا (1).
أما ما قيل عن المرأة المسلمة بأن الصداق الذي يؤديه لها زوجها إنما هو ثمن شرائها
…
ففي بلادكم أنتم أيها الأوروبيون، تشتريكم نساؤكم - وفي أوروبا كلها تعقد زيجات المنفعة والمتعة، وفيها كلها لبس وإكراه. وكذلك يشاهد المرء اليوم في شوارع باريس فتيات يكاد عمرهن لا يتجاوز (12) سنة، وهن يتعاطين البغاء جهرة
…
وأما بالنسبة لقضية الربط بين التعليم والتمثيل، فالأمر المعروف هو أن الاستعماريين الأوروبيين وأعوانهم فضلوا أناسا جهلة عينوهم تعيينا - في الانتخابات - على المثقفين المسلمين المخلصين والذين كان الشعب يريد انتخابهم. فحالوا دونه ودون ذلك. واتهموا هؤلاء المثقفين بالوطنية المتعصبة، وبالنزوع إلى الاستقلال التام. والحال أن الأوروبيين هم الذين يطالبون باستقلال الجزائر الذادي - ليتحكموا بالمواطنين المسلمين، وليستأثروا بخيرات البلاد - بينما يكتفي النواب المسلمون بالمطالبة بربط العمالات الجزائرية الثلاث إلى العمالات الإفرنسية، وجعلها سواء بسواء معها في كل الشؤون).
وقرأ الأمير خالد - وهو في منفاه بسوريا سنة 1934 - مقالا مهينا
(1) جريدة الأقدام 9 حزيران - يونيو - 1922. وقانون طورانس، هو القانون الذي يتم بموجبه تحديد ملكية المسلمين. غير أن عقد الملكية الذي كان بيد المسلم الجزائري لم يكن يحميه من قيام المعمر الأوروبي بالاستيلاء على أرضه.
بالرسول صلى الله عليه وسلم كتبه صحفي إفرنسي. وتعرض فيه أيضا لأزواجه رضي الله عنهن، فوجه إليه الأمير برقية شديدة اللهجة يخبره أنه مسلم غيور على دينه، وأنه من سلالة ذلك النبي العظيم، ويقول فيها أنه يترك له الخيار بين اثنين: إما الاعتراف علنا بذنبه، وإما المنازلة بالسلاح. فأجاب الصحفي، وهو المسمى - بيير مارييل - الأمير برسالة اعتذار (1).
هنا يمكن العودة إلى مواقف الجد - الأمير عبد القادر - يوم اجتمع عدد من القسس في فرنسا، ووجهوا إليه أسئلة عديدة، منها السؤال التالي:
(إن دعوة محمد اكتنفها الغموض من جميع جوانبها، وإن العرب بوجه عام، والشرقيين منهم بوجه خاص قد كابروا، وادعوا أن دعوة محمد دعوة يقرها العقل والمنطق). ورد الأمير عبد القادر بالتالي:
(لم تكن رسالة محمد دعوة تهويس وإسعاف، ولكنها دعوة اتساع أفق وشمول نظر، فاستطاعت بذلك تلبية حاجة البشر كافة، من خاصة وعامة، وذلك لأنها الرسالة الوحيدة بين الرسائل التي لا مسخ فيها ولا إسفاف، ولا غش ولا إجفاف، وهي فوق هذا وذاك بدأت باسم الله الرحمن الرحيم. وختمت بأنه رب العالمين.
وجاءت رسالة الإسلام في وقت كان العالم كله في تأخر من جميع الوجوه، دينيا وعلميا ومدنيا وسياسيا.
(1) جريدة الدفاع - الجزائرية - 18 أيار - مايو - 1935.
فلم يمر قرن واحد، حتى أوجدت للعالم كله دينا قيما وعلما محكما ومدنية سعيدة وسياسة رشيدة، فنفخت في الإنسانية روحا جديدة، لا تقبل الفناء، ما دامت الأرض والسماء. فهي كالينبوع الذي تفجر في أرض وفاض على غيرها، فأحياها بعد موتها. وكان ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. ولا تقف صفات الإسلام عند هذا الحد في الصفات التي تتميز بها الديانات والرسالات، بل كان من أهم صفاته أنه دين الهداية إلى الحق، والارتفاع بقيمة العقل من الانسياق وراء المعميات والخوارق الغريبة عن الطبيعة المدنية في الاقتناع والتصديق.
واستمرت رسالة الإسلام، تغزو الممالك والبقاع، وأخذت راية الدين الحنيف ترفرف على البلدان والأمصار، وتغلغلت دعوة النبي العربي في أوروبا وغيرها من البلاد التابعة للديانة المسيحية، وعز على الكنيسة أن ترى دين محمد يعلو على كل دين ويدحض كل فرية وكل دعوة تقوم على الزيف والأباطيل. فجندوا لها إرسالياتهم التبشيرية، وبعثروها في الممالك والأصقاع، ظانين أنها تجدي مع رسالة من عند الله.
وحاول مبشرو أوروبا أن يصفوا الإسلام بالنقائص، فمنهم من قال: إن دعوة محمد استهوت الناس حسب غرائزهم، وإرضاء أثرة المنافع والثروة فيهم. وفات هؤلاء أن الإسلام جاء لتنظيم حياة الناس. وزعم فريق آخر منهم، أن الإسلام لم يكن يريد بدعوته غير الشهرة الشخصية والحياة والسلطان، ويقصدون بذلك محمدا صلوات الله وسلامه عليه.
وفات هؤلاء أيضا أن رسالة محمد جاءت مليئة بالرحمة والبر والحنان وأن صفاتها صفات الحكمة والخير، وأنها اتسمت بأهداف سامية لا تمت إلى طلب السلطان والجاه. وفريق ثالث من هؤلاء، زعم بكل سخافة وحمق أن الطمع في الأقاويل تبطل هذه الدعاوى وتنقضها. وجلية الأمر أن محمدا لم يكن كغيره، يرضى بأوضاع كاذبة، أو يسير تبعا لاعتبارات باطلة، أو يقبل أن يتسم بأكاذيب وأباطيل زائفة، فجاء نتيجة لذلك صوته منبعثا من الطبيعة ذاتها. ولهذا وجد آذانا صاغية، وقلوبا واعية، فانتشرت رسالته، وعمت الناس كافة. وتلك هي رسالة السماء، قام بها خير رسول وخير إنسان، (1).
وعاد القسس لطرح سؤال آخر: (لماذا يحفظ العرب القرآن؟ مع أن هذه الطريقة تؤثر كثيرا على عقول الناس، وبخاصة الصغار منهم، وهذا الإجراء سيكون أثره السيء على النشء الجديد. وأجاب الأمير عبد القادر:
(إن هذا السؤال غريب ومتسم بالعصبية، وإني لأفهم الأسباب التي تدفعكم إلى هذا النوع من التفكير، ولو أنكم واجهتم الحقيقة كما يجب أن تواجه لأدركتم أن حفظ القرآن له مميزاته. ومما لا شك فيه أن الحفظ من أهم الأسباب لاستدعاء الفهم. فإنما طلب الفهم والإدراك إنما يكون عند ظهور الحاجة إليه. وعند الإحساس بعدم الفهم، وحينئذ يلجأ الحافظ إلى السؤال عن معنى ما سمع أو
(1) تاريخ الجزائر - تأليف الأستاذ مجاهد مسعود الجزء الأول - ص 379 - 389.
ما حفظ من الدين، يظن أنهم يعرفون ذلك الذي خفي عليه. وعلى ذلك يكون حفظ آيات القرآن من أعظم الدواعي إلى دراستها وطلب معرفتها.
وكثير من العلماء الأعلام الذين حفظ التاريخ آثارهم، وجرى ذكرهم في الخافقين، وكانت لهم اليد الطولى في الدرس والإفادة والتأليف، وخدمة العلم والأدب، كانوا من أولئك الذين لقنوا القرآن وهم صغار أحداث لم يبلغوا رشدهم، وكانوا هم الذين فهموا كتاب الله واجتهدوا في تأويله، واستنبطوا منه الآداب والأحكام، وأصبحوا أئمة يستضاء بنورهم، ويهتدى بهديهم وقد خدم كثير منهم الدين، وأحيوا علوم اللسان، وحذقوا كثيرا من ألوان المعارف، وأصبحوا بها مضرب الأمثال.
لقد فتح القرآن الكريم لكثير من النابهين باب النبوغ، ولم يعطل لواحد من الذين عنوا به، وأقبلوا عليه، ملكة من الملكات؛ بل إنه هو الذي نبه فكرهم، وشحذ عزائمهم، وجعل لهم ذكرا في العالمين. وكان البيت المسلم يحرص أشد الحرص على أن تلقى فيه آيات القرآن، يسمعها الرجال والنساء والولدان كل صباح، لا يكاد يخلو من ذلك بيت من بيوت المسلمين. وكان التنادي في الإغراق على قراء القرآن ومحفظيه للأحداث مضرب الأمثال. كما كان الولدان أنفسهم يتنافسون في حفظه ويتبارون في تلاوته.
كان ذلك من تقاليد المسلمين، حتى سرت عوامل الضعف وتتابعت الأحداث، ووفد الاستعمار على بلاد المسلمين، مختفيا
وراء ما يزعم من أصول التربية الحديثة، وكأن هذه التربية شيء غريب عن الإسلام والمسلمين، وكأنه لم يكن في هذه الأمة مفكرون في أصول التربية، نظروا في أسسها، وشرحوا أهدافها، ووضحوا مناهجها، ولذلك فإن هذه التربية الحديثة لا تستقل على هؤلاء الصبيان شيئا إلا أخذهم بحفظ كتاب الله، وتنشئتهم على هداه، وما أسرع ما استجاب ضعاف النفوس لهذه الدعوة، غير ناظرين إلى ما تخفي هذه الدعوة وراءها من عمل الاستعمار على المباعدة بين نائئة هذه الأمة، وبين المأثور الصالح من تقاليد السلف وأصول العقيدة، ولن يتمكن العرب من فهم دينهم إلا إذا اهتموا بالقرآن الاهتمام التام.
إن القرآن هو أسمى الكتب السماوية التي تبدو فيها سمات الرقي جلية ناصعة مهما سخر أولئك السذج المتعصبون لآلية العصر، والمتذيلون للمدنية المادية التي تقوم على أساس الغرائز والتي لابد أن تهوي في العاجل القريب إلى التلاشي والفناء. بل قل: إنها بدأت تسير في طريق الفناء بخطوات واسعه، لن تغيثها منه سلطة الاختراعات، ولن تنجيها قوة الحديد والنار.
حقا إن ما يحتويه القرآن بين ثناياه من إمارات السمو وعلائم الكمال لهو خليق بالدرس والتأمل. ولم لا؟ ألسنا في الوقت الذي نرى فيه أنصار المدنية المادية، وأشياع الحرية الزائفة، يوغلون في الظلم والجشع والكذب والنفاق، نشاهد مبادىء هذا الكتاب تنتصب وسط الدائرة الجهنمية المؤلمة من الآثام والجرائم منارة عالية بها بعد الطبيعة تشع من ثناياها الأنوار السماوية، وتنبعث من
خلالها الأصوات الأبدية، هاتفة باسم الحق، مؤيدة كلمة الفضيلة، ناطقة بقداسة الشرف واحترام العدالة والإنصاف، ولا تكاد هذه الأنوار تبدو، حتى تغشى عيون الآثمين، ويخطف سنا برقها أبصار المجرمين، ولا توشك تلك الأصوات أن تهتف حتى ترتجف منها قلوب الظالمين. وترتعد لها فرائص المنافقين.
ويحس أولئك وهؤلاء في أفئدتهم بالرهبة من السماء، تهددهم وتنذرهم بالويل والثبور، وعندئذ يحنقون على أهل هذه التعاليم القوية الكاشفة عن تضليلهم، والفاضحة لتغريرهم، ويودون أن يمزقوهم شذر مذر ليزول سلطانهم، ويتزلزل كيانهم، وعندئذ لا يجدون أمامهم أنجع من وسائل الدس والتفريق، ولا أنجح من بث الشقاق والتمزيق. ولا أحد من سيف الإغراء والإغواء، وتملك المطامع، والتزلق إلى الأهواء. وإنشاب أظافر الاستعمار في بلادهم، والهيمنة على مواقفهم، والتسلط على مواردها ومصادرها حتى يستذلوا فيخفتون بهذا الاستذلال ذلك الصوت الذي يروعهم نهارا ويقض مضاجعهم ليلا.
ولكن لو أن المسلمين أخلصوا لدينهم، واتبعوا تعاليم كتابهم، وتخلقوا بأخلاق نبيهم، لسخروا من كل إغراء، ونظروا إلى المثل الأعلى المرسوم في قرآنهم. وتطلعوا إلى السمو المتمثل في كل آية. وأيقنوا أن هذا الكتاب، شأنه أن يقودهم إلى الحرية والسعادة. بل إلى الرفعة والسيادة. ذلك بأنه إذا انتصرت في قلوب المؤمنين روح الخير التي تمثل الألوهية على الأرض، تعهدت هذه الروح العلائق بين الإنسان وربه بالتقوية والإنماء.
ومتى تفرقت تلك العلائق، جعلت النفس المؤمنة تتلقى أوامر السماء بهيئة نقية صافية، ثم تمليها أولا على حياتها العملية الخاصة، حتى يطبق العلم على العمل، فتحقق الحكمة:{ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب} .
فإذا تم للمؤمن ذلك أفاض تلك الأوامر الإلهية على بيئته ومجتمعه، وقد تتسع هذه الدعوة حتى تعم الإنسانية جمعاء، وإذ ذاك تصلح حال الدنيا ويسودها السلام وتشملها العدالة. ويحل الرضاء محل النزاع، وتحل المحبة محل البغض والحفيظة، ومن آيات ذلك أن الأوامر الإلهية كانت مند غابر العصور ولا تزال وستظل، تقود بني الإنسان إلى الفلاح والكمال إذا وضعوها موضع الاحترام والعناية والتطبيق، ولكنها تشهد دمارهم وفناءهم إذا هم سحبوا عليها ذيول الإهمال والنسيان.
فالقرآن إذا هو روح الإسلام الذي أشع ولا يزال يشع في الوجود، وهو قلبه الذي ينبض بالحياة، وعقله الذي به يفكر ويتأمل، والذي ضمن له ذلك الامتياز على جميع ما عرفته البشرية من أديان، والذي أفاض تلك المبادىء السامية الخالدة. ويشتمل القرآن على كل خير الإنسانية وعوامل رقيها وتقدمها، محتويا على جميع عناصر الصلاحية لكل الأزمنة، والأمكنة والبيئات والمجتمعات على اختلاف نزعتها، وتباين مشاربها، مما حقق لنبيه أن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين. وجعل رسالته غاية الغايات ونهاية النهايات، وأسند إليها الكلمة الفاصلة، والقول الحاسم في جميع التشريعات الفردية والعلائق الأسرية والقوانين
المدنية والأنظمة الدولية، والمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسلمية والحربية والمعاهدات السياسية. وبالإجمال كل ما يحتاج إليه الفرد أو الأمة، في الحياة الخاصة أو العامة.
إن القرآن هو نظام عالمي واقعي موحى، فهو ينظم تطبيق كل حادثة من أحداث الوجود وشرحها وتقديرها. إنه بالنسبة إلى جميع المؤمنين بمثابة ذاكرة قد أعدت أتم الإعداد. أو مذكرة إحصائية للمفردات اللغوية أو قاموس من القواميس له. وهو بالنسبة إلى كثيرين أيضا كتاب للتعريفات المضمونة والقابلة للتطبيق دائما. إنه مجموعة من اللغات للأفعال العملية وللتأملات الباطنية التي تركز الانتباه في البراهين على المجد الإلهي وقوة الله. والقرآن هو الذي يقوم بدور تبسيط مشكلة منهج الحياة أمام المؤمنين. لأن هذه المجموعة من القوانين الموحاة هي التي تغذي الذاكرة، وتحل عقال العمل دون أن يكون لدى الفكر حاجة للتردد. ويكفينا اعترافات بعض النصارى الذين درسوا الإسلام.
يقول مستشرق: (حسب هذا الكتاب جلالا ومجدا أن الأربعة عشر قرنا التي مرت عليه، لم تستطع أن تخفف ولو بعض الشيء من أسلوبه الذي لا يزال غضا كأن عهده بالوجود أمس).
ويقول مستشرق آخر: (ولقد أتى محمد بكتاب تحدى به البشر جميعا أن يأتوا بسورة من مثله، فعاقهم العجز وشملتهم الخيبة
وبهتوا أمام ذلك الإحراج القوي الذي أغلق في وجوههم كل باب).
ويقول مستشرق ثالث: (لقد تحدى محمد الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وهذا هو برهان رسالته بالمعنى الكامل. ولم يكن الأمر في القرآن يتعلق بقيمة أدبية استثنائية، فإن محمدا كان يحتقر الشعراء. ودفع عن نفسه أن يكون واحدا منهم). هذا هو مجمل آراء فريق من العلماء الذين يبتغون من بحوثهم مرضاة العلم في ذاته، ويقصدون وجه الحقيقة حيث كانت فلا يخرجون عنها. غير أن هناك فريقا آخر من الباحثين الغربيين يخضعون في بحوثهم لأهواء شخصية أو مطامع فردية أو أهداف سياسية أو تعصبات دينية تعميهم عن الحق وتضلهم عن الصراط السوي، فهم حين يدرسرن القرآن دراسة عميقة ويتأملون في مبادئه الأساسية وعناصره الأولية تأملات دقيقة، يتبينون ميزاته التي لا نظير لها في أي كتاب سماوي آخر، نراهم بدلا من الإشادة بهذه الحقائق الناصعة، يسارعون فينظرون إلى بني جلدتهم بأن القرآن كتاب خطير، لأنه اشتمل على مبادىء يمكن أن تقيم الدنيا وتقعدها، وذلك إثر اليقظات الإسلامية التي أصبحت تطل من الشرق والغرب. ولقد خاف هؤلاء أن تكون هذه اليقظات الإسلامية، والحركات الاستقلالية هي أشعة من تباشير الصباح لمستقبل العالم الإسلامي الباسم، وحملة شعلة المعرفة والنور وتطبيق شريعة الله.
ذلك هو مشعل النور الذي استمر الأمير عبد القادر في حمله وهو في غياهب سجنه (في سارية امبواز بفرنسا - حيث أقام أربعة سنوات 1847 - 1851) ثم تناقل الأبناء والأحفاد في رفع هذا
المشعل حتى جاء الأمير خالد، فقام بأداء دوره مدافعا عن الإسلام والمسلمين، حتى مضى للقاء ربه راضيا مرضيا. غير أن جهده بقي حديث الأجيال. وجاء من بعده سلف تابعوا رفع مشعل النور. ولعل أصدق ما يطبق على وصف حال الأمير خالد، قوله تعالى لرسوله الكريم الذي هو أسوة حسنة للناس أجمعين، وإماما هاديا للمسلمين، ونموذجا لما كان - ويكون عليه - الرسل والصديقون والمجاهدون في سبيل الله، وفي سبيل رسالته الخالدة أبدا على الدنيا - مادام في الدنيا صوت للمسلمين، قوله تعالى:
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا
} (1).
(1) سورة الإسراء - الجزء الخامس عشر - الآية 72 - 76.