المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلام وما يتألف منه - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌الكلام وما يتألف منه

‌الكلام وما يتألف منه

الكلام في الترجمة على حذف مضاف، أراد: باب الكلام أو فصل الكلام، وهو خبر مبتدأ محذوف اختصار تقديره: هذا باب كذا، وأكثر المؤلفين يقتصرون على الخبر، ويحذفون المبتدأ اختصارا، لكن يبقون لفظ الباب فيقولون: باب كذا فاختصر الناظم ذلك هنا وفي سائر التراجم لعلم المخاطب ما يعني، و (ما) عبارة عن الكلم، وهي موصولة، والعائد عليها الضمير المجرور بـ "من"، والضمير المستتر في (يتألف) عائد على الكلام، أي وما يتألف الكلام منه.

وهذا الباب مقدمة لابد من تقديمها قبل النظر في شيء من أبواب النحو، إذ لا يتحصل شيء من تلك الأبواب إلا بعد تحصيله، ومضمّنه بيان الكلام وأجزائه وتمييز بعضها من بعض، فأخذ في ذكر ذلك فقال:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم

واسم وفعل ثم حرف الكلم

واحدة كلمة والقول عم

وكلمة بها كلام قد يُؤم

لما كان الكلام ينطلق على أشياء لغة واصطلاحا، فيطلق في اللغة على القول بترادف، وينطلق على أيضا في اصطلاح المتكلمين على المعنى القائم بالنفس، ومراد الناظم رحمه الله حد الكلام في اصطلاح النحويين وهو مغاير لذينك الإطلاقين أخرجهما بقوله:(كلامنا) يعني كلام النحويين وهو المراد بضمير المتكلم ومعه غيره، أي كلامنا أيتها الطائفة النحوية كذا، وهو داخل فيهم، ولذلك أتى بضمير المتكلم ومعه غيره. وبعض

ص: 31

اللغويين يطلق الكلام على الجمل المركبة المفيدة وهو الذي اختار ابن جني في تفسيره لغة، واحتج عليه في (الخصائص) فهو على هو في عرف اللغة موافق لإطلاق النحويين.

وقوله: (لفظ) إتيان منه بالجنس القريب، والصوت أبعد منه: إذ الصوت ينطلق على مالم يتقيد بحرف بخلاف اللفظ، والإتيان بالأقرب أولى، واللفظ: ما نطق به الإنسان، وتحرز به مما ليس بلفظ، فيخرج الكلام في اصطلاح المتكلمين، وكذلك الإشارة لا تسمى عندهم كلاما وإن جاء ذلك في الشعر، وينشد النحويين عليه.

أرادت كلاما فاتقت من رقيبها

فلم يك إلا ومؤها بالحواجب

أي فلم يكن الكلام غلا ومأها، والومء والإيماء: الإشارة، ولما كان اللفظ منه ما تحصل به فائدة كقولك: زيد قائم قام زيد، ومنه ما لا يحصل به فائدة كقولك: زيد، فأن المفرد لا إفادة له من حيث هو مفرد، وإنما هو حال خاصة، وكذلك قام هل، وهل زيد، وما أشبه ذلك وكان الأول هو الذي يسمى كلاما عند النحويين لا الثاني أخرجه بقوله:(مفيد). والمفيد: ما يحصل منه عند السامع معنى لم يكن عنده، وهذا التعريف جملى، وأما على التفصيل فالنحويين في تفسير الإفادة طريقان:

أحدهما: أنها صلاحية اللفظ لأن يحصل منه عند السامع معنى

ص: 32

لم يكن عنده، وذلك إذا كان فيه مسند ومسند إليه. فقولك: السماء فوقنا، وتكلم إنسان وما أشبه ذلك كلام عند أصحاب هذا الطريق، لأن مثل هذا وإن لم يفد الآن صالح لأن يفيد في بعض المواضع، فيخرج عن هذا ما ليس فيه مسند ومسند إليه كنحو: قام هل وضحك خرج.

والثاني: أنها كون اللفظ بعد فهمه محصلا عند السامع معنى لم يكن عند فأصحاب هذا الطريق لم يعتبروا هنا الإسناد، وإنما اعتبروا حصول الفائدة فقولنا: السماء فوقنا، وتكلم إنسان، عندهم ليس بكلام وإن حصل فيه الإسناد إ ليس بمحصل الآن لشيء، وأولى ألا يكون قام هل ونحوه كلاما.

والطريق الثاني ظاهر كلام الجمهور، والأولى رأي الرماني وليس في كلام الناظم تعيين لأحدهما.

وقوله: (كاستقم) مثال لما حصلت فيه القيود المذكورة، ثم يبقى النظر في هذا الحد في شيئين:

أحدهما: أن يقال: لمَ لم ينص على قيد التركيب، وعادة النحويين أن يذكروه في حد الكلام فيقولون: الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع: لأن كل كلام لابد أن يكون مركباً لفظاً أو أصلاً؟

ص: 33

فيقال في الجواب عن هذا: إنه استغنى عنه لوجهين:

أحدهما: أن قوله: (مفيد) أغنى عن هذا القيد، لأن كل مفيد مركب فلما استلزمته الإفادة استغنى عنه بها، ولذلك اعترض على أبي موسى الجزولي بأن قوله: المركب في حد الكلام حشو: لأن قيد الإفادة مغن عنه، وهذا السؤال أورده طلبة مالقة على شيخنا أبي عبد الله الفخار رحمه الله وأجاب عنه في الحال بدخول أسماء الأعداد نحو: اثنان ثلاثة أربعة، فإنها مفيدة مع كونها غير مركبة، والدليل على كونها غير مركبة نطقهم بها على الوقف.

وقولهم: ثلاثة أربعة إذا أدرجوا فهي مفيدة، مع أنها لا يسمى واحد منها كلاما.

وقد يجاب عن هذا الجواب إنما أفادت مع القرينة، ألا ترى أنها تفيد إذا عدّ بها من غير حضور معدود فقد حصل التركيب بوجه ما، فلذلك حصلت الإفادة، فليست ألفاظ العدد إذا عد بها من المفردات

ص: 34

على الإطلاق، وعلى هذا التقدير تسمى كلاما بلابد. فإن قلت: أفيكون إتيانهم يقيد التركيب عبثا وقد أطبق على اعتباره النحويين؟

فالجواب: أن له وها يصح عند المعتنين بالكلام على قوانين الحدود وليس هذا موضع ذكر ذلك، ولكن لعله يأتي ذكره للحاجة إليه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

والوجه الثاني: أن مقصود الناظم إنما هو تقريب على المبتدئ ومن يليه، والتبيين بأوضح ما يمكن، فلو قيد اللفظ التركيب لسبق فهمه إلى إنكار كون (استقم) كلاما، لكونه ليس في اللفظ مركبا، فضلا عن إنكار كون "نعم" و "لا" و "بلى" و "قاف" في قول الراجز:

قلت لها قفي لنا قالت قاف

ونحو ذلك كلاما مع أنها كلام: لأن كون هذه الأشياء مركبة في التقدير أو غير مركبة لا يتبين إلا بعد تمرين وتحصيل، فكان تركُ

ص: 35

التقييد به أولى بما قصد له، وللشلوبين نظير هذا الاعتذار في مسألة، وذلك أنه ذكر عن بعض النحويين أن من مطرد المقصور ما كان على وزن فعلى جمعا نحو: قتلى ومرضى وجرحى ونحو ذلك، فلم يرتض الشلوبين هذا العقد قال: لوجود مثل قصباء وحلفاء في الجمع قال: فإن قلت ذلك اسم جمع وهذا جمع، فالجواب: أنه لا يتبين الفرق بين اسم الجمع والجمع في هذا إلا لمن قتل هذه الصناعة علما. قال: فالإحالة للناشئين أو المتوسطين على ذلك الخطأ، وهذه من الشلوبين نزعة عالم رباني لا يحمل الأمور فوق ما تحتمله، وقد يكون تركه قيد التركيب بناء منه على أنه لا يلزم في كل كلام أن يكون مركبا، وإنما اللازم الإفادة، فحيث وجدت فهو كلام، فـ "بلى" و "نعم" و "لا" كل واحدة منها كلام، وكذا ما كان نحوها. فإن قيل: إنها في تقدير المركب.

فالجواب أن حملها على ما هو الظاهر فيها من الإفراد أولى من تكلّف تقدير الجملة عوضا منها، ومع ذا فإنه اعتراف بإفادة المفرد إفادة الجملة، ولا نعني بكونه كلاما إلا هذا، وعلى هذا يلزم إسقاط قيد التركيب من الحد، وهو ظاهر، ولا سيما وابن مالط ظاهري النحو في الغالب على ما يظهر من كلامه في تواليفه.

النظر الثاني: إن النحويين يقيدون اللفظ المركب المفيد "بالوضع" وهو لازم على كلتا الطريقتين في تفسيره، أما من يقول: معنى "بالوضع

ص: 36

بالقصد"" أي يقصد المتكلم الإفادة تحرزا من كلام الساهي والنائم والمجنون وكلام بعض الطير، فإنه لم يقصد في كل ذلك الإفادة، فليس بكلام اصطلاحا فيقول صاحب هذا التفسير: إن الناظم يدخل عليه في هذا الحد جميع ما أفاد مما لم يقصد به الإفادة، وأما من فسر "الوضع" بوضع العرب تحرزا من كلام الأعجمي، فإنه لفظ مركب مفيد، لكنه ليس بوضع العرب، فليس بكلام اصطلاحا، فيقول: إن الناظم يدخل عليه كلام الأعجمي، فإنه ليس معه ما يخرجه عن الحد، فإن قلت: ما تنكر من أن يكون الناظم جاريا في تفسير الوضع على هذا الثاني، ويكون قوله:(كاستقم) يريد به الإشارة إلى هذا القيد الذي هو الوضع، فإن العرب هكذا وضعته لمعنا الذي دل عليه، وهذه عادته أن يعطى القيود والأحكام بالأمثلة، وهو كثير في كلامه فهذا من ذلك، فكأنه يقول: كل ما كان من الكلام هذا سبيله من كونه على طريقة العرب ووضعها، فهو الذي يسمى كلاما عند النحويين، فهذا ممكن أن يقال لولا أن مذهب المؤلف غير هذا من تواليفه أنه يريد الوضع بالتفسير الأول، وقد صرح به في "التسهيل" فقال: والكللم ما تضمن من الكلم إسنادا مفيدا مقصودا لذاته وفسره في "الشرح" على ذلك، وقال: تحرزت به من حديث النائم، ومحاكاة بعض الطيور الكلام، فقد نص على أنه لم يقصد هذا المعنى الثاني في تفسيره "الوضع" إلا أنه قد يقال: إنه ذهب ها هنا إليه ولم ير ما ارتضاه في "التسهيل" ولا يبعد هذا، فقد يكون للعالم المجتهد نظر في وقت لا يرتضيه في وقت آخر، فهما قولان للناظم على هذا المحمل، وهذه عادته في مسائل

ص: 37

كثير من هذا النظم يخالف فيها مذهبه في "التسهيل" وإذا اعتبرت الأمر في نفسه وجدت التقييد بالوضع على هذا المعنى الثاني ضروريا في الحد إذ يدخل على كل من فسره بالمعنى الأول كلام الأعجمي، فإنه لفظ مركب مفيد بالوضع ومداره علم العربية كله على التفرقة بين كلام العربي وكلام العجمى وتفسير الوضع بوضع العرب يتضمن معنيين:

أحدهما: ما تقدم من كونه على طريقة العرب وترتيب ألفاظها على معانيها وبهذا خرج كلام الأعجمي.

والثاني: اعتبار الإفادة الوضعية -أي المتواضع عليه- فتخرج بذلك الإفادة العرضية والعقلية، فالعرضية: كما إذا قلت: جاءني غلام زيد، فيفهم من إضافة الغلام إلى زيد أن له غلاما، فهذه فائدة أفادها هذا الكلام، لكنها إفادة غير وضعية، إذ لم يوضع لأن يدل عليها ولا يفيدها، وإنما وضع للإخبار عن غلام زيد بالمجيء، فإفادته أن لزيد غلاما عرضية لا وضعية، فلم يكن كلا من جهتها، والعقلية كإفادة كلام المتكلم من وراء حائط، أن في ذلك الموضع إنسانا حيا، فإن هذه الإفادة عقلية لا يتكلم فيها النحوي، وإنما كلامه في الإفادة التي وضع اللفظ لها، وعلى هذا فمثال الناظم قد أحرز ذلك كله، لأن قوله:(استقم) مفيد طلب الاستقامة من المخاطب بالوضع لا بالعرض ولا بالعقل وهذا كله حسن إن كان الناظم قد قصده والله أعلم.

قوله: (واسم فعل ثم حرف الكلم) أصل هذا الكلام على ما نَقَلَه

ص: 38

ابن خروف لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه أول من قال: الكلم اسم وفعل وحرف، فنظمه ابن مالك على لفظه، إلا أنه قدم وأخر وعوض "ثم" من الواو، فالكلم في كلامه مبتدأ خبره ما قبله وإتيانه بثم الدالة على التراخي مشعر بأنه قصد التنبيه على أن الحرف متراخ عن الاسم والفعل في المعنى، إذ لا يكون في الكلام ركنا للإسناد، بل هو من الفضلات، ولذلك قال ابن معط في أرجوزته

والحرف فضلة بلفظ خال

من علم الأسماء والأفعال

ويعني أن الكلام ثلاثة أنواع: اسم وفعل وحرف، لا زائد على هذه الثلاثة والدليل القاطع في المسألة الإجماع والاستقراء، وأما اختلافهم في أعيان بعض الكلام أهي من قبيل الأسماء أو الأفعال أو الحروف فلا يعود بخلاف في مسألتنا إذ لم يخرجوا في ذلك عن الأنواع الثلاثة كاختلافهم في (ليس) أهي فعل أم حرف؟ وفي (الألف واللام) الموصولة أهي اسم أم حرف؟ وفي (أفعل) في التعجب أهو اسم أم الدائرة بين النفي والإثبات كقول ابن مالك: إن الكلمة إما أن تصلح لأن

ص: 39

تكون ركناً للإسناد أولا، فإن لم تصلح فهي الحرف، وإن صلحت فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي الاسم وإلا فهي الفعل، فضعيف وغير ثابت عند الامتحان، وتأمل كلام ابن الحاج في كتابه المؤلف على (المقرّب) على أن بعضهم قد زاد نوعا رابعا وسماه الخالفة، وعنى بذلك أسماء الأفعال كأنها عند هذا القائل ليست بداخلة تحت واحد من الثلاثة، وذلك قول غير صحيح لقيام الإجماع قبله على خلاف قوله إذ هو فيما أحسب متأخر جدا عن أهل الاجتهاد المعتبرين من النحويين، ولأن خواص الأسماء موجودة لأسماء الأفعال، فكيف يدعى خروجها عن الأسماء، وتسميتها أسماء أفعال يدل على ذلك أيضا، فإن قيل: أين الإجماع وقد خالف الفراء في المسألة وهو من الصدر الأول الذين لا ينعقد إجماع دونهم، لأنه في الكوفيين نظير سيبويه في البصريين، ألا ترى أنه يقول في (كلا) إنها ليست: باسم ولا فعل ولا حرف، بل هي بين الأسماء والأفعال، فهي إذا عنده نوع رابع؟

فالجواب: أن قول الفراء في (كلا) هو الوقف عن الحكم عليها بأنها

ص: 40

اسم أو فعل لما تعارضت عنده فيها أدلة الاسمية وأدلة الفعلية، فلم يحكم عليها بشيء لا أنه حكم عليها غير ثلاثة، فالوقف ليس بحكم وإن عد في الأصول قولا، وإذا تأملت كلامه وجدت الأمر كذلك، فطالعه في اسم ثعلب من "طبقات النحويين" للزبيدي.

وقوله: (واحده كلمة) الضمير في "واحده" يعود على الكلم، وأعاد عليه ضمير المذكر، لأن الكلم يذكر ويؤنث كسائر أسماء الأجناس، فتقول: هو الكلم، وهي الكلم، كما تقول: هو النخل وهي النخل، فقد قال تعالى:((كأنهم أعجاز نخل خاوية)) وفي موضع آخر: ((كأنهم أعجاز نخل منقعر)) ويعني أن الكلم جمع واحده كلمة والكلمة في اصطلاح النحويين: هي اللفظة الدالة على معنى، فكل واحد من الاسم والفعل والحرف كلمة؛ لأن كل واحد منها لفظة دالة على معنى، والكلمة على وزن النبقة هي لغة أهل الحجاز، وجمعها كلم كنبق، وأما التميميون فيقولون: كمة على وزن سِدْرة، ويوافقون الحجازيين في الجمع.

ص: 41

وقال ابن جني: إن التميميين يقوبن: كلمة وكلم، كسدرة وسدر واستعمل اللغتين في هذين البيتين، وحكى الفراء فيها ثلاث لغاتك كِلْمة وكَلِمة وكَلْمة كوِرْق ووَرِق ووَرْق. ثم قال الناظم:(والقول عم) أيي: عم جميع ما تقدم يعني أن يطلق القول على الكلام ويطلق على الكلم وعلى الكلمة فقولك: قام زيد كلا وقول، وقولك (زيد وعمرو كلم وقول، وقولك: زيد كلمة وقول أيضا، فالقول أعم من كل واحد منها. وبالجملة: فالقول ينطلق على كل ملفوظ به، سواء كان مفردا أم مركبا، مفيدا أم غير مفيد.

وقوله: (وكلمة بها كلام قد يؤم) استعمل هاهنا كلمة على لغة التميميين كما ذكرته. ومعنى: (يؤم) يقصد. يقال: أمّ الرجل الشيء يؤمه إذا قصد نحوه، يردي أن الكلمة قد تطلق على الكلام التام ويقصد بها قصده وهذا الإطلاق لغوي، لا اصطلاحي، وهو الذي قصد، ومثال ذلك قوله تعالى ((وكلمة الله هي العليا)) يعني لا إله إلا الله، وكذلك قوله ((وألزمهم كلمة التقوى)) وقال تعالى:((وجعلها كلمة باقية في عقبه))، يعني ما تقدم من كلامه. وفي الحديث:(الكلمة الطيبة صدقة) وفي الصحيح: أصدق كلمة قالها لبيد:

ص: 42

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

والكلمة ايضا: القصيدة بطولها يقال: كلمة فلان بمعنى قصيد فلان.

*

*

*

بالجر والتنوين والنداء وأل

ومسند للاسم ميزة حصل

جرت عادة النحويين أن يعرّفوا هؤلاء الكل بطريقين:

أحدهما: طريق الحد، والآخر: طريق التعريف بالخواص، وقصدهم في ذلك أنه لما كانت الأسماء والأفعال والحروف على ضربين: ضرب ظاهر الدخول في الحد. وضرب غير ظاهر الدخول فيه، لعد ظهور ذاتياته بسبب شبهه بغيره، والحد الحقيقي إنما هو المعرف بالذاتي، أرادوا أن يتموا قصد التعريف مع ذلك بالخواص والأحكام، وذلك أن النحويين إنما حكموا للضرب الثاني بإلحاقه بالضرب الأول: لأنهم وجدوا أحكام الضرب الأول جارية في الضرب الثاني، ولولا ذلك ما ادعوا أنه منه، بل من نوع آخر، وأيضا فإن الحد تمييز للمحدود من جهة معناه، والتعريف بالخواص تمييز له من جهة لفظه، وتعريف النحاة بالأمر المعنوي إنما يكون مقيدا باللفظ؛ لأن نظرهم بالقصد الأول في اللفظ، وبالقصد الثاني في المعنى، فما عرفوه بماله من جهة المعنى أرادوا أن يعرفوه بما له من جهة اللفظ، ولما كان التعريف بمالة اللفظ أقرب إلى القصد النحوي وأسل على المبتدئ وهو التعريف بالخواص اجتزأ الناظم رحمه الله به فقال: (بالجر والتنوين

إلى آخره) أما الجر فهو عبارة عن عمل الجار، والجار مختص بالاسم حرفا كان أو اسما، فكذلك عمله نحو: مررت بزيد، وجئت من الدار إلى

ص: 43

المسجد، وجاءني غلام زيد، وصاحب عمرو، وقعدت خلف دار زيد، وما أشبه ذلك، ووجه اختصاصه بالاسم يتبين إن شاء الله في قوله:

والاسم قد خصص بالجر كما

قد خصص الفعل بأن ينجزما

وما جاء من نحو قوله:

والله ما ليلي بنامَ صاحِبُه

وقول الآخر:

وللهُ عن يشفيك أغنى وأوسع

وقولهم: (نعم السير على بئس العير)، وقولهم:(اذهب بذي تسلم) وما أشبه ذلك فقليل في كثير، وأيضا هو خارج كلام الناظم حيث قال:(بالجر) ولم يقل بحروف الجر، والجر مفقود في هذه الشواهد وإن وجدت أدواته إلا أن يقال: إنه أراد بحروف الجر، لكن حذف المضاف، فهذا خلاف الظاهر فلا يدعى إلا بدليل، وإن سلم فذلك كله مؤول، فلم يعتبر به ووكل أمره إلى أبوابه ومواضعه، إذ ليس من قبيل ما ينبه المبتدئ ولا من يليه عليه في مثل هذا الموضع، وقد تقدم نحو هذا في مسألة الكلام.

وأماك (التنوين) فهو نون ساكنة مزيدة في آخر الاسم لمعنى يختص به، وإنما كان مختصا بالاسم، لأنه إما أن يدل على تعريف ماهو صالح للتنكير

ص: 44

بقاء الأصالة، وهو تنوين الصرف، والأصالة إنما هي للاسم فلا يلحق ما يدل على بقائها غيره نحو: ابن ورجل وزيد وعمرو، وإما أن يدل على تنكير ما هو صالح للتعريف وهو تنوين التنكير، فلا يلحق غير الاسم لعدم الحاجة إليه في ذلك الغير نحو: صه ومه وأف، وإما أن يكون عوضا من مضاف إليه، فلا يلحق غير الاسم لاختصاص الإضافة به نحو: يومئذ وحينئذ، وإما أن يكون دليلا على مقابلة جمع مؤنث بجمع مذكر، فلا يكون في غير الاسم؛ لأن الجمع لا يكون في غيره نحو: مسلمات وهندات، وأما التنوين اللاحق عوضا من مدة الاطلاق لقول جرير أنشده سيبويه:

أقلى اللوم عاذل والعِتَابَنْ

وِقُولى إن أصبت لقد أصابن

والتنوين المسمى بالغالي نحو ما انشده أبو الحسن في (كتاب القوافي) لرؤية بن العجاج:

وقاتم الأعماق خاوى المخترقن

فهما غير مختصين بالاسم؛ لأن الروى قد يكون بعض فعل وبعض حرف، كما يكون بعض فعل وبعض حرف، كما يكون بعض اسم، ولا يعترض على الناظم بذلك، لأنه يبنى في التنوين على الغالب في الكلام، والغالب في الكلام ما اختص بالاسم فاكتفي به، وأما النداء وهو ممدود فأتى به مقصورا لضرورة الوزن فمختص بالأسماء أيضا، وهو تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه بحرف من حروفه، ووجه اختصاصه بالأسماء أنَّ المنادى

ص: 45

مفعول في المعنى، لأن معنى يا زيد: أنادي زيدا او أدعو زيدا، والمفعولية من خصائص الاسم، فكذلك النداء، وما جاء من نحو:(يا نعم المولى ويا نعم النصير) وقراءة الكسائي: ((ألّا يسجدوا)) وقول الراجز:

يا دارَ سلمى يا اسلِمي ثم اسْلمي

ونحو ذلك فغير داخل على الناظم، إذ لم يجعل الخاصة هي حرف النداء وإنما جعلها نفس النداء، ونداء هذه الأشياء لا يصح، إذ لا ينادي إلا من يجيب. أو من يقام مقامه كالمندوب، وأيضا كل ما جاء من ذلك أصله وجود المنادى في اللفظ، إلا أنه عرض له الحذف على ما هو مذكور في بابه فلا يعترض به، وأما (أل) وهي أداة التعريف المعبر عنها بالألف واللام، -وإنما عبّر عنها "بأل" اختصارا -فمختصة أيضا بالأسماء على جميع وجوهها من كونها لتعريف العهد أو الجنس أو زائدة فغنما تدخل على ما كان شأنها أن تدخل عليه، وهو الاسم كقول ابن ميادة:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديد بأعباء الخلافة كاهله

وكذلك الموصولة؛ لأنها للتعريف أيضا، وإن جرى مع ذلك كونها موصولة إذا ليس المعنيان بمتنافيين، ولا يعترض عليه بها، وإن كان قد أجاز أن تدخل على الأفعال اختيارا على ما سيأتي، وق جاء ذلك في الشعر

ص: 46

على وجه الضرورة عند غيره نحو ما أنشده أبو زيد من قول ذي الخرق الطهوي:

يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا

إلى ربه صوت الحمار اليُجَدَّعُ

ولا بدخولها على الجملة نحو قوله:

من القوم الرسول الله منهم

لهم دانت رقاب بني معد

لأن الناظم قد نص على أن دخولها على الفعل قليلا، ألا تراه كيف قال في باب الموصول:(وكونها بمعرب الأفعال قل). وأما دخولها على الجملة فقد اتفق الجميع على شذوذه فلا يعتد به وعلى الجملة فدخول الألف واللام على الاسم واختصاصها به هو الشهير والكثير، فيكفى في كونها معرفة.

وأما قوله: (ومسند للاسم) فمسند فيه اسم مصدر من أسند إسنادا، أي وإسناد للاسم، وهو مجرور عطفا على ما قبله، واللام في الاسم بمعنى إلى، والإسناد إلى الاسم هو الإخبار عنه، وقد عرفه ابن مالك بأنه تعليق خبر بمخبر عنه، أو طلب بمطلوب منه، يعني أن من خصائص الاسم أن يسند غليه، بخلاف الفعل والحرف، فإنهما ليسا كذلك. أما الفعل فيسند، لكن لا يسند غليه، أي يخبر به ولا يخبر عنه.

ص: 47

وأما الحرف فلا يسند غليه، أي: لا يخبر به ولا (يخبر) عنه، ووجه ذلك أن مهناهما لا يقبل الإخبار عنه، فإنك لو قلت: ضحك خرج، أو كتب ينطلق لم يكن له معنى، وكذلك الحرف لو قلت هل زيد أو زيد هل، وهو أجدر، فإن ورد إسناد إلى غير الاسم فعلى تأويل الاسم فقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه محمول على معناه، وإن كان "تسمع" في اللفظ مخبرا عنه بخير، وكذلك قول الله تعالى:((ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)) ففاعل "بدا" في اللفظ "ليسجننه"، ومن هذا النوع كثير، فهذا كله غير داخل على الناظم، لأن الإسناد بمعنى الإخبار، والإخبار عن الفعل بهذه الأشياء على حقيقته لا يصح، فالإسناد إليه فيها مفقود، وإذا حمل الكلام على معناه صار الإسناد فيه إلى الاسم فشمله تعريفه، وذلك صحيح، فعلى كلا الاعتبارين تعريفه صحيح.

واعلم أن الإسناد عنج المؤلف على وجهين: إسناد باعتبار المعنى وإسناد باعتبار اللفظ.

فأما الأول فهو المختص عنده بالأسماء ويسمى إسنادا حقيقيا وإسنادا وضعيا كقولك: زيد فاضل، فإنما أخبرت بالفضل عن مدلول زيد لا عن لفظه، وهذا هو المختص عنده بالأسماء.

وأما الثاني فيصلح لكل واحد من أنواع الكلم. فيصلح للاسم نحو زيد معرب، وللفعل نحو قام: فعل ماض وللحرف نحو "في" حرف جر، وأيضا

ص: 48

يصلح للجملة نحو: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة" وهذا المنزع ذهب إليه القرافي، واستحسنه ابن هانئ من شيوخ شيوخنا، وهم في ذلك مخالفون لجميع النحويين، فليس الإسناد عندهم إلا على وجه واحد وهو الإسناد الحقيقي فكل لفظ أسند إليه إنما أسند غلى معناه إذا قلت: زيد قائم، فإسناد القيام إنما هو لمدلول زيد، لا لمجرد لفظه، والتقدير عندهم ذو زيد قائم، أي مدلول هذا اللفظ قائم، ثم يتسعون فينسبون الإسناد إلى اللفظ مجازا، وكذلك الحال إذا قلت: قام فعل ماض، فعبارتك لفظ مدلوله الفعل المعلوم الذي قام الدال على الحدث والزمان الماضي، وليس الفعل هو نفس عبارتك، بل هو مدلولها، وكذا القول في سائر البا.

وإذا تقرر هذا فالإسناد في كلام الناظم هو الحقيقي بلا بد، لأنه جعله من خصائص الاسم، فهو بذلك موافق للناس، ومخالف لمذهبه

ص: 49

في "التسهيل" و "شرحه" بدليل إطلاقه (هنا)، إذ لو كان بمذهبه هنا موافقا له هنالك لجعل الإسناد إلى المعنى كما جعله في "التسهيل" وإلا دخل عليه في التعريف الفعل والحرف والجملة، وهو لم يفعل ذلك، بل قال:(ومسند للاسم) فنسب الإسناد إلى الاسم ولم ينسبه إلى المسمى، فعلم بذلك موافقته للجماعة، وهو المذهب الصحيح، والدليل عليه أمران.

أحدهما: الإجماع قبله وقبل من وافقه على أن غير الاسم لا يخبر عنه.

والثاني: أني يقال له إذا قلت: قام فعل ماض، فما إعراب قام؟ فلا محيص له عن أن يقول: مبتدأ، وهو عين التناقض في مذهبه؛ لأنه زعم أولا أنه فعل ثم أقرّ بأنه مبتدأ، والمبتدأ في مذهبه لا يكون فعلا ولا حرفا ولا جملة، فصح أن مذهبه متناقض في المسألة، وكذلك إذا قلت:"في" حرف جر، و "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة" القول في الجميع واحد وقوله:(ومسند للاسم مَيْزهُ حصل) مَيْزُهُ: مبتدأ، خبره حصل، و (الجر) متعلق بحصل، والتقدير: ميْزُهُ حصل بالجر والتنوين، وكذا إلى آخره، وفي هذا الكلام وضع الظاهر موضع المضمر، والمضمر موضع الظاهر، فأصل الكلام أن يقول: ميْزُ الاسم حصل بالجر والتنوين والنداء، وأل وإسناد إليه، لكن لما افتقر إلى التقديم والتأخير لأجل الوزن عوض من المضمر في "له" الظاهر لتقدمه في اللفظ. ومن الظاهر في ميز الاسم المضمر ليكون عائدا على ما قبله.

ص: 50

ويروى: (ومسند للاسم تمييز حصل) وهو بمعنى الأول إلا أن في إعرابه إشكالا فيصعب تنزيله بسبب ذلك على المعنى المراد فانظر فيه، وذلك أن قوله:(للاسم) إما أن يجعله خبر المبتدأ الذي هو تمييز فيتعلق حينئذ باسم فاعل مقدر، و "حصل" في موضع الصفة لتمييز، كأنه قال:(للاسم) تمييز حاصل بالجر والتنوين وكذا وكذا والإسناد، والمعنى على هذا غير صحيح إذ الاسناد من حيث هو إسناد غير مختص بالاسم لاشتراك الفعل معه فيه، فالاسم يتعلق به الإسناد من جهتين، والفعل يتعل به من جهة واحة، وهو كونه يقع مسندا غلى غيره فليس بخال من الإسناد كالحرف، فالإسناد ليس بمعرف للاسم على هذا التقدير.

وإما أن تجعل "للاسم" متعلقا بمسند وتمييز مبتدأ خبره حصل، كأنه قال: تمييز حصل بالجر والتنوين وكذا الإسناد للاسم، والمعنى على هذا أيضا لا يتم، لأن التمييز لا يدري لماذا هو، أللاسم أم للفعل أم للحرف؟ والمراد تمييز الاسم بخصوصه عن غيره، وليس في اللفظ ما يعين ذلك، والكلام محتمل للبحث فتأمله.

وعلى الجملة فالعبارة الأولى أحين وأسلم من الاعتراض، فلذلك اعتمدتها وبالله التوفيق.

فهذه خمس خواص تحيط بتعريف الأسماء جميعها أو أكثرها.

ولما أتى على تعريف الاسم بخواصه جعل يذكر للفعل مثل ذلك فقال:

بتا فعلت وأتت ويا أفْعَلِى

ونون أقبلن فعل ينجلي

تاء فعلت يحتمل أن تضبط بالثلاث، لأن المقصود من الجميع واحد، ويريد أن التاء التي تلحق آخر الكلمة، على حد لحاقها

ص: 51

في فعلت، تميز الفعل عن غيره، لأنها لا تلحق إلا الفعل وعادته أن يعطى الأحكام بالأمثلة و (يقرر) الأصول بها، طلبا للاختصار، واتكالا على فهم المراد منها، ويعبر عن هذه بأن يقال: الاتصال بضمير الرفع البارز، فيدخل تحت هذه العبارة أيضا ياء الواحدة المخاطبة، وهي المرادة بقوله:(ويا افعلى) أي: الياء التي تلحق الكلمة على حد لحاقها في افعلى يا هند، وفي معنى ذلك الياء اللاحقة في تفعلين، فمثال التاء في فعلت قولك: ضربتَ وضربتُ وضربتِ وكذلك خرجتُ وقمتَ وقعدتِ، وما أشبه ذلك، فكلّ ما لحقته هذه التاء فهو فعل، وعلى هذا يكون عنده "ليس" و "عسى" فعلين، لأنك تقول: لستُ ولستَ ولستِ، وعسيتُ وعسيتَ وعسيتِ، وذلك صحيح، وقد خالف البغداديون في "ليس" فعدوها في الحروف لما لموافقتها في المعنى

ص: 52

وأما البصريون فهي عندهم في الأفعال اعتبارا بجريان أحكام الأفعال عليها، ومن جملتها الاتصال بضمير الرفع البارز الذي عرف به الناظم، ويدخل له أيضا في الأفعال: هيتَ وهيتُ وهِئتُ وهُيِّيتُ وما أشبه ذلك، وإن كانت عند غيره أسماء وأفعال، لأن مذهبه في غير هذا الكتاب أن ما لحقه ضمير الرفع البارز فهم فعل، وإن كان ليس على صيغة الأفعال. ألا تراه قال في "التسهيل" في باب أسماء الأفعال والأصوات: وبرزوه -يعني الضمير- مع شبهها في عدم التصريف، يعني شبه أسما الأفعال دليل فعليته.

وتعريفه الفعل هنا بذلك يدل على أنه ذهب فيها مذهبه في "التسهيل" وهو ظاهر؛ لأن الضمائر البارزة إنما شأنها أن تلحق الفعل لا الاسم، لكن قد وجه ابن جني بروز الضمير في اسم الفعل بأنها لما كانت دالة على الأفعال ونائبه منابها، وقويت الدلالة عليها حتى كأنها هي، ظهر فيها الضمير في بعض الأحوال، ليدل على قوة شبهها بالأفعال التي نابت عنها. قال: وايد ذلك كون الموضع للأمر، والأمر إنما بابه أن يكون للأفعال. قال: فتضارعت الحالان، أعني وقوع هذه الأسماء نائبة عن تلك الأفال، وغَلَبَةَ الأمر على الفعل فبرزه ما برز من الضمير هنا في بعض الأحوال، مناسبا لما هم بسبيله من إرادة الفعل الذي ناب الضمير له، وتمكنه فيه، هذا ما قال في توجيهه منضما إلى معارض عارضه في دعوى الفعلية، وهو أنها في الغالب غير جارية على أوزان الفعل كهيتَ، وهيتِ، وهيْتَ وهِجْدَ، إذ يقال هكذا

ص: 53

للواحد، مع أنها قد لحقتها الضمائر، أما ما هو جار على أوزان الفعل فلا إشكال في دعوى الفعلية فيها، إذا لحقتها الضمائر كلهم في لغة بني تميم، فالحاصل أن سبب الخلاف تعارض الدليلين، دليل الفعلية وهو بروز الضمير، ودليل الاسمية وهو عدم الجريان في الغالب على أوزان الفعل، فغلب ابن مالك جانب بروز الضمير وغلّب ابن جني ومن قال بقوله جانب عدم الجريان على الفعل.

ومثال الياء في (افعلى) قولك: اضربي يا هند، وقومي واخرجي، وأنت تضربين وتقومين وتخرجين وما أشبه ذلك، فكلّ ما لحقته هذه الياء فهو فعل، وعلى هذا يدخل له من قبيل الأفعال ما كان من نحو: أجدم وهب وياي من أسماء الأصوات للحاق الياء المشبهة لياء افعلي، ومنه قول عدي بن الرقاع:

هنّ عجم وقد علمن من القو

ل هبى واجدمى وياي وقومي

فهذه أصوات لحقتها الياء المذكورة، فحكم لها بحكم ما شأنها أن تلحقه وهو الفعل، وابن جني على مذهبه في أنها باقية على أصلها من الاسمية، إلا أنها لحقتها من الضمائر الياء الدالة على التأنيث اعتبارا بما تضمنته من معنى الفعل، ومذهب الناظم في: اجدمي ظاهر

ص: 54

لموافقته لوزن الفعل مع لحاق الضمير وكذلك "هبى" و "ياي" لموافقتهما دعى ورامي بخلاف هجدا وهِجِدْنَه وما أشبه ذلك، فإن تعارض الدليلين فيها قائم، واحمل على هذه الأشياء ما كان مثلهما.

وأما قوله: (وأتت) فهو معطوف على فَعَلَت، أي وبتاء أتَتْ، يعني أن التاء اللاحقة آخر الكلمة على الصفة التي هي عليها في أتت من كونها ساكنة لازمة للسكون في أصلها، تدل على أن تلك الكلمة فعل لا اسم ولا حرف، ومثال ذلك قامت هند وقعدت وأكلت وما أشبه ذلك، ويدخل له في حكم الفعلية بهذه الخاصة "نعم" و "بئس" و "ليس" و "عسى"، لأنك تقول: نعمت المرأة هند، وكذلك بئست وليست وعست، ولا يدخل عليه رُبَّتْ وثُمَّتْ من الحروف، لأن هذه التاء غير لازمة للسكون بل الأكثر فيها الفتح، فهي غير الأولى المقيّدة بالسكون اللازم الذي أعطاه المثال.

وقوله: (ونون أقبلن) يعني أن النون اللاحقة في آخر أقبل هي من خواص الفعل أيضا، تدل على أن أقبل وما أشبهه مما يصح لحاقها له فعل، وهي نون التوكيد، ونون التوكيد على نوعين: شديدة وخفيفة، فالشديد: هي الممثل بها، وفي معناها الخفيفة، فكلتاهما معطية للمقصود من التمييز، وهذه النون تدخل على الفعل الماضي وذلك قليل، وتدخل على الفعل المضارع وفعل الأمر، فمثال الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فإما ادركن أحمد منكم الدجال .. الحديث"، فلحقت "أدرك" وهو ماض، وكذا ما أنشده في "شرح التسهيل":

ص: 55

دامنَّ سعدُك إن رحمت متيما

لولاك لم يك للصبابة جانحا

فلحقت "دام" ولحاقها المضارع والأمر كثير نحو: لتقومن وأكرمن عمرا، والمقصود بإتيانه بنون التوكيد في الخواص أن يدخل له مع سائر الأفعال فعل التعجب، لأنه لم يدخل بخاصة من الخواص المذكورة، ونون التوكيد تدخل عله نحو ما أنشده ابن الأعرابي:

ومستبدل من بعد غضيا صريمة

فأحر به لطول فقر وأحريا

أراد وأحرين فأبدل النون الخفيفة الفا للوقف، وبهذا البيت استدل في "شرح التسهيل" على فعلية (أفعل به) في باب التعجب، وإذا لحقت هذه النون أحد الفعلين أعنى فعلى التعجب، ودلت فعليته حمل عليه الفعل الآخر وهو أفعله على ما يتبين في موضعه إن شاء الله.

واعلم ان النون التوكيدية قد تدخل على الاسم لكن شاذا في الشعر نحو ما أنشده ابن جني:

أقاتلن أحضروا الشهودا

وأنشد أيضاً:

ص: 56

أشاهرن بعدنا السيوفا

فليس بقادح في كون النون خاصة بالفعل، فلا يعترض على الناظم به، لأنه إنما بنى على المشهور من حالها، مع أنها لم تدخل غلا على ما هو من الأسماء جار على الفعل من جهة لفظه ومعناه، وهو اسم الفاعل، فكأنهم إنما أدخلوها على المضارع، ولأجل هذا استغنوا عن الخبر في نحو: أقائم الزيدان لكان المبتدأ بمعنى الفعل، فصار الكلام كأنه مركب من فعل وفاعل، فلم يأتوا بخبر المبتدأ اعتبارا بالمعنى، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله، فإذا خصوصية النون بالفعل ظاهرة كما ذكر.

وقوله: (فعل ينجلي) مبتدأ وخبر، وابتدأ بالنكرة لأنها غير مرادة بعينها كقولهم: رجل خير من امرأة، أو لأن الجملة خارجة مخرج الجواب لمن قال أفعل ينجلي بشيء؟ فقال في الجواب: فعل ينجلي بكذا وكذا، أو لأن النكرة هنا قد تقدم عليها شيء من معلومات خبرها، لأن قوله: بتاء فعلت إلى آخره متعلق "ينجلي"، فصار كقولهم: فيها أسد رابض، فأسد مبتدأ ورابض هو الخبر، وفيها متعلق برابض لقولهم: عن فيها أسدا رابض.

و"ينجلي" معناه يظهر ويتبين من غيره، وتقدير الكلام: فعل ينجلي بتاء فعلت وأتت، وياء افعلي، ونون أقبلن.

وقصر تا فعلت ويا افعلي ضرورة، وكان الأصل أن يقول: بتاء فعلت وأتت ويا افعلي، وقد جاء مثله في الكلام شاذا، حكى الكسائي: شربت ما يا فتى، إلا أن الذي في كلام الناظم أمثل لاعتماد الاسم على الإضافة فصار مثل قولك: فو زيد، وذو مال، ونحوهما، بخلاف شربت ما يافتى، والحاصل

ص: 57

أن الناظم أتى بأربع خواص للفعل، أحاطت بالتعريف بجميع الأفعال أو أكثرهما.

سواهما الحرف كهل وفي ولم

فعل مضارع يلي لم كيشم

وماضي الأفعال بالتا مز وسم

بالنون فعل الأمر إن أمر فهم

والأمر إن لم يك للنون محل

فيه هو اسم نحو صه وحيهل

لما عرف الاسم بخواصه، وعرف الفعل كذلك بخواصه، أخبر أن ما عداهما هو الحرف، فكل كلمة لم يصلح فيها شيء مما تقدم من خواص الأسماء أو خواص الأفعال فهي حرف، وهذا يدل من كلامه على أن تلك الخواص لم يشذ عنها شيء فعليك باختيار ما التزم عهدته.

ومثل الحرف بثلاثة أمثلة:

أحدهما: (هل) وهو حرف استفهام، ويطلق عليه سيبويه أنه بمعنى "قد" وهو مشترك بين الأسماء والأفعال، يدخل على كل واحد من النوعيين فتقول: هل زي قائم؟ وهل قام زيد؟ وهل يقوم زيد؟ فلا يختص بأحدهما دون الآخر.

والثاني: (في) وهو حرف جر، اصل معناه الظرفية، وقد يأتي لمعان أُخر ذكرها الناظم في باب حروف الجر، وهو مختص بالاسم نحو: قعدت في الدار وفي المسجد، ولا دخول له على الفعل.

والثالث: (لم) وهو حرف جزم ينفي الماضي، مختص بالفعل لا دخول له على الاسم نحو: لم يقم ولم يخرج.

وقد أتت هذه الأمثلة على جميع أقسام الرحوف، إذ لا يخرج حرف

ص: 58

منها عن أن يكون مختصا بالاسم أو بالفعل أو مشتركا بينهما بثلاثة الأمثلة على ثلاثة الأقسام الحاصرة لأنواع الجنس، وهو تنبيه حسن وجميعها لا يصلح فيه شيء من الخواص المتقدمة للأسماء والأفعال.

ولما كمل له التعريف بأنواع الكلمة وهي الاسم والفعل والحرف، أخذ يبين أنواع الفعل بخصوصه ويميز بعضها من بعض، وهي الماضي والأمر والمضارع، فقال:"فعل مضارع بلى لم" وفعل مبتدأ خبره "بلى لم" وابتدأ بالنكرة لأنه وصفها بقوله: مضارع، و "لم" منصوب الموضع على المفعولية بـ "يلي" أي: يلي هذه الكلمة.

ويريد أن الفعل المضارع خاصته التي تميزه عن غيره صلاحيته لأن يقع بعد "لم" تابعا لها من غير فاصل بينهما، هذا معنى (يلي لم) أي يصلح لذلك لا أنه يريد وجود ذلك في الكلام نحو ما مثل به من قوله:(لم يشم) وهو من شم زيد رائحة كذا يشمها، الماضي على فعِل -بالكسر- أصله شَمِمَ والمضارع على يفعل بالفتح، والمصدر: شمُّ.

و(يلي) من ولى الشيء يليه ولاية، إذا تبعه على أثره ليس بينهما حاجز، والفعل المضارع هو ما في أوله إحدى الزوائد الأربع المجموعة في قولك:(أَنَيْتُ)، ويصلح هو لدخول البواقي عليه على جهة التعاقب نحو: اضرب ونضرب ويضرب وتضرب وما أشبه ذلك، وإنما سمي مضارعا لمضارعته الاسم أي: لمشابهته إياه من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، كما سيذكر في الباب هذا إن شاء الله تعالى.

ص: 59

ثم قال: (وماضي الأفعال بالتا مز) ماضي مفعول بـ "مز" و "بالتا" متعلق به أيضا، والتقدير: مز الفعل الماضي بالتاء. ويقال: مازَ الشيء من الشيء يميزه، وميز منه غيره، إذا أبرزه وأخرجه عنه، ومنه القراءتان:((حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ من الطَيِّبِ)) و ((حَتَّي يُمَيِّزَ الخَبِيثَ من الطَيِّبَ)).

وقصر التاء ضرورة كما تقدم، وهذه عادته في أمثال ذلك لا يتحاشى عنه ولا عن غيره من الضرورات الشعرية، واستعمال اللات النادرة، لداعية الوزن والقافية وسترى ذلك لكه إن شاء الله.

وأراد (بالتاء) التاء المتقدمة الذكر في قوله: ((بتا فعلت وأتت) فالألف واللام في التا للعهد الذكرى، يريد أن الماضي من الأفعال وهو الموضوع في الأصل للزمان الماضي، تميزه من غيره من الأفعال بلحاق التاء المتقدمة الذكر له، أي: بصلاحيته للحاقها له، فكل فعل لحقته تاء الضمير نحو: ضربت وليست وعست فهو فعل ماض.

ثم قال: (وسم بالنون فعل الأمر)(سم) فعل أمر من وَسَمَه يَسمُه سِمَةٌ وَوَسْمًا: إذا جعل عليه علامة تعرفه من غيره، أي: اجعل النون سِمَةً على فعل الأمر تميزه عن غيره، وأراد بالنون المتقدمة الذكر في قوله:(ونون أقبلن) فالألف واللام فيها أيضا للعهد الذكرى، وفعل الأمر وهو الدال بوضعه الأول على الأمر للمخاطب.

ولما كانت هذه النون تلحق الماضي ولمضارع، كما تلحق الأمر

ص: 60

على ما تقدم، وكان لو سكت أو اقتصر على تعريفه بالنون وحدها لم يصلح للاشتراك الواقع بينه وبين الماضي والمضارع في لحاقها، ضم غلى ذلك قرينة أخرى ليكون المجموع معرفا للأمر.

فقال: (إن أمر فهم) أي: وسم بالنون المذكورة فعل الأمر لكن بشرط أن يفهم من الفعل معنى الأمر تحرزا من الماضي والمضارع، وبضم هذه الشريطة تم له ما أراد من التعريف، وكذلك فعل في "التسهيل" فقال: والأمر معناه ونون التوكيد أي: ويُميز الأمر هذان الأمران معا.

فإن قيل: تمييزه بين الأفعال الثلاثة غير مخلص لخروج فعل التعجب الذي هو ما أفعله عن كونه ماضيا، إذ لا يصلح للم ولا للتاء، وإن صلح للنون المميزة للأمر، لم يتميز بها إلا مع اقتران معنى الأمر، وهو مفقود في "أفعل به" فظهر أنه لم يذكر من أي نوع همان وكذلك "حبّ" من حبذا لا يصلح للتاء ولا للم ولا للنون فخرج عن كونه ماضيا وهو ماض بلا بد؟

فالجواب: أن التعريف بالكلم إنما يكون مع اعتبار أصلها قبل عروض العوارض، فإذا ذاك يتميز بعضها من بعض لظهور أوصافها الذاتية، فإذا طرأ التركيب لم ينظر إليها في تلك الحال؛ لطروء العوارض المانعة من ظهور آثار تلك الأوصاف، ألا ترى أن من الأسماء: سبحان الله وريحانهُ، ولبيك وسعديك ودواليك، ويا هناهُ ويا لَكاع، وكثيرا من ذلك لا يصلح واحد منها لخاصة من تلك المتقدمة حالة التركيب، مع أنها لم يعترض بها عليه وإن اعترض الشيوخ بها على غيره على جهة التدريب وتفهيم حقائق

ص: 61

المسائل، لأن عدم صلاحيتها لتلك الخواص ليس من جهة ذواتها، بل من جهة ما عرض لها في التركيب والاستعمال من التزام طريقة واحدة، لأنها في أنفسها إذا نظر فيها مع قطع النظر عن حالة التركيب صالحة لتلك الخواص وكذلك مسألتنا، أما (أفعل) من ما أفعله فهو فعل ماض كأكرم وأعلم، فكما أكرم صالح للتاء في فعلت وأتت، كذلك أكرم في ما أكرمه قبل حصول التركيب ودخول معنى التعجب، وكذلك "حب" من حبذا إذا اعتبرته حالة إفراده، صار كشجُع وجبُن يصلح للحاق التاء، وأما أفعل في (أفعل به) فأصله الأمر، كأكرم زيدا وأعلمه، ثم لما استعمل في التعجب ذهب معنى الأمر منه على مذهب الجمهور، فبالنظر إلى أصله يصلح للدخول تحت خاصة الأمر؛ لأنه في الأصل أمر حقيقة. وأما مذهب الفراء ومن تبعه على القول ببقاء معنى الأمر مع التعجب فلا إشكال، وعلى هذه القاعدة ينبني الجواب عن الاعتراض على "التسهيل" بفعل التعجب غير قابل لها. ألا ترى أنك تقول: ما أحسن هِندا، فلا تلحق الفعل علامة ألبتة وقد كان أورده على بعض مقرئي مالقة، وزعم أنع اعترض لازم لابن مالك فأجبته بأنا لا نسلم أن أحسن في قولك: ما أحسن زيدًا، غيرُ

ص: 62

قابلٍ للعلامة، بل هو قابل لها، وإنما لزم عدد لحاقها في الاستعمال لأمر خارج، وذلك أن أحسن إنما يسند أبدأ لمفرد مذكر، وهو ضمير "ما" ومدلول ما مذكر، وهو شيء عند سيبويه أو غير ذلك عند غيره، فهو أبدا في الاستعمال مفرد مذكر.

فإذا قلت: ما أحسن هندا، فأحسن ليس مسندا إلى ذلك الظاهر. بل إلى ضمير ما، فلو فرضنا إسناده إلى مؤنث للحقته العلامة، فلا يلزم من كونه استعمل على طريقة واحدة عدم قبوله لعلامة فرعية المسند إليه، بل هو في نفسه قابل لذلك فاستحسن هذا الجواب واستملحه، فقد ظهر أن الناظم لا اعتراض عليه من ذه الجهة إلا أن يعترض عليه قوله:(إن أمر فهم) لأنه احترز عن دخول اسم الفعل عليه، فخل عليه الأمر باللام إذا قلت: لتفعلن يا زيد فإن النون قد دخلت مقترنة بفهم الأمر، فيقتضي كلامه كون المضارع بلام الأمر فعل أمر وذلك غير صحيح.

وقد يجاب عن هذا بأنه إنما يعني بفهم الأمر الفهم من نفس الفعل لا مما يلحقه من خارج، وهذا أيضا من نمط ما تقدم آنفا، إذا المعتبر ما للفعل في نفسه لا ما يعرض له في التركيب.

فإن قيل: إنما قال الناظم: (إن أمر فهم) مطلقا، ولم يقيد ذلك بكونه من نفس الفعل أو من أمر خارج.

فالجواب: أن سياق كلامه يدل على أنه قصد الفهم من نفس الفعل، فكان الكلام على حذف منه، أي:(إن أمر فهم) من ذلك الفعل وهو ظاهر.

ص: 63

ثم قال: "والأمر إن لم للنون محل فيه هو اسم" يعني أن ما يفهم منه الأمر من الكلم، إما أن يصلح للحاق النون المتقدمة أولا، فإن صلح لها فقد تقدم أنه فعل الأمر، وإن لم يصلح فليس بفعل أمر وإن فهم منه الأمر، بل هو اسم فعل نحو: صه وحيهل، فإنه لا يصلح أن تقول: صهن ولا حيهلن كما تقول: اضربن وقومن، ومثله "مه" و "إيه" و "بيد" و "رويد" و "هلمّ" الحجازية كقول الله تعالى:((قل هلم شهداءكم)) وما أشبه ذلك.

وهذان المزدوجان أخذ الناظم يفرق فيهما بين فعل الأمر واسم فعله وهذا التفريق هو الذي دعاه إلى أن ضم إلى خاصة فعل الأمر، وهو معنى الأمر نون التوكيد لعدم صلاحية اسم الفعل لها، فقد يقال: إن هذا غير محتاج (إليه) لأمور ثلاثة:

أحدها: أن كلامه هنا تمييز الأفعال بعضها عن بعض، لا في تمييز الأفعال عن لأسماء، إذ قد تقدم له ذلك حين أتى بخواص كل واحد منهما.

والثاني: أن يقال يلزمه حين فرق بين فعل الأمر واسم فعله. أن يفرق بين الفعل الماضي واسم فعله نحو: شتان وسَرعان ووشكان وهيهات، وأن يفرق بين الفعل المضارع واسم فعله نحو: أوّه وأفّ، لكنه لم يفعل ذلك فتخصيصه الأمر بذلك دون الماضي والمضارع ترجيح من غير مرجح، وعلى أنه لو ذكر ذلك لم يفد لتقدم خواص كل نوع منها.

والثالث: أن هذه التفرقة حاصلة له في قوله: (وسم بالنون فعل الأمر إن أمر فهم) فإن معنى الكلام أن هذين الأمرين خاصة لفعل الأمر، فهو يعطي بمفهومه أن أحد الأمرين إذا فقد فليست الكلمة بفعل مر، فول تخلف شرط معنى الأمر لكانت فعلا مضارعا، لأنها -حينئذ

ص: 64

- صالحة للم، فكذلك لو تخلف شرط لحاق النون لكانت اسما لعدم صلاحيتها لخواص الفعل والحرف، فإتيانه بالتفرقة بعد ذلك من قبيل غير المحتاج غليه.

ووجه رابع: وهو أن هذا الكلام يقتضي أن لام الأمر اسم لصدقه عليها، فإنها كلمة مفيدة بنفسها معنى الأمر وضعا، وليست بقابلة للنون أصلا، فهي مثل صه وحيهل في هذا المعنى فدخلت له بمقتضي هذا الكلام في نوع الأسماء وذلك غير صحيح، فهذا الكلام فيه ما ترى.

والجواب الأول أن كلامه في تمييز بعض الأفعال عن بعض قد تم، وإنما يتكلم الآن على شيء ضروري بقي له من جملة الباب فاستدركه آخرا، وذلك أن الأسماء الأفعال خجت له عن كونها أفعالا كما تقدم، ولم تدخل له في الأسماء لأنها لا تقبل واحدة من خواص الأسماء، فالجر لا يدخلها، لأن عواملها غير صالحة أن تدخل عليها لما فيها من معنى الأفعال، والتنوين كذلك إلا الذي للتنكير فإنه يدخل بعضها لا جميعها، لأن دخوله عليها موقوف على السماع كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى فليست أسماء الأفعال بصالحة أن يدخلها فإذًا ليس بجار في التعريف بجميعها فلم يعتبره جملة، ولذلك مثل بصه وحيهل وإن كانا ينونان؛ لأنه لما لم يعتمد على تنوينهما صارا عنده كنزال وبابه.

فإن قيل: إذا كانت قد دخل بعضها التنوين فقد صلح الباقي لأن يدخل عليه، إذ لا فرق بين أفراد النوع في المعنى كما كان سبحان وبابه صالحا للإسناد إليه لما صلح بعضها له كزيد ورجل، وإذا كان الأمر كذلك دخلت له أسماء الأفعال تحت خاصَّة التنوين.

ص: 65

فالجواب: أنّا لم نحكم على (سبحان) وبابه بصلاحيته للإسناد إليه إلا بعد أن وجدنا غالب الأسماء كذلك بالاستقراء، فحينئذ ساغ لنا الحمل على الأكثر فيما خفي حكمه، لأن الثابت في الأصول أن الكثرة دليل الأصالة، فعندنا في (سبحان) أصل يعتمد عليه، ويرد غيره إليه بخلاف أسماء الأفعال بالنسبة إلى التنوين إنه صالح له، إذ لعل له مانعا في الأصل، ويبين ذلك أن منها صنفا لم يُسمع تنوينه، وهو ما كان منها على فَعَالِ، فلقائل أن يقول: لو كان صالحا لذلك التنوين أسمع فيه ولو يوما ما، فلما لم يُسمع فيه التنوين منها بإطلاق وهو واضح، والنداء لا يدخلها أيضا لأنها لا تقع معمولة لعامل كما سيأتي إن شاء الله، وكذلك أل لا تدخل لمنافاة معنى الفعل للتعريف، وأسماء الأفعال معناها معنى الفعل، وأما الإسناد إليها فغير جائز، لنها وضعت لأن تُسند أبدا إليها كالأفعال.

فإن قلت: فقد أسندوا غليها في نحو قول زهير بن أبي سلمى:

ولنعم حشو الدر أنت إذا

دعيت نزال ولُجَّ في الذعر

واستدل النحويون بذلك على اسميتها، فقال (بعضهم)، -بعد ما أنشد البيت-: قد صح كون هذا الضرب اسما من حيث ذكرنا من كونه فاعلا، ولو كان فاعلا يعنيبالضرب المشار إليه

ص: 66

جميع أسماء الأفعال، لأنه إذا صح في بعضها الإسناد إليه صح في جميعها، وإذا كان كذلك فقد دخلت تحت قوله:(ومسند للاسم) وصار الاعتراض واردا من أوله.

فالجواب: أن مثل "دعيت نزال" ليس بإسناد يعتبر عند الناظم ولا عند غيره من أهل التحقيق، وليس عمل الفعل هنا مما يعتد به في الأسماء إذ كان المراد هنا مجرد اللكمة الملفوظ بها، أي إذا دعيت هذه اللفظة فقولك: دعيت نزال، كقولك: أُعِلَّت قيل، وكتبت ثم، فكما أن الاسناد إلى "قيل" و "ثم" لا يحكم عليهما بالاسمية إلا في حالة التركيب المعين، وأما في حالة الإفراد فكل واحد على بابه، كذلك الحال في نزال في كلام زهير وغيره، واستدلال من استدل على اسمية نزال وبابه بقول زهير غير صواب، ولهذا جعل الناظم هذا الضرب مما لا يسند غليه البتة، ، كما سيأتي في هذا الباب بعد هذا إن شاء الله، فإذا لم تدخل له تحت خاصة من خواص الاسم لم يبق إلا أن تدخل له في الحروف على مقتضى قوله:(سواهما: الحرف) ولكن هذا باطل؛ لأنهما من قبيل الأسماء، فاستدرك الحكم فيها هاهنا جبرا لذلك الإيهام.

والجواب عن الثاني أنه لم يقصد بكلامه التفرقة بين فعل الأمر واسم فعله فقط، بل قصد التفرقة بين فعل الأمر واسم فعله فقط، بل قصد التفرقة بين الفعل واسم فعله مطلقا، إلا أنه لما كان الغالب في اسم الفعل أن يكون بمعنى الأمر، ويقل كونه بمعنى الماضي وبمعنى المضارع، اقتصر على الأمر لكثرته وترك ما عداه لقلته وهذا غاية ما وجدته في الاعتذار عنه، وهو ضعيف وقد أشار ابن الناظم إلى جواب آخر مبنى على أنه قصد التفرقة بين الفعل وسم فعله مطلقا، وإنما اقتصر على

ص: 67

أحد الأفعال لينبهك على ما بقي، فقال في شرح كلام أبيه إذا دلت الكلمة على معنى فعل الأمر ولم تصلح لنون التوكيد فهي اسم نحو:(صه) و (حيهل) فهذان اسمان لأنهما يدلان على الأمر ولا تدخلهما نون التوكيد لا تقول: صهن ولا يهلن وكذا إذا رادفت الفعل المضارع ولم تصلح للم كأوه، قال: والحاصل أن الكلمة متى رادفت الفعل ولم تصلح لعلاماته فهي اسم، لانتفاء الفعلية لازمها، وهو القبول لعلامات الفعل، وانتفاء الحرفية لكون ما رادف الفعل قد وقع أحد ركني الإسناد، فوجب أن يكون اسما وإن لم تصلح فيه العلامات المذكورة للأسماء لأن الاسم وإن لم تصلح فيه العلامات المذكورة للأسماء لأن الاسم أصل فالإلحاق به عند التردد أولى، هذا ما قال. وعين هذا الحواب فراره.

والجواب عن الثالث: أن قوله: "وسم بالنون فعل الأمر إن أمر فُهم" لا يعطيه ما قصد، وإنما يفهم منه أنه إذا تخلف الوصفان أو أحدهما فليس بفعل أمر، وكونه ليس بفعل أمر لا يستلزم كونه اسما لتردده بين أن يكون اسما وبين أن يكون حرفا، فكان الوجب أن يأتي ببيان مقصوده من تعيين جهة الكلمة التي لا تقبل النون.

وأما الرابع فما أجد له الآن جوابا إلا أن صح جواب ابنه من أنه عني بالأمر الكلمة الدالة على معنى فعل الأمر، فإذ ذاك تخرج لام الأمر؛ لأنها لا تدل على معنى فعل الأمر، وإنما تدل على معنى الأمر خاصة وهذا التفسير غير مسلّم، إذ لا دليل يدل عليه من كلامه، وإنما قوله:(والأمر) على حذف مضاف واحد يضطر إلى تقديره، لأن الحقيقة الأمر هو فعل الأمر وفعل الأمر لا يصح نسبة لحاق النون إليه، فهو إذًا على

ص: 68

تقدير كلمة أو لفظة أي: وكلمة الأمر أو لفظة الأمر، ولا يقدر هنا الفعل فيقال: وفعل الأمر مناف لقوله بعد: هو اسم فتأمله، فهذا المضاف المقدر هو الذي يدل عليه الكلام. وأما تقدير ابن الناظم فغير مفهوم من كلامه ألبتة.

وقوله: (هو اسم) خبر المبتدأ الذي هو (والأمر) لا جواب الشرط لكن جملة المبتدأ والخبر دالة على جواب.

و(صه) معناه أسكت. (وحيهل) معناه أقبل أو أسرع أو اعجل، ومنه جاء في الحديث:"إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، قال أبو عبيد: معناه عليك بعمر ادع عمر. وقيل معنى "هلا" اسكن، أو أسرع حتى ينقضي ذكر. عمرُ. وفيه لغات يحتمل كلام الناظم منها ثلاثا:

إحداها: حيَّهلْ، بسكون اللام على ظاهر لفظه.

والثانية: حيَّهلَ، بفتح اللام من غير تنوين، إلا أنه سكن اللام للوقف.

والثالثة: حيَّهلًا -بالتنوين- لكن لما وقف حذف التنوين من المفتوح على لغة من قال:

"وآخُذُ من كلِّ حيٍّ عُصُم"

أراد: عُصُمًا.

ص: 69