الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زراعة المواد الغذائية الأخرى التي يعيش عليها، ويقتات من خيرها شعب الجزائر).
ب - التكوين النفسي الخاص بالمتسوطنين:
تضمنت الفقرة السابقة بعضا من الشواهد التي تبرز التكوين النفسي الخاص
بالمستوطنين في الجزائر، وفي الحقيقة فإن هذا التكوين ليس خاصا، وإنما ينطبق تماما على كل الهجرات الاستيطانية التي رافقت أعمال الاستعمار. فشعور المستوطن بقوة دولته، وما يشهده من أعمال إجرامية وفظائع لإخماد ثورات المواطنين ومقاومتهم للاستعمار، ثم ما تزعمه الدول الاستعمارية من ممارستها للاستعمار بهدف (القيام بدور حضاري ناجم عن تفوق الإنسان
الأوروبي - تفوق الرجل الأبيض) وتغطية ذلك بغطاء ميثولوجي - ديني - في إطار حرب صليبية، كل ذلك مما يجعل المستوطن إنسانا عنصريا، وفردا ومميزا بقسوته الوحشية على أبناء البلاد الخاضعة للاستعمار.
وهنا لا يمكن في الحقيقة المساواة في نظرة المستوطنين إلى أبناء البلاد الأصليين، إذ أن آراء عضو مجلس الشيوخ (هنري بورغو - الذي كان يلقب بملك الخمور في الجزائر، بسبب كثرة ما يملكه من كروم العنب في البلاد) أو جورج بلاشيت (الذي كان يلقب بملك الحلفاء - بسبب تملكه لمئات الأفدنة من الأرض التي تزرع فيها نباتات الحلفاء اللازمة لصناعة الورق المصقول) هي آراء تختلف كل الاختلاف عن آراء زارع الشاي ذو الأصل الإسباني، أو حتى الموظف الإفرنسي الأصل الذي يعمل في دائرة الحاكم العام في
الجزائر. ومع ذلك، يبدو أن المستوطنين يتحدون في اتخاذ مواقف مشتركة، إذ أن المستوطن الثري يفرض رأيه إلى حد ما على (المستوطن الصغير) الذي لا يشاركه في مصالحه.
لقد كتب أحد الإفرنسيين الليبرالين في موضوع المستوطنين ما يلي: (يشترك هؤلاء المستوطنون الإفرنسيون في الجزائر مع الجنوبيين في الولايات المتحدة في أكثر من صفة واحدة. ولعل في طبعة هذه الصفات: الشجاعة والديناميكية - الحركة المستمرة -وضيق الأفق، والاعتقاد المتأصل في نفوسهم بأنهم خلقوا ليكونوا سادة. ويكون غيرهم عبيدا، وأن أية محاولة لتبديل هذه الفروق هي عملية تستهدف نشر الفوضى، وصحيح من وجهة نظرهم، بأنه يجب العطف على الخدم، ولكن بشرط أن يظهر هؤلاء الرغبة للبقاء دائما في طبقة الخدم).
هذا فيما كتب كاتب آخر:
(تكون البلاد ملكا للناس الذين يعرفون كيف يستثمرونها، وكيف ينهضون بأهلها، ويقيمون لهم المؤسسات، ويوطدون لمصحتهم دعائم الحياة الثقافية والمادية. ويجب أن يفهم كل فرنسي، أن هذا الكفاح الذي يخوضه إخوانه في الجزائر، إنما هو كفاح هدفه الدفاع عن الوطن الأب المشترك، وحماية الحضارة المسيحية، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من شمول ومن عمق في المضمون، على تربة أفريقيا. ولقد كانت فكرة الحضارة المسيحية هي سبب وجود فرنسا والحافز لعظمتها، ولهذا فإن إضعاف هذه الفكرة من طريق الخطر الكبير الذي تتعرض له فرنسا في الجزائر
سيعرض فرنسا ذاتها لخطر الزوال) (1).
تبرز المقولات والشواهد السابقة تلك المواقف المشتركة التي كونها النظام الاستعماري ذاته. فالمستوطن، مثله كمثل أي إنسان آخر، يتشكل ويتكيف ضمن إطار المجتمع الذي يعيشه، ومن هذا المجتمع يستمد قيمه وأفكاره. ولقد أفسد النظام الاستعماري التكوين النفسي للمستوطنين، وبات لزاما عليه تحمل تبعات ما أفسده. ومن غير الصحيح إلغاء التبعات على المواطنين - أو المستوطنين الذين وجدوا أنفسهم، بحكم السياسة الاستعمارية، وهم في وسط معاد لهم في مجموعه، مناوىء لثقافتهم، إدراكا من هذا الوسط بأن تراثه وثقافته ومذهبه الديني، هي بمجموعها القاعدة الصلبة لمجابهة ما يتعرض له.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فقد وجد المستوطنون أن الحلول الديموقراطية للمشكلات الجزائرية الوطنية، وتحقيق الانفتاح على المواطنين الأصليين، سيفسد عليهم متعة الامتيازات التي يمارسونها ويستثمرونها. ومن هنا برز الجدار الفاصل، ونشأت الهوة العميقة بين المستوطنين الأوروبيين من جهة، وبين المواطنين الجزائريين من جهة أخرى. وكان لا بد لهذا الحاجز الفاصل من أن يتزايد تعاظما مع الأيام، بتأثير الأخطاء المتراكمة، مما خلق الوضع المتفجر بصورة دائمة فوق أرض الجزائر.
(1) الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) ص 24 - 26.