المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ انطلاقة الاستعمار من الجزائرإلى العالم الإسلامي - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٦

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ انطلاقة الاستعمار من الجزائرإلى العالم الإسلامي

1 -

‌ انطلاقة الاستعمار من الجزائر

إلى العالم الإسلامي

ما إن انتهت فرنسا من القضاء عل ثورة الإخوان الرحمانيين سنة 1871 (ثورة المقراني والحداد) حتى انطلقت لتعميق جذور وجودها الاستعماري في الجزائر، ولتوسيع مناطق نفوذها إلى ما وراء حدود الجزائر. وكان هدفها التالي هو فرض نفوذها على تونس. وكان الإيطاليون يطمعون منذ وقت طويل، بحذو أسلوب فرنسا في السيطرة الاستعمارية، غير أن روما ترددت في السير على هذا الطريق خشية أن تخلق بذلك أزمة دولية. وأفادت فرنسا من أول فرصة سنحت لها لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية في الاستيلاء على تونس. وتم لها ذلك عندما نشب خلاف بين (باي تونس) وإحدى الشركات التجارية الإفرنسية في سنة 1881. فعملت فرنسا على تجريد الباي من سلاحه في العاصمة بواسطة جيش كان قد اجتاح الإقليم بحجة تأديب قبيلة بدوية اخترقت الحدود، وقامت بأعمال عدائية في الجزائر. والحق أن الإفرنسيين أبقوا للباي عرشه اسميا، غير أنهم سلبوه جميع السلطات الحقيقية بلا استثناء.

ص: 15

حاولت فرنسا بعد ذلك التوسع في اتجاه الغرب، غير أنها اصطدمت بمقاومة الدول الغربية (إنكلترا وألمانيا). وفي سنة 1904، انتزعت فرنسا موافقة بريطانيا وإسبانيا على مشروعاتها التوسعية بعد أن اعترفت لإنكلترا بحق استعمار مصر، وبعد أن منحت إسبانيا منطقة نفوذ أوسع في ممتلكاتها السابقة في المغرب. وكان الإفرنسيون قد قدموا لسلطان مراكش - السلطان عبد العزيز -مشروعا للإصلاح الإداري، يتم تنفيذه بمساعدتهم.

عندما وصل الإمبراطور البروسي - ويلهلم الثاني - أرض طنجة في 31 آذار - مارس - 1905 - وكان يقوم برحلة في البحر المتوسط - بعد أن حرضه على ذلك مستشاروه الذين كانوا يؤيدون مصالح (الأخوة مانسمان) الاقتصادية في مناجم مراكش.

وهناك في طنجة، ألقى القيصر ويلهلم خطابا أيد فيه استقلال السلطان، وعلى أثر هذا الخطاب، نجح السلطان عبد العزيز في عقد مؤتمر دولي لبحث المسألة المراكشية. ولقد عقد هذا المؤتمر في الجزيرة الخضراء في الفترة من 15 كانون الثاني - يناير - إلى 7 نيسان - أبريل - 1906، لينتهي إلى الاعتراف بسيادة السلطان، والاتفاق على تنظيم شرطة دولية - بوليس - لحراسة المرافىء، وإقامة مصرف للدولة يكون رأس ماله أوروبيا.

تسبب تعاظم التدخل الأجنبي بأمور مراكش في اضطراب النظام والأمن، وبدأ الموقف في الخروج من قبضة السلطان عبد العزيز، واستمرت فرنسا ذلك لتقوم باحتلال (وجدة) و (الدار البيضاء) في سنة 1907، وما لبث عبد الحفيظ أن ثار على أخيه السلطان عبد العزيز مستغلا الاستياء العام في طول البلاد وعرضها، وحمل الفقهاء

ص: 16

على خلعه. وتمكن من إخضاع البلاد كلها لطاعته خلال فترة وجيزة. واعترفت به أيضا كل من إسبانيا وفرنسا بعد أن أعلن اعترافه باتفاقات الجزيرة الخضراء.

ولكن عبد الحفيظ لم يكن أقدر من أخيه على مواجهة الأوضاع العسيرة التي خلقها التحريض الخارجي، فطوقه الثوار في فاس سنة 1911، مما دفعه إلى التماس الدعم من فرسا. والواقع، أن هذا الحادث قرر مصير البلاد، على الرغم من أن ألمانيا ظلت تحاول أن تضمن لنفسها بعض الحقوق عن طريق هجومها على أغادير (وهو الهجوم المعروف بوثبة النمر، إذ أرسلت إلى أغادير مركبا حربيا، اسمه النمر (تايغر) بعد أن كانت إسبانيا قد وسعت منطقتها أيضا احتلال العرائش والقصر.

ومهما يكن من أمر، فقد اعترفت ألمانيا ذاتها، آخر الأمر، الحماية الإفرنسية لمراكش - وهي الحماية التي حددت شروطها بصورة رسمية في المعاهد التي عقدت مع السلطان في 4 تشرين الثاني نوفمبر - سنة 1912. وخلف عبد الحفيظ السلطان يوسف، حتى إذا توفي هذا سنة 1927، خلفه ابنه محمد الثالث. ووطد المارشال (ليوتي)(1) بما شن على القبائل المعادية، سلطة الحكومة التي

(1) ليوتي - لويس هيبرت غونزالف: (Lyautey، Louis Hubert Gonzalve) ماريشال إفرنسي، من مواليد مدينة نانسي (1854 - 1934). برز اسمه في استعمار الهند الصينية (فييتنام) ثم في استعمار مدغشقر وفي الأعمال القتالية في جنوب وهران نظم في سنة 1912 عملية الحماية على المغرب - مراكش - الأمر الذي أثار ألمانيا وكان حافزا أساسيا في هجومها على فرنسا في الحرب العالمية الأولى. وقد أصبح وزيرا للحربية الإفرنسية (1916 - 1917). وهو صاحب الدور الأساسي في قانون الظهير البربري.

ص: 17

انتهى السلطان إلى أن يصبح مجرد رئيس اسمي لها. واحتفظت فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى بالمركز الذي اكتسبته في مراكش، لتبسط نفوذها على البلاد كلها ما بين سنة 1921وسنة 1924 وذلك عن طريق مجموعة من الحروب التي أرهقت فرنسا. ودفع المغاربة (المراكشيون) ثمنا غاليا لها من دمائهم وتضحياتهم.

وعرفت بلاد المغرب - مراكش - في هذه الفترة بطلا من أشهر أبطال الحروب الثوروية في العالم الإسلامي هو (الأمير عبد الكريم الخطابي) الذي كان يعيش مع أسرته منذ عهد بعيد في منطقة الريف، عند أجدر على خليج الخزامى.

وفي سنة 1921، أعلن الأمير عبد الكريم ثورته ضد الإسبانيين للدفاع عن قومه. ولم يكن مع الأمير آنذاك سوى عدد قليل من الرجال، غير أن لهيب ثورته لم يلبث أن انتشر سريعا بين القبائل كلها في مراكش الشمالية. وأنزل عبد الكريم بأعداء المسلمين خسائر فادحة، ثم هاجم منطقة الاحتلال الإفرنسية، وتهدد فاس بالاحتلال؛ وعندئذ تعاونت قوى الاستعمار الإسباني - الإفرنسي للقضاء عليه وعلى ثورته، وتم لها ذلك في شهر شباط - فبراير - سنة 1926 حيث اضطر الأمير عبد الكريم إلى إلقاء السلاح، فنفي في بداية الأمر إلى مرسيليا ثم أبعد إلى جزيرة (ريونيون) بالقرب من جزيرة القمر - مدغسكر - ومنذ ذلك الحين، وطدت إسبانيا أيضا سلطتها في مراكش - المغرب ..

لم تلبث إيطاليا بعد ذلك أن انضمت إلى ركب الدولتين الاستعماريتين (بريطانيا وفرنسا). فاتجهت إلى طرابلس الغرب

ص: 18

(ليبيا)، وطلبت إلى رجال تركيا الفتاة الموافقة على السماح للقوات الإيطالية باحتلال طرابلس الغرب، وعدم التصدي لمقاومة قواتها، غير أن تركيا رفضت الطلب الإيطالي الغريب، فأعلنت هذه الحرب على تركيا يوم 29 أيلول - سبتمبر - 1911، فوطئت قواتها الأرض العربية - الإسلامية يوم (5) تشرين الأول - أكتوبر - ووقع عبء الدفاع على عاتق أنور باشا ومصطفى كمال، الذي كسب هنا أول إكليل من أكاليل مجده العسكري.

وعلى الرغم من دعم جماهير العرب المسلمين للقوات التركية، ومشاركتهم لها بحماسة في رفع راية الجهاد. إلا أن القوات الإيطالية حققت نجاحا انتهى بعقد معاهدة (أوشي) سنة 1912. وتخلت تركيا لإطاليا عن طرابلس وبنغازي. ولم يحتفظ الخليفة إلا بحق تعيين الموظفين الدينيين في تلك البلاد.

ليس المجال هنا التعرض للاستعمار الإيطالي وطرائقه الوحشية في قهر الشعب العربي المسلم في ليبيا، فلذلك مجاله الخاص، وبحثه المستقل، غير أن ما يهم البحث هنا هو الإشارة إلى نقطتين أساسيتين ترتبطان بالاستعمار الإفرنسي للمغرب الإسلامي: أولاهما أن استعمار فرنسا للجزائر هو الذي فتح المجال أمام تطور الهجمة الاستعمارية الصليبية ضد العالم الإسلامي، وثانيهما: أن إيطاليا بما عرف عنها من تخاذل وضعف وخور في الحروب قد استأسدت في إبادة الشعب العربي - الإسلامي في طرابلس، محاولة التأكيد لمنافسيها الأوروبيين أنها ليست أقل منهم حماسة للحرب الصليبية ضد المسلمين.

ص: 19

لم تتوقف مقاومة المجاهدين في سبيل الله في طرابلس على الرغم من كل الظروف السيئة التي أحاطت بالبلاد، ومارست (زوايا السنوسيين) هنا ما مارسته زوايا الإخوان الرحمانيين وسواهما في الجزائر المجاهدة. وتصدى لقيادة أعمال الجهاد عدد من المشايخ والزعماء، لعل من أبرزهم محمد بن عبد الله (في فزان) وأحمد الشريف (ومعه فبائل العبيدات والبراعصة والدرسة) وسالم بن الزنقاني، ورمضان السويحلي زعيم مصراته.

ويحتل بعد ذلك عمر المختار مرتبة الريادة في قيادة الجهاد (في برقة)(من سنة 1924 حتى سنة 1931). والذي أرغم الإيطاليين على الدخول معه في مفاوضات سنة 1929 فكان في جملة شروطه: (عدم تدخل الحكومة الإيطالية في أمور الدين الإسلامي، والاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في دوائر ودواوين الإدارة الإيطالية، والسماح بفتح المدارس الدينية التي تدرس فيها علوم القرآن، والتفسير والحديث والفقه وسائر العلوم. وكذلك إلغاء القانون الذي وضعته إيطاليا والذي ينص على عدم المساواة في الحقوق بين الوطني - الليبي - والإيطالي، إلا إذا تجنس الليبي بالجنسية الإيطالية) غير أن إيطاليا لم تكن جادة في المفاوضات وكان هدفها كسب الوقت، تماما كما فعلت فرنسا مع الأمير عبد القادر الجزائري في معاهدة (تافنة) الشهيرة. فتم استئناف الحرب إلى أن تم لإيطاليا القضاء على الثورة، وإعدام البطل (عمر المختار).

المهم في الأمر، هو أن أساليب الإيطاليين ضد الشعب العربي الإسلامي في ليبيا لم تختلف عن نظيرتها من الأساليب الإفرنسية ضد

ص: 20

الشعب الجزائري. ولقد أرادت إيطاليا: (إقامة مملكة لاتينية في ليبيا - لإعادتها كما كانت في عهد الرومان - ولتأمين استيطان ثلاثة ملايين إيطالي فيها) ومن أجل ذلك: (أقدم الإيطاليون على ارتكاب آلاف الأفعال الوحشية بدون موجب، سوى الانتقام من المسلمين واستئصال شأفتهم من طرابلس وبرقة).

ولما كانت أراضي الجبل الأخضر من برقة، هي أجود قطعة من بر طرابلس، وفيها المياه الجارية والعيون الصافية والغابات الملتفة والمروج الخصبة، فقد توجهت أنظار الإيطاليين إلى استعمارها قبل غيرها. وقاموا بإجلاء القبائل العربية الساكنة في الجبل الأخضر وجواره عن أراضيهم، وجمعوا منهم ثمانين ألفا نسمة رجالا ونساء وأطفالا، وساقوهم إلى صحراء سرت - في الأراضي الواقعة بين برقة وطرابلس على مسافة عشرة أيام من أوطانهم الأصلية، وأنزلوهم في معاطش ومجادب لا يمكن أن يعيش بها بشر، فمات عدد كبير منهم جوعا وعطشا، وماتت مواشيهم كلها من فقد الكلأ والماء. وكان أهالي طرابلس وبرقة يزيدون على المليون ونصف المليون قبل الغزو الإيطالي.

ولم تمض فترة طويلة، حتى انخفض هذا العدد إلى سبعمائة ألف نسمة. وبلغ عدد السكان الذين أعدمهم الإيطاليون شنقا من أهالي طرابلس وبرقة خلال فترة الاحتلال، عشرين ألف نسمة، وكثيرا ما شنقوا أناسا بمجرد إرادة قائد، أو مجرد رغبة ضابط صغير. وقد وقع لهم أنهم شنقوا نسائ جردوهن من ثيابهن وأبقوهن عاريات عدة أيام. كما وقع أنهم كانوا يسلكون ستين أو سبعين شخصا في سلسلة

ص: 21

واحدة، ويحبسونهم على هذه الصروة مدة إلى أن يموتوا.

وجند الإيطاليون من أهالي الجبل الأخضر - برقة - كل الرجال من سن البلوغ إل الخامسة والأربعين ليحاربوا بهم إخوانهم. ثم عمدوا إلى الأحداث من فوق 4 سنوات حتى 12 سنة، فأخذوهم قهرا من أحضان آبائهم وأمهاتهم، في يوم تشيب من هوله الأطفال ودفعوهم إلى إيطالبا لأجل تربيتهم وتنشئتهم في النصرانية. واغتصبوا النساء في أعراضهن وقتلوا منهن الكثيرات ممن دافعن عن شرفهن حتى النهاية. وكان نحو من مائتي امرأة من نساء الأشراف، قد فررن إلى الصحراء قبل وصول الجيش الإيطالي إلى الكفرة، فأرسلت القيادة الإيطالية قوة في إثرهن لمطاردتهن حتى قبضوا عليهن وسحبوهن إلى الكفرة، حيث خلا بهن ضباط الجيش الإيطالي واغتصبوهن. وهكذا أنزلوا المعرات بسبعين أسرة شريفة من أشراف الكفرة، الذين كانت الشمس تقريبا لا ترى وجوههن من الصون والعفاف.

ولما احتج بعض الشيوخ على هتك أعراض السيدات المذكورات، أمر القائد الإيطالي بقتلهم. ثم استباح الإيطاليون الزاوية السنوسية بالكفرة - المسماة بالتاج - وأراقوا الخمور فيها، وداسوا المصاحف الشريفة بالأقدام. وحملوا الشيخ سعد (شيخ قبيلة الفوائد)، وخمسة عشر رجلا معه من الشيوخ، وقذفوا بهم من الطائرات على مشهد من أهلهم، حتى إذا وصل أحدهم إلى الأرض وتقطع إربا، صفق الإيطاليون طربا، ونادوا بالعرب قائلين:(ليأت محمد هذا نبيكم البدوي الذي أمركم بالجهاد، وينقذكم من أيدينا).

ص: 22

وعندما اجتاحت القوات الإيطالية طرابلس، قبضت على ألوف من أهلها في بيوتهم، ونفتهم بدون أدنى مسوغ إلى جزر إيطاليا،

حيث مات أكثرهم من سوء المعاملة. وأباد الإيطاليون في غير ميدان الحرب، كل عربي يزيد عمره على (14) سنة، وأحرقوا يوم 26 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1911حيا خلف بنك روما، بعد أن ذبحوا أكثر سكانه بينهم النساء والشيوخ والأطفال.

وفي اليوم التالي (يوم 27 تشرين الأول - أكتوبر) وصف أحد المراسلين ما وقع عليه بصره بقوله: (صادفت 50 جنديا يقودون ستة من العرب إلى خرابة يستعملها الجنود لقضاء الحاجة، ولما أدخلوهم إليها، اشترك الضباط والجنود في قتلهم بالمسدسات والبنادق، وما كدت أفر من هذا المشهد حتى رأيت ما هو أشد هولا، وهو طائفة من الجنود يسوقون (50) عربيا بين رجال وأطفال، وأدخلوهم إلى مكان قد تهدم، وبدأ الضباط يقتنصون هذا الصيد الكريه بمسدساتهم وبنادق جنودهم مدة عشرين دقيقة. وكلما سمعوا أنينا من جثة أعادوا عليها النار حتى انقطع الأنين).

واستمر الجيش الإيطالي ثلاثة أيام يطلق الرصاص على كل من يلقاه من العرب. فهلك عدد من النساء والأطفال وبلغ مجموع القتل خلال ثلاثة أيام، أربعة آلاف عربي. ولما كانت (واحة جغبوب) هي مركز السادة السنوسية، فقد حرص الإيطاليون على إبادة رجال الدين فيها ومحو معالم الإسلام. وأصدرت الحكومة الإيطالية أمرا بإقفال جميع الكتاتيب التي تعلم الأطفال أمور دينهم، وتحقظهم قرآنهم الكريم.

ص: 23

وبهذه الطرائق: (استطاع الإيطاليون تشريد ثلث مليون من السكان، وأبادوا ثلث مليون آخر، وتركوا بعد ذلك للمدارس الإطالية إكمال المهمة، فلم يتركوا في طول البلاد وعرضها مدرسة غير إيطالية. وضمنت المدارس الإيطالية القضاء على الدين الإسلامي بجعل التعليم فيها إجباريا. وتكفلت دور الفحش والدعارة بواجب إفساد أخلاق الشبان. وبدؤوا بالتمييز بين العرب والبربر، على أمل تنصير الجنس البربري من أهل طرابلس وبرقة)(1).

وتبقى المنافسة الاستعمارية بين إنكلترا وفرنسا للسيطرة على مصر، هي البداية للصراع على العالم العربي، وقد برزت هذه المنافسة بشكلها الواضح في عهد (محمد علي باشا) وورثته على حكم مصر. حتى إذا ما أمكن توريط هؤلاء الورثة بمشكلات اقصادية مستعصية على الحل. وجدت أوروبا فرصتها لإحكام قبضتها على مصر، فتم تشكيل لجنة أوروبية لتسوية الديون والحد من سياسة الخديوي توفيق المالية. وكانت هذه (الوصاية المالية) كافية لفرض الهيمنة على الدولة بكاملها.

كانت بريطانيا تتطلع في الواقع منذ عهد بعيد للسيطرة على

(1) لمطالعة المزيد عن أعمال الإيطاليين خلال فترة الغزو. يمكن الرجوع إلى: حاضر العالم الإسلامي - الأمير شكيب أرسلان 2/ 64 - 128. وفي الصفحة 84 رسالة للبطل عمر المختار، يشير فيها إلى أن كل ما سبق وصفه ليس إلا قليلا من كثير. وأن ما ارتكبه الإيطاليون بحق الشعب العربي المسلم هو مما يعجز الإنسان عن وصفه أو الإحاطة به.

ص: 24

مصر، بحجة تأمين طريق الهند للتجارة، وجاء احتلال فرنسا للمغرب العربي - الإسلامي ليمهد الطريق أمام إنكلترا للسير نحو قلب العالم العربي الإسلامي. وقد تظاهرت انكلترا في البداية أنها راغبة بمشاركة الدول الأوروبية في الهيمنة على مصر. وقد أدى تدخل (اللجنة الأوروبية) في أمور مصر الداخلية، (كإنقاص عدد أفراد الجيش المصري - بهدف التوفير) إلى ظهور تناقضات حادة، برزت من خلالها الإرادة المصرية - الوطنية في شخص أحمد عرابي، الذي أصبح وزيرا للحربية في شهر شباط - فبراير - سنة 1882م. والذي تولى قيادة الحزب الوطني، والمطالبة بالإصلاحات لمصلحة الفلاحين المصريين ضد أصحاب الاقطاعات الواسعة من ذوي الأصول التركية. ولكن الضباط الأتراك في قيادة الجيش المصري دبروا مؤامرة ضد (الزعيم أحمد عرابي)، انتهت إلى نشوب خلاف بينه وبين الخديوي. وهنا دعا أحمد عرابي مجلس النظار إلى عقد مجلس من الأعيان رغم إرادة الخديوي.

واغتنمت بريطانيا الفرصة لتعلن أن سلامة الأوروبيين في مصر باتت (مهددة بالخطر). وأوعزت إلى أسطولها للقيام مع الأسطول الإفرنسي بتظاهرة عسكرية في مياه الإسكندرية. وأسرع - عرابي باشا - إلى تحصين الإسكندرية والاستعداد لمجابهة احتمالات العدوان. وفي هذه الفترة استدعت فرنسا أسطولها، وتركت لبريطانيا حرية العمل ضد مصر، فوجهت إنذارها إلى أحمد عرابي بإيقاف العمل في تحصين الإسكندرية.

وازدادت حدة التوتر في مصر، ووقعت بعض الاعتداءات على

ص: 25

الأوروبيين في 11 حزيران - يونيو - 1882، وعندما رفض عرابي الإنذار البريطاني، قامت البوارج الحربية البريطانية بقصف الإسكندرية يوم 11 تموز - يوليو - ولم تلبث القوات البريطانية أن وطئت أرض مصر، وانضمت إليها على الفور قوات الخديوي توفيق، الذي كان قد طلب من بريطانيا حمايته. وتوجه أحمد عرابي بقواته إلى التل الكبير لمجابهة القوات (البريطانية - الخديوية). ووقعت معركة يوم 13 أيلول - سبتمبر - لم تكن في مصلحة القوات المصرية، رغم ما أظهرته هذه القوات من الاندفاع والحماسة وذلك بسبب عدم التكافؤ في القوى والوسائط التي زجها في المعركة. ولم يمض أكثر من يومين، حتى تم اعتقال أحمد عرابي في القاهرة، حيث تم نفيه إلى جزيرة سيلان ليقضي فيها عشرين عاما تقريبا، وقد تم السماح له بالعودة إلى وطنه سنة 1901.

قررت معركة (التل الكبير) في الحقيقة، مصير أرض الكنانة ومستقبلها لفترة ثلاثة أرباع القرن تقريبا. فقد فرضت بريطانيا رقابتها على المالية المصرية وقيادة الجيش المصري، وأقامت حاميات بريطانية في مناطق كثيرة، على امتداد قناة السويس ومنطقة البحر الأحمر بصورة خاصة ..

ليس هذا فحسب، بل إنها اصطنعت منصب (القنصل العام) الذي يقيم إلى جانب الخديوي؛ ليكون الحاكم الفعلي للبلاد. شأن المقيمين البريطانيين الذين جرت عادتها على تعيينهم مستشارين للحكام الوطنيين في الهند. إذا فقد أصبح تاريخ مصر - طوال هذه المدة - مرتبطا بتاريخ الإمبراطورية البريطانية. وتم فصل مصر عن

ص: 26

العالم الإسلامي، وعزلها عنه، مع إفساح المجال أمام الأجانب لاستغلال الموارد الوطنية - ومن الامتيازات الضخمة التي اغتصبها الغربيون، توجيه الزراعة لمصلحة الاقتصاد البريطاني، والتحكم فيه، بما يتناقض مع مصلحة الوطنيين المصريين، وتحميل الشعب المصري نفقات الاحتلال البريطاني، ونفقات أجهزة الحكم البريطانية التي امتدت لتشمل كل فروع الدولة. وفرضت بريطانيا ثقافتها على مصر، تماما على نحو ما فعلته فرنسا في الجزائر، وإيطاليا في ليبيا، ولو أنه كانت هناك ثمة فوارق في الأساليب والطرائق.

ولعل حادثة (دنشواي) في دلتا مصر، والتي قتل فيها إنكليزي بضربة شمس. وقيام البريطانيين باستغلال الحادثة لإنزال أشد العقوبات بالفلاحين، وشنق أربعة منهم يوم 28 حزيران - يونيو - سنة 1906، مع جلد (17) مواطنا بالسياط بطريقة وحشية، هي حادثة كافية لتصوير التشابه بين الطرائق الاستعمارية كلها.

أفادت بريطانيا من ظروف الحرب العالمية الأولى، لتنفيذ مخططها في الإجهاز على الدولة العثمانية، بالتعاون مع حلفائها الأوروبيين، ففرضت على مصر نظام الحماية في 4 آب - أغسطس - سنة 1914. وجعلت بريطانيا من مصر وشعبها أداة الهجوم على القوات العثمانية - الألمانية، حتى إذا ما انتهت الحرب، انصرفت الإدارة البريطانية في مصر، إلى إدارة البلاد عن طريق استثمار التناقضات بين الأحزاب بعضها ضد بعض أحيانا، وبينها وبين القصر في أحيان أخرى. ورافق ذلك اضطرابات مثيرة، لعل أبرزها تلك التي رافقت اعتقال الزعيم سعد زغلول وثلاثة من إخوانه في 8 آذار - مارس - 1919.

ص: 27

وتبع ذلك محاولات للاتفاق بين القيادات المصرية والسلطات المحتلة، من أجل الحد من نفوذ الاستعمار البريطاني. غير أن بريطانيا كانت تحيط هذه المحاولات، المرة بعد المرة، عن طريق خلق التناقضات الداخلية وتظاهرات القوة.

وكما أخذت فرنسا بالتوسع - كبقعة الزيت - من الجزائر نحو الشرق ونحو الغرب ونحو الجنوب، (للقضاء على دولة رباح - حول بحيرة تشاد وحوض الكونغو). فقد انطلقت بريطانيا من مصر نحو السودان والصومال. ولما كانت ثورة المهدي تشكل العقبة الأولى في وجه كل توسع بريطاني (منذ أن أعلن المهدي ثورته في سنة 1881)؛ فقد أخذ (كتشنر) على عاتقه القضاء على ثورة أتباع المهدي. وهكذا تحرك كتشنر (القائد العام للجيش البريطاني - المصري) في خريف سنة 1896 ليقود ضد السودانيين معركة أم درمان الشهيرة، والتي قتل فيها الخليفة (عبد الله التعايشي)، كما قضي على الدولة المهدية. غير أن السودانيين استمروا في المقاومة، ولم يتمكن البريطانيون من توطيد نفوذهم قبل سنة 1928.

أما في الصومال، فقد تولى محمد بن عبد الله حسن - من قبيلة أوغادين - مقاومة الإيطاليين والبريطانيين منذ سنة 1899، وأمكن له توجيه ضربات موجعة لقوات الدولتين، واستمر في ذلك حتى سنة 1920، حيث قررت بريطانيا تصفية مقاومته بصورة نهائية. واستخدمت أسطولها الجوي لتدمير مواقع المسلمين كلها. وفي الوقت ذاته انطلقت القوات البريطانية لمطاردته، وأمكن لها في النهاية قتله يوم 23 تشرين الثاني سنة 1920.

ص: 28

تجدر الإشارة إلى أن هذه الهجمة الصليبية الشاملة، لم تتوقف عند حدود العالم العربي، وإنما تجاوزته إلى أقصى المشرق. وهنا قامت روسيا بدور المنافس للبريطانيين، إذ احتلت قواتها بخارى وسمرقند في سنة 1868، ثم ضمت إليها خوارزم سنة 1873، كما ضمت إليها خواقند سنة 1876 حتى إذا ما أقبلت سنة 1884، استولت روسيا على مرو، وبذلك توطد مركزها في المشرق.

ومقابل ذلك قامت بريطانيا باجتياح أفغانستان، واستولت على كابول وقندهار في سنة 1878، وعقدت معاهدة مع أفغانستان سنة 1879 تنازلت فيها أفغانستان لبريطانيا عن مجازبولان ووادي قرم.

أما بالنسبة لبلاد فارس (إيران)، فقد بقي الصراع الروسي - البريطاني مستمرا عليها، حتى سنة 1907، حيث أمكن لروسيا - بعد هزيمتها في الحرب الروسية - اليابانية (1904) أن تتفق مع بريطانيا، فحصلت هذه على قاعدة في جنوب فارس تمتد من حدود الأفغان حتى بندر عباس. ومقابل ذلك، حصلت روسيا على الجزء الشمالي من البلاد، والذي يمتد من قصر شيرين - شرقا حتى الحدود الروسية - الأفغانية غربا ويشمل أصفهان ويزدوكاخ. ومع انتقاص العالم الإسلامي من أطرافه، وتمزيقه، بات من السهل على الحملة الصليبية توجيه حرابها إلى قلب العالم الإسلامي (الممثل بالامبراطورية العثمانية) للإجهاز على بقية الروابط التي كانت توحد جهد العالم الإسلامي.

جاءت الحرب العالمية الأولى، بعد ذلك، لتصل بالحملة الصليبية حتى نهايتها. واستطاعت الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا،

ص: 29

أن تنسقا الجهد فيما بينهما لتمزيق بقايا العالم الإسلامي في إطار معاهدة سايكس - بيكو الشهيرة، وفي إطار إقامة كيان صهيوني في فلسطين (وفقا لما تضمنه تصريح بلفور في 2 تشرين الثاني - نوفمبر -سنة 1917). وأكد ذلك أن الحلفاء قد انتهوا إلى قرارات مختلفة جدا عن نص البيان الإفرنسي البريطاني، الذي أعلن بعد هدنة مودرس في 8 تشرين الثاني - نوفمبر - 1918 وفيه:(أن هدف الدولتين هو تحرير الشعوب الخاضعة للنير العثماني، وأنهما مستعدتان لإقامة حكومات مستقلة في سوريا والعراق تكفل للقطرين تطورا سياسيا حرا).

وظهرت النوايا الحقيقية للدولتين الاستعماريتين الكبيرتين (فرنسا وبريطانيا) من خلال البيانات التي أذاعتها روسيا في أعقاب قيام الثورة الشيوعية، وكذلك من خلال التناقضات في تصريحات رجال السياسة في الدولتين الاستعماريتين.

ولقد أدركت فرنسا بأن الفرصة باتت مناسبة لها لاستثمار ما بذلته من جهد، طوال قرون عديدة، من حق حماية النصارى في بلاد الإسلام، ومن خلال نشر الثقافة الإفرنسية في بلاد الشام. كما أن بريطانيا وجدت أخيرا الفرصة مناسبة لتنفيذ مخططاتها في التوسع واكتساب قواعد جديدة.

ولقد حاول الزعماء العرب بقيادة الشريف فيصل حمل قيادات الحلفاء على الوفاء بالتزاماتهم تجاه العرب، غير أن هذه الجهود باءت بالفشل، وعقد مؤتمر سان ريمو في 25 نيسان - أبريل - 1920 فتقرر

ص: 30

وضع سوريا كلها تحت الانتداب الإفرنسي، ولم تكن هذه التسمية سوى الغطاء الرسمي لإخفاء بشاعة الاستعمار وسوءاته، وهو ما أكده وزير الخارجية البريطاني - اللورد كرزون - في خطابه أمام مجلس اللوردات، يوم 25 حزيران - يونيو - سنة 1920، حيث أعلن:(بأن انتدابات جمعية الأمم ليست إلا حديث خرافة، ذلك لأنها الوسيلة لتوزيع البلاد المفتوحة بين المنتصرين)(1).

ومضت فرنسا لتنفيذ مخطط (الانتداب)، فوجهت إنذارا إلى الملك فيصل (2) في 14 تموز - يوليو - سنة 1920 للاعتراف بالانتداب الإفرنسي على الساحل. ورفض الملك فيصل الإنذار، فاحتلت القوات الإفرنسية حلب يوم 23 تموز - يوليو - وأعقبها احتلال دمشق (بعد معركة ميسلون التي انتصر فيها الجنرال غورو على جيش يوسف العظمة الحديث التكوين). ودخلت القوات الإفرنسية دمشق يوم 25 تموز - يوليو.

ولم تلبث فرنسا أن قسمت سوريا إلى أربع دول؛ هي أ - لبنان الكبير. ب - دمشق. ج - حلب. د - دولة العلويين (وهي منطقة النصيرية الواقعة شمالي لبنان بين العاصي والبحر المتوسط). ليس هذا فحسب، بل لقد ضمت بيروت وطرابلس والبقاع إلى دولة لبنان الكبير. وهكذا، وبينما كان في لبنان قبل ذلك (200) ألف ماروني موالين لفرنسا، شكلت فرنسا كيانا يضم الأقليات

(1) تاريخ الشعوب الإسلامية - بروكلمان - ص 762.

(2)

كان الشعب السوري قد بايع الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكا على سوريا في 8 آذار - مارس - 1920.

ص: 31

ومنهم (135) ألفا من النصارى المنتمين إلى مختلف الطوائف، و (30) ألفا أرمني، و (20) ألفا من الأجانب، و (44) ألف درزي و (105) آلاف من الشيعة. وثارت سوريا لهذا التقطيع في أوصالها، فما كان من فرنسا إلا أن أعلنت في سنة 1922 تشكيل دولة اتحادية سورية تضم دول دمشق وحلب والعلويين. وبدأت فرنسا بتنفيذ مخططاتها لتدمير قواعد الصمود والأصالة في المجتمع السوري الإسلامي - مما أدى إلى الثورات المستمرة.

وتم انتداب فلسطين من قبل بريطانيا في 24 تموز - يوليو - سنة 1922 (بموجب اتفاق سان ريمو أيضا). وتم تعيين مندوب سامي بريطاني - يهودي - أطلقت يده في تقسيم البلاد إلى مقاطعات إدارية، مع منحه السلطات المطلقة لتوزيع الأراضي العامة - أملاك الدولة - واستثمار الموارد المعدنية والثروات الطبيعية للبلاد، وكذلك تعيين الموظفين وعزلهم. واعتبرت الإنكليزية والعبرية والعربية لغات رسمية متساوية. وانطلق اليهود تحت حماية المندوب السامي (هربرت صموئيل) لتنفيذ المخطط الصهيوني، وإقامة المستوطنات، والهيمنة على الصناعات والتجارة في المدن الكبرى. وأدى تعاظم نفوذ اليهود إلى انتشار الغضب في أوساط المسلمين الذين وجدوا أنفسهم وقد تحولوا في بلادهم إلى كتلة مهملة ومهددة باستمرار في حاضرها ومستقبلها؛ الأمر الذي أدى إلى ثورة سنة 1936 الكبرى والتي لم تتوقف إلا باندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939م.

وعملت بريطانيا في الوقت ذاته على تقسيم جنوب بلاد الشام إلى

ص: 32

قسمين، فلسطين وشرقي الأردن. وأعلنت قيام إمارة أردنية مستقلة في منطقة شرقي الأردن ولم تلبث أن تحولت الإمارة إلى ممكة حملت اسم (المملكة الأردنية الهاشمية).

وأصبح العراق بدوره تحت سلطة الحماية البريطانية - منذ هدنة مودرس - وأخذت بريطانيا على عاتقها فرض هيمنتها على العراق، وذلك وفقا لمضمون التصريح البريطاني - الإفرنسي الصادر في آذار - مارس - سنة 1918. غير أن العراق تصدى لمقاومة المخططات البريطانية، وانتقلت المقاومة من مجال الصراع السياسي إلى مجال الصراع المسلح. مما أدى ببريطانيا إلى القيام بمحاولة إحكام سيطرتها، وانتهى الأمر بثورة شبه عامة في 30 حزيران - يونيو سنة 1920 م ضد التدخل البريطاني في الشؤون الداخلية للعراق. وقامت بريطانيا بقمع الثورة بصورة وحشية في ربيع سنة 1921. لكنها أدركت بأنه المحال عليها حكم العراق مباشرة، فقررت إقامة نظام ملكي.

وفي الوقت ذاته كانت الحركات الوطنية في العراق تطالب الملك فيصل الذي أخرجته فرنسا من سوريا، أن يتولى عرش العراق. ووطىء فيصل البصرة في 23 حزيران - يونيو - سنة 1921. واسقبلته بغداد اسقبالا حماسيا. وجرى استفتاء أعلن على أثره السير (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني، تنصيب الأمير فيصل ملكا على العراق في 23 آب - أغسطس - سنة 1921م. غير أن الصراع ضد بريطانيا - وانتدابها - لم يتوقف.

بدأ بعد ذلك الهجوم على قلب الإمبراطورية الثانية التي رفعت

ص: 33

راية الإسلام طوال قرون عديدة. وكانت تركيا قد خسرت البلقان خلال الحرب العالمية الأولى، وانتهى بها الأمر إلى الخروج من الحرب (بعد اقتطاع البلاد العربية منها) وذلك في 30 تشرين، الأول -أكتوبر - 1918م وذلك بموجب هدنة مودرس وبدأ الحلفاء في دفع قواتهم لاجتياح تركيا، فقامت اليونان باحتلال أزمير في 15 أيار - مايو - 1919 بعد أن شجعتها بريطانيا على ذلك.

وعاشت تركيا فترة من الاضطراب في الحكم، فقام الحلفاء بالتمهيد لقيام مصطفى كمال، بأن قاموا باعتقال مناوئيه وخصومه وتشريدهم؛ كما قام اليونانيون بمذابح وفظائع وحشية في مدينة أزمير لم يسمع بمثلها. وانطلق مصطفى كمال لتنفيذ دوره. فأسس جمعية وطنية في الأناضول واستثار حماسة الأتراك للدفاع عن بلادهم. وأمكن له تحقيق انتصار على اليونانيين في سقارية، ثم عقد مع فرنسا معاهدة حصلت فيها فرنسا على امتياز استثمار مناجم الحديد والكروم والفضة في وادي نهر خرشوط الذي يصب في البحر الأسود. كما عقد معاهدة مع روسيا تنازل فيها عن (باطوم) التي ضمت إلى جمهورية جورجيا السوفييتية.

في 29 تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1923، أعلن انتخاب مصطفى كمال رئيسا للجمهورية، وفي 3 آذار - مارس - سنة 1924، ألغيت الخلافة من تركيا. وقام أتاتورك (مصطفى كمال) باستثارة مراكز القوى الدينية، وعمل على تدميرها، وانتقل بعد ذلك إلى إلغاء وزارة الأوقاف في 2 آذار - مارس - سنة 1924 وعهد في

ص: 34

شؤونها إلى وزارة المعارف. وذهب أتاتورك إلى ما هو أبعد من ذلك فحدد عدد المساجد، ولم يسمح بغير مسجد في كل دائرة يبلغ محيطها خمسمائة متر. كذلك خفض عدد الأئمة إلى ثلاثمائة شيخ فقط. وفرض عليهم أن لا يقصروا خطبة الجمعة على الأمور الدينية، بل أن يتعرضوا للمشكلات الزراعية. وأوصدت أبواب عدد من الجوامع أشهرها جامع أيا صوفيا الذي حول إلى متحف، ومسجد السلطان محمد الفاتح الذي حول إلى مستودع وعمل أتاتورك بعدئذ على إلغاء الأحرف العربية واستبدالها بأحرف لاتينية في 28 آذار - مارس سنة 1928. وأمكن بذلك القضاء على تركيا الإسلامية، والسير بها نحو الغرب. وتبع ذلك استبدال القوانين الإسلامية بقوانين أوروبية - وانتهت بذلك وحدة العالم الإسلامي.

ص: 35