المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لأبي الفرج ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الأنصاري المعروف - شذرات من كتب مفقودة في التاريخ - جـ ١

[إحسان عباس]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌مقدمة

- ‌أخبار البرامكة

- ‌لأبي جعفر

- ‌عمر بن الأزرق الكرماني

- ‌كتاب الأحداث

- ‌لأبي جعفر

- ‌محمد بن الأزهر

- ‌وتاريخ محمد بن أبي الأزهر

- ‌وتاريخ ابن أبي الأزهر والقطربلي

- ‌سير الثغور

- ‌لأبي عمر وعثمان بن عبد الله بن إبراهيم الطرسوسي

- ‌تاريخ العظيمي

- ‌أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن نزار التنوخي الحلبي

- ‌الاستظهار في التاريخ على الشهور

- ‌للقاضي أبي القاسم علي بن محمد بن أحمد الرجي المعروف بابن السمناني

- ‌عنوان السير في محاسن أهل البدو والحضر

- ‌لأبي الحسن محمد بن عبد الملك الهمنداني

- ‌ تاريخ همام بن الفضل بن جعفر بن علي بن المهذب التنوخي

- ‌تواريخ صنفَها بَنو منقذ

- ‌ أزهار الأنهار

- ‌لأسامة بن منقذ

- ‌ ذيل على تاريخ أبي غالب همام بن المهذب المعري

- ‌عمله

- ‌أبو المغيث منقذ بن مرشد بن علي بن منقذ

- ‌ تاريخ جمعَه

- ‌أبو الحسن علي بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ

- ‌مدرج للمرهف بن أسامة بن منقذ

- ‌علق فيه شيئاً من التاريخ

- ‌تاريخ مختصر

- ‌عمله

- ‌أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب الفرضي البغدادي

- ‌المعروف بابن الدهان (- 592/1195)

- ‌ذيل على مختصر تاريخ الطبري

- ‌تاريخ الوزير أبي غالب عبد الواحد بن مسعود بن الحصين الشيباني

- ‌حلية السريين من خواص الدنيسريين

- ‌لأبي حفص عمر بن الخضر بن اللمش بن الدزمش التركي

- ‌ تاريخ حران

- ‌لأبي المحاسن ابن سلامة الحراني

- ‌الاستسعاد بمن لقيته من صالحي العباد في البلاد

- ‌لأبي الفرج ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الأنصاري المعروف

- ‌سيرة أحمد بن طولون

- ‌سيرة خمارويه

- ‌سيرة محمد بن طغج الإخشيد

- ‌لابن زولاق " 306 387 /919 997

- ‌ سيرة أحمد بن طولون

- ‌لابن زولاق

- ‌ سيرة أبي الجيش خمارويه

- ‌لابن زولاق

- ‌ سيرة محمد بن طغج الإخشيد

- ‌لابن زولاق

- ‌ذكر الإخشيد

الفصل: ‌لأبي الفرج ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الأنصاري المعروف

18 -

(1)

‌الاستسعاد بمن لقيته من صالحي العباد في البلاد

‌لأبي الفرج ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الأنصاري المعروف

بابن الحنبلي

554 634 - /1159 1236

(1) ترجمته في مرآة الزمان 8: 700 وذيل الروضتين: 164 والتكملة لوفيات النقلة: 3: 429 (وفيه تخريج واف لمصادر الترجمة) وذيل طبقات الحنابلة 2: 193 - 201 وعبر الذهبي 5: 138 والشذرات 5: 164.

ص: 175

فراغ

ص: 176

ولد بدمشق وكان أبوه (586) شيخ الحنابلة بها في وقته، فسمع بدمشق من والده ومن غيره ثم أعد العدة للطلب، فطوف من أجل ذلك في عدد من البلدان مثل بغداد والموصل وأصبهان وهمذان، وزار مصر مرتين، ولقي المحدثين وتمكن في الفقه واللغة، ولكنه اتجه في دور مبكر من حياته إلى الوعظ حتى شهر به، وقد وعظ في كثير من البلدان التي دخلها، وحضر فتح بيت المقدس مع صلاح الدين، ودرس في عدة مدارس، ومن أجله بنت له الصاحبة ربيعة خاتون المدرسة الصاحبية بجبل قاسيون، وأبتدأ تدريسه فيها سنة628، وقد كانت بينه وبين بعض علماء عصره منافسة، فقد تنازع مع موفق الدين المقدسي حول بعض القضايا، بعد أن كان المقدسي يرشحه لخلافته في المذهب، كما دخل في منافسة مع سبط ابن الجوزي بسبب الوعظ، والتقرب إلى الملك الأشرف الأيوبي، وكانت وفاته بدمشق.

ألف عدداً من المصنفات منها أسباب الحديث في عدة مجلدات، والانجاد في الجهاد، وتاريخ الوعاظ، ويعد كتابه " الاستسعاد " من المصادر المهمة التي اعتمدها ابن رجب في تأليف كتابه " ذيل طبقات الحنابلة " وقد وقف عليه بخط مؤلفه.

1 -

(1)

إبراهيم بن محمد بن الأزهري الصريفيني أبو إسحاق: [تولى دار الحديث

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 229 (توفي سنة 641) .

ص: 177

بحلب، وكان سبب ذلك أن] القاضي بهاء الدين ابن شداد كان له غلو في إعلاء مذهب الشافعي فرأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسألته: أي المذاهب خير؟ ثم كتم جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنه أشار إلى مذهب أحمد، لأن تعصبه على مذهب أبي حنيفة ما تغير، ومال إلى الحنابلة، وأجلس التقي إبراهيم الحافظ الصريفيني في دار الحديث وقال: ندمت إذ وسمتها بالشافعية، ولو كان الجواب " مذهب الشافعي " لأظهره لأنه كان داعية إليه مبالغاً في تعظيمه وإظهاره عند الملوك.

2 -

(1)

إبراهيم بن المظفر الحربي الواعظ برهان الدين: كان واعظاً فاضلاً من أهل السنة، لم يكن بالموصل أعرف بالحديث والوعظ منه.

3 -

(2)

أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد البغدادي المقرئ أبو العباس، وقد أجاز لنا الرواية عنه الشيخ أحمد بن الحسين بن محمد البغدادي، ورأيت بخطه العراقي. سمع الحديث ببغداد، وقرأ القرآن العزيز بطرق كثيرة، وكان ماهراً فيه، وتصدر لقراءة القرآن تحت النسر بجامع دمشق، فختم عليه القرآن جماعة، وكان كثير الحكايات والنوادر، قدم من بغداد مع الفقيه الأعز سنة أربعين وخمسمائة. قال لي: جئت إلى الشام بنية أني أزور القدس وإلى الآن ما زرته، فقلت، معي تزوره إن شاء الله، فزاره في صحبتي سنة سبع وثمانين أو سنة ثمان. وقرأت عليه فاتحة الكتاب تجويداً وتحريراً، وقرأت عليه كتاب الفصيح لثعلب، رواه عن سعد الخير الأندلسي، وقرأت عليه رسالة الشيخ ابن منير إلى الشيخ شرف الإسلام جدي، رواها عنه قال: اجتمعت بابن منير في حلب وسمعت الرسالة عليه، وقرأت

(1) ذيل الطبقات الحنابلة 2: 150 (546 - 622) .

(2)

بغية الطلب 1: 57 وأشار إلى ذلك ابن رجب في الذيل 1: 376.

ص: 178

عليه أيضاً تصديقه (1) القرآن إنشاء ابن منير، رواها أيضاً عنه، وكان يصلي إماماً في مسجد الحشائين، أقام به سنين، وكان له منهم أصحاب وجماعة، فحسن فيه الظن، وكان يقول: كان عندنا في الحربية قوم من المتشددين يسمون السبعية، لا يسلمون على من سلم (إلى سبعة) على مبتدع. وبلغ من العمر فوق السبعين سنة، ومات بدمشق.

4 -

(2)

أحمد بن عليّ بن أحمد الموصلي أبو العباس: كان يعرف أكثر مسائل الهداية لأبي الخطاب، ويأكل من كسب يده، ولباسه الثوب الخام. وانتفع به جماعة. وصار له حرمة قوية بالموصل واحترام من جانب صاحبها ومن بعده.

وتوفي في رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

5 -

(3)

أحمد بن محمد بن المبارك بن بكروس ويعرف بابن الحمامي: كان فقيهاً زاهداً، عابداً مفتياً، وسمعته يتكلم في حلقة شيخنا ابن المني، وعليه من نور العبادة وهدي الصالحين ما يشهد له.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين فقال: كان فقيهاً صاحب مسجد ومدرسة يتكلم فيها في مسائل الخلاف ويدرس. وكان يتزهد وكان متزوجاً بابنة ابن الجوزي، وما علمنا منه إلا الخير.

توفي يوم الثلاثاء خامس صفر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وكان يومه مشهودا.

ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بعد موت أحمد بن بكروس وهو يقول: مات

(1) اللفظة غير معجمة في الأصل.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 164.

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 338.

ص: 179

عابد الناس. وشاع هذا المنام في الناس. وكان أبوه أبو بكر محمد رجلاً صالحاً كثير الحج.

سمع الحديث في كبره على جماعة.

ولأبي العباس ولد اسمه محمد، يكنى أبا بكر، سمع من أبيه وعمه على زمن ابن البطي ويحيى بن بندار وطبقتهم، وكان فقيهاً صالحاً، وتوفي شاباً سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

6 -

(1)

أحمد بن يحيى بن فايد الأواني الحنبلي: زرته أنا ورفيق لي، فقدم لنا العشاء وعنده جماعة كثيرة، ولم يكن إلا خبز وخل وبقل، فتحدث على الطعام ثم قال: ضاف بعيسى ابن مريك أقوام فقدم لهم خبزاً وخلاً، وقال:" لو كنت متكلفاً لأحد شيئاً لتكلفت لكم " قال: فعرفت أنه قد عرف حالي. ودخل عليه رجل من الملاحدة في رباطه وهو جالس وحده، وهو في يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان، فقتله فتكاً رضي الله عنه، ودفن برباطه. ثم قتل قاتله وأحرق.

7 -

(2)

إسحاق بن أحمد بن محمد العلثي أبو الفضل: (قال ناصح الدين بن الحنبلي وقرأته بخطه) هو اليوم شيخ العراق والقائم بالانكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه.

8 -

(3)

أسعد بن المنجا التنوخي أبو المعالي الفقيه الحنبلي، يدعى وجيه الدين:

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 188.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 205 (توفي سنة 634) .

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 49 (519 - 606) وبغية الطلب 2: 49.

ص: 180

كان رحل إلى بغداد، فقرأ على الفقيه أحمد الحربي الحنبلي كتاب " الهداية " وكتب خطه له بذلك، وعاد إلى دمشق. وكان رأى الشيخ شرف الإسلام جدي وانتهى إليه، وطلب الفقيه حامد بن أبي الحجر شيخ حران قاضياً لحران من نور الدين ونور الدين يومئذ صاحب دمشق فأشاروا به، فسير إلى حران قاضياً، فأقام مدة ثم رجع إلى دمشق، فأقام مدة ثم رجع إلى حران قاضياً. مررت عليه عودي من أصبهان سنة إحدى وثمانين، وتأخر موته. وكان أبو المعالي ابن المنجا يدرس في المسمارية يوماً وأنا يوماً، ثم استقليت بها في حياته. وكان له اتصال بالدولة وخدمة السلاطين وأسن وكبر، وكف بصره في آخر عمره.

9 -

(1)

إسماعيل بن نباتة الفقيه الملقب وجيه الدين: سمع درس عمي الإمام بهاء الدين عبد الملك بن شرف الإسلام لما قدم من خراسان، وعلق عنه من تعليق أبي الفضل الكرماني، ثم سمع درس والدي، وحفظ الهداية لأبي الخطاب حفظاً متقناً، وحفظ أصول الفقه للبستي، وحفظ كثيراً من مسائل التعليق. وكان يدرس القرآن كثيراً، ويقوم به من نصف الليل. وكان يصلي الفجر على نهر بردى بحضرة القلعة، ويصلي العصر على عين بعلبك، وبالعكس، وربما قرأ في طريقه القرآن أو كتاب " الهداية " الشك مني.

ولما قدمت من بغداد سنة ست وسبعين، وتكلمت في المسألة فرح بي. ومات قبل الثمانين وخمسمائة، ودفن بالجبل جوار دير الحوراني، رحمه الله.

10 -

(2)

إلياس بن حامد بن محمود بن حامد الحراني تقي الدين أبو الفضل: كان

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 351.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 387.

ص: 181

رفيقي في درس شيخنا ابن المني. سكن الموصل إلى أن توفي، وولي مشيخة دار الحديث بها، وكان حسن الطريقة، وحدث. سمع منه بدل التبريزي.

توفي في سلخ شوال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بالموصل.

11 -

(1)

حامد بن محمد بن حامد الصفار الأصبهاني: لقيته بأصبهان، وكان فقيهاً على مذهب الإمام أحمد، عارفاً بالمذهب والخلاف محدثاً، ذا مروءة تامة.

12 -

(2)

حامد بن محمود بن حامد الحراني المعروف بابن أبي الحجر: حدثني ولده إلياس (3)، قال: خرج والدي مع الشيخ عبد القادر في زيارة، وكان معه جماعة وانفرد والدي عنه، ورفع ثوبه على قصبة، فقال الشيخ عبد القادر: من هذا؟ فقالوا: الفقيه حامد الحراني، فقال: هذا يكون له تعلق بالملوك، وكان كما قال.

وكان شيخ حران في وقته. بنى نور الدين محمود المدرسة في حران لأجله، ودفعها إليه، ودرس بها، وتولى عمارة جامع حران، فما قصر فيه قيل: إنه راح إلى الروم، وتولى نشر الخشب بنفسه.

وكان نور الدين محمود يقبل عليه، وله فيه حسن ظن. وكان عنده وسواس في الطهارة.

ورحل إلى بغداد، ونزل بمدرسة الشيخ عبد القادر، وسمع درسه، وكان من أصحابه. وجاء إلى دمشق في حوائج إلى نور الدين، ونزل عندنا في المدرسة، وأضافه والدي.

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 384.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 332 - 333 (توفي سنة 570) .

(3)

انظر الترجمة رقم: 10.

ص: 182

13 -

(1)

الحسن بن مسلم بن الحسن أبو عليّ الزاهد:

سمعت الشيخ طلحة [يعني العلثي] يقول: للشيخ حسن هذا عشرون سنة ما رئي نائماً مضطجعاً، وكان مشهوراً تزوره العامة والخاصة، وزرناه في قريته الفارسية وبتنا عنده وتحدث معنا وفرح بنا، وخضنا في أخبار الصفات، فقال، قال بعض مشايخنا: أخبار الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الرحمن.

14 -

(2)

سالم الشيزري: من أهل شيزر، قدم دمشق قرب الستين والخمسمائة ونزل عندنا في المدرسة، واشتغل بالفقه على والدي رحمه الله، فحفظ كتاب الإيضاح تأليف جد أبي الشيخ أبي الفرج، وقرأعليه أيضاً كتاب التبصرة في الأصول تصنيف الشيخ أبي الفرج من حفظه، وحفظ كتاب الفصيح، وكان يكرر عليّ محفوظاته إلى أن مات. وكان شجاعاً كريماً، وكنت أقرأ عليه من كتاب الإيضاح، وكان كثير الملازمة لصلاة الجماعة في حلقة الحنابلة، وكان لا ينام كل ليلة حتى يقرأ سورة يس والواقعة وتبارك والسجدة، وعمر إلى أن قدمت من بغداد وسمع درسي في المدرسة والحلقة سنين، ومات قريب العشر بعد الستمائة.

15 -

(3)

سعد بن عثمان بن مرزوق القرشي أبو الحسين بن الشيخ أبي عمرو: كان مشتغلاً بحفظ كتاب الوجهين والروايتين، تصنيف القاضي أبي يعلى. وكان من الزهد والصلاح والتطهير والتورع في المأكول على صفة تعجز كثيراً من المجتهدين في العبادة. وكان يمشي مطرق الرأس، يلتقط الأوراق المكتوبة، حتى اجتمع عنده

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 395 - 396 (توفي سنة 594) .

(2)

بغية الطلب 8: 215.

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 385 (توفي سنة 592) .

ص: 183

من ذلك شيء كثير، فيحمله بحمال إلى الشاطىء فيتولى غسله ويرسله مع الماء. وكان لا يستقضي أحداً حاجة إلا أعطاه أجره، ولو أشعل له سراجاً.

وذاكرته في خلوة في القول بخلق أفعال العباد، فأقر به، ولم يكن على ما ذكره من مذهب والده في ذلك، فسررت بذلك.

ورأى رجل في بغداد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: لولا الشيخ سعد نزل بكم بلاء، أو كما قال. ثم سعى الشيخ سعد إلى الجمعة وما عنده خبر بهذا المنام، فانعكف الناس به يتبركون به وازدحموا، فرموه مرات، وكأن منادياً ينادي في قلوب الناس، وهو يقول: أعوذ بالله من الفتنة، أيش بي؟ أيش بالناس؟ حتى ضرب الناس عنه وخلص منهم.

16 -

(1)

سلامة بن إبراهيم بن سلامة الحداد القباني الدمشقي أبو الخير، تقي الدين: كان حسن السمت، يحف شاربه، ويقصر ثوبه، ويأكل من كسب يده، يعمل القبابين، ويعتمد عليه في تصحيحها إلى أن مات.

وقال لي القاضي ابن الزكي: تعجبني طريقة أبي الخير يعني سلامة.

روى عنه ابن خليل في معجمه، فقال: أخبرنا الإمام أبو الخير قراءة عليه من لفظه.

وتوفي سابع وعشرين ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ودفن بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.

17 -

(2)

طلحة بن مظفر بن غانم بن محمد العلثي الفقيه الخطيب المحدث الفرضي

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 397.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 390 (توفي سنة 593) .

ص: 184

النظار، المفسر الزاهد، الورع العارف، تقي الدين أبو محمد: نشأ في العلث، وهي قرية من قرى بغداد، وحفظ الكتاب العزيز، وقرأ على عليّ البطائحي، والبرهان ابن الحصري، وغيرهما. وقرأ الفقه على ناصح الإسلام أبي الفتح ابن المني، فصار معيداً عليّ وعلى غيري، وانتفعنا به كثيراً. وسمع الحديث الكثير، وقرأ صحيح مسلم في ثلاثة مجالس. وكان يقرأ كتاب الجمهرة على ابن القصار، فمن سرعة قراءته وفصاحتها قال ابن القصار: هذا طلحة يحفظ هذا الكتاب؟ قالوا: لا. وكان يقرأ الحديث فيبكي، ويتلو القرآن في الصلاة ويبكي. وكان متواضعاً لطيفاً أديباً في مناظرته، لا يسفه على أحد، فقيراً مجرداً، ويرحم الفقراء، ولا يخالط الأغنياء.

حدثني الشيخ أن ناصح الإسلام ابن المني زار رجلاً من أرباب الدنيا، قال: وكنت معه يعتمد على يدي، فرأيت في زاوية الدار صحن حلواء، فاشتهته نفسي، وخرجنا ولم يقدمه لنا، فنمت تلك الليلة، فرأيت في منامي حلواء حضرت إلي، فأكلت منها حتى شبعت، فاصبحت ونفسي لا تطلب الحلواء.

وكان يقرأ عليه القرآن والفقه والحديث في جامع العلث.

18 -

(1)

طغدي بن ختلغ المسترشدي أبو محمد: المحث الحافظ الفرضي الزاهد، كان قيماً بمعرفة البخاري، برجاله وألفاظ غريبة، وشرح معانيه. قرأته عليه، وسمع بقراءتي جماعة كثيرة. وكان قيماً بأصول السنة ومقالة أصحاب الإمام أحمد، وكان متعبداً معتزلاً للناس. حضر معي فتح البيت المقدس. وقرأ عليه جماعة من أولاد الدمشقيين الحساب والفرائض. وكان لا يفارقني إلى أن حججت سنة تسع وثمانين، ورجعت من الحج فوجدته قد مات، رحمه الله، ودفن في تربة عمي عبد الحق بالجبل.

(1) ذيل طبقات الحنابلة: 1: 379 (534 - 589) .

ص: 185

19 -

(1)

عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، موفق الدين أبو محمد: حج سنة أربع وسبعين، ورجع مع وفد العراق إلى بغداد، وأقام بها سنة، فسمع درس ابن المني، وكنت أنا قد دخلت بغداد سنة اثنتين وسبعين، واشتغلنا جميعاً على الشيخ أبي الفتح ابن المني، ثم رجع إلى دمشق، واشتغل بتصنيف كتاب " المغني " في شرح الخرقي، فبلغ الأمل في إتمامه، وهو كتاب بليغ في المذهب، عشر مجلدات، وتعب عليه، وأجاد فيه وجمل به المذهب. وقرأه عليه جماعة، وانتفع بعلمه طائفة كثيرة، ومشى على سمت أبيه وأخيه في الخير والعبادة، وغلب عليه الاشتغال بالفقه والعلم.

20 -

(2)

عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الفرج الجبائي (3) الطرابلسي الفقيه الزاهد أبو محمد نزيل أصبهان: كان مملوكاً، فقرأ القرآن في حلقة الحنابلة يعني بجامع دمشق فحفظه، وحفظ شيئاً من عبادات المذهب الحنبلي، فقام قوم إلى الشيخ زين الدين عليّ بن إبراهيم بن نجا الواعظ، وهو على منبر الوعظ، فقالوا: هذا الصبي قد حفظ القرآن وهو على خير، نريد أن نشتريه ويعتق، فاشتري من سيده واعتق، وسافر عن دمشق، وطلب همذان، ولقى الحافظ أبا العلاء الهمذاني فأقام عنده، وقرأ عليه القرآن وسمع الحديث، وصار عند الحافظ مصدراً يقرأ الناس ويأخذ عليهم، واشتهر بالخير والعلم، ودخل العجم وسمع الكثير، ورجع إلى بغداد وسمع حديثها ولقي مشايخها. ولقيته ببغداد، واستزارني إلى بيته، وقال لجماعته: أنا مملوك بيت الحنبلي. ثم سافر إلى أصبهان.

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 134 (541 - 615) .

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 45، 46 (توفي سنة 605 بأصبهان) .

(3)

الجبائي: نسبة إلى الجبة قرية من ناحية بشري في جبل لبنان.

ص: 186

وكانت حرمة الشيخ عبد الله الجبائي كبيرة ببغداد، فلما دخلت أصبهان سنة ثمانين وجدته بها وهو عظيم الحرمة، فكان كل يوم يأتي إلى زيارتي. وبجاهه سمعت على الحافظ أبي موسى الجزء من السباعيات، فإنه كان مريضاً، وقد حجب الناس عنه، فلم يقدروا على حجب الشيخ عبد الله، فدخلنا معه، فأخذ الإذن من الحافظ أبي موسى لي في القراءة عليه. وكان إذا مشى في السوق قام له أهل السوق.

وحكى لي الشيخ طلحة يعني العلثي أن للشيخ عبد الله يعني الجبائي رياضات ومجاهدات يطول ذكرها. وحدثني الشيخ طلحة عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: فقال يا رسول الله، أيثاب الرجل على قراءة القرآن؟ فقال: نعم فقال: يا رسول الله، بفهم وغير فهم؟ فقال: بفهم وغير فهم، قال: فقلت: يا رسول الله، كلام الله بحرف وصوت؟ فقال: وهل يكون كلام بغير حرف وصوت؟ وهل يكون كلام بغير حرف وصوت؟ وقال: وهذا المنام عندي بخط الشيخ طلحة، رحمه الله.

حدث الجبائي ببغداد وأصبهان، وروى عنه ابن الجوزي عدة منامات في كتبه، وقال: كان من الصالحين.

21 -

(1)

عبد الله بن الحسين العكبري أبو البقاء: كان إماماً في علوم القرآن، إماماً في الفقه، إماماً في اللغة، إماماً في النحو، إماماً في العروض، إماماً في الفرائض، إماماً في الحساب، إماماً في معرفة المذهب، إماماً في المسائل النظريات، وله في هذه الأنواع من العلوم مصنفات مشهورة.

وكان معيداً للشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في المدرسة، وكان متديناً، قرأت عليه كتاب " الفصيح " لثعلب، من حفظي، وقرأت عليه بعض كتاب " التصريف " لابن جني.

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 110 (538 - 616) .

ص: 187

22 -

(1)

عبد الله بن عليّ بن أحمد بن الزيتوني البوازيجي أبو محمد: كان دخل بغداد قبل قدومي إليها بسنتين، وسمع درس الشيخ أبي الفتح ابن المني وصحبه وخدمه، وكان ببغداد مدة مقامي ببغداد، وسافر إلى البوازيج ثم عاد إلى بغداد. وكان رجلاً صالحاً، وكان يخل بعينه ولا يخل بدينه.

23 -

(2)

عبد الله بن عليّ بن محمد أبو القاسم ابن الفراء: سمعت عليه كتاب " صحيح الترمذي " بسماعه من الكروخي بقراءة الشيخ طلحة العلثي، وأجزاء أخر. وكان جميلاً جليلاً محترماً فاضلاً ومن أعيان العدول ببغداد ومن تصانيفه " الروض النضر في حياة أبي العباس الخضر ". وكانت عنده كتب جليلة أصيلة على مذهب الإمام أحمد، وخط الإمام أحمد كان أيضاً عنده، حكاه الشيخ طلحة في غالب ظني. وكان في سنة ثلاث وسبعين قد علاه الشيب الكثير، وكنت لا أشبع من النظر إلى جمال وجهه وحسن أطرافه وسكينة عليه، ولزمه دين كثير، وحمل منه الهم الغزير.

24 -

(3)

الشيخ شمس الدين عبد الحق بن عبد الوهاب بن شرف الإسلام: كان فقيهاً عاقلاً عفيفاً حسن العشرة كثير الصدقة رحيم القلب، سافر في طلب العلم، وقرأ كتاب " الهداية " على الشيخ أحمد الحراني الحنبلي، ودخل بلاد العجم، ورأى أئمة خراسان، وعاد إلى دمشق، وصحب أخاه والدي يسمع درسه ويعيد له، وهو بين يديه كالحاجب، ومات ودفن بسفح قاسيون.

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 162 - 163 (وتوفي البوازيجي سنة 622) .

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 352 (توفي سنة 578) .

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 369 (وشمس الدين هو عم المؤلف أيضاً) .

ص: 188

25 -

(1)

عبد الرحمن بن عليّ جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي الواعظ: اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان باجتماع ظراف بغداد ونظاف الناس، وحسن الكلمات المسجعة، والمعاني المودعة في الألفاظ الرائجة، وقراءة القرآن بالأصوات المرجعة والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين ودمعات الخاشعين، وإنابة النادمين وذل التائبين، والإحسان بما يفاض على المستمعين، من رحمة أرحم الراحمين. ووعظ وهو ابن عشر سنين إلى أن مات، ولم يشغله عن الاشتغال بالعلم شاغل، ولا لعب ولا لها، ولا سافر إلا إلى مكة، ولقد كان فيه جمال لأهل بغداد خاصة، وللمسلمين عامة، ولمذهب أحمد منه ما لصخرة بيت المقدس. حضرت مجالسه الوعظية بباب بدر عند الخليفة المستضيء، ومجالسه بدرب دينار في مدرسته، ومجالسه بباب الأزج على شاطىء دجلة، وسمعت عليه مناقب الإمام أحمد، وبعثت إليه من دمشق، فنقل سماعي بخطه وسيره إلي، وحضرت معه في دعوتين، فكان طيب النفس على الطعام، وكانت مجالسه أكثر فائدة من مجالسته.

وحدثني طلحة العلثي أن الشيخ كان يقرأ في تلك المدة (أي أثناء نفيه إلى واسط) ما بين المغرب والعشاء ثلاثة أجزاء أو أربعة أجزاء من القرآن، وبقي على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين، فأفرج عنه وقدم إلى بغداد وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحاً زائداً، ونودي له بالجلوس يوم السبت، فصلى الناس الجمعة، وعبروا يأخذون مكانات موضع المجلس عند تربة أم الخليفة، فوقع تلك الليلة مطر كثير ملأ الطرقات، فأحضر في الليل فراشون وروزجارية فنظفوا موضع الجلوس وفرشوا فيه دقاق الحصى (2) والبواري، ومضى الناس وقت المطر إلى قبو معروف تحت الساباط، حتى سكن المطر، ثم جلس

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 411، 427.

(2)

في الأصل: الجص.

ص: 189

الشيخ بكرة السبت وعبر الخلق، وحضر أرباب المدارس والصوفية ومشايخ الربط، وامتلأت البرية حتى ما كان يصل صوت الشيخ إلى آخرهم.

26 -

(1)

عبد العزيز بن ثابت بن طاهر البغدادي أبو منصور تاج الدين: كان رفيقنا في سماع درس ابن المني، وبلغ من الزهد والعبادة إلى حد يقال به تمسك بغداد. وكان لطيفاً في صحبته، خرجنا نزور قبر الإمام أحمد، ثم عدلنا إلى الشط، فنزل الفقهاء يسبحون في الشط، فقالوا للشيخ أبي منصور، انزل معنا، فنزع ثوبه، ونزل يسبح معهم، ولعبوا في المساء، فعمل مثلهم، فقال له بعض الفقهاء: أين الشيخ محمود النعال يبصرك؟ فقال: يامسكين، الحق تعالى يبصرنا؛ فطاب بعض الجماعة بقوله.

27 -

(2)

عبد العزيز بن دلف بن أبي طالب الناسخ الخازن أبو محمد أو أبو الفضل: الشيخ عبد العزيز إمام في القراءة، وفي علم الحديث، سمع الكثير، وكتب بخطه الكثير، وهو يصوم الدهر. لقيته ببغداد في المرتين.

28 -

(3)

عبد القادر بن عبد الله الفهمي الرهاوي ثم الحراني: تعلم القرآن فأعتقه سيده وقرأ كتاب (الجامع الصغير) في المذهب وهو للقاضي أبي يعلى ونفعه، ورأيت له مصنفاً في الفرائض والحساب، وسافر في طلب العلم. وكتب بخطه

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 398 (توفي سنة 596) .

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 219 (توفي سنة 637) .

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 83 - 84 (توفي بحران سنة 612) .

ص: 190

الكثير من الكتب والأجزاء، وأقام بدمشق بالمدرسة مدة، حتى نسخ " تاريخ ابن عساكر " بخطه، وسمعته عليه. وأقام بالموصل مدة، وولي بها مشيخة دار الحديث المظفرية، وحدث بها بأكثر مسموعاته، ثم انتقل منها إلى حران، وسكنها إلى حين وفاته.

ووقف عليه مظفر الدين صاحب " إربل " أرضاً بأرض حران، وبعث معه مرة مالاً يفك به الأسارى مع أجناد من أربل، فاجتمعنا به بدمشق.

29 -

(1)

الشيخ سديد الدين عبد الكافي بن عبد الوهاب شرف الإسلام [بن عبد الواحد] : كان فقيهاً متطهراً، ووعظ في شبابه، وكان يذكر الدرس في الحلقة، مستنداً إلى خزانة أبيه، وكان صيتاً، وربما خطب في الاملاكات المعتبرة. وكان شجاعاً شديداً، مات بعد الثمانين والخمسمائة، وقبره تحت مغارة الدم.

30 -

(2)

عبد المغيث بن زهير الحربي: سمعت من عبد المغيث طبقات أصحاب الإمام أحمد لأبي الحسين ابن القاضي بسماعه منه، بقراءة طلحة العلثي ببغداد. وكان يعني عبد المغيث حافظاً زاهداً ورعاً، كنت إذا رأيته خيل إلي أنه أحمد بن حنبل، غير أنه كان قصيراً.

31 -

(3)

عبد المنعم بن عليّ بن نصر النميري الحراني أبو محمد نجم الدين: اشتغل

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 369 (وسديد الدين هو عم المؤلف ابن الحنبلي) .

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 355 (توفي سنة 583) .

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 37 (توفي سنة 601) .

ص: 191

بالفقه، وسمع درس شيخنا ابن المني، وتكلم في مسائل الخلاف، واشتغل بالوعظ، وفتح عليه بالنظم والنثر، ورجع إلى حران ووعظ بها مدة، ثم سافر إلى دمشق، وحضر مجلسي، وسألناه أن يجلس فامتنع، وقال: ما أجلس في بلد تجلس أنت فيه، كأنه يكرمني بذلك، ثم عاد إلى بغداد.

32 -

(1)

الشيخ عز الدين عبد الهادي بن عبد الوهاب شرف الإسلام: كان فقيهاً واعظاً شجاعاً حسن الصوت بالقرآن، شديداً في السنة، شديد القوى، يحكى له حكايات عجيبة في شدة قوته، منها أنه بارز فارساً من الافرنج فضربه بدبوس فقطع ظهره وظهر الفرس فوقعا على بئر جامع دمشق فمشى به خطوات ثم رده إلى مكانه، وله أخبار في هذا الباب غريبة، وبنى مدرسة بمصر ومات قبل تمامها، وتوفي بمصر.

33 -

(2)

عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي: قال الشيخ طلحة يعني العلثي قلمه سديد في الفتوى.

34 -

(3)

عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشي الزاهد أبو عمرو: حكى لي الشيخ زين الدين عليّ بن نجا قال: زرت الشيخ عثمان بن مرزوق بمصر فقال: يجيء أسد الدين شيركوه إلى هذه البلاد ويروح، ولا يحصل له شيء، ثم يعود يجيء ويروح، ولا يأخذ البلد، ثم يجيء فيأخذ ما أدري قال في الثالثة أو

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 370 (وعز الدين هو عم المؤلف أيضاً) .

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 389.

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 308 - 309 (توفي بمصر سنة 564) .

ص: 192

الرابعة فيملك مصر، فجرى الأمر كما ذكر. فقلت له: يا سيدي، من أين لك هذا؟ فقال: والله يا ولدي، ما أعلم الغيب، وإنما لي عادة أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه في بعض الجمع، فيخبرني، قلت: لعله أراد في المنام.

وسمعت خادم الشيخ عثمان بن مرزوق، وكان يعرف بسيف السنة، وعليه آثار الصلاح، وقال له زين الدين بن نجا: أتعرف الأبيات التي أنشدت تلك الليلة بحضرة الشيخ عثمان بن مرزوق، فسمع وبكى؟ قال: نعم، قال: قلها، فقال:

فديت من واصلني

محتفياً في وصله

كنا على وعد فما

كدره بمطله

وعاد عندي كله

مشتغلاً بكله

ما خلت أن يصلح مث

لي في الهوى لمثله

وإنما جاد عل

ي منعماً بفضله

ولم أكن أهلاً له

لكنه من أهله 35 (1)

عليّ بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الدمشقي زين الدين أبو الحسن المعروف بابن نجية: ولد سنة عشر (وخمسمائة) وسمع بدمشق من أبي الحسن عليّ بن أحمد بن قيس، وسمع درس خاله شرف الإسلام عبد الوهاب، وتفقه به وسمع التفسير منه، وأحب الوعظ وغلب عليه فاشتغل به.

قال لي: حفظني خالي مجلس وعظ، وعمري يومئذ عشر سنين، ثم نصب لي كرسياً في داره، وأحضر لي جماعته، وقال: تكلم، فتكلمت، فبكى. قال: وكان ذلك المجلس يذكر بعضه وهو ابن تسعين، وكان بطيء النسيان. وكان أسماء الفصول الذي يحفظ مجلدة. وكان لا يخطب في مجلسه وإنما يدعو عقيب القراء، ثم يقرأ مقرئ آيات من القرآن فيفسرها، ويوسع في ذكره، ثم يذكر فصولاً وعنده

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 436 - 440.

ص: 193

من كلام العرب والعجم، فيلقن من الفصول ما يختار.

وبعثه نور الدين محمود بن زنكي رسولاً إلى بغداد سنة أربع وستين وخمسمائة وخلع عليه هناك أهبة سوداء، فكانت عنده يلبسها في الأعياد، وسمع هناك الحديث من سعد الخير بن محمد الأنصاري كثيراً، وصاهره على ابنته فاطمة، ونقلها معه إلى مصر، وانتقلت كتب سعد الخير إليه؛ ومن عبد الصبور بن عبد السلام الهروي وعبد الخالق بن يوسف وغيرهم. واجتمع هناك بالشيخ عبد القادر وغيره من الأكابر، ووعظ بجامع المنصور. وسمعته يقول: أول مجلس جلسته في بغداد في جامع المنصور، فنزلت سحراً إلى الجامع متنكراً، حتى أرى هيئة المجلس وأسمع ما يقال، وإذا رجل أعمى قد جلس على درج المنبر، فذكر من الفصول من كلام التميمي وابن عقيل وغيرهما جميع ما قد حررته للمجلس، وتعبت عليه، قال: فأصابني هم، وما بقي لي زمن أحفظ غير ذلك، فاستخرت الله تعالى، ثم جلست وتكلمت، وذكرت حكاية طاب بها المجلس.

وسمعته يقول: أول ما دخلت بغداد جاءني الشيخ أبو الفضل ابن شافع وتعصب لي، فدخل عليّ الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي مهنئاً بالسلامة، وتحدثنا، قال لي: تحفظ شيئاً من شعر ابن الكيزاني؟ فأنشدته له:

رأتني خاضباً شيبي

فسمتني أبا العيب فظهر الغيظ في وجهه، ثم قام فذهب. فقال ابن شافع: أيش عملت؟ هذا أول من جاءك من الحنابلة لقيته بما يكره، فقلت: كيف؟ قال: هو يخضب، قلت: والله ما علمت، ولا حضرني من شعر ابن الكيزاني إلا هذا.

ثم عاد ابن نجية وانتقل إلى مصر من قبل دولة صلاح الدين، وأقام بها إلى أن مات (1) . وكان يعظ بها بجامع القرافة مدة طويلة، وله فبها وجاهة عظيمة عند الملوك، وكان ذا رأي صائب، وكان صلاح الدين يعني ابن يوسف بن أيوب

(1) قال ناصح الدين الحنبلي: مات بعد الستمائة وهو وهم، فإنه كان يكتب هذه التواريخ من حفظه وقد بعد عهده بها، والصحيح أنه توفي سنة 599 (ذيل طبقات الحنابلة 1: 440) .

ص: 194

يسميه عمرو بن العاص، ويعمل برأيه. وكان أهل السنة بمصر لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين يعني ابن نجية وكثير من أرباب الدولة. وقال له الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين: إذا رأيت مصلحة في شيء فاكتب إليّ بها، فأنا ما أعمل إلا برأيك.

وقضيته مع عمارة اليمني ومن وافقه على السعي من إعادة دولة العبيديين معروفة. وهم: عبد الصمد الكاتب، وهبة الله بن كامل القاضي، وابن عبد القوي داعي الدعاة، وعمارة الشاعر، وغيرهم من الجند والأعيان. وكانوا قد عينوا خليفة ووزيراً، وتقاسموا الدور، واتفقوا على استدعاء الفرنج إلى مصر، ليشتغل بهم صلاح الدين، ويخلو لهم الوقت ليتم أمرهم ومكرهم، فأدخلوا في الشورى معهم زين الدين ابن نجية، فأظهر لهم أنه معهم، ثم جاء إلى صلاح الدين فأخبره، وطلب منه ما لابن كامل من الحواصل والعقار، فبذله له، وأمره بمخالطتهم وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بكل متجدد. ويقال إن القاضي الفاضل استراب من بعض أولئك الجماعة فأحضر ابن نجا الواعظ، وأخبره الحال. فطلب منه كشف الأمر، فأخبره بأمرهم، فبعثه إلى صلاح الدين، فأوضح له الأمر، فطلب صلاح الدين الجماعة، وقررهم، فأقروا، فصلبهم بين القصرين.

ولما كان السلطان صلاح الدين في الشام سنة ثمانبن كتب إليه الشيخ زين الدين كتاباً يشوقه إلى مصر، ويصف محاسنها، فكتب إليه السلطان كتابأً بإنشاء العماد الكاتب، يتضمن تفضيل الشام على مصر، وفي آخره: ونحن لا نجفو الوطن كما جفوته، وحب الوطن من الإيمان.

ولما فتح صلاح الدين القدس كان معه، وتكلم أول جمعة أقيمت فيه على كرسي الوعظ، وكان يوماً مشهوداً.

ونشأ لابن نجا ولد حسن الصورة، فلما بلغ أخذ في سبيل اللهو، فدعا عليه، فمات، فحضر الناس والدولة لأجله، فلما وضعوا سريره في المصلى نصبوا للشيخ كرسياً إلى جانبه، فصعد عليه، وحمد الله تعالى، وقال: اللهم إن هذا

ص: 195

ولدي بلغ من العمر تسع عشرة سنة، ولم يجر عليه فيها قلم إلا بعد خمس عشرة سنة، بقي له ثلاث سنين، نصفها نوم، بقي عليه سنة ونصف، وقد أساء فيها إلي وإليك، فأما جنايته عليّ فقد وهبتها له، بقي الذي لك فهبه لي، فصاح الناس بالبكاء، ونزل فصلى عليه.

وكان زيد الدين كريماً، وله سماط يؤكل عنده، وتوسعة في النفقة. وضاق صدره في آخر عمره من دين عليه، فلما عرف الملك العزيز عثمان أعطاه ما يزيد على أربعة آلاف دينار مصرية.

وقال لي: ما احتجت في عمري إلا مرتين، وقال لي: والدي زين الدين سعد بدعاء والدته، كانت صالحة حافظة، تعرف التفسير. قال زين الدين: كنا نسمع من خالي التفسير، ثم أجيء إليها، فتقول: أيش فسر أخي اليوم؟ فأقول: سورة كذا وكذا، فتقول: ذكر قول فلان، وذكر الشيء الفلاني؟ فأقول: لا، فتقول: ترك هذا، وسمعت والدي يقول: كانت تحفظ كتاب " الجواهر " وهو ثلاثون مجلدة، تأليف والدها الشيخ أبي الفرج، وأقعدت أربعين سنة في محرابها.

ودفن بتربة سارية، بجوار عز الدين ابن خاله، عن وصية منه. وكان يوم دفنه مشهوداً لكثرة الخلق. وقد سمعت منه كثيراً.

36 -

(1)

عمرو بن رافع بن علوان الزرعي: قدم إلى زرع في عشر الستين يعني والخمسمائة وهو ابن نيف وعشرين سنة، ونزل عندنا في المدرسة هو ورفقة له، واشتغلوا على والدي، فحفظوا القرآن وسمعوا درسه، وحفظوا كتاب " الإيضاح " يعني للشيخ أبي الفرج جدهم وكان هذا الفقيه عمرو يحفظ كثيراً وسريعاً، تلقن سورة البقرة في درسين أو ثلاثة، وعمل الفرائض، فأسرع في معرفتها.

ورحل إلى حران، وأقام بها مدة مديدة يشتغل، ثم رجع إلى دمشق، ثم إلى

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 166.

ص: 196

زرع، وأقام بها يفتي ويقف على ما يندب إليه من المساحة والحدود، ثم أضر في آخر عمره.

ومات بزرع سنة اثنتين وعشرين وستمائة، رحمه الله تعالى.

37 -

(1)

الشيخ أبو الفتح الرحبي: وهو من قرية يقال لها الروحاء من قرى الرحبة، قدم دمشق مرتين من الرحبة في حوائج له إلى نور الدين محمود، وكان نور الدين يحسن فيه الظن، وكان شيخاً حسناً ديناً متعبداً شافعياً سلفياً صائم الدهر، وكان إذا قدم نزل عندنا في مجلس المدرسة التي لنا، وكان حسن اللقاء طيب الخلق يفشي السلام ويهديه إلى الغائب عنه، وكان يأتيه الخبز من الرحبة من طعام يعرفه فيأكل منه، وسمعته يقول للشيخ أبي الفرج: عندنا زاوية تعرف به، يعني جد أبي رحمه الله.

38 -

(2)

كرم بن بختيار بن عليّ البغدادي: سمعت منه جزءاً بقراءة الشيخ طلحة العلثي؛ قال: وزرته يوماً، وهو مضطجع على جنبه، والفقيه ابن فضلان يعني شيخ الشافعية عنده يزوره، فأخذ بيد الشيخ كرم يقبلها تبركاً. وكان زاهداً منقطعاً بالرصافة.

39 -

(3)

محمد بن أحمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي أبو عمر: [هاجر به والده

(1) بغية الطلب 9: 158.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 350 (توفي سنة 579) .

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 53، 58.

ص: 197

وبأخيه وأهلهم إلى دمشق] وأنزلهم والدي في مسجد أبي صالح، فاستوخم المسجد عليهم، فمات منهم في شهر واحد قريب أربعين نفساً، فأشار عليهم والدي بالانتقال إلى الجبل حيث هم الآن، فانتقلوا إليه، وكان رأياً مباركاً.

حفظ الشيخ أبو عمر القرآن وقرأه بحرف أبي عمرو، وسمع الحديث من والده وأبي المكارم ابن هلال، وأبي تميم سليمان بن الرحبي، وأبي نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف، وأبي الفتح عمر بن عليّ بن حمويه، وأبي المعالي ابن صابر، وأبي محمد عبد الله بن عبد الواحد الكناني، وأبي عبد الله محمد بن عليّ الحراني، وأبي الفهم، عبد الرحمن بن عبد العزيز الأزدي، ويحيى ابن محمود الثقفي، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر.

وقدم مصر، فسمع بها من الشريف أبي المفاخر سعيد بن الحسن المأموني وأبي محمد ابن بري النحوي، وخرج له الحافظ ابن عبد الغني المقدسي أربعين حديثاً من رواياته وحدث بها. وسمع منه جماعة منهم: الضياء والمنذري، وروى عنه ابن خليل وولده أبو الفرج عبد الرحمن قاضي القضاة، وحفظ منه " مختصر الخرقي " في الفقه، وتفقه في المذاهب، وقرأ النحو على ابن بري بمصر وأظنه حفظ " اللمع " لابن جني.

وكان أبو عمر فقيهاً زاهداً عابداً، كتب بخطه كثيراً من كتب الحديث والفقه على مذهب الإمام أحمد وكتاب " المغني " لأخيه، وكان مع ذلك له أوراد من الصلاة والتلاوة يقوم بها، وحج وغزا وكان شيخ جماعته، مطاعاً فيهم محترماً عند نور الدين محمود بن زنكي، وزاره وبنى لهم في الجبل مسجداً وسقاية.

40 -

(1)

محمد بن الخضر ابن تيمية الحراني أبو عبد الله فخر الدين: انتهت إليه رياسة حران، وله خطبة الجمعة، وإمامة الجامع، وتدريس المدرسة النورية، وهو

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 152 (542 - 622) .

ص: 198

واعظ البلد، وله القبول من عوام البلد، والوجاهة عند ملوكها، وكان في ملازمته التفسير والوعظ مع الطريقة الظاهرة الصلاح.

41 -

(1)

محمد بن عبد الله بن الحسين الهروي أبو عبد الله: كان رجلاً صالحاً، سمعت منه بقراءته جزءاً بمكة. وكان في عزمي أنني أدخل اليمن، وقد هيأت هدية لصاحبها من طرف دمشق، فاستشرته فقال: أنت أعلم، ثم قال: قرأنا هاهنا جزءاً من أيام، فجاء فيه عن بعض السلف علامة قبول الحج: أن الإنسان ينصرف عن مكة غير طالب للدنيا، فزهدت في اليمن، ورجعت عن ذلك العزم، وذلك سنة تسع وثمانين.

42 -

(2)

الشيخ شرف الدين محمد بن عبد الوهاب شرف الإسلام: كان فقيهاً فرضياً يعرف الغزوات ويعبر المنامات ويتجر، ولا يداخل الملك، وتوفي ودفن بالباب الصغير.

43 -

(3)

محمد بن عليّ بن نصر بن البل الدوري أبو المظفر مهذب الدين، كان واعظاً حسناً، وكان يضاهي ابن الجوزي في وعظه، وكان فصيحاً في إيراده. وله نظم ونثر، سمعته يتكلم. وقال وهو على المنبر بالله عليك يا جامع المنصور هل تسمع قط مثل وعظ الدوري؟.

وقال:

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 382 (توفي سنة 590) .

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 1: 370 (والشيخ شرف الدين هو عم المؤلف) .

(3)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 75 (توفي سنة 611) .

ص: 199

أخافك حتى لا أظن سلامة

وأرجوك حتى لا أظن هلاكا

وها أنا رهن في يديك، ومحسن

بك الظن، فأجعل للأسير فكاكاً

فما نلت مما أرتجيه لموتتي

سواك، ولا قدر الأراك سواكا 44 (1)

الشيخ الإمام عماد الدين [محمد بن معالي بن غنيمة] أبو بكر الخياط: كان زاهداً عالماً فاضلاً مشتغلاً بالكسب من الخياطة، ومشتغلاً بالعلم، ويقرىء القرآن احتساباً، قال لي: تشكل عليّ المسألة، فآتي الشيخ أبا الفتح ابن المني لأسأله عنها، فتكشف لي وأفهمها قبل جواب الشيخ، يشير إلى بركة الشيخ. وكنت أنا أقرأ عليه شيئاً من القرآن، ثم يقول: خذ عليّ، فيناولني مقدمة الخبري في الفرائض، فيقرأها من حفظه. وكان متطهراً ومتشدداً في الطهارة. وكان الإمام الظاهر في حياة والده الناصر قد أحسن به الظن وصحبه في الزيادة، وانتفع الظاهر بصحبته كثيراً، ورتب كتاب " جامع المسانيد " تأليف الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي على أبواب الفقه، وكان يقرأ على شيخنا ابن المني من " كفاية المفتي " لابن مقبل.

45 -

(2)

محمود بن عثمان بن مكارم النعال البغدادي ناصر الدين أبو الثناء: لما قدمت بغداد سنة اثنتين وسبعين نزلت الرباط، ولم يكن فيه بيت خال، فعمرت به بيتاً وسكنته، وكان الشيخ محمود وأصحابه ينكرون المنكر ويريقون الخمور، ويرتكبون الأهوال في ذلك، حتى إنه قام أنكر على جماعة من الأمراء، وبدد خمورهم وجرت بينه وبينهم فتن، وضرب مرات. وهو شديد في دين الله، له إقدام وجهاد. وكان كثير الذكر، قليل الحظ من الدنيا، وكان يسمى شحنة الحنابلة. وكان يهذبنا ويؤدبنا وانتفعنا به كثيراً.

(1) ذيل طبقات الحنابلة2: 77 - 78 (توفي سنة 611) .

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 2:64 (توفي سنة 609) .

ص: 200

46 -

(1)

نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي الأصل الدمشقي أبو العلاء ابن شرف الإسلام: ولد سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وأفتى ودرس وهو أين نيف وعشرين سنة، إلى أن مات، وعاش هنياً مرفهاً، ولم يل ولاية من جهة سلطان، وما زال محترماً معظماً ممتعاً قوياً.

قال لي قبل أن يموت سنة: رأيت الحق عز وجل في منامي، فقال لي: يا نجم أما علمتك وكنت جاهلاً؟ قلت: بلى يا رب، قال: أما أغنيتك وكنت فقيراً؟ قلت: بلى يا رب، قال: أما أمت سواك وأحييتك؟ وجعل يعدد النعم، ثم قال: قد أعطيتك ما أعطيت موسى بن عمران.

ولما مرض مرض الموت، رآني وقد بكيت، فقال: أيش بك؟ فقلت: خير، فقال: لا تحزن عليّ، أنا ما توليت قضاء، ولا شحنكية، ولا حبست، ولا ضربت، ولا دخلت بين الناس، ولا ظلمت أحداً، فإن كان لي ذنوب، فبيني وبين الله عز وجل. ولي ستون سنة أفتي الناس، والله ما حابيت في دين الله تعالى.

وكان يقول قبل موته بسنين: سنتي سنة ست وثمانين، فقال: هذه سنتي، فقلنا: كيف تقول هذا؟ قال: هي سنة أبي وجدي لأن أباه مات سنة ست وثمانين وخمسمائة، وجده مات سنة ست وثمانين وأربعمائة، وكان الأمر كما قال.

وكان الشيخ الموفق وأخوه أبو عمر إذا أشكل عليهما شيء سألا والدي.

وخرج له أبو الحسين سلامة بن إبراهيم الحداد مشيخة، وسمعناها عليه بقراءته.

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 368 - 369.

ص: 201

47 -

(1)

نصر بن فتيان بن مطهر النهرواني أبو الفتح المعروف بابن المني: رحلت إليه فوجدت مسجده بالفقهاء والقراء معموراً، وكل فقيه عنده من فضله وإفضاله مغموراً، فأنخت راحلتي بربعه، وحططت زاملة بغيتي على شرعه، فوجدت الفضل الغزير والدين القويم المنير، والفخر المستطير، والعالم الخبير، فتلقاني بصدر بالأنوار قد شرح، ومنطق بالأذكار قد ذكر ومدح، وبباب إلى كل باب من الخيرات قد شرع وفتح، فتح الله عليه. حفظ القرآن العظيم وهو في حداثة من سنه، ولاحت عليه أعلام المشيخة، فرجح منه على كل فن بفضل الله ومنه.

قال لي المهذب بن قيداس: كنا نسمي شيخك شيخ صبي يعني في صباه لعقله ووقاره وتركه للعب، ثم قال: لم ينقل عنه أنه لعب ولا لها، ولا طرق باب طرب، ولا مشى إلى لذة ومشتهى.

حدثني شيخنا الإمام ناصح الدين ابن المني قال: حصل لي من ميراث والدي عشرون ديناراً، فاشتريت بها شيئاً وبعته فأربحت، فخفت أن تحلو لي التجارة فأشتغل بها، فنويت الحج فحججت، وتجردت للعلم، فسمعت درس الشيخ أبي بكر الدينوري صاحب الشيخ أبي الخطاب الكلوذاني، قلت، فتفقه به، ومال الفقهاء من أصحاب شيخه إلى الاشتغال عليه. ودرس بعد موت شيخه.

قال لي: تقدمت في زمن أقوام ما كنت أصلح أن أقدم مداسهم، وقال لي: رحمه الله: ما أذكر أحداً قرأ عليّ القرآن إلا حفظه، ولا أسمع درس الفقه إلا انتفع. ثم قال: هذا حظي من الدنيا.

وأفتى ودرس نحواً من سبعين سنة، ما تزوج ولا تسرى، ولا ركب بغلة ولا فرساً، ولا ملك مملوكاً، ولا لبس الثياب الفاخرة إلا لباس التقوى. وكان أكثر طعامه يشرب له في قدح ماء الباقلا، وكان إذا فتح عليه بشيء فرقه بين أصحابه. وكان لا يتكلم في الأصول، ويكره من يتكلم فيه، سليم الاعتقاد صحيح الانتقاد

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 359 - 362 (توفي سنة 583) .

ص: 202

في الأدلة الفروعية. وكنا نزور معه في بعض السنين قبر الإمام أحمد.

وسمعت الشيخ الإمام جمال الدين ابن الجوزي وقد رآه يقول له: أنت شيخنا. وأضر بعد الأربعين سنة، وثقل سمعه. وكان تعليقه الخلاف على ذهنه، وفقهاء الحنابلة اليوم في سائر البلاد يرجعون إليه وإلى أصحابه.

[قلت: وإلى يومنا هذا الأمر على ذلك، فإن أهل زماننا إنما يرجعون في الفقه من جهة الشيوخ والكتب إلى الشيخين: موفق الدين المقدسي، ومجد الدين ابن تيمية الحراني. فأما الشيخ موفق الدين فهو تلميذ ابن المني، وعنه أخذ الفقه. وأما ابن تيمية فهو تلميذ تلميذه أبي بكر محمد ابن الحلاوي] . وقد جمع بعض فضلاء أصحابه له سيرة طويلة، وهو أبو محمد عبد الرحمن بن عيسى البزوري الواعظ، وقفت على بعضها مما ذكره فيها.

وكان رحمه الله كثير الذكر والتلاوة للقرآن لا سيما في الليل، مكرماً للصالحين، محباً لهم، ليس فيه تيه الفقهاء ولا عجب العلماء، إن مرض أحد من تلامذته ومعارفه عاده، أو كانت لهم جنازة شيعها ماشياً غير راكب، على كبر السن وضعف البنية، زاهداً في الدنيا يقنع منها بالبلغة، وإذا جاءه فتوح أو جائزة من بيت المال وزعها بين أصحابه، وإن ناله منها شيء أعاده عليهم في غضون الأيام.

ولقد حدثني من أثق به من أصحابنا أنه جاءته صلة من بعض الصدور نحو أربعين ديناراً فرقها في يومه بين أهله وأصحابه، وما أخذ منها شيئاً، فلما كان آخر النهار قال لي: يافلان، لوكنا عزلنا من ذاك الذهب قيراطين للحمام، وكان قوته كل يوم قرصين، وربما لم يفنهما. وقال لي بعض أصحابه: إنه يستفضل منهما بعض الأيام ما يدفعه إلى السقاء. وكان معظم أدامه أن يشتري له برغيف ماء الباقلا، وما رأيته جعل عليه دهناً قط، راضياً بذلك مع قدرته. وكان يخدم نفسه بنفسه، لا يثقل على أحد من أصحابه، ولا يكلفهم شيئاً، اللهم إلا أن يعتمد على يد أحدهم في الطريق. ولقد كنا عنده يوماً جماعة من أصحابه، فأوذن بالصلاة

ص: 203

فنهض بنفسه فاستقى الماء للتطهير، وما ترك أحداً منا ينوبه في ذلك، ولقد قدمت له نعله يوماً فشق عليه وجعل يقول: أيش هذا؟ مثلك لا نسامحه في هذا.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسي فقال: شيخنا أبو الفتح كان رجلاً صالحاً حسن النية والتعليم، وكانت له بركة في التعليم، قل من قرأ عليه إلا انتفع، وخرج من أصحابه فقهاء كثيرون منهم من ساد. وكان يقنع بالقليل، وربما يكتفي ببعض قرصة، ولم يتزوج. وقرأت عليه القرآن. وكان يحبنا ويجبر قلوبنا، ويظهر منه البشر إذا سمع كلامنا في المسائل. ولما انقطع الحافظ عبد الغني عن الدرس لاشتغاله بالحديث، جاء إلينا، وظن أن الحافظ انقطع لضيق صدره.

48 -

(1)

نصر بن محمد ين عليّ الحصري الهمذاني البغدادي أبو الفتوح برهان الدين: سمعت عليه جزءاً في المسجد الحرام. وكان إماماً في علوم القرآن، ومحدثاً حافظاً وعابداً.

قال لي الملك المحسن أحمد بن الملك الناصر صلاح الدين: ما رأيت أعبد من البرهان ابن الحصري، كان يعتمر في رمضان ثلاث عمر في نهاره وثلاث عمر في ليله.

وقال لي شيخنا طلحة العلثي ببغداد سنة أربع أو خمس وسبعين: ما في بغداد مثل برهان ابن الحصري في علم القراءات، ما تقدر تقرأ عليه سورة كاملة من شدة تحريره.

حدث أبو الفتوح ابن الحصري بالكثير ببغداد ومكة، وسمع من خلق كثير من الأئمة والحفاظ وغيرهم. مات بالمهجم من أرض اليمن في شهر ربيع الآخر وقيل في ذي القعدة سنة ثمان عشرة.

(1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 131 - 132 (536 - 618) .

ص: 204

49 -

(1)

نصر الله بن عبد العزيز بن صالح بن عبدوس الحراني: لقيته بدمشق وحران، وكان فقيهاً صالحاً ينقل المذاهب جيداً، وكان ينكر المنكر، ضربه مظفر ابن زين الدين على الإنكار ثم ندم واستغفر منه، وأحسن القاضي الفاضل ظنه به. وكان أبيض قصيراً جداً، وشعر لحيته أحمر، وحكى لي أنه كان يأخذ اللحمة من المقلى فيضعها في فيه ولا يتضرر بذلك

ومات قبل الستمائة بآمد رحمه الله.

50 -

(2)

يحيى بن المظفر بن نعيم البغدادي أبو زكريا المعروف بابن الحبير: كان في السفر إذا نزل الناس واستقروا توضأ للصلاة، وتنحى قليلاً عن القافلة وبسط سجادة له، واستقبل القبلة حتى يدخل الوقت فيصلي. وكان كثير العبادة ملازماً لمنزله، لا يخرج منه إلى مسجده إلا لتأدية الفرائض، ثم يرجع (وأثنى على مودته ومروءته) .

(1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 447 - 448.

(2)

ذيل طبقات الحنابلة 2: 62 (توفي سنة 607) .

ص: 205

فراغ

ص: 206