المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأمير خالد في موقعه التاريخي - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٦

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ الأمير خالد في موقعه التاريخي

1 -

‌ الأمير خالد في موقعه التاريخي

قد يقف الباحث أو المؤرخ حائرا أمام هذا الركام المتناقض من المقولات، وهو يحاول تقويم الموقف الصحيح للأمير خالد. وقد تتزايد حيرته إذا ما حاول إجراء مثل هذا التقويم بعيدا عن إطاري الأحداث الزماني والمكاني، بمعنى إسقاط الموقف العام - الدولي والمحلي - لتلك الحقبة التاريخية وإهمال الموتف الخاص لما كان عليه موقف مراكز القوى الاستعمارية والإسلامية في الجزائر خلال مرحلة تصدي الأمير خالد لتوجيه مسيرة الأحداث. وهنا قد يكون من المناسب قبل كل شيء الأخذ ببعض المعطيات التي أصبحت بمثابة المسلمات الوصفية نظرا لالتقاء كثير من وجهات النظر المتباينة عندها، وأبرزها:

1 -

لقد ظهر الأمير خالد - في المرحلة الوسيطة بين تطور الهجوم الاستعماري الشامل، وبين البدايات المبكرة للهجوم المضاد للاستعمار عامة. يؤكد ذلك التوسع الاستعماري الذي أعقب الحرب العالمية الأولى (باسم الانتداب أو الحماية أو

ص: 171

الوصاية) وما قابله من انتفاضات في العالم الإسلامي (ثورات تونس ومقاومات ليبيا والحركات الوطنية في مصر وثورة المهدي في السودان والثورة السورية الكبرى 1925).

2 -

وظهر الأمير خالد بعد قرن من استعمار فرنسا للجزائر تقريبا حيث اجتاحت جحافل الغزو الاستعماري الجزائر في سنة 1830 م على ما هو معروف، وبدأ الأمير خالد نشاطه للعمل في الفترة 1915 - 1925. وخلال هذه الفترة نجحت قوى الاستعمار في إزالة الكثير من قواعد الصمود والمجابهة - إذا صح التعبير - فقد أمكن لفرنسا ومؤسساتها خلال هذه الفترة القضاء على القيادات القبلية والزعامات الدينية وتركت الساحة الجزائرية في حالة من الفراغ أخذت هي بإملاء فراغها بأجهزة وتنظيمات تابعة لها. مع استثمار كافة التناقضات الممكنة لإفراغ هذه التنظيمات من أهدافها.

3 -

وعاش الأمير خالد بعد ذلك متنقلا بين دمشق - وطنه بالولادة - والجزائر وطن آبائه وأجداده، وفرنسا - الوطن الأم. كما كان يطلق عليها، فكان لا بد له من معالجة آلام وآمال مواطنيه من منظار شامل، ولقد عرف بحكم مواطنته أبعاد القضية التي يعيشها. والأخذ بقضية الجزائر على أنها قضية خاصة وعامة، تعود خصوصيتها إلى طبيعة ما يعانيه مسلمو الجزائر، وتعود عموميتها إلى ارتباطها بالهجوم الاستعماري الصليبي الشامل. ولقد عاصر الأمير خالد أحداثا مثيرة، لم يكن أقلها إزالة الخلافة الإسلامية، ولم يكن أقلها تمزيق العالم الإسلامي واقتسامه بين الدولتين

ص: 172

الاستعماريتين الكبيرتين بريطانيا وفرنسا. ولم يكن أقلها أيضا ظهور حركات اشتراكية تبعها انفجار الثورة الشيوعية في ألمانيا وروسيا. وكان لذلك كله دوره في التحرك السياسي وفي المعاناة الصعبة لظروف الصراع.

4 -

والأمير خالد قبل ذلك وبعده سليل أسرة منسوبة إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو أصيل المحتد كريم المنبت. فكان لا بد لذلك من أن يطبعه بطابعه وأن يسمه بميسمه، فهو أحق الناس بالدفاع عن الإسلام والمسلمين، لا سيما وهو يعيش كل ظروف القهر والمعاناة الناجمة عن ظروف الحملة الصليبية الجديدة. وهو إلى ذلك، لا يرى في غير الإسلام وسيلة لدعم الصمود، ولإحياء الأمل في النفوس. فكان من نتيجة ذلك أن ربط الأمير خالد بين ماضي المسلمين وحاضرهم وما يجب أن يكون عليه مستقبلهم. ووضع بذلك أساس قاعدة العمل.

5 -

وكان المسلمون في الجزائر يجدون في العالم الإسلامي متنفسا كلما أثقل صدرهم كاهل الاستعمار، فكان الزعماء يفرون

بدينهم إلى تونس وإلى المغرب أحيانا، وإلى مصر في أحيان أخرى، وإلى بلاد الشام خاصة في كل الظروف، غير أن جحافل الغزو الاستعماري سبقتهم - أو لحقت بهم - لاحتلال هذه البلاد. فبات المخرج عسيرا، وضاقت دنيا المسلميىن يما رحبت. ولم يبق أمام المحكومين إلا الاحتكام إلى حاكميهم وصدقت المقولة (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم). ولكن، وحتى في ظروف (ليل الاستعمار الحالك السواد) لم يفقد الأمير خالد كل الأمل في

ص: 173

إمكان صيانة قواعد الصمود، والإبقاء على ما بقي منها، فمهد بذلك الطريق، وأضاء شعلة النور وسط الظلام، لتهتدي بهداها، ولتستضيء بنورها الأجيال المقبلة.

وبعد، قد يكون من السهل على الباحث أو المؤرخ أن يقف اليوم، ليصدر إدانته على ما قام به الأمير عبد القادر الجزائري، وأن يتهم قادة ثورة 1871 - المقراني والحداد بالقصور أو التقصير، وأن يعود إلى مقاومة الحاج باي أحمد في قسنطينة، وأن يصف بومزراق وبو معزه ولالا فاطمة والإخوان الرحمانيين وحتى الأمير خالد، بأنهم ضلوا السبيل وأخطأوا التقدير. غير أن مثل هذه الأحكام تفتقر إلى النزاهة قدر افتقارها للموضوعية. لقد كان كل واحد منهم صورة صحيحة للفترة التي عاشها، ومن المحال إدانة مرحلة تاريخية بدون الأخذ بجميع العوامل المحيطة بتلك المرحلة وما سبقها ثم ما رافقها وما تبعها أيضا. وفي إطار اتصال هذا النسيج التاريخي يمكن تقويم أهمية عمل تلك النجوم التي أضاءت السبيل وهي تضحي بوجودها وبكل ما تملك للدفاع عن قيمها ومثلها العليا وفضائلها الخالدة.

عند هذه النقطة، يمكن العودة لاستقراء سيرة الأمير خالد وأعماله، لا من أجل الدفاع عنه، فقد دافع عن نفسه طوال حياته بإباء الرجال، وشمم الأبطال، وإيمان المجاهدين الذين يحتسيون جهادهم في سبيل الله ورسالته الإسلامية. وإنما من أجل إجراء تقويم وجيز لتلك الأعمال، واستخلاص أبرز دروسها.

عندما بدأ الأمير خالد نشاطه السياسي لخوض انتخابات البلدية

ص: 174

سنة 1919، ترافق ذلك مع الصراع بشأن قانون 4 شباط - فبراير - 1919 (1) وأدى ذلك إلى تطور الحركة الوطنية الجزائرية، وتكوين شخصية الشعب الجزائري الإسلامية، وتركز الصراع حول سياسة الإدماج أو ضدها، من خلال التجنس بالجنسية الإفرنسية أو رفضها. وقد أراد بعض الشبان الجزائريين - المتفرنسين - الإفادة من القانون المذكور على حد زعمهم لزيادة عدد الناخبين والمنتخبين. وهنا اتخذ الأمير موقفه التاريخي الذي عبر عنه بقوله:(لا يقبل المسلم الجزائري بديلا عن جنسيته بجنسية أخرى إلا في نطاق شخصيته الخاصة، لسبب جوهري واحد، هو المحافظة على دينه وشريعته الإسلامية).

وفي معركة الانتخابات - سابقة الذكر - ظهرت ثلاث قوائم، عبرت عن الاتجاهين المتصارعين على الدمج والتجنس، وضده،

فكانت القائمة الأولى برئاسة شيخ عظيم التقوى والورع هو الشيخ الحاج موسى الذي كان مستشار بلدية الجزائر منذ سنة 1884، ولم تضم هذه القائمه أي جزائري متجنس بالجنسية الإفرنسية، وكانت الشخصية البارزة المرموق إليها من بين كل المرشحين،

(1) كان قانون 4 شباط - فبراير - 1919 يخول بعض المسلمين من الملاك والتجار وحاملي الأوسمة من أعضاء الغرف التجارية والزراعية الذين يزيد عمرهم على 25 سنة، حتى الاقتراع في الانتخابات، فتزايد عددهم من (5) آلاف ناخب إلى (431) ألف ناخب، وكانوا جميعهم من غير الخاضعين لقانون الرعوية INDIGENAT الخاص بغيرهم، ومن جملة الميزات الممنوحة لهم التجنس بالجنسية الإفرنسية، والارتقاء إلى المواطنة الإفرنسية بعد التصريح والإعلان بنبذ الشريعة الإسلامية، والتخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية.

ص: 175

هي شخصية الأمير خالد. ومقابل ذلك، كانت القائمة الثانية برئاسة السيدين (وليد عسيى) و (ابن شامي أو بنثامي) لا تضم إلا الشخصيات والأعيان المتجنسين بالجنسية الإفرنسية أو المؤيدين للتجنيس والداعمين له. أما القائمة الثالثة، فقد شملت مرشحين جزائريين غير معروفين بالإضافة إلى إفرنسيين عرف عنهم دفاعهم عن حقوق المواطنين المسلمين، وهما: المحامي - لادميرال -والصحافية (باروخان) مديرة جريدة الأخبار.

ومن المفيد ملاحظة ما رافق الحملة الانتخابية من بيانات تبرز طبيعة الصراع. فقد هاجمت صحيفة - الأقدام - الناطقة باسم (حزب الجزائر الفتاة) بقولها: (لم يبق في الجزائر متجنس واحد يمكن أن يشرف أقرانه بتمثيلهم في المجالس، لأن قائمة السيد بنثامي - ابن شامي - قد لمت شملهم جميعا) هذا فيما كان الأمير خالد يدعو الناخيين الجزائريين إلى التصويت على (قائمة المرشحين المسلمين غير المتجنسيين لئلا يتولى أمورهم المرتدون - الكفرة - أصحاب القبعات - البيريه). وكان يذكر الناخبين في كل مناسبة: (بأن المسلم الصادق يحرم عليه انتخاب إفرنسيين أو أشخاص ينتمون إليهم. ويستعمل في مخاطبتهم عبارة الاعتزاز بالإسلام، والإعراض عن الجهل والجاهلين التي استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم مع هرقل عظيم الروم -والتي كان الأمير عبد القادر يستعملها في مراسلاته مع الماريشال بيجو متحديا له - وهي: - السلام على من اتبع الهدى -) ومقابل ذلك: (كان المرشحون على قائمة بنثامي - ابن شامي - ينددون بالقومية الإسلامية والتنكر لأساليبها والشكوى من خصومهم الذين

ص: 176

يصفونهم للعامة بالمارقين المرتدين عن الدين).

يمكن فهم محاولة الأمير خالد، وإخوانه المجاهدين، بسهولة ودونما كبير جهد أو عناء، لقد استطاعت فرنسا تكوين تيار جارف، فكأن لا بد للمؤمنين المخلصين من تكوين سد في وجه هذا التيار، وعدم تمكينه من اقتلاع ما بقي من جذور الأصالة الذاتية الكامنة في الإسلام، وفي الإسلام فقط، وعلى هذا أيضا يمكن فهم الحوافز التي دفعت بالأمير خالد وإخوانه إلى طرح المطالب التي تؤدي - بمجموعها - إلى تطوير السد القائم بين فرنسا والمسلمين. ولئن طلب الأمير خالد في كل مقولاته معاملة الجزائريين كالفرنسيين، فإن ذلك للتخفيف عنهم من جهة، ولتوفير المناخ أمام بناء القاعدة الثوروية الصلبة.

وهذا بدقة ما أبرزه بحث للباحث الجزائري (محفوظ قداش)(1) جاء فيه ما يلي:

(كان نشاط الأمير خالد يرتكز على مبدأ مستقر، ألا وهو الاعتصام بالإسلام، ولهذا المبدأ أثر عميق في السياسة الجزائرية، الماضية والحاضرة، فهو محورها، ولم يكن في الإمكان حينذاك أن يعبر الناس علنا عن الوطنية والقومية السياسية. غير أن الدين وقضية الدفاع عن الشخصية الإسلامية، كانا يفتحان للأمير خالد مجالا رحبا لإفراغ ما في جعبته.

(1) مجلة تاريخ وحضارة المغرب، كلية الآداب، الجزائر، العدد 4 - يناير - 1968. بحث بعنوان (الأمير خالد ونشاطه السياسي) للباحث: محفوظ قداش. ص 19 - 39.

ص: 177

ويجب ألا ننسى أن الإسلام هو الذي بقي طوال عهد الاستعمار الإفرنسي الضمان الأول للشخصية الجزائرية. فلم تشق القومية الجزائرية طريقها إلى الإستقلال، ولم تهمس مطالبها الأولى، إلا بفضل انتسابها إلى العالم العربي - الإسلامي، وأخذ نصيبها من نهضته الميمونة، فكان الأمير خالد في الجزائر رائدا من روادها العظام. فنشر في (الأقدام) عدة مقالات عن المدنية العربية، وطلب إلى الأدباء المسلمين إعداد دراسات خاصة بها وتراجم أقطابها وعلمائها المشهورين لمقابلتها بالاكتشافات الأوروبية الحديثة، التي كاد ظهورها وتطورها السريع بعد حرب 1914 - 1918 أن يخطف أبصار المسلمين، ويضعف إيمانهم بمبادئهم وأعمالهم ومستقبلهم. فانبعثت النهضة في الجزائر العاصمة، فكانت وثبة وطنية، ورغبة شديدة في ثورة كبرى، وأخذ الزعماء يحلمون وقتئذ بإنشاء دولة إسلامية عظمى، وإحياء مجد الأجداد وحضارتهم الزاهرة زمن الخلافة في دمشق وبغداد وقرطبة).

وتصدى الأمير خالد لفضح سوءات الاستعمار، وإسقاط الأقنعة عن مزاعم الحضارة الغربية التي حملها الاستعمار الإفرنسي لجزائر المسلمين، فكان في جملة مقولاته بهذا الصدد: (لم يعمل الاستعمار شيئا لنا أو لأهلنا، فالجوع يقف على الأبواب، وليس لنا إلا أن نركب القطارات ونسلك الطرق والمحطات المخصصة لكبار المعمرين - المستوطنين -. نعم! إنهم ينشئون لنا بعض المدارس في الأكواخ. ولكنهم يقتطعون في نفس الوقت أراضينا، ويسلبون أولادنا، ويغتصبون أموالنا، ويعلموننا الخمر والميسر، ويحملون إلينا جميع الأمراض والموبقات والرذائل التي يتصف

ص: 178

بها رجال يدعون أنهم متحضرون

وعندما نمر بضواحي العاصمة وعند المرور على بعض الدواوير بما فيها الداخلة في المزارع النموذجية، نكاد أن نقطع ونجزم أن فرنسا لا وجود ولا أثر لها في الجزائر منذ (95) عاما. فليس هناك لا مدارس ولا طرق ولا آبار ولا سدود، ولا أطباء ولا بيطريون ولا مستشارون زراعيون) (

إن حقوق الأهالي مهدورة منسية

فكأن المسلم الجزائري لا يصلح إلا أن يكون جنديا أو دافعا للضرائب الباهظة، ولو كلفه ذلك بيع آخر عنزة من ماشيته).

وفي مقولة أخرى:

(.. يقول لنا بعض الأوروبيين: لو كنتم تحت سيطرة الألمان أو الإنكليز لكنتم تقدرون سلوك فرنسا تجاهكم! وأقول: هل هناك، اللهم، جور أقسى من جور فرنسا

لا يمكن أن يتمنى المرء بعد هذا الظلم الغاشم إلا الموت

! فإذا كانت سياسة الإدارة الإفرنسية قائمة على تقويض اللغة والدين وإفقار الشعب، فقد نجحت كل النجاح: فالشعب غارق في الجهل، والدين ورجاله في محنة، والفقر مدقع).

والأمير خالد، وهو يطالب معاملة المسلمين الجزائريين كالإفرنسيين، يصرخ مع أفراد حزبه في وجه الاستعماريين: (في هذه الأفريقية، التي تتجه إليها كل الأطماع الشرسة الدفينة، والتي عاث فيها على تعاقب العصور كل نوع جديد من جنود ومرتزقة ومعمرين وموظفين، أصبحنا نتهم بإثارة الثورة لأننا نقول: إن الناس يموتون جوعا. ونتهم بعداوة فرنسا ومقاومتها لأننا نطالب

ص: 179

بالمساواة بين خلق الله

إذن، فلنكن فوضويين وشيوعيين وأعداء لفرنسا، ووطنيين وكل ما شئتم من صفة، ولكن لنبق رجالا قبل كل شيء

).

ويحذر الأمير خالد الإفرنسيين من التمادي في سياساتهم الاستعمارية، فيقول لهم: (أيها الأوروبيون: إن كل الإجراءات التي تتخذونها ضد هؤلاء وأولئك لن تجدي نفعا، لأن الحوادث المقبلة ستكتسح كل هذا العبث والفساد، ولأن الأجل لذلك قد حل

إن الإفرنسيين القاطنين بالجزائر، باتوا وهم ينتظرون بمرارة اليوم الذي سيرغمون فيه على شد أمتعتهم وحقائبهم للعودة إلى الوطن الأم

فمستقبلهم غامض مجهول، والأفق أمامهم ملبد بالغيوم والسحب والعاصفة على وشك الرعد والقصف على رؤوسهم، وهم منذ الآن يتألمون من ذلك ويتحسرون عليه

! وقد حق لهم أن يشتكوا ويتألموا

فأي شيء أعز عليهم، وأي

ألم أشد من مغادرة بلد كانوا يعيشون فيه عيشة الأمراء والأسياد في ثراء واسع بلا كد أو تعب، تخدمهم أقوام وأمم من العبيد، دون أمل في الرجوع يوما إلى ذلك الفردوس؟ إني لأشفق على كربهم حقا، وعلى عدم انبثاق بصيص من نور في أفقهم).

ويرتفع صوت الأمير عاليا وهو ينذر الاستعماريين بما يشبه إعلان الحرب، فيقول لهم: (الحذر ثم الحذر، إننا دخلنا لأمد

طويل في طور من الحروب الأهلية والعالمية والفتن التي لا يدري أحد بعواقبها. فإذا تماديتم في تعسير حياة الأهالي - المواطنين - بعد يسرهم في أوطانهم، فستكون شدة انفجار ثوراتهم على قدر

ص: 180

شد الخناق عليهم) ولقد كان هذا التحذير الذي يشبه النبوءة بما سيحدث، مرتبطا برؤية الأمير خالد - الواضحة - لمسار خط الاستعمار، على الرغم من شدة ظلام ليل الاستعمار في تلك الفترة، وها هو يربط خط هذا المسار بمجمل قضية الاستعمار، وذلك من خلال مقولته: (أيها اللبنانيون والسوريون والجزائريون والتونسيون والمغاربة

إنكم عبيد خاضعون لنير بعض السماسرة والبورجوازيين الذين سوغوا لأنفسهم تدنيس أرض أوطانكم العزيزة. إن لكم في بعض معاقل الحرية في الخارج أصدقاء يقظين

أجل، وقولي لكم هو عين الحق والصدق والأمانة

سننتقم جميعا).

وكان لا بد للأمير خالد، في إطار تحركه السياسي، من توجيه غضبه نحو أولئك المتجنسين الذين كانوا لا يؤيدون مطالبة الجزائريين بالتمثيل النيابي، وظهر ذلك في تعامله - على سبيل المثال - مع (مسيو صوالح) الذي وصفه:(بالخيانة لبني جلدته، والكفر والارتداد عن دينه. وقال عنه: إنه يعتقد أن تجنسه وكفره، وقطع الصلة بينه وبين ملته، وأكل لحم الخنزير، ولبس القبعة أو البرنيطة، كل ذلك يخوله صفة الإفرنسي النبيل. فمثله كمثل الوطواط، لا هو عصفور ولا هو فأر، إنما يتجسم في خلقه الرياء والنفاق، ولن يجد إلا اللعنة والخزي، أينما ولى وجهه).

والمعروف - في الجزائر - عن (مسيو صوالح) هذا، انه لم تبق له في تلك الفترة أية علاقة مع إخوانه الجزائريين. فكانت جريدته (الناصح) تعتبر لسان حال الإدارة الإفرنسية. وكانت الولاية العامة

ص: 181

هي التي تتولى تغطية نفقاتها ومصاريفها. وحدت الوقاحة (بمسيو صوالح) أنه بات يجادل في مبدأ تمثيل المسلمين في مجلس النواب الإفرنسي ذاته. فكان يتساءل كمن لا يعلم ولا يدري شيئا بقوله: (هل هذا التمثيل ممكن؟ وهل هو ناضج قد أتى أوانه؟).

وقدر ما كان يهتم الأمير خالد بكبار الأمور المتعلقة بالسياسة الاستراتيجية، فقد كان يظهر قدرا مماثلا من الاهتمام بشؤون مواطنيه الصغرى:(فهو يعمل قدر استطاعته من أجل التطوير الاجتماعي للمسلمين، مثل إنارة (حي القصبة) في الجزائر العاصمة، وجلب المياه النقية إلى المساكن، وإنشاء مراكز صحية، وإغلاق دور البغاء بالقصبة، ومقاومة شرب الخمور والكحول، وتوسيع مقبرة (سيدي محمد) وغير ذلك. وتضمنت جهوده دعم المزارعين وإرشادهم، وعتقهم من ربقة الاستعمار، ولم تكن مطالبته بفتح المجال للعمال من أجل العمل في فرنسا إلا بهدف تحرير العمال من سيطرة المستعمرين - الكولون - وتطويرهم اقتصاديا واجتماعيا وكان الوحيد من العائلات العريقة الجذور الذي رفع صوته بقوة ضد نظام الرعوية البغيض.

وعلى هذا الأساس طلب (يوسف حمدان) الأمين العام للأخوة الجزائرية، - وهو تنظيم شيوعي - إلى المواطنين بنداء حار:(أن تتم إعادة الأمير خالد إلى وطنه وإماطة اللثام عن أصدقائه القدماء الذي دفعتهم السلطة الاستعمارية في الجزائر للوقوف ضده).

وبسبب ذلك، تعرض الأمير خالد، في جملة ما تعرض له من اتهامات، اتهامه بالشيوعية، وقد سبق في عرض سيرة الأمير

ص: 182

الإشارة إلى رفضه الخضوع لهيمنة الشيوعيين، أو تسليم قضية بلاده لغير أبنائها معتمدا في ذلك على القدرة الذاتية للعالم العربي الإسلامي، وتناقض هذه القدرة الإسلامية مع معطيات العقيدة الشيوعية.

غير أن ذلك لم يمنع الأمير خالد من الإشارة إلى السبب الذي يدفع اليائسين المسلمين من التعلق بأي أمل يخرجهم من مأزقهم، فقال في ذلك:(إن المسلمين اشتراكيون وتعاونيون واتحاديون بالطبع، كما تدل على ذلك بيئتهم وعيشتهم، ولكن لم يكونوا متطرفين أبدا. وإذا كان إلى يومنا هذا عدد كبير منهم قد انقادوا إلى النظرية الشيوعية واعتنقوا مذهبها. فالسبب الجوهري في ذلك هو السياسة الحمقاء التي يمارسها الولاة والعمال الإفرنسيون في الجزائر والتي يتضاعف فيها يوما بعد يوم عدد الساخطين والناقمين).

وأبرز الأمير خالد أسباب ما يحيط به من بؤس، وما يعانيه مواطنوه. فنسب ذلك إلى الاستعمار وإدارته وأساليبه، وفضح طريقة الاستعماريين في الاستحواذ على الأراضي الخصبة، وذكر أن ثروات المعمرين الطائلة لم تأتهم من عمل المحاريث والأدوات الزراعية فقط، وإنما من عرق الفلاح الجزائري وجهده. وقارن بين دخل المعمرين الذين كانت أرباحهم تبلغ الملايين، وبين أجور الفلاحين المسلمين التي كانت تتراوح بين 2 و4 فرنكات في اليوم. فصب جام غضبه على المسؤولين عن ذلك.

كما انتقد بقسوة الإدارة الإفرنسية في الجزائر على تقصيرها

ص: 183

وتهاونها. وانتقد أيضا قلة نواب المسلمين والممثلين الجزائريين في البلديات ووفرة عدد الموظفين الأوروبيين فيها بحيث كانوا يبتلعون وحدهم موارد ميزانيتها كلها.

وطرح الأمير خالد أيضا (وضع البلديات العسكرية، فندد بالتعسف والإرهاب فيها، وكان يعتمد في كثير من الحجج على مقولات الأوروبيين ذاتهم، مستفيدا في ذلك من التناقضات بين القيادات الإفرنسية ذاتها وبين القيادات الاستعمارية في الجزائر، والحكومة الإفرنسية في باريس. ومن ذلك ما قاله أحد الولاة الإفرنسيين القدامى: (إن تطبيق الحضارة على الجزائريين في بعض النواحي معناه الزيادة المطردة في الضرائب والغرامات ونهب أموالهم وأخذها غصبا وتجريدهم من أملاكهم والوصول بهم إلى الخراب والهلاك).

ص: 184