المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الموصول الموصول: عبارة عن الكلمة التي تفتقر في دلالتها على معنى - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌الموصول الموصول: عبارة عن الكلمة التي تفتقر في دلالتها على معنى

‌الموصول

الموصول: عبارة عن الكلمة التي تفتقر في دلالتها على معنى الاسم التام إلى ما يتصل بها فتستقل حينئذ دلالتها عليه، وتصير في معنى الأسماء المستقلة بالدلالة، وهذه الكلمة على نوعين:

أحدهما: حرفي، ولم يتعرض الناظم له في هذا الباب ولا في غيره من حيث هو موصول، بل من حيث له أحكام آخر، ما عدا "لو" المصدرية، فإنه أهمل ذكرها في هذا النظم لعدم شهرتها عند النحويين، إذ الأكثر لم يتكلموا عليها، وذكر سائر الموصولات الحرفية وهي:"أن" و "أن" وما "وكي" المصدريات في أبوابها، لما لها من الأحكام، لكنه لم يخلها من التنبيه على الموصولية فيها، ألا تراه قال في باب "إن":(وهمز إن افتح لسد مصدر مسدها).

وقال في باب إعمال المصدر: (إن كان فعل مع أن أو ما يحل محلها) فنبه على ذلك المعنى فيها بإشارة خفية، وإنما يبقى له تعيين صلاتها، وهذا قريب قد يؤخذ له من أبوابها، فلذلك لم يعتن هنا بذكرها، بل قصد إلى النوع الثاني وهو الموصول الأسمى فقال:

موصول الأسماء الذي الأنثى التي

واليا إذا ما ثنيا لا تثبت

بل ما تليه أوله العلامه

والنون إن تشدد فلا ملامه

فقيده بقوله: (موصول الأسماء) لتخرج موصولات الحروف.

وموصولات الأسماء يتعلق الكلام بها في ثلاث مسائل: في تعدادها، وفي

ص: 425

صلاتها، وفي العائد عليها، وكلها بينه الناظم.

وابتدأ بالمسألة الأولى فقوله: (موصول الأسماء) مبتدأ، و (الذي) مبتدأ ثان، خبره محذوف كأنه قال: منه الذي وكذا وكذا، لأن موصول الأسماء عام يدخل تحته جميع الموصولات وقوله:(الأنثى التي) الأنثى مبتدأ أيضا خبره محذوف، والجملة معطوفة بحرف عطف حف ضرورة، أي: ومنها الأنثى، والتي بدل من الأنثى، وجعل التي أنثى لما كانت دالة على الأنثى، أو يكون الأنثى التي مبتدأ وخبرا، والجملة معطوفة على الجملة الأولى، والألف واللام في الأنثى مثلها في قوله تعالى:{فإن الجنة هي المأوى} كأنه قال: وأنثاه التي، ومثال ذلك: أعجبني الذي أكرمته والتي أكرمتها هند، ودل الكلام على أن الذي للمذكر من حيث خص التي للمؤنث، والذي والتي في كلامه إنما أتى بهما على اللغة المشهورة وهي الثابتة الياء من غير تشديد وإن كان اللفظ يحتمل غير ذلك فمقصده ما ذكر، ويدل على قصد ثبات الياء قوله إثر هذا:(واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) وعلى قصد عدم تشديدها لفظه.

وفي "الذي" ثلاث لغات سوى هذه، "اللذ" محذوفة الياء مع بقاء الكسرة، "واللذ"- بتسكين الذال- والذي بالياء المشددة.

وكذلك في "التي" لغتان سوى ما تقدم اللت- بغير ياء مع تسكين التاء أو بقاء كسرتها.

ثم قال: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) إلى آخره. الياء منصوب بـ

ص: 426

"تثبت" وقصره ضرورة، وضمير "ثنيا" للذي والتي و "ما" في "ما تليه" يجوز نصبه وهو المختار من جهتين ويجوز رفعه، فإذا نصبته فبإضمار فعل من باب الاشتغال تقديره: بل أول ما تليه أوله العلامة، و: ما: عبارة عن الحرف الذي قبل الياء وهو الذال في الذي، والتاء في التي، و "تلي": / معناه تتبع، وأراد أن الياء في "الذي" و "التي" تحذف إذا أردت تثنيتها وتصير علامة التثنية والية لما قبل الياء، فتقول في الذي: اللذان واللذين وفي التي. اللتان واللتين، وقد تضمن هذا المعنى حكمين سوى ما ذكر.

أحدهما: أن التثنية لاحقة للذي والتي وقد تقدم معناها، وأنها زيادة ألف رفعا وياء مفتوح ما قبلها مع نون نصبا وجرا، تزاد في آخر الاسم فيدل بذلك على اثنين مما كان يدل عليه قبل ذلك لكن من غير تغيير للاسم المثنى، فكان قياس الذي والتي في التثنية حيث ادعاها لهما أن يقال: اللذيان واللتيان، وكذلك في النصب والجر اللذيين واللتيين، كما تقول: القاضيان والقاضيين إلا أن العرب لم تفعل ذلك، بل حذفت أواخرها على غير قياس، وأولت العلامة ما قبلها ليخالفوا بينها وبين الأسماء المعربة في التثنية فاحتاج الناظم إلى بيان هذا التغيير فقال:(واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) إلى آخره، وقد تقدم في الإشارة وجه هذه الدعوى. والثاني: أن المثنى هو الذي والتي الثابتا الياء لقوله: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) فنص على الحذف وذلك لا يكون إلا من ثبوت، وهذا ظاهر المخالفة لما زعمه في "شرح التسهيل" من أن العرب استغنت بتثنية اللذ دون الياء، واللت كذلك

ص: 427

عن تثنية الذي والتي بالياء وأنها لم تثنهما، وما زعمه هنا على ظاهر كلامه أبين، إذ لا يدعى الاستغناء إلا بدليل يدل عليه كما قالوا في مذاكير وملامح من أنه جمع لما لم ينطق به استغناء عنه بذكر ولمحة وما أشبه ذلك.

فإن قلت: فالدليل قائم، وذلك مخالفة لسائر المثنيات حيث لزم فيه من الحذف ما لا يجوز في غيره، قيل: على تسليم مذهبه في أنه مثنى حقيقة لا دليل في الحذف، إذ لا بعد في مجيء بعض الأشياء مخالفة للقياس، وأيضا إن كان حذف الآخر في التثنية مسوغا لدعوى الاستغناء لزمكم ذلك فيما حذف آخر شذوذا في التثنية من المعربات كقولهم في تثنية الخوزلي والخنفساء وباقلاء وعاشوراء خوزلان وخنفسان وباقلان وعاشوران على ما حكاه الفراء عن العرب فإذا لم يجز أن يدعى الاستغناء في هذه الأشياء وأشباهها إلا متعسف فكذلك ها هنا. ووجه ذلك: وهو أن ابن مالك في هذه الدعوى كالمتناقض مع زعمه في تشديد نونيهما أن ذلك تعويض من المحذوف، وكيف يصح التعويض (من المحذوف) ولا محذوف يعوض منه.

فإن قيل: هو- إن ادعى الاستغناء- قد زعم أن لغة "اللذ" بلا ياء مخففة من الذي بالحذف، وإذا كان كذلك صار الأمر إلى أن اللذان تثنية الذي بعد الحذف تخفيفا، فالتعويض من المحذوف صحيح.

قيل: فإذا لا معنى لادعاء الاستغناء، بل صار الأمر إلى ما قاله هنا من أن اللذان تثنية الذي، وحذفت الياء في التثنية، مع أن دعوى الحذف في المبنيات غير مقبولة، بل هي لغات مختلفة، وعلى ذلك أتى بها النحويون فيقولون: في الذي أربع لغات، وفي التي ثلاث لغات أو أربع، ولأجل ذلك لما

ص: 428

زعم الشلوبين أن ما عدا الذي والتي المخففتي الياء ضرائر. قال: لأنهم لم يحكوها في الكلام.

قال ابن الضائع: لا ينبغي/ أن يحمل على ذلك، لأنهم قالوا: إنها لغات فيها فلا يحمل استشهادهم فيها إلا على التمثيل، قال: ويدل على ذلك أنهم زعموا أن في "التي" من اللغات مثل ما في الذي، ولولا ثبوت ذلك ما جاز لهم فيها أن يقيسوا لغات الذي فيه- انتهى- فأنت ترى أن ابن الضائع لم يسلم لشيخه دعوى التغيير فيها بالحذف وغيره استنادا إلى مقتضى نقلهم، وهذا واضح فإذا مذهب ابن مالك في "شرح التسهيل" حيث أثبت الاستغناء مع دعوى التعويض ومع دعوى الحذف تخفيفا كغير الملتئم والله أعلم، فالصحيح ما أشار إليه هنا.

وفي قوله: (بل ما تليه أوله العلامة) زيادة بيان لقوله: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) فإن قيل: هذه الزيادة حشو لا محصول تحتها سوى التكرار وهذا مخالف لعادته، إذ ليس معنى الكلام الأول إلا أنك تولي الذال والتاء علامة التثنية. قيل: الظاهر أن ذلك لا مزيد فائدة فيه على اعتبار المفهوم وهو على خلاف عادته المستمرة ولكن فيه فائدة التنصيص إيلاء الحرفين قبل الياء العلامة لأن ذلك كان مفهوماً من

ص: 429

قوله: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) لا منطوقا به في فصرح به فيه الكلام الثاني، فقد لا يعد مثل هذا تكرارا، وإنما كان يكون تكرارا محضا لو صرح به في الكلامين معا.

ثن قال: (والنون إن تشدد فلا ملامه) يعني أن النون اللاحقة في التثنية يجوز تشديدها وهي معنى نفي الملامة، فإنه إذا انتفت الملامة والجناح كان التشديد جائزا، والأصل في نون التثنية التخفيف، والتشديد فيها ممتنع، فلا تشددها في نحو: رجلان والزيدان، فلما كان ذلك كذلك، وكانت الملامة لاحقة لمن شددها، أراد الناظم أن يرفع توهم من يقدر أن نون هذا الباب كذلك. فقال:(إن تشدد فلا) منع من ذلك وحصل الجواز بمقتضى هذا الرفع فتقول: أعجبني اللذان قاما، واللذان قاما، وكذلك اللتان قامتا واللتان قامتا، ومن التشديد قراءة ابن كثير {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} هذا في الرفع، وفي غيره قراءته:{ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس} ، و "الملامة" ضد المحمدة، يقال: لامه على كذا لوما ولومة وقال الجوهري: اللائمة: الملامة، كأنه جعله اسم مصدر. قال: وكذلك اللومى على فعلي. يقال: ما زلت أتجرع فيك اللوائم. والملاوم: جمع الملامة.

***

ص: 430

وقوله: بعد هذا مستدركا لما فاته ذكره من ذلك في نون هذين وهاتين:

وآلنون من ذين وتين وشددا

أيضا وتعويض بذاك قصدا

يريد أن نون هذين وهاتين شدد أيضا كما شدد نون اللذين واللتين فتقول: هذان الزيدان وهذان الزيدان، ومن التشديد قراءة ابن كثير:{إن هذان لساحران} الآية. و {هذان خصمان اختصموا في ربهم} . وفي غير الرفع قوله تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} في قراءة ابن كثير أيضا، والتشديد أيضا جائز، كما كان جائزا في اللذين واللتين.

فإن قلت: من أين يؤخذ له الجواز في هذا؟

فالجواب: إنه لما لم يحتم الحكم بالتشديد، بل أتى به حكاية عن العرب إذ قال:(شددا) يعني أن العرب/ شددته لم يكن في الكلام قضاء بوجوب ذلك مع ما تقدم له من أنهما من قبيل المثنى حقيقة، فالأصل الذي هو التخفيف ثابت، وأيضا فهو مقرون بما تقدم أن التشديد فيه جائز لا واجب وهو اللذان واللتان، فحصل من مجموع هذا عدم انحتامه.

ثم بين علة التشديد فقال: (وتعويض بذاك قصدا) ذاك: إشارة إلى التشديد المذكور، ولما ذكره شاملا لاسم الإشارة والموصول كان تعليله شاملا لهما، وذلك صحيح، وأتى بالإشارة

ص: 431

المقتضية للبعد اتساعا، ولأنه قصد قريبا وهو ذان واتن وبعيدا وهو اللذان واللتان، ولأنه قد يعامل القريب معاملة البعيد وبالعكس فلا محذور، ويعني أن العرب قصدت بهذا التشديد أن تعوض من الحرف المحذوف في التثنية فإن الياء تحذف وجوبا من الذي والتي وكذلك الألف من هذان وهاتان. فأرادوا أن يجعلوا التشديد (في ذلك) كالعوض مما حذفوا جبرا له، والعوض يقوم مقام المعوض منه حتى كأنه موجود.

فإن قيل: فإذا كان الحذف يقتضي التعويض فهلا عوضوا في يد ودم ونحو ذلك إذا قالوا: يدان ودمان؟

فالجواب: أن التعويض سماع لا يقال به إلا حيث اضطر إليه، وذلك إذا نقل ألا تراهم عوضوا في أهراق وأسطاع الهاء والسين من سلامة العين فيهما، ولم يعوضوا في أقام وأبان، وإن سلم أنه قياس، فإنما يكون التعويض مما كانت التثنية هي السبب في الحذف منه كالذي نحن فيه، أو يكون التعويض عند وجود سببه مطلقا وهذا هو الأعم كاستطاع وأهراق وجحاجحة وما أشبه ذلك مما يحصل التعويض منه عند وجود سببه، أما يد ودم فلم تكن التثنية سببا في الحذف منه فيعوض فيها، بل قصدت في يد ونحوه عدم التعويض وإلا فلو قصدت فيه التعويض لألزمته العوض، كما فعلوا في شية وعدة وزنة ونحوها، وكما في أسطاع ونحوه، فثبت أن التعويض إنما يكون عند حضور سببه.

ص: 432

قال ابن مالك في "شرح التسهيل" ولما كان الحذف مستعملا في الأفراد بوجه، لم يكن التعويض لازما بل جائزا.

فإن قيل: هذا الكلام أتى به تعليلا للتشديد وهو لم يتصد للنظر في تعليل المسائل ولا قصد ذلك، وإنما قصده ذكر الأحكام القياسية في الكلام ولا كل ذلك، بل الضروري خاصة، والتعليل من قبيل الزائد على الضروري فلم أتي به وقد كان في غنى عنه ويلزم من تعرضه لتعليل بعض المسائل أن يتعرض لتعليل الجميع أو يترك التعليل في الجميع؟

فالجواب: أنه لم يقصد التعليل خاليا من إفادة حكم ضروري، وإنما قصد التنكيت على المخالف الذي زعم أن التشديد دال على المرتبة القصوى في الإشارة، كما كانت اللام في تلك وذلك عند ذلك القائل دالة على المرتبة القصوى قالوا: فذانك بالتخفيف نظير ذلك في الدلالة على المرتبة الوسطى وذانك بالتشديد نظير ذلك في القصوى. والناظم قد نفي أن يكون ثم مرتبة ثالثة وإنما هما رتبتان/ خاصة، فكأنه قيل له: فهذه الزيادة ما فائدتها، وقد علم أن الزيادة في أسماء الإشارة تفيد الانتقال؟

فأجاب عن هذا: بأن قصد العرب التعويض لا ما قالوه، فإن كان من زعم هذا بقوله بالرأي، فلا رأي مع السماع؛ لأنه نقل لغة واللغة لا تثبت بالرأي، وإن كان يقوله بالنقل فقد قال ابن مالك: يبطل هذا القول جواز التشديد في نون هذين وتين، يعني إذا أشير إلى

ص: 433

القريب وما قاله صحيح فقد قرئ: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} بالتشديد، وهو إشارة إلى القريب قال: ويؤيد صحة هذا الاعتبار جواز تشديد نون اللذين واللتين ليكون جابرا لما فات من بقاء ياء الذي والتي، كما تبقى ياء المنقوص حين يثنى، وقد انتفى أيضا بهذا التعليل وإن كان ذلك غير مقصود من الناظم تعليلان آخران للتشديد ذكرهما السيرافي:

أحدهما: أنه جيء به للتفرقة بين ما كانت النون فيه عوضا من الحركة والتنوين، وبين ما كانت فيه عوضا من الحرف، فالأول نحو: الرجلين والغلامين فإن النون لحقتهما كأنها عوض مما منعت من الحركة والتنوين.

والثاني: كاللذين وهذين وهذا يقتضي أن مجرد النون في هذان واللذان هو العوض، هذا ظاهر عبارته، إلا أن يريد أ، التشديد لحق للأمرين، للعوض وللفرق وعلى الأول نقله بعضهم، وأن النون في هذين واللذين هي العوض بنفسها، والثاني أن التشديد للفرق بين المبهم وغيره من حيث كان المبهم لا تصح إضافته بخلاف غيره وكلا التعليلين ممكن وما علل به الناظم أظهر وعليه الأكثر.

فإن قيل: تقدم أن قصده بالتعليل التنكيت والدفع لمذهب من أثبت في الإشارة الرتبة الوسطى، وأنت قد فسرت أن التعليل غير مخصوص بمحل التنكيت وهو اسم الإشارة، بل أجريت قصده على أنه علل أيضا التشديد في الموصول وليس فيه تنكيت ولا دفع لمذهب، وهذا يقتضي أنه أتى بالتعليل بالنسبة إلى الموصول فضلا، ولعله إنما قصد بذلك اسم الإشارة

ص: 434

فقط وهو محل الفائدة.

فالجواب: أن اسم الإشارة هو محل الفائدة كما ذكرت، ولكن لما كانت العلة في التشديد في البابين واحدة أتى به شاملا لهما، ليحصل له ما قصد وزيادة والذي يشعر بقصده للشمول إشارته بذاك المقتضية للبعد، إذ لو أراد اسم الإشارة وهو الأقرب لقال، و (تعليل بهذا قصدا) كما قال في العلم (ذا إن بغير ويه تمت أعربا) فعين أقرب مذكور فلما لم يفعل ذلك دل على أنه قصد الأبعد أيضا وهو الموصول.

***

ثم ذكر الجمع فقال:

جمع الذي الألي الذين مطلقا

وبعضهم بالواو رفعا نطقا

فابتدأ بجمع الذي وذكر له جمعين:

أحدهما: (الألي) والألي في الاستعمال على وجهين:

الأول: بمعنى الأول مقلوب منه كقولهم: العرب الألي، أي: الأول.

والآخر: جمع الذي فتقول في جمع الذي/ قام الألي قاموا، كما تقول: الذين قاموا. ومنه ما أنشده بعض البغداديين:

ألا أيها القوم الألي ينبحونني

كما نبح الليث الكلاب الضوارع

وأنشد النحويون أيضاً:

ص: 435

رأيت بني عمي الألي يخذلونني

على حدثان الدهر إذ يتقلب

وقد تأتي ألي بغير ألف ولام كقول بشر بن أبي خازم:

ونحن ألي ضربنا رأس حجر

بأسياف مهندة رقاق

والثاني: الذين على لفظ الجمع المنصوب أو المجرور، وأراد جمع الذي الأولى والذين، فحذف العاطف.

وقوله: (مطلقا) يعني في الأحوال كلها من رفع أو نصب أو جر، يعني أن هذا الجمع يقع هكذا بالياء في الرفع والنصب والجر لا يختلف الحكم فيه كما يختلف في المجموع حقيقة، فيكون في الرفع بالواو، وبالياء في غيره ودل على أن هذا مراده بالإطلاق.

قوله إثر هذا: (وبعضهم بالواو رفعا نطقا) فتقول على مذهب جمهور العرب: جاءني الذين قاموا، ورأيت الذين قاموا، ومررت بالذين قاموا، ومنه قوله تعالى:{أولئك الذين هدى الله} ، وقال تعالى:{هم الذين يقولون لا تنفقوا} الآية.

ثم قال: (وبعضهم بالواو رفعا نطقا) ضميرهم عائد على العرب، علم

ص: 436

ذلك من سياق الكلام، كما علم أن الضمير من قوله تعالى {كل من عليها فان} عاد على الأرض، فإن كلامه هنا في قوانين الكلام العربي وضبط ما تكلمت به العرب، فعلم أنها المرادة بالضمير، ويريد أن من العرب من يجري الذين، مجرى اللذان فتختلف أحواله بحسب العامل فتقول: جاءني اللذين قاموا، ورأيت الذين قاموا ومررت بالذين قاموا، وهذه لغة مشهورة لهذيل ووجهها على طريقة الناظم ظاهر فاللذون عنده من قبيل المجموع كاللذان في التثنية، فإن الجمع لما كان من خصائص الأسماء عارض شبه الحرف، فأعرب الاسم كما أعربت "أي"، وقد مر تقديره في التثنية، وأما اللغة المشهورة فكأنها معارضة لمذهبه في التوجيه، فإن التثنية إن كانت مؤثرة في الحكم بالإعراب ومعارضة لشبه الحرف لأنها من خصائص الأسماء، فكذلك ينبغي أن يكون الجمع، لأنه أيضا من خصائص الأسماء، لكن العرب لم تعتبر هذه الخاصية في مشهور كلامها، بل أعلمت شبه الحرف من غير اعتبار لغيره، فكذلك يكون عندها الحكم في التثنية، إذ لا فرق في هذا بين التثنية والجمع، فيضعف الاحتجاج في إعراب اللذين ونحوه، بأن التثنية من خواص الأسماء وإذا كان كذلك لم يبق له في دعوى الإعراب دليل إلا جريانه مجرى المثنى، وليس في ذلك دليل، لأن مجرد الجريان مجرى المثنى لا يدل على إعراب الجاري، ألا ترى "من" في الحكاية تجري مجرى المثنى المحكي وليست بمعرفة فتقول لمن قال: جاءني رجلان منان، وفي رأيت رجلين منين، وفي مررت برجلين منين كذلك، وأيضا فقد يبقى المثنى حقيقة فلا تكون تثنيته دليلا على إعرابه نحو: لا رجلين في الدار ويا زيدان وما

ص: 437

أشبه ذلك، فالحاصل أن أصله الذي بني عليه/ غير مخلص.

والجواب: أن الناظم بريء عن هذا الاعتراض لأنه لم يبين هنا وجه كون اللذين وهذين ونحوهما مثناة حقيقة ولا كونها معربة، وإنما تعرض للإشارة إلى مجرد التثنية والإعراب، والتعليل منقول من كلامه في "شرح التسهيل" وقد ذهب هنا إلى خلاف ما يذهب إليه هناك، وعلى تسليم أنه يرد هنا فقد اعتذر هو عن ذلك بأنه إنما لم يعربه أكثر العرب، - وإن كان الجمع من خصائص الأسماء- لأن "الذين" مخصوص بأولي العلم، والذي عام، فلم يجر على سنن الجموع المتمكنة، بخلاف اللذين واللتين فإنهما جرتا على سنن المثنيات المتمكنات لفظا ومعنى. قال: وعلى كل حال ففي الذي والذين شبه بالشجي والشجين في اللفظ وبعض المعنى، ولذلك لم تجمع العرب على ترك إعراب الذين، ثم ذكر اللغة الأخرى. وأما ما عارض به السائل من أن الجريان مجرى المثنى لا يدل على الإعراب فليس من مباحث هذا التقييد، إذ لم يتعرض الناظم لذلك.

وبقى في كلامه قوله: (جمع الذي الألي الذين) فجعلهما معا جمعا للذي وهذا يفهم بظاهره أنه في الجمعية على حد الزيود والزيدين في جمع زيد، وذلك غير مستقيم، أما "الألي" فهو من غير لفظه فهو كأولى مع ذي اسم جمع له لا جمع حقيقة وهذا متفق عليه،

ص: 438

وأما "الذين" فلا يصح أن يطلق عليه أنه جمع للذي إلا على لغة هذيل، على ما في ذلك من الخلاف، وعلى لغة الجمهور لا يصح فيه ذلك إلا على طريقة أبي الحسن في صاحب، وصحب، إن صح أن يقول بذلك قائل فإنه لم ينقل في ذلك عن أبي الحسن شيء، وعلى مذهب الجمهور هو اسم جمع مطلقا كالمخالف في اللفظ، فهذا الإطلاق فيه ما ترى اللهم إلا أن يقول: إنه جمع جاء مخالفا للجموع، وذلك مغتفر كما اغتفرت مخالفته في التصغير لأبنيه التصغير، ومثل هذا جار في اللاتي المذكور بعد هذا، وهو ممكن لكنه بعيد وقد أشار المؤلف في الشرح إلى الاحتمال.

والجواب: أنه أطلق هذا اللفظ على الاتساع في العبارة، واعتبار المعنى مع قطع النظر عن اصطلاح النحوي، والأمر في هذا قريب، وهكذا فعل في أسماء جموع التي فجعلها جموعا لها حيث قال إثر هذا

باللاء واللات التي قد جمعا

واللاء كالذين نزرا وقعا

ويعني أن العرب عبرت عن جمع "التي" بهذين اللفظين وهنا "اللائي واللاتي" وهذا اللفظان اسما جمع لا جمعان، غذ ليسا على طريقة الجمع، ولا التي ممن يستحق أن يجمع كما كان ذلك في الذي، إلا أن العرب لما تصرفت فيهما أجرت عليهما أجرت عليهما بعض أحكام الأسماء المتصرفة و "باللاء" متعلق بجمع وإنما عداه بالباء وقد كان الذي ينبغي فيه أن يعديه بعلى على العادة في

ص: 439

التعبير في مثل هذا لأنه اعتبر فيه معنى النطق والتعبير، فضمنه الفعل حتى كأنه قال: /باللائي واللاتي قد عبر عن جمعه أو نطق بكذا في جمعه، فمثال جمعه على "اللاء" هكذا مقصورا كاللاع قوله تعالى:{واللائي يئسن} ، {واللائي لم يحضن} ، {وما جعل أزواجكم اللائي تظهرون منهن} - الآية. وأنشد النحويون على ذلك:

من اللاء تمشي بالضحى مجنة

وتمشي العشايا الخوزلي رخوة اليد

وأنشد الفارسي:

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفلا

ويحتمل اللائي هنا أن يكون في كلامه مهموزا همزة مخففة، وهي

ص: 440

قراءة قالون عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، ويحتمل أن تكون مخففة وهي قراءة ورش عن نافع، وإحدى الروايتين عن أبي عمرو والبزي، ومنهم من ينتقل عن ورش أنه قرأ بالياء وهو من المحتمل هنا.

قالوا: وهي كلها لغات في اللاء، والأظهر أن الناظم غنما اعتبر اللائي بتحقيق الهمزة، فإن كثيرا من الناس يزعمون أن التخفيف أو البدل ياء أصله

ص: 441

التحقيق وإن كان فيه نظر لعلة تأتي في التصريف إن شاء الله.

وأما "اللاتي" في كلامه فيحتمل أن يكون بياء بعد التاء، لكناه انحذفت لملاقاتها للساكن، ومثاله قوله تعالى:{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} ، {واللاتي تخافون نشوزهن} وهو كثير ويحتمل أن يكون اللات بغير ياء وهي قليلة، ويحتمل الوجهين ما أنشد أبو عبيد من قول الراجز:

من اللواتي والتي واللاتي

زعمن أني كبرت لداتي

والاحتمال الأول أولى لأن إثبات الياء هي اللغة الشهيرة.

وقوله: (واللاء كالذين نزرا وقعا) استدراك لجمع آخر للذي وهو اللاء الواقع للمؤنث جمعا لكن إذا لحقه ما لحق الذي من الياء والنون، ويريد أن اللاء جاء قليلا جمعا للذي على حد مجيء الذين، ولما كان الذين وهو الآتي (للجمع المذكر) فيه لغتان: الذين مطلقا في الرفع والنصب والجر، واللذون في الرفع، والذين في النصب والجر، كان الأمر في اللاء كذلك على مقتضى التشبيه لكن قليلا فتقول على الأول: جائني اللائين قاموا، ورأيت اللائين قاموا، ومررت باللائين قاموا. وعلى الثاني: جاءني اللاؤون قاموا، ورأيت اللائين قاموا، ومررت باللائين قاموا، وهي لغة هذيل،

ص: 442

ومن ذلك قول الشاعر:

هم اللاؤن فكوا الغل عني

بمرو الشا هجان وهم جناحي

وأما قول الآخر:

وإني من اللائين إن قدروا عفوا

وإن أتربوا جادوا وإن تربوا عفوا

وقول الآخر- انشده الفارسي-:

ألما تعجبي وترى بطيطا

من اللائين في الحقب الخوالي

فيحتمل أن يكون على اللغة الأولى أو الثانية، وقيد الناظم هذا الوجه بأنه نزر، أي: قليل، وذلك صحيح في هذا الوجه، وهو أحد الوجهين المحتملين في كلامه.

ويحتمل وجها ثالثا من التفسير، -وهو الذي شرح عليه كلامه ابنه-: أن يكون قوله: (اللاء كالذين نزرا وقعا) يريد أنه جاء بمعناه مطلقا

ص: 443

لا مقيدا بلحاق زيادة كالذين، بل جاء هذا اللفظ الذي هو "اللاء" جمعا للتي وجمعا للذي إلا أن مجيئه جمعا للذي قليل، فتقول: جاءني اللاء قاموا، كما تقول: جاءني الذين قاموا، / وهذا تفسير صحيح، ومنه ما أنشد الفارسي وغيره من قوله:

من النفر اللاء الذين إذا هم

يهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا

وقال كثير:

تروق عيون اللاء لا يطعمونها

ويروى برياها الضجيع المكافح

فإن قيل: إذا كان وقوع اللاء كالذين نزرا فما الفائدة في ذكره هنا وهو إنما بني على نقل الأشهر وإلا فللذي والتي جموع أخر، ربما كانت أكثر استعمالا من اللاء جمع الذي أو مثله ألا ترى أن اللائي

ص: 444

ممدودًا جمع للذي، وأن اللائي واللوات واللواتي واللاء مقصورا وهؤلاء كذلك، واللواء ممدودا واللاءات. وإذا ثبت هذا فاقتصاره على ما اقتصر عليه ترجيح من غير مرجح ظاهر وذلك مما لا ينبغي؟

فالجواب: أن الناظم لم ينبه على ما نبه عليه لغير فائدة، بل فيه ما يتأكد عليه ذكره بحسب قصده على كلا التفسيرين، أما على التفسير الأول فإن كلامه تنكيت على ما ذهب إليه في "شرح التسهيل"، وذلك أنه زعم فيه أن اللائين جمع اللاء الذي هو جمع للذي خلاف ما ظهر منه هنا، وفي "التسهيل" أيضا لأنه قال هنا:(واللاء كالذي نزرا وقعا) فبين أنه مثل الذين في الحكم والذين جمع للذي من غير نزاع، فاللائين كذلك فكأنه يقول: لا تعتقد أنه جمع اللاء بل مرادفه، وعلى هذا المعنى ينقله أهل اللغة.

قال الجوهري: واللاءون جمع الذي من غير لفظه بمعنى الذين، ومثل هذا يظهر من نقل النحاة أيضا، فهذا أولى من قوله في "شرح التسهيل" والصحيح أن "الذين" جمع الذي مرادا به من يعقل، وأن اللائين جمع اللائي مرادف الذين وأن اللاءات جمع اللاء، مرادف اللاتي، وكذلك اللوائي واللواتي هما جمعا اللائي واللاتي على حد قولهم في الهادي، -وهو العنق-: هواد، وفي الهابي- وهو الغبار-: هواب، وما قاله قياس في اللغة ومدرك مثل هذا النقل، فلو كان النقل موافقا لصحت هذه الدعوى، وأما

ص: 445

إذا كان بخلاف ذلك فالدعوى لا يصح اعتبارها فهذا- والله أعلم- هو الذي نبه عليه الناظم.

وأما على التفسير الثاني فإنه لما قدم أن اللاء جمع للتي كان هذا الإطلاق موهما أن اللاء مختص بالمؤنث وليس للذي فيه نصيب فأزال هذا الإيهام، فنقل مشاركة الذي للتي في هذا اللفظ الجمعي وإن كانت المشاركة قليلة فإنها مع قلتها قد تقع في الكلام، وهذا مما ينهض مقصدا في نقل هذا القليل بخصوصه دون غيره وينضاف إلى المقصدين زيادة فائدة لا بأس بالتنبيه عليها، وهو حسن من التنبه وبالله التوفيق.

ولما آتم الكلام على أصول الباب من الموصولات وهي الذي والتي وفروعهما أخذ يذكر ما هو جار مجراها ومن إجمالها في أحكامها ومعانيها فقال:

ومن وما وأل تساوي ما ذكر

وهكذا ذو عند طيئ شهر

وكالتي أيضا لديهم ذات

وموضع اللاتي أتى ذوات

أما قوله: (ومن وما وأل تساوي ما ذكر) فيعني أن كل واحدة من هذه الأدوات الثلاث وهي: "من" و "ما" و"أل" الألف واللام يعبر عنها بأل قصدا للاختصار تساوي ما تقدم ذكره من الموصولات ومساواتها لما تقدم بحسب ما قصد له في أربعة أحكام:

أحدها: الاسمية وهذا متفق عليه فيما سوى "أل"، فإن "من" و "ما"

ص: 446

من قبيل/ الأسماء وخواص الاسم (التي قدم ذكرها) تبين ذلك.

وأما "أل" فالجمهور على ما قال من أنها إذا وقعت في هذا الباب اسم لا حرف، أعني إذا دخلت على الصفة الصريحة كما سيذكره، وذهب المازني وربما نقل عن الأخفش أنها هنا حرفية كالألف واللام الداخلة على الرجل والغلام إلا أن المازني يقول: هي حرف موصول، والأخفش يقول: هي حرف تعريف غير موصول هكذا نقل بعضهم.

فالدليل على أنها في هذا الباب اسم عود الضمير عليها، إذ كنت تقول: جاءني الضاربة زيد، وجاءتني الضاربها زيد في فصيح الكلام، فالهاء في الضاربة، وها في الضاربها لم يتقدم عليه ما يعود عليه إلا "أل"، فدل ذلك على أنها اسم.

فإن قيل: ما تنكر من أن يكون الضمير عائدا على الموصوف المحذوف لأن الضارب صفة فهي بلابد جارية على موصوف، فليس الضمير إذا بعائد على "أل"؟

فالجواب: أنه لو كان كذلك لجاز مع التنكير أن يدعى عود الضمير على الموصوف دون الصفة إذا قلت: مررت بضاحك أبوه، إذ لا فرق بين تقدير الموصوف معرفا وبين تقديره منكرا، بل كان ذلك مع التنكير أولى لأن حذف الموصوف منكرا أكثر من حذفه معرفا، بهذا أجاب المؤلف عن الإيراد وهو جواب غير مقنع، إذ للمازني أن يلتزم ذلك.

وقد أجاب غير ابن مالك بأنك إذا أقمت شيئا مقام شيء

ص: 447

محذوف، فالمعتبر هو المثبت لا المحذوف إلا في القليل. ألا ترى إلى قوله تعالى:{وأسأل القرية التي كنا فيها} - فعاد الضمير على القرية في اللفظ وإن كان المراد أهلها، وأيضا قد استدل ابن جني وغيره على أن الكاف تقع اسما أعني كاف التشبيه بنحو قول الأعشى:

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

فجعل الكاف في "كالطعن" فاعلة مع إمكان تقدير الموصوف، واعتذر عن ذلك بما هو مذكور في "سر الصناعة" فقف عليه.

ومن الدليل أيضا على اسمية "أل" ما كره بعضهم من أنها لو كانت المعرفة لكان لحاقها اسم الفاعل قادحا في صحة عمله مع كونه بمعنى الحال أو الاستقبال، لكن الأمر بخلاف ذلك فعلها باق؛ لأن الصفة مع أل هذه في حكم الاسم الموصول يجب تأولها بجملة مصرح بجزء يها، وهما هنا الفعل والفاعل ولأجل التأويل وجب العمل لها وإن كانت بمعنى الماضي فـ "أل" معها كالذي مع الفعل لا كـ "أل" مع الرجل مثلا، وقد التزم الأخفش إبطال عملها مع "أل" فليس هذا الدليل بوارد عليه، إذ هو نفس دعواه وقد يقول بذلك المازني أو يفرق بين الحرف الموصول وغيره. وأما الدليل على أن "أل" من الموصولات فالتزامهم وصلها إما بالمفرد المقدر بالجملة وإما بالجملة الصريحة، كما التزموا ذلك في "من" و "ما" والذي والتي وأخواتها

ص: 448

فقالوا: جاءني الذي قام أبوه ومن خرج/ أخوه ومن في الدار فكذلك قالوا: جاءني القائم أبوه، واليقوم أبوه، وإن كان هذا قليلا فإن المعنى في الجميع واحد.

وقد نقل ابن مالك عن ابن برهان أنه استدل على موصولية "أل" بدخولها على الفعل على الجملة.

قال ابن مالك: واستدلاله قوي، لأن حرف التعريف في اختصاصه بالاسم كحرف التنفيس في اختصاصه بالفعل، فكما لا يدخل حرف التنفيس على الاسم كذلك لا تدخل الألف واللام على الفعل، إلا أنها دخلت هنا على الفعل فوجب اعتقاد كونها هنا اسما بمعنى الذي والتي لا حرف تعريف، والكلام في المسألة يتسع، والبحث ممكن، وهذا القدر كاف.

والحكم الثاني: من الأحكام الأربعة الموصولية، وهي أيضا متفق عليها في "من" و"ما"، وأما "أل" فكذلك غير أن أبا الحسن يخالف فيها وقد تقدم ذلك وهو بناء على أنها حرف تعريف.

وأما المازني فوافق على الموصولية لكن مع اعتقاد الحرفية، وقد مر الاستدلال على خلاف ما زعماه.

والحكم الثالث: التذكير والتأنيث، فهذه الأدوات الثلاث توافق المذكر مما تقدم وهو "الذي" والمؤنث وهو "التي" فتقول لمن قال: مررت برجل وبامرأة: عرفت من مررت به، ومن مررت بها، ولمن قال:

ص: 449

مررت بمنزل أبيك وبدار أخيك، عرفت ما مررت به وما مررت بها، وكذلك تقول: عرفت المنزل الممرور به والدار الممرور بها، فقد ساوى "من" و"ما" و"أل" في هذا الاستعمال الذي والتي إلا أن في "من" و"ما" اعتبارين: اعتبار اللفظ وهو مذكر فتعامله معاملة المذكر وإن كان مدلوله مؤنثا واعتبار المعني فتعامله الذي والتي وهذان اعتباران لم يتعرض لهما الناظم، مثل ذلك يعتبر فيهما الإفراد والتثنية والجمع.

والحكم الرابع: الإفراد والتثنية والجمع فهي توافق المفرد من الذي والتي، وقد مر تمثيل ذلك وتوافق المثني والمجموع فتقول لمن قال مررت برجلين وبرجال وبامرأتين وبنسوة، عرفت من مررت بهم، ومن مررت بهما، ومن مرت بهن، ولمن قال: مررت بمنزلين أو بدارين وبمنازل أو بدور عرفت ما مررت بهما، وما مررت بهما والمنازل الممرور بها أو بهن، وكذلك تقول: عرفت المنزلين الممرور بهما والمنازل الممرور بها أو بهن، وكذلك في الدارين والدور وما أشبه ذلك، فهذه الأحكام الأربعة تساوى فيها هذه الأدوات ما تقدم، فلذلك لا تختلف ألفاظها مع اختلاف الأحكام لما في ألفاظ ما تقدم وهو معنى قوله:(تساوى ما ذكر) أي: أنها تدل على ما دل عليه جميع ما ذكر مع بقائها على لفظ واحد، ثم الحق بهذه الثلاثة رابعا، لكن في بعض اللغات وهو "ذو" فقال: (وهكذا ذو عند طيئ شهر، يعني أن ذو في لغة طيئ المشهورة حكمها حكم هذا الذي تقدم وهو "ما" و"من" و"أل" فهي تساوي ما ذكر قبل في الأحكام المذكورة، والمعني فإنها من الأسماء لا من الحروف ومن الموصولات لافتقارها إلى صلة وعائد، وهي تقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد فتقول: جاءني الرجل ذو قام والمرأة ذو قامت، كما تقول:

ص: 450

جاءني من قام ومن قامت، فمن وقوعها على/ المذكر قول قيس بن/ 193 جروة- وهو من أبيات الحماسة-:

لئن لم يغير بعض ما قد صنعتم

لأنتحيا بالعظم ذو أنا عارفه

أي: الذي أنا عارفه، وقال حاتم:

ومن حسد يجور على قومي

وأي الدهر ذو لم يحسدونني

أي: الذي لم يحسدوني فيه، وأنشد ابن الأنباري لقوال الطائي وهو من أبيات الحماسة:

قولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا

هلم فإن المشرفي الفرائض

ص: 451

وفيهما:

أظنك دون المال ذو جئت تبتغي

ستلقاك بيض للنفوس قوابض

وهو كثير. ومن وقوعها على المؤنث ما أنشده ابن الأنباري وغيره من قول الشاعر وهو سنان بن الفحل:

فإن المال مال أبي وجدي

وبئري ذو حفرت وذو طويت

والبئر مؤنثة وتقع كذلك على المفرد والمثنى والمجموع فتقول: أعجبني الرجلان ذو قاما، والمرأتان ذو جاءتا، والرجال ذو قاموا، والنسوة ذو قمن.

وقد نص أهل اللغة على هذا المعنى وأن "ذو" لا تثنى ولا تجمع على هذه اللغة ولا تؤنث ولا تكون إلا على حالة واحدة، نقل ذلك عن الفراء، وأبي حاتم ونص عليه أيضا الجوهري وغيره. وقول الناظم:(وكالتي أيضا لديهم ذات) استدراك للغة ثانية لطيئ وهي أنهم يخالفون في كلامهم أيضا بين المذكر والمؤنث فيقولون: ذات إذا أرادوا المؤنث، ذو إذا أرادوا المذكر نحو: رأيت زيدا ذو قام، وهند ذات قامت. ومنه ما حكاه الفراء

ص: 452

من قول بعض فحصائهم: "بالفضل ذو فضلكم الله به والكرامة ذات أكرمكم الله به" أراد بها فأسكن الهاء ونقل حركتها إلى ما قبلها. ثم قال: (وموضع اللاتي أني ذوات) موضع منصوب على الظرفية أي: وفي موضع اللاتي أتى هذا اللفظ الذي هو ذات، ويريد في هذه اللغة الأخيرة لطيئ فتقول: رأيت النساء ذوات خرجن، ومنه ما أنشده الفراء من قول الراجز:

جمعتها من أينق موارق

ذوات ينهضن بغير سائق

وهذه اللغة عند الناظم غير مشهورة لطيئ شهرة الأولى، يدل على ذلك من كلامه قوله:(وهكذا ذو عند طيئ شهر) فزعم أن جريان "ذو" في الأحوال كلها مجرى "من" و"ما" و"أل" هو المشهور عندهم، ثم ذكر اللغة الأخرى ولم يذكر لها شهرة، فدل على أنها دونها في ذلك وأنهما لغتان، وبهذا ظهرت مخالفته لابن عصفور حيث أشار إلى أنها لغة واحدة مذكرها بخلاف مؤنثها وأنك لا تقول في لغة طيئ: مررت بالمرأة ذو

ص: 453

رأيتها، وإنما تقول: ذات رأيتها، وذكر أنه لا حجة في قول سنان:

*وبئري ذو حفرت وذو طويت*

قال: لأنه جاء على تذكير البئر وذلك على مني قليب، كأنه قال: وقليبي الذي حفرته وطويته. كما قال:

يا بئر يا بئر بني عدي

لا نزحن قعرك بالدلى

حتى تعودي أقطع الولى

فقال: أقطع بالتذكير على معنى قليب، وجرى على هذا السنن الأبذي أيضا ورد عليه ابن الضائع بوجهين:

أحدهما: ما أشعر به الناظم من أنه لم يذكر "ذات" كل من ذكر ذو. قال: فهذا/ يدل على أن "ذو" أشهر من "ذات". قال: ولو كان مؤنثا لها كالتي مع الذي لم يكن أحدهما أشهر؛ لأن المذكر ومؤنثه في رتبة واحدة.

والثاني: أن التأويل في "ذو" قياسا على الصفة لا يجوز لأن

ص: 454

التأويل في الصفة بالحمل على الفعل، فالصفة الجارية على الفعل يجوز فيها ما لا يجوز في غير الجارية. ألا ترى أن من قال: جاء الموعظة لا يقول مشيرا إليها: هذا الموعظة. قال: ولذلك زعم الخليل في قوله: {هذا رحمة من ربي} أن الإشارة إلى المطر لا إلى الرحمة.

قال: وذو أقرب إلى أسماء الإشارة منها إلى الصفة الجارية. وذوات على مذهب ابن عصفور مثل: ذات فذو مذهبه كالذي، وذات كالتي، وهو الذي نقله عنه المؤلف في "شرح التسهيل" فقال: وأطلق ابن عصفور القول بتثنيتها وجمعها، ويظهر هذا منه في "المقرب" والمردود عليه، إنها هو الإطلاق في جميع لغة طيئ كما تقدم، وأما كون "ذو" تثنى وتجمع وتؤنث عند بعض طيئ فهو ثابت كما سيأتي إثر هذا بحول الله، وبعد فإنه يتعلق بكلام الناظم هنا مسائل:

إحداهما: أنه قد تبين اسمية "أل" عنده من ظاهر كلامه هنا، فهل تدخل له في التعريف الذي ذكره أم لا؟ فقد عرف الأسماء بخواص دخل له بها أكثر الأسماء.

والجواب: أن "أل" غير داخلة له في التعريف الأول، إذ الجر لا يصلح معرفا لها، لأنك إن أدخلت حرف الجر فقلت: للراكب أو للحسن، لم يكن بينه وبين قولك للرجل وللفرس فرق، وكذلك الإسناد إليها نحو: جاءني الضارب، لا فرق بينه وبين جاءني الرجل. وأما التنوين والنداء وأل فأبعد في التعريف فالإنصاف أن "أل" مما خرج عن تعريفه الأول.

ص: 455

والثانية: أن هذه الأدوات مبنية لما تقدم من سبه الحرف، أما "من و"ما" و"أل" فظاهر وأما "ذو" فقد أشعر كلامه بذلك حيث قال:(وهكذا ذو عند طيئ شهر) يعني بهذا اللفظ بعينه فتقول جاءني الرجل ذو أكرمك، ورأيت الرجل ذو أكرمك، ومررت بالرجل ذو أكرمك ومثل ذلك ما ذكر من ذات وذوات هما مبنيان على الضم في الأحوال كلها، ويشهد لذلك ما تقدم من الشواهد نحو:

*لأنتحيا بالعظم ذو أنا عارفه*

وقوله: بالفضل ذو فضلكم الله به والكرامة ذات أكرمكم الله به، وما كان شبه ذلك، والبناء فيها على القياس، ولذلك لم يشعر الناظم بخلافه، وقد جاء الإعراب في "ذو" قليلا، وأنشدوا لمنظور بن سحيم- وهو من أبيات الحماسة-:

فإما كرام موسرون أتيتهم

فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا

وإما كرام معسرون عذرتهم

وإما لئام فادكرت حيائيا

ويروي: "من ذو عندهم" على الأصل، وروى أبو زيد عن العقيليين:

دعينا إلى طعام فأكلنا منه

حتى تركناه من ذي إلينا

أي: من ذوات أنفسنا، وحقيقته من الرأي الذي إلينا، حكى

ص: 456

الزمخشري في المحاجاة النحوية أن من الطائيين من يغيرها في الرفع والنصب والجر. وقيل في قولهم: "اذهب بذي تسلم" أنه من ذلك، أي: / بالسلامة التي تسلمها.

والثالثة: أن الناظم خص "ذو" و"ذات" و"ذوات" فأسندها إلى طيئ وأطلق القول في الذي والتي وفروعهما وفي "من" و"ما" و"أل"، فدل ذلك على أن ماعدا "ذو" و"ذات" و"ذوات" تشترك فيها طيئ وغيرها، إذ لو لم يكن كذلك لوجب أن يذكر اختصاص غيرها ذلك، كما ذكر اختصاصها بذو وما ذكر معها، وذلك صحيح، إذ تلك الأدوات كلها تستعملها طيئ وتتكلم بها فتقول: جاءني الذي قام، والتي خرجت، وجاءني من جاءك، ورأيت ما صنعته وما أشبه ذلك، لكنها تختص وذات بذو بمعني الذي والتي، وكذلك فروعهما عندها فقال حاتم الطائي:

أما والذي لا يعرف السر غيره

ويحيي العظام البيض وهي رميم

وقال معدان بن عبيد الطائي:

فأما الذي يحصيهم فمكثر

وأما الذي يطريهم فمقلل

وقيل قيس بن جروة هو عارق الطائي:

ص: 457

ألاحي قبل البين من أنت عاشقه

ومن أنت مشتاق إليه وشائقه

ومن لا توالى داره غير فتية

ومن أنت تبكي كل يوم تفارقه

ثم قال فيها:

إلي الملك الخير ابن هند تزوره

وليس من الفوت الذي هو سابقه

ثم جمع بين "ما و"ذو" فقال:

لئن لم يغير بعض ما قد صنعتم

لأنتحيا للعظم ذو أنا عارفه

وقال بعض الطائيين أيضا:

لنا الحصنان من أجأ وسلمي

وشرقياهما غير انتحال

وتيماء التي من عهد عاد

حميناها بأطراف العوال

وقال بعض بني بولان- وهم من طيئ-:

بني رجل لو كان حيا أعانني

على ضر أعدائي الذين أمارس

وقال بعضهم- والجميع من أبيات الحماسة-:

ص: 458

فإن تكن الأيام حالت صروفها

ببؤسي ونعمي والحوادث تفعل

فما لينت منا قناة صليبة

ولا ذللتنا للتي ليس تجمل

ولكن رحلناها نفوسا كريمة

تحمل مالا يستطاع فتحمل

وأما "أل" فاستعمالها عندهم أشهر من أن يستشهد عليه، والمقصود في الجميع التنبيه على أن تلك الأدوات من المستعمل المشهور في لغتهم حذرا أن يظن ظان أن "ذو" عندهم عوض من "ما" و"من" و"الذي" وغيرهما مما ذكر حيث لا يجتمعان في كلامهم.

والرابعة: أنه حكي عن طيئ في اللغة الثانية أنهم يقولون في المفرد المؤنث "ذات" وهو مقابل "ذو" في المذكر وأنهم يقولون في الجمع المؤنث "ذوات" وهو الموضوع موضع "اللائي" ولم يذكر له مقابلا ومقابله في المذكر إذا وجد ذوون أو نحوه وهذا النقل هكذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون على ظاهره من الاقتصار في التفريع على "ذات" في المفرد المؤنث وعلى "ذوات" في الجمع المؤنث وأن ماعدا ذلك فمقتصر به على "ذو" ويظهر هذا من اقتصاره على موضع السماع المشتهر عند النقلة، وهو أيضا ظاهر كلامه في "شرح التسهيل"، حيث قال، وأطلق ابن عصفور القول بتثنيتها وجمعها قال: وأظن حامله على ذلك قولهم: ذات وذوات بمعنى التي واللاتي فأضربت عنه لذلك.

والثاني: أن يكون أراد أن التفريع في ذو جار على الإطلاق في هذه اللغة في التثنية والجمع المذكر والمؤنث، والتأنيث/ إنما أتى

ص: 459

به تنبيهاً على ما بقى من الفروع، فتكون ذو إذ ذاك تثنى وتجمع وتؤنث على ما ظهر من ابن عصفور.

وقد ذكر ذلك ابن السراج في "الأصول"، و"الهروي" في "الأزهية"، وذكر الأزهري عن الفراء قال: قد يخلطون في ذو في الاثنين والجميع فربما قالوا: هذان ذو تعرف، وربما قالوا: هذان ذو تعرف، وهؤلاء ذو تعرف، ويجعلون مكان التي "ذات" ويرفعون التاء على كل حال، وفي تثنيتها ذواتا تعرف، وهؤلاء ذوات تعرف وأظن المؤلف لم يطلع على هذا النقل، فلذلك قال في نقل ابن عصفور ما قال وعلى الجملة فنظمه أسعد بنقله، والله أعلم.

***

ثم قال:

ومثل ما "ذا" بعد ما استفهام

أو من إذا لم تلغ في الكلام

يعني أن هذا اللفظ مثل "ما" في أحكامه المذكورة وهي الاسمية والموصولية والمساواة لما تقدم في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، وأصل المعني فتقول: ماذا رأيته؟ ومن ذا لقيك؟ وأنت تريد مفردا أو مثني أو مجموعا مذكرا أو مؤنثا، لكن لا يكون كذلك إلا بشرطين صرح بهما:

ص: 460

أحدُهما: أن تقع بعد "ما" التي للاستفهام أو "من" أي: التي للاستفهام أيضا وذلك قوله: (بعد ما استفهام أو من) وإنما لم يقيد "من" تصريحا للعلم بأن القيد مراد له وتحرز بهذا الشرط من شيئين:

أحدهما: أن تقع بعد "ما" أو "من" غير الاستفهاميتين فإنها هناك لا تكون موصولة نحو ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:

دعى ماذا علمت سأتقيه

ولكن بالمغيب نبئيني

فـ "ما" و"ذا" هنا كلاهما شيء واحد بمعنى الذي أو بمعنى شيء، إذ لا يصلح فيهما غير ذلك.

والثاني: أن تقع عارية عن "ما" و "من" نحو ما أنشده الكوفيون من قول الشاعر:

عدس ما لعباد عليك إمارة

أمنت وهذا تحملين طليق

فـ "ذا" هاهنا ليست موصولة بمعنى الذي وإنما هو اسم إشارة على أصله "وتحملين" حال تقديره: وهذا حالة كونه محمولا طليق، وزعم الكوفيون أن أسماء الإشارة- و"ذا" منها- تقع موصولات بدون هذا الشرط، ومن ذلك عندهم قول الله تعالي:{وما تلك بيمينك يا موسى} - فالتقدير عندهم:

ص: 461

وما التي بيمينك، وكذلك يقدرون البيت والذي تحملين طليق، وبيمينك، وتحملين صلة قالوا: لأنه لم يرد أن يخبر عن هذا بأنه محمول، ولو كان كذلك لم يجز حذف الضمير من "تحملين" ولا يجوز أن يكون هذا مفعولا لـ "تحملين"، إذ لا وجه لـ "طليق" كذلك، ولا المعنى عليه.

واعتذر البصريون عن حذف الضمير بأنه قد يجوز حذفه من الخبر والصفة والحال، والذي دعاهم إلى هذا التأويل الهرب من إثبات ما لم يثبت في كلام العرب، فالصحيح ما ذهب إليه البصريون والناظم، حين اشترط في وقوعها موصولة أن تقع بعد "ما" أو "من".

والشرط الثاني: أن تكون "ذا" غير ملغاة في الكلام، وإليه أشار بقوله:(إذا لم تلغ في الكلام) وإلغاء "ذا" على وجهين:

أحدهما حقيقي والأخر حكمي. أما الحقيقي: فأن تجعل مقدرة السقوط كأنها لم تذكر، ومنه ما أنشده الفارسي في "التذكرة" عن أبي الحسن:

يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم

لا يستفقن إلى الديرين تحنانا

قال أبو الحسن: أراد ما بال نسوتكم، إذ/ لا معني لـ "ذا" في البيت.

ص: 462

وأما الحكمي: فأن تقدر "ذا" مع "ما" أو "من" شيئا واحدا لا أن تقدر سقوطها كقولك: ماذا صنعت أخيرا أم شرا، ويحكم على موضع "ماذا" بالحكم الذي تستحقه "ما" من رفع أو نصب أو جر، وعلى موضع "من ذا" بالحكم المستحق لـ "من" كذلك نحو: من ذا أكرمت أزيدا أم عمرا؟ فكأن "ذا" في الحكم غير موجودة، ومن ذلك قول الله تعالى:{وقيل للذين اتقوا ماذا ربكم قالوا خيرا} ، وقوله تعالى:{يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} على قراءة النصب وهي لمن عدا أبا عمرو بن العلاء، فإذا وجد الشرطان ثبت كون "ذا" موصولة بمعنى الذي وغيرها، ومن ذلك قراء غير أبي عمرو، "ماذا ينفقون قل العفو" بالرفع، وأنشد سيبويه للبيد:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول

أتحب فيقضى أم ضلال وباطل

ومن أمثلة ذا مع "من" قول الأعشى:

وغريبة تأتي الملوك كريمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها

ص: 463

وأنشد المؤلف لأمية بن أبي عائذ:

ألا إن قلبي لدى الظاعنينا

حزين فمن ذا يعزى الحزينا

ويرد على الناظم هنا سؤالان: أحدهما في لفظ الإلغاء، فقد غمزه شيخنا الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار- رحمة الله عليه- فيما علق من "الطرر على هذه الأرجوزة". فقال: كان أولى به أن يعدل عن لفظ الإلغاء إلى لفظ التركيب لنص سيبويه على منع ذلك، يعني الإلغاء على حقيقته لقوله: فلو كان "ذا" لغوا لما قالت العرب: عماذا تسأل، ولقالوا: عم ذا تسأل، ولكنهم جعلوا "ما" و "ذا" اسما واحدا، كما جعلوا "ما" و "إن" حرفا واحدا حين قالوا: إنما، قال الأستاذ، فإن أراد الناظم بالإلغاء ما أراد أبو القاسم يعني الزجاجي بقوله: صلة لما، أي: أنها كجزء مما قبلها، فصارت بمنزلة ما ليس في الكلام من حيث لم يكن لها حكم نفسها، بخلاف الوجه الآخر فهذا وجه وإن أراد بالإلغاء الزيادة فقد رده سيبويه فتأمله، انتهى كلام الأستاذ وما قاله حسن، وقد تقدم من تفسير

ص: 464

كلام الناظم ما بين مراده بالإلغاء، وأنه أراد الإلغاء بالاعتبارين، فلو أتى بلفظ التركيب لفاته التحرز من الإلغاء الحقيقي، لكنه أتى بما يحصل به الوجهان، إذا التركيب كما قال: إلغاء معنوي، وعلى هذا السبيل جرى في "التسهيل" فلم يذكر في هذا الشرط الإلغاء وحده، وفسره بالحقيقي والحكمي كما مر.

والثاني: أن كلامه يقتضى إذا توفر الشرطان أن تكون بمعنى الذي ونحوها أي: موصولة بلابد، وليس كذلك، بل قد تكون كذلك وقد يكون اسم الإشارة يفيد معناها ولا يحتاج إلى صلة كما تقول: ما هذا الرجل؟ وما هذا الثوب؟ وهذا مما لا يمنعه ابن مالك ولا غيره، فإذا كان حقه أن يحترز من ذلك كما فعل في "التسهيل" إذا قال: و "ذا" غير ملغي ولا مشار به إلى آخره، لكن لم يفعل ذلك، فكان اشتراطه قاصرا لنقص شرط ثالث وهو: ألا تكون "ذا" مشارا بها.

والجواب: أنه ليس في كلامه ما يدل على أن الموصولة تختص بالموضع الذي يجتمع فيه الشرطان حتى لا تقع هناك المشار بها البتة، وإنما فيه أنها لا تكون موصولة إلا مع اجتماعهما وهو صحيح، إذ لا تقع موصولة إذا كذلك.

فقوله: (ومثل ما "ذا" بعد ما استفهام) إلى آخره" معناه أنها تكون مثل "ما" عند اجتماع الشرطين والاختصاص بذلك الموضع غير مشار/ إليه في كلامه فلا اعتراض عليه.

ص: 465

واعلم أن الناظم أثبت كون "ذا" مثل، "ما" إذا أتت بعد "من" أو "ما"، أما إذا أتت بعد "ما" فمتفق على ذلك فيها، وأما إذا أتت بعد "من" فغير متفق عليه، لكن ظاهر كلام سيبويه أنها كذلك أيضا، قال في "باب ما ينتصب لأنه حال صار فيه المسئول والمسئول عنه: "وأما قولهم: من ذا خير منك، فهو على قوله: من ذا هو خير منك، لأنك لم ترد أن تشير أو تومئ إلى إنسان قد استبان لك فضله على المسئول فيعلمه، ولكنك أردت من ذا الذي هو أفضل منك. قال: فإن أو مأت إلى إنسان قد استبان لك فضله عليه فأردت أن يعلمك نصبت كما قلت: من ذا قائما.

قال ابن خروف: قدر "ذا" في هذه المسألة بالذي لما لم يكن في المسألة مشار إليه فقدرها به لبيان المعنى، فعل في قوله: من ذا قائما بالباب، يعني أنه قدرها بمن الذي هو قائم بالباب. قال: ولم يذكر أن "ذا" تكون بمعنى الذي إلا مع "ما" في ماذا قط. قال: ولا يمكن أن تكون هنا إلا بمنزلة الذي، كما كانت مع "ما" في "ما" و "ذا" ولا يمكن غيره، ثم حكي عن شيخه أبي بكر أنه كان يذهب إلى أنها إشارة إلى جنس حاضر غير معين

ص: 466

قال: ثم رجع عنه، وحكى ابن الضائع عن الشلوبين أنه كان يتأول كلام سيبويه على الإشارة، وأن "ذا" لا تكون بمعنى الذي إلا مع "ما" ويجعل تقديره في الرفع كتقديره في النصب. قال: ويقويه حذف الضمير من الصلة.

قال ابن الضائع: وقد سمعته بعد يأخذ على ظاهره أن "ذا" بمعنى الذي تحقيقا، هذا ما في المسألة من الخلاف، وقد اعتمده ابن الضائع خلافا، وفي التحقيق ليس بخلاف لرجوع المخالف عن مخالفته، ولذلك- والله أعلم- لم يشر في "التسهيل" إلى شيء من ذلك، فإن اعتمده أحمد خلافا فالناظم مع سيبويه والجمهور، وهو الصحيح إن شاء الله، و (في الكلام) من قوله:(إذا لم تلغ في الكلام) متعلق بـ (تلغ) أبو باسم فاعل محذوف ينتصب حالا من ضمير (تلغ) أي: إذا لم تلغ حالة كونها موجودة في الكلام. ويقال: ألغيت الشيء إذا أسقطته وأبطلت اعتباره، وهنا تم له ما أراد من المسألة الأولى من مسائل هذا الباب، إذا لم يبق له من الموصولات ما لم يذكره إلا أيا فإنه آخرها لما تعلق بها مع بعض الأحكام الخاصة.

***

ثم أخذ في بيان المسألة الثانية فقال:

وكلها تلزم بعده صله

على ضمير لائق مشتمله

هذه المسألة يذكر فيها ما يلزم هذه الموصولات التي فرغ من ذكرها من الصلات والعوائد وما يتعلق بذلك، وقدم أولا أن هذه الموصلات لابد لها من صلات، ولذلك سميت موصلات، وسبب وصلها أنها لا يتبين معناها بنفسه، فإذا قلت: جاءني الذي واقتصرت لم يفهم من الذي شيء.

ص: 467

فإذا قلت: الذي قام، أو الذي عندك تبين بتلك الصلة معنى الذي فساوى بها معنى زيد، إذا قلت: جاءني زيد، أو عمرو في قولك: جاءني عمرو فصارت إذا الصلة من الموصول بمنزلة جزء الاسم من الاسم، فلهذا السبب لزمت، ولأجله حتم الناظم بذلك فيها حيث قال:(وكلها تلزم بعده صله) وذلك صحيح إلا أن الصلة قد تحذف لفظا اختصارا لدلالة ما قبلها أو بعدها عليها، أو/ لأن المراد توكيد الموصول كقول العجاج:

بعد اللتيا واللتيا والتي

إذا علتها أنفس تردت

وأنشد الفارسي وغيره:

من اللواتي والتي واللاتي

يزعمن أني كبرت لداتي

وأنشد أيضا:

فإن أدع اللواتي من أناس .... أضاعوهن لا أدع اللذينا

ص: 468

وقد يأتي الموصول دون صلة:

*وكفيت جانبها اللتيا والتي*

ومثل هذا مما لا يعتد به مع أنه عندهم مؤول، لأن اللتيا والتي عبارة عن الداهية، وحذفت الصلة لعلم السامع أنه يريد التي عظمت وجلت وما أشبه ذلك فالصلة إذا لازمة على كل حال لا يخرج عن حكم اللزوم شيء من الموصولات وذلك قال:(وكلها) فأكد بكل المقتضية للعموم، ثم إنه صرح بأن صلة الموصول لابد أن تشتمل على وصفين:

أحدهما: أن تقع بعد الموصول فإنه قال: (تلزم بعده) والضمير عائم على كل ومدلوله الموصول، فلما عين لها موضعا كان ذلك تصريحا أو كالتصريح بمنع تقدمها، ويلزم من ذلك أيضا منع تقدم بعضها، إذا لو تقدم بعضها لم يصدق عليها أنها وقعت بعد الموصول على الإطلاق، فإذا لا يجوز أن تقول: جاءني ضربته الذي، ولا جاءني إياه الذي ضربت، ولا جاءني عندك من قعد ولا ما أشبه ذلك، ومن هنا قوى عند الجمهور موصولية الألف واللام حيث لم يجز: أعجبني زيد الضارب، ولا كلمت عنك المعرض، وما جاء بخلاف ذلك في الظاهر فمحمول على محذوف كقوله تعالى: {وكانوا فيه

ص: 469

من الزاهدين} فـ "فيه" لا يتعلق بـ "الزاهدين"، ولكن بمحذوف دل عليه والتقدير: وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين، أي: من جملة الزاهدين، ومثله قوله تعالى:{وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} وكذلك قال: {إني لعملكم من القالين} ، ومثل ذلك قول بعض السعديين:

تقول وصكت صدرها بيمينها

أبعلى هذا بالرحا المتقاعس

ووجه ذلك أن الصلة من كما الموصول وبمنزلة جزء منه، فكما لا يتقدم الدال من زيد مثلا على الباقي كذلك لا يتقدم ما هو بمنزلته، ومعمول الصلة جزء من الصلة، لأن المعمول تابع للعامل في الأصل تبعية الجزء، ولذلك لا يتقدم المعمول عند جماعة إلا حيث يصح تقدم العامل، ألا ترى أن الفارسي

ص: 470

استدل على جواز خبر "ليس" عليها بتقدم معمول خبرها عليها في قوله تعالى: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} وكذلك لا يفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، كما لا يفصل بين أجزاء الكلمة وهذا كله ظاهر.

والوصف الثاني: أن تكون الصلة مشتملة على ضمير عائد على الموصول، ليربط الصلة بالموصول، وذلك قوله:(على ضمير لائق مشتمله) و (على) متعلق بـ (مشتملة) صفة لصلة، أي صلة مشتملة على ضمير لائق، وقد حصل أن الصلة إذا لم يكن فيها ضمير عائد على الموصول لا يصح أن تقع صلة له فلا تقول: أعجبني الذي قام زيد، ولا جاءني الذي خرجت إلا أن يكون نم إليه أو ما أشبه ذلك مما يعود منه إليه ضمير، ولأجل هذا منع الفارسي في "التذكرة" أن تقع "نعم" و "بئس" صلة فلا تقول: الذي نعم الرجل أو بئس الغلام لعدم الراجل إلى الموصول قال: فإن أظهرته فقلت: مررت بالذي هو نعم الرجل جاز، وكذلك إن حذفته وأنت تريده، وقد منه أيضا بعض النحويين من الوصل بجملتي القسم، والجواب والشرط والجزاء إذا خلت إحدى الجملتين من ضمير عائد على الموصول، فالقسم والجواب عند هؤلاء لا يقع صلة أصلا، لخلو جملة القسم من

ص: 471

ضمير لزوماً، وكذلك إذا قلت أعجبني الذي إن قامت هند أكرمته لا يجوز، حتى تقول: الذي إن قامت هند من اجله أكرمته، وهذا وإن كان غير مرض ففيه ما يقوى دعوى لزوم الضمير العائد، وكذلك مسألة الفارسي مختلف فيها أيضا، كما سيأتي بعيد هذا بحول الله.

(ولائق) معناه: مناسب، أي مناسب للموصول، وأصل لاق أن يكون بمعنى لصق ولاق به الثوب، أي: لصق به، وهذا الأمر لا يليق بك، أي: لا يلصق بك، يعني في المناسبة بينك وبينه، فيريد بقول:(لائق) أن يكون مناسبا أن يعود على الموصول، فإن كان الموصول مفردا مذكرا عاد عليه ضمير المفرد المذكر وإن كان مثنى عاد عليه ضمير الاثنين أو مجموعا عاد عليه ضمير الجمع، وكذلك المؤنث في هذه الأحوال فتقول: أعجبني الذي أكرمته والتي أكرمتها، واللذان أكرمتهما والذين أكرمتهم، واللاتي أكرمتهن وما أشبه ذلك، وكذلك "من" و "ما" إذا قلت: جاءني من أكرمته، وأعجبني ما صنعته، فإذا كان المراد بهما المثنى أو المجموع أو المؤنث فإنه يليق بهما اعتبار اللفظ فيعاملان معاملة المفرد المذكر كما مثل، ويليق بهما اعتبار المعنى فيعاملان تلك المعاملة فتقول: جاءني من أكرمتهما، وفي التنزيل الكريم، {ومنهم من يستمع}. وفي موضع آخر:{من يستمعون إلي} ، وكذلك تقول: أعجبني ما صنعته وما صنعتما وما صنعتن، وعلى هذا السبيل يجرى الحكم فيما أشبههما وجميع هذا منتظم تحت قوله:

ص: 472

(على ضمير لائق مشتملة) وهو حسن من التعبير.

***

ثم شرع في تعيين الصلة لكل موصول فقال:

وجملة أو شبهها الذي وصل

به كمن عندي الذي ابنه كفل

وصفة صريحة صلة "ال"

وكونها بمعرب الأفعال قل

الذي وصل به مبتدأ خبره جملة، و (به) هو المقام لـ (وصل) مقام الفاعل، لأنه حذف المفعول للعلم به وهو الموصول، وقد يكون المقام هو المفعول ولم يحذف، بل هو مستتر عائد على كل و (الذي) واقع في الوجهين على الصلة و (به) عائد على الذين، ويريد أن صلة الموصول على الإطلاق إنما تكون جملة أو ملابسة الجملة.

فأما الجملة: فهي الكلام التام سواء أكانت اسمية أم فعلية، فالاسمية نحو: زيد قائم، والفعلية نحو: قام زيد، فمثال ما وصل بالجملة الاسمية أعجبني الذي أبوه قائم ومثال ما وصل بالفعلية: أعجبني الذي أبوه قائم ومثال ما وصل بالفعلية: أعجبني الذي قام أبوه، وكذلك الحكم في سائر الموصولات ما عدا "أل" حسب ما يأتي، وإطلاقه الجملة ينتظم له ما كان من الجمل منحلا إلى مفردين وهو الذي مثل به وما كان منها منحلا إلى جملتين جملة الشرط والجزاء وجملة/ القسم والجواب، فهذا مما يوصل به على مقتضى إطلاقه، وأولى أن يوصل بما ينحل إلى مفرد وجملة، لأنه في حكم ما ينحل إلى مفردين.

وقد زعم بعضهم أن جملة القسم والجواب لا يوصل بهما ألبته

ص: 473

بناء على أن إحدى الجملتين خالية من الراجع إلى الموصول، وهي جملة القسم، وأن جملة الشرط والجزاء لابد في كلام جزأيهما من ضمير وإلا لم يجز، فعند من قال بهذا لا تقول: أعجبني الذي (والله إنه لفاضل، ولا أعجبني الذي إن أكرمت) زيدا أكرمته حتى تقول: أعجبني الذي إن أكرمته أكرمت زيدا من أجله أو أعجبني الذي إن أكرمني أكرمته وما أشبه ذلك.

قال ابن الضائع: وهذا خطأ لأن هاتين الجملتين صارتا جملة واحدة. والدليل على ذلك أن إحداهما غير مستقلة مع الارتباط، بل لابد من ذكرهما معا قال: ثم لا يمنع جاءني الذي لأضربنه من عنده مسكة من اللغة. قال: ثم إن هذا ليس للغة فيه مجال، بل هو معنى لا يصح أن يخالف فيه أحد من العقلاء لأن الفطرة السليمة تقبل مثل هذا الإخبار وهو أن تقول: زيد والله لأضربنه وكذلك بالله لأضربنه، وكذل زيد إن يكرمني يحسن حالي. وقال امرؤ القيس:

وأنت إذا استدبرت سد فرجه .... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل

قال: ومثله في الكلام كثير، ومعنى صحيح في كل لغة. قال: ثم أي فرق بين الوصل والخبر؟ فكما يجوز الخبر بجملة الشرط والجواب كذلك جوز الوصل ولا فرق بينهما في ذلك أصلا، ولهذا إذا ارتبطت الجملتان بالفاء جاز

ص: 474

أيضًا أن يكون الضمير في إحداهما وتكون الأخرى خالية عنه وإن كانت الخالية هي الأولى لارتباطهما بالفاء وصيرورتهما جملة واحدة، وعلى هذا كان الشلوبين يجيز في قول زهير:

*إن الخليط أجد البين فانفرقا*

رفع البين على أن يكون فاعلا بـ "أجد"، ويكون الضمير العائد على اسم "إن" في قوله:"انفرق" وجاز لارتباطهما بالفاء وعلى هذا التقدير قد تدخل للناظم الجملتان المرتبطان بالفاء لأنهما في حكم الجملة الواحدة فتقول: الذي يطير الذباب فيغضب زيد، والذي تطلع الشمس فأكرمه عمرو وما أشبه ذلك وأما شبه الجملة الذي أشار إليه فهو ضربان:

أحدهما: الظرف وما في معناه وهو المجرور نحو: جاءني الذي عندك وأعجبني من في الدار، وأحببت ما لديك وما أشبه ذلك، وهذا الضرب لا يختص به واحد من الموصولات دون غيره، كما لا يختص بالجملة شيء منها دون البواقي.

فإن قلت: جعله الظرف والمجرور شبه الجملة مشكل، بل هما من قبيل الجمل، ألا ترى أنهما يقدران بالجملة لا بالمفرد، فتقدير ذلك الذي استقر عندك، ومن استقر في الدار أو نحو ذلك ولا تقدره بالمفرد فتقول: الذي مستقر في الدار أو عندك، لما سيذكر في باب الابتداء إن شاء الله.

ص: 475

قيل: إن تقديرهما بالجملة لا يخرجهما عن كونهما من قبيل ما ليس بجملة في التحصيل لأنه تقدير لا ينطق به وهم مما يهملون اعتباره في اللفظ بحيث لا يكون الظرف والمجرور عندهم في حكم ذلك التقدير حسب ما يذكر./ بعد إن شاء الله، فلهما منزلة بين منزلتي المفرد المحض والجملة المحضة، فلذلك أخرجهما عن الجملة بقوله:(أو شبهها)، وأتى للجملة ولهذا الضرب الشبيه بها بمثالين في كلام واحد وهو قوله:(كمن عندي الذي ابنه كفل) فقوله: (من عندي) تمثيل شبه الجملة وهو الظرف وفي معناه المجرور. وقوله: (الذي ابنه كفل) تمثيل الجملة، ومن عندي مبتدأ خبره الذي ابنه كفل، أو يكون "من" خبرا والمبتدأ هو الذي، فقدم وأخر، والعائد من الظرف على الموصول مقدر في الظرف وتقديره اللفظي: من استقر هو عندي، والعائد من الجملة الهاء في ابنه.

فإن قلت: فأين العائد من الخبر على المبتدأ في مثال الناظم؟ قيل: ضمير ابنه، فإن قلت: إنما الهاء في ابنه عائدة على الذي؟ قيل: وإن كان كذلك فهو يكفى في الربط، لأنه أيضا راجع إلى المبتدأ من جهة المعنى، فالربط حاصل بين المبتدأ والخبر كما كان رابطا في قولك: زيد القائم، فضمير القائم عائد على "أل" وهو عائد أيضا على زيد، ثم إن في كل واحد من المثالين إشارة إلى شرط معتبر فيما مثل به.

فأما المثال الأول بالظرف فقد تضمن اشتراط التمام في الظرف والمجرور، ومعنى كونه تاما أن يستقل في الإخبار عن المعنى المراد بالموصول، كما كان ذلك في قوله:(من عندي) فإن عند تستعمل في الإخبار عن الموصول، كما تقول: زيد عندي.

ص: 476

فإن قلت: جاءني الذي اليوم أو الذي في اليوم لم يجز، كما لا يجوز زيد اليوم ولا زيد في اليوم، ولو قلت: أعجبني الخروج الذي في اليوم لجاز لأنك تقول: الخروج في اليوم، ومثل ذلك المجرور لابد أن يكون تاما نحو: جاءني الذي في الدار والمال الذي لك.

ولو قلت: جاءني الذي عنك أو الذي فيك لم يجز، كما لا يجوز زيد فيك ولا زيد عنك، وأما المثال الثاني: فأشار به إلى شرطين لازمين:

أحدهما: كون الجملة خبرية تحتمل الصدق والكذب وذلك قوله: (ابنه كفل) فكأنه قال: وجملة أو شبهها الذي وصل به إذا كانت على هذه الصفة.

فأما إن كانت غير خبرية فلا يجوز أن يوصل بها فلا تقول: جاءني الذي أضربه ولا أكرمت الذي هل رأيته؟ ولا جاءني الذي لعلى مثله، وما جاء من قول الشاعر:

وإني لرام نظرة قبل التي

لعلى وإن شطت نواها أزورها

فشاذ، وعلى هذا لا يقع فعل التعجب صلة ولا نعم وبئس ولا عسى ولا حبذا ولا كم الخبرية ولا رب ولا ما أشبه ذلك من الإنشاءات التي لا تحتمل الصدق والكذب فلا تقول: أعجبني الذي ما أحسنه أو أحسن به، ولا أتاني

ص: 477

الذي نعم الرجل أو بئس الغلام ولا أتيت الذي عساه أن يكرمني، ولا جاءني الذي كم درهم أعطيته، ولا غير ذلك، وهذا بخلاف جملة القسم والجواب؛ فإن جملة القسم وإن كانت إنشائية هي بمنزلة "إن" في التأكيد للجملة الخبرية بعدها وأيضا فجملة القسم والجواب بمنزلة الشرط والجزاء، بهذا المعنى رد الفارسي في "التذكرة" على من منع من القدماء الوصل بها مع ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى:{وإن منكم لمن ليبطئن} . قال: وشبيه بهذا ما أشار إليه أبو عثمان في كتاب "الإخبار" من قوله/ تعالى: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} الآية.

وقد تقدم لابن الضائع في المسألة خلاف قرره على نحو آخره، والحاصل أن جمل الإنشاء لا يوصل بها مطلقا عند الجمهور، وأجاز ذلك ابن خروف في "شرح الجمل في التعجب ونعم وبئس قال: والعائد على الموصول ماتضمنه الرجل من حيث جاز: زيد نعم الرجل، وقال في التعجب: لا ينبغي أن يمتنع كما لا يمتنع مررت بالذي هو أحسن الناس وبالذي هو حسن جدا، وهذا منه اعتبار لمعنى الجملة ومحصولها وإهمال لوضعها المقصود نحو ما قال

ص: 478

الفارسي في "التذكرة" في النداء: إنه بمنزلة الخبر بدليل أن من قال لرجل: يا زان، وجب عليه الحد، والأصح مذهب الجمهور وهو الذي أشار إليه الناظم.

والثاني من الشرطين أن لا تكون الجملة متعلقة بما قبلها ولا مرتبة على كلام آخر نحو ما مثل به. فإن كان لها تعلق بغيرها لم يوصل بها، كالجملة المصدرة بلكن أو بإذا أو بحتى، نص على "لكن" ابن السراج والفارسي، وعلى "إذا" و "حتى" ابن بابشاذ، والعلة في منع ذلك أن هذه الحروف متعلقة بما قبلها فجعلها صلات قطع لها عن ذلك وإخراج لها عن وضعها، وهذا ظاهر جدا وقلما ينبه المتأخرون على هذا الشرط (وهو ضروري).

وقد بقى شرط ثالث ليس في كلام الناظم ما يدل عليه وهو أن تكون الجملة معلومة عند السامع، وقد أشار إلى ذلك الجزولي في قوله: ولا تفيد المقصود إلا والصلة معلومة للسامع، فإذا لم تكن معلومة له لم يفد الموصول معناه، فكان كما لو يوصل وذلك نقض لغرض الوصل، فمثال النلظم لا يفيد هذا الشرط لاحتمال أن يكون قوله:(ابنه كفل) غير معلوم للسامع،

ص: 479

فكان معترضاً وكان هذا الشرط هو المقصود الأعظم لأن المقصود بالصلة بيان الموصول وإيضاح معناه، وذلك لا يحصل مع كون الصلة مجهولة، ولكون الصلة مبينة اشترطوا أن لا تكون إنشائية، لأن الإنشائية لا بيان فيها، وبذلك علل الفارسي في "التذكرة" امتناع الوصل بالتعجب ووافقه غيره فيه، وأجراه في سائر الجمل الإنشائية، ولم أجد الآن له عذرا في تركه التنبيه عليه إلا أن يقال: إن هذا الشرط مستفاد من اشتراط الإفادة في الكلام، فإن الفائدة لا تحصل إلا مع كون الصلة معلومة، ولو فرضناها مجهولة عند السامع لم يفده الكلام شيئا، كما أنه قد تكون معلومة أيضا ولا تحصل فائدة، كما إذا قلت: جاءني الرجل الذي أبوه إنسان ونحو ذلك، فكان هذا الشرط لما كان حاصلا من شرط الإفادة في الكلام على وجه لا يدخل عليه فيه اعتراض ترك ذكره إحالة على ما هنالك، وهذا حسن من التنبيه والله أعلم.

وأما الضرب الثاني من شبه الجملة فهو الصفة الصريحة وهي التي خصها بالألف واللام حين قال: (وصفة صريحة صلة أل) يعني أن الألف واللام اختصت من بين سائر الموصولات بأنها إنما توصل بالصفة الصريحة. لا بجملة ولا ظرف ولا مجرور فتقول: جاءني القارئ والكاتب/ والمنطلق والحسن، وما أشبه ذلك ولا تقول: جاءني اليضرب ولا اليستكبر إلا في القليل، ولا جاءني الأبوه قائم إلا شاذًا

ص: 480

نحو ما أنشدوه من قوله.

من القوم الرسول الله منهم

لهم دانت رقاب بني معد

ولا تقول: جاءني العندك، ولا الفي الدار إلا شاذا نحو ما أنشده المؤلف من قوله:

من لا يزال شاكرا على المعه

فهو حر بعيشة ذات سعه

وإنما كانت الصفة شبه الجملة، لأنها في معناها فـ "قائم" من قولك: زيد قائم في معنى قام أو يقوم، ولذلك عملت عمل الفعل وعطف الفعل عليها في نحو:{إن المصدقين والمصدقات واقرضوا الله} ، وقال تعالى:{أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} وأراد بالصريحة ما كان من اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة باسم الفاعل، وهي الصفة الخالصة الوصفية وتحرز بذلك مما ليس بخالصها، إنما لأن الوصفية له ليست بحق الأصل، وإما لأنه خرج عن أصله من الوصفية، ويجمع الضربان أربعة أنواع:

أحدها: ما استعمل من الصفات الأسماء كأخ وصاحب وأبطح وأبرق وأجرع وما أشبه ذلك، فإن هذه الأشياء ليست الآن بصفات، وإنما صيرها الاستعمال إلى حيز الأسماء غير الصفات، فلا تصلح لذلك أن تدخل

ص: 481

عليها الألف واللام الموصولة، وإنما تصلح لدخول التي للتعريف كالرجل والفرس.

والثاني: ما استعمل من الأسماء استعمال الصفات كالأسد والبحر ونحو ذلك إذا قلت: مررت بالرجل الأسد شدة والبحر جودا والبدر حسنا، فإن هذه ليست من الصفات الصريحة، بل هي مؤولة بالصفات، فالأسد في تأويل الشجاع، والبحر في تأويل الجواد، والبدر في تأويل الحسن، ومثل هذا الوصف بالمصدر كعدل ورضا وصوم، وباسم الإشارة نحو: هذا وهؤلاء وشبه ذلك، فلا تدخل على مثل هذا الألف واللام الموصولة، فإنها لم تدخل في الحقيقة إلا على اسم جامد لا على صفة، إذ الوصفية لمثل هذا بالعرض كما صارت الوصفية في النوع الأول متناساة غير مقصودة، إذا قلت: الصاحب والأخ والأبرق والأجرع، فالألف واللام هنا حرف تعريف.

والثالث: الجملة اسمية كانت أو فعلية، لأنها قد تكون صفة جارية على النكرة وتكون في موضع نصب على الحال من المعرفة نحو: مررت برجل قام أبوه أو برجل أبوه قائم، ومثال وقوعها حالا: مررت بزيد يقوم، ومررت بزيد وجهه حسن، ومع ذلك لا تكون صلة للألف واللام إذا شاذا كما تقدم، أو قليلا كما سيأتي.

والرابع: الظرف والمجرور فإنهما يقعان كالجملة صفتين للنكرة وحالين من المعرفة نحو: مررت برجل عندك أو في الدار، ومررت بزيد عندك أو في الدار، ولكن لا يقعان صلة للألف واللام إلا شذوذا وقد مر.

وهنا نوع خامس يشكل عليه كلام الناظم وهو ما كان من الأعلام منقولاً

ص: 482

من الصفة كحارث/ وعباس وحسن فإنه تدخله الألف واللام التي للمح الصفة، وهذه الألف واللام إما أن تكون هي الموصولة الداخلة على الصفة الصريحة أو غيرها فلا يجوز أن تكون غيرها، إذ لا يتلمح بها الأصل من الصفة، لأنها ليست الداخلة على الصفة، فيكف تشعر بما لا تدخل عليه؟ وإن كانت إياها- ولابد من ذلك- فقد وصلت الألف واللام بغير صفة صريحة قياسا، إلا أن المسالة على مذهب الخليل وسيبويه قريبة المأخذ لأن الألف واللام عندهما هي التي كانت تدخل على الصفة قبل العلمية، وإنما دخلت الآن على تقدير ألا علمية، وذلك قول الخليل: إن الذين قالوا: الحارث والحسن والعباس إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، ولم يجعلوه سمى به، ولكنهم جعلوه كأنه وصف غلب عليه. هذا ما قال ولا إشكال فيه؛ لأنه يقول: إنهم رجعوا به إلى أصله، وإذا كان كذلك وكان أصله الصفة، فالألف واللام فيه إذا موصولة وإن كان أمرا تقديريا، وعلى هذا يدل اصطلاحهم فيها أنها للمح الصفة، وأما على مذهب الناظم فإن السؤال فيها وارد عليه، لأن الألف واللام عنده في الحارث ونحوه للمح الصفة هي الأصلية لا غيرها، وإذا كانت إياها فقد وصلت بصفة غير صريحة فصار ذلك نقضا لقوله:(وصفة صريحة صلة أل) فإن قيل: إنما وصلت بصفة صريحة على اعتبار الأصل كما بينه الخليل.

فالجواب: أنا إذا سلمنا أن مذهبه فيها مذهب الخليل فحارث

ص: 483

وعباس ونحوهما ليست بصفات صريحة لخروجها بالعلمية عن أصلها فصارت مثل أخ وصاحب وأبرق ونحوها، وتقدير أصلها من الصفة لا يدخلها في باب الصفة الصريحة وإلا لزم في صاحب ونحوه اعتبار الأصل فيقع صلة للألف واللام وذلك فاسد.

فإن قلت: إن باب صاحب ونحوه لم تعتبر العرب أصله واعتبرته في حارث ونحوه "قيل": بلى قد اعتبرته وهي مما تعتبر الأصل في البابين، ألا تراهم قد منعوا صرف أبرق وأجرع ونحوهما مطلقا اعتبارا بأصلها من الصفة، ومنعت صرف أحمر المنكر بعد التسمية، فالبابان سواء في هذا الحكم على الجملة.

والحاصل أن الأشكال لازم على كلام الناظم إلا أن يدعى أن الألف واللام التي للمح الصفة ليست هي الموصولة وهذا لا يثبت له، فلو لم يقيد الصفة بالصريحة هنا ولا بالمحضة في "التسهيل" لكان أسلم من الاعتراض كما فعل غيره، لأن الصفة إنما تطلع حقيقة على اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة، وما سوى ذلك من الجملة والظرف والمجرور والجامد الذي في معنى الصفة، والصفة المنقولة إلى الأسماء ليس بصفة (-في الحقيقة-) حسب ما هو مبين في موضعه، وكذلك أجرع وأبرق وحارث وعباس/ ليست بصفات أيضا، وإن لحظ فيها الأصل في أمر ما، فذلك أمر حكمي في بعض المواضع لا يطرد، ألا ترى أنها لا تجري صفات على موصوف، ولا تعمل عمل الصفات، ولا يضمر فيها، فلا اعتبار بذلك اللحظ إلا في

ص: 484

مثل ما اعتبرته العرب فيه، ولما أدخلت العرب الألف واللام في العلم الذي أصله الصفة على خلاف معتادها في الأعلام علمنا أنها قدرت الرجوع إلى الأصل فهي إذا ذاك صفات حقيقية بحسب القصد وقعت صلات للألف واللام وهذا التقرير واضح في نفسه مع ورود السؤال على ابن مالك هنا وفي "التسهيل" و "الفوائد المحوية"، ولما بقى مفهوم كلامه وصل الألف واللام بالصفات غير الصريحة استثنى من ذلك الجملة الفعلية المصدرة بالفعل المضارع.

فقال: (وكونها بمعرب الأفعال قل) الضمير في "كونها" يحتمل أن يعود على "أل" و "بمعرب" متعلق بمحذوف هو خبر "كان" المأخوذ من الكون وحذف لدلالة الكلام عليه وتقديره: وكون "أل" موصولة بمعرب الأفعال، أو تكون الباء ظرفية وهي متعلقة بالفعل العام أي: وكون "أل" مستقرة في (معرب الأفعال قل) ويلزم من كون "أل" في معرب الأفعال أن يكون ذلك الفعل قلتها ويحتمل أن تعود الهاء على الصلة والكون تام به تتعلق الباء كأنه قال: ووجود الصلة بمعرب الأفعال قل، وعلى كل تقدير فـ "كونها" مبتدأ خبره "قل" ومعرب الأفعال هو الفعل المضارع، ويعني أن الألف واللام قد توصل بالفعل المضارع لكن قليل، وإشارته إلى ما جاء في الشعر من ذلك نحو ما أنشده من قوله:

ما أنت بالحكم الترضي حكومته

ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

ص: 485

وقال ذو الخرق الطهوي:

يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا

إلى ربه صوت الحمار اليجدع

وأنشد المؤلف في الشرح:

وليس اليرى للخل مثل الذي يرى

له الخل أهلا أن يعد خليلا

وأنشد أيضا غير هذا مما لم أقيده وهذا عند غير الناظم من الشاذ المحفوظ كشذوذ:

*من القوم الرسول الله منهم*

وظاهر إطلاق الناظم يقتضى جواز وصلها بالمضارع اختيارا لكن على قلة لأنه قال: (وكونهما بمعرب الأفعال قل) ولم يقل شذ ولا ندر، ولا ما كان يعطى معنى عدم القياس كما قال:(وليتني ندرا)(وليسى قد نظم)(ولاضطرار كبنات الأوبر) وعادته قد استقر على أن يأتى بلفظ القلة حيث يكون ذلك القليل جائزا في الكلام وغيره أحسن منه

ص: 486

كقوله:

*وخففت إن فقل العمل*

تنبيها على قراءة: {وإن كلام لما ليوفينهم ربك أعمالهم} ، وكقوله في تخفيف "أن" المفتوحة (وقليل ذكر لو) ونبه بذلك على نحو قوله تعالى:{فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب} الآية.

وقال في فصل "لات": (وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل)

وأشار إلى قراءة من قرأ: / {ولات حين مناص} بالرفع قال سيويه وهي قليلة يريد مع جوازها في الكلام، وفي باب المفعول له قوله:(وقل أن يصحبها المجرد) وقال في النعت:

وما من المنعوت والنعت عقل

يجوز حذفه وفي النعت يقل

وفي باب النداء في مسألة حذف حرف النداء: (وذاك في

ص: 487

اسم الجنس والمشار له قل) وفي إبدال التاء هاء في الوقف (وقل ذا في جمع تصحيح).

وجميع هذه المواضع مما وقع في الكلام وجاز القياس فيه لكن على ضعف، فهذا الموضع يقتضى أن الوصل بالمضارع جاء في الكلام ويجوز القياس فيه قليلا في الكلام، وقد صرح بهذا المعنى في "شرح التسهيل"، فقال: وعندي أن أمثل هذا غير مخصوص لا بالضرورة لتمكن قائل الأول أن يقول:

*ما أنت بالحكم المرضى حكومته*

ولتمكن قائل الثاني من أن يقول:

*إلى ربنا صوت حمار يجدع*

ولتمكن الثالث من أن يقول:

*ما من يروح ويغدو .... *

ولتمكن الرابع أن يقول:

*وما من يرى .... *

وقال: وإذا لم يفعلوا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار. وقال: وأيضا فمقتضى النظر وصل الألف واللام بما توصل به أخواتها من الجمل الاسمية والفعلية، إذا هي من الموصولات الاسمية

ص: 488

فمنعوها ذلك حملا على المعرفة، لأنها مثلها في اللفظ، وجعلوا صلتها ما هو جملة في المعنى ومفرد في اللفظ صالح لدخول المعرفة عليه، وهو اسم الفاعل وشبهه من الصفات، قال ثم كان في التزامهم ذلك إيهام أن الألف واللام معرفة لا اسم موصول فقصدوا التنصيص على مغايرة المعرفة، فأدخلوها على الفعل المشابه لاسم الفاعل وهو المضارع. قال: فلما كان حاملهم على هذا وفيه إبداء ما يجب إبداؤه وكشف مالا يصلح إخفاؤه استحق أن يجعل مما يحكم فيه بالاختيار ولا يخص بالاضطرار ولذلك لم يقل في أشعارهم كما قل الوصل بجملة من مبتدأ وخبر وبظرف. هذا ما احتج به ابن مالك في مسألته وقد بنى الاحتجاج فيها على ثلاثة أشياء:

أحدها: أن الضرورة الشعرية إنما تعد ضرورة إذا لم يمكن تحويل العبارة إلى ما ليس بضرورة، فإن أمكن ذلك عدت من قبيل ما جاء في الكلام.

والثاني: القياس على سائر الموصولات.

والثالث: قصد التفرقة بين الألف واللام المعرفة والموصولة ورفع اللبس.

فأما الثاني والثالث- وإن كانا ضعيفين- فلا حاجة بنا إلى الكلام معه فيهما إذا ليس المقصود في هذا الشرح إلا توجيه ما ذهب إليه من غير اعتراض عليه؟ ما عدا الأشياء التي يخالف فيها جميع النحويين أو يكون خطؤه فيها واضحا جدا ولاسيما إن كانت عنده أصلا يطرد في أبواب كثيرة.

والوجه الأول من هذه الأوجه قد جمع فيه بين الأمرين، فخالف أولا جميع

ص: 489

النحاة، وأتى بأمر مبتدع لا سلف له فيه ولا دليل يعضده، بل مؤد إلى انخرام نظام الكلام، وقواعد العربية، مع أنه أجراها في أبواب. فقال في وصل الألف واللام بالمضارع: ما سمعت، ولا أنشد في باب "كان" على حذف نونها قول الشاعر:

*لم يك الحق سوى أن هاجه*

وقوله:

*فإن لم تك المرأة أبدت وسامة*

وقول الآخر: /

*إذا لم تك الحاجات من همة الفتى*

قال: ولا ضرورة في هذه الأبيات لإمكان أن يقال في الأول:

*لم يكن حق سوى أن هاجه*

ص: 490

وفي الثاني:

*فإن تكن المرآة أخفت وسامة*

وفي الثالث:

*إذا لم يكن من همة المرء ما نوى*

وقال في قوله:

*فيالغلامان اللذان فرا*

أنا لا أراه ضرورة لتمكن قائله من أن يقول:

*فيا غلامان اللذان فرا*

لأن النكرة المعينة بالنداء توصف بذي الألف واللام، وله من هذا النحو مواضع، وما ذهب إليه باطل من أوجه:

أحدها: إجماع النحويين على عدم اعتبار هذا المنزع وعلى إهماله في النظر القياسي جملة، ولو كان معتبرا لنبهوا عليه وأشاروا إليه ولم يفعلوا ذلك فدل على أن ما خالفه باطل (لا يقال: إن إجماع النحويين ليس بحجة كما قاله ابن جنى في مسألة: هذا جحر ضب ضرب، لأنا نقول: إن كان ابن جنى ادعى ذلك في خصوص مسألته فيقرب الأمر، إذ يجوز عند أكثر الأصوليين إحداث تأويل غير ما أجمعوا عليه ولا يعد خرقا للإجماع، وإن أراد

ص: 491

أن مخالفتهم جائزة على الإطلاق فباطل باتفاق أهل العلم، وقد كان بعض شيوخنا يقول: إن ابن جنى لما عزم على مخالفة الإجماع من مسألته لم يوفق للصواب فيها، بل ذهب إلى ما لا يقبله عاقل.

فإن قيل: أين الإجماع؟ وقال سيبويه في قول أبي النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعى

على ذنبا كله لم أصنع

فهذا ضعيف وهو بمنزلته في الكلام، لأن النصب لا يكسر الشعر ولا يخل به ترك إظهار الهاء. وقال ابن جني: إنهم قد يستعملون الضرورة حيث لا يحتاج إليها كقوله:

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

وكان يمكنه: ابقلت أبقالها، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها وكذلك قوله:

ص: 492

*طباخ ساعات الكرى زاد الكسل*

فجر: زاد وأدى ذل إلى الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وكان يمكنه أن ينصب ويزول القبح، وبنى على ذلك القاعدة في "الخصائص" وحكى ابن جنى عن أبي العباس قال: حدثني أبو عثمان قال: جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر وأنشد:

من كان لا يزعم أني شاعر

فيدن منى تنهه المزاجر

قال فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام؟ فقال: إن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف. قال فقلت: فما الذي اضطره هنا وهو يمكنه أن يقول: فليدن مني؟ قال: فسأل عني فقيل له المازني: فأوسع لي. فهذا وما أشبهه يدل على اعتباره عندهم، وهم أئمة النحو فيكف تقول: الإجماع منعقد على عدم اعتباره؟

فالجواب: أن هذه المسألة بمعزل عن مسألتنا، فإن هذه المسألة في جواز الاستعمال للضرورة حيث لا يضطر إليها مع اتفاقهم على ما أختص بالشعر لا يستعمل في الكلام ولا يعد كالمستعمل فيه إذا أمكن الخروج عن الضرورة بتبديل أو تحريف وهو المتفق عليه وهو الذي خالف فيه الناظم.

والثاني: أن الضرورة عند النحويين ليس معناها أنه لا يمكن في

ص: 493

الموضع غير ما ذكر، إذ ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره من الألفاظ الصحيحة الجارية/ على القياس المستمر، ولا ينكر هذا إلا جاحد لضرورة العقل هذه الراء في كلام العرب وتأليف حروفهم من الشياع في الاستعمال بمكان لا يجهل ولا تكاد تنطق بجملتين تعريان عنها، وقد هجرها واصل بن عطاء لمكان لثغته فيها حتى كان يناظر الخصوم ويجادلهم، ويخطب على المنبر فلا يسمع في نطقه راء فكان إحدى الأعاجيب حتى صار مثلا وقال فيه الشاعر:

ويجعل البر قمحا في تصرفه

وخالف الراء حتى احتال للشعر

ولم يطق مطرا والقول يعجله

فعاد بالغيث إشفاقا من المطر

وورى به الشاعر فقال- وأحسن كل الإحسان-:

ولما رأيت الشيب راء بعارضي

تيقنت أن الوصل لي منك واصل

ولا مرية في أن اجتناب الضرورة الشعرية أسهل من هذا بكثير، وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد أدى إلى أن لا ضرورة في شعر عربي، وذلك خلاف الإجماع والبديهة، وإنما معنى الضرورة وهو الثالث: أن الشاعر قد لا يخطر بباله إلا لفظه ما تضمنه النطق به في ذلك

ص: 494

الموضع إلى زيادة أو نقص أو غير ذلك بحيث قد يتنبه غيره إلى أن يحتال في شيء يزيل تلك الضرورة وعلى هذا يقال في قوله:

* ..... كله لم أصنع*

إنه ضرورة، لأن الشاعر أراد رفع كله فلم يمكنه إلا على حذف الضمير وكذلك في سائر ما ذكر معه، وقد يقال فيه غير ذلك مما سطره الناس، وإذا كان كذلك فمن أين يلزم أن يكون المضطر ذاكرا للوجه المخرج عن الضرورة في الوقت أو بعده بحيث يقدر على استدراكه؟ هذا ما لا يمكن وإن فرضنا إمكانه في بعض الأحوال فلا يمكن في جميع الأحوال بل في بعضها، وذلك حين ينصرفون إلى التنقيح والتلوم على رياضته وهذا عند العرب قليل كزهير في حولياته، أما في حال الضيق كمواطن الخطابة والتهاجي وإجابة الخصوم والمواقف التي يفجأ فيها الارتجال من غير توسعة كحسان بن ثابت رضي الله عنه وغيره من الشعراء الذين جنوا في مواطن الارتجال جنونا، فمثل هذه الأحوال لا يمكن فيها ذلك.

والرابع: أنه قد تكون للمعنى عبارتان أو أكثر منها واحدة يلزم فيها ضرورة، إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ومفصحة عنه على أوفى ما يكون، والتي صح قياسها ليست بأبلغ في ذلك من الأخرى ولا مرية في أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة، إذ كان اعتناؤهم بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ، وقد بوب ابن جنى على هذا، وإذا ظهر لنا نحن في موضع أن مالا ضرورة فيه يصلح هنالك، فمن أين يعلم أنه مطابق لمقتضى الحال، أو

ص: 495

أنه أبلغ فيما قصد من المبالغة في البيان والإفصاح؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك في أكثر المواضع، والحاضر أبصر من الغائب، فلا تجويز لما لا تعلم حقيقته، وأيضا قد يظن بالعبارتين أنهما مترادفتان وليستا في الحقيقة كذلك، إما لوجود فرق لفظي وإما لوجود أمر معنوي، إما ضروري أو تكميلي، ويتبين مثل هذا للناظر في فصاحة القرآن، ومثله يتفق في الشعر بحيث لا ينبغي أن يؤتى إلا بعبارة الاضطرار دون الجارية على القياس، وقد تساهل ابن مالك عفا الله عنه في هذا الموضع حتى أهمل ما يعتبره أهل البيان، بل زاد في ذلك إلى أن أخرج البيت/ بتقديره عن معناه إلى معنى آخر، فقد تقدم قوله في:

*فإن لم تك المرآة أبدت وسامة*

وأنه يمكن أن يقول:

*فإن تكن المرآة أخفت وسامة*

وفي قوله:

*إذا لم تك الحاجات من همة الفتى*

أنه يمكنه أن يقول:

*إذا لم يكن من همة المرء ما نوى*

وهذا ما لا مزيد عليه في التعسف وتحريف المعنى وقلب المقصود

والخامس: أن العرب قد تأتي الكلام القياسي لعارض زحاف

ص: 496

فتستطيب المزاحف دون غيره أو بالعكس فتركب الضرورة لذلك، والعرب في ذلك على فرقتين:

فرقة وهم الجفاة الفصحاء فلا يبالون كسر البيت قصدهم في استقامة المعنى وإن أدى إلى زحاف مستثقل، إذا لم يخرج عن الوزن الطبيعي.

قال المازني: أما الجفاة الفصحاء فلا يبالون كسر البيت- يعني الزحاف- لاستنكارهم زيغ الإعراب.

قال ابن جنى: وهذا المذهب أقوى عندي لأن احتمال الزحاف أسهل من احتمال زيغ الإعراب، ومثال هذا قول امرئ القيس:

أعنى على برق أراه وميض

يضئ حبيا ف شماريخ بيض

فقد كان يمكن أن يحذف الياء من "شماريخ" وهو قبض "فعولن" قبل الضرب المحذوف في الطويل وهو الواجب عند الخليل والسلامة فيه ضعيفة، وحذف ياء "فعاليل" في الشعر جائز، إلا أنه حافظ على استقامة الإعراب ولم يبال بضعف الوزن، ومثل هذا كثير.

وفرقة حافظت على الوزن حتى ارتكبت من أجله زيغ الإعراب وارتكاب

ص: 497

الضرورة كقوله:

*أبيت على معاري واضحات*

وقد أمكنه أن يقول: معار واضحات، وكذلك:

*ولا ترضاها ولا تملق*

ممكن أن لو قال: "ولا ترضها" وكذلك قوله:

ص: 498

*ألم يأتيك والأنباء تنمى"

وعلى هذا المعنى حمل ابن جنى قول الراجز:

*فيدن منى تنهه المزاجر*

وهذا الباب واسع، فإذا كان هذا شأنهم فكيف تتحكم على العرب في كلامها ونلزمها ما لا يلزمها؟

وبالجملة فهذا المذهب من المذاهب الواهية التي يجب ألا يلتفت إليها وقد بينت هذه المسألة بما هو أوسع من هذا وأشفى للصدر في باب الضرائر من "أصول العربية" ولم أر أحدا من شيوخنا الحذاق ممن سمعت كلامه في المسألة يرتضى ما ارتضاه ابن مالك ولا يسلمه.

***

ثم أخذ في ذكر ما بقى له من الموصولات فقال:

أي كما، وأعربت ما لم تضف

وصدر وصلها ضمير أنحذف

وإنما فصلها مما قبلها لما تعلق بها من الأحكام التي انفردت بها عن سائر أخواتها من الإعراب في حال، والبناء في حال، والإضافة، وأن لها بحسب البناء تعلقا بمسألة حذف الضمير من الصلة فوصلها بها لأجل ذلك، وابتدأ ببيان كونها من الموصولات فقال:(أي كما) يعني أن أيا في هذا الباب مثل "ما" في جميع ما تقدم من الأحكام وهي الأربعة الأول كونها اسما، وكونها موصولة وكونها تقع على المفرد والمثنى والمجموع بلفظ

ص: 499

واحد، فتقول: أكرم أيهم خرج، أردت بأي واحدا كان أو اثنين أو أكثر، وكونها تقع/ على المذكر والمؤنث بلفظ واحد أيضا كقولك: اضرب أيهن فعلت كذا من غير أن تؤنث أي، وهذا على ما نقل في "التسهيل" هو الأكثر لقوله: وقد تؤنث بالهاء موافقة للتي، وما نقله صحيح.

قال سيبويه: وسألت الخليل- رحمه الله عن أيهن فلانة وأيتهن فلانة فقال إذا قلت: أي فهو بمنزلة كل؛ لأن كلا مذكر يقع للمذكر والمؤنث وبمنزلة بعض، قال وإذا قلت: أيتهن فإنك أردت أن تؤنث الاسم، كما أن بعض العرب فيما زعم الخليل- رحمه الله يقول: كلتهن، فظاهر هذا الكلام أن ترك التاء هو الشائع وأن عدم تركها قليل، وبهذا فسره السيرافي وقال: ربما أدخلوا علامة التأنيث عند إرادة المؤنث تأكيدا كما ذكر، ومنه: هند خير النساء وشرها، وربما قالوا: خيرة النساء وشرتها والباب التذكير وأنشد لحسان:

لعن الله شرة الدور كوثى

ورماها بالذل والإمعار

لست أعنى كوثى العراق ولكن

شرة الدور دار عبد الدار

وأنشد ابن خروف:

ص: 500

* تأبري يا خيرة الفسيل*

ولا يقال: إن كلام الناظم في الموصولة وكلام سيبويه في الاستفهامية وأين إحداهما من الأخرى لأنا نقول: "أي" في جميع مواقعها تجرى على أصل واحد، فالشاهد على أحد مواقعها شاهد على سائرها.

وإذا ثبت هذا فالناظم لم يعتبر تأنيث "أي" لقلته واعتمد ما هو الغالب فيها من جريانها مجرى "ما" كما قال: ومن أحكام "ما" التي أحال عليها الوصل بجملة أو شبهها من ظرف أو مجرور فتقول: اضرب أيهم أبوه منطلق وواضرب أيهم ضرب أخاك، واضرب أيهم عندك أو في الدار، كما تقول: اضرب من أبوه منطلق، ومن ضرب أخاك، ومن عندك، ومن في الدار، وكما يكون ذلك في "ما" أيضا.

ولما ختم الكلام على تقرير الموصولات ولم يزد دل على أنه لم ير رأي أهل الكوفة في زعمهم أن الأسماء الجواد بالألف واللام تكون موصولات فتقول: جاء الرجل قام أبوه، على تقدير الذي قام أبوه، واستدلوا على ذلك بنحو قوله:

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل

فقوله: لأنت: مبتدأ، خبره: البيت، وهو من موصول صلته أكرم أهله

ص: 501

وهو كثير، ومثله قول امرئ القيس:

ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبا

على جدد الصحراء من شد ملهب

وهذا عند البصريين غير ثابت، لأن الاسم الظاهر يدل على معنى مخصوص بنفسه وليس كالذي، لأنه لا يدل على معنى مخصوص إلا بصلة توضحه لإبهامه، وإذا لم يكن في معناه لم يجز أن يقوم مقامه، ولا حجة لهم فيما أنشدوا، لاحتمال أن يكون:"أكرم أهله" خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون "أكرم" في موضع الصفة للبيت، فيكون البيت مبهما، وإذا كان كذلك جاز وصفة بالنكرة، فالعرب تقول: ما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل، لأن المعنى معنى النكرة.

وأجاز/ أيضا ابن الأنباري أن يكون: أكرم أهله صلة لموصول محذوف لا للبيت كأنه قال: لأنت البيت الذي أكرم أهله، لكن الموصول حذف ضرورة، وهذا الوجه جار على مذهب الكوفيين، إذا يجيزون حذف الموصول دون صلته في غير ضرورة، ذكر ذلك عنهم ابن الأنباري في مسألة:(وقوع اسم الإشارة موصولا) من كتاب الإنصاف. وأما بيت امرئ القيس فيتخرج على أن يكون المجرور

ص: 502

في موضع الحال، أي: لسرعته وخروجه تراه في حين واحد على هاتين الحالتين فتكون الحال مركبة من الحالتين أو يكون في "مستنقع" حالا، و "لاحبا" مفعولا ثانيا لـ "ترى" على أنها علمية أو يكون في مستنقع حالا لترى، و "لاحبا" حالا يعمل فيها "مستنقع" ومجاز جميع ذلك لقرب ما بين الحالين.

ثم قال: الناظم: (وأعربت) الضمير عائد على أي، ونبه هنا على كونها خارجة عن أصلها الذي كان يجب لها من البناء كأخواتها، وذلك أنها وضعت وضع الحرف في دلالتها في أصل الوضع على معناه إن كانت شرطية أو استفهامية، أو في افتقارها الأصيل إذا كانت من هذا الباب، فلو لم ينبه على إعرابها لأوهم أنها مبنية كأخواتها، فقال:(وأعربت) والوجه المشهور في إعرابها الحمل على نظيرتها (بعض) ونقيضتها (كل) حكي لنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار- رحمه الله أن الشلوبين سأل في ذلك شيخه ابن ملكون- وكان مقدما على سؤاله على أحكام سائر طلبته عن ذلك، إذ كان فيهم ذا هيبة- فسأله لم أعربت "أي" من بين سائر أخواتها؟ ففكر فيها ثم قال له: حملا على النظير والنقيض، ولم يجبه بأكثر من هذا. ومعنى ذلك أنها حملت على بعض التي هي بمعناها، وعلى مقابلتها "كل" لأنها نقيضتها في المعنى، وقد يحمل الشيء على نقيضه، كما يحمل على نظيره. ألا تراهم عاملوا "نسي" معاملة "علم" فعلقوها عن منصوبها لما كانت نقيضة ما التعليق خاص به، ومن ذلك كثير. وقد علل إعراب "أي" بغير هذا، فقيل

ص: 503

إنها أعربت للزومها خاصة من خواص الأسماء وهي الإضافة، فعارضت شبه الحرف فرجوع بها الأصل من الإعراب، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره.

وقوله:

(

... وأعربت ما لم تضف

وصدر وصلها ضمير أنحذف)

"ما" مصدرية ظرفية، والواو في (وصدر وصلها) واو الحال، والجملة في موضع نصب على الحال من ضمير (تضف) وهو ضمير أي كأنه قال: إذا عدمت الإضافة المقترنة بكون صلتها مصدرة بضمير محذوف فهنا تكون معربة، فإذا قد اشتملت حالة إعرابها على صور تنتظمها صورتان:

إحداهما: إذا لم تضف أي البتة كان صدر وصلها ضميرا محذوفا أولا، فإذا قلت: اضرب أيا أكرمته، أو اضرب أيا في الدار، أو اضرب أيا عندك، أو اضرب أيا هو قائم، أو اضرب أيا قائم، فلابد من الإعراب في هذه المسائل، ووجه ذلك أن سبب الإعراب فيا إما للإضافة فإذا حذف المضاف إليه ظهر بذلك تمكنها في الإضافة حتى استغنت بمعناها على لفظها فهي في هذه الحال أقعد في الإضافة. وإما الحمل على كل وبعض فكذلك أيضا، حيث لحقها التنوين عوضا، عن الإضافة ككل وبعض، فبذلك تمكن الشبه بهما.

والثانية: إذا لم يكن صدر صلتها ضميرا أنحذف كانت مضافا أو غير مضافة. فإذا قلت: اضرب أيهم في الدار أو اضرب أيهم عندك أو

ص: 504

اضرب أيهم قام أبوه أو اضرب أيهم هو قائم، فلابد من الإعراب أيضا، ووجه ذلك أن المضافة إليه أي لم يتنزل منزلة جزء من الصلة إذ لم يحذف منها شيء فلم تسلب سبب الإعراب وهو الإضافة، وأيضا فلم تخالف سائر أخواتها بحذف الضمير المبتدأ من صلتها، فلم تستحق بناء لأجل ذلك، فهاتان الصورتان بينتا مراده بقوله:(ما لم تضف وصدر وصلها ضمير أنحذف)، ولم يبق من صور المسألة إلا صورة واحدة وهي أن تكون "أي" مضافة وصدر وصلها ضمير أنحذف وهي التي نفاها الناظم بحرف "لم" عن أن تكون معربة، ففهم أنها هنالك عنده فتقول: اضرب أيهم قائم وأكرم أيهم أفضل، وفي القرآن الكريم:{ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} ، وأنشد أبو عمرو الشيباني:

إذا ما أتيت بني مالك

فسلم على أيهم أفضل

وما ذهب إليه من البناء هو مذهب سيبويه ومن قال

ص: 505

بقوله ووجه البناء فيها عنده أنه لما حذف الضمير المبتدأ من صلتها وكان ذلك فيها حسنا بخلاف سائر أخواتها فإنها لا يحسن فيها ذلك فلا تقول: جاءني الذي أفضل إلا نادرا، وتقول: اضرب أيهم أفضل في شائع الكلام خالفوا بإعرابها حيث استعملوها على غير ما استعملوا عليه سائر أخواتها، كما أنهم قالوا: يا الله، فلم يحذفوا ألفه لما خالف في استعمالها سائر ما فيه الألف واللام، وعلل ذلك غيره أن حذف شطر صلتها لم يحسن فيها إلا تنزيل ما أضيفت (إليه بمنزلة) ما حذف، وذلك يستلزم حينئذ تنزلها منزلة غير مضاف لفظا ولا نية، وإنما أعربت لإضافتها، فإذا صارت بمنزلة غير المضاف ضعف موجب الإعراب فرجعت إلى البناء الذي هو أصلها، فعلى هذا الوجه موجب بنائها هو شبه الحرف الذي استقر لها أولا، فيرجع إلى

ص: 506

الافتقار الأصيل. وذهب الخليل ويونس إلى أن أيا على حالها من الإعراب ولا بناء فيها البتة وما جاء مما ظاهره البناء فهو على غير البناء، فأما الخليل فحمل الآية ونحوها على الحكاية.

فإذا قلت: اضرب أيهم أفضل، فهو على معنى اضرب الذي يقال له: أيهم أفضل، وشبهه بقول الأخطل:

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم

وكان الأصل أن يقول: "فأبيت لا حرجا ولا محروما" إلا أنه حمله على معنى فأبيت يقال في: لا حرج ولا محروم أو يكون لا حرج ولا محروم مبتدأ خبره محذوف أي بالمكان الذي أنا فيه والجملة خبر "أبيت"، وهي حكاية أيضا، واستبعده سيبويه، لأن الحكاية في مثل هذا إنما تجوز مع التسمية وليس هذا منها، أو في الشعر كقوله:

*وكانت كليب خامري أم عامر*

قال سيبويه: ولو اتسع هذا لجاز أن تقول: اضرب الفاسق الخبيث، تريد: الذي يقال له: الفاسق الخبيث.

ص: 507

وأما يونس: فحمل ذلك على تعليق الفعل، فإذا قلت: اضرب أيهم أفضل/ فهو على أن علق اضرب عن العمل بمنزلة تعليق "اشهد" في قوله: أشهد أنك لمنطلق.

قال سيبويه: لا يشبه أشهد أنك لمنطلق، قال في الشرقية: لأن ما بعد أشهد كلام مستغن، ورد ابن مالك عليهما معا بقوله:

*فسلم على أيهم أفضل*

قال: لأن حرف الجر لا يعلق عن مجرورة ولا يضمر قول بينهما، وإذا بطل التعليق وإضمار القول تعين البناء، إذ لا قائل، بخلاف ذلك، وفي ضمن هذا الكلام جواز حذف الضمير العائد على "أي" من صلتها إذا كان صدرا فيها، لأنه بنى حكم البناء على ذلك وأثبته، فدل على أن حذف هذا الضمير ثابت أيضا، وقد تقدم أن حذف الضمير هو السبب في بناء أي، فالحذف إذا في القوى في درجة البناء، والبناء مشهور في كلام العرب، ليس من الشاذ ولا القليل، فكذلك حذف الضمير ليس من القليل أيضا. وقد تعين من سياق كلامه وتقسيمه أن هذا الضمير المحذوف ضمير رفع، لا ضمير نصب ولا جر، من جهة أنه تكلم بعد على ضمير النصب وضمير الجر، وهنا تكلم على ضمير لم يعينه، فدلت قوة التقسيم على أنه ضمير رفع والضمير العائد على الموصول قد يكون ضمير رفع، وقد يكون ضمير نصب، وقد يكون ضمير جر، وكل واحد من هذه الأقسام قد يجوز حذفه وقد يمتنع، فلا بد من ذكر

ص: 508

مواضع جواز الحذف وتمييزها عن غيرها، فأما ضمير الرفع وهو الذي أشار إليه فيجوز حذفه إذا وقع صدر الصلة ولا يكون كذلك إلا مبتدأ نحو: اضرب أيهم هو قائم؛ وهذا في أي، وأما غيرها فسيذكرها، فإذا حذفت الضمير قلت: اضرب أيهم قائم، وقد تقدم وجه البناء، وحصل من كلامه هنا حكمان: أحدهما: جواز الحذف مطلقا كانت "أي" مضافة أم لا، إذا أعربت.

والثاني: لأنه حذف و "أي" مضافة فلابد من البناء على اللغة الشهري وأما الحكم الثاني فظاهر، وأما الأول ففيه نظر من جهة إطلاق الجواز، إذ الجواز الحسن المطلق إنما هو مع إضافة أي، وأما مع فقد الإضافة فلا، بل هو من قبيل النزر القليل، كالحذف في قولك: مررت بالذي قائم. قال ابن الحاج: وتقول في أي المضافة: اضرب أيهم هو أفضل تعرب وتثبت الضمير. قال: ولا يجوز حذفه إلا كما يجوز في الذي، يعني إذا قلت: اضرب الذي أفضل، ومثل ذلك قال في غير المضافة. قال: فالموضع الذي يحذف فيه الضمير من أي هو حال بنائها خاصة، أعني الحذف الذي لا ضعف فيه وهو خاص بها من بين أخواتها وما عدا ذلك من مواضعها لا يجوز حذف الضمير فيه إلا كما يجوز من سائر أخواتها، وكذلك زعم أن من أعرب مطلقا فليس حذف الضمير عنده إلا كحذفه من غيرها، واستشهد على ما قال بكلام النحويين، فذكر الأخفش في "الأوسط" أن كل موضع تقع فيه أي ويقبح فيه من والذي، فأي فيه مضموم أبدا، ثم قال: وإن شئت نصبت هذا وقلت: هو

ص: 509

بمنزلة اضرب الذي أفضل لو كان يتكلم به، وقال سيبويه بعد ما تكلم على الآية: ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد، وأما الذين نصبوه فقاسوه وقالوا: هو بمنزلة اضرب الذين أفضل، فنص كما ترى على التسوية بينهما. وقال الزجاج في الآية والنصب حسن، وإن كنت قد حذفت هو؛ لأن هو قد يجوز حذفها، فقد قرئ {تماما على أحسن} ، وقال سيبويه في اضرب أيا أفضل ويقيس على الذي يعني في حذف/ الضمير، فجعل حكم أي حكم الذي. وقال الزجاج أيضا في "ألمنتخب" وهو الذي اختصر منه أبو القاسم كتاب "الجمل": إذا وصلت أيا باسم واحد بنيتها لأنك وصلتها بما لا يوصل به الذي إلا مستكرها قال: ومن أجاز ذلك قال ابن الحاج: يعني في الذي أعرب أيا هنا فقال: لأقصدن أيهم قائم، وعلى هذا قرأ بعض القراء:{ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد} بالنصب. هذا ما ذكر ابن الحاج ونقل عن غيره وقال: على هذا ينبغي أن يحمل كلام النحويين في هذا إذا جاء شيء منه، واعترض على نفسه بقول سيبويه في قراءة النصب حين حكاها عن الكوفيين، وهي لغة جيدة فاستجداها ولم يجعلها ضعيفة، والضمير محذوف، وهي لغة جيدة فاستجادها ولم يجعلها ضعيفة، والضمير محذوف، وأجاب عن ذلك بأنه يعني نصب أي وإعرابها لا حذف الضمير. قال: فكان إبقاء أي على إعرابها مع حذف

ص: 510

الضمير يتصف بالجودة بالإضافة إلى بنائها الذي يبعد توجيهه ويقل في السماع وجوده، حتى إن الكوفيين وهم أهل السماع أنكروه وقال الجرمي: خرجت من الخندق- يعني خندق البصرة- حتى (صرت) إلى مكة لم أسمع أحدا يقول: اضرب أيهم فضل، كلهم ينصب. قال: أو نقول: إنما جاز لسيبويه أن يصف ذلك بالجودة مع حذف الضمير لما فيه من الطول هذا ما قال. وهو جار على ظاهر كلام سيبويه فإذا تقرر هذا فكلام الناظم نأى عن طريقة النحويين حيث أطلق جواز حذف المبتدأ من صلة أي ولم يفصل الأمر فيه كما فصله في غير أي، إلى ما كان فيه الوصل مستطالا وإلى ما لا فهو إذا معترض، والاعتذار عنه أن هؤلاء المتأخرين ظاهر كلامهم عدم التفصيل في صلة أي خصوصا، فإن الصلة عندهم قد طالت بالمضاف إليه أي، وذكر ابن خروف في "شرح الكتاب" أن أيا إذا حذف ضميرها فيها وجهان، فبعضهم يبنى وهو الأكثر وبعضهم يعرب، وظاهر هذا أن إعرابها مع حذف الضمير ليس على حد "ما بعوضة"، وأيضا إذا كان طول الوصل هو المحسن فقد لزم أيا للطول، فما الحاجة إلى التفصيل مع أن الذي عنده إذا طالت صلتها تلحق بأي في حسن الحذف، وكذلك "من" و "ما" ونحوها.

وقد أجاز ابن الحاج أن تكون استجادة سيبويه النصب مع الحذف للطول الذي في صلة أي، فهو إذا موافق له لا مخالف، فهو إذا موافق له لا مخالف، ويتفق عند ذلك كلامه وكلام

ص: 511

من نقل عنه ابن الحاج تلك الطريقة والله أعلم.

وهنا مسألتان:

إحداهما: أن بناء أي حيث بنيت إنما يكون على الضم، وليس في كلام الناظم ما يشعر بذلك، وإنما أتى بما يفهم منه البناء مطلقا من غير أن يعين خصوص الحركة المبنى عليها، وكان من حقه ذلك ولا جواب لي على هذا الاعتراض.

والثانية: أن ظاهر كلامه أن أيا إذا لم تضف فهي باقية على موصوليتها، وهو ظاهر كلام غيره أيضا، وزعم ابن خروف أنها إذا قطعت عن الإضافة نكرة موصوفة لا موصولة، وحمل كلام سيبويه على ذلك وقال: إنما هي عنده نكرة موصوفة بمنزلة/ "من" على القياس، فنصب وجر في موضع النصب والجر. قال: ولو جعلها موصولة للزم البناء لما ذكر، ثم حكي عن شيخه أنه قال: ولا أمنع أن يدخل التنوين في المعرفة إذا كانت بلفظ النكرة من حيث لم يوصف كل بمعرفة قال: وقد يقول القائل: إن أيا في الاستفهام وبمعنى الذي قد تكون معرفة ونكرة، وان التنوين فيه بدل من الإضافة في اللفظ فيكون كل وبعض، وما قاله ابن خروف خلاف ظاهر سيبويه فتأمله في موضعه، فإن الظاهر أنه لا دليل فيه على ما زعمه ابن خروف وثبت ما ظهر من الناظم وغيره.

***

ص: 512

ثم ذكر في أي وجها آخر فقال:

وبعضهم أعرب مطلقا وفي

ذا الحذف أيا غير أي يقتفى

إن يستطل وصل وإن لم يستطل

فالحذف نزر وأبوا أن يختزل

إن صلح الباقي لوصل مكمل

والحذف عندهم كثير منجلى

في عائد متصل إن انتصب

بفعل أو وصف كمن نرجو يهب

الضمير في بعضهم يحتمل بحسب اللفظ وجهين:

أحدهما: - وهو الظاهر من مقصده- أن يكون عائدا على العرب، فيعنى أن بعض العرب أعرب "أيا" على الإطلاق، يريد سواء حذف المبتدأ من صلتها، أم لا، فالإطلاق مشار به إلى نفي التقييد المتقدم في اللغة الأخرى، فتقول: على هذا اضرب أيهم أفضل، وامرر بأيهم هو أفضل وما أشبهه ذلك، ولما حكي سيبويه أن ناسا يقرءون، {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} يعني بالنصب قال: وهي لغة جيدة فأثبتها لغة لبعض العرب.

قال السيرافي: الذي قرأه منهم معاذ بن مسلم الهراء وهو من

ص: 513

رؤسائهم في النحو. قال: وروى أيضا عن هارون القارى. وقراءة النصب هي القياس والأصل والاستعمال في أي الموصولة والشرطية والاستفهامية.

قال سيبويه: وسألت الخليل- رحمه الله عن قولهم: اضرب أيهم أفضل، فقال: القياس النصب، كما تقول: اضرب الذي أفضل، لأن أيا في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة "الذي"، كما أن "من" في غير الاستفهام والجزار بمنزلة "الذي".

والثاني: أن يريد إعادة الضمير على النحويين لا على العرب، كأنه قال: إن بعض النحويين أعرب "أيا" مطلقا ولم يحكم ببنائها البتة في موضع من المواضع، وهذا الخلاف يتصور على مذهبين:

أحدهما: مذهب الكوفيين المانعين من ضم أي على الإطلاق إلا في موضع الرفع حذفوا العائد من الصلة أم لا، وذلك أنهم لم يسمعوا البناء فيها وإن حذف المبتدأ من صلتها، وأيد ذل ما روى عن الجرمي قال: خرجت من

ص: 514

الخندق- يعني خندق البصرة- حتى (صرت) إلى (مكة) لم أسمع أحدا يقول: اضرب أيهم أفضل بل كلهم ينصب. وأما الآية فتأولوها/ على ما يوجب رفع أيهم بالابتداء وأشد خبره.

فقال الكسائي والفراء إن "لننزعن" مكتفية بمن كقوله: قتلت من كل قبيلة وأكلت من كل طعام، ولا تذكر منصوبا اكتفاء بالمجرور، وجاء قوله:"أيهم أشد" مبتدأ وخبرا، وقد قيل: إن الطالب لأيهم قوله: "شيعة" لما فيه من معنى الفعل، وكأن المعنى من كل قوم شايعوا لينظروا أيهم أشد، لأن المشايعة في أيهم أشد تقتضى النظر الذي يعلق فعله عن الاستفهام وهذا كله تكلف والذي يرد عليهم أمران:

الأول: حكاية سيبويه الضم عن العرب، لأنه قال: وسألته عن قولهم: اضرب أيهم أفضل وأجابه بالحكاية، وذلك دليل على أنه من كلامهم، وقال: أيضا ومن قال: امرر على أيهم أفضل قال: امرر بأيهم أفضل.

والثاني: أنه إن تأتى للكوفيين التأويل في الآية على ظهور التعسف في ذلك، فلا يتأتى لهم مع حرف الجر كالمثال الذي حكاه سيبويه آنفا وقاس عليه وأيضا ما حكي أبو عمرو الشيباني عن أحد من يأخذ عنه اللغة أنه أنشد:

إذا ما أتيت بني مالك

فسلم على أيهم أفضل

ص: 515

والمذهب الثاني: مذهب الخليل ويونس فإن حاصل مذهبهما أنهما لا يثبتان في الموصولات أيا مبنية، بل يتأولان ما جاء من ذلك ويحملانه على أنه أيا فيه استفهامية لا موصولة، إما محكية بالقول على رأي الخليل، وإما على التعليق عند يونس.

فإن قيل: فالظاهر إذا أن هذا المذهب متحد مع مذهب الكوفيين؛ لأن الجميع لا يقولون بالبناء.

فالجواب: أن الأمر كذلك إلا أن الفرق بين المذهبين من جهة أخرى، وهي أن الكوفيين على ما يفهم من النقل عنهم أنهم لا يرفعون "أيا" على ذينك التأويلين، وإنما قصدهم دفع ما جاء من ذل على غير الإعراب الصحيح، فلا يقولون قياسا على الآية: انزع أيهم أفضل، ولا اضرب من الشيع أيهم أفضل، ولا ما كان نحو ذلك:

وأما الخليل ويونس فإنهما يقيسان على ما جاء من ذلك ويتأولانه على ما تأولا عليه المسموع. ألا ترى أن سيبويه حكي عنهما القياس في غير موضع السماع فقال: ومن قولهما: اضرب أي أفضل. يريد: على مقتضى تأويلهما، ومن هنا نسب ليونس أن التعليق في غير أفعال القلوب جائز مطلقا، فهذا فرق ما بينهما، فلأجل ذلك حكيا مذهبين مع اتفاقهما على إنكار البناء، وعلى أن أيا في ذلك المسموع استفهامية والله أعلم.

ثم قال: (وفي ذا الحذف أيا غير أي يقتفى إن يستطل وصل)(أيا) مفعول بقوله: (يقتفى) و (غير) مبتدأ خبره (يقتفى) وفي هذا البيت

ص: 516

وجهان من الإعراب ممنوعان عند النحويين أحدهما قوله: (إن يستطل وصل) فأتى بالمضارع مصاحبا لأداة الشرط، والجواب مقدم وهذا غير جائز إلا في الشعر كقوله أنشده أبو عبيد وغيره:

فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت

فطعنة لا غس ولا بمعمر

والثاني: تقديمه معمول الخبر على المبتدأ في قوله: (وفي/ ذا الحذف أيا غير أي يقتفى) فقدم المجرور والمنصوب والعامل فيهما (يقتفى) وهو خبر المبتدأ الذي هو (غير) والقاعدة أن المعمول لا يتقدم إلا حيث يصح تقدم العامل، والعامل هنا لا يتقدم، لأنه فعل فاعله ضمير المبتدأ، وقد نص هو على امتناع هذا والاعتذار عن الأول أنه اضطر فاستباح ما يباح مثله في الضرورة، وعن الثاني قد تقدم قبل في قوله:(ونحو ضمنت إياهم الأرض الضرورة اقتضت) ويقتفى معناه يتبع. يقال: اقتفين أثره وتقفيته وقفوته، والمصدر من هذا الأخير قفوا وقفوا وقفيت على أثره بفلان أي: أتبعته إياه. وأستطيل الشيء يستطال، بمعنى أنه وجد طويلا فاستغفل هنا لمعنى إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولك: استحسنته واستقبحته واستصغرته واستكثرته

ص: 517

وذلك إذا وجدته حسنا أو قبيحا أو صغيرا أو فظيعا أو كثيرا، ويريد أن ما سوى "أي" من الموصولات التي توصل بالجمل يتبع أيا في الحذف المتقدم وهو الذي أشار إلى جوازه من غير ضعف ولا قبح، لكن بشرط أن تكون الصلة طويلة، فإن أيا إنما حسن الحذف المذكور فيها بسبب طول صلتها بما لزمها من الإضافة، فإذا وجد سبب الحسن في غيرها جرى فيه ما جرى فيها.

فإذا قلت: أنا الذي هو ضارب زيدا غدا، حسن هناك حذف "هو" فتقول: أنا الذي ضارب زيدا غد، وعليه حكاية الخليل: ما أنا بالذي قائل لك سوءا أراد بالذي هو قائل لك شيئا، ومنه ما قال الأعشى:

فأنت الجواد وأنت الذي

إذا ما النفوس ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

ء تضرب منها (النساء) النحورا

أراد: وأنت الذي هو جدير بذا فطالت الصلة بمعمول الخبر وبالظرف وما بعده وهذا كله في الضمير إذا كان مبتدأ على حد ما كان في أي، يدل على ذلك قوله:(وفي ذا الحذف) أي: المعين الذكر في أي وذلك قوله: (وصدر وصلها ضمير أنحذف) وهو شرط من الشروط اللازمة في

ص: 518

الجميع، فإنه إن لم يكن كذلك لم يجز حذفه وذلك إذا كان فاعلا أو ما أشبه الفاعل وهو المفعول الذي لم يسم فاعله أو اسم "كان" وأخواتها أو "إن" أو "ما" وأخواتهما أولا أو ما أشبه ذلك، فمثل هذا لا يجوز حذفه من صلة "أي" فكذلك حذفه من صلة غيرها، ويزيد غير أي شرطا ثانيا وهو طول الصلة كما ذكر، وإن لم تطل الصلة، فلا يحسن الحذف بل يكون نادرا وذلك قوله:(وإن لم يستطل فالحذف نزر) يعني أن الوصل إن لم يكن مستطالا فحذف الضمير الواقع مبتدأ في الصلة قليل، كما تقول: جاءني الذي قائم، أي الذي هو قائم، ومنه قراءة ابن أبي عبلة والضحاك ورؤية بن العجاج:{إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة} الآية برفع (بعوضة) أي: الذي هو بعوضة، وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق:{تماما على الذي أحسن} ، أي: الذي هو أحسن وهذا أمثل شيئا مما قبله لأن أفعل طالب في المعنى للمضاف/ إليه فأكسب الوصل بذلك طولا. وقرأ أبو رجاء: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} بكسر لام "لما" وتخفيف الميم، أي: الذي هو متاع الحياة الدنيا، ومنه

ص: 519

في أحد الوجهين قوله- أنشده ابن جنى-:

لم أر مثل الفتيان في غبن

الأيام ينسون ما عواقبها

وهذا كله قليل، فمن هنالك قال الناظم:(وإن لم يستطل فالحذف نزر) والنزر القليل التافه وقد نزر الشيء- بالضم- نزارة، وعطاء منزور، أي قليل.

ويرد على الناظم في هذه المسألة سؤالان:

أحدهما: أنه أطلق القول بجواز الحذف فيما إذا طالت الصلة في غير أي ولم يقيد ذلك بقلة فاقتضى أن الأمر في ذل كأي، وليس ذلك كذلك، بل الذي عليه النحويون أن الصلة إذا طالت فالحذف ضعيف والمشهور هو الإثبات.

قال سيبويه: وزعم الخليل- رحمه الله أنه سمع غربيا يقول: "ما أنا بالذي قائل لك شيئا" قال: وهذه قليلة هكذا ثبت في النسخة الشرقية قال: ومن تكلم بهذا فقياسه اضرب أيهم قائل لك شيئا. قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: إذا طال الكلام فهو (أمثل قليل) كأن طوله عوض من ترك هو.

ص: 520

قال: وقل من يتكلم بذلك، يعني وقل من يتكلم بنحو ما أنا بالذي قائل لك شيئا وقوله: فهو (أمثل قليلا)، يعني أن مررت بالذي منطلق دون درجة الطويل وليس يبلغ ذلك أن يكون أحدهما ممتنعا والآخر سائغا جائزا، بل كل ما يقول العالم فيه أنه أمثل من الممتنع قليلا فإنما يقصد به توهين الضعف وتهوين القبح لا التسويغ المطلق وعلى هذا كلام النحويين، والحاصل من كلامهم أن حذف المبتدأ من صلة غير أي قليل ضعيف على الإطلاق، إلا أن الصلة إذا طالت كان أسهل، وإنما أطلق القول بالجواز ابن عصفور ورد عليه الناس، فإذا كان الناظم متبعا له فيما اعترض عليه فيه توجه الرد عليه أيضا.

والثاني: أن قوله: (فالحذف نزر) أي: قليل، يقتضى القياس على قلة على طريقته المنبه عليها، وقد منع غيره هذا القياس وجعله من الشاذ الذي لا يقاس عليه، وممن ظهر منه المنع ابن جنى قال في:"سر الصناعة" إذا طال الكلام جاز فيه من الحذف ما لا يجوز فيه إذا قصر. ألا ترى إلى ما حكاه الخليل عنهم من قولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئا.

ولو قلت: ما أنا بالذي قائم لقبح، ثم تأويل:"ينسون ما عواقبها" على أن "ما" استفهامية وجعله أوجه من الموصولة لقلة {تماما على الذي أحسن} .

ص: 521

وصرح ابن عصفور بعدم الجواز أيضا فكان من حق الناظم أن يأتي بلفظ لا يدل على القياس، والجواب عن الأول: أن النحويين إن ظهر منهم تضعيف الحذف مع الطول فليس عنده بضعيف، بل هو عنده جائز كأي والذي جرأه على هذا الرأي مجيئه في القرآن كما تقدم في الآيات المذكورة، وأيضا قد جاء على قراءة الجماعة وذلك قوله تعالى:"وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" فإنه على تقدير: وهو الذي هو في السماء إله وفي الأرض/ إله، وفي حرف/ أبي: وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله، وهو كالأول، فالصلة هنا لما طالت بالمجرور، وكان آتيا في القرآن في مواضع كان الأولى القول بالجواز الحسن وعادة الناظم القياس على ما جاء في القرآن والاعتماد عليه وعدم تضعيفه، وسيأتي من ذلك موضع ينبه عليها إذا تصدت بحول الله ومشيئته وهي قاعدة من قواعده التي استبد بها دون غيره وللتنبيه على ما فيها موضع غير هذا.

والجواب عن الثاني أن كلام الجمهور على أنه من قلته منقاس فقد قاس سيبويه على ما جاء منه في مواضع في باب "أي" وإن نص على قبحه وقلته وذكر في باب "من وما" شيئا من ذلك وجعل قوله.

*فكفى بنا فضلا على من غيرنا*

فرفع "غير" أجود من الجر، والجر جائز في الكلام على أن

ص: 522

تكون "من" نكرة موصوفة، فالرفع على أن "من" موصولة مع حذف المبتدأ من صلتها أولى من الجواز ونص الفراء أيضا على مثل ما نص عليه سيبويه وأجاز هو والزجاج الرفع في قوله:"مثلا ما بعوضة"، قال الزجاج: الرفع في بعوضة جائز في الإعراب ولا أحفظ من قرأ به.

قال: ومن قرأ: {تماما على الذي أحسن} جاز أن يقرأ: "ما بعوضة" ولكنه في الذي أقوى؛ لأنه أطول. ونص ابن السراج على ذلك أيضا ولا يكاد يخالف في هذا أحد، فالذي ينبغي إذا ورد في هذه المسألة عن أحد من النحويين عدم الجواز أنه إنما يريد نفى الجواز الحسن لا نفي الجواز مطلقا، وكلام ابن جنى محتمل يصح حمله على هذا، وأما كلام ابن عصفور فنص في المخالفة للجمهور فلا اعتبار به والله أعلم.

واعلم أن المؤلف في "التسهيل" وشرحه نقل عن الكوفيين عدم اعتبار هذا الشرط الثاني للحذف وهو طول الصلة، بل أطلقوا الجواز في غير أي على حده في أي، فإن كان ما نقل على ظاهره من التسوية في رتبة الحذف بين أي وغيرها طالت الصلة أو لا، فما أورده هنا من التفصيل ظاهر في

ص: 523

مخالفتهم، والسماع مع البصريين لقلة الحذف عند العرب مع غير أي كما تقدم، وإن أراد أنهم يطلقون القياس في الجميع فلا مخالفة بينهم وبين البصريين؛ لأن البصريين يقولون بالقياس في أي وغيرها، لكن الجواز عندهم على مراتب في الحسن والقبح، فليحقق النقل عن الكوفيين في المسألة.

ثم أتى بشرط ثالث عام في أي وغيرها فقال: (وأبوا أن يختزل إن صلح الباقي لوصل مكمل) الضمير في أبوا عائد على النحويين، يعني أن النحويين امتنعوا من أن يحذف الضمير المرفوع المبتدأ إن كان ما بقى من الصلة صالحا للاستقلال والاكتفاء به في الوصل، فتكون الصلة به كاملة، والذي تكون فيه الصلة كاملة الظرف والمجرور والجملة اسمية أو فعلية، فإذا وقع شيء من ذلك خبرا للضمير المبتدأ لم يجز حذفه فتقول: أعجبني الذي هو في الدار والذي هو عندك والذي هو أبوه قائم والذي هو يقوم، فلو حذفت الضمير هنا فقلت: أعجبني الذي في الدار والذي هو عندك والذي هو أبوه قائم والذي هو يقوم، فلو حذفت الضمير هنا فقلت: أعجبني الذي في الدار والذي عندك والذي أبوه قائم والذي هو يقوم، فلو حذفت الضمير هنا فقلت: أعجبني الذي في الدار والذي عندك والذي أبوه قائم والذي أبوه يقوم كان/ ما بقى صالحا لأن يكون صلة تامة، ولم يبق دليل على المحذوف فلا يجوز الحذف لذلك، وكذلك إذا قلت: أعجبني الذي هو وجهه حسن، فجعلت وجهه بدلا من هو، وكذلك أعجبني الذي هو ماله كثير، والذي هو رجله مريضة وما أشبه ذلك من الصلات واقتضى هذا الشرط مفهوما مقصودا له، وهو أنه إذا لم يصلح الباقي لوصل مكمل لم يمتنع الحذف كما تقدم من الأمثلة في أي

ص: 524

ونحوها نحو: اضرب أيهم أفضل واضرب الذي ضارب أخاه عنده واضرب الذي قائم، فإن هذه الأشياء الباقية من الصلة لا تصلح لأن تكون صلات مستقلة فجاز الحذف للدلالة على المحذوف وهو ظاهر إلا أن إطلاقه معترض بمسائل يكون الوصل فيها إذا حذف منه الضمير المذكور لا يصلح الاستقلال مع أنه غير جائز، فمن ذلك الضمير إذا أبدل منه بدل الشيء من الشيء نحو أعجبني الذي هو عمرو منطلق، فلا يجوز حذف الضمير هنا وإن كان الباقي لا يصلح للوصل المكمل لما كان الضمير غير مدلول عليه، ومن ذلك أن يعطف على الضمير نحو: أعجبني الذي هو وعبد الله قائمان، فلا يجوز هنا أن تقول: الذي وعبد الله قائمان، مع أن ما بقى لا يصلح لوصل مكمل إذ لا يصلح العطف على معدوم، ومن ذلك أن يؤكد الضمير أيضا نحو: أعجبني الذي هو نفسه منطلق، فلا تقول: الذي نفسه منطلق، لأن حذف المؤكد مع بقاء المؤكد نقض للغرض، ومن هنا حكى ابن جنى عن البصريين منع الذي ضربت نفسه زيد، تريد ضربته وسينبه عليه إن شاء الله.

وقد يجاب عن هذا بأن المسألة الأولى إذا حذف منها الضمير لم يدل عليه دليل، وإذا كان غير مدلول عليه عريت الصلة من ضمير عائد على الموصول وهو قد قال قبل:(على ضمير لائق مشتملة) فاشترط وجود الضمير حقيقة أو حكما ومسألتنا ليست من ذلك، إذ ليس فيها ضمير منطوق به ولا مقدر، إذ لا دليل عليه وإلا، فلو جاز تقدير ما لا دليل عليه لجاز أن تقول في الكلام: أعجبني الذي أخوك منطلق، والعرب لا تقول مثل هذا البتة، وأما مسألة العطف فقد أجاز ابن السراج أن تقول: الذي وعبد الله ضاربان لي

ص: 525

أخوك، لكنه استقبحه من جهة العطف على معدوم، وأجازه الفراء مطلقا ونص الرماني أيضا على الجواز على الجملة، وإذا كان جائزا عند بعضهم لم يتمكن الاعتراض به، وليس في المنع كالذي قبله لأن دليل المحذوف هنا موجود، وأما مسألة التوكيد فقد يقال: إنها مثل مسألة العطف وهو نص الرماني، وأجازه الفراء في التوكيد بأجمعين أيضا.

وقال الرماني: واختلفوا في النسق على المحذوف في الصلة والتأكيد كقولك: الذي نفسه قائم زيد والذي وعمرو قائمان زيد، فأجازه الأخفش ونفاه ثعلب وابن السراج، فمن أجازه ذهب إلى أن المحذوف قد علم واطرد به الباب فجاز فيه القياس لأجل الاطراد، ومن نفاه ذهب إلى أن النسق نظير التثنية، فلا يصح في حقيقة المعنى حتى يكون اثنان فأما واحد فيقدر تقدير اثنين (فلا يجئ منه) تثنية إذ أحدهما/ مقدر والآخر محقق، وكذلك لا يؤكد، لأنه بالذكر أحق، هذا ما قاله (قد يقال: إن الأول- وهو الجواز- أولى)، لأن دليل الحذف موجود وهو نفسه، إذ هو لازم للتبعية فلا يلي العوامل فصار في درجة حرف العطف اللهم إلا أن يكون مثل كل وكلا أو نحوهما مما يصح ولايته العوامل. فهنا لا يجوز الحذف إذ يصلح الباقي لوصل مكمل نحو: الذين هم كلهم قائمون بنو تميم، فلا يجوز هنا حذف "هم" لما ذكر، فهذا مما يتمشى عذرا للناظم والسؤال وارد عليه في "التسهيل" أيضا، ويختزل معناه ويحذف. قال الجوهري: الاختزال: الاقتطاع.

ص: 526

يقال: اختزلته عن القوم إذا اقتطعته عنهم.

وقال صاحب المحكم: الاختزال: الحذف، استعمله سيبويه كثيرا ولا أعلم ذلك عن غيره.

ولما أتم الكلام على حكم الحذف في الضمير المرفوع شرع بعد ذلك في الضمير المنصوب بالنسبة إلى حكم الحذف فقال: "والحذف عندهم كثير منجلى في عائد متصل) إلى آخره، يعني أن حذف الضمير العائد من الصلة على الموصول كثير في كلام العرب بحيث يصلح القياس عليه، (منجلى) أي: ظاهر المعنى مدلول عليه إذا كان منصوبا لكن بشرطين:

أحدهما: أن يكون متصلا، يعني أن يكون من الضمائر المتصلة لا من المنفصلة فإنه إن كان منفصلا لم يجز حذفه، كما إذا قلت: أعجبني الذي إياه ضربت فلا يحذف إياه، لأنه يصير غير منجل لإيهام كونه متصلا، لو قلت فيه: أعجبني الذي ضربت، إذا يوهم أنك أردت ضربته، وكذلك لو قلت: أعجبني الذي ما أكرمت إلا إياه، لم يصلح هذا الحذف البتة لبناء الكلام على ذكره.

والشرط الثاني: أن يكون منصوبا بفعل أو صفة، فإن كان منصوبا بغير ذلك لم يجز حذفه كالمنصوب بإن وأخواتها كقولك: أعجبني الذي إنه قائم أو الذي كأنه أسد وما أشبه ذلك، لأن "إن" وأخواتها لا تستغنى عن معموليها كسائر الحروف، فإذا اجتمع الشرطان فيقتضى كلام الناظم إطلاق جواز

ص: 527

الحذف نحو ما مثل به في الفعل من قوله: (كمن نرجو يهب) تقديره: من نرجوه يهب. ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار {أهذا الذي بعث الله رسولا} ، وقوله:{وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم} ، ومما قرئ بالوجهين قوله تعالى:{وما عملته أيديهم} ، وقوله:{وفيها ما تشتهيه الأنفس} ، قرأ بالحذف فيهما أبو بكر وحمزة والكسائي ووافقهم في الثاني ابن كثير وأبو عمرو ومثله كثير جدا.

وأما النصب بالوصف فقولك: أعجبني الضارب زيد، تريد: الضاربه زيد وأعجبني الغلام الذي معطيك عمرو، تريد: الذي معطيكه عمرو وأنشد المؤلف على الأول قول الشاعر:

وليس من الراجي يخيب بماجد

إذا عجزه لم يستبن بدليل

أي: من الراجيه، وقال الآخر:

ما المستفز الهوى محمود عاقبة

ولو أتيح له صفو بلا كدر

وعلى الثاني قول الآخر:

ما الله موليك فضل فاحمدنه به

فما لدى غيره نفع ولا ضرر

ص: 528

وفي هذين الموضعين يتعين نصب ما اتصل/ من الضمائر بالصفة وذلك حيث يتصل بالتي فيها الألف واللام وحيث يتصل بضمير متصل بها، أما هذا الثاني فباتفاق إذ لا يخفض بالإضافة إلا اسم واحد، وأما الأول فعلى مذهب سيبويه، وهو الظاهر من الناظم هنا، لأنه جعل الضمير المتصل بما ليس فيه ألف ولام من الصفات مجرورا في البيت الذي يلي هذا، فدل على أن ما عداه ينصب ما بعده، والمسألة مختلف فيها.

فإذا قلت: زيد أن ضاربه أو زيد أنا الضاربة، ففي موضع الهاء من الإعراب ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الهاء في موضع نصب على الإطلاق كانت الصفة بالألف واللام أولا، وهو رأى الأخفش ونقل عن هشام الكوفي.

والثاني: أنها في موضع جر مطلقا، وهو رأى الجرمي والمازني والمبرد.

والثالث: أن الضمير معتبر بالظاهر، فإذا كان الظاهر عند وقوعه هنالك مجرورا لا غير فالضمير كذلك، أو منصوبا ليس إلا فالضمير مثله، أو جائزا فيه الوجهان فيجوز في الضمير الوجهان وهو ظاهر الناظم كما تقدم، ويحتمل من حيث اللفظ أن يؤخذ له مذهب الجرمى ومن وافقه فيدخل له في البيت الثاني كهذا ما فيه الألف واللام، ويريد بقوله هنا: أو "وصف" العامل في المفعول الثاني مع إضافته للأول نحو: المعطكيه والاحتمال الأول أرجح وهو الذي ذهب إليه في غير هذا النظم وبقى على كلام الناظم سؤالان:

ص: 529

أحدهما: أنه نقصه شرط ثالث ضروري لا يجوز الحذف بدونه وهو ألا يكون في الصلة ضمير آخر عائد على الموصول، فإنه إن كان ثم ضمير آخر لم يجز الحذف كما تقول: أعجبني الذي ضربته في داره، فهنا لا يجوز أن تقول: أعجبني الذي ضربت في داره، إذ لا دليل على هذا المحذوف لجواز أن يكون زيدا أو عمرا لا ضمير الذي، وإذا لم يعلم لم يجز الحذف فالعرب تحذف المفعول اقتصارا فتقول: ضربت، ولا تذكره لأغراض لها ومقاصد، فيكون قولك: الذي ضربت في داره محتملا لهذا القصر فلا يتعين قصد حذف العائد، وإذا كان كذلك كان عدم اشتراط هذا الشرط معترضا.

والثاني: أن حذف الضمير المنصوب بالصفة أطلق القول في جوازه حيث قرنه بما انتصب بالفعل، فاقتضى أن الجواز فيهما سواء أو قريب من ذلك، وهذا غير صحيح، بل الحذف مع الصفة قبيح قليل، ويقل قبحه إذا طالت الصلة بالمعمولات، فقد نص ابن السراج على قبحه، قال: وقد أجازوه على قبح.

وقال المازني: لا يكاد يسمع من العرب. وقال المبرد في "المقتضب" لا اختلاف في أن حذف الهاء من صلة الألف واللام رديء جدا بخلاف "الذي"، فأما إذا طالت الصلة فيسهل الحذف كقولك: إذا أخبرت عن زيد من قولك: أعلم الله زيدا عمرا قائما. المعلمه الله عمرا قائما زيد، فيجوز هنا المعلم الله.

ص: 530

قال ابن السراج: وهو هاهنا أسهل عندي وعند المازني/ لكثرة صلة هذا حتى إنه قد أفرط طوله، ولما فرق المبرد بين الألف واللام والذي علل ذلك بطول الذي بصلتها، لأنها يجتمع منها أربعة أشياء: الذي والفعل والفاعل والمفعول، وليس ذلك في الألف واللام، وأيضا قد زعم ابن بابشاذ أنه لا يحذف مع الألف واللام، وإذا كان الأمر في الحذف مع الألف واللام هكذا في الضعف أو الامتناع، فتسوية الناظم بينهما مشكل، وقد أخرج في "التسهيل" الألف واللام عن حكم "الذي" وإخوته في هذا الحذف فقال: ويجوز حذف عائد غير الألف واللام إن كان متصلا منصوبا بفعل أو وصف وهو احتراز ضروري عنده حيث نقل عن أكثر النحويين المنع، ووجه ذلك بأن الضمير يكمل صلتها تكميل صلة غيرهما ويميزهما من الألف واللام المعرفتين، ويظهر من التأنيث والتثنية والجمع ما لا يظهرانه، فلأجل ذلك امتنع عنده حذف عائدهما، وهذا كله يعضد ما اعترض به عليه هنا.

والجواب عن الأول: أن اشتراط ذلك الشرط على الإطلاق غير مسلم وذلك أنك إذا قلت: أعجبني الذي ضربت في داره بحذف

ص: 531

الهاء جائز على قصد وممتنع على قصد آخر. فإن قصدت أن لا تعلم بالمضروب فالحذف سائغ لا مانع منه، وإن لم تقصد ذلك بل أردت تخصيصه وذكره ولكنك حذفته لفهم المعنى كما تحذف من الذي ضربت امتنع من جهة أنه لا دليل عليه، إذ الموصول لا يحرز موضعه لوجود رابط له، فإن كان على إثباته دليل من جهة أخرى جاز حذفه نحو قولك: الذي وصيت في حق نفسه زيد، والتي أتزوج لدينها هند، والذي لقيت وحده أخوك، ويطرد هذا النحو فيما إذا كان في الصلة جملة في موضع الحال، وفيها ضمير يعود على ذي الحال من غير احتمال، ويكون صاحب الحال هو الضمير المحذوف المنصوب كقولك: الذي قصدت ماشيا معه زيد، والحال من المحذوف جائزة، نص على ذلك ابن جنى، فإذا الاشتراط على الإطلاق معترض، كما هو منع الاشتراط، ثم إنا نقول: يحتمل أن يكون الشرط المعتبر في هذا قد نبه عليه بالمثال وهو: (من نرجو يهب) فإن الدليل على المحذوف موجود، ووجود الدليل هو المعتبر خاصة، وبه علل من اشترط ألا يكون في الصلة ضمير آخر لكن اشتراطه مخل من وجه، واشتراط وجود الدليل على المحذوف مصحح غير مخل، فوجب أن يكون هو المراد في التمثيل ولا يبقى بعد ذلك إشكال والله أعلم.

والجواب عن الثاني: أن الجمهور إن قالوا بقبحه في غير ما طال بالمعمولات، فإنهم لا يمنعونه جملة. ألا ترى إلى قول ابن السراج وقد أجازوه على قبح.

وقال ابن خروف في "شرح الجمل" يجوز حذف ضمير الألف واللام ولكن حذف ضمير الذي أحسن، ثم نقل قول ابن بابشاذ وقال: إنه لا يعول عليه وإذا كان منع الحذف عند ابن خروف هكذا، فما نقل ابن مالك من المنع

ص: 532

غير معمول/ عليه عنده أيضا وقد أطلق أيضا القول بالجواز اليزيدي، فإذا لم يبق على الناظم إلا أنه لم يبين أن الحذف مع الفعل أحسن منه مع الصفة وهذا قريب لاجتماعها في الجواز على الجملة.

فإن قيل: يحتمل أن يكون المنصوب عنده بالصفة إنما هو- كما تقدم- المفعول الثاني فيستلزم الطول كقولك: المعلم الله عمرا قائما زيد، فلم يفتقر إلى التقييد بالطول، ويكون غير ذلك من قبيل الضمائر المجرورة على مذهب من يرى ذلك.

فالجواب: أن هذا لا ينجي من الاعتراض، إذ قد أجاز حذف الضمير المجرور بالصفة من غير تقييد بطول الصلة، وذلك في البيت على إثر هذا، فالصواب في الاعتذار ما تقدم والله أعلم.

***

ثم ذكر حكم الضمير المجرور فقال:

كذاك حذف ما بوصف خفضا

كانت قاض بعد أمر من قضى

قسم الضمير المجرور الجائز الحذف إلى مجرور بحرف، وإلى مجرور باسم هو ناصب في التقدير للمضاف إليه وهو الضمير، والقسمة الحاضرة بالاستقراء أن يقال: الضمير العائد على الموصول إذا كان مجرورا على قسمين:

أحدهما: أن يكون مجرورا بحرف وسيأتي حكم هذا القسم.

والثاني: المجرور باسم وهذا على ضربين:

ص: 533

أحدهما: أن يكون الجار صفة ناصبة للمجرور تقديرا وهو الذي شرع فيه الآن.

والثاني: أن يكون الجار غير صفة وهذا نوعان:

أحدهما: أن يكون مما يجوز قطعه عن الإضافة وذلك نحو كل وبعض.

والثاني: أن لا يكون كذلك، فهذه أربعة أقسام، تكلم نصا على قسمين منها وترك قسمين آخرين.

ولما قيد الجواز فيما ذكر بأوصاف دل على أن ما عدم تلك الأوصاف لا يجوز حذفه فاقتضى وصف الجار بكونه صفة ناصبة له تقديرا أنه إن لم يكن كذلك فلا يجوز حذف المجرور وليس كذلك، بل فيه تفصيل فإنه لا يخلو أن يكون الاسم الجار هنالك يجوز قطعه عن الإضافة أولا، فإن كان مما يجوز قطعه عن الإضافة جاز حذفه إذا دل عليه الدليل، كما إذا أخبرت عن القوم من قولك: مررت بكل القوم، فقلت: الذين مررت بكلمهم القوم، وكذلك بعض إذا قلت: الذين مررت ببعضهم القوم، فيجوز أن تقول: الذين مررت بكل القوم والذين مررت ببعض القوم، كما تقول: أعجبني الذين كل قائم أو قائمون وما أشبه ذلك، نص على هذا ابن الضائع في فصل الأخبار من "شرح الجمل" وأجرى عليه بعض شيوخنا "قبل" و "بعد" فتقول: أجبني الذين قاموا والذين قام زيد بعد، أي بعدهم، وكذلك في "قبل" وهذا القسم مما يغفل النظر فيه أكثر النحويين منهم ابن مالك في "التسهيل" وغيره من كتبه، فالاعتراض (عليه) وارد من حيث أفهم كلامه امتناع حذف الضمير العائد من الموصول، وإن كان مما لا يجوز قطعه عن الإضافة،

ص: 534

فهناك يمتنع حذف الضمير فلا تقول في نحو: أعجبني الذي أبوه قائم (قائم الذي أب قائم) ولا ما أشبه ذلك/ فالحاصل أن الناظم قصر في هذا الفصل، والاعتذار عنه أن هذا النحو من حذف الضمير لم يذكره الجمهور وهذا كاف في الاعتذار عنه في هذا النظم، وإنما يرد عليه في "التسهيل" هذا إن سلم أن الأمر كما قاله ابن الضائع، وإلا فللناظم أن ينازع فيه ولاسيما في قبل وبعد، فإن هذا الحكم فيهما أضيق، ألا ترى أنهما لا يقعان مبتدأين ولا خبرين مع القطع عن الإضافة، ولا في موضع عمدة البتة، وإنما يقعان في محل الفضلة المستغنى عنها كقول الله تعالى:{لله الأمر من قبل ومن بعد} ، وإذا وقعا في الصلة مضافين إلى ضمير الموصول فإنهما واقعان موقع العمدة من حيث أن الصلة لا تستقل دونهما نحو: جاءني الذي قام زيد بعده أو قبله، فقد يقال: لا يجوز هنا حذف الضمير وقطعهما عن الإضافة، كما لا يجوز ذلك فيهما إذا وقعا عمدتين، فهذا مما ينظر فيه.

واعتذار ثان وهو أن الناظم إنما يتكلم هنا في جلائل النحو وضرورياته وما قاربها وفيها يكثر استعماله ويتداول على الألسنة، ومسألة الاسم الذي يقطع عن الإضافة في باب الموصول من النوادر التي لا يتعرض لمثلها إلا أرباب المطولات، فإذا أهمل ذكرها قاصدا الاختصار فلا عتب عليه.

ولما أفهم كلامه أن الضمير إذا كان مجرورا باسم غير صفة لم

ص: 535

يجز حذف كان موافقا للجمهور ومخالفا للكسائي القائل بجواز حذف الضمير المضاف إليه لكن مع المضاف وذلك إذا دل على المحذوف دليل مستشهدا على ذلك بقول الشاعر:

أعوذ بالله وآياته

من باب من يغلق من خارج

أراد: من باب من يغلق بابه (من خارج) فتقول على هذا: أعجبني مال من كثر، تريد من كثر ماله، وأكره عرض من مزق، أي من مزق عرضه، وما أشبه ذلك، وما احتج به لا حجة فيه عند من خالفه، لأنه مما حذف فيه المضاف وهو باب وأقيم المضاف إليه وهو الضمير مقامه فاستتر في الفعل فليس الفعل بخال عما يسند إليه فالبيت في هذا مثل قول الآخر:

*فدقت وجلت واسبكرت وأكملت*

حسب ما هو مذكور في باب الإضافة، وإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما نص عليه الناظم، فقوله:(كذاك حذف ما بوصف خفضا) إلى آخره، ذاك إشارة إلى حذف ضمير النصب، يريد أن حذف الضمير المخفوض بوصف كثير منجل في كلام العرب كما كان في الضمير المنصوب، فإذا قلت: جاءني الذي أنا مكرمه، جاز لك أن تحذف ضميره فتقول: جاءني الذي أنا مكرم، ومن الإثبات قوله تعالى {وتخفى في نفسك ما الله مبديه} ومن الحذف الآية الكريمة التي أشار إليها بقوله: كأنت قاض بعد أمر من

ص: 536

قضى) وهي قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {فاقض ما أنت قاض} ، فأنت قاض جاء بعد أمر مبنى من قضية، وهو قوله:"اقض" وكان الأصل: فاقض ما أنت قاضيه، ومن ذلك قول طرفة بن العبد:

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وقال سعد بن ناشب المازني- وهو من أبيات الحماسة-:

سأغسل عني العار بالسيف جالبا على قضاء الله ما كان جالبا وفيها: /

ويصغر في عيني تلادى إذا انثنت

يميني بإدراك الذي كنت طالبا

وأنشد الفارسي في التذكرة لتأبط شرا:

ص: 537

سدد خلالك من مال تجمعه

حتى تلاقى الذي كل امرئ لاق

وأنشد غيره أيضا:

لعمرك ما تدرى الضوارب بالحصى

ولازاجرات الطير ما الله صانع

وقال جميل:

وقد طال جرى بيتها لا أزوره

كفى حزنا هجران من أنت وامق

ومثله في الشعر كثير، وينظر بعد في مثاله هل أحرز قيدا مضطرا إليه في جواز الحذف أم لا؟ والذي قيد به في "التسهيل" هذا الحذف كون الصفة ناصبة للمجرور تقديرا، وهذا القيد الذي تحرز به المؤلف يدخل له اسم الفاعل كان بمعنى الماضي أو لا؛ لأنه الذي في تقدير الفعل، فإذا قلت: زيد ضارب عمرو أمس فهو في تقدير: ضرب عمرا أمس، كما أن الذي بمعنى الحال والاستقبال بمعنى المضارع، وهذا لم يشرحه في شرحه، ويخرج له بذلك الصفة المشبهة باسم الفاعل، لأن الضمير المجرور بها في تقدير المرفوع لا في تقدير المنصوب، فلا يحذف إذا فرض عائدا في الصلة على الموصول، وكذلك اسم الفاعل المراد به مجرد الاسم لا ما يعطيه من معنى الفعل فإنك تقول: هذا ضارب زيد، على معنى ما تقول: هذا صاحب زيد، فليس المجرور هنا في معنى المنصوب، فإذا وقع ضميرا عائدا على الموصول لم يجز حذفه، كما لا يجوز حذف الضمير المجرور بصاحب.

ص: 538

والناظم حين قال: (كذاك حذف ما بوصف خفضا) دخل له اسم الفاعل والصفة الشبهة، لأنها صفة واسم الفاعل المطرح فيه معنى الوصف، إذ يطلق عليه أنه وصف اعتبارا بأصله، فأخرج هذين بقوله:(كأنت قاض) لأن قاض هنا يجرى الضمير وهو ناصب له في التقدير بخلاف الحسن والضارب المسلوب معنى الوصف وهو حسن من التقييد لكنه يوهم قيدا آخر غير معتبر وهو كون العامل في الضمير موافقا في المعنى للعامل في الموصول، لأنك تقول: اضرب الذي أنت مكرم، كما قال طرفة:

*ستبدى لك الأيام ما كنت كاهلا*

وكقول جميل بن معمر:

*كفى حزنا هجران من أنت وامق*

فكان الوجه أن يفصح بالقيد ولا يشير إليه بما يوهم قيدا آخر غير معتبر.

والجواب: أن معه ما يبين مراده وهو أن قوله: "كأنت قاض" في موضع الصفة لوصف، وتقديره: كذاك حذف ما خفض بوصف شبيه بقاض الواقع بعد أمر من قضى أي الواقع الآية، فإنما أراد بقوله:(بعد أمر من قضى) تعيين الآية التي فيها الوصف المشار إليه، ولا شك أن الضمير المجرور بقاض في معنى المنصوب، فلم يرد إذا بقوله:(بعد أمر من قضى) قيدا آخر، وإنما أراد تعيين موضع الشاهد خاصة ولا يبقى في كلامه إشكال.

ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال:

ص: 539

كذا الذي جر بما الموصول جر كمر بالذي مررت فهو بر/ "ذا" إشارة إلى ما تقدم من حكم الحذف وهو الكثرة والجواز، و "الذي" واقع على الضمير المحكوم عليه بالحذف و "ما" واقعة على الجار للضمير وهو هنا الحرف والموصول مفعول بجر مقدم عليه، أي: بالحرف الذي جر الموصول، ويريد أن الضمير إذا كان مجرورا بالحرف الذي جر الموصول فحكمه حكم ما تقدم من جواز الحذف ومثل ذلك بقوله:(كمر بالذي مررت) يريد بالذي مررت به فهاء به- وهي العائد- قد جرت بالباء المجرور بها الموصول.

وقوله: (فهو بر) جواب قوله: "مر" وهو من تمام المثال، ولو لم يأت به لتم مقصوده، ولكنه جاء به مكملا للكلام وعلة للأمر بالمرور به، ويقال: رجل بر، أي: صادق من قوم أبرار، وبار أيضا من قوم بررة.

والحاصل أنه اشترط في جواز حذف الضمير المجرور بحرف أن يكون الموصول مجرورا بمثله، وهذا الشرط يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون قاصدا لما سواه فيكون قوله في المثال: (كمر بالذي مررت) إنما قصد به تمثيل اتفاق الحرفين الجارين واتفق في المثال أن اتحد متعلقاهما بحكم التبع لا بالقصد الأول، فإن كان قد قصد هذا اشتمل كلامه من ذلك على ثلاثة أنواع أعطى فيها جواز الحذف.

أحدها: أن يتحد متعلقا الحرفين، أعنى في المادة والمعنى كالمثال الذي مثل به، فإن متعلق الحرف الجار للضمير مررت، ومتعلق الجار للموصول مر، وكلاهما مشتق من المرور، وفي القرآن الكريم:{يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} وأنشد

ص: 540

النحويون:

نصلي للذي صلت قريش

ونعبده وإن جحد العموم

وكذلك إن كان أحدهما فعلا والآخر صفة نحو قولك: مررت بالذي أنت مار، تريد مار به أنشد ابن جنى:

وقد كنت تخفى حب سمراء حقبة

فبح لان منها بالذي أنت بائح

وقال جميل:

ولا تسمعي من قول واش وشي بنا

وقولي له انطق بالذي أنت ناطق

والثاني: أن يتحد في المعنى لا في اللفظ نحو: جئت بالذي أتيت به وجئت إلى الذي سرت إليه وقعدت في الموضع الذي جلست وما أشبه ذلك، وهذا النوع في معنى الأول إلا أن الأول أظهر في الجواز.

والثالث: أن يختلف المتعلقان في المعنى والمادة معا نحو: نظرت إلى الذي جئت إليه، وعنيت بالذي مررت به، ومنه قول الشاعر:

فابلغا الحارث بن نضلة والـ

مرء معنى بلوم من يثق

ص: 541

أي: من يثق به وأنشد الفارسي:

وإن لساني شهدة يشتفى بها .... وهو على من صبه الله علقم

يريد: على من صبه الله عليه علقم وكثير من النحويين وخصوصا من تأخر منهم لا يجيزون مثل هذا في الكلام وهو جائز عند جماعة كابن السراج والفارسي وغيرهما على أن سيبويه جعل الحذف فيما كان نحو النوع الأول ضعيفا في الكلام فقال في أبواب الجزاء: وقد يجوز أن نقول: بمن تمرر أمرر، وعلى من تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه، وبه، قال: وليس بحد الكلام، وفيه ضعف، وعليه أنشد قول الشاعر: /

إن الكريم وأبيك يعتمل

إن لم يجد يوما على من يتكل

ولم يجعل الناظم الحذف هنا إلا كثيرا منجليا على ما نبه عليه بقوله: (كذا الذي جر) أي: هو مثل الحذف في المخفوض بصفة ناصبة له تقديرا، وفي المنصوب كما تقدم. والنوع الثاني والثالث أحرى بالضعف عن سيبويه، وكذلك عنده غيره بالنسبة إلى الأول فهو المشهور في الكلام المعروف الجواز، والأنواع الثلاثة متفقة في معنى واحد وهو كون جار الضمير والموصول واحدا وهو الذي نص عليه، فإن عدم ذلك المعنى لم يجز حذف الضمير إلا شاذا، فلا تقول: جاءني الذي مررت ولا مررت بالذي أعرضت، تريد مررت به وأعرضت

ص: 542

عنه وقد جاء هذا في الشعر.

قال حاتم الطائي:

ومن حسد يجور على قومي

وأي الدهر ذو لم يحسدوني

ويسهل هذا الحذف إذا كان مدلول الذي ظرفا وقد عاد عليه الضمير بفي كبيت حاتم، أعجبني اليوم الذي جئت تريد جئت فيه، ويقيسه غير الناظم ويحسنه للعلم بأن "في" هي المحذوفة، فتعينت كما تعين المحذوف في نحو: مررت بالذي مررت، بخلاف غير الظرف، فإنه لا يتعين فيه الجار نحو: الذي رغبت زيد، ومنه ما أنشده الفارسي من قول الشاعر:

فقلت له لا والذي حج حاتم

أخونك عهدا إنني غير خوان

ولعل المجيز لحذف ضمير الظرف بني على مذهب أبي الحسن في التدريج، إذ يجوز حذف "في" مع الضمير، ويصير الضمير منصوبا على المفعول به اتساعا، فكأنه يقول: وأي الدهر ذو لم يحسدونيه، ثم حذف الهاء لأنها كالهاء في نحو:

جاءني الذي ضربته ومذهب سيبويه عدم التدريج فكأنه حذف الجار

ص: 543

والمجرور اعتباطا ومثالهم الذي تكلموا في المسألة عنده قوله تعالى: {واتقوا وما ما لا تجزى نفس عن نفس شيئا} تقديره: لا تجزى فيه. قالوا: إذا جاز ذلك عند سيبويه في الصفة فهو في الصلة أولى بالجواز، وإذا ثبت هذا أشكل كلام الناظم على هذا التفسير حيث جعل ما كان نحو:

*وهو على من صبه الله علقم*

قياسا وجعل ما كان نحو:

*وأي الدهر ذو لم يحسدوني*

موقوفا على السماع حيث أخرجه بالقيد الذي تقدم ذكره.

والجواب أن يقال: لعله ذهب إلى رأى أبي الحسن في التدريج وإليه مال ابن جنى أيضا وبوب عليه في "الخصائص" وإذا كان كذلك صار بعد حذف في من قبيل الضمائر المنصوبة فدخل له تحت مسألة الضمير المنصوب بهذا الاعتبار.

فإن قيل: فيدخل له إذا تحت قوله: (والحذف عندهم كثير منجل) في كذا وليس كذلك إذا لم يبلغ عندهم مبلغ الحذف في الضمير المنصوب، بل هو قليل في الكلام بالنسبة إلى حذف المنصوب بالأصالة.

فالجواب: أن الحذف أيضا في المجرور/ بفي بعد حذفها كثير منجل؛ لأنه إذا صار في عداد المنصوبات صار له حكمها، لأنه صار من قبيل المنصوب على المفعولية اتساعا، وإنما القلة راجعة إلى حذف "في" لا إلى حذف الضمير، فلا تقدح قلته في كثرة حذف الضمير المنصوب على الجملة فتأمله.

ص: 544

والتفسير الثاني: أن يكون تمثيله بـ "مر بالذي مررت "تقييدا" لما تقدم كأنه يقول: كذاك الضمير الذي جر بما جر الموصول إذا كان مثل هذا المثال الذي وجد فيه اتحاد متعلقى الجارين وغير ذلك من القيود، وذلك أن الحذف الجائز جوازا حسنا مشروط بأربعة شروط:

أحدها: أن يكون مجرورا بحرف لا باسم، فإنه إن جر باسم فقد تقدم حكمه.

والثاني: أن يكون الموصول مجرورا بذلك الحرف نفسه وقد تبين هذا.

والثالث: أن يتحد متعلقا الحرفين، وهذا يشمل النوع الأول والثاني في التفسير الأول، ويخرج عنه الثالث، لأن الحذف فيه قليل، وأكثر ما يجيء في الشعر، فيكون الناظم على هذا لم يعتبره في القياس، وعلى هذا أكثر المتأخرين، ومن أجازه كالفارسي وغيره فإنما أجازه على ما فيه من القلة، وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب في كتاب "التسهيل" وهو جدير بأن يشترطه وخصوصا في هذا النظم.

والرابع: ألا يكون المتعلق الثاني مبنيا للمفعول، بحيث يقام المجرور مقام الفاعل، وذلك ظاهر من تمثيله، وهو ضروري الاشتراط، وقد فاته ذكره في "التسهيل" وهو مستدرك عليه، فإنه إن كان المجرور مقاما مقام الفاعل لم يجز حذفه وذلك نحو: مررت بالذي مر به فلا تقول: هنا مررت بالذي مر؛ لأنه يبقى الفعل بلا فاعل ولا نائب عنه وذلك فاسد، ومن هنا يظهر أن هذا الوجه الثاني في تفسير كلام الناظم أولى؛ لأن الأول يدخل عليه فيه جواز حذف المجرور المقام مقام الفاعل وذلك غير صحيح، وكثير من الناس

ص: 545

لا يذكرون هذا الشرط، والاعتراض وارد على من لم يذكره، وزاد بعض الناس شرطا خامسا وهو أن لا يوقع لبسا، ولعل مشترطه تحرز به من نحو: أمرتك بالذي أمرت ب زيدا فيقول: لا يحذف هنا الضمير المجرور لالتباسه بالمنصوب إذ كنت تقول: الذي أمرته زيدا الخير والذي أمرت به زيدا الخير. فإذا قلت: أمرتك بالذي أمرت زيدا، لم يدر ما المحذوف الجار والمجرور أم المنصور، فكان ذلك ممتنعا.

فإن قلت: إن تقدم حرف الجر يدل أن المحذوف مجرور.

قيل: ذلك لا يلزم فقد يجمع في الكلام الواحد بين تعدي أمر بنفسه وبالحرف كما قال:

*أمرتك الخير فأفعل ما أمرت به*

ومثل هذا استغفرت الله مما استغفرت منه، وسميتك بالذي سميتني به، وما أشبه ذلك، فإن كان هذا الشرط لازما فمثال الناظم يحرزه لأن مررت، بالذي مررت به لا يلتبس في حذف الضمير.

فإن قيل: فقد يلتبس بغير ذلك، إذ كنت تقول: مررت بالذي مررت عليه فإذا حذفت لم يدر ما المحذوف.

ص: 546

فالجواب: إن تجويزهم للحذف/ دليل على أن المحذوف مماثل حرفه للحرف المتقدم، وإلا فكان يمتنع حذف الضمير المجرور بحرف مطلقا، إذ ما من مسألة من الباب إلا ويمكن فيها هذا التوهم، على أن التوهم قد تحرك على بعض علماء سبتة.

حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار- رحمة الله عليه قال: سئل شيخنا أبو إسحاق الغافقي عن حذف الضمير من الصلة في قولك: رغبت فيما رغبت فيه، فجوز ذلك، فأنهى الخبر إلى تلميذه شيخنا أبي عبد الله بن عبد المنعم فمنعه واستشهد بأنه يقال: رغبت فيما رغبت فيه على معنى القبول، ورغبت فيما رغبت عنه على معنى الإعراض، ولا يكون الحذف إلا حيث يتعين المحذوف خوف اللبس، فلو حذف الضمير هنا لصار في الكلام إجمال، وهو خلاف المطلوب فوجب اجتنابه، وشرط انتفاء اللبس من جملة الشروط المجوزة للحذف.

قال: فأنهى ذلك إلى الأستاذ: فاستدل على الجواز بأنك إذا رأيته محذوفا دلك ذلك على اتفاق الحرفين، ولو كانا متباينين لم يجز حذفه؛

ص: 547

لأنه مشروط بالاتفاق، وعكسها مثلها وهي أن تقول: رغبت عما رغبت عنه يجوز فيها حذف "عنه" لحصول الموافقة ولا لبس فيه أصلا لوجود الحذف لأنه لو كان غير موافق لم يجز الحذف.

قال: وعلى هذا وقف الأمر عند نحاة سبتة، انتهى ما ذكره الأستاذ ابن الفخار شيخنا لنا، واستحسن نظر شيخه الغافقي، وهو كلام صحيح، وهو الموجب أعنى موافقة الحرفين لجواز الحذف، فإذا مثال الناظم لا لبس فيه البتة وإنما يعتبر شرط من اشترط عدم اللبس فيما تقدم من الأمثلة من باب "أمر" وما أشبه ذلك إن كان معتبرا فإني لم أر من اشترط إلا ما حكاه شيخنا الأستاذ ابن الفخار، فإنه جعله من جملة الشروط، ولم ينسبه إلى مشترطه فانظر فيه.

***

ص: 548