الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لينسخوه فأدفعه إليهم؟ فقال: لا، وقد بين هذا المنع من الإخشيد أنه قد عرف معنى هذا الكتاب وأنه إلى الهجاء أقرب، لأنه كان فطناً جيد الرأي. وكنت قد سئلت في سنة خمسين وثلاثمائة عن أبي الحسن عليّ بن الإخشيد أن أعمل سيرة أبيه، فعملت هذه السيرة ووصلت إليه وحسن موقعها منه وأحسن عليها المكافأة وجعل ذلك جارياً في كل سنة هو ووالدته، ولم أضمن هذه السيرة إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به حسبما أمكنني. وقد كان أبو عمر محمد بن يوسف الكندي عمل أخبار أمراء مصر وختمه بوفاة الإخشيد وذكر له أخباراً يسيرة، وقد أتممت أنا هذا الكتاب بسيرة أنوجور وأخيه عليّ وكافور وأحمد بن عليّ بن الإخشيد والقائد جوهر إلى أن دخل المعز لدين الله عليه السلام مصر وصارت دار خلافته، وقد زدت في هذه السيرة أشياء بعد عليّ بن الإخشيد.
ذكر الإخشيد
هو أبو بكر محمد بن طغج بن جف بن بلتكين بن فوري بن خاقان " صاحب سرير الذهب " ملك جاجاخ وهو ملك فرغانة، وتفسير طغج عبد الرحمن. وكان جف جد الاخشيد قد سار من فرغانة إلى المعتصم فصحب ابنه الواثق إلى أن توفي، ثم صحب أخاه المتوكل إلى أن توفي جف في الليلة التي قتل فيها المتوكل. وكان طغج سرياً عطراً، وكان أحمد بن طولون قد قلده ديار مصر. ولما توفي أحمد بن طولون صار طغج مع أبنه أبي الجيش فولاه دمشق وطبرية إلى أن قتل أبو الجيش، وولي ابنه جيش فأقام ستة أشهر وخلط فخلع، وكان أول من خلعه طغج، وبويع أخوه هارون بن أبي الجيش فولى طغج دمشق وطبرية. وكان في أيامه ظهور صاحب الخال العلوي سنة تسعين ومائتين، فتولى طغج قتاله إلى أن ظفر به وحمل إلى العراق.
وكان لطغج من الولد سبعة ذكور، الإخشيد أحدهم، ولد ببغداد بشارع باب الكوفة للنصف من رجب سنة ثمان وستين ومائتين.
حدثني أحمد بن عبيد الله، قال: كانت خزانة طغج للطيب تحمل في سفره على نيف وخمسين جملاً. وحدثني بعض عدول مصر قال: رأيت الحسين بن أبي زرعة قاضي مصر يتطيب فاستكثرت ما رأيت، فقال: لو رأيت طغج وهو أمير دمشق وله قبة مشبكة يتطيب فيها فإذا تطيب لم يخف على أكثر أهل دمشق بخوره لخروج القتار.
ولما عظم أمر صاحب الخال على دمشق وحصاره كتب طغج إلى بغداد مستنجداً لأنه حاصرهم مدة طويلة، فلما وردت عساكر بغداد تكاثرت فأخذ وحمل إلى بغداد.
قال طغج (1) : كنت بدمشق أخلف أبا الجيش أبن أحمد بن طولون فجاءني كتابه يأمر بالمسير إلى طرسوس وأن أقبض على راغب (2) وأقتله، فسرت إلى طرسوس وكان شتاءً عظيماً، فما أمكن أحد ان يتلقاني، فلقيني راغب وحده في غلمانه، وكان له مائتا غلام قد أشجوا العدو، فأنزلني وخدمني وقضى حقي، فأمسكت عنه، وحضرت معه غزاة أشجى فيها العدو، فقال لي جماعة من أهل طرسوس: بالله إلا ما صنت هذا الرجل عن القتل وأحسنت إليه، ففعلت وآثرت (3) رضى الله عز وجل، وانصرفت إلى دمشق، وكتبت إلى أبي الجيش أعتذر وأذكر أشياء منعتني من القبض على راغب، فما شعرت وأنا بدمشق حتى وافى (4) أبو الجيش فلقيته وخدمته وجلست معه ليلةً للشرب، فلما تمكن منه الشراب قال لي: يا طغج أشعرت بأنه ما جاء بي إلى دمشق سواك؟ فاضطربت، فلما رآني تغيرت قلب (5) الحديث، وانصرفت وأنا خائف منه، وعلمت أنه يقتلني كما قتل صافياً (6)
(1) بغية الطلب (7: 12) وحدثني أحمد بن عبد الله عن أبيه قال قال طغج.
(2)
أنظر خبر راغب مفصلاً في القطعة رقم: 2 من سيرة خمارويه.
(3)
وآثرت: سقطت من البغية.
(4)
البغية: أتى.
(5)
البغية: أقلب.
(6)
البغية: صافي.
غلام أبيه بدمشق، لأنه سار إليه من مصر وقتله، فقتل أبو الجيش في تلك الليلة (1) وكفاني الله أمره لأني عملت مع راغب له فكفيت (2) .
وقال أبو بكر محمد بن عليّ الماذرائي صاحب أعمال مصر: عملت دعوة بمصر ودعوت فيها عشرةً، أحدهم طغج، فبينا نحن في الأكل إذ جاءني أحد غلماني فقال: على الباب رجل قدم من دمشق معه هدية، فقلت له: انظر ما هي؟ فقال: ثلاثون كمثراة. فقلت له: إن كان حسناً فخذه وادفع إليه ثلاثين ديناراً، ففعل. فلما فرغنا من الأكل قلت للغلام، وكان المجلس قد عبئ: اجعل بين يدي كل رجل زبدية فيها ثلاث، ففعل. فلما قمنا من النوم وجلسنا نظرت إلى الزبديات كلها وما فيها شيء، فدعوت الغلام سراً وسألته، فقال: قد فعلت ما أمرتني، فجاء غلام آخر فقال: يا مولاي، قام مولاي أبو محمد طغج من النوم يريد الخلاء ورفع الستر وقال: أيش هذا؟ كمثرى دمشقي؟ هات سكيناً يا غلام وأكل الثلاثين، فضحكت وقلت له: يا أبا محمد ما تحل عليك الصلاة، أكلت كمثرى بثلاثين ديناراً، فضحك وقال: هو من عملي وأنا أولى به.
ولم يزل طغج على دمشق وطبرية وابنه محمد المعروف بالإخشيد يخلفه على طبرية. وكان بطبرية أبو الطيب العلوي محمد بن حمزة بن عبيد الله بن العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وكان وجه طبرية شرفاً وملكاً وقوة وعفافاً، فكتب الإخشيد إلى أبيه طغج يذكر له أنه ليس له أمر ولا نهي مع أبي الطيب العلوي فكتب إليه أبوه: أعز نفسك، فأسرى عليه محمد بن طغج، وأبو الطيب في بستان له، فقتله.
ولم يزل طغج أبام أبي الجيش على دمشق وطبرية وأيام جيش وأيام هارون ابن أبي الجيش إلى أن قتل هارون بالعباسية، وسار محمد بن سليمان الكاتب من بغداد من قبل المكتفي ففتح مصر وخرب ديار آل طولون وجمع الأموال والنعم، سار
(1) البغية: فقتله الله من تلك الليلة.
(2)
البغية: فما شقيت.
إلى العراق بآل طولون والماذرائيين وعبيد ابن طولون وأصحابه، وسار طغج معه.
فلما حصل طغج ببغداد، والوزير يومئذ العباس بن الحسن، كان يريد الوزير من طغج إذا لقيه في موكبه أن يترجل له فلم يفعل، فعمل في تأليب المكتفي على طغج وأخافه منه بسبب آل طولون وحذره، وطغج ثابت على الترفع عن النزول للعباس والترجل له، فحبسه وحبس معه ابنيه الإخشيد وعبيد الله. فلم يزل طغج محبوساً إلى أن توفي في الحبس سنة أربع وتسعين ومائتين، ولم يشكوا في أن العباس قتله، فأطلق ابنيه الإخشيد وعبيد الله فلزما خدمة العباس يركبان بركوبه، وينزلان بنزوله، ويقفان بين يديه، إلى اليوم الذي عمل فيه الحسين بن حمدان على قتل العباس بن الحسين الوزير وضربه بالسيف على عاتقه، وسقط العباس، فصاح الحسين بن حمدان بالإخشيد وأخيه عبيد الله: خذا بثأركما، فتقدما فضربا العباس بسيوفهما، وهرب الحسين بن حمدان إلى ديار ربيعة، وهرب عبيد الله بن طغج إلى شيراز فخدم أميرها، وهرب الإخشيد إلى الشام وقصد أبا العباس أحمد ابن بسطام عامل الشام. ثم عاد عبيد الله بن طغج إلى بغداد أيام المقتدر، وخدم، وصارت له نوبة ومرتبة يفتخر بها على أخيه الإخشيد.
وبقي الإخشيد مع ابن بسطام بخدمه ويخرج معه للصيد ويحمل له الجوارح حتى كان يقال بازيار ابن بسطام. ثم تقلد ابن بسطام مصر فسار معه الإحشيد إلى مصر. وكان معه إلى أن توفي ابن بسطام بمصر سنة سبع وتسعين ومائتين، فصار مع ابنه أبي القاسم عليّ بن أحمد بن بسطام. وحضر مع تكين الخاص أمير مصر وقعة حباسة وحسن أثره فيها، وكان مع تكين بمنزلة الولد. وولاه تكين وهو بدمشق عمان وجبل السراة، وكان يأكل معه وينادمه، وإذا انصرف تكين عن مصر خرج معه إلى الشام لا يفارقه. وكان على هذه الحالة إلى أن ولاه تكين الإسكندرية، فأقام بها إلى مجيء القائم عليه السلام، فحضر القتال أيضاً، فلم يزل مقدماً وهو مع هذا يخدم أبا زنبور الحسين بن أحمد الماذرائي وأبا بكر محمد بن عليّ الماذرائي. وملك الإخشيد في أيام تكين دار القاضي أبي عبيد الله ومنها هرب إلى دمشق. وكان يقول في ملكه بمصر، إذا رأى محمد بن عليّ: كم قبلت هذه اليد مرة، وكم
وقفت بين يديه، وكان يرعى له ذلك ويعظمه. واتفق الإخشيد وهو على عمان وجبل السراة من قبل تكين في سنة ست وثلاثمائة ان حاج الشام وفيهم جماعة من أهل العراق وفيهم جارية شغب أم المقتدر خرجوا، فبلغ الإخشيد أن جمعاً من لخم وجذام قعدوا لهم، فجمع عسكره ولقيهم ومعه أخوه عليّ بن طغج فهزمهم ودخل بالأساري وبالرؤوس، فشكره تكين وكتب [إلى] أهل العراق [أن] يشكروه فعله إلى بغداد، وصارت له حال هناك.
ثم ورد مؤنس الخادم من العراق لقتال عساكر القائم ابن المهدي، فخدمه الإخشيد فشكره، ثم لما وصل مؤنس كان الإخشيد على المخاصة (1) ، ثم انصرفت عساكر المغرب وانصرف مؤنس إلى العراق.
وتوفي أبو اليمن أحمد بن صالح الأمير بالإسكندرية سنة ست عشرة، فعني الإخشيد بالإسكندرية بتركته، فسخط تكين عليه ذلك، وهذا أحد ما أوقع الوحشة بينهما.
ثم تقلد محمد بن جعفر القرطي خراج مصر، وصرفه الماذرائي فاستتر عند الإخشيد، ثم سار إلى العراق فأخذ للإخشيد ولاية الرملة، فهرب الإخشيد سراً من تكين، ثم عوض من الرملة دمشق. ولما بلغ الراشدي أمير الرملة مسير الإخشيد هرب وترك داره مفروشة وأكثر نعمة، فاحتوى الإخشيد على جميع ذلك. ثم جاءت ولاية دمشق للراشدي عوضاً عن الرملة، ثم جاءت ولاية دمشق إلى الإخشيد، ثم صرف ببشرى الخادم غلام مؤنس، فسار فلما قرب من دمشق راسله الإخشيد ثم اصطلحا واجتمعا. ثم اختار بشرى القتال والتقيا فهزم بشرى وجيء به أسيراً إلى الإخشيد، فأقام أياماً ثم أصبح ميتاً فأتهم بسقيه سماً، ثم احتوى على نعمته وحصل في عسكره الراشدية والبشرائية والحجرية والتكينية، وحصل عنده بدمشق إخوته عبيد الله والحسن والحسين وعلي بنو طغج.
وكان الإخشيد قد عرف نعم المصريين من القواد والماذرائيين، فحدثني
(1) هكذا في الأصل.
فارس بن نصر العراقي قال: كنت يوماً في دار تكين بمصر، والأتراك والقواد ووجوه الدولة ينتظرون الإذن على تكين، حتى دخل جاجبه عمران بن فارس ومر على الجماعة فسلم عليهم ودخل للإذن لهم على تكين، فقال الجماعة: أي كبش ما أسمنه: يعنون عمران بن فارس ليت شعري من يجزره، فقال محمد بن طغج: أنا أجزره، فكان كذلك. فلما حصلت مصر للإخشيد كان عمران بن فارس بالشام فاستدعاه فاستحجبه، ثم نكبه وأخذ له مالاً كثيراً ورجالاً وعبيداً وخيلاً.
وكان الإخشيد في أيام تكين يعاشر أولاد أبي بكر محمد بن عليّ الماذرائي ويرى نعمهم وذخائرهم، فلما ملك مصر نكبهم وطلبهم بذلك كله، حتى أنه طلب فراشاً أحمر مثقلاً فدفع إليه ناقصاً، فطلب النقصان فقيل له سرق وبيع لمن حمله إلى الأندلس، فأرسل إلى الأندلس حتى اشتري له. ثم ولى تكين الإخشيد الحوفين (1) وأعمالهما، وكان يخرج إلى عمله في وقت.
ولما دخل مؤنس الخادم خدمه الإخشيد ووقف بين يديه. وكان الإخشيد لبغضه الماذرائيين قد تخصص بمحمد بن جعفر القرطي. وكان محمد بن جعفر تاجراً في الساحل، فخدم في دار مؤنس عند قدومه، فقلده الحسبة بمصر ثم قلده الخراج، ثم رد المقتدر العمل إلى الماذرائيين، واستتر محمد بن جعفر عند الإخشيد، وما زال يعمل الحيلة في أمره حتى أخرجه إلى العراق. وفي هذه السفرة عني ابن القرطي للإخشيد بتقليد دمشق، وسفر في ذلك أيضاً صالح ابن نافع، وكتب إلى الإخشيد يعرفه بتقليد دمشق، وكان يلي الحوفين من قبل تكين. ولما أراد الإخشيد الهرب من مصر إلى دمشق قال لمحمد بن تكين: إن الصيد عندي بالحوف كثير فأستأذن الأمير في أن أخرج أنا وأنت، فأستأذن محمد أباه فأذن له، فلما تأهب للخروج قال له الإخشيد: كتب إلي بدر من الحوفين أن جماعة قد ظهروا في صحراء الحوف يقطعون الطريق، فاخرج إليهم واكسيهم ويخلو لنا الحوف، فقال: أفعل.
(1) بمصر حوفان: شرقي وغربي.
وكانت أم الإخشيد معه بمصر، وكان الإخشيد قد جعل عندها خمسمائة دينار وديعة ما له سواها، وكانت أمه قد أشرفت يوماً على ابنها الإخشيد وهو يأكل وعنده جماعة، وعلى المائدة غضار وطيافير (1) قد تقشرت، فاغتمت وأخرجت من الخمسمائة دينار مائتي دينار واشترت مائدة حسنة وغضاراً صينياً وطيافير جدداً، ففرح الإخشيد بذلك وشكر أمه، ولم يدر من أين أشترت. فلما شرع الإخشيد في الهرب قال لأمه: أين الخمسمائة دينار؟ فأخرجت ثلاثمائة دينار، فقال لها: أين الباقي؟ فقالت: اشتريت مائدة وصينياً وطيافير. فقال: وأيش كنت أعمل بهذا؟ فأخذ الثلاثمائة وهرب واستترت أمه وسائر أسبابه، فجاء بعض الجند إلى تكين وقال: قد هرب الإخشيد، فقال: لا، استأذنني هو ومحمد ابني ليخرجا إلى الصيد، فقيل له: قد هرب والله، فأرسل تكين في أثره، فلحقوه في نواحي البقارة، فمانعهم وسار إلى دمشق. ثم جاءه كتاب التقليد واللواء وتمكن بدمشق.
وحدثني بعض أصحابه قال: كان للإخشيد عدة غلمان أكبرهم بدر الكبير الفحل، وكافور من صغار غلمانه، وكان قد جعل كافوراً على وضوئه.
ولما صح عند تكين هربه قلق لذلك، وكتب له كتاباً يستعطفه فيه ويقول له: لو أعلمتني لأعنتك وعضدتك، ويقول في فصل منه:(ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت)، فكتب إليه الإخشيد الجواب وفيه: فهمت كتاب الأمير أأطال الله بقاءه وما تلاه من القرآن والجواب ما أجاب به موسى الذي هو خير من الأمير ومني: {ففررت منكم لما خفتكم} ، (الشعراء 18 21) .
ثم قوي أمر الأخشيد بدمشق، وكاتب وصادر، ولم يزل يترصد أمر تكين. ثم تقلد محمد بن جعفر القرطي خراج مصر والشام، وقال ببغداد: أخاف أن يهرب الماذرائي، فكتب إلى تكين بأن يمسك محمد بن عليّ الماذرائي إلى موافاة محمد بن جعفر القرطي، وأنفذوا قائداً من بغداد لأن يمسكه، فبلغ محمد بن عليّ
(1) الطيفور: الصحن المقعر العميق.
ذلك، فسأل تكين أن يأذن له في الخروج فأمتنع، فأهدى إليه وإلى خلوب أم ولده جوهراً قيمته عشرون ألف دينار، فكلمت مولاها فأذن له، فخرج إلى القلزم ثم سار إلى أيلة وإلى مدين فأقام بها. وخرج القرطي من بغداد فوقعت في رجله علة فقطعت فمات بعانة، وجاء الخبر إلى محمد بن عليّ فدخل إلى مصر أعز ما كان.
ولم يزل الإخشيد بدمشق، وولد ابنه أبو القاسم أنوجور فيها في يوم عرفة سنة تسع عشرة. وخرج الإخشيد يوماً للصيد بظاهر دمشق فرأى حماماً فأرسل عليه الجارح فأخذه، فإذا مع الحمام كتاب من غلام الراشدي إلى بعض الدمشقيين يقول فيه: قد حصل عندك تمام ثمانين ألف دينار. فانصرف الإخشيد إلى داره وأحضر الرجل وطالبه بالمال وأخذه منه، وكتب إلى غلام الراشدي عند ذلك وهرب إلى مصر. وقال الإخشيد يوماً وهو في مجلسه: بالشام طائر يقال له السدلى، يقال إنه من دار على رأسه ثلاث دورات وتمنى شيئاً بلغه، قال: فرأيته وقد دوم على رأسي ثلاث دورات، فتمنيت إمارة مصر فبلغني الله ذلك.
ولم يزل الإخشيد بدمشق مقيماً إلى أن توفي تكين بمصر وهو واليها لست عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وعشرين، وقد كان ورد عليه قتل جعفر المقتدر فحزن لذلك وكان عليلاً، وذلك في شوال سنة عشرين وثلاثمائة، وجاءته ولاية القاهر فأعطى البيعة واستخلف ابنه محمد بن تكين، وعاش بعد المقتدر خمسة أشهر، وحمل تكين إلى الشام، وجلس ابنه محمد بن تكين، واقتتل هو ومحمد بن عليّ عامل خراج مصر وأحرقت دور محمد بن عليّ الماذرائي ودور أهله، وعظمت الفتنة، وخرج محمد بن تكين من مصر وجاءه سجل القاهر بتقليد مصر، فمنعه محمد بن عليّ.
وأرسل الإخشيد من دمشق بكاتبه عليّ بن محمد بن كلا إلى القاهر يلتمس ولاية مصر، فلم يفعل القاهر ذلك، وقال: وقد وليت محمد بن تكين. فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن كحل القاهر، فحدثني بعض الكتاب قال: قال لي عليّ ابن محمد بن كلا: امتنع القاهر من تقليد الإخشيد، فلما كحل ركبت سراً إلى بعض كتابه وبذلت له عشرة آلاف درهم، وسألته كتاباً بأمر القاهر بتقليد الإخشيد
فأخذ المال وكتب لي الكتاب، فأنفذته في البرية إلى الإخشيد بدمشق، فأنفذه إلى مصر.
ولما اشتد الحال بين محمد بن تكين وبين محمد بن عليّ الماذرائي، خرج محمد بن تكين إلى ظاهر البلد، فأرسل إليه محمد بن عليّ: اخرج عن مصر، فقد رد السلطان أمر مصر إلي. فسار محمد بن تكين في عساكره فحاربهم بطرا (1) وهزمهم، ودخل مصر ونزل دار الإمارة، وتمكن واستتر محمد بن عليّ.
وورد كتاب القاهر على محمد بن تكين بتقليد مصر فقرأه على الناس، وكان عادلاً في ولايته، وتتبع أسباب محمد بن عليّ. ثم ورد كتاب القاهر إلى الإخشيد الذي تولى كتابته عليّ بن محمد بن كلا، ففرح به محمد بن عليّ الماذرائي لكراهيته لمحمد بن تكين، فدعي له على المنابر وهو يومئذ بدمشق، فأقام شهراً واحداً ويومين.
ثم ورد كتاب القاهر بتقليد أحمد بن كيغلغ مصر وأعمالها، وورد الرسول بذلك لتسع خلون من شوال سنة إحدى وعشرين، فتسلم له محمد بن عيسى النوشري، ودعي لابن كيغلغ على المنابر. وسر بذلك محمد بن عليّ الماذرائي، وزال أمر الإخشيد كأن لم يكن. وورد أحمد بن كيغلغ وظهر الماذرائي وأولاده وأسبابه وأهله وعماله، وخرج محمد بن تكين عن مصر وسار إلى بلبيس.
ولما كحل القاهر وجلس الراضي، ندب الفضل بن جعفر وزيراً لكشف مصر والشام، فوصل سجل عن الراضي أن الأمر إليه في تدبير كل ما يكون بالشامات ومصر، فحدثني ابنه جعفر بن الفضل الوزير قال: كان الوزير ببغداد محمد بن عليّ بن مقلة، فشرط أبي عليه وعلى الراضي أن الأمر إليه لأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فأجيب إلى ذلك، وسار، وآل الأمر إلى أن قلد الراضي مصر محمد بن تكين وقال: هذا أبوه غلام أبي وجدي، فسار إلى مصر وقاتل، وخرج
(1) طرا: من أعمال إطفيح بمصر.
إليه أحمد بن كيغلغ فقاتله، فانهزم ابن تكين، وأخذ أسيراً ودخل به إلى مصر ونفي إلى أخميم.
وتصاهر محمد بن طغج الإخشيد مع الفضل بن جعفر الوزير بأن زوج الإخشيد ابنته من ابنه جعفر بن الفضل، وكتب الفضل بن جعفر للإخشيد بتقليد مصر، استناداً إلى شرطه في قوله: يرى الشاهد ما لا يرى الغائب، وسار رسول محمد بن تكين إلى دمشق فأخذ منه محمد بن طغج كتاب تقليد محمد بن تكين فقال إنه محا " تكين " وكتب " طغج " فحصل له عهدان، عهد كتبه له الفضل بن جعفر، والعهد الذي كتبه الراضي لمحمد بن تكين.
ولما حصل للإخشيد التقليد، أرسل إلى محمد بن عليّ الماذرائي فلم يجد فيه حيلة، وقلد الفضل بن جعفر أحمد بن نصر الخراج بمصر، وقلد جماعة أموراً بمصر. فأرسل أحمد بن كيغلغ إلى العريش فمنعهم من الدخول إلى مصر ورجعوا إلى الشام. ثم تجهز الإخشيد وجمع العساكر وجمع الأمراء والقواد وسار يريد مصر، فجمع محمد بن عليّ الماذرائي العساكر وجمع المغاربة.
وكان الراضي قد كتب إلى محمد بن عليّ بإقرار أحمد بن كيغلغ لأنه كتب يشكره، وكان في كتاب الراضي إلى محمد بن عليّ الماذرائي: إن الأمر يصير إليك فتقلد من شئت وتصرف من شئت. فقرأه على الناس، فوجه رسلاً إلى الإخشيد وأعطاهم نسخة كتاب الراضي إليه بأن أمر مصر إليه يولي من يشاء ويصرف من يشاء، فقرأه على الناس كما قد ذكر، ثم أخرج في أثرهم العساكر، وخرج أحمد بن كيغلغ، وخرج حبشي في المغاربة، فكان يقال إن العسكر ثلاثون ألفاً قد سد من الجبل إلى البحر.
وحدثني الحسين بن أحمد قال، قال لي أبي: لما عمل الفضل بن جعفر الوزير في أمر الإخشيد والتعصب معه ما عمله، وقرب من دمشق دعاني الإخشيد وهو بدمشق فقال لي: سر الساعة إلى الوزير الفضل بن جعفر سراً فسله المسير إلي سراً في أخفى ما يكون، فسرت إلى الفضل بن جعفر وأخبرته، فسار معي سراً، فلما دخلنا دمشق كما يدخل التجار نزل في موضع، وجئت إلى الإخشيد ليلاً وهو
نائم في كلته فأيقظته فقال: أيش معك؟ قلت: الفضل بن جعفر، فقام فتوضأ وصلى وأخذ عكازاً بيده، ومشى معي بغير شمعة ولا ضوء، وكان يمشي في ضوء سرج الحراس حتى جاء إلى الفضل بن جعفر واجتمعا وخليا واتفقا على ما أراد، ثم أنصرف الإخشيد إلى داره، فقلت للإخشيد: أيش يحمل إلى الرجل، فما أكل اليوم شيئاً؟ فما وجد إلا دجاجتين ولوزاً أخضر وسكراً، فأخذته وجئت به إلى الفضل بن جعفر، فقال: أيش معك؟ فأعلمته فقال: اكسر، فاقبلت أكسر وأطعمه، حتى رجع إلى موضعه.
ووصلت رسل الإخشيد في المراكب مع ابن كلملم إلى الفسطاط ونزلوا الجزيرة. وحصل الفضل بن جعفر بالرملة، وحصل الإخشيد على باب مصر. وكان رسل الماذرائي قد وصلوا إلى الإخشيد وهو بالفرما، فلما قرأ الكتاب الواصل من الراضي إلى الماذرائي قال لهم: سيروا إلى الوزير الفضل بن جعفر وأقرأوا عليه الكتاب، فلما وصلوا إلى الرملة قيدهم الوزير. ثم أنفذ الإخشيد عساكر في البر والبحر، فصبح ابن كلملم في العُشاريات (1) الفسطاط؛ ووجه الماذرائي إليهم من قاتلهم فهزم أصحاب الماذرائي، وأقامت مراكب الإخشيد في الجزيرة أياماً، ثم رجعت إلى أسفل الأرض، فأمر الماذرائي أن تشحن الجزيرة بالسلاح والرجال، فأقام أصحاب الإخشيد خمسة أيام، ثم طلعوا حتى قطعوا الجسر ونزلوا بالجزيرة واحتووا على ما فيها من رجال وكراع (2) وسلاح وعدة، وجعل محمد بن عليّ الماذرائي مراكبه حذاءهم، وأرسل بالعساكر إلى باب المدينة فاصطف المغاربة والمصريون وأخلاط الناس.
ونزل الإخشيد المنية، وأرسل إلى أحمد بن كيغلغ وقال له: هذا كتاب الراضي بتقليدي، فإن سلمت وإلا انصرفت بعد أن آخذ خطك وأشهد عليك بمنعك إياي، وأسير إلى حضرة السلطان. وكان ابن كيغلغ متوفراً على طاعة قد عرفها من شجاعة فيه، وكان قد ثقل عليه أمر محمد بن عليّ الماذرائي وأمر أولاده،
(1) العشاريات أو الحراقات نوع من المراكب.
(2)
الكراع: الدواب.
وأنه ليس معهم أمر ولا نهي، فقال له: أنا أسلم إليك. فأخذ بيد الحسين بن محمد الماذرائي فسلمه إليه وانحاز، ودخلت عساكر الإخشيد يوم الأربعاء لتسع بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فشقوا المدينة بعد الظهر إلى النيل ولوحوا لمن في الجزيرة، فساروا إليهم في مراكبهم. واستتر محمد بن عليّ الماذرائي، وهرب حبشي رئيس المغاربة وغيره إلى نواحي الفيوم، وانبثت العساكر بالفسطاط ينهبون بقية يوم الأربعاء ويوم الخميس إلى أن نودي بأن من نهب قتل.
ثم دخل الإخشيد إلى دار الإمارة، وكان قد أستأمن إليه قبل ذلك خلق من المصريين، فدخلوا إلى دورهم واطمأنوا. وسمعت بعض الشيوخ المصريين من أهل التنجيم يقولون إن الإخشيد دخا إلى مصر بالطالع الذي دخل به أحمد بن طولون واتفقا في اليوم، وهو يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان.
فلما كان يوم الجمعة، وهو ثالث دخول الإخشيد، ركب الإخشيد إلى الجامع العتيق لصلاة الجمعة، وعسكره بالسواد والسلاح، وسار بين يديه جماعة من ورد معه من الأمراء والقواد وجماعة الموافقة والمعتضدية والحجرية بالسواد. وكان خلفه أخوه عبيد الله بالسواد والسيف والمنطقة لأنه لم يرض أن يسير كأحد الحجاب، ودخل بالمراكب إلى الفيوم في الخليج، وأراد أن تدور فلم تدر لضيق الخليج. فكبس وأخذوه أسيراً، وأقام معهم أياماً ثم ضربوا عنقه صبراً، وأخذوا مراكبه بما فيها. وبلغ الإخشيد قتله فلم يظهر عليه غم لأنه استراح منه ومن اعتداده عليه بأنه أخذ له مصر وكان ابن كلملم كاتباً خبرياً.
فلما كان يوم ثمان وعشرين من شهر رمضان ركب الإخشيد بعد عتمة إلى الجامع العتيق، فحضر الختم في الجامع، وكان بين يديه غلمانه وأصحابه، وأمامه نحو مائة شمعة.
ثم سار الهاربون في المراكب التي أخذوها من ابن كلملم فصبحوا بها الفسطاط مستهل ذي القعدة، ونزلوا على الصناعة، وكانت يومئذ بالجزيرة، وأحرقوا المراكب التي في الصناعة، وركب الإخشيد فوقف حذاءهم عند دار بنت
الفتح وهو لا يقدر عليهم، ثم انحدروا إلى الإسكندرية، فقال الإخشيد: الصناعة هاهنا خطأ، ثم قال: اعملوا هاهنا صناعة، فعملت دار بنت الفتح بن خاقان، وهي الصناعة اليوم. ولما عاد الإخشيد إلى داره تحدث مع جلسائه، بما عمله الهاربون، ثم قال: أذكر أني كنت آكل مع أبي منصور تكين حتى جرى ذكر الصناعة، فقال تكين: صناعة يكون بيننا وبينها بحر خطأ. فأشارت الجماعة بنقلها فقال: إلى أي موضع؟ فأردت أن أشير عليه بدار ابنة الفتح، ثم سكت وقلت: أدع هذا الرأي لنفسي إذا ملكت مصر، فبلغت ذلك، والحمد لله.
وحدثني الحسين بن أحمد بن أريخا قال، قال لي أبي: لما أخذ الإخشيد دار ابنة الفتح كان يتردد إليها حتى عملت، وأبتدأوا بإنشاء المراكب فيها. وكان الإخشيد على دابته يوماً في هذه الدار حتى صاحت به امرأة صيحةً فقال: خذوها، فلما أمسى قال: أحضروا المرأة، فأحضرت فقالت: أرسل معي من يحمل، فأرسل معها بجماعة فمضت بهم إلى دار بنت الفتح فحملوا من المال العين والورق والحلي والثياب وأصناف الذخائر ما لم ير مثله فمضوا به إلى الإخشيد، وطلبت المرأة ليكافئها فلم توجد فكان هذا أول ما وصل إلى الإخشيد بمصر.
ثم قال الإخشيد لصالح بن نافع: كان في نفسي لما ملكت مصر أجعل الصناعة في دار بنت الفتح، وأجعل موضع الصناعة بستاناً وأسميه المختار، فاركب وخط لي بستاناً وداراً وقدروا لي النفقة. فركب صالح بن نافع وغيره وخطوا له بستاناً، وجعلوا فيه داراً للغلمان وداراً للنوبة، وخزائن كسوة، وخزائن طعام، ولم يدعوا شيئاً إلا جعلوه فيه، ثم صوروه في رقعة وجاءوا به إليه، فاستحسنه وقال لصالح: كم قدرتم النفقة؟ فقال: ثلاثين ألف دينار. قال: أنا أنفق في بستان متنزه ثلاثين ألف دينار؟ أريد شيئاً خفيف المؤونة متاع يومه. فعاد صالح وقدر خمسة آلاف دينار وعاد إليه فقال: هذا نعم، والله لا أنفقت عليه إلا من عندكم، فأخذ صالح درجاً وكتب فيه صالح بن نافع ثلاثمائة دينار، أبو عليّ خير خمسمائة دينار، أبو جعفر ابن المنفق خمسمائة دينار، حتى قسط ستة آلاف دينار. واشتغل بابتنائه زقازق وابن أبي الرداد، وجعله الإخشيد متنزهاً له، وكان يفاخر به أهل العراق.
ولما وصل حبشي والجماعة الذين هربوا معه إلى الإسكندرية كتبوا إلى
المغرب للقائم بأمر الله، يسألونه إنفاذ العساكر ووعدوه بأخذ مصر. فأرسل الإخشيد أخاه عبيد الله إلى الجيزة، ثم سار إلى الإسكندرية يطلب قتال حبشي ومن معه، فأقام أياماً بالإسكندرية فوجدهم قد مضوا إلى رمادة وحصلوا في أعمال القائم، ثم كتبوا إلى القائم فوعدهم بإنفاذ العساكر، فبينا هم على ذلك إذ مرض حبشي ومات حسرة على ما خلفه بمصر.
ثم دخل الوزير الفضل بن جعفر إلى مصر وقد ملكها الإخشيد فتلقاه الإخشيد وخلع عليه عند باب المدينة خلعاً سلطانية، وزينت لهما المدينة، ونصب لهما على جوسق ابن الخلاطي فرس من خشب ينحدر ويصعد، وابن الخلاطي راكب عليه، وأكثر الناس ينظر إليه. وكان الإخشيد يسير والوزير الفضل إلى جانبه، فلما قربا من الحمام انحدر ابن الخلاطي على الفرس كالبرق وفي يده حمام مضمخ بالمسك وماء الورد، فأطلقه في وجوههما فاستحسنا ذلك، وسارا ونزل الإخشيد دار الإمارة، وسار الفضل بن جعفر الوزير إلى دار ابن الجصاص.
وأقام محمد بن عليّ مستتراً لا يتعرضه الإخشيد إلى أن وافى الفضل ابن جعفر الوزير، ثم كشفا عن أمره وأين هو، فعرفا أنه في الدار التي كانت لإسحاق بن نصير العبادي كاتب أبي الجيش، فركب الإخشيد والفضل بن جعفر إلى الدار فوقفا على الباب، وأرسلا بالخدم، فلما علما بحصوله، مضى الفضل بن جعفر إلى داره ووقف الإخشيد حتى اخرج ومضى به إلى الفضل بن جعفر، فأدخل إليه، ودخل الإخشيد وقد نصبت له مرتبة، والفضل بن جعفر في مرتبته، وأدخل محمد بن عليّ الماذرائي فنظر إلى السرير وتأمل الفضل بن جعفر والإخشيد فصعد وجلس بالقرب من الإخشيد، فقال له الفضل بن جعفر: أيش خبرك يا أبا بكر، قال: بخير أيد الله الوزير، فقال له: أيش هذه الوحشة؟ أنت تعلم أن أمر الحج قد أزف ونريد ما نجهز به الحج، قال: ما عندي إلا نحو خمسة آلاف دينار، فقال: أنت أردت تضرب وجه السلطان بالسيف وتمنع خلفاءه وما تصل إلا إلى خمسة آلاف دينار؟ ثم صاح الفضل بن جعفر بغلامه شادن: خذه إليك. وانصرف الإخشيد وتركه عند الفضل.
ثم أرسل الإخشيد إلى الصعيد فأحضر محمد بن تكين من أخميم وأنزله في دار وأكرمه وقال له: نحضر إليك محمد بن عليّ الماذرائي ونجمع بينك وبينه فاشف صدرك منه وطالبه بما شئت، فقال: ما بيني وبينه معاملة، ولا لي قبله حق ولا مطالبة. وكافأه محمد بن تكين بأحسن مكافأة، ولم يؤاخذه بما عمل في أمره من منعه مصر ورد ولايته التي وردت، وجمع العساكر لمحاربته وأن أرسل إليه لا تجاورني، حتى أحوجه للخروج إلى الشام.
وأراد الفضل بن جعفر أن يقيم رجلاً يناظر محمد بن عليّ ويطالبه بالأموال فما وجد أحداً يجيب إلى ذلك إلا الحسين بن عليّ الرقي، وكان متضمناً لأموال كثيرة، وتعرض لطلب الخراج أيام تكين، فقبض عليه تكين وعذبه رضى لمحمد بن عليّ ثم نفاه. فلما مات تكين عاد الرقي ودخل على الماذرائي فاعتذر إليه، وذكر أن ما له في أمره شيء، ووعده بالصلة والرزق، ووصله بألف دينار وقال له: خذ ضيعة أضع عنك من خراجها سبعة الآف دينار. فخرج الرقي إلى دمشق إلى الإخشيد وقدم مع الفضل بن جعفر حين قدم إلى مصر. فلما عرض على الرقي مناظرة محمد بن عليّ أجاب إلى ذلك، ونصبت له مرتبة في دار الإمارة، وأمر أن يخرج إليه محمد بن عليّ في جبة صوف مكشوف الرأس حافياً، ففعل ذلك، فلما أخرج إليه فرآه عرف المكروه فقال: أريد الوضوء، فدخل إلى الخلاء، وكتب منه رقعة إلى الإخشيد يعرفه ما عمل به، وأنه إنما يطلب منه التشفي، وأن وديعة عند ابن الطحاوي الفقيه مبلغها خمسون ألف دينار يرسل الأمير يأخذها لنفسه هدية ويمنع مني، فأرسل من ساعته بغلامه بدر الكبير فأخذ محمد بن عليّ من الخلاء وانصرف به ومنع منه، وشرط على الفضل بن جعفر أن يكون مكرماً ويحاسب ويؤخذ منه ما يوجد عليه، فضمن الفضل بن جعفر ذلك، وقبضت ضياعه بالشام وأكثر ضياعه بمصر، ودخل الإخشيد وارتفاع خراج ضياع محمد بن عليّ أربعمائة ألف دينار، وصودر أولاده وحاشيته، ولم يعرض لجاريته، وكان رسم الإخشيد ألا يتعرض للحرم.
وحدثني محمد بن الحسين قال، قال لي أبي: كنت عند الحسين بن عليّ
الرقي وهو مشغول القلب، فسألته عن شغل قلبه فقال: كنت الساعة عند الأمير الإخشيد وحدي فضاحكته وحادثته، فلما رأيت طيب نفسه قلت له: تنشط الساعة لمائتي ألف دينار بعشرين صفعة؟ فقال ممن؟ فقلت له: الساعة ركبت، وجارية محمد بن عليّ في الشباك جالسة وجواريها قيام بالمذاب، ومولاها في يدك، فدعني أركب آخذها قال: فانقلبت عيناه وكان أزرق، قال: أبا القاسم تعرضني للحرم؟! لا والله لا عملت هذا أبداً، وانصرفت نادماً على ما كان مني.
وكانت ولاية مصر على قسمين: والي الحرب والصلاة، وآخر للخراج وتدبير الأموال، فلما حصل الإخشيد بمصر جمع الولايتين كما عمل أحمد بن طولون، وكان تدبير الأموال والاستخراج في دار الفضل بن جعفر، وتدبير الحرب والرجال في دار الإخشيد.
وحكي أن محمد بن عليّ الماذرائي لما كتب إلى الإخشيد يشكو ما جرى عليه، وبذل له الوديعة التي كانت عند ابن الطحاوي وحصل المال إلى الإخشيد وأخذوه من أيديهم، أرسل الإخشيد إلى الماذرائي: أنت عملت هذا بنفسك، كتبت إليك من الشام حين مات تكين: دعني أسر إليك في خيل جريدة وأخدمك وأتصرف بأمرك فأبيت علي، ثم قلدني السلطان فأرسلت إليك: دعني أسير في غلماني إلى مصر وتكون أنت على رسمك فأبيت علي، وأحوجتني أن جمعت عساكر العراق والشام وألزمت نفسي مؤونة، ثم أرسلت إليك: أنا أعفيك من الفضل ابن جعفر وأرده إلى العراق فدبر أمري، فأبيت، فلما فتحت مصر استترت مني، وكنت أعرف موضعك فلم أتعرض لك، وأرسلت إليك: أرسل إلي بشيء أتسع به، فأرسلت إلي عشرة آلاف دينار، فلما جاءت الرسالة إلى محمد بن عليّ صاح وقال: كل ما قاله صحيح إلا هذا، أرسلت إليه مائة ألف دينار ولابن كلا عشرة آلاف دينار. فلما جاء الجواب إلى الإخشيد أعظمه وقال: أرسلوا خلف ابن كلا، فلما جاء قال: ويحك يرسل إلي محمد بن عليّ مائة ألف دينار ولك عشرة الآف، تعطيني عشرة الآف وتأخذ مائة ألف دينار فقال: ما أبرد هذا! إنما خبأتها وهي عندي، وإنما أردت أن أحملها لك في مهم يطرأ، فقال: جئني بها، فحملها إليه.
وكان الإخشيد معظماً لمحمد بن عليّ عارفاً بحقه. ولما فرغ الفضل ابن جعفر من تدبير البلد وتقرير الأموال، وكشف الضياع، وضياع الماذرائيين، أخذ في المسير إلى الشام، وأخرج الإخشيد معه محمد بن عليّ الماذرائي موكلاً به، وخرج الإخشيد لتشييع الوزير الفضل بن جعفر ولم يتأخر أحد عن تشييعه، وتولى الإخشيد أمور مصر في الأموال والرجال.
وكان يواكل الإخشيد جماعة منهم عدنان بن أحمد بن طولون وابن أخيه قيس بن العباس بن أحمد بن طولون وغيرهما، وكان يحادثه ويسامره سعيد الشاعر المعروف بقاضي البقر.
ولما دخل شهر رمضان أطلق النفقات للمسجد الجامع، وأمر بعمارة المساجد بالجص والبياض والخلوق والمصابيح والأئمة. ثم أمر بالتأهب للعرض ليلة الفطر على رسم أحمد بن طولون وما كان يفعله تكين، فتأهب الناس واشتروا وأكثروا، وكان القواد التكينية على غاية الرفعة. ولما كان آخر شهر رمضان ركب الإخشيد بعد عشية فحضر ختم الجامع وصلى وأوتر وهو في وجوه عبيده، في دراعة (1) بياض، وبين يديه خمسمائة غلام بالدبابيس والمستوفيات (2) ، وبين يديه الشمع والمشاعل، وقيل كان بين يديه مائة فراش بمائة شمعة. ثم أصبح الناس للعرض، وجلس في المنظرة التي على باب الإمارة، ومرت العساكر، فلما انقضى العسكر ركب غلمانه في أحسن زي بالتجافيف والجواشن والدروع فلم يفرغوا إلى العشاء. ثم أصبح فركب لصلاة العيد، فصلى به عمر بن الحسن العباسي وخطب به وانصرف، ونصب السماط فأكل الناس وحملوا.
ثم قبض على بار شكور وصادره على مائتي ألف دينار، وأخذ جميع غلمانه بسلاحهم ودوابهم وثيابهم. ثم قبض على عمران بن فارس فصادره، وأخذ غلمانه بدوابهم وثيابهم، وكانوا كلهم بين يديه.
(1) الدراعة: جبة مشقوقة المقدم.
(2)
الدبوس: عصا من خشب أو حديد في رأسها كالكرة، والمستوفيات لعلها ضرب من العصي الخشبية الغليظة.
وكان للإخشيد غلمان كثيرة وأتباع، وكان وجوههم بدر الكبير، وشادن الصقلبي، ومنجح الصقلبي، وكافور الأسود، وفاتك الفحل، وبشرى وغيرهم. ولما قبض على عمران بن فارس جعل مكانه في حجبته غلامه فاتك الرومي.
ثم ثار بالإخشيد طرف سوداء فحجب عن الناس وأرجف به، وقيل إنها كانت تعتاده فيخلط. وكتب جماعة إلى العراق يلتمسون إمارة مصر، فلم يزل في هذه العلة يرجف به، حتى ظهر للناس في يوم الجمعة، وأذن للناس في صلاة الجمعة في دار الإمارة، ووقف في مستشرف بالصخر الكبير حتى رآه الناس، ثم أفاق، وبلغه خبر الذين كتبوا في ولاية مصر، وكان منهم غلامه شادن الصقلبي، وكان شجاعاً يقرأ ويكتب، ومنهم يونس الحرون قائد من قواد العراق، وكان منهم عمران ابن فارس. فقيل إنه دس إلى يونس الحرون شيئاً فمات، وقبض على عمران ابن فارس وقبض على من اتهمه من غلمانه.
وكان أخص الناس به كاتبه محمد بن كلا، وكان كاتبه بدمشق ورسوله إلى العراق وثقته، فقبض عليه في آخر سنة اثنتين وعشرين (1) وصادره على ثلاثمائة ألف دينار، وقبض على أهله وصادرهم، وقبض على جماعة كانوا في داره يوم قبض عليه فصودروا فحلف ابن كلا أنه لا يدفع مال المصادرة أو يلقاه ويراه، فامتنع الإخشيد عن ذلك، وكان رسمه ألا يراه أحد ممن يصادره إلا بعد الرضا عنه، فحلف ابن كلا بالطلاق، فقال: مروا به حتى أراه ويراني، فمروا به عليلاً يتوكأ على رجلين وكان به عرج، فنظر إلى الإخشيد وقال: أما أنا فقد استحييت، فأطرق الإخشيد، وتم قبض المصادرة وأطلقه.
وانكشفت له أموال في البلد، منها اصطبل كان لإبراهيم غلام حبشي وجد فيه مائة وخمسون ألف دينار فأخذها. وكان بمصر أبو الحسن الفرغاني وكان على الاستخراج، فلما دخل الإخشيد إلى مصر استتر منه، ثم راسله وبذل له غلمانه وما عنده من صلاح، فأجابه إلى ذلك ووعده يوماً بعينه يركب إليه، وكان شيخاً حسن الهيئة واللباس.
(1) هذا خطأ لأن الإخشيد أصبح والياً لمصر في السنة التالية.
وحدثني حمزة بن محمد الحافظ قال: قال لي ابن مانة: راسلني الإخشيد في تسليم غلماني والسلاح والدواب ويقنع مني بهذا، فوعدته يوماً أركب إليه فيه، وكنت عند مسير الإخشيد إلى مصر أحضرت بناءً فعمل لي فسقية في الخلاء وانصرف ليغدو إلى تمامها، فلما انصرف جلست أنا وأم أولادي فرصصنا فيها مائة ألف دينار وغطيناها بإزار وقطع ثم طرحنا الآجر والرماد، وجاء البناء ولم يعلم بما عملناه فأصلحها وبيضها، فلما دخل الإخشيد وراسلته وافق ذلك أن ابن قرماقس أحضر إليه بناءً يعمل له خلاء فقال له: اعمل لي فسقية فقال له: أنا أعمل لك فسقية كما عملت لابن مانة. فركب إلى الإخشيد من ساعته وقال له: قد عرفت موضع مال ابن مانة، فأرسل معه إلى داري وهي خالية، فحفروا وأخذوا المال كله. فلما كان يوم الموعد جاءني الرسول فقال: اركب، فقلت: أيش أعمل بالركوب، قد ذهب الذي كنت أخاف عليه، فمضى الرسول فأخبره فضحك.
وفي شعبان توفي عفان بن سليمان البزاز أجل تاجر كان بمصر، فأخذ الإخشيد من ماله في ميراثه نحو مائة ألف دينار.
وفي هذا الشهر من سنة أربع وعشرين كتب الإخشيد إلى الخليفة الراضي بما عمله هو والفضل بن جعفر وما وفراه وبما عملاه في محمد بن عليّ الماذرائي، فورد رسول الراضي إلى الإخشيد بالخلع والطوق والسوارين، فزينت الأسواق واشوارع بأنواع الفرش والستور والبسط وأبواب الجامع، وظهر الديباج والمثقل، وركب الإخشيد إلى الجامع العتيق فصلى فيه يوم الأربعاء، ومعه الوزير الفضل بن جعفر، وعليه خلع الراضي، وسار إلى داره ومعه الفضل بن جعفر.
ثم وصل كتاب الراضي إلى الإخشيد بالجد في قتال عساكر المغرب وإنفاذ العساكر إليهم. ووردت كتب أهل الثغر في أمر الفداء، فأمر الإخشيد بصندوق فجعل في الجامع العتيق ليطرح الناس فيه، فلم يطرحوا فيه شيئاً، فأنفذ الإخشيد بالمراكب والمال للفداء.
وفي شعبان سنة خمس وعشرين نقل الإخشيد الصناعة من موضع البستان المعروف بالمختار في الجزيرة وجعلها في موضعها اليوم من الساحل.
وكان الإخشيد (1) قد اختص من الأشراف بعبد الله بن طباطبا، وبالحسن بن طاهر بن يحيى وكانا لا يفارقانه، وهذا حسني وهذا حسيني، وبينهما عداوة الرياسة والاختصاص.
وعاد الفضل بن جعفر الوزير من الشام إلى مصر فتلقاه الإخشيد وجميع الناس.
وسخط الإخشيد على مقبل المغني غلام الموفق فحبسه، فسأل أبا بكر الحداد الفقيه أن يشفع فيه، فسأل فيه الإخشيد فأجابه وقال: أنا أرسله إليك. فلما انصرف ابن الحداد دعا الإخشيد مقبلاً فقال له: وتربة طغج لئن خالفتني لأردنك إلى الحبس، قد شفع فيك ابن الحداد الفقيه، فخذ العود وامض وغن له، فركب مقبل إلى ابن الحداد بالعود فدخل إليه فشكره، وقال له: يا سيدي للملوك غيب، وقد أمرت بأمر لا أدري والله كيف أفعله، ففطن ابن الحداد فقال: والله ما سمعته قط إلا في دور الناس من السطح، وقام مقبل وجاء إلى دار الإخشيد وحلف أنه حمل العود، ولكنه وجد عند ابن الحداد أمةً من العلماء والفقهاء والشهود:" فخفت على نفسي " وحكى له جواب ابن الحداد.
وفي سنة أربع وعشرين شرع الإخشيد في إجراء الحلبة على رسم أحمد بن طولون. وكان الإخشيد لما عجز عن مصر وأخذها جمع العساكر وقبل كل من جاءه، فجاءه قواد العراق وقواد ديار مضر وديار ربيعة وحلب والثغور والشامات، وأكثرهم مؤمر، فعظمت عليه المؤونة وثقلت. فحدثني الفضل بن محمد قال: سمعت أحمد بن موسى الزغلمان، وكان أحد القواد، قال سمعت الإخشيد غير مرة يدعو على محمد بن عليّ الماذرائي يقول: هو أحوجني إلى جمع العساكر، وقد كتبت إليه غير مرة: دعني أدخل في غلماني ومن معي وأنت المدبر لأمري وأمرهم، فما وجدت فيه حيلة، فأرسل إلي: ما بيني وبينك إلا السيف، وقد رد إلي
(1) هذه الفقرة في بغية الطلب 4: 242 وزاد فيها، إلا أن الحسن بن طاهر ناب عنه وسافر في صحابه وتوسط بينه وبين محمد بن رائق مرتين وتوسط بينه وبين ابن حمدان، وهو تلخيص لما سيأتي بعد.
السلطان أمر البلد وجعل إلي تقليد من شئت، فأهلكني وأهلك نفسه وأحوجني إلى هذا.
وورد إلى الإخشيد كتاب أرمانوس عظيم النصرانية يفتخر فيه، ويزعم أنه له المنة عليه في خطابه، إذ جرت عادته ألا يخاطب إلا خليفة. فقرئ الكتاب على الإخشيد، فتقدم بالجواب، فأجاب عنه جماعة، فلم يختر إلا جواب إبراهيم ابن عبد الله النجيرمي وكان عالماً بوجوه الكتابة، ونسخة الكتاب:
" من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين إلى ألمانوس عظيم الروم ومن يليه، سلام، بقدر ما انتم له مستحقون، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد، فقد ترجم لنا كتابك الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحاً بذكر فضيلة الرحمة، وما نمي عنا إليك، وصح من شيمنا فيها إليك، وبما نحن عليه من المعدلة وحسن السيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من ذكر الفداء والتوصل إلى تخليص الأسرى، إلى غير ذلك مما اشتمل عليه، وفهمناه:
فأما ما أطنبت فيه من فضيلة الرحمة فمن سديد القول الذي يليق بذوي الفضل والنبل، ونحن، بحمد الله ونعمه علينا، بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه بتوفيق الله إيانا مجتهدون، وبه متواصلون وعالمون، وإياه نسأل التوفيق لمراشد الأمور وجوامع المصالح، بمنه وقدرته.
وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة فإنا نرغب إلى الله جل وعلا، الذي تفرد بكمال هذه الفضيلة ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفقنا لها ويجعلنا من أهلها وييسرنا للأجتهاد فيها والاعتصام من زيغ الهوى عنها وعزة القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفاً على طاعته وموجبات مرضاته حتى نكون أهلاً لما وصفتنا به، وأحق حقاً بما دعوتنا إليه، ومن يستحق الزلفى من
الله تعالى فإنا فقراء إلى رحمته، وحق لمن أنزله الله بحيث أنزلنا، وحمله من جسيم الأمر ما حملنا، وجمع له من سعة الممالك ما جمع لنا، بمولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك وتوفيقه وارتياده، فإن ذلك إليه وبيده، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} .
وأما ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم وأنه الملك القديم الموهوب من الله الباقي على الدهر، وأنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك، فإن ذلك لو كان حقاً وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد، لكان من الأمر البين أن أحظى وأرشد وأولى بمن حل محلك ان يعمل بما فيه صلاح رعيته، ولا يرى وصمة ولا نقيصة ولا عيباً، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار ويخوض الغمار ويعرض مهجته في ما ينفع رعيته. والذي تجشمته من مكاتبتنا، إن كان كما وصفته، فهو أمر سهل يسير لأمر عظيم خطير، وجل نفعه وصلاحه وعائدته تخصكم، لأن مذهبنا انتظار إحدى الحسنيين، فمن كان منا في أيديكم فهو على بينة من ربه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله، وإن في الأساري من يؤثر من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها لحسن منقلبه وحميد عاقبته، ويعلم أن الله تعالى قد أعاده من أن يفتنه ولميعده من أن يبتليه، هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما توجبه عليكم عزائم سياستكم، والتوصل إلى استنفاذ أسرائكم، ولولا أن إيضاح القول في الصواب أولى بنا من المسامحة في الجواب، لأضربنا عن ذلك صفحاً، إذ رأينا أن نفس السبب الذي من أجله سما إلى مكاتبة الخلفاء عليهم السلام من كاتبهم، أو عدا عنهم إلى من حل محلنا في دولتهم، بل إلى من نزل عن مرتبتنا، هو أنه لم يثق من منعه ورد ملتمسه ممن جاوره، فرأى أن يقصد به الخلفاء الذين الشرف كله في إجابتهم، ولا عار على أحد وإن جل قدره في ردهم. ومن وثق في نفسه ممن جاوره وجد قصده أسهل السبيلين عليه، وأدناهما إلى إرادته، حسبما تقدم لها من تقدم. وكذلك كاتب من حل محلك من قصر عن محلنا، ولم يقرب من منزلتنا، فممالكنا عدة كان يتقلد في
سالف الدهر كل مملكة منها ملك عظيم الشأن: فمنها ملك مصر الذي أطغى فرعون على خطر أمره حتى ادعى الإلهية، وافتخر على نبي الله موسى بذلك، ومنها [ملك
…
للذي
…
] (1) الإسكندر ومن خلفه من اليونانيين، ومنها ممالك اليمن التي كانت للتبابعة الأقيال العباهلة ملوك حمير، على عظيم شأنهم وكثرة عددهم، ومنها أجناد الشام التي فيها جند حمص، وكانت دارهم ودار هرقل عظيم الروم ومن قبله من عظمائها، ومنها جند دمشق على جلالته في القديم والحديث واختيار الملوك المتقدمين له، ومنها جند الأردن على جلالة قدره وأنه دار المسيح صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والحواريين، ومنها جند فلسطين، وهي الأرض المقدسة وبها المسجد الأقصى وكرسي النصرانية ومعتقد غيرها ومحج النصارى واليهود طراً، ومقر داود وسليمان ومسجدهما، ومنها مسجد إبراهيم وقبره وقبر إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وأزواجهم عليهم السلام، ومنها مولد المسيح وأمه وقبرها. هذا إلى ما نتقلده من أمر مكة المحفوفة بالآيات الباهرة والدلالة الظاهرة، فإنا لو لم نتقلد غيرها لكانت بشرفها وعظم قدرها وما حوت من الفضل توفي على كل مملكة، لأنها محج آدم ومحج إبراهيم وإرثه ومهاجره، ومحج سائر الأنبياء، وقبلتنا وقبلتهم عليهم السلام، وداره وقبره ومنبت ولده، ومحج العرب على مر الحقب، ومحل أشرافها وذوي أخطارها على عظم شأنهم وفخامة أمرهم، وهو البيت العتيق المحرم المحجوج إليه من كل فج عميق الذي يعترف بفضله وقدمه أهل الشرف، من مضى ومن خلف، وهو البيت المعمور وله الفضل المشهور. ومنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم المقدسة بتربته، وأنها مهبط الوحي، وبيضة هذا الدين المستقيم الذي امتد ظله على البر والبحر والسهل والوعر والشرق والغرب وصحارى العرب على بعد أطرافها وتنازح أقطارها وكثرة سكانها في حاضرتها وباديتها، وعظمها في وفودها وشدتها وصدق بأسها ونجدتها وكبر أحلامها وبعد مراميها وانعقاد النصر من عند الله براياتها، وان الله تعالى أباد خضراء كسرى وشرد قيصر عن داره ومحل عزه ومجده بطائفة منها. هذا إلى ما تعلمه من أعمالنا. وتحت أمرنا ونهينا ثلاثة كراسي
(1) هنا تقطيع في المخطوطة.
من أعظم كراسيكم: بيت المقدس وأنطاكية والإسكندرية، مع ما إلينا من البحر وجزائره واستظهارنا بأتم العتاد.
وإذا وفيت النظر حقه علمت أن الله تعالى قد أصفانا بجل الممالك التي ينتفع الأنام بها، ويشرف الأرض المخصوصة بالشرف كله دنيا وآخرة، وتحققت أن منزلتنا بما وهبه الله لنا من ذلك فوق كل منزلة، والحمد لله ولي كل نعمة.
وسياستنا لهذه الممالك، قريبها وبعيدها، على عظمها وسعتها، بفضل الله علينا وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيانا، كما كتبت إلينا وصح عندك من حسن السيرة، وبما يؤلف بين قلوب سائر الطبقات، من الأولياء والرعية، على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة، ويكسبها المودة والمحبة، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً على نعمه التي تفوت عندنا عد العادين، وإحصاء المجتهدين، ونشر الناشرين، وقول القائلين، وشكر الشاكرين، ونسأله أن يجعلنا ممن تحدث بنعمته عليه شكراً لها، ونشراً لما منحه الله منها وممن رضي اجتهاده في شكرها، وممن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وكان سعيه مشكوراً، إنه حميد مجيد.
وما كنت أحب أن أباهيك بشيء من أمر الدنيا، ولا أتجاوز الاستيفاء لما وهبه الله لنا من شرف الدين الذي كرمه وأظهره، ووعدنا في عواقبه الغلبة الظاهرة والقدرة القاهرة ثم الفوز الأكبر يوم الدين، لكنك سلكت مسلكاً لم يجز لي أن أعدل عنه، وقلت قولاً لم يسعنا التقصير في جوابه. ومع هذا فإنا لم نقصد بما وصفناه من أمرنا مكاثرتك، ولا اعتمدنا تعيين فضل لنا نعوذ به، إذ نحن نكرم عن ذلك، ونرى أن نكرمك عند محلك ومنزلتك وما يتصل بها من حسن سياستك ومذهبك في الخير، ومحبتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين وعطفك عليهم، وتجاوزك في الإحسان إليهم جميع من تقدمك من سلفك، ومن كان محموداً في أمره رغب في محبته لأن الخير أهل أن يحب حيث كان.
فإن كنت إنما تؤهل لمكاتبتك ومماثلتك من اتسعت مملكته وعظمت دولته وحسنت سيرته، فهذه ممالك عظيمة واسعة جمة، وهي أجل الممالك التي ينتفع
بها الأنام وسر الأرض المخصوصة بالشرف، فإن الله قد جمع لنا الشرف كله بالولاء الذي جعل لنا من مولانا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى ما لنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا. والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمنه وإحسانه، ومنه نرجو حسن السعي في ما يرضيه بلطفه.
ولم ينطو عنك أمرنا في ما اعتمدناه، وإن [كنت] تجري في المكاتبة على رسم من تقدمك، فإنك لو رجعت إلى ديوان بلدك وجدت من كان تقدمك قد كاتب من قبلك من لم يحل محلنا ولا أغنى غناءنا، ولا ساس في الأمور سياستنا، ولا قلده مولانا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، ما قلدنا، ولا فوض إليه ما فوض إلينا. وقد كوتب أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وآخر من كوتب تكين مولى أمير المؤمنين ولم يكن تقلد سوى مصر وأعمالها. ونحن نحمد الله كثيراً أولاً وآخراً على نعمه التي يفوت عندنا عددها عد العادين ونشر الناشرين، ولم نرد بما ذكرناه المفاخرة، ولكنا قصدنا بما عددناه من ذلك حالات: أولها الحديث بنعمة الله علينا، ثم الجواب عما تضمنه كتابك من ذكر المحل والمنزلة في المكاتبة، ولتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه الممالك. وعندنا قوة تامة على المكافأة عن جميل فعلك بالأسارى وشكر واف لما نوليهم وتتوخاه من مسرتهم، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. وفقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة والتوفيق للسداد في الأمور كلها، والتيسير لصلاح القول والعمل الذي يحبه ويرضاه ويثيب عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهله، بمنه ورحمته.
وأما الملك الذي ذكرت أنه باق على الدهر لأنه موهوب لكم من الله خاصة، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وإن الملك كله لله {يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير} وإن الله عز وجل نسخ مُلك الملوك وجبرية الجبارين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وشفع نبوته بالإمامة، وحازها إلى العترة الطاهرة من العنصر الذي منه أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه وجعلها خالدة فيهم يتوارثها منهم كابر عن كابر
ويلقيها ماض إلى غابر، حتى نجز أمر الله ووعده وبهر نوره وكلمته، وأظهر حجته، وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقطع دابر الكافرين، {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون} حتى يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون. وإن أحق ملك أن يكون من عند الله وأولاه وأخلقه أن يكنفه الله بحراسته وحياطته ويحفه بعزه وأيده ويجلله بهاء السكينة في بهجة الكرامة ويجعله بالبقاء والنجاة ما لاح فجر، وكر دهر، ملك إمامة عادلة خلفت نبوة، فجرت على رسمها وسنتها، وارتسمت أمرها، وأقامت شرائعها، ودعت إلى سبلها، مستنصرة بأيدها، منتجزة لوعدها، وإن يوماً واحداً من إمامة عادلة خير عند الله من عمر الدنيا تملكاً وجبرية.
ونحن نسأل الله تعالى أن يديم نعمه علينا وإحسانه إلينا بشرف الولاية ثم لحسن العاقبة بما وفر علينا فخره وعلاه ومجده وإحسانه، إن شاء الله وبه الثقة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأما الفداء ورأيك في تخليص الأسرى، فإنا وإن كنا واثقين لمن في أيديكم بإحدى الحسنيين، وعلى (1) بينة لهم من أمرهم وبيان من حسن العاقبة وعظم المثوبة، عالمين بما لهم، فإن فيهم من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا ولذتها، سكوناً إلى ما يتحققه من حسن المنقلب وجزيل الثواب، ويعلم أن الله قد أعاذه من أن يفتنه ولم يعذه من أن يبتليه (2) . وقد تبينا في ذلك مع هذا الباب ما شرعه لنا الأئمة الماضون والسلف الصالحون، فوجدنا ذلك موافقاً لما التمسته وغير خارج عما أحببته، فسررنا بما يتيسر منه، وبعثنا الكتب والرسل إلى عمالنا في سائر أعمالنا، وعزمنا عليهم في جمع كل من قبلهم واتباعهم بما وفر الإيمان بإنقاذهم، وبذلنا في ذلك كل ممكن، وأخرنا إجابتك عن كتابك ليتقدم فعلنا قولنا وإنجازنا وعدنا، ويوشك أن يكون قد ظهر لك من ذلك ما وقع أحسن الموقع منك، إن شاء الله.
وأما ما ابتدأتنا به من المواصلة واستشعرته لنا من المودة والمحبة، فإن عندنا من مقابلة ذلك ما توجبه السياسة التي تجمعنا على اختلاف المذاهب، وتقتضيه
(1) هذا قد مر من قبل مع اختلاف يسير.
(2)
هذا قد مر من قبل مع اختلاف يسير.
نسبة الشرف الذي يؤلفنا على تباين النحل، فإن ذلك من الأسباب التي تخصنا وإياك. ورأينا من تحقيق ظنك بنا إيناس رسلك وبسطهم، والاستماع منهم والإصغاء إليهم والإقبال عليهم. وتلقينا انبساطك إلينا وإلطافك إيانا القبول الذي يحق علينا ليقع ذلك موقعه، وزدنا في توكيد ما اعتمدته مما حملناه رسلك في هذا الوقت على استقلالنا إياه من طرائف بلدنا وما يطرأ من البلاد علينا، وإن الله بعدله وحكمته أودع كل قرية صنفاً ليتشوف إليه من بعد عنه، فيكون ذلك سبباً لعمارة الدنيا ومعايش أهلها، ونحن نفردك بما سلمناه إلى رسولك لتقف عليه إن شاء الله.
وأما ما أنفذته للتجارة فقد أمكنا أصحابك منه، وأذنا لهم في البيع وفي ابتياع ما أرادوه واختاروه، لأنا وجدنا جميعه مما لا يحظره علينا دين ولا سياسة، وعندنا من بسطك وبسط من يرد من جهتك، والحرص على عمارة ما بدأتنا به ورعايته، ورب ما غرسته أفضل ما يكون عند مثلنا لمثلك. والله يعين على ما ننويه من جميل ونعتقده من خير، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ومن أبتدأ بالجميل لزمه الجري عليه والزيادة، ولا سيما إذا كان من أهله خليقاً به. فقد ابتدأنا بالمؤانسة والمباسطة، وأنت حقيق بعمارة ما بيننا، واعتمادنا بحوائجك وعوارفك قبلنا، فأبشر بتيسير ذلك إن شاء الله. والحمد لله أحق ما ابتدىء به وختم بذكره، وصلى الله على سيدنا محمد نبي الهدى والرحمة وعلى آله وسلم تسليما ".
ولإعجاب إبراهيم بن عبد الله النجيرمي بما عمله في هذا الكتاب نسخ منه نسخاً وأنفذها إلى البصرة وأعمالها يفتخر بها.
وفي هذه السنة وهي سنة خمس وعشرين جهز الإخشيد المراكب الحربية للمسير إلى الثغور للفداء الذي كوتب فيه، وشحنها بنصارى الروم ممن أهدي إليه ومن اشتراه، وأنفذ الثياب والطيب والطعام لمن يحصل في الفداء من المسلمين.
وفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة كتب محمد بن طغج إلى الراضي يستدعي أن يلقب بالإخشيد، وقال في كتابه: وقد كنى أمير المؤمنين جماعة ولقبهم، فليسرني بما سألت، فقال الراضي لحاجبه ذكا: ما معنى الإخشيد؟ فسأل فقيل:
تفسيره عبد، دعي به ملك الملوك. فعرف الراضي فقال: لا نبخل عليه بهذا، اكتبوا له بذلك، وكان هذا بعقب خلع أنفذها الراضي إليه، وطوق وسوارين، وزينت الأسواق فطاف المدينة.
وفي هذه السنة عاد أصحاب مالك والشافعي إلى القتال في المسجد العتيق، وكان في الجامع للمالكيين خمس عشرة حلقة، وللشافعيين مثلها، ولأصحاب أبي حنيفة ثلاث حلق، فلما زاد قتالهم أرسل الإخشيد ونزع حصرهم ومساندهم وأغلق الجامع، وكان يفتح في أوقات الصلوات، ثم سئل الإخشيد فيهم فردهم.
وفي أول سنة ست وعشرين أرسل الراضي إلى مصر يستدعي الفضل ابن جعفر للوزارة، وأنفذ له خلعاً فامتنع أن يلبسها، فحدثني ابنه أبو الفضل قال: ركب الإخشيد بنفسه إليه وألزمه لبسها، فألبسه إياها الإخشيد بيده، ثم قام أبي فصلى ركعتين والإخشيد قائم متكىء على سيفه، ثم تجهز للمسير فشيعه أهل مصر، ورحل إلى الشام ثم سار إلى العراق، وخلف ابنه أبا الفضل بحمص، فلما بلغ الرقة لقيته خلع الوزارة فلبسها، ودخل بغداد ونظر في الأمور ودبرها، ورأى الأمور مضطربة فاستأذن الراضي في المسير إلى الشام ومصر ليحمل الأموال ويكشف الأعمال. واستخلف عبد الله بن عليّ بن المغربي وسار إلى الشام، فتوفي بالرملة لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين، وجاء نعيه إلى الإخشيد فقلق لذلك وجلس للتعزية. وكان محمد بن عليّ الماذرائي عنده بالرملة فأرسل الإخشيد فحمله إلى مصر، وقد كان أقام بالرملة في دار الفضل أبي جعفر ثلاث سنين وثمانية أشهر، فلما وصل إلى مصر أنزله الإخشيد معه في داره.
ولما بلغ الراضي وفاة الفضل بن جعفر حزن لذلك، وأقر الوزارة بحالها، وكتب إلى الإخشيد يعزيه بالفضل بن جعفر ويأمره بإنفاذ ابنه جعفر بن الفضل إلى موضع أبيه فدافع الإخشيد بذلك وأعتذر. وأقامت الوزارة شهرين، وكتب الراضي إلى جعفر بن الفضل كتاباً يستدعيه للوزارة، وكان خليفته ببغداد عبد الله بن محمد المغربي، وخليفته على مصر محمد بن عبد الرحمن الروذباري، وخلفاؤه بالشام على حالهم، والكتب تنفذ باسمه كما كانت في حياته. فلما يئس الراضي من
خروج جعفر بن الفضل إليه كتب له يستخلفه على كشف اعمال الإخشيد كلها كما كان أبوه، واستوزر أحمد بن محمد البريدي. فحدثني أبو الفضل جعفر بن الفضل الوزير قال: حملت كتاب الراضي ووضعته بين يدي الإخشيد وانصرفت إلى محمد ابن عليّ الماذرائي.
وفي شهر رمضان من ستة سبع وعشرين ورد كتاب الراضي مع رسول يعرف بابن الشيعي يلقبه " الإخشيد " وهذا أول من لقب به، فدعي بذلك على منبر الفسطاط وسائر المنابر، وكتب بذلك على كتبه، وكوتب به، وعبأ الإخشيد مالاً كثيراً وهدية وكراعاً وبغالاً وحميراً وثيابأً وأنفذ ذلك إلى الراضي.
وفي ذي القعدة سنة سبع وعشرين أرجف الناس بمسير محمد بن رائق من العراق، وأنه قد حصل بالرقة يريد الشامات ومصر، وكان عبيد الله بن طغج بدمشق، فأنفذ الإخشيد عمران بن فارس في جيش كثير بسبب محمد بن رائق. ثم وصلت الأخبار بوصول محمد بن رائق إلى دمشق وملكها مع ما خلفها من حمص وحلب والثغور وسائر الأعمال، فقلق لذلك الإخشيد، وخرج عبيد الله بن طغج عن دمشق منهزماً.
ثم ورد الخبر في آخر ذي الحجة سنة سبع وعشرين بدخول محمد بن رائق الرملة، وكان كالطائر في مسيره، وانصرف أصحاب الإخشيد عن غير قتال، ونبش قبر الفضل بن جعفر الوزير فوجد فيه مالاً فأخذه. ثم أخذ الإخشيد في أهبة المسير لقتال محمد بن رائق فهاجت به السوداء على عادته فعولج أياماً.
وفي المحرم سنة ثمان وعشرين سار الإخشيد لقتال ابن رائق، واستخلف أخاه أبا المظفر، وسار حتى نزل الفرما، وتقدمت طلائع محمد بن رائق فكانت بينهم مناوشة. وسفر الحسن بن طاهر العلوي (1) بين الإخشيد وبين محمد بن رائق في الصلح. وأنفذ الإخشيد كاتبه محمد بن كلا للرملة للموافقة على شرائط بينهما. وتم الصلح على أن الرملة للإخشيد، ومن طبرية وما خلفها لمحمد
(1) انظر ذلك في بغية الطلب 4: 242.
ابن رائق على أن يحمله الإخشيد إلى ابن رائق متى توافقا عليه.
وخرج ابن رائق عن الرملة، وعاد الإخشيد إلى مصر فسر برجوعه الناس، وكانوا زينوا له الطرق والأسواق فلم يطف المدينة، وكان هذا يوم الخميس فأقرت الزينة على حالها، فلما كان من الغد ركب إلى الجامع العتيق لصلاة الجمعة وكان يوماً عظيماً.
وقبض الإخشيد على محمد بن عبد الرحمن الروذباري الكاتب وصادره بسبب كلام خاطبه به في محمد بن رائق، فإنه شاوره فأشار عليه فخالفه فقال له: فيك أيها الإخشيد خلتان مذمومتان: البخل والجبن، وما يتم لك معهما شيء إلا بالإقبال، فحقد عليه وصادره بعد أيام وكان خليفة الفضل بن جعفر.
وفي رجب سنة ثمان وعشرين أطلق الإخشيد أبا بكر محمد بن عليّ الماذرائي واستوزره، واستكتب ابنه الحسين بن محمد وخلع عليه وصرفه إلى داره، فمشى بين يديه أهل الدولة وابنه الحسين خلفه بالخلع، ومشى الشريف أبو جعفر مسلم بين يديه حتى حلف عليه فركب، ومشى الأشراف وسائر الناس. وكان الإخشيد يعامله في اعتقاله أربع سنين وتسعة أشهر بكل جميل، ورد إليه الإخشيد التدبير بمصر والشام، وألزمه لبس الدراعة ونزع الطيلسان، وكان لا يصدر إلا عن رأيه، ولا يخليه من حضور مجلسه، ويقول للناس إذا انصرف: كم قبلت يده ووقفت بين يديه.
وكان القائم بأمر الله لما انصرفت عساكره بالإسكندرية اختار أن يستعطف الإخشيد ويصطنعه، وكان محمد بن عليّ الماذرائي وهو في قبضة الفضل بن جعفر قد اتهم بمكاتبة القائم، وأنه استدعى منه العساكر وحسن له رأيه. وكتب القائم إلى الإخشيد كتاباً قرأه على خاصته، ورقعة بخطه لم يقف عليها أحد، وكانت نسخة الرقعة: قد خاطبتك أعزك الله في كتابي المشتمل على هذه الرقعة بما لم يجز لي في عقد الدين وما جرى به الرسم من سياسة أنصار يستجلبون، وضمنت رقعتي ما لم يطلع عليه أحد من كتابي وذوي المكانة عندي، وأرجو أن تردك صحة عزيمتك وحسن رأيك إلى ما أدعوك إليه، فقد شهد الله على ميلي إليك، وإيثاري
لك، ورغبتي في مشاطرتك ما حوته يميني واحتوى عليه ملكي، وليس يتوجه لك العذر في التخلف عن إجابتي لأنك قد استفرغت مجهودك في مناصحة قوم لا يرون إحسانك ولا يشكرون إخلاصك، يخلفون وعدك ويخفرون ذمتك، لم يعتقد منهم أحد حسن المكافأة ولا جميل المجازاة، وليس ينبغي لك أن تعدل عن منهج من نصحك، وإيثار من آثرك إلى من يجهل موضعك، ويضيع حسن سعيك، وأنا أعلم أن طول العادة في طاعتهم قد كره إليك العدول عنهم، فإن لم تجد من نفسك معونة على اتباع الحق ولزوم الصدق فإني أرضى منك بالمودة والأمر والطاعة حتى تقيمني مقام رئيس من أهلك، تسكن إليه في أمرك، وتعول عليه بمثل ذلك. وإذا تدبرت هذا الأمر علمت أن الذي يحملني على التطأطئ لك وقبول الميسور منك إنما هو الرغبة فيك، وأنت حقيق بحسن مجازاتي على ما بذلته، والله يريك حسن الاختيار في جميع أمرك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فلما وقف الإخشيد على هذه الرقعة، احتج إلى الرسول بأنه لا يقرأ ولا يكتب، ولا يجوز له أن يبوح بما في نفسه إلى كاتب، إذ كان الصواب يقتضي ذلك، ثم قال: وأنا أتدبر الجواب فأجيب عنه ويصل مع من أثق به، وأسلك من حسن الموالاة ما لم يكن غيري يسلكه.
ثم بلغ الإخشيد مسير محمد بن رائق من العراق إلى أعمال الإخشيد ووصوله إلى الرملة، وأن الراضي قلده، فاغتاظ وكتب إلى خليفته ببغداد عليّ بن أحمد العجمي بإخبار الراضي بمسير ابن رائق: فإن كان أمير المؤمنين قلده سلمت له، أو يأمرني بالقتال، فإني قد صالحته وأرضيته وما رضي. فدخل ابن العجمي على الراضي وأخبره، وبجكم بين يديه، وقال له: والأعمال أعمالك يا أمير المؤمنين فأمر عبدك الإخشيد بما يكون عمله بحسبه، فما نطق الراضي بحرف، فقال بجكم: من ضرب بالسيف وهزم صاحبه فالعمل له، فكتب ابن العجمي لوقته بذلك إلى الإخشيد،، فصرع وثارت به السوداء.
فحدثني بعض الوجوه بمصر فال، قال لي عمر بن الحسن العباسي الخطيب بمصر: دعاني الإخشيد يوماً فقال لي: إذا كان يوم الجمعة فأقم الدعوة لأبي
القاسم صاحب المغرب وأسقط الدعوة للراضي حتى يعلم [من] محمد بن طغج، قال عمر بن الحسن، فقلت: كما يأمر الإخشيد. فغدوت إليه ثانية واستأذنته وقلت: لعله يرجع، فقال: نعم، فلم أزل على هذا ثلاثة أيام إلى يوم الخميس، فاتهمت أن يكون أبو الحسين محمد بن عبد الوهاب، وكان رجلاً جزلاً جيد الرأي شيعياً، قد حسن له هذا الرأي، لأنه أقام في اعتقاله سبع سنين، وكان كما أطلقه واختص به. فجئت إلى ابن عبد الوهاب وخلوت به وحدثته فقال: إن السوداء ربما ثارت به، أفعاودته؟ فقلت: قد عاودته أربعة أيام. فقال لي: أنا أخلو به كل جمعة بالغداة، فارفق به وقل: أين أعمل الذي أمرتني به: في جامع أسفل أو في جامع ابن طولون؟ وخلني وإياه. قال عمر بن الحسن: فجئت إليه ورفقت به وقلت: أيها الأمير، الذي أمرتني به أين أعمله؟ في الجامع العتيق أم جامع ابن طولون. فقال له ابن عبد الوهاب: أيش هذا الذي تعمل؟ فقال الإخشيد: شيء، فقال ابن عبد الوهاب: الله المستعان، شيء يعمل على المنبر يكتم وبعد ساعة يعلم به الجمهور! فقال له: قد تأذبت بالراضي وبهذا الصبي ابن رائق، وقد أمرت الخطيب أن يدعو لأبي القاسم صاحب المغرب، فقال له: وفق الله الإخشيد، فلقد وضعت الصنيعة في موضعها، ولقد أخبرت أنه في الحزن على أبيه إلى الساعة، وما جلس في مرتبته إلا حزيناً كئيباً، ولا جدد ثوباً، وهو من الشرف والملك على ما سمعت، والحمد لله الذي جعل رجوع هذا الأمر إلى أهله وعلى يدك، فاستبشر الإخشيد وأسفر وجهه، ثم التفت ابن عبد الوهاب إلى الخطبي وقال له: اقرأ الذي عملت، قال: ما عملت شيئاً، قال ابن عبد الوهاب: تؤمر مذ خمسة أيام بهذا الأمر فلم تعمل فيه شيئاً؟! فقال الإخشيد: أيش يعمل؟ قال: يحتاج إلى نحو خمس أوراق كلاماً معمولاً في فضل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وأهل البيت عليهم السلام، ويذكر أنهم أحق بالإمامة، ويقول ذلك والناس يسمعون، فمن كان يشتهي هذا قويت نفسه ومن كرهه انحل. فقال له الإخشيد: اعمله، فقال لي ابن عبد الوهاب: تلحق اليوم؟ (1) فقلت: لا، الجمعة الأخرى؟
(1) يشتبه أن يكون من اللغة الدارجة، ومعناه: هل تستطيع أن تنجز ذلك اليوم؟
فقال الإخشيد: الجمعة الأخرى، فانصرفت. فلما كان من الغد دخلت على ابن عبد الوهاب فقال لي قلت له بعدك: إنه رأيي وهواي فيما تعلمه، ولكني أصدقك، تكون أنت من أبرك الناس على ابن رائق، لأنك إذا عملت هذا كاتبه من مصر من يكره هذا، وكتب بذلك إلى العراق، فإن كان الراضي لم يقلده قلده وأنفذ إليه الأموال والعساكر، وصيرت له شيعة وخاصة، ولكن دع هذا إلى وقت آخر.
وحدثني عليّ بن يعقوب قال: ورد كتاب الإخشيد من مصر إلى القائم يعرض عليه ابنته لابنه المنصور، فقرأ القائم الكتاب على الناس، فأشاروا عليه أن يجيبه بما يجب، فكتب إليه: وصل كتابك وقد قبلنا ما بذلت، وهي وديعة لنا عندك، قد نحلناها من بيت مالنا قبلك مائة ألف دينار فتوصل ذلك إليها. قال: وإنما ظن الإخشيد أن القائم يكافئه على هذا بهدية يفتخر بها ويتجمل.
وفي شعبان وصلت الأخبار بعودة محمد بن رائق إلى الرملة، فتجهز الإخشيد وسار، وراسل ابن رائق فلم يجد فيه حيلة، وعسكرا جميعاً بالعريش، والتقى العسكران فهزمهم محمد بن رائق وملك السواد، واجتمع واطمأن أصحابه. وكان الإخشيد قد عبأ مراكب في البحر ليلحق ببلاد الروم أو بالمغرب ووقف منفرداً في غلمانه. ولما اطمأن محمد بن رائق أقبل الإخشيد في عدته وعديده وكبسهم في الخيم، ومحمد بن رائق ومحمد بن تكين يتحدثان، فملك الإخشيد الرجال وأسر وقتل، وقام محمد بن رائق فأفلت بحشاشة نفسه، وأستأمن محمد بن تكين في جماعة.
وكان شادن غلام الإخشيد لما انهزمت عساكر الإخشيد انصرف إلى مصر منهزماً فاضطرب البلد وانتقل أهل العسكر إلى أسفل، وركب أبو المظفر ابن طغج ومحمد بن عليّ الماذرائي يسكنان الناس ويمنعانهم من النقلة. ثم ورد الخبر بظفر الإخشيد بجميع العساكر، وأنفذ الأسرى والرؤوس إلى مصر، وسار الإخشيد في أثره إلى الرملة، وخرج محمد بن رائق يريد دمشق. وليس يعرف للإخشيد وقعة قاتل فيها غير هذه. وكان الأسرى نحو خمسمائة طيف بهم في المحامل على الجمال في أسواق
مصر، ومنهم أربعة رؤساء طيف بهم على بغال بسروج، وكانت الرؤوس بين أيديهم، وزينت الأسواق، ولما انقضت الوقعة سار الإخشيد فنزل غزة.
وكان محمد بن رائق قد توجه من الرملة إلى دمشق، فرجع من طريقه وأسرى ليلاً إلى الرملة، فقتل صاحباً للإخشيد وصلبه على شجرة مع رفيق له، ومضى ابن رائق، فأصبح الإخشيد فوجد صاحبيه مقتولين مصلوبين، فقامت عليه القيامة. وحصل محمد بن رائق بدمشق، وعبأ الإخشيد العساكر وعليها أخوه أبو نصر الحسين بن طغج، فأسرى محمد بن رائق في خيل جريدة من دمشق في نحو ثلاثمائة غلام، فوصل إليهم في يومين وليلة، فكبس عسكر الإخشيد وقتل أخاه أبا نصر وأسر جماعة من القواد وسار بهم إلى دمشق وأدخلهم بين يديه، وأخذ أخا الإخشيد فغسله وكفنه وحنطه وحمله في تابوت وأنفذه إلى الإخشيد واعتذر، وأنفذ ابنه مزاحم بن محمد بن رائق وسنه يومئذ سبع عشرة سنة وأنفذ معه طاهر ابن الحسين، وقال له: اقتص. فبلغ ذلك الإخشيد فأرسل برده من الطريق فلم يفعل. ووصل مزاحم بن محمد بن رائق إلى الإخشيد وهو بأرض فلسطين، فأكرمه ورفعه وتزحزح له وسأله الجلوس فلم يفعل فوقف بين يديه وقال: بهذا أمرت. فلما انصرف حمله على فرس له أدهم، بحلية ذهب مخرمة، وأرسل إليه: ليس لقدره أرسلت به إليك، وإنما هو ذهب صامت محرق وما سبقت إليه، وحمل إليه فأكثر، ورده مع ابن طاهر إلى أبيه، وزوج الإخشيد ابنته فاطمة ابنه مزاحم بن محمد بن رائق، وتولى ذلك ابن طاهر وكتب بذلك الكتاب، ونثر محمد بن رائق الدنانير والدراهم. ثم سفر ابن طاهر في الصلح بينهما، وقرر الأمر على أن للإخشيد من الرملة إلى مصر، وما خلفها لمحمد بن رائق، ومال بحمله الإخشيد، وعلى أن يكون عبيد الله بن طغج عند ابن رائق ومزاحم بن محمد بن رائق عند الإخشيد.
وسار مزاحم مع ابن طاهر، ولقيهم رسول الإخشيد يقول: إن غلمان أخي عبد الله بكوا ومنعوا منه، فيرجع أبو الفتح مزاحم إلى أن أرسل إلى ابني أونوجور فيكون عندك ويجيء أبو الفتح. ولما فرغ التوسط سار الإخشيد إلى مصر، وخليفته
على الإمارة أبو المظفر، ووزيره محمد بن عليّ الماذرائي، ودخل وبين يديه محمد ابن تكين.
وفي هذا الشهر نزه محمد بن عليّ الماذرائي الإخشيد في بستانه ببني وايل وفرش له، وأكثر الطعام والفواكه والطيب والفرش وقام بجميع العسكر. حدثني محمد بن الحسين قال: لما أكل ثم نام ثم انتبه وصلى وكنت قد فرشت في البستان عند البركة، ونصبت بين يديه من الذهب والفضة، والتماثيل من الكافور والعنبر، وجمعت له المغنين من الرجال والنساء قال ما يدل على طيب نفسه، فجعلت بين يديه صينيتين من الفضة، الواحدة مملوءة دنانير والأخرى مملوءة دراهم للنثار، فأخذ صينية الدنانير فتركها خلفه ونثر الدراهم، فلما انصرف حملت جميع ما كان جالساً عليه، وما كان بين يديه، وما شرب وما أكل فيه، فأرسلته خلفه، وحملته على فرسين بسرج ولجام من ذهب، وقدت بين يديه الجنائب، وحملت كاتبه وحجابه وأكثر أصحابه.
وورد على الإخشيد الكتاب بوفاة الراضي لسبع خلون من شعبان سنة تسع وعشرين، وجلوس أخيه إبراهيم بن جعفر المتقي فدعا له.
وفي شوال ورد كتاب المتقي بإقرار الإخشيد، ثم وردت عليه الخلع من قبله، فركب إلى المسجد الجامع ولبسها ورجع إلى داره بعد أن زينت له الأسواق (1) .
ثم ورد الخبر على الإخشيد بقتل محمد بن رائق بنواحي الفرات. وذلك أن وافق الإخشيد على أن تكون له الرملة وما بعدها إلى آخر أعمال مصر، ويحمل إليه مالاً قرره ابن طاهر، ويكون لابن رائق طبرية ودمشق إلى حدود بغداد، واستقر الأمر وكوتب من بغداد وجاءته رسل المتقي بالمسير، فمنعه كاتبه محمد بن عليّ بن
(1) يذكر ابن العديم (4: 242) في أحداث سنة 329 ما يلي: وورد في سنة تسع وعشرين نعي أبي علي عبد الله بن طاهر والد مسلم، فلم يتأخر عن تعزيته أحد، وكان الحسن بن طاهر أخوه عليلاً، فكتم ذلك عنه، فركب الإخشيد إلى أبي جعفر مسلم فعزاه، وسقاه الشراب ثم سأل: هل علم أبو محمد الحسن بن طاهر بوفاة أخيه؟ فقالوا: لا، فركب إليه عائداً وعزاه.
مقاتل، فقال: لا تفعل، فقال: ركوبي في الطيار في دجلة وصياح الملاحين أحب إلي من ملك الشام كله. فاستخلف على أعماله ابنه الحسن بن محمد بن رائق وسار، وخرج ولد المتقي لتلقيه، وأرسل إليه أن يعبر له وهو عند بني حمدان، فأشير عليه ألا يفعل، فأبى وقال: لو وقع سوطي ما نظروا إليه. فعبر إلى ابن المتقي وابني حمدان ناصر الدولة وسيف الدولة، فقتلوه وأحدروا ابن المتقي إلى أبيه، واحتزوا رأس محمد بن رائق ورموا جثته في الفرات. ووافى الرسول إلى الإخشيد يبشره بذلك، فأنفذ العساكر إلى الشام عليها كاتبه عليّ بن محمد بن كلا.
ولست خلون من شوال سنة ثلاثين سار الإخشيد إلى الشام في عساكره، واستخلف أخاه أبا المظفر ابن طغج. وكان الإخشيد لما قوي أمره ومات الفضل ابن جعفر بالرملة وقتل محمد بن رائق، وتفرغ قلبه، أحب أن يسلك طريقة أحمد ابن طولون وابنه أبي الجيش، فتقدم بأشياء: منها ألا يركب أحد بحلية دقيقة سواه، ولا يلبس أحد خفتان ديباج فضياً محفوراً سواه، ولا يركب أحد برذوناً محفف العرف سواه، ولا يكون في عسكره شيخ، وأن يصبغ الشيوخ لحاهم، فقيل له: يحتاج الصباغ إلى مؤونة، فزاد كل أحد في رزقه من خمسة دنانير وما زاد.
ومن حكايات الإخشيد في أول أمره قال: كنت مع أبي منصور تكين بدمشق، وكان الحاج لهم طريق من دمشق أنا عورتها خوفاً أن يأتيني أحد منها بمكيدة، فجهز تكين حاج دمشق وأخرجني على القافلة، وحج في تلك السنة أبو صالح مفلح المقتدري فخدمته، وأكرمته، ووقفت بالناس في عرفات، فلما غربت الشمس دفعنا إلى المزدلفة، فرأيت قبة محمد بن عليّ الماذرائي أعلى قبة، فتقدمت أنا وغلماني وضربنا وجه ناقة محمد بن علي، وقدمت قبة مفلح، فصاح محمد بن عليّ من قبته: من هذا؟ فقالوا: محمد بن طغج، فصاح: يا عاض ابن العاض، فضحكت، فلما وصلنا إلى المزدلفة شكر مفلح فعلي، وأرسل إلي منديلاً مختوماً فيه عشرة دنانير وزنها ألف دينار، وقال يسرني بقبولها فهي مما زودني مولاي أمير المؤمنين، فأخذته، وخدمته بمنى ومكة إلى أن سار إلى العراق، فكان ذلك في نفس محمد بن عليّ يحقده.
وأمر الإخشيد في وقت من الأوقات بهدم المواخير ودور المقامرين والقبض عليهم، وأدخل عليه جماعة من المقامرين وعرضوا عليه، وفيهم شيخ له هيئة، فقال: هذا الشيخ مقامر؟ فقالوا: هذا يقال له المطمع، فقال الإخشيد: وأيش المطمع؟ فقالوا: هو سبب عمارة دار القمار، وذلك أن الواحد إذا قمر ما معه قال له: فالعب على ردائك فلعلك تغلب، فإذا ذهب رداؤه قال له: العب على قميصك حتى تغلب به، كل شيء حتى يبلغ نعليه، وربما اقترض له. ولهذا الشيخ جراية يأخذها على هذا كل يوم من متقبل دار القمار، فضحك الإخشيد وقال: يا شيخ تب إلى الله وحده من هذا، فتاب، وأمر له الإخشيد بثوب ورداء وألف درهم وقال: يجرى عليه في كل شهر عشرة دنانير، فانصرف الشيخ شاكراً داعياً، فقال: ردوه وقال: خذوا ما أعطيناه وابطحوه، فضربه ستمائة عصا، ثم قال: خلوه، أين هذا من تطميعك؟!.
وكلن بمصر رجل يعرف بأبي القاسم عمرو بن نافع، وكان به وضح وكان معدلاً عند الشهود، وكان له ولد يكنى أبا جعفر يتفقه للشافعي حافظاً للمذهب، وكان قد خرج إلى العراق فأقام سنين، ثم إنه عاد إلى الشام، فحدثني عليّ ابن محمد الصوري الفقيه قال، قال لي أبو جعفر ابن عمرو بن نافع: قصدت أبا عليّ وتقربت بجوارنا منه، فأدخلني إلى الإخشيد بدمشق وعرفه بي ووصفني له، فقال لي الإخشيد: أبوك الأبرص؟ قلت: نعم. فقال: لمن تتفقه؟ قلت: للشافعي، فقال أيش معنى قول المزني: اختصرت هذا من قول الشافعي ومن معنى قوله؟ قال أبو جعفر: وكانت هذه صنعتي، فقلت: المعنى كذا وكذا، وصرت في الكلام فولاني مظالم السواحل.
وكان الإخشيد على تشبه بأحمد بن طولون في أحواله: كان ابن طولون إذا راح إلى الجامع العتيق يوم الجمعة يبعد الناس عن المقصورة، فعمل الإخشيد كذلك. وكان أكثر صلاته في جامع أحمد بن طولون إلا في رجب وشعبان وشهر رمضان.
وحدثني محسن قال، سمعت كافوراً يقول: ركب الإخشيد ثم قال لي: ارجع فقل لهم يصلحون المائدة، ويكون أول ما يقدمونه حماضية، قال كافور: فجئت إلى صاحب المائدة فقلت له: أول ما تقدم حماضية، فقال: والله ما أصلحت حماضية، فقلت: إنا لله عز وجل، فقال: كم عليك وأصلح لك الساعة حماضية؟ قال [قلت] : مائة دينار. قال: فاجمع لي كل أترج عندك، فجمعناه واستخرج الحماض فألقاه في الحصرمية، وطرح فيها ماء الورد والمسك والأفاوية، فلما جاء الإخشيد قدمتها إليه، فأكل منها وأكثر وقال: طيبة والله، فقلت: هي والله تقوم عليّ مائة دينار فقال: كيف؟ فحدثته فقال: إيتوني بالطباخ، فقال: تأخذ من غلامي مائة دينار، ردها فردها، فأعطاها غلاماً وقال له: ادفعها إلى الطرائفي الذي يطالبنا، قال: فقلت للإخشيد: فأنت أخذت المائة.
وحدثني يحيى بن مكي بن رجاء المعدل قال: كنت أنا وأبو الحسين ابن إسحاق مع القاضي الحسن بن أبي زرعة، وكان معنا جماعة من الشهود إلى الإخشيد، وحضر صدقة بن الحسن متولي دار الضرب، ومعه دنانير وسبيكة، وأحضر السباكين ليقوموا عيار الدنانير بحضرة الإخشيد، وأوقدوا النار، وجاء صدقة بخمسين ديناراً لتسبك بحضرته، فقال له الإخشيد: كم معك؟ فقال: خمسون ديناراً، فقال: هاتها وأخرج منها عشرة دنانير فقال: اسبكوا، فسبكت وأعتدل العيار. فقال: يكون العيار على هذا، ورد العيار إلى عليّ بن إسحاق المعدل، وسلم إليه السكك وانصرف. قال ابن رجاء: فاجتمعت مع صدقة بعد أيام فقلت: أربعون التي عدلها ولم يسبكها ردها إليك؟ قال: أيش يرد؟ أخذها وانصرفت وغرمتها لأصحابها.
وكان يصون مجلسه أن يجري فيه لغط أو قبيح. ولقد تنازع أبو بكر ابن الحداد الفقيه وأبو الذكر محمد القاضي المالكي وعبد الله بن الوليد، وجرى بينهم لغط كثير. فلما انصرفوا قال: يجري هذا في مجلسي؟! كدت والله أن آمر بأخذ عمائمهم.
وكان يكره سفك الدماء، ولقد شرع في الخروج إلى الشام في آخر سفراته
وسار العسكر، وكان نازلاً في بستانه في موضع القاهرة اليوم، فركب للمسير، فساعة خرج من باب البستان اعترضه شيخ يعرف بمسعود الصابوني يتظلم إليه، فنظر له فتطير به وقال: خذوه ابطحوه، فبطح فضرب خمس عشرة مقرعة وهو ساكت. فقال الإخشيد: هو ذا يتشاطر، فقال له كافور: قد مات، فانزعج، واستثقل سفره، وعاد إلى بستانه، وأحضر أهله واستحلهم وأطلق لهم ثلاثمائة دينار، وحمل الرجل إلى منزله ميتاً، وكانت له جنازة عظيمة.
وكان قد سار إليه سبعة أمراء لأخذ أعماله، فأما أولهم فرجل يعرف بالعدل، وبلغ إلى دمشق فراسله وأرضاه فصار في جملته، والثاني بدر الخرشني راسله وولاه دمشق فصار في جملته، والثالث الحسين بن أبي العلاء بن حمدان فبلغ إلى حمص ومد يده إلى أموال الإخشيد وأخيه عبيد الله فراسله الإخشيد وأرضاه وانصرف عنه، والرابع تكين الخادم فراسله وقلده فصار في جملته، والخامس ابن رائق وقد شرحنا قصته، والسادس عي بن حمدان سيف الدولة، ونحن نذكر قصته فيما بعد إن شاء الله، والسابع يانس المؤنسي راسله وأرضاه.
وحدثني بعض الإخشيدية قال: لما زاد أمر محمد بن رائق على الإخشيد وطلب منه الأموال وإلا قاتله، اشتغل قلبه وقال: ابني يطلب مني مالاً حتى يكف شره عني؟! وامتنع من الطعام يومين، فدخل عليه محمد بن الخازن فقال له: من أين؟ قال: جئت من عند أبي سهل ابن يونس الرجل الصالح، فسألته الدعاء لمولاي الإخشيد، وشكوت إليه غمي وغم أهل الدولة بشغل قلبه، وأنه قد امتنع من الطعام لما التمسه منه محمد بن رائق فقال (1) : ومن الإخشيد حتى لا تبذل في صيانته الأموال؟! أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعطي المؤلفة قلوبهم ويجعل لهم سهماً في الصدقات حتى يكفوا أذاهم، فما له برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟! فقال: كيف؟ فأعدت عليه الكلام فقال: هاتوا المائدة، وأرسلوا خلف محمد بن الحسين ابن طاهر يخرج إلى ابن رائق ويرضيه.
(1) القائل هو ابن يونس الرجل الصالح.
وحدثني عبد الوهاب بن سعيد الكاتب قال: حدثني أبو الحسين ابن العجمي قال: كنت ببغداد أخلف الإخشيد وأنوب عنه، وكان ابن مقلة الوزير مصروفاً، فأرسل إلي فجئته، فقال لي: يا أبا الحسين أنا في فاقة فأحب أن تكتب إلى صاحبك يرسل إلي بنفقة، فقلت له: عندي هاهنا ألف دينار أحملها الساعة، فقال: أحسن الله جزاءك. ترسلها إلى الباب الآخر تسلم إلى فلانة الخازنه، فحملتها، وكتبت إلى الإخشيد أعرفه، فأنفذ إلي سفاتج بثلاثين ألف دينار، فأخبرته فشكر وصححتها له واستأذنته في حملها فقال: أخرج منها ألفين وأحمل الباقي. وكتب إلى الإخشيد كتاباً يشكره يقول في أوله: كتابي إلى الإخشيد، أطال الله بقاءه، وساق سائر الكتاب بالشكر والثناء والدعاء بالمكافأة، فحسن موقع ذلك من الإخشيد.
وكان الإخشيد ذا سياسة ومدافعة، ولقد انهدمت قطعة من كنيسة أبي شنودة في سنة ست وعشرين، فبذل له النصارى مالاً ليطلق عمارتها، فقال: خذوا فتيا الفقهاء. فأما ابن الحداد فأفتى بألا تعمر، وبذلك أفتى أصحاب مالك، وأفتى محمد بن عليّ بأن لهم أن يرموها ويعمروها، واشتهر ذلك عنه فحملت الرعية إلى داره النار وأرادوا قتله، فاستتر وندم على فتياه، وشغبت الرعية وأغلقت الدروب وأحاطت بالكنيسة، فبلغ الإخشيد ذلك فاغتاظ، وأرسل بوجوه غلمانه كافور ومنجح وشادن في عسكر كبير وقال لهم، لا تجاوزوا مسجد عبد الله، فبلغوا مسجد عبد الله، وزحفت إليهم الرعية ورموهم بالحجارة، فأرسلوا يخبرون الإخشيد فأرسل إليهم ارجعوا. ثم دعا بأبي بكر ابن الحداد الفقيه وقال له: اركب إلى الكنيسة فإن كانت تبقى فاتركها على حالها، وإن كانت مخوفة فاهدمها إلى لعنة الله. فسمعت أبا بكر ابن الحداد يقول: أخذت معي عليّ بن عبد الله البواش المهندس وركبت إلى الكنيسة فما تركت من كل درب، فلم أزل أرفق وأعلمهم أني معهم، ففتحوا إلي فجئت إلى الكنيسة وأمرت بإخراج جميع من فيها من النصارى، ودخلت ومعي ابن البواش وأغلقت عليّ وعليه وجئت به إلى المذبح فقلت له: هذا الموضع الذي قال الله تعالى فيه {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولدا} فخذ بيدك شمعة وأدخل
معك فعرفني، فطاف وعاد إلي وقال لي: تبقى كذا خمس عشرة سنة، ثم يسقط منها موضع، ثم تقيم إلى تمام أربعين سنة ويسقط جميعها، فانصرفت إلى الإخشيد وعرفته، فتركها ولم يعمرها. وكان أمرها كما قال ابن البواش المهندس، فعمرت سنة ست وستين قبل تمام أربعين سنة ولو تركت سقطت.
وكان محمد بن تكين قد أكرمه الإخشيد وكان يؤاكله، وولاه طبرية، فلما ورد محمد بن رائق إلى الشام صار معه، فلما كانت وقعة العريش وانهزم محمد ابن رائق استأمن محمد بن تكين للإخشيد فلم يؤاخذه ولم يزل يكرمه.
وكان بمصر أبو القاسم سعيد المعروف بقاضي البقر، وكان من شعراء أبي الجيش ابن طولون، وكان في آخر عشر التسعين، وكان يبيت عند الإخشيد يحادثه ويسامره وكان مليح الحديث. وكان يصف أخلاق الإخشيد وإمساكه، ومما تحدث عنه أنه قال: قدم بين يديه في الليل طبق فاكهة، فتناولت باقلاءة فقبلتها ووضعتها في جيبي وقلت له: جعل الله عمر الإخشيد فوق كل عمر أغناني وأنسى الناس تكرم البرامكة، قال: فتبسم وعلم أني قد هزلت عليه. فتأخرت عنه يوماً فقال لي: لك يومان لم أرك فيهما، فقلت: كان حماري غامزاً، فقال: ما كنت تكتري حماراً بقيراطين من دار الحرم؟! وقال لي ليلة: أيش أكلت اليوم؟ فقلت: شواء من السوق فقال: إياك شواء دار فرح فإنه يباع نياً وأزيدك فأحذره، إنهم يقطعون الماعز ويجعلونه في جوفه.
قال سعيد: واعتللت مرة وكان الشتاء شديداً، ثم وجدت خفاً فركبت إليه عشاءً وعلي قميص وجبتان وعمامة وسراويل وخفتان، فلما دخلت عليه رحب بي وقال: صح الجسم؟ قد كنت أرسل أفتقدك، فقلت: قد كان رسل سيدي الإخشيد يجوني. فقال: حدثني بحديث صغير، فقلت: أيد الله الإخشيد ما في نفس، فقال: صغير بطول الإصبع، فقلت: نعم أيها الإخشيد، بلغني أنه كان باليمن ملك يقال له ذو الكلاع، وكان الناس يسجدون له، فحكي عن رجل أنه قال: دخلت اليمن فرأيت الناس سجوداً فقلت: ما الخبر؟ قالوا: الملك ذو الكلاع أخرج اليوم يده فسجد له ثمانون ألف جنين ومن الله عليهم بالإسلام، ولم يلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بايع أبا بكر وبايع عمر وبايع عثمان وحضر وقعة صفين، وكان مع معاوية فقتل، فحكى بعض من حضر الوقعة أنه قال: نزلت علينا ريح في الليل فقطعت الحبال وقلعت الأوتاد، فمددت يدي، وقد طاح وتد خيمتي، فشددت الحبل في رجل قتيل فلما أسفر الصبح إذا بها رجل ذي الكلاع. فتعجب الإخشيد وقال: ما أعجبه من خبر! ! ثم نهضت، وكان الإخشيد في علو، فقام فمشى معي واتكأ على درابن القاعة، ونزلت في الظلام من الدرج، فلما صرت في القاعة سقطت في البركة، فصاح الإخشيد: يا كافور، يا منجح، يا جانك، يا شادن (وجوه غلمانه) فرموا أنفسهم خلفي وأخرجوني، والإخشيد يقول: ويلكم مات؟ فقالوا: هو مسترج. فصاح يا أبا القاسم، قلت: لبيك، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من عند ذي الكلاع، فضحك وقال: الساعة تم الخبر، فقال قاضي البقر: ليت الله لم يسرك بتمامه. ثم صعدوا بي ونزعوا ثيابي وألقوا عليّ ثياباً، وانصرفت إلى منزلي وانتكست في العلة.
وحدثني مزاحم بن رائق قال: استعمل لي فرو قام عليّ بستمائة درهم، فمن حسنه وفرحي به لبسته بدمشق وركبت إلى الإخشيد، فلما رآه قلبه واستحسنه وقال: ما رأيت مثله قط، فلم تسمح نفسي بأن أنزعه للوقت. فلما انصرف اعترضني جانك وقال لي: اجلس فإن الإخشيد يريد أن يخلع عليك، وجاءوا برزمة وقالوا: اخلع الفرو، وطووه ومضوا به، وبقيت جالساً ثم قالوا: قد نام، تعود إليه العشية، فانصرفت إلى داري وقلت: هاتوا الفرو، فقالوا: أيما فرو؟ ما جاءنا شيء. فلما كان عشية دخلت على الإخشيد فإذا الفرو عليه، فلما رآني ضحك وقال: كيف رأيت؟ ما أصفق وجهك، ولكنك ابن أبيك، وكم عرضت لك وأنت لا تستحي، فلم تفعل، حتى أخذناه بلا شكر ولا منة.
قال: وكان الإخشيد يحب الصالحين ويركب إليهم ويأخذ دعاءهم. وحدثني مسلم بن عبيد الله الحسني قال: وصفت للإخشيد رجلاً صالحاً بالقرافة يعرف بابن المسيب، فركب معي إليه وسأله الدعاء، ثم انصرف فقال لي: تعال أريك أنا أيضاً رجلاً صالحاً فمضيت معه إلى أبي سهل ابن يونس، فرأيت شيخاً أديباً جالساً
على حصر سامان مبطن، فقام فتلقى الإخشيد وأقعده على الحصير، ثم قال له: يا أبا سهل أقرأ عليّ فإن الريح آذتني الساعة في الصحراء، فأدخل يده تحت الحصير فأخرج منه منديلاً نظيفاً مطوياً فغطاه على يده وقرأ عليه، فلما انصرف الإخشيد قال لي: ما رأيت أطرف من هذا، لم يقابل وجهي بيده حتى غطاها، وليتك شممت المنديل مبخراً بالند، أفتراه علم أني أسأله فعبأه؟! هذا نظيف ظريف طبعاً.
وكان لا يتأخر عن الجمعة في الجامع العتيق في رجب وشعبان وشهر رمضان، ويركب ليلة الختم إلى الجامع ويحضر الختم والدعاء.
والإخشيد أول من رأينا في موكبه بالليل الشمع على البغال، والفراش راكب، وعلى البغل شمعة من خلف الفراش، يلتفت كل ساعة يصلح الشمعة.
ووقع للإخشيد أمر عجيب، وذلك أن رجلاً من أهل العراق صعد فوق زمزم بمكة وصاح: معاشر الناس، أنا رجل غريب، ورأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: سر إلى مصر والق محمد بن طغج وقل له عني يطلق محمد بن عليّ الماذرائي فقد أضر بولدي. ثم سارت القافلة إلى مصر وسار الرجل ووصل إلى مصر وبلغ الإخشيد خبره. فأحضره وقال: أيش رأيت؟ فأخبره فقال: كم أنفقت في مسيرك إلى مصر؟ قال: مائة دينار، فقال: هذه مائة دينار من عندي وعد إلى مكة ونم في الموضع الذي رأيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيته فقل لرسول الله: قد أديت رسالتك إلى محمد بن طغج فقال: بقي لي عنده كذا وكذا، وذكر شيئاً كثيراً، فإذا دفعه إلي أطلقه، فقال له الرجل: ليس في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هزل، وأنا أخرج إلى المدينة وأنفق من مالي، وأسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله واقف بين يديه يقظان بغير منام وأقول له: يا رسول الله أديت رسالتك إلى محمد بن طغج فقال لي: كذا وكذا، وقام الرجل، فأمسكه وقال: حصلنا في الجد، إنما ظننا بك ظناً والآن فما تبرح حتى أطلقه، فأرسل إليه الإخشيد من توسط أمره وأطلقه.
وكان الإخشيد بالشام وبلغه خبر أحمد بن الحسين المتنبي الشاعر، فقال جيئوني به فأحضروه إليه وأكرمه وقال: أنشدني قصيدتك الدالية في ابن
الفصيصي (1) فأنشده حتى بلغ إلى قوله:
فلما جئته أعلى محلي
…
وأجلسني على السبع الشداد
تبسم قبل تسليمي عليه
…
وألقى كيسه قبل الوساد فقال الإخشيد للغلمان: بللتم الخيش؟ وقام ولم يجلس له حتى يفرغ.
وحدثني بعض غلمانه قال: كانت الهدايا تأتيه في الأعياد والنوروز والمهرجان، وكان قد اشتهر عنه محبة العنبر، وكان أكثر ما يهدى إليه، فكان إذا جاءت هذه الأوقات التي يهدى إليه فيها أخرج من خزانته العنبر إلى التجار فيشتريه الذين يهدونه إليه، فيحصل له الثمن الوافر ثم يعود العنبر. أقام سنين كثيرة يعمل هذا وقيل إنه اجتمع عنده قناطير. واحترق في سنة ثلاث وأربعين في دار أبي الفضل بعقبة ابن فليح لجاريته أم أولاده عنبر كثير، كان يشم على بعد، وكنت أسمع الناس يقولون: احترق لهم في دار أبي الفضل عنبر وأسفاط وأعدال وصيني ما مبلغه مائة ألف دينار.
وكان الإخشيد حسن التأمل والنظر: حدثني أبو الفرج البالسي الطبيب قال: اشتهى الإخشيد بقرية فعملت له، وكان رسمي إذا قدمت المائدة إليه أن أقف في طريق الطعام فأشرف على كل لون يقدم فأرد ما أرى رده، وأصلح ما أراه أرسل إليه، فجاءوا ذلك اليوم بالبقرية فكشفتها وأزلت منها ما يصلح إزالته، فأخذها كافور بيده وأدخلها إليه، ولم يكن رسمه أن يحمل طعاماً، فلما خرج قلت له: ما يزيدك الله بهذا إلا رفعة، فقال لي: كانت شهوة مولاي لها قوية فأحببت أن أدخل أنا بها. فلما رفعت المائدة دخلت إليه، وسألته عن أكله، فقال لي: كانت البقرية طيبة وأكلتها شهوة، فأيش أعجب ما كان فيها؟ فقلت: يقول الإخشيد أيده الله، قال: حمل كافور لها، وحياتك يا أبا الفرج لا جلس في هذا المجلس غيره، ولا أخذ هذا المال سواه.
وحدثني محمد بن الحسين المكفوف المفسر قال، قال لي الإخشيد: رأيت
(1) ممدوح المتنبي هو علي بن إبراهيم التنوخي.
في المنام كأني سلمت إلى غلام من غلماني الكبار شيئاً فلم يقم به، ثم نقلته إلى غيره فلم يقم به حتى سلمته إلى جماعة منهم، ثم سلمته إلى كافور، وانتبهت وهو في يده، فقلت له: هذا الملك يعود إلى كافور ويقوم به، فضحك وعجب. فلما نهضت أخذ بيدي غلام، فلما خرجت قال لي الغلام: رأيت مولاي يخاطبك، وينظر إلي ويضحك، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا كافور، فقلت له: أبقى الله عزك، إن هذا الملك ستملكه واذكرني، قال: وهذا المقام كان سبب وصوله إلى ما وصل إليه ووصية الإخشيد له.
وكان الإخشيد إذا توفي قائد من قواده أو كاتب، تعرض ورثته وأخذ منهم وصادرهم وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير. وقال أبو بكر بن محمد بن عليّ الماذرائي: أخذ مني الإخشيد مالاً عيناً وضياعاً وعروضاً ما مبلغه ثلاثة وثلاثون إردباً دنانير. (وعدد صاحب الكتاب جماعة كثيرة صادرهم وأخذ منهم أموالاً عظيمة) . قال: واستخرج من مصر في إحدى عشرة سنة اثنين وعشرين ألف [ألف] دينار، لأنه كان يعقد الخراج بمصر ألفي ألف دينار في كل سنة خراجاً، سوى خراج الرملة وطبرية ودمشق والسواحل، وسوى ضياعه التي كانت ملكاً له.
وكان الإخشيد يقول: المصادرة مشؤومة وأنا مضطر إليها، وما أنفقتها قط إلا في سفر إلى عدو. وكانت أيام الإخشيد إحدى عشرة سنة، سافر فيها خمس سفرات إلى أعداء يقاتلهم فالأولى حين بلغه مسير محمد بن رائق فتجهز إلى الفرما واصطلحا، والثانية لما نقض ابن رائق الصلح والموافقة، فسار إليه والتقيا بالعريش وآل الأمر إلى أن هزم الإخشيد وكان الظفر له، والثالثة لما بلغ الإخشيد قتل محمد ابن رائق سار إلى دمشق في عديده وتمكن وقرر، ثم عاد إلى مصر، والرابعة حين ورد عليه كتاب المتقي بالمسير إليه، والخامسة لما سار إليه سيف الدولة ابن حمدان فسار إليه واقتتلا بفنسرين، واستظهر الإخشيد ثم اصطلحا وتصاهرا وتقاربا، وعاد الإخشيد إلى دمشق فأقام بها سنة واحدة وتوفي.
وكان الغالب على الإخشيد رقة الوجه والحياء، وكان إذا صادر أحداً لم يعذبه ولم يضربه ولم يضيق عليه ولم يره حتى تنقضي المصادرة، ثم يؤانسه
ويصطفيه. وكان يحب قراءة القرآن ويبكي عند سماعها.
وحدثني بعض الإخشيدية قال: استتر سهل بن محمد الكاتب البغدادي، فطلبه الإخشيد طلباً شديداً، فعرف أنه عند أبي إبراهيم الرسي العلوي، فأرسل إليه فخرج إلى الرسل وصاح عليهم، فعادوا إلى الإخشيد فأخبروه، فقال لمنجح غلامه: أركب في مائة فارس واكسر دار أبي إبراهيم الرسي وخذ سهلاً الكاتب. فركب منجح، وبلغ أبا إبراهيم فأغلق بابه، ولبس الدرع وتقلد السيف وأخذ الدرقة، وفتح الباب وقال لمنجح: تقدم فوالله لا طمعت في الدخول أو أقتل، فأرسل إلى الإخشيد فأخبره، فأرسل الإخشيد إلى منجح: انصرف، ثم أرسل إلى أبي إبراهيم، اركب، فركب فلما دخل على الإخشيد قال: يا أبا إبراهيم الحرب؟ قال: نعم، قال محمد: فبحقي عليك سهل عندك؟ قال: نعم، قال: فهو آمن وهذا خاتمي وأماني، والساعة ازدادت رغبتي فيك ياشريف، قم وأحضر سهلاً آمناً. وعجب الإخشيد من فعله.
وحدثني بعض الكتاب قال: (1) : كان محمد بن رائق لما سار لقتال الإخشيد راسله الإخشيد بالحسن بن طاهر الحسيني، وكانت كتب الحسن بن طاهر ترد من الشام إلى أخيه الحسين بن طاهر شقيقه، وكان ينوب عنه ويوقف الإخشيد على ما يرد عليه، ويوقفه على كتبه، وكان إذا كتب إلى الإخشيد كتب مع الطائر، ويكتب كثيراً إلى أخيه الحسين. قال الحسين (2) : فورد إلي (3) كتاب أخي الحسن بن طاهر من الشام يسأل فيه الإخشيد أن يعفيه من ضمان بلبيس وفاقوس فإنه قد عجز عنهما (4) لقلة فائدتهما وكثرة غشيان البوادي لهما، ولم تكن هاتان الضيعتان في يد أخي، فحملت الكتاب إلى الإخشيد (5) وقرأته عليه، فقال: هاتوا كاتب (6) ديوان
(1) هذه الفقرة في بغية الطلب 4: 242.
(2)
البغية: فقال أبو عبد الله الحسين بن طاهر.
(3)
البغية: علي.
(4)
البغية: فإني قد عجزت عنهما.
(5)
البغية: فحملت الكتاب وجئت به الإخشيد.
(6)
البغية: فقال: هاتوا حديد بن الحصان يعني كاتب ديوان الخراج.
الخراج فقال: في يد أبي محمد الحسن بن طاهر ضمان فاقوس وبلبيس؟ قال: لا، فأطرق ثم قال: ما قصر أبو محمد فيما قاله، عزم محمد بن رائق يجيئنا على غفلة إلى مصر، فأشار أبو محمد بحفظ فاقوس وبلبيس، يخرج الساعة إلى فاقوس ثلاثة آلاف فارس وراجل وإلى بلبيس مثلها وتزاح عللهم (1) ويكونون على غاية اليقظة ولا ينامون الليل ويحفظون (2) هذه المواضع. قال الحسين بن طاهر: فعجبت من فطنته، وكتبت إلى أخي: قد أعفاك من ضمان فاقوس وبلبيس وضمنهما من يقدر عليهما، لأن الحسن بن طاهر كان يتقي محمد بن رائق أن تقع كتبه في يده، لأنها (3) وقعت في يده مرة، فحدثني سليمان بن الحسين (4) بن طاهر قال: أرسل محمد بن رائق إلى أبي، فركب وأخذني معه، فدخل عليه وهو مقطب، فلما جلس لم يكن منه إليه الانبساط الذي يعرفه، فقال: أيش خبر الأمير؟ فقال: قد وقعت في أيدينا كتبك إلى محمد بن طغج، قال: مع من؟ قال: مع صاحبك المعروف بالزطي، فقال: سبحان الله ما أصاب الأمير الدين ولا السياسة، فأما الدين فنهى جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلع أحد في كتاب أخيه بغير إذنه، والسياسة انخراق الهيبة، أفليس يعلم الأمير أني جئته من قبل محمد بن طغج؟ أفلي بد من مكاتبته وتعظيم أمره في عينيه (5) ، وأن أطلعه على ما يحتاج إليه؟ هذه رسل الأرض، فأيش يعمل (6) الأمير في رسل السماء؟ قد والله كتبت (7) مع الطائر أكثر من هذا وأستودع الأمير، ما يراني بعدها، فأخذ بذيله وما زال يرفق به ويترضاه ويقول له: أنت أولى من احتمل. وكان شريفاً قوي النفس جريئاً في خطابه، وأكثر نعمته اكتسبها في هذه الوساطة بين هذين الرجلين.
وحدثني الأصبهاني صاحب محمد بن رائق قال: لما استقرت الرسالة على
(1) في المغرب: عليهم، وهو خطأ، والتصحيح من البغية.
(2)
المغرب: ولا يناموا
…
ويحفظوا.
(3)
البغية: فإنها.
(4)
البغية: الحسن.
(5)
المغرب: غيبته.
(6)
البغية: يقول.
(7)
المغرب: كتب.
أن ينصرف ابن رائق من الرملة فما وراءها، قال محمد بن عليّ بن مقاتل كاتب محمد بن رائق وصاحبه للحسن بن طاهر: يا أبا محمد نحن على الانصراف، فاذكر جميع ما تحتاج إليه، فإن الإخشيد إذا وصل إلى الرملة أمضى ما يعمله لك فسأله في إسقاط ما عليه من الخراج، فأمضى ذلك، وكتب إليه بإقطاع وأرزاق له ولحاشيته مبلغ الجميع خمسة عشر ألف دينار سوى ما تقدم.
وحدثني محمد بن الحسين قال: كان الإخشيد بعد وقعة العريش قد عظم أمره، فحدثني أبو الحسن ابن جابر كاتب عبيد الله بن طغج قال: كتب صاحبي عبيد الله إلى أخيه الإخشيد من الرملة يستأذنه في المسير إليه لزيارته شوقاً إليه، فأذن له، فلما قرب دعاني الإخشيد فقال لي: قد قرب أبو الحسين، وقد عزمت على الخروج لتلقيه فأيش تعمل؟ اكسر عزمه وقل له إنك ليس تلقى محمد ابن طغج، إنما تلقى أحمد بن طولون وبالله لئن لم يترجل لي لأضربن عنقك. فسرت فلقيته بفاقوس، فقلت له: الإخشيد خارج يتلقاك، قال: على أي شيء؟ قلت: تترجل له، قال: ما يسومني أخي هذا، قلت له: إنه قال لي: قل له: إنما تلقى أحمد بن طولون، وقد أوعدني بضرب العنق إن لم تترجل له، وأنا سائر إلى الشام. فقال: أفعل. فلما وصلنا إلى المنية أقبلت عساكر الإخشيد، فقلت له: انزل، قال: حتى يراني، فقلت: خبرك عنده، فنزل نحواً من ثلاثمائة ذراع، فلما رآه الإخشيد قال: أركب يا أبا الحسين، وحمله على خمسة أفراس بسروج طاهرية وزاد في إكرامه.
وحدثني محمد بن الحسين قال: انصرف الإخشيد من وقعة العريش بعد هزيمة ابن رائق منه وإنفاذه إلى مصر بالأسارى والرؤوس، وخليفته على مصر يومئذ أخوه أبو المظفر ووزيره محمد بن عليّ الماذرائي، فلما قرب من المنية قال للحسين بن محمد الماذرائي: أرى هيضة قد أقبلوا وأحسب الشيخ فيهم، يعني أباه محمد بن علي، فسر إليه يا أبا عليّ وأسرع وبادر، قال الحسين، فعلمت ما في نفسه، فأسرعت إلى أبي وسلمت عليه وقلت له: هذا الإخشيد قد قرب منك وقد رآك، فأخرج رجلك من الركاب فهو يرضى منك بها، فصاح عليّ وقال: اذهب
والله لا فعلت هذا، ولم أجد فيه حيلة، فقرب الإخشيد ولقيه محمد بن عليّ ولم يترجل له، وعانقه ولم ينبسط الإخشيد، وصاح الإخشيد: هاتوا أبو بكر الكاتب، يعني كاتبه ابن كلا، فسايره وأقبل عليه يحادثه، وبقي محمد بن علي، فقال محمد ابن عليّ لغلمانه: أخرجوني من زحمة الموكب فأخرجوه وسار فرآه الإخشيد وقال لابنه: يا أبا عليّ أين يمضي الشيخ؟ قال: خوف زحمة الموكب، فقال: ردوه، وسايره وعلم أن ذهاب محمد بن عليّ عنه هجنة. قال: ولما قيل لمحمد بن عليّ في الترجل قال: ذهاب المال أهون عليّ من هذا. فلما وصل الإخشيد إلى مصر أقام أياماً وقبض على محمد بن عليّ وابنه.
وكان الإخشيد أزرق بطيناً مشهوراً بالعين، وكان قد تمكن وتشبه بابن طولون، وقصده أمراء بغداد وقوادهم وكتابها وأولاد الوزراء، وأجرى الأرزاق. وهو أول من أقام الراتب، ونكب عماله وكتابه مراراً.
وكان الإخشيد لما قتل محمد بن رائق وسار إلى دمشق وخلا وجهه واستخلف على أعماله، عاد إلى مصر في سنة إحدى وثلاثين، وبلغه ما كان يعمل بجكم بالعراق من النظر في المظالم والجلوس للناس، فجلس بنفسه كل يوم أربعاء. وكان مكرماً للصالحين، ودخل إليه محمد بن أحمد الدينوري منكراً لأمور فأزالها.
وحدثني بعض الشيوخ أنه أفطر ليلة تسع وعشرين ولحقه كسل عن حضور الختم، فقالت له جاريته: تأخر وأنا أعتق عنك غداً عشرة رقاب، فقال: أعشرة رقاب ويحك؟! لعله يكون في هذه الليلة رجل صالح له عند الله منزلة، فيقول في دعائه: اللهم أغفر لجماعتنا، فعسى أن أدخل فيهم، هاتوا ثيابي، فلبس وركب ونزل إلى الجامع العتيق وحضر الصلاة والختم.
وحدثني بعض أهل مصر قال: كنت بالرملة وهو يسير في أحد شوارعها حتى صاحت به امرأة من فوق سطح: أيها الأمير قف علي، بوقوفك بين يدي الله، فرفع وجهه وبادر فنزل عن دابته واتكأ على سيفه وقال: هاتوا المرأة، فوجدها قد
سقطت خوفاً فأحضرت: فقال: ما شأنك؟ فقالت: ابني صبي أمرد غيب عني، فأمر بإحضاره فأحضر، فدعا بصرة فيها مائة دينار فرمى بها إليها وقال: خذي ابنك وهذه الصرة فعسى الله أن يرحم ذل موقفي بين يديه.
ثم لم يزل الإخشيد بقية سنة إحدى وثلاثين يدبر أمر مصر مطمئن القلب قد استراح من أعدائه، ثم ورد عليه خبر بمسير عسكر من الشرق فأمر بمضاربة فأخرجت، فاجتمع إليه أهل مصر فسألوه المقام فلم بفعل، ثم تراخى، فورد عليه الخبر في شعبان سنة اثنتين وثلاثين بمسير عسكر بعد عسكر، وكان قد أطلق محمد ابن عليّ الماذرائي وصرفه إلى منزله.
ثم قدم صالح بن نافع من الشام فحرض الإخشيد على المسير، فقبض على محمد بن عليّ ورده إلى الاعتقال، وقبض على كاتبه ابن كلا وعلى جماعة معه وصادرهم، وحمل معهم محمد بن عليّ وابن كلا واستخلف ابنه أونوجور على مصر، واستخلف له عمه الحسن بن طغج وكان يدعى للمتقي، ثم للإخشيد ثم لأونوجور، ثم لأبي المظفر الحسن بن طغج.
ولما ورد عليه كتاب المتقي بأنه سائر إليه، سار إليه الإخشيد وبلغ الرقة، فأراد منه المتقي أن يعبر إليه فلم يفعل خوفاً مما جرى على محمد بن رائق حين عبر إلى ابن المتقي وصنع ابن حمدان ما صنع، فعبر المتقي إلى الإخشيد والتقيا بالرقة، وحمل إليه الإخشيد من العين والورق والكسوة والجوهر والطيب والفرش والكراع والبغال ما مبلغه مائتان وخمسون ألف دينار، وحمل إلى خواصه، ولم يدع أحداً إلا حمل إليه. وكان الإخشيد لما لقي المتقي ترجل عن بعد وهو بسيفه ومنطقته وجعبته على سبيل الخدمة وقبل الأرض مراراً، ثم تقدم فقبل يده، فصاح به محمد بن خاقان: اركب يا محمد، ثم صاح: أركب يا أبا بكر، فقيل: إن المتقي قال لابن خاقان: كنه، فكناه للوقت. ثم كان الإخشيد يقف بين يديه على سيفه، وإذا ركب حجبه وجعل مقرعته على كتفه، لأنه لم يخدم خليفة قط غيره، وافتخر بذلك وأعجبه. ثم قال للإخشيد: قد وليتك أعمالك ثلاثين سنة فاستخلف لك أونوجور، وقيل إنه كناه أبا القاسم، فقبل الأرض مراراً. وأهدى إليه الإخشيد