الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنِ الخَطَّابِ، وَذَلِكَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَعْوَامٍ مِنْ تَمَنُّعِهِ بِطُلَيْطِلَةَ، عَظُمَ سُلْطَانُه، وَامْتَدَّتْ أَيَّامُهُ، وَعَاشَ سِتِّيْنَ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ وَمائَةٍ، وَأَيِسَتْ بَنُو العَبَّاسِ مِنْ مَمْلَكَةِ الأَنْدَلُسِ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ.
56 - هِشَامُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مُعَاوِيَةَ المَرْوَانِيُّ *
الأَمِيْرُ، أَبُو الوَلِيْدِ المَرْوَانِيُّ.
بُوْيِعَ بِالمُلْكِ بِالأَنْدَلُسِ عِنْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ، وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثُوْنَ سَنَةً، فَإِنَّهُ وُلِدَ بِالأَنْدَلُسِ.
وَكَانَ دَيِّناً، وَرِعاً، يَشهَدُ الجَنَائِزَ، وَيَعُوْدُ المَرْضَى، وَيَعدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، وَيُكْثِرُ الصَّدَقَاتِ، وَيَتَعَاهَدُ المَسَاكِيْنَ.
وَأُمُّهُ: أُمُّ وَلَدٍ، اسْمُهَا حَوْرَاءُ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ، عَهِدَ بِالأَمْرِ إِلَى وَلَدِهِ الحَكَمِ.
وَمَاتَ: فِي صَفَرٍ، سَنَةَ ثَمَانِيْنَ وَمائَةٍ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَلَاثُوْنَ سَنَةً رحمه الله.
57 -
وَلْنَذْكُرْ بَاقِي المَرْوَانِيَّةِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِد
ٍ: الحَكَمُ بنُ هِشَامِ ابْنِ الدَّاخِلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأُمَوِيُّ **
ابْنِ مُعَاوِيَةَ بنِ هِشَامِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ الأُمَوِيُّ، المَرْوَانِيُّ، أَبُو العَاصِ، أَمِيْرُ الأَنْدَلُسِ، وَابْنُ أَمِيْرِهَا، وَحَفِيْدُ أَمِيْرِهَا.
وَيُلَقَّبُ: بِالمُرْتَضَى، وَيُعْرَفُ: بِالرَّبَضِيِّ؛ لِمَا فَعَلَ بِأَهْلِ
(*) العقد الفريد: 4 / 490، ابن القوطية: 42، جذوة المقتبس: 10، الكامل لابن الأثير: 5 / 583، الحلة السيراء: 1 / 42، البيان المغرب: 2 / 61، ابن خلدون: 4 / 124، المعجب: 19 (طبعة الاستقامة)، أخبار مجموعة: 120، نفح الطيب: 1 / 334.
(* *) العقد الفريد: 4 / 490، جذوة المقتبس: 10، الكامل لابن الأثير: 6 / 133، 149، 158، 162، 186، المغرب في حلي المغرب: 1 / 38، المعجب للمراكشي: 44، الحلة السيراء: 1 / 43، البيان المغرب: 2 / 70، فوات الوفيات: 1 / 393، أخبار مجموعة: 124، تاريخ ابن خلدون: 4 / 125.
الرَّبَضِ (1) .
بُوْيِعَ بِالمُلْكِ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيْهِ، فِي صَفَرٍ، سَنَةَ ثَمَانِيْنَ وَمائَةٍ.
وَكَانَ مِنْ جَبَابِرَةِ المُلُوْكِ، وَفُسَّاقِهِم، وَمُتَمَرِّدِيْهِم، وَكَانَ فَارِساً، شُجَاعاً، فَاتِكاً، ذَا دَهَاءٍ، وَحَزمٍ، وَعُتُوٍّ، وَظُلْمٍ، تَملَّكَ سَبْعاً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً.
وَكَانَ فِي أَوَّلِ أَمرِهِ عَلَى سِيْرَةٍ حَمِيْدَةٍ، تَلَا فِيْهَا أَبَاهُ، ثُمَّ تَغَيَّرَ، وَتَجَاهَرَ بِالمَعَاصِي.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ: كَانَ مِنَ المُجَاهِرِيْنَ بِالمَعَاصِي، سَفَّاكاً لِلدِّمَاءِ، كَانَ يَأْخذُ أَوْلَادَ النَّاسِ المِلَاحَ، فَيَخْصِيْهِم، وَيُمْسِكُهُم لِنَفْسِهِ.
وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ.
قَالَ اليَسَعُ بنُ حَزْمٍ: هَمَّتِ الرُّوْمُ بِمَا لَمْ يَنَالُوا مِنْ طَلَبِ الثُّغُورِ، فَنَكَثُوا العَهْدَ، فَتَجَهَّزَ الحَكَمُ إِلَيْهِم حَتَّى جَازَ جَبَلَ السَّارَةِ - شِمَالِيَّ طُلَيْطِلَةَ - فَفَرَّتِ الرُّوْمُ أَمَامَهُ حَتَّى تَجَمَّعُوا بِسَمُّوْرَةَ، فَلَمَّا الْتَقَى الجَمْعَانِ، نَزَلَ النَّصْرُ، وَانْهَزَمَ الكُفْرُ، وَتَحَصَّنُوا بِمَدِيْنَةِ سَمُّوْرَةَ، وَهِيَ كَبِيْرَةٌ جِدّاً، فَحَصَرَهَا المُسْلِمُوْنَ بِالمَجَانِيْقِ، حَتَّى افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً، وَمَلَكُوا أَكْثَرَ شَوَارِعِهَا، وَاشْتَغَلَ الجُنْدُ بِالغَنَائِمِ، وَانْضَمَّتِ الرُّوْمُ إِلَى جِهَةٍ مِنَ البَلَدِ، وَخَرَجُوا علَىحَمِيَّةٍ، فَقَتَلُوا خَلقاً فِي خُرُوْجِهِم، فَكَانَتْ غَزْوَتُه مِنْ أَعْظَمِ المَغَازِي، لَوْلَا مَا طَرَأَ فِيْهَا مِنْ تَضْيِيعِ الحَزْمِ، وَرَامَتِ الرُّوْمُ السَّلْمَ، فَأَبَى عَلَيْهِمُ الحَكَمُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِم خَوْفاً مِنَ الثُّلُوْجِ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الآتِي، اسْتَعَدَّ أَعْظَمَ اسْتِعْدَادٍ،
(1) وذلك أن الحكم هذا قد انهمك في لذاته، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة، فثاروا به، وخلعوه، وبايعوا بعض قرابته، وكانوا بالربض الغربي من قرطبة، فقاتلهم الحكم فغلبهم، فاقترقوا، وهدم دورهم ومساجدهم، ولحقوا بفاس من أرض العدوة.
انظر سنة 189 وسنة 202 في " البيان المغرب في أخبار المغرب " 2 / 106، وابن القوطية: 72، و" الحلة السيراء " 1 / 44، وابن خلدون 4 / 126.
وَقَصَدَ سَمُّوْرَةَ، فَقَتَلَ، وَسَبَى كُلَّ مَا مَرَّ بِهِ، ثُمَّ نَازَلَهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ دَخَلُوْهَا بَعْد جَهْدٍ، وَبَذَلُوا فِيْهَا السَّيْفَ إِلَى المَسَاءِ، ثُمَّ انْحَازَ المُسْلِمُوْنَ، فَبَاتُوا عَلَى أَسْوَارِهَا، ثُمَّ صَبَّحُوهَا مِنَ الغَدِ، لَا يُبقُونَ عَلَى مُحْتَلِمٍ.
قَالَ الرَّازِيُّ (1) فِي (مَغَازِي الأَنْدَلُسِ) : الَّذِي أُحصِيَ مِمَّنْ قُتِلَ فِي سَمُّوْرَةَ ثَلَاثُ مائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الخَبَرُ مَلِكَ رُوْمِيَّةَ، كَتَبَ إِلَى الحَكَمِ يَرْغَبُ فِي الأَمَانِ، فَوَضَعَ الحَكَمُ عَلَى الرُّوْمِ مَا كَانَ جَدُّهُ وَضَعَ عَلَيْهِم، وَزَادَ عَلَيْهِم أَنْ يَجْلِبُوا مِنْ تُرَابِ مَدِيْنَةِ رُوْمِيَّةَ نَفْسِهَا مَا يُصنَعُ بِهِ أَكوَامٌ بِشَرْقِيِّ قُرْطُبَةَ صَغَاراً لَهُم، وَإِعلَاءً لِمَنَارِ الإِسْلَامِ، فَهُمَا كَوْمَانِ مِنَ التُّرَابِ الأَحْمَرِ فِي بَسِيْطِ مدرَتِهَا السَّوْدَاءُ.
قُلْتُ: وَكَثُرَتِ العُلَمَاءُ بِالأَنْدَلُسِ فِي دَوْلَتِهِ، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّهُ كَانَ بِقُرْطُبَةَ أَرْبَعَةُ آلَافِ مُتَقَلِّسٍ مُتَزَيِّيْنَ بِزِيِّ العُلَمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ فَنَاءهُم، عَزَّ عَلَيْهِمُ انْتِهَاكُ الحَكَمِ لِلْحُرُمَاتِ، وَائْتَمَرُوا لِيَخْلَعُوْهُ، ثُمَّ جَيَّشُوا لِقِتَالِهِ، وَجَرَتْ بِالأَنْدَلُسِ فِتْنَةٌ عَظِيْمَةٌ عَلَى الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ.
فَذَكَرَ ابْنُ مُزْيَنٍ فِي (تَارِيْخِهِ) : طَالُوْتَ بنَ عَبْدِ الجَبَّارِ المَعَافِرِيَّ، وَأَنَّهُ أَحَدُ العُلَمَاءِ العَامِلِيْنَ الشُهَدَاءِ الَّذِيْنَ هَمُّوا بِخَلْعِ الحَكَمِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ، وَنَكَثُوْهُ فِي نُفُوْسِ العَوَامِّ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ المَكْثُ وَلَا الصَّبْرُ عَلَى هَذِهِ السِّيْرَةِ الذَّمِيْمَةِ، وَعَوَّلُوا عَلَى تَقْدِيْمِ أَحَدِ أَهْلِ الشُّوْرَى بِقُرْطُبَةَ، وَهُوَ أَبُو الشَّمَاسِ أَحْمَدُ بنُ
(1) ذكره في " المغرب " 1 / 44 نقلا عن ابن حزم في كتابه " نقط العروس ": هو أحمد ابن محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط الرازي الأندلسي، ذكره الحميدي في " جوذة المقتبس ": 104، فقال: هو أندلسي، أصله من الري، له في أخبار الملوك الأندلس وخدمتهم وركبانهم وغزواتهم كتاب كبير، وألف في صفة قرطبة خططها، ومنازل العظماء بها كتابا عظيما، وله كتاب في أنساب مشاهير أهل الأندلس في خمسة مجلدات ضخمة، توفي سنة 344 هـ.
مترجم في " معجم الأدباء " 4 / 235، 236.
المُنْذِرِ ابْنِ الدَّاخِلِ الأُمَوِيِّ ابْنُ عَمِّ الحَكَمِ، لِمَا عَرَفُوا مِنْ صَلَاحِهِ، وَعَقْلِهِ، وَدِيْنِهِ، فَقَصَدُوْهُ، وَعَرَّفُوهُ بِالأَمْرِ، فَأَبْدَى المَيْلَ إِلَيْهِم، وَالبُشْرَى بِهِم، وَقَالَ لَهُم: أَنْتُمْ أَضْيَافِيَ اللَّيْلَةَ، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَسْتَرُ.
وَنَامُوا، وَقَامَ هُوَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ بِجَهْلٍ، فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِهِم، فَاغْتَاظَ لِذَلِكَ، وَقَالَ: جِئْتَ لِسَفْكِ دَمِي أَوْ دِمَائِهِم، وَهُمْ أَعْلَامٌ، فَمِنْ أَيْنَ نَتَوَصَّلُ إِلَى مَا ذَكَرْتَ؟
فَقَالَ: أَرْسِلْ مَعِيَ مَنْ تَثِقُ بِهِ لِيَتَحَقَّقَ.
فَوَجَّهَ مَنْ أَحَبَّ، فَأَدْخَلَهُم أَحْمَدُ فِي بَيْتِهِ تَحْتَ سِتْرٍ، وَدَخَلَ اللَّيْلُ، وَجَاءَ القَوْمُ، فَقَالَ: خَبِّرُوْنِي مَنْ مَعَكُم؟
فَقَالُوا: فُلَانٌ الفَقِيْهُ، وَفُلَانٌ الوَزِيْرُ.
وَعَدُّوا كِبَاراً، وَالكَاتِبُ يَكْتُبُ حَتَّى امْتَلأَ الرَّقُّ، فَمَدَّ أَحَدُهُم يَدَهُ وَرَاءَ السِّتْرِ، فَرَأَى القَوْمَ، فَقَامَ وَقَامُوا، وَقَالُوا: فَعَلْتَهَا يَا عَدُوَّ اللهِ.
فَمَنْ فَرَّ لِحِيْنِهِ، نَجَا، وَمَنْ لَا، قُبِضَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِمَّنْ فَرَّ: عِيْسَى بنُ دِيْنَارٍ الفَقِيْهُ (1) ، وَيَحْيَى بنُ يَحْيَى الفَقِيْهُ (2) صَاحِبُ مَالِكٍ، وَقَرَعُوْسُ بنُ العَبَّاسِ الثَّقَفِيُّ (3) .
(1) هو عيسى بن دينار الغافقي الطليطلي، رحل فسمع من عبد الرحمن بن القاسم العتقي، وصحبه، وعول عليه، وانصرف إلى الأندلس، كان إماما في الفقه على مذهب مالك ابن انس، وعلى طريقة عالية من الزهد والعبادة، وكانت الفتيا تدور عليه، لا يتقدمه في وقته أحد في قرطبة، وبه وبيحيى انتشر علم مالك بالاندلس، وكان يعجبه ترك الرأي والاخذ بالحديث.
توفي سنة اثنتي عشرة ومئتين.
وسيترجمه المؤلف في الجزء العاشر.
(2)
يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس المصمودي الليثي مولاهم، رحل إلى المشرق، فسمع من مالك بن أنس، و
…
؟ ؟ عيينة، والليث بن سعد، وابن القاسم، وابن وهب، وتفقه بالمدنيين، والمصريين، من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته، وهو أحد رواة " الموطأ " عن مالك، وروايته هي المطبوعة المتداولة في هذه الاعصار، وصفه ابن عبد البر فقال: كان إمام بلده، المقتدى به، المنظور إليه، المعول عليه، وكان ثقة عاقلا حسن الهدي والسمت، توفي سنة 230 هـ وسترد ترجمته في الجزء العاشر.
(3)
هو قرعوس بن العباس بن قرعوس بن عبيد بن منصور بن محمد بن يوسف الثقفي، أحد فقهاء الأندلس، سمع من مالك بن أنس، وابن جريج، والليث، وغيرهم.
كان فاضلا ورعا عالما
بمذهب مالك وأصحابه، لا علم له بالحديث، روى عن مالك " الموطأ " وشيئا من المسائل، توفي =
وَقُبِضَ عَلَى نَاسٍ كَأَبِي كَعْبٍ، وَأَخِيْهِ، وَمَالِكِ بنِ يَزِيْدَ القَاضِي، وَمُوْسَى بنِ سَالِمٍ الخَوْلَانِيِّ، وَيَحْيَى بنِ مُضَرَ الفَقِيْهِ، وَأَمْثَالِهِم مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالدِّيْنِ، فِي سَبْعَةٍ وَسَبْعِيْنَ رَجُلاً، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُم، وَصُلِبُوا.
وَأَضَافَ إِلَيْهِم عَمَّيْهِ؛ كُلَيباً وَأُمَيَّةَ، فَصُلِبَا، وَأَحْرَقَ القُلُوْبَ عَلَيْهِم، وَسَارَ بِأَمْرِهِمُ الرِّفَاقُ، وَعَلِمَ الحَكَمُ أَنَّهُ مَحْقُوْدٌ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِم، فَأَخَذَ فِي جَمْعِ الجُنُوْدِ وَالحَشَمِ، وَتَهَيَّأَ، وَأَخَذَتِ العَامَّةُ فِي الهَيْجِ، وَاسْتَأْسَدَ النَّاسُ، وَتَنَمَّرُوا، وَتَأَهَّبُوا.
فَاتَّفَقَ أَنَّ مَمْلُوْكاً (1) خَرَجَ مِنَ القَصْرِ بِسَيْفٍ دَفَعَهُ إِلَى الصَّيْقَلِ، فَمَاطَلَهُ، فَسَبَّهُ، فَجَاوَبَهُ الصَّيْقَلُ، فَتَضَارَبَا، وَنَال مِنْهُ المَمْلُوْكُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُتلِفَه، فَلَمَّا تَرَكَهَ، أَخَذَ الصَّيْقَلُ السَّيْفَ، فَقَتَلَ بِهِ المَمْلُوْكَ، فَتَأَلَّبَ إِلَى المَقْتُوْلِ جَمَاعَةٌ، وَإِلَى القَاتِلِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، وَاسْتَفحَلَ الشَّرُّ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمَائَتَيْنِ، وَتَدَاعَى أَهْلُ قُرْطُبَةَ مِنْ أَرْبَاضِهِم، وَتَأَلَّبُوا بِالسِّلَاحِ، وَقَصَدُوا القَصْرَ، فَرَكِبَ الجَيْشُ وَالإِمَامُ الحَكَمُ، فَهَزَمُوا العَامَّةَ، وَجَاءهُم عَسْكَرٌ مِنْ خَلْفِهِم، فَوَضَعُوا فِيْهِمُ السَّيْفَ، وَكَانَتْ وَقْعَةً هَائِلَةً شَنِيعَةً، مَضَى فِيْهَا عَدَدٌ كَثِيْرٌ زُهَاءَ عَنِ أَرْبَعِيْنَ أَلْفاً مِنْ أَهْلِ الرَّبَضِ، وَعَايَنُوا البَلَاءَ مِنْ قُدَّامِهِم وَمِنْ خَلْفِهِم، فَتَدَاعَوْا بِالطَّاعَةِ، وَأَذْعَنُوا، وَلَاذُوا بِالعَفْوِ، فَعَفَا عَنْهُم عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ قُرْطُبَةَ، فَفَعَلُوا، وَهُدِمَتْ دِيَارُهُم وَمَسَاجِدُهُم، وَنَزَلَ مِنْهُم أُلُوْفٌ بِطُلَيْطِلَةَ، وَخَلْقٌ فِي الثُّغُوْرِ، وَجَازَ آخَرُوْنَ البَحْرَ، وَنَزَلُوا بِلَادَ البَرْبَرِ، وَثَبَتَ جَمْعٌ بِفَاسَ، وَابْتَنَوْا عَلَى سَاحِلِهَا مَدِيْنَةً غَلَبَ عَلَى اسْمِهَا مَدِيْنَةُ الأَنْدَلُسِ، وَسَارَ جَمعٌ مِنْهُم زُهَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفاً،
= بالأندلس سنة عشرين ومئتين.
" جذوة المقتبس ": 333، و" الديباج المذهب " 2 / 154
و" ترتيب المدارك " 2 / 492.
(1)
انظر " المغرب " 1 / 42.
وَفِيْهِم عُمَرُ بنُ شُعَيْبٍ الغَلِيْظُ، فَاحْتَلُّوا بِالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَاتَّفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُم اشْتَرَى لَحْماً مِنْ جَزَّارٍ، فَتَضَاجَرَ مَعَهُ، وَرَمَاهُ الجَزَّارُ بِكِرْشٍ فِي وَجْهِهِ، فَرَجَعَ بِتِلْكَ الحَالَةِ إِلَى قَوْمِهِ، فَجَاؤُوا،
فَقَتَلُوا اللَّحَّامَ، فَقَامَ عَلَيْهِم أَهْلُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَاقْتَتَلُوا، وَأَخْرَجَ الأَنْدَلُسِيُّوْنَ أَهْلَهَا هَاربِيْنَ، وَتَمَلَّكُوا الإِسْكَنْدَرِيَّةَ.
فَاتَّصَلَ الخَبَرُ بِالمَأْمُوْنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِم، وَابْتَاعَ المَدِيْنَةَ مِنْهُم، عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا، وَيَنْزِلُوا جَزِيْرَةَ إِقْرِيْطشَ (1) ، فَخَرَجُوا، وَنَزَلُوْهَا، وَافْتَتَحُوهَا، فَلَمْ يَزَالُوا فِيْهَا إِلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا أَرْمَانُوسُ بنُ قُسْطَنْطِيْنَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِ مائَةٍ.
وَأَمَّا الحَكَمُ، فَإِنَّهُ اطْمَأَنَّ، وَكَتَبَ إِلَى القَائِدِ مُحَمَّدِ بنِ رُسْتُمَ كِتَاباً فِيْهِ:
وَأَنَّهُ تَدَاعَى فَسَقَةٌ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ إِلَى الثَّوْرَةِ، وَشَهَرُوا السِّلَاحَ، فَأَنْهَضْنَا لَهُمُ الرِّجَالَ، فَقَتَلْنَا فِيْهِم قَتلاً ذَرِيْعاً، وَأَعَانَ اللهُ عَلَيْهِم، فَأَمسَكْنَا عَنْ أَمْوَالِهِم وَحُرَمِهِم.
ثُمَّ كَتَبَ الحَكَمُ كِتَابَ أَمَانٍ عَامٍّ، وَكَانَ طَالُوْتُ (2) اخْتَفَى سَنَةً عِنْدَ يَهُوْدِيٍّ، ثُمَّ خَرَجَ، وَقَصَدَ الوَزِيْرَ أَبَا البَسَّامِ لِيَختَفِيَ عِنْدَهُ، فَأَسلَمَهُ إِلَى الحَكَمِ، فَقَالَ: مَا رَأْيُ الأَمِيْرِ فِي كَبْشٍ سَمِيْنٍ، وَقَفَ عَلَى مِذْوَدِهِ عَاماً؟
فَقَالَ الحَكَمُ: لَحْمٌ ثَقِيْلٌ، مَا الخَبَرُ؟
قَالَ: طَالُوْتُ عِنْدِي.
فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِهِ،
(1) هي في البحر المتوسط، وتعرف اليوم ب " كريت "، والذي أنزلهم فيها هو عبد الله بن طاهر قائد المأمون المشهور، ولاه مصر سنة 211، وقد خرج في جيوشه إلى الإسكندرية، فحاصر أهلها ومن معهم من الأندلسيين سنة 212 هـ، وصالحه الاندلسيون على أن يخرجوا إلى
إقريطش (كريت) فيملكوها، وكان أميرهم أبو حفص عمر بن عيسى.
انظر " الولاة والقضاة " للكندي: 183، و" خطط المقريزي " 1 / 172، و" معجم البلدان " 1 / 236.
(2)
هو طالوت بن عبد الجبار المعافري الأندلسي، دخل مصر، وحج، ولقي مالك بن أنس، وعاد إلى قرطبة، " نفح الطيب " 2 / 639.
فَأُحضِرَ، فَقَالَ: يَا طَالُوْتُ! أَخْبِرْنِي لَوْ أَنَّ أَبَاكَ أَوِ ابْنَكَ مَلَكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَكُنْتَ فِيْهَا فِي الإِكرَامِ وَالبِرِّ عَلَى مَا كُنْتُ أَفْعَلُ مَعَكَ؟ أَلَمْ أَفْعَلْ كَذَا؟ أَلَمْ أَمْشِ فِي جَنَازَةِ امْرَأَتِكَ، وَرَجَعتُ مَعَكَ إِلَى دَارِكَ؟ أَفَمَا رَضِيْتَ إِلَاّ بِسَفكِ دمِي؟
فَقَالَ الفَقِيْهُ فِي نَفْسِهِ: لَا أَجِدُ أَنْفعَ مِنَ الصِّدْقِ، فَقَالَ: إِنِّيْ كُنْتُ أُبغِضُكَ للهِ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ مَا صَنَعْتَ مَعِيَ لِغَيْرِ اللهِ، وَإِنِّيْ لَمُعْتَرِفٌ بِذَلِكَ - أَصْلَحَكَ اللهُ -.
فَوَجَمَ الخَلِيْفَةُ، وَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَبْغَضْتَنِي لَهُ قَدْ صَرَفَنِي عَنْكَ، فَانْصَرِفْ فِي حِفْظِ اللهِ، وَلَسْتُ بِتَارِكٍ بِرَّكَ، وَلَيْتَ الَّذِي كَانَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ أَيْنَ ظَفِرَ بِكَ أَبُو البَسَّامِ - لَا كَانَ -؟
فَقَالَ: أَنَا أَظْفَرْتُهُ بِنَفْسِي، وَقَصَدْتُهُ.
قَالَ: فَأَيْنَ كُنْتَ فِي عَامِكَ؟
قَالَ: فِي دَارِ يَهُوْدِيٍّ، حَفِظَنِي للهِ.
فَأَطْرَقَ الخَلِيْفَةُ مَلِيّاً، وَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى أَبِي البَسَّامِ، وَقَالَ: حَفِظَه يَهُوْدِيٌّ، وَسَتَرَ عَلَيْهِ لِمَكَانِه مِنَ العِلْمِ وَالدِّيْنِ، وَغَدَرْتَ بِهِ إِذْ قَصَدَكَ، وَخَفَرْتَ ذِمَّتهُ، لَا أَرَانَا اللهُ فِي القِيَامَةِ وَجْهَهُ إِنْ رَأَيْنَا لَكَ وَجْهاً.
وَطَرَدَهُ، وَكَتَبَ لِلْيَهُودِيِّ كِتَاباً بِالجِزْيَةِ فِيْمَا مَلَكَ، وَزَادَ فِي إِحْسَانِهِ، فَلَمَّا رَأَى اليَهُوْدِيُّ ذَلِكَ، أَسْلَمَ مَكَانَهُ (1) .
قَالَ ابْنُ مُزْيَنٍ: وَكَانَ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ لَهُم نُفُوْسٌ أَبِيَّةٌ، وَكَانُوا لَا يَصْبِرُوْنَ عَلَى ظُلْمِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّ وُلَاتَهُم كَانَ فِيْهِم ظُلْمٌ وَتَعَدٍّ، فَكَانُوا يَثِبُوْنَ عَلَى الوَالِي وَيُخْرِجُونَه، فَوَلَّى عَلَيْهِمُ الحَكَمُ عَمْرُوْساً (2) ؛ رَجُلاً مِنْهُم.
وَكَانَ عَمْرُوْسُ دَاهِيَةً، فَدَاخَلَ الحَكَمَ، وَعَمِلَ عَلَى رُؤُوْسِ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ حَتَّى قَتَلَ جَمَاعَةً مِنْهُم.
(1) انظر " المغرب " 1 / 43، و" نفح الطيب " 2 / 639.
(2)
هو عمروس بن يوسف والي الحكم على الثغر، وأحد المتفانين في الاخلاص له، وإن كانت بدرت منه بادرة عصيان، ويشتهر بذبحه للزعماء المنشقين في فناء قصره كما ذكر المؤلف فيما بدع.
انظر ابن خلدون 4 / 126.