الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بذكر الضمائر لأنها أعرف المعارف فقال:
فمالذي غيبة أو حضور
…
كانت وهو سم ب
الضمير
هذا تعريف المضمر و "ما" في قوله: (فمالذي غيبة) مفعول (سم) الأول، وبالضمير هو المفعول الثاني؛ لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف الجر، ويطرد إسقاطه، و "لذي" صلة "ما" وهو متعلق بفعل جائز الحذف، للدلالة عليه، وهو وضع ونحوه، وذو الغيبة أو الحضور هو مدلول الكلمة التي هي المسماة بالضمير، فكأنه قال: ما وضع لمدلول ذي غيبة أو ذي حضور، فهو الضمير في الاصطلاح، وقد ظهر من هذا اعتبار صفة الغيبة، أو صفة الحضور في الوضع، لأنه قال: ما وضع لمدلول موصوف بالغيبة أو الحضور، لا مطلقا، فيخرج بهذا الاعتبار عن الرسم سائر المعارف؛ لأنها لم توضع باعتبار غيبة ولا حضور، إذ كان العلم موضوعا لتعيين مسماه مطلقا، والمبهم موضوعا لتعيينه بقيد الإشارة إليه، وكذا سائرها، وهذا المعنى هو المعبر عنه في "التسهيل" بقوله في رسمه: هو الموضوع لتعيين مسماه مشعرا بتكلمه أو خطابه أو غيبته، والحضور هنا يتضمن التكلم نحو أنا وضربت والخطاب نحو أنت وضربت وأما الغيبة فنحو "هما" وضربا، وهذا التعريف بعد فيه نظر من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه فاته فيه عمدة ما يحتاج إليه في تعريف المضمر، وهو أصل التعريف، وهو الذي بين في "التسهيل" بقوله: ما وضع لتعيين مسماه يعني أن أصل وضعه أن يعين مدلوله، بقيد حضوره أو غيبته، ولم يبين ذلك هنا، وإنما عرف أنه موضوع لمدلول مقيد بالغيبة أو الحضور، فأعطى أن وضع الضمير لا على أن يعين مسماه، فهو إذا موضوع لكل حاضر ولكل غائب وتنكيره ذا الغيبة وذا الحضور يدل على هذا القصد، إذ قال:(لذي غيبة أو حضور) فظاهره أي غائب كان أو أي حاضر كان، وإلى هذا ذهب فيها ابن هانئ شيخ شيوخنا في "شرح التسهيل" حيث التزم أن المضمر وضع اسما للحقيقة الذهنية وهي مفهوم المتكلم أو المخاطب أو الغائب وهي متحدة كعلم الجنس الموضوع للصورة الهنية وهي مفهوم المتكلم أو المخاطب أو الغائب وهي متحدة كعلم الجنس الموضوع للصورة الذهنية من غير نظر إلى الأفراد الخارجية، وابن هانئ في ذلك تابع للقرافي، وكل من قال بهذا -رحمة الله عليه- أحد أمرين لأنهما إما أن يقولا: إن المضمر كلى، فيكون على قولهما هذا نكرة كسائر الكليات نحو: رجل وإنسان وحيوان، وهذا فاسد باتفاق، أو يقولا، إنه ليس على حقيقة الكلى فيكون "أنا" و "أنت" و "هو" وبابها أعلاما علمية الجنس، والمضمرات ليس تعريفها بالعلمية باتفاق، فثبت أن ما أشعر به كلام الناظم مخالف لجميع النحويين، وذلك يدل قطعا على بطلانه بل المضمرات وأسماء الإشارة وغيرها معارف؛ لأن العرب
وضعت المضمر دالا على متعين في الخارج متكلم أو مخاطب أو غائب، وكذلك اسم الإشارة وضع لتعيين مسماه من حيث هو مشار إليه، فكلاهما موضوع يفيد الحوالة على معهود، لكن قد يعرض فيهما أن يكون مدلولهما غير خارجي إقامة للمعين في العلم مقام المعين في الخارج، كما قال امرؤ القيس:
*وأنت إذا استدبرته سد فرجه*
وذا ليس بالأصل، فهذا كله فيه ما ترى.
النظر الثاني: أنه يدخل عليه في هذا التعريف العلم كزيد وعمرو، وذلك أن لفظه لفظ الغيبة، بدليل قولهم: يا زيد نفسه، تغليبا لحكم اللفظ، ولأن العلم إنما وضع لأجل غيبة المسمى، إذ هو محتاج إلى التعبير عنه بلفظ يعينه، إذ لم يتعين بنفسه بخلاف ما إذا كان حاضرا، فإن أداة الإشارة تغني في تعيينه، إذا قلت:"هذا" أو "ذاك" فلا يفتقر إلى وضع اسم علم، فإذا زيد ونحوه مشعرا بالغيبة، فيلزم أن يسمى ضميرا، إذ قال: مالذي غيبة يسمى ضميرا، وهذا الوجه أورده شيخنا الأستاذ رحمه الله على المؤلف في حده للمضمر في "التسهيل" والاعتراض به ها النظم متكن حيث قال:(لذي غيبة)، والعلم بلا شك موضوع في أصله لذي الغيبة.
النظر الثالث: أن الحاضر على ثلاثة أقسام: متكلم ومخاطب، وهو الذي قصد بذي الحضور، ولا متكلم ولا مخاطب وهو المشار إليه باسم الإشارة مشعرا بالحضور إذا قلت: هذا وهذي، فاطلاقه لفظ الحضور يوهم إدخال اسم الإشارة، وذلك إيهام مفسد، وهذا الوجه غمزه به ابنه في الشرح.
والجواب عن الأول أن يقال أولا: إن المعتمد في المسألة ما قاله النحويون، وأما من عداهم فلا يرجع إلى قوله وإن نزع إليه من المتأخرين نظار وعلماء أخيار، وإليه ذهب شيخنا الإمام أبو عبدالله الشريف التلمساني رحمه الله وذلك أن أهل اللسان أهدى إلى فهم الوضع العربي غيرهم، فهم الحجة في هذا وأمثاله، وقد اتفقوا على أن المضمر ليس بموضوع في الأصل ليدل على حاضر أي حاضر كان، أو غائب أي غائب اتفق، وإنما وضع لمعين محال عليه، متشخص في حال الخطاب، غير أنه لما كان المضمر إذا تعقل خارجا عن الخطاب على الجملة فهم منه حاضر مبهم وغائب مبهم، توهموا أن ذلك وضعه الأول، وأن التعيين في حال الخطاب عارض، كما يعرض التعيين في النكرات بقرائن تدل عليه، مع أن الأصل عدم التعيين، وحقيقة الأمر في المضمر عكس ما توهموه، ولو توهموه، ولو كان ذلك كذلك لم يكن فرق بين هو، ورجل، ولكان المضمر معربا، لأن افتقاره إلى التفسير عارض كافتقار رجل إليه، وكافتقار عشرين وبابه، والافتقار العارض
لا يوجب البناء كما تقدم، بل المضمر لا يستقل أصلا بالمفهومية في حالة تعقله مفردا كالحرف، وذلك دليل على أن معناه إنما يتم فهمه بغيره، فذلك الغير مفتقر في أصل الوضع إليه، وهو الذي يعين مدلوله ويشخصه، وبه تمت دلالته على معناه الذي وضع له، ومن هذا الوجه أشبه الحرف، فوجب بناؤه؛ لأنه مفتقر إلى غيره افتقارا أصيلا، وإذا كان كذلك فمعناه الذي وضع له واحد معين لا مبهم، فهو إذا معرفة لا نكرة وتعريفه تعريف الشخص، لا تعريف الجنس، ونظيره في أصل وضعه النكرة إذا عرض لعا تعريف بالألف واللام أو الإضافة، نحو: غلامك والغلام فالغلام معرفة في هذا الحال باتفاق، وإن كان يدل مع التجريد على كل غلام، فذلك لا يقدح في كونه معرفة الآن، إذ ليس الآن بدال على كل غلام، بل وضع وضعا ثانيا لا يدل فيه إلا على معين، فهذا الوضع الثاني في النكرة نظير الوضع الأول في ط "أنا" و "أنت" و "هو" وما أشبه ذلك من المضمرات.
وأما فهم الحاضر او الغائب المبهم منها إذا أفردت فهو ثان عن الوضع الأول، عارض فيها، فإن اعتبر فيها فعلى خلاف الأصل، كما في بيت امرئ القيس:
وأنت إذا استدبرته سد فرجه
هذا إذا لم يتأول ويرد إلى الأصل، وإذا ثبت هذا فيحتمل أن
يكون الناظم قد ذهب إلى قول القرافي: وهؤلاء المتأخرين بناء على أن تعريف المضمر كتعريف العلم الجنسي فيكون مخالفا لجميع النحويين، ويحتمل أن يكون ذهب إلى ما ذهب إليه في "التسهيل" لكنه لم يقيد المضمر في رسمه بتعيين مسماه اتكالا على أنه نوع من أنواع المعارف التي أشار إليها فكأنه يقول: فما وضع من هذه الأنواع لذي غيبة أو حضور فهو الضمير، وهذا هو مراده بلابد، ولا يبقى إذ ذاك إشكال، والله أعلم.
والجاب عن الثاني: أن الناظم قد أشعر كلامه بأن العلم ليس لذي غيبة، ولا هو مشعر بها، وذلك قوله في التعريف بالعلم: اسم يعين المسمى مطلقا، فجعل تعيينه لمسماه عاريا من قبل، فلو كان عنده مقيدا بالغيبة لم يقل: مطلقا، ولا يدل كونه وضع على غيبة المسمى أن يكون مشعرا بالغيبة، لأنك تقول يا زيد، فتسميه باسمه العلم وهو حاضر مواجه بالنداء، ولو كان مشعرا بالغيبة لكان نداؤه تناقضا، لأن "يا" تقتضي الحضور، والعلم يقتضي الغيبة، فلا يجتمعان، كما لا تقول: يا هو لكنك تقول: يا زيد يا فصيح الكلام، فدل على أن زيدا غير مشعر بغيبة، وأما قولهم: يا زيد نفسه، فإنما قالوا: نفسه إحالة على العهد فيه، إذ كان قد ذكر أولا فأعيد الضمير عليه على اعتبار العهد فيه، لا لأن العلم يدل على غيبة وفائدة وضع العلم إنما هي تعيين المسمى من بين سائر أبناء جنسه مطلقا، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
والجواب عن الثالث: أنا نمنع إشعار اسم الإشارة بالحضور
وضعاً وإن دل على ذلك عقلا إذ المعتبر الدلالة الوضعية وهو إنما قال: (فمالذي غيبة أو حضور) أي: ما وضع لهذه الدلالة المخصوصة في أصل وضعه، وأنت إذا نظرت إلى أصل الوضع في اسم الاشارة وجدته موضوعا لمشار إليه قريب أو بعيد، ويلزم في القريب الحضور أو لا يلزم، إذ مفهوم الحضور غير مفهوم القرب، فقد يكون الإنسان قريبا منك ولا يكون حاضرا معك، فالحضور على هذا أخص من القرب، وقد أعتذر ابن الناظم عنه في الشرح بأنه قد أفرد لاسم الإشارة بابا على حده، فزال بذلك إيهام دخوله هنا، وهذا الاعتذار لا يرفع ذلك الايهام، إذ يقال: دخل هنا بحكم الشمول، ثم أفرده بحكم يخصه، وإنما جوابه ما تقدم، والله أعلم، ومثل الناظم: ذا الغيبة وذا الحضور بقوله: كأنت وهو، فأتى بأنت الدال على الحضور، وبهو الدال على الغيبة وينتظم مثال الحاضر أنا وشبهه، بمعنى الحضور، إذ قد اشترك مع أنت فيه.
*
…
*
…
*
ثم قال:
وذو اتصال منه ما لا يبتدا
…
ولا يلي إلا اختيار أبدا
كالياء والكاف من ابني أكرمك
…
والياء والها من سليه ما ملك
قسم الناظم رحمه الله الضمير إلى قسمين: متصل ومنفصل، وبدأ بالكلام على المتصل، فإذا فرغ من بيان البارز منه وغير البارز أخذ في تعداد المنفصل، ثم ذكر أحكام الضمائر على الجملة، وابتدأ
بضابط يعرف به المتصل من غيره، فذكر أن المتصل يتعرف بأمرين:
أحدهما: أنه (ما لا يبتدا) يعني أنه لا يقع في أول الكلام كالياء في ابني، والكاف في أكرمك وسائر ما مثل به، فإن هذه الضمائر وما كان مثلها لا يبتدأ بها في الكلام البتة بخلاف المنفصل منها، فإنه يقع في أول الكلام نحو:{إياك نعبد وإياك نستعين} ونحو: أنت القائم، وهو الضارب، والضمير في (منه) عائد على الضمير المتقدم الذكر في تعريفه به وهو اسم جنس شامل.
والثاني: أنه ما لا يلي أداة الاستثناء وهي "إلا" في الاختيار أبدًا، أي: لا يقع بعدها مفصولًا بها بينه وبين عامله كالأمثلة التي ذكرها، فلا تقول: إلاي ولا إلاك ولا إلاه اختيارا من غير ضرورة، وهذا بخلاف الضمير المنفصل، فإنه يقع اختيارًا بعد "إلا" فتقول: ما أتاني إلا أنت، وما ضربت إلا إياك. قال تعالى:{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وهو في هذه المواضع عوض من المتصل، إذ لم يتأت الإتيان بإلا مع الاتصال، إذ هي الفاصلة بينه وبين ما اتصل به، ولا يصح بقاؤه على لفظ المتصل مع الانفصال؛ لأنه نقض للغرض فيه لافتقاره إلى ما يتصل به، فعوضوا منه المنفصل الموضوع على الاستقلال، ولذلك كان عندهم بمنزلة الظاهر، بخلاف المنفصل فإنك تقول: ما ضربت إلا إياك، كما تقول: ما ضربت إلا زيدًا، وتقدمه فتقول: إياك ضربت، كما تقول: زيدًا ضربت، وقد أشعر قوله:(اختيارًا) أن الضمير المتصل قد يلي"إلا" لكن في الاضطرار
الشعري، وهذا يعطي شيئين:
أحدهما: وجود ذلك سماعا وذلك صحيح، فإن السيرافي أنشده عن ثعلب:
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا
…
ألا يجاورنا إلاك ديارُ
أراد إلا أنت، إلا أنه أتى بالكاف ضرورة.
والثاني: أن مثل هذا قد يأتي في الضرورة قياسًا، فإذا اضطر شاعر متأخر جاز له القياس على ما سمع، كما يجوز ذلك في الشعر مع "لولا" نحو ما أنشده سيبويه من قول يزيد بن الحكم: /
وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوي والقياس في الكلام: لولا أنا، ومن الضرورات ما يكون قياسا.
فإن قيل: كل واحد من هذين التعريفين يعطى في المقصود ما أراده، فلم أتى بهما معًا وأحدهما كافٍ؟
فالجواب: أن له في ذلك مقصدا آخر لا يحصل له مع الاقتصار
على الأول وذلك أنه أراد أن يبين أن الضمير المتصل لا يستغني عن مباشرة الفعل من آخره لفظًا وتحصيلًا حتى يصير كالجزء منه فلا يقع مبدوءا به الكلام ولا بعد الفعل مفصولا منه، فلأجل هذا لم يكتف بالتعريف الأول.
ثم أتى بأمثلة أربعة وهي: الياء في (ابني) والكاف في (أكرمك) والياء والهاء في (سليه) فالياء في (ابني) دالة على المتكلم المنفرد والكاف في "أكرمك" دالة على الواحد المخاطب، وكلاهما داخل تحت قسم ذي الحضور أيضًا، والهاء منه دالة على الواحد الغائب، وإنما أتى بأمثلة متعددة، وكان يكفيه الإتيان ببعضها لينبه على فوائد محتاجٍ إلى ذكرها:
إحداها: بيان أن الضمائر على ثلاثة أقسام:
قسم للمتكلم: هو المنبه عليه بابني.
وقسم للخاطب: وهو المشار إليه "بأكرمك" وياء سليه.
وقسم للغائب: وهو الذي دل عليه بهاء "سليه"، فمثل هذا لابد منه؛ لأنه قال أولا:(فمالذي غيبة أو حضور) فأشعر بقسمين فلو سكت بعد ذلك لأوهم أن ليس ثم قسم ثالث، فبين بالمثال هنا ما أراده.
والثانية: الإشارة إلى أن الضمائر تنقسم أيضا باعتبار آخر ثلاثة أقسام فمنها ضمير رفع كالياء من (سليه) وضمير نصب كالكاف من (أكرمك) والهاء من (سليه) وضمير جر كالياء من (ابني).
والثالثة: خاصة بياء (سليه) وهي الإشعار بأنها عنده من قبيل الضمائر حقيقة كالياء في (ابني) باتفاق، لا من قبيل العلامات الدالة
على تأنيث الضمير المستتر كالتاء في قامت وقائمة، والأول: الذي ارتضاه (هو مذهب) سيبويه والجمهور. والثاني: ذهب إليه الأخفش الأوسط والمازني والذي ارتضاه الناظم هو الراجح عندهم لوجوه:
أحدها: أنها لو كانت كالتاء في قامت لساوتها في الاجتماع مع ألف الاثنين فكنت تقول: فعليا، كما تقول: فعلتا، لكن العرب لا تفعل ذلك فعلم أن المانع لهم في ذلك كونه مستلزما لاجتماع ضميري رفع لفعل واحد، وذلك غير جائز.
والثاني: أن المراد مفهوم بالياء، كما هو مفهوم من تاء فعلت وفعلت وفعلت، والنون والألف في فعلنا، والأصل عدم الزيادة، فمن ادعاها فعليه الدليل.
والثالث: أنها لو كانت علامة دالة على تأنيث الفاعل المستكن كتاء فعلت لجاز حذفها في نحو: يا هند افعلي على قول من قال:
فإن الحوادث أودي بها
فكنت تقول: يا هند افعل، وهذا لا يجوز، وهذا الوجه وما قبله للمؤلف في "شرح التسهيل".
والرابع: أن الياء قد ثبتت ضميرًا على الجملة ولم تثبت علامة/ للتأنيث إلا في محل النزاع، والمصير إلى ما ثبت أولى من المصير إلى ما لم يثبت.
ومن حجة الأخفش أن فعل المفرد مذكرًا كان أو مؤنثًا لا يبرز ضميره نحو: زيد يقوم وهند تقوم، فقد ثبت الاستتار على الجملة في فعل المفرد ولم يثبت إبرازه إلا في محل النزاع، والمصير إلى ما ثبت أولى.
فإن أجيب بأنه إنما برز لإزالة اللبس، لأنك تقول في خطاب المذكر تقوم، وفي خطاب المؤنث: تقومين. فلو قلت: تقوم، لالتبست المخاطبة بالغائبة، فبرز الضمير لذلك، فللأخفش أن يقول: تلحق العلامة آخر الفعل لإزالة اللبس، وهي الياء، والضمير يستتر على ما يجب، وأشب هذه الأوجه الأول.
و"ما" من قوله: "سليه ما ملك" استفهامية، علقت الفعل الذي هو "سل" عن التعدي إلى مفعوله الثاني، كقول الله تعالى {يسألونك ماذا ينفقون} وهو يجري في التعليق مجرى علم، ووقعت الكاف هنا كاف الضمير رويا مع الكاف الأصلية ملك، وذلك جار على قياس أهل القوافي: إذ ليست عندهم كهاء الضمير، لا تقع إلا وصلا، بل لا تقع الكاف عندهم وصلا البتة، إلا على رأي بعض من شذ، فرأى الكاف مثل الهاء تقع وصلًا وهو عند الجمهور مردود، فالناظم جرى على رأي الجمهور.
وأيضاً قوله: (ما لا يبتدا) وقعت الهمزة المسهلة فيه وصلا، إذ أصله ما لا يبتدأ، والهمزة المسهلة بزنة المخففة وبتقديرها، فلا يجوز أن تقع وصلا، إلا أن يعتقد إبدالها محضا، على لغة من قال في قرأت "قريت" فحينئذ يوصل بها الروي، وهذا يجب أن يعتقد في كلام الناظم هنا، وفي كل ما كان مثله، وإبدال الهمزة يقع في هذا النظم كثيرًا لضرورة الوزن وهذا سهل، ونظير ذلك في الشعر ما أنشد سيبويه من قول عبد الرحمن بن حسان:
وكنت أذل من وتد بقاع
…
يشجج رأسه بالفهر واجي
أراد به: واجئ إلا أنه أبدل الهمزة ياء محضة، فكذلك هنا والله أعلم.
ثم قال:
وكل مضمر له البنا يجب
…
ولفظ ما جر كلفظ ما نصب
للرفع والنصب وجر "نا" صلح
…
كاعرف بنا فإننا نلنا المنح
يعني أن الضمائر كلها مبينة واجب لها البناء، ليس بجائز، كما كان جائزًا في نحو يومئذ، وقبل وبعد، ولا أيضا يوجد في بعضها دون بعض، كما وجد ذلك في أسماء الإشارة، الموصولات نحو: هذا واللذان على رأيه فيهما حسب ما يذكره بعد، وكأسماء الشرط وأسماء الاستفهام حيث وجدت في بابيهما، وفي باب الموصولات "أي" معربة وجود علة
البناء فكسرت اطرادًا لبناء فيها، فلم يصح فيها كلية، وكذلك باب أسماء الأفعال حيث وجد فيها، دونك ونحوه معربًا على رأي الأكثرين، فقد تبينت حكمة (كل) و (يجب) في كلامه، إذ لم يوجد مضمر معرب البتة لا جوازًا ولا وجوبًا بخلاف أكثر أنواع المبينات، وهذا منه حسن من التنبيه، فتنبه له. وقد تقدم أن البناء في الأسماء ل سبب فلننظر في سبب بناء المضمرات/ وتعيين السبب المختص بها مما ذكر، أو مما لم يذكر فنقول: يحتمل أن يكون سبب البناء فيها شبه الحرف الوضعي؛ لأن منها ما وضع وضع الحرف في الأصل على حرف واحد كالتاء في ضربت وضربت وضربت، والنون في ضربن، والياء في غلامي واضربي، والألف في ضربا ويضربان، والواو في ضربوا ويضربون. أو على حرفين ثانيهما حرف لين، نحو: هو وهي وها في ضربها، و "نا" في ضربنا، ثم حمل عليا سائر الضمائر لتجرى كلها مجرى واحدًا، كما حملوا أعد وتعد ونعد على يعد في الإعلال، وكما حملوا يكرم وتكرم ونكرم على أكرم في حذف الهمزة، وكما حملوا فعال في المصادر كيسار وفجار على فعال في الأمر، ليجرى كل في باب مجرى واحدًا، فإذا يكفى أن ترد في بنائها إلى شبه الحرف الوضعي الذي ذكره الناظم قبل، ويحتمل أن يكون سبب بنائها وضعها في الأصل على الافتقار إلى ما يفسرها كما أن الحرف كذلك، لأن ذا الحضور منها مفتقر إلى معنى الحضور كأنا ونحن في التكلم، وأنت وأنتم في الخطاب، وذا الغيبة مفتقر إلى محال علي في لذكر أو في العلم، وهذه العلة أتم من الأولى، لا طرادها ووجودها في الضمائر كلها، من غير حمل لبعضها على بعض، فهي بهذا الاعتبار ترجع إلى شبه الحرف الافتقارى الذي ذكره أيضا.
ويحتمل أن يكون سبب البناء فيا الاستغناء، باختلاف صيغها لاختلاف المعاني؛ لأن المتكلم إذا عبر عن نفس خاصة فله تاء مضمومة في الرفع، وفي غير الرفع ياء، وإذا عبر عن المخاطب فل تاء مفتوحة في الرفع، وفي غيره كاف تفتح وتكسر بحسب المذكر أو المؤنث، ولا يضر في هذا اتفاق اللفظ في النصب والجر نحو: ضربني غلامي، وضربك غلامك، وضربه غلامه، وضربنا غلامنا، وما أشبه ذلك، كما لا يضر ذلك في المعربات حيث اتفق النصب والجر معا، وذلك نحو: ضربت الزيدين، ومررت بالزيدين، وضربت الهندات، ومررت بالهندات، ورأيت الزيدين، مررت بالزيدين، ورأيت أحمد، ومررت بأحمد، فهذه أربعة أنواع، يتفق فيها لفظ النصب والجر، ولم يكن ذلك قادحًا في التفرقة لأجل وجود التمييز بالعامل، فكذلك ما نحن فيه وهو حسن في نفسه، لا بحسب قصد الناظم، وإن كان ابنه قد رجحه في شرح كلامه فقال: ولعل هذا هو المعتبر عند الشيخ، ولذلك عقبه بتقسيمها بحسب الإعراب كأنه قصد بذلك إظهار علة البناء فقال:(ولفظ ما جر كلفظ ما نصب)، أي: الصالح للجر من الضمائر المتصلة (هو الصالح للنصب لا غير. وأما الرفع فلا يصلح ل منها إلا "نا" خاصة، ولذلك أفردها) بهذا الحكم كما يجئ بحول الله.
قال: ولما بين أن الواقع من الضمائر المتصلة في الإعراب كله هو "نا" علم أن ما عداها من المتصل المنصوب لا يتعدى النصب إلا إلى الجر كياء المتكلم، وكاف المخاطب، وهاء النائب، هذا ما قال على نقل بعضه بالمعنى، وهو بعيد الاعتبار في كلام الشيخ من وجهين: -
أحدهما: أنه شرح/ في باب المعرب والمبنى علة البناء في الأسماء ولم يتعد فيا شبه الحرف، لأنه قال أولا:
والاسم منه معرب ومبنى
…
لشب من الحروف مدني
قلم يجعل له علة إلا الشبه، ثم قال في آخر الفصل.
ومعرب الأسماء ما قد سلما
…
من شبه الحرف كأرض وسما
فنفى البناء عن كل ما لم يشبه الحرف، فدل على أن شبه الحرف عنده هو الموجب للبناء لا غيره، وقد مر بيان ذلك بأتم من هذا، فإن كان هذا الوجه راجعًا إلى شبه الحرف بطريق صحيح فيحتمل أن يريده الناظم احتمالًا غير راجح، بل مرجوحا، لأنه ليس في كلامه هنا ما يقتضي، إذ لم يربط أحد الحكمين بالآخر، ولا نبه على ارتباطهما، فلو أتى بالفاء فقال: فلفظ ما جر كلفظ ما نصب، لكن فيه إشعار بما قال، فلما أتى بالفاء فقال: فلفظ ما جر كلفظ ما نصب، لكان فيه إشعار بما قال، فلما أتى بالواو دل على أنه لم يقصد ما قاله، وهذا هو الثاني من الوجهين. وأما إذا لم يرجع هذا الوجه إلى شبه الحرف البتة أو رجع لكن بتكلفٍ فيه فيبعد جدًا قصد الناظم له، مع ما تقدم له من ذكر الشبه الوضعي والافتقاري، ويحتمل على بعد في قصده أيضا أن يكون سبب بناء المضمرات ما ذكر السيرافي من الإبهام في الأشياء كلها، والدخول عليها؛ لأن المضمر يقع على كل شيء من الحيوان وغيره، فأشبه الحرف من حيث أن الحروف أعراض تعترض في الأشياء
كلها، وقد تقدم بيان هذا الوجه، وإمكان رجوعه إلى ما ذكره الناظم، وإمكان كونه وجهًا مستقلًا من أوجه (شبه الحرف فهذه) أربعة أوجه يمكن تعليل بناء المضمر بها، وجميعها قد قيل به فيها، وأشهرها الوجهان الأولان، ثم قال:(ولفظ ما جر كلفظ ما نصب) يعني أن الضمائر المتصلة الموضوعة للجر مثل الضمائر الموضوعة للنصب في اللفظ، فإنك تقول: ضربني غلامي، فالياء ضمير جر في غلامي، وضمير نصب في ضربني، وكذلك الكاف في ضربك غلامك كانت مفتوحة أو مكسورة، ومثله {ما ودعك ربك} و {عسى أن يبعثك ربك} وكذلك هاء الغائب وهاء الغائبة نحو: ضربه غلامه، وضربها غلامها، ومثله {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن} ، وقوله {فألهمها فجورها وتقواها} ، ووجه هذا الاشتراك طلب الاختصار، وتقليل الأوضاع مع أنها لا تلتبس، للتميز بالعوامل فيها. وأما ضمائر الرفع فدل المفهوم على أنها ليست كضمائر النصب، إلا أن خرج عن ذلك ضمير واحد فجعل لفظه في الرفع كلفظه في النصب، وذلك "نا" فنبه عليه بقوله:(للرفع والنصب وجرنا صلح) يعني أنه خرج عن أصل المخالفة في اللفظ فاستعمل في الرفع كما استعمل في النصب وفي الجر. أما استعماله في الجر فعلى القاعدة المستمرة، وأما استعماله في الرفع فعلى خلاف القاعدة، ومثل استعماله في الأحوال الثلاثة بقوله:(اعرف بنا فإننا نلنا المنح) فالأول: في موضع
جر بالباء، والثاني: في موضع نصب بـ "إن"، والثالث: في موضع/ رفع بـ "نلنا" و (اعرف بنا): اعرفنا من المعرفة والعرفان، وتعدى بالباء التي في معنى الظرفية، كأنه يريد اجعلنا موضع عرفانك، فإننا نلنا المنح، ويمكن أن يكون من قولهم: عرف به واعترف، أي أقر به، والمعنى أقر بفضلنا فإننا نلنا المنح، ونال يجوز أن يكون من المعتدى إلى أثنين، أو من المعتدى إلى واحد، فإنك تقول: نلت خيرًا، أي: ًاصبته، وتقول: أنلت الشيء زيدًا أي: أعطيته إياه، وأنلته له ونلته إياه، فالمعنى على الأول، فإننا أصبنا المنح واحتوينا عليها، وعلى الثاني تعرف بنا فإننا أنلنا الناس المنح والعطايا، وهذا أظهر من الأول. والمنح: جمع منحة وهي العطية، يقال: منحة كذا يمنحه ويمنحه منحًا، والاسم: المنحة. والمنحة أيضا: العارية. قال أبو عبيد للعرب أربعة أسماء تضعها موضع العارية المنحة والعارية والإفقار والإخبال.
وقوله: "نا صلح""نا" مبتدأ خبره "صلح" وللرفع وما بعده متعلق بـ "صلح"، وفي هذا الكلام نظر إعرابي سينبه عليه، وإن كان قد تقدم مثله في قوله (بالجر والتنوين والندا وأل .. ) إلى آخره ولما بين أن لفظ "نا" قد صلح لوجوه الإعراب دل على أن غير من ضمائر الرفع ليس كذلك، بل له لفظ آخر.
واعلم أن ضمائر الرفع المتصلة إنما تقدم له منها الياء في سليه، وضمائر النصب إنما ذكر منها (الكاف في أكرمك) و"الهاء" في سليه وضمائر الجر إنما ذكر منها الياء في ابني، وذلك كله في قوله: "كالياء والكاف من ابني أكرمك
…
إلى آخره"فاستدرك الياء للنصب والكاف والهاء للجر بقوله: (ولفظ ما جر كلفظ ما نصب) فصار كل واحد من الياء والكاف والهاء صالحًا للنصب والجر، فتقول: ضربني ابني، وضربك ابنك، وضربه ابنه وأما الرفع فاستدرك له "نا" في قوله: (للرفع والنصب وجر نا صلح).
وبقى له ألفاظ أخر بينا بقوله:
وألف والواو والنون لما
…
غاب وغيره كقاما واعلما
يعني أن الألف والواو والنون ضمائر رفع أيضا، تكون للغائب وغيره فكونها للغائب نحو:"قاما" الممثل به، إذا قلت: الزيدان قاما والزيدون قاموا، وكذل الهندات قمن، وغير الغائب هو الحاضر، وأراد به المخاطب، دل على ذلك مثاله وهو:(اعلما) ومثله: اعلموا واعلمن، وأما المتكلم فلا ضمير له هنا، والمضارع أيضا تلحقه هذه الضمائر للغائب والحاضر نحو: أنتما تقومان، وأنتم تقومون، وأنتن تقمن وهما يقومان، وهم يقومون، وهن يقمن. ونصه هذا في هذه الأحرف الثلاثة قد دل على كونها ضمائر لا علاماتٍ على الجملة، وهو مذهب الجمهور،
وذهب المازني فيما نقل عنه إلى أنها لا تكون ضمائر البتة، وإنما هن علامات مطلقا، فإذا قلت: يقومان الزيدان، ويقومون الزيدون، وما أشبه ذلك، فهي علامات باتفاق، فكذلك يكون الحكم إذا قلت: الزيدان يقومان، والزيدون يقومون وما أشبه ذلك، وكذلك النون في يقمن والياء في تقومين يا هند، فالفاعل مستكن في الجميع، وهذه الأحرف علامات تدل على فرعيته في تثنية أو جميع أو تأنيث، كما كانت التاء في قامت، كذلك باتفاق، ورد المؤلف هذا في "شرح التسهيل" بما/ ذكر في ياء تقومين، وذلك كافٍ هنا فلا حاجة إلى الإعادة.
واعلم أن هذا الفصل فيه نقص بيانٍ من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لم يستوف ضمائر الرفع على الكمال، بل نقصه منها التاء في نحو: قمت وقمت وقمت، أعنى من الضمائر البارزة، وأما المستترة فهو ذاكرها إثر هذا.
والثاني: أنه عرف بضمائر النصب والجر تعريفا مجملا، لأنه إنما ذكر منها ما دل على المفرد المذكر، ولم يذكر من ضمائر المؤنث إلا الياء في (سليه) فترك اختلافها بحسب التثنية والجمع والتأنيث، بل ترك في كاف الخطاب ذكر الفتح مع المذكر لكون كاف أتت في نظمه رويًا مقيدًا حيث قال:(من ابني أكرمك) فلم يتعين للمذكر فتح من كسر ولا العكس للمؤنث. وأنت تعلم أن الكاف تفتح للواحد المذكر، وتكسر للواحدة المؤنثة، وتوصل مضمومة بميم وألف للاثنين والاثنتين، وبميمٍ
وواوٍ ممدودة لجمع المذكرين العقلاء. ويجوز حذف الواو وإسكان الميم وبنون مشددة لجمع المؤنث فتقول في الأول: ضربك، وفي الثاني: ضربك، وفي الثالث: ضربكما، وفي الرابع: ضربكمو وضربكم إن شئتن وفي الخامس: ضربكن، والهاء أيضا وهي المنبه عليها في "سليه" تضم للمذكر الواحد إن انضم ما قبلها أو كان مفتوحًا أو ساكنًا غير الياء، وتكون مكسورة إن انكسر ما قبلها، أو كان ياء قبلها كسرة، أو فتحة، لكنها توصل بمجانس حركتها من واوٍ أو ياء إن تحرك ما قبلها أصليًا نحو: ضربهو ويضربهو ولهو، ومن إبلهى وبهى. فإن سكن ما قبلها أو تحرك تحركا عارضا ففي الوصول وجهان:
فالأول نحو: لم يضربه، وعليه، تقول فيه إن شئت: لم يضربهو وعليهى، والأول أشهر.
وفي الثاني تقول: أعطه ولم يعطه، وأعطهي ولم يعطهي إن شئت وتفتح الهاء للمؤنثة الواحدة، وتوصل بألف مطلقا نحو: ضربها ولم يضربها، وهو يضربها، وبها وعليها، وتوصل مضمومة أو مكسورة، كما تقدم في التفصيل بميم وألف للاثنين والاثنتين، وبميم مضمومة ممدودة أو ساكنة كما تقدم مع الكاف لجمع المذكرين العقلاء، فتقول في المثنى: ضربهما ولم يضربهما، ولهما وبهما ولم يضربهما، وفي المجموع ضربهم، وضربهمو إن شئت، وبهم وبهمو إن شئت، وبنون مشددة للمؤنثات نحو: ضربهن ولم يضربهن، ولم يعطهن وبهن ولهن، هذا في ضمائر النصب والجر. وأما في ضمائر الرفع فالتاء تضم للواحد المذكر المتكلم، وتفتح للمخاطب وتكسر للمخاطبة بغير مد، كالكاف، وتوصل مضمومة بميم وألف للاثنين والاثنتين، وبميم ساكنة أو مضمومة ممدودة لجمع العقلاء من الذكور، وبنون
مشددة للإناث، فهذا كله مما نقصه التنبيه عليه، مع أنه ضروري لا يتحصل فهم الضمائر إلا به، وهو كما ترى وقد أغفل ذكره، فما أولاه بالاعتراض والنقد عليه والثالث: أنه لما ذكر أن الألف والواو والنون من ضمائر الاتصال لم يبين أنها ضمائر رفع، فأوهم أنها من جملة ضمائر النصب والجر، وهو إيهام مخل.
فأما الاعتراض الأول فلازم له، فلو قال- بعد ذكر الألف والوا والنون-
وللحضور التا كقمتُ قمتا
…
قمت وللفروع قد نبهتا
أو غير ذلك مما يعطي فيها بيانًا، لتم قصده، وكذلك الثاني لو حرره بأن يقول مثلا- بعد بيان أن لفظ ما جر كلفظ ما نصب- /:
فالنصب نحو عمنى وعمه
…
عمك والباقي رزقت فهمه
لم يخل من بيان الفروع، كما فعل في الضمائر المنفصلة، ويحصل بذلك بيان ضمائر الجر لقوله:(ولفظ ما جر كلفظ ما نصب)، وأما الثالث: فيمكن أن يكون سكت عن بيان أنها من الضمائر اتكالًا على فهم ذلك من قوله: إثر هذا، (ومن ضمير الرفع ما يستتر) إذ فيه إشارة إلى أن ما تقدم من ضمائر الرفع، وهذا اعتذار ضعيف، فلو قال مثلا:
وألف الواو والنون لما
…
غاب وغيره وللرفع أنتما
لكان أولى من التمثيل لبيان الخطاب أو قال:
وألف والواو والنون لما
…
خوطب أو غاب وللرفع انتمى
لتم له المقصد، والله أعلم.
ثم أخذ في بيان ما يستتر من ضمائر الرفع فقال:
ومن ضمير الرفع ما يستتر
…
كافعل أوافق نغتبط إذ تشكر
يعني أن ضمائر الرفع المتصلة على قسمين: قسم بارز ينطق به، وقد تقدم ذكره. وقسم يستتر، فلا يظهر له أثر في اللفظ، وإنما هو مقدر في النية، فعبر عن هذا المعنى بالاستتار، كأنه احتجب عن الإدراك اللفظي.
فإن قيل: إن الاستتار في الذهن إنما يستعمل فيما كان منكشفًا ثم اختفى، والضمير المستتر هنا لم يكن ظاهرًا ثم اختفى؛ لأن حقيقة الضمير البارز ألا يخفى أبدًا، والضمير المستتر هنا لا يظهر أبدًا، وإذا كان كذلك لم يلق بالموضع لفظ الاستتار، وإنما كان الأولى الإتيان بلفظ يعطى معنى عدم) الظهور جملة، ما قال في "التسهيل" فمنه واجب الخفاء ومنه جائز الخفاء، إذ لفظة الخفاء لا يفهم منها أنه كان ظاهرًا، ثم خفي بخلاف لفظة الاستتار والاختفاء؛ لأن كل واحد من هذين مطاوع لقولك: سترته وأخفيته، أي: فعلت به هذا بعد أن لم يكن، وليست الضمائر المستترة مما كان ظاهرًا ثم استتر، لأنك إذا قلت: افعل يا زيد فليس المقدر لفظ أنت ولا غيره، وكذلك إذا قلت: نحن نفعل، فليس المقدر لفظ نحن ولا غيره، وكذلك سائر ما يستتر منها وجوبًا، وإنما هي أمور ذهنية تقديرية لم تظهر قط، فلم ينبغ أن يأتي بما يقتضى أنها ظهرت.
فالجواب: أن الناظم لم يعتن بهذا التحقيق، اتكالًا على فهم المراد ثم إن سلمنا قصده إليه فعلى لحظٍ آخر، وذلك أن الضمائر المتصلة أصلها في القياس أن تبرز وتظهر في النطق، لما تقرر في الغالب من حالها، إذ هي من قبيل الألفاظ، فما استتر منها فأصله ألا يستتر، وإذا كان كذلك فقوله:(ومن ضمير الرفع ما يستتر) أي: ما كان في الأصل القياسي حقيقًا بالظهور، ثم صار بالاستعمال مما يستتر يظهر، فظهوره الذي أشعر به اللفظ هو القياس. ولذلك نقول في الضمير في:(اسكن) ونحوه أنه من قبيل الألفاظ، وقد اعترض شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني- رحمه الله حد الكلمة في "التسهيل"، بأنه أتى به ليكون حدًا منطقيًا، وهو لم يأت فيه بالجنس، لا الأقرب ولا الأبعد فإنه قال فيه: الكلمة لفظ، ثم قال: أو منوى معه كذلك، وتقديره عنده: أو غير لفظ (منوي مع اللفظ فكأن الجنس عنده لفظ أو غير لفظ، وهذا ليس بجنس).
قال شيخنا القاضي- رحمه الله ومن العجب أنه لا يجد هذا الجنس لو بحث عنه. قال: والذي أوقعه في هذا جعله الضمائر من قبيل غير/ اللفظ، وليس كذلك، إنما هي من قبيل الألفاظ، وإنما
عرض لها أن أضمرت فلم تظهر في النطق، وهي قد تظهر في أحيان أخر، يعني حيث يجب الظهور. فالحاصل أن كلام الناظم على كلا المحملين صحيح، ثم ذكر لاستتار الضمير ثلاثة مواضع:
أحدها: فعل الأمر إذا كان للواحد، لا للاثنين ولا الجماعة وللمذكر لا للمؤنث، فهذان وصفان لا بد منهما، وهما اللذان أعطاهما التمثيل بأفعل، فإن الأمر إذا كان للاثنين أو الجمع برز ولم يستتر نحو: افعلا وافعلوا وافعلن، وكذلك إذا كان للمؤنث برز نحو: افعلي والياء عنده ضمير لا علامة حسب ما تقدم، فإذا اجتمع الوصفان استتر الضمير فتقول: اضرب واعلم وقم، وما أشبه ذلك.
والثاني: الفعل المضارع ذو الهمزة الدالة على المتكلم وحده، أو النون الدالة على المتكلم ومعه غيره، أو وحده مع قصد التعظيم، وهما اللذان نبه عليهما بقوله:(أوافق نغتبط) وكأنه قصد أن المضارع إذا كان فاعله المتكلم استتر مطلقًا، بخلاف غير ذلك، فإن الضمير يظهر معه إذا قلت: يفعلان ويفعلون ولتفعلي وما أشبه ذلك.
والثالث: الفعل المضارع ذو التاء، لكن بشرط أن يكون للواحد المخاطب نحو: أنت تفعل وهو الذي دل عليه قوله: (إذ تشكر) وهو فعل
مبني للمفعول ومثله المبنى للفاعل، كقولك: أنت تشكر، إذا لا فرق بينما، ومن هنا يحتمل المثال الضبط بالبناء للفاعل، وأظن أن ابن الناظم هكذا ضبطه إلا أنه جعل مثال التاء "تغتبط" ومثال النون "نشكر" والأمر في ذلك قريب، فإن لم تكن التاء للواحد المخاطب، بل للواحدة الغائبة، فالضمير يبرز هنالك في نحو ما تقوم إلا هي، وكذلك إن كانت التاء للواحدة المخاطبة، نحو: لتفعلي يا هند، وإن عددت هذه المواضع أربعة فلا بأس، وهذا فعل ابن الناظم.
واعلم أن قوله: (ومن ضمير الرفع ما يستتر) يدل على أن الاستتار إنما يكون في ضمائر الرفع، وأما ضمائر النصب والجر فلا تستتر البتة، ووجه ذلك أن الضمير الرفع عمدة في الكلام لا يستغنى عنه، فساغ تقديره من غير تلفظ به، استغناء عن لفظه بتقدير معناه، بخلاف الضمائر الأخر، فإنها فضلات يستغنى عنها، فلم يسغ تقديرها والاستغناء عن اللفظ بها، لعدم الدليل على القصد إليها، وبناء الكلام عليها.
فإن قيل: فأنت قد تقول: أعجبني الذي أكرمت، تريد: أكرمته و {اقض ما أنت قاض} تريد قاضيه، فجعلت ضمير النصب وضمير الجر مستترًا، كما جعلته مستترًا في (افعل) وأخواته، فكيف يخص الناظم الاستتار بضمير الرفع؟
فالجواب: أن ذلك في ضمير استتار حقيقة، وفي غيره حذف وقد فرق الناس بين الأمرين، بأن المضمر في حكم الحاضر الملفوظ به المراد، بخلاف المحذوف، فإنه كان ملفوظًا به، ثم ترك وأهمل فليس في حكم الحاضر.
والدليل على صحة هذا الفرق أنك إذا سميت بضرب المستتر فيه الضمير حكيت كما تحكى الجمل، وإن سميت بقولك: ضربه حكيت أيضا، فإن حذفت الضمير المنصوب أعربت، وإن كان أصل الحذف اختصارًا. وذلك دليل على: عدم/ اعتباره، وعلى اعتبار ضمير الرفع، وقد فرق ابن خروف وغيره بين المضمر والمحذوف بما لم يحضرني الآن، فما أشار إليه الناظم صحيح لا شك فيه إلا أن حصره مواضع الاستتار نظرًا وهو أنه إما أن يريد حصر مواضع الاستتار الواجب، وإما أن يريد حصر مواضع الاستتار مطلقا، فإن من ضمائر الرفع ما يجب استتاره، ومنها ما يجوز استتاره وظهوره، ومنها ما يمتنع استتاره، أما هذا الأخير فهو ما تكلم فيه أولا، وأما غيره فهذا فصله، فإن أراد الواجب الاستتار- وهو الذي أراد بلا شكٍ- فقد نقصه موضع خامس لا بد من ذكره، وهو: اسم فعل الأمر، كنز الٍ وصه وإيه إذا كان مسندًا إلى مفرد أو مثنى أو مجموع مذكر أو مؤنث، فإنك تقول: مه يا زيد ويا زيدان ويا زيدون ويا هند ويا هندان وياهندات، وكذلك سائرها. وقد نبه على ذلك في "التسهيل" فعد من المواضع اسم
فعل الأمر مطلقًا وعلى هذا النظر يكون حصره ناقصا، وإن أراد ما هو أعم من الواجب الاستتار، والجائزة فكلامه أيضا معترض، إذ ليس في كلامه ولا تمثيله ما يشعر بذلك، وإذا كان خارجًا عنه فهو جزء من المسألة نقصه ذكره.
فإن قلت: إن قوله: (ما يستتر) يحتمل أن يريد به القسمين معا.
قيل: التمثيل بما يجب استتاره يرفع ذلك الاحتمال فيلزم الإشكال.
والجائز الخفاء هو الضمير المرفوع فعل المفرد، مذكرًا كان أو مؤنثا، مضارعا كان الفعل أو ماضيًا، نحو: زيد قام، وهند قامت، وزيد يقوم، وهند تقوم، والمرفوع باسم فعل بمعناه كهيهات لو قلت: العقيق وأهله هيهات، وسواء في هذا الضمير الواحد والاثنين والجميع ومثله سرعان ووشكان، والمرفوع بصفة بمعناه أيضا نحو: مررت برجل حسن، وبرجل قائم، وبامرأة جميلة، وإنما كان جائز الخفاء لصحة ظهوره في الحصر بإلا، وصلاحية الظاهر في موضعه، بخلاف القسم الأول كقولك: زيد حسن وجهه، وما حسن إلا هو، وهيهات العقيق وأهله.
والجواب أن يقال: يحتمل أن أراد الواجب الاستتار (والجائزة معا، ولا يلزمه اعتراض، ويحتمل أن يكون الواجب الاستتار فقط، فأما إن أراد) الأول فإنه إنما مثل بالواجب، لأنه أقعد في ذلك من الجائز، وأتى بالكاف تنبيها على ما بقى مما لم ينبه عليه بمثال، ويدل على ذلك أنه إنما قال أولا:(ومن ضمير الرفع ما يستتر) ولم يقيد ذلك بوجوبٍ
ولا جواز، وأيضا فإذا أمكن صرف الأمثلة إلى نوع من أنواع المستتر لم يكن التمثيل نصا في تعيين أحد النوعين، إذ معناه أن من ضمير الرفع ما يستتر هذا الاستتار، فاقتضى أن منه ما يستتر على نوع آخر وهو الجواز، إلا أنه لم يعتن بقسم الجائز الاستتار، وأما إن أراد الثاني فاللفظ صالح له. ولا سيما حين قيد ما ذكرنا بالتمثيل.
فإن قيل: إن قول: (ما يستتر) كيف يعطى اللزوم مع صلاحيته لغيره؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن مراده بقوله: (ما يستتر) أي: ما شأنه الاستتار لا بمعنى أنه قد يكون وقد لا يكون، والعرب تعبر بالمضارع وتريد به الدوام من غير انقطاع كقولهم: فلان يعطى ويمنع، أي: شأنه هذا ودأبه أبدًا، فيكون/ هذا من ذلك.
والثاني: أن العبارة وإن كانت مطلقة فقد قيدها، لما مثل بما يلزمه الاستتار، فدل على أن ما مثل به مراد له. والله أعلم.
ولما بين الضمائر المتصلة وعددها وذكر مرفوعها ومنصوبها ومجرورها، أخذ في بيان الضمائر المنفصلة، وهو القسم الثاني (من قسمي الضمائر فقال):
وذو ارتفاع وانفاصل أنا هو
…
وأنت والفروع لا تشبه
وذو انتصاب في انفصال جعلا
…
إياي والتفريع ليس مشكلا
فقسم الضمائر المنفصلة إلى قسمين:
قسم مرفوع، أي: هو من ضمائر الرفع، وهو الذي عبر عنه بذي الارتفاع.
وقسم منصوب، أي: هو من ضمائر النصب، وهو المعبر عنه بذي الانتصاب.
ولم يذكر للجر ضميرًا منفصلا؛ لأنه معدوم إذ الجار لا يقوى أن يكون في درجة الفعل، والفعل قوي فجاز تصرفه في معمولة بالتقديم والتأخير والفصل، بخلاف الجار، كان اسما أو حرفا، فلما ضعفت عن مرتبة الفعل لم يفصل منه ضميره، فكما لا ينفصل المجرور عن جاره إذا كان ظاهرًا، فكذلك لا ينفصل عنه إذا كان ضميرًا، بل الاتصال هنا أولى، وابتدأ الناظم بضمائر الرفع فقال:(وذو ارتفاع وانفصال أنا هو وأنت) أراد أنا وهو، إلا أنه حذف العاطف ضرورة، يعني أن الضمائر المنفصلة المرفوعة هذه الثلاثة وفروعها، وجعله غيرها فروعا دل على أن هذه الأصول، وذلك صحيح، فإن الأصل الإفراد، وغيره فرع عنه، والأصل أيضا التذكير، وغيره فرع عنه، والدليل على ذلك: جعلهم لما ليس مفردًا مذكرًا علامة تدل عليه في حال إسناد الفعل إليه ولذلك قال الجزولي: إذا ذكر الفعل أدرك أنه لا بد من فاعل، وأنه أقل ما يكون واحدا، وأن أصله التذكير قال: فيحتاج ما لا يدرك إلى علامة فكذلك
ها هنا، فـ "أنا" ضمير التكلم وحده و "هو" ضمير الغائب المذكر وحده و "أنت" ضمير المخاطب المذكر وحده، فهذه ثلاثة أقسام كلها للمفرد والمذكر، فإذا ما خرج عنها ففرع عنها، وذلك ضمير المثنى والمجموع والمؤنث، ولما كانت هذه الفروع قريبة المأخذ سهلة الانقياد إلى الفهم، اتكل الناظم على ذلك فيها، فأحال عليها إحالة مجملة لأنها لقربها في حكم المعلوم. فقال:(والفروع لا تشتبه) أي: أن فروع هذه الثلاثة غير مشتبهة ولا ملتبسة، فعليك فهمها، ويقال: اشتبه على الأمر: إذا التبس وأشكل، ومنه في الحديث:"الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات" أي: مشكلات وملتبسات. فأما "أنا" فاستغنى به عن ضمير المفرد المؤنث "أنا" يقوله المؤنث على حد ما يقول المذكر، لأن تكلمه يعينه، فلم يحتج إلى دلالة على التأنيث، وأما المثنى والمجموع مذكرًا أو مؤنثًا فليس لهما إلا ضمير واحد، وهو "نحن" وأصله أن يكون للجماعة، لكنهم شركوا معه المثنى فيه؛ لأن الاثنين فما فوقهما جماعة؛ لأن كل واحد منهما قد جاء مع صاحبه فحقيقة الجمعية موجودة في المثنى، فشرك مع الجمع في الكناية/ واستغنى عن التفرقة بين المذكر والمؤنث؛ لأن تكلمة يعينه، ولقصد الاختصار بتقليل الأوضاع، وإذا استعمل "نحن" في المفرد فعلى خلاف الأصل إذ لا يطلق على المفرد إلا مع توهم الجمع، لأن الواحد لا يستحق ضمير "نحن" إلا مع التعظيم، (إما بقيامة مقام الجماعة أو اختصاصه بالجماعة في الأمر الغالب).
وأما "هو" ففروعه بالنسبة إلى المثنى والمجموع المذكر هما وهم وبالنسبة إلى المفرد والمجموع المؤنث هي وهن، ويشترك مثناه مع مثنى المذكر في اللفظ، وذلك هما، وأما "أنت" ففروعه بالنسبة إلى المثنى والمجموع المذكر أنتما وأنتم، وبالنسبة إلى المفرد والمجموع المؤنث أنت وأنتن، ويشترك أيضا مثناه مع مثنى المذكر، وذلك أنتما فهذه الفروع كما ترى قريبة المأخذ في الفهم من تلك الأصول، فلذلك قال:(والفروع لا تشتبه) وسكن واو "هو" لما احتاج إليه في الوصل لأن الواو والياء لا تقعان وصلا إلا ساكنين ثم قال: (وذو انتصاب في انفصال جعلا إياي) يعني أن الضمير المنفصل المنصوب جعل إياي، أي: جعلت له هذه الصيغة وهذا اللفظ، ثم قال:(والتفريع) يعني على "إياي" هذا المذكور، (ليس مشكلا) بل هو بين ظاهر في نفسه، ومما تقدم في ضمير الرفع وذلك أنه ذكر في المرفوع المنفصل ثلاث مراتب:
مرتبة المتكلم: وهي المنبه عليها بـ (أنا). ومرتبة المخاطب: التي أشار إليها بـ (أنت) ومرتبة الغائب: الممثلة بـ (هو) وفرع على كل واحدة، فكذلك يكون الأمر ها هنا، فأتى بضمير المتكلم واقتصر عليه؛ لأنه يدل على مرتبة المخاطب، ومرتبة الغائب، بالإحالة على الحال في المرفوع، ولأن جميع المراتب الثلاث اللفظ فيها واحد، وهو "إيا" ولا تختلف إلا بحروف التكلم والخطاب والغيبة، في آخره، فلذلك قال:(والتفريغ ليس مشكلا) حيث أتى بـ "إيا" الداخلة في المراتب كلها أصولها وفروعها، وبحرف التكلم الدال على مرتبتي الخطاب والغيبة، وهو الياء في مثاله، فلنجر في التفريغ على ما حد، فنقول: أما المتكلم فله ضميران:
أحدهما: "إياي" وهو للمفرد مذكرًا كان أو مؤنثًا، كما ذكره في "أنا"
في المرفوع.
والثاني: "إيانا" للاثنين والجماعة في التذكير والتأنيث، كما مر في "نحن"
وأما المخاطب فله خمسة ضمائر: "إياك" وهو نظير "أنت" في المرفوع، يختص بالواحد المذكر، ويتفرع عنه الاثنين "إياكما" وللجمع المذكر "إياكم" وللواحدة "إياك" ولجمعها "إياكن"، ويشترك مثناها مع المذكر في إياكما.
وأما الغائب: فله خمسة ضمائر "إياه" وهو نظير "هو" في المرفوع يختص بالواحد المذكر، ويتفرع عنه الاثنين "إياهما" وللجميع "إياهم"، وللواحدة "إياها"، ولجمعها "إياهن"، ويشترك مثناها مع المذكر في "إياهما"، كما اشترك معه في المرفوع، ويتعلق بكلامه مسألتان:
إحداهما: أن "إيا" في نص كالمه من قبيل الأسماء المضمرة، وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمازني والجمهور، وهو أحد الأقوال الثلاثة فيه.
والثاني: أنه من قبيل الأسماء الظاهرة، لا من الضمائر، وهو رأي الزجاج.
قال ابن جني: وحكى لي حاكٍ، عن أبي إسحاق، أراه قال: سمعته
يقول: وقد سئل عن معنى قوله تعالى: {إياك نعبد} ما تأويله فقال: حقيقتك نعبد، قال: واشتقاقه من الآية وهي العلامة.
والثالث: أن "إيا" عماد/ للضمائر بعده، وليس باسم ظاهر ولا مضمر، بل هو كحرف زائد لا يحول بين العامل والمعمول، حكاه السيرافي وابن كسيان عن بعضهم، والأصح ما ذهب إليه الناظم رحمه الله والدليل على ذلك أمور ثلاثة:
أحدها: أنه يخلف ضمير النصب المتصل عند تعذره، بتقديمه على العامل نحو: إياك أكرمت، أو لإضماره نحو: إياك والأسد، أو لانفصاله بأداة حصر نحو: ما أكرم إلا إياك، أو نحو ذلك من الموجبات للانفصال كما يخلف ضمير الرفع المتصل عند تعذره ضميره المنفصل، فنسبة المنفصل في النصب من المتصل، كنسبة المنفصل في
الرفع من المتصل، وإذا كانت النسبة واحدة والمنفصل في الرفع ضمير باتفاق، فكذلك يجب على المنفصل في النصب أن يكون ضميرًا.
والثاني: أن بعض المرفوعات كجزء من رافعه، وقد ثبت لضميره المنفصل، فثبوت ذلك لضمير النصب أولى، إذ لا شيء من المنصوبات كجزء من ناصبه.
والثالث: أن "إياك" اقتصر به على ضرب واحد من أضرب الإعراب، وهو النصب، فهو إما مضمر، وإما مصدر، وإما ظرف، وإما حال، وإما منادى، ولا زائد على هذه في الاحتمال، ولم نعلم اسما مظهرًا اقتصر به على النصب، إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية، نحو: ذات مرة أو على المصدرية نحو: سبحان الله، أو على الحالية نحو:"أرسلها العراك"، أو على النداء نحو: يا عبد الله، وأما التمييز فلا يحتمله لتنكيره، فلم يبق إلا أن يكون ضميرًا، فثبت أنه اسم مضمر، لا اسم ظاهر، ولا عماد، وذلك ما أردنا.
والثانية: أن الياء في "إياي"، والكاف في "إياك"، والهاء في "إياه" وسائر ما يلحق "إيا" لم يبين الناظم ما هي أهي أسماء أم حروف، إذ يحتمل كلا الوجهين على مذهبه في أن "إيا" ضمير؟ وإلى الأول ذهب الخليل، واختاره المؤلف في "التسهيل"، وإلى الثاني ذهب الأخفش
فيما حكاه ابن جني عن الفارسي.
أما على مذهب الزجاج والمذهب الآخر فلا مرية في أنها عندهما أسماء ولا يصح غير ذلك فيها، وإنما ترك التنبيه على ذلك- والله أعلم- لأمرين:
أحدهما: أنها مسألة لا ثمرة لها في الصناعة، ولا فائدة في الكلام بل الاعتقاد أن بالنسبة إلى الكلام به واحد.
والثاني: تقارب الأنظار في الوجهين، وورد الإشكال على المذهبين، أما على القول بأنها أسماء مضاف إليها، فإن "إيا" مضمر كما تقدم، والأسماء المضمرة والمبهمة معارف، لا يجوز عليها التنكير، وإنما يضاف الشيء إذا قدر نكرة ليكتسب تعريف الإضافة، فإذا استحال تنكير المضمر استحالت إضافته، وإذا استحالت إضافته استحال أن تكون الكاف في "إياك"، والهاء في "إياه"، والياء في "إياي" أسماء مضافًا إليه، وأيضا فإن سيبويه قد قال: من زعم أن الكاف- يعني في "ذلك"- مجرورة الموضع انبغى له أن يقول: ذاك نفسك، فإن قال: إنها منصوبة انبغى له أن يقول: "ذاك نفسك" قال ابن الباذش: وهذا لا يقوله أحد وإن توهم الاسمية، وما قال جار في "إيا"، إذ يلزم أن يقول
عند اعتقاد الاسمية في الكاف والإضافة: إياك نفسك، وهذا غير منقول.
قال ابن الباذش: وإنما أتى سيبويه بهذا، لأنه قد روى عن بعضهم على جهة الشذوذ تنكير المضمر، وروى الكسائي تنكير المبهم، على جهة الشذوذ/، قال: فقام من مجموع هذا أن الكاف غير اسم، مع تقدير استحالة تنكير المضمر والمبهم، ومع تقدير تنكيره على الشذوذ، وأيضا فإن إضافة "إيا" تمتنع من وجهين:
أحدهما: لزوم إضافة الشيء إلى نفسه، لأن مدلوله ومدلول الكاف واحد، وذلك ممتنع.
والثاني: أن الإضافة إما أن تكون إضافة تخفيف أو تخصيص، فأما قصد التخصيص فممتنع؛ لأن إيا من المضمرات، والمضمرات أعرف المعارف فلا حاجة بها إلى التخصيص، وأما قصد التخفيف فمختص بالأسماء العاملة عمل الأفعال، وهذا ليس منها، فهذان وجهان من الحجة ينضمان إلى الوجهين الآخرين، فالجميع أربعة أوجه، وأما على القول بأنها حروف، فإن غير الكاف من لوحق "إيا" مجمع على أسميته مع غير "إيا" مختلف في أسميته معها، فلا يترك ما اجتمع عليه لما اختلف فيه، ثم تلحق الكاف بأخواتها، ليجرى الجميع على سنن واحد، وأيضا فالأصل عدم اشتراك اسم وحرف في لفظ واحد، وفي القول باسمية هذه اللواحق السلامة من ذلك، فوجب المصير إليه حتى يدل على خلافة دليل، وأيضا لو لم تكن أسماء مجرورة المحل لم
يخلفها اسم ظاهر مجرور بالإضافة، لكن ذلك قد وجد فيما رواه الخليل من قول العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، ويروى: فإياه وإيا السوآت.
وقال الخليل: لو قال قائل: إياك نفسك لم أعنفه، وهذا ظاهر في القياس عنده فدل على أن الكاف ونحوها أسماء في موضع جر بالإضافة، وأيضا لو كانت اللواحق حروفًا لم يحتج إلى الياء (في إياي كما لم يحتج إلى التاء) المضمومة في أنا، وقد احتج المؤلف بغير هذا، فلما كانت الأدلة متعارضة، على كلا المذهبين، وما من الدليل إلا ويمكن لخصمه الاعتراض عليه، ترك التنبيه على مذهبه فيها إحالة على النظر والترجيح، واله أعلم.
ثم قال:
وفي اختيار لا يجئ المنفصل
…
إذا تأتى أن يجئ المتصل
لما فرغ من الكلام في تعداد الضمائر، أخذ يتكلم على بعض أحكامها الضرورية، ومن ذلك أيضا اتصالها بعواملها وانفصالها منها، وابتدأ أولا بقاعدة عامة جملية في ذلك، وهي أن الضمير لما كان موضوعا على
الافتقار وعدم الاستقلال، ن كما وضع الحرف، لزمه أن يكون متصلا بغيره ليستند لفظه إليه، كما أن معناه كذلك مستند إلى غيره فأما اتصال الفاعل بفعله فلا مرية فيه، بل هو كالجزء منه، بأدلة كثيرة ذكروها، وأما المفعول الأول فيلزمه اتصاله أيضا، لأنه يليه، اتصل به مع ذلك ضمير الفاعل أولا، فإن كان لم يتصل به فلا إشكال نحو: أكرمك زيد، وإن كان قد اتصل به لم يتغير أيضا اتصال المفعول به، لأن الفعل مع الفاعل كالفعل المجرد، ألا ترى أن ضمير الفاعل قد يكون بغير علامة نحو: زيد قام، وقد يعرض لتثنية الفعل ضمير الفاعل فيصير كحرف من حروفه نحو: يضربان، فإذا جئت بعد اتصال ضمير المفعول الأول بضمير مفعول ثان، فالاتصال هو الأصل لقوة الفعل، وأنه الأصل في اتصال ضمائر المنصوبات به على الجملة، وأيضا لما كان الفعل يعمل في المفعولين ظاهرين، وفي موضعهما مضمرين وعمله فيهما لا يغير لهما لفظًا ولا معنى، وكان الاتصال أخص كان هو/ الأصل فلأجل هذا وشبه أتى بهذه القاعدة في ابتداء الفصل، وأصلها لسيبويه لكن ذكرها خاصة بالنص بضمائر النصب وذكرها بالمعنى في غيرها، فأتى بها الناظم عامة كما ترى. والمعنى فيها صحيح على الجملة، فكأنه يقول: إذا تأتى له الاتصال في الضمير فلا تنتقل إلى غيره، لأنه الأصل والقياس، إلا أنها قاعدة مجملة لا بيان فيها، لما يتصل من الضمائر بعامله، وما لا يتصلن وتفصيل ذلك على حسب مراده أن تقول: تقرر في الأصول أن أصل
العمل الطلب الاختصاصي، وإنما يوجد ذلك مطلقًا في الأفعال، إذ لا فعل إلا وهو عامل، ثم يليها الحروف، لأنها تطلب بأنفسها الجر في الأسماء، والجزم في الأفعال، ولم تستحق ذلك بشبه، ثم يليها الأسماء، لأن أصلها ألا تعمل، إذ هي مطلوبة في الأصل لا طالبة وإنما تعمل في الغالب بالشبه بالفعل كاسم الفاعل والمفعول، أو بالنيابة عنه كاسم الفعل والمصدر أو بالنيابة عن الحرف كالمضاف، وهذه قاعدة بيانها في غير هذا الموضع، فإذا تقرر هذا فالأصل في كل مضمر طلبه عامل أن يتصل به، لما تقدم أول المسألة، فأما الأفعال فيتصل بهام عمولاتها على الجملة كما مر. وأما الحروف فما كان منها طلبه بحق الأصل فكذلك، ويجري مجراهما ما أشبههما، فالحروف تجرى في هذا مجراها الأسماء المضافة، من حيث هي مضافة، لأن معنى حرف الإضافة معها قائم، فكما تقول لي ولك وله، كذلك تقول: غلامي وغلامك وغلامه، والأفعال أيضا يجرى مجراها من الأسماء: ما أدى معناها، عمل عملها على التمام، من غير اعتبار بلفظ الاسم، كأسماء الأفعال، ولا سيما ما كان منها على فعال، فكما تقول: اتركها، كذلك تقول: تراكها، وكذلك ما أدى معناها وعمل عملها لكن مع اعتبار لفظ الاسم، كاسم الفاعل والمصدر والموصول، فالحكم الأصلي فيه الاتصال أيضا، فتقول: أنا مكرمه كإكراميك، كما تقول: أنا مكرمه كما أكرمك، ويجرى مجراها من الحروف أيضا ما أشبهها كإن وأخواتها فتقول: إنه القائم، كما تقول: ضربه القائم فهذه الجملة يتأتى (لك فيها) الإتيان بالمتصل، فلا يصح أن يؤتى فيها بالمنفصل، إذا لا موجب لذلك، وفي ضمن هذا الكلام أنه إذا لم يتأت
الإتيان بالمتصل، فلا بد حينئذ من الإتيان بالمنفصل، ولا يكون ذلك إلا لمانع منع من الاتصال، فإن طلب العامل باق كما كان، والموانع التي تنمع من الاتصال بالاستقراء ستة:
أحدهما: أن يكون العامل غير ملفوظ به، إما لكونه معنويًا نحو: أنا قائم، وإما لكونه محذوفًا نحو: إن أنت قمت أكرمتك فالعامل هنا لم يكن لفظيًا لم يتأت اتصال الضمير به، إذ الاتصال حكم لفظي.
والثاني: أن يقع بين الضمير وعامله فاصل، لا يتأتى وقوعه إلا هنالك كإلا في الحصر، نحو: ما قام إلا أنا، أو "إما" نحو: قام إما أنا وإما زيد، واللام الفارقة نحو: إن قمت لأنت وإن قعد لأنا، أو متبوع نحو:{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} فالضمير في هذه ونحوها لا يمكن اتصاله للفاصل الواقع بينه وبين معموله.
والثالث: أن يتقدم الضمير على عامله لموجب اقتضى ذلك نحو: {إياك نعبد وإياك نستعين} . فإن موضع الاتصال آخر الفعل، لا أوله/ فكان الاتصال مع قصد التقديم غير متأت.
والرابع: أن يقع اللبس بالاتصال، كما إذا كان الضمير مرفوعًا بصفة جرت على غير من هي له، نحو: مررت برجل ضاربه أنا، فلو اتصل الضمير لأوهم أن الضارب هو الرجل لا أنت، فلم يكن بد من انفصال، ومثله إذا التبس أحد المفعولين بالآخر مع الاتصال في باب
أعطى، فإن الحكم البدء بالآخذ، كما يفعل في الأسماء الظاهرة، فإن كان الآخذ غائبا والمأخوذ مخاطب أو متكلم وجب الفصل، وكذلك إن كانا غائبين، نحو قولك لعبدك: غلامي أعطيته إياك، وأنت تريد أنك المعطي، لأنك لو وصلت لوجب تقديم المخاطب، فكان اللبس موجودًا، فلم يكن بد من الفصل، وقد علل المؤلف بهذا النحو وجوب الانفصال في نحو: علمتني إياي. قال: ولأن اتصالهما يوهم التكرار، يريد فيقع اللبس لذلك.
والخامس: كون العامل لم يتحقق له شرط العمل، وهو الطلب الاختصاصي أو استحكام الشبه.
فالأول كالنائب عن العامل، مثل "يا" في النداء، فإنك تقول: يا إياك، أو يا أنت، ولا تقول: ياك، وكذلك "ما" الحجازية إذا قلت: ما أنا قائما ولا في نحو:
…
لا أنا باغيا
…
سواها
…
...
و"إن" في نحو:
إن هو مستوليا على أحد
فإن هذه الأشياء ليست مختصة بعمولاتها
أما النائب فإنما اختص من حيث النيابة، وأما "ما" وأخواتها فلدخولها على الأسماء والأفعال فلم تقو في الطلب قوة ما نابت عنه، أو ما أشبهه، فكأنها غير طالبة، فصارت ضمائرها في حكم ما ليس بمطلوب لعامل، فلم يكن الاتصال.
والثاني: كخبر "إن" وأخواتها، فإن منفصل أبدا من جهة أن الحروف أصلها أن لا تعمل في معمولين، وأن لا تعمل رفعا لاختصاص ذلك بالفعل لكن لما أشبهت الأفعال عملت عملها معكوسا، ومن شأن المشبه بالشيء أن لا يقوى قوته، ولا يقوم في كل شيء، وقد وجدنا من الأفعال الماضية ما ينفصل عنه منصوبه، وإن كان واحدا كباب "كان" حسب ما يذكره الناظم، فلا يلزمه اتصال الضميرين معا، ضمير الرفع وضمير النصب، فهذا أولى لضعفه عن مقاومته فوجب الانفصال.
والسادس: قبح اللفظ في الاتصال، وذلك نحو: أعطيتكك ومنحتنيني ومنحتهوه وظننتنيني وما أشبه ذلك، فإن العرب تراعي قبح اللفظ فتجنبته كما قالوا في كان: وإن زيدا لقائم ونحو ذلك، هذه هي الموانع المعتبرة عندهم فحيث وجد واحد منها امتنع الاتصال، إلا أنه قد توجد موانع أخر تمنع لزوم الاتصال خاصة، من غير أن توجب انفصالا، فيجوز الوجهان، وهي التي نبه عليها في قوله: (وصل أو افصل هاء سلنيه
…
) إلى آخره فتلخص من هذه القاعدة ثلاثة أقسام:
واجب الاتصال: وذلك إذا تاتى الاتصال بغير عارض.
واجب الانفصال: وذلك إذا لم يتأت الاتصال ولم يمكن.
وجائز الاتصال والانفصال: وذلك إذا تأتى الاتصال، لكن منع من لزومه مانع، وكلها أشار إليها الناظم كما ترى، إلا أنه لم يذكر السبب في عدم التأتي لبيانه، وأشار إلى ذكر السبب في جواز الوجهين مع التأتي، على حسب ما يفسر إن شاء الله.
وقوله: (وفي اختيار) تنبيه على أنه قد يأتي المنفصل حيث/ يتأتى المتصل بلا مانع وذلك في الضرورة نحو ما أنشده سيبويه لحميد الأرقط:
إليك حتى بلغت إياكا
ووجه الكلام أن يقول: "حتى بلغتك" وقال الفرزدق:
بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت
…
إياهم الأرض في دهر الدهارير
أراد ضمنتهم الأرض وأنشد النحويون أيضا:
وما أصاحب من قوم فأخبرهم
…
إلا يزيدهم حبا إلى هم
فـ "هم" الآخر فاعل يزيد، أراد إلا يزيدون أنفسهم حبا إلي، وأنشد الفارسي قول الآخر:
أصرمت حبل الوصل أن صرموا
…
يا صاح بل صرم الحبال هم
أراد بل صرموا الحبال وهذا ونحوه مما يحفظ ولا يقاس عليه، وقد نبه الناظم على الشذوذ في آخر الفصل.
فإن قيل: إن موضع الضرورة لا يتأتى فيه الإتيان بالمتصل، فإنه لو تأتى لم يسغ الإتيان بالمنفصل، وأيضا لا معنى لاضطرار إلا عدم تأتي المجيء بالمتصل، فإذا كان كذلك فكيف يقول الناظم على ما اقتضاه مفهوم كلامه، لأن الاضطرار يبيح الإتيان بالمنفصل في الموضع الذي يمكن فيه الإتيان بالمتصل، بل ظاهر هذا الكلام التناقض؟
فالجواب: أن يقال ليس معنى التأتي أن يستقيم الوزن بالمتصل والمنفصل مثلا، ثم يجاء بالمنفصل عوضا منه، وإنما معناه أن الموضع الذي وقع فيه هذا الضمير يمكن على الجملة أن يتصل فيه الضمير لا من حيث هو شعر، بل من حيث أنه خال عن الموانع الموجبة للانفصال أو المخيرة فيه، فقول الشاعر مثلا:(قد ضمنت إياهم الأرض) متأت على الجملة أن يقع فيه المتصل، لأن ضمير النصب لم يتقدم ولا فصل بينه وبين معمول فاصل، ولا فيه شيء مما تقدم، فهو على الجملة مما يسع فيه أن يقول: ضمنتم الأرض كذلك ما أشبهه من الشذوذات، لكن من الضرورة تقتضى مقتضاها مما هو خارج عن الموانع المتقدمة بخلاف ما إذا قلت: هو قائم، فإن "هو" هنا لا يتأتى فيه الاتصال إذ ليس له ما يتصل به، وكذلك:(إياك نعبد) إذ كان ما يتصل به مؤخرا عنه وجميع ما فيه مانع من الموانع
المذكورة هذا شأنه، وأما "ضمنت إياهم الأرض" فليس له في نفسه مانع، لأن وقع في موضع يجب فيه الاتصال وإنما الضرورة أمر طارئ على الكلام، وهو إقامة الوزن، والناظم إنما اعتبر الكلام في نفسه، فكلامه صحيح.
ثم أخذ في ذكر القسم الذي منع من لزوم الاتصال فيه مانع مع تأتيه فقال:
أوصل أو أفصل هاء سلنيه وما
…
أشبهه في كنته الخلف انتمي
كذاك خلتنيه واتصالا
…
اختار غيري اختار الانفصالا
فذكر مواضع ما يتأتى في الاتصال، ومع ذلك جيء فيها بالضمير منفصلا في أحد الوجهين، ويشملها أن يقال: كل ضمير ولي ضميرا قبله متصلا بفعل منصوبا مطلقا، أو مرفوعا من باب كان فقط، فهذا هو الذي خير الناظم في وصله وفصله، وهو الهاء في أمثلته المذكورة، لكن على الشرط الذي ينكره بعد هذا، وحصر ذلك في ثلاثة أبواب ذكرها:
أحدها: باب أعطى، وهو الذي أشار إليه بقوله:(سلنيه) لأن سأل فعل يتعدى إلى/ معفولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
والثاني: باب "كان" وهو المراد بتمثيله بـ (كنته).
والثالث: باب "ظن"، وهو المنبه عليه بقوله:(خلتنيه) لأن خلت يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وابتدأ بباب أعطى فقال: (وصل أو افصل هاء سلنيه وما أشبهه "يعني أنه مخير في
وصل هاء سلنيه وفصله، فإن شئت أتيت به متصلا بعامله يلي الياء التي هي ضمير المفعول الأول، وإن شئت أتيت بالضمير المنفصل عوضا عن الهاء فتقول: التوب سلنيه، وسلني إياه، وكذلك أشبهه مما كان من باب "سل" وإليه يعود الهاء في (وما أشبهه)، أي: وما أشبه سلنيه نحو: أعطى وكسا، تقول: الدرهم أعطيتكه، وأعطيتك إياه، والثوب كسوتكه، وكسوتك إياه، ومن الاتصال قوله تعالى:{أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} وقوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا} ، ومن الانفصال قول النبي عليه السلام:"فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم" ولم يرد بقوله: "هاء سلنيه" خصوص الهاء، وإنما أراد المفعول الثاني لسلنيه كان هاء أو غيرها، فيجرى مجرى ذلك ما إذا قلت لعبدك زيد: سألنيك وكذلك سألنيها وما أشبه ذلك، والاتصال هنا جار على الأصل الذي قدمه. وأما الانفصال فمخالف له، فلذلك اختار هنا الاتصال الذي أشار إليه بالتقديم حين قال:(وصل أو افصل) والله أعلم.
والنظر هنا إنما هو في المفعول الثاني، أما الأول فلا نظر في وجوب اتصاله، ولذلك قال:(هاء سلنيه) فعين للكلام الثاني ولم يتعرض للأول، ثم ذكر باب "كان" فقال:(في كنته الخلف انتمى) أراد: وفي كنته الخلف، فحذف حرف العطف وذاك كثير في كلامه، وقد تقدم الاستشهاد عليه، وهو على حذف مضاف تقديره: وفي هاء "كنته" لأن الكلام إنما وقع له في الهاء، وليس كلامه في نفس "كنته" ولا في ضميريه جميعا، لكنه حذف ذلك المضاف لتقدم الكلام في مثله، وهو "هاء""سلنيه"، وكذلك
قوله: "كذلك خلتنيه" أي: هاء خلتنيه، وإتيانه بالمثال المعين من غير أن يقول: وما كان نحوه ولا ما أشبهه، لا يدل على أن الخلاف الذي ذكر مختص به، بل يريده وما كان مثله من بابه فكما جرى الخلاف في "كان"، كذلك جرى في أصبح، وأمسى وظل وصار، وسائر أفعال الباب، وكذلك قوله إثر هذا:(كذاك خلتنيه) أي: ما كان من بابه، ودل على أن مراده هنا ذاك قوله في (سلنيه، وما أشبهه) و (الخلف) أراد به الخلاف، وعادة المتأخرين استعمال لفظ (الخلف) مرادفا لمصدر خالفه في كذا مخالفة وخلافا، ولست منه على تحقيق أنه استعمال لغوي، والخلف المشار إليه بين النحويين أن سيبويه يختار الانفصال في باب "كان" والناظم ومن أخذ هو بمذهبه يختار الاتصال على ما يتقرر بعيد هذا إن شاء الله.
ثم ذكر باب ظننت فقال: (كذاك خلتنيه) أي: إنه مثل (كنته) يعني في كونه مختلفا في اختيار اتصاله أو انفصاله، فسيبويه يختار الانفصال والناظم اختار في هذا النظم الاتصال، في المسألتنين معا: مسألة (كنته) ومسألة (خلتنيه) وهو قوله: (واتصالا اختار) خلاف ما ذهب إليه في "التسهيل"/ فإنه اختار في مسألة (خلتنيه) ما اختاره سيبويه من الانفصال، وفي مسألة (كنته) ما اختاره هنا.
فأما وجه اختياره الاتصال في (كنته) فمن جهة القياس والسماع.
أما القياس: فما تقدم في القاعدة الأولى، من أنه لا يجاء بالمنفصل مع إمكان المجيء بالمتصل، وقد أمكن هنا، فهو الذي
كان يجب، وأيضا، فاسم "كان" وخبرها مشبهان بالفاعل والمفعول، وقد بسط سيبويه في باب "كان" بسطا شافيا، أن "كنته" شبيهة بضربته وضربته لا يجوز فيه إلا الاتصال، فكذلك كنته، فهو أولى بالاتصال من باب سلنيه فإنه لم يساو باب ضرب في وجوب الاتصال من أجل سماع، فلا أقل من أن يكون راجحا.
وأما السماع: فإن الاتصال ثابت نظما ونثرا، فمن النثر ما في الحديث من قوله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها:"إياك أن تكونيها يا حميراء"، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في ابن صياد:"إن يكنه فلا تسلط عليه وإلا يكنه فلا خير لك في قتله" وفي الحديث: "كن أيا خيثمة فكانه".
وقال بعض العرب: "عليه رجلا ليسنى"، حكاه سيبويه، وحكى عن بعض العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسنى، وكذلك كانني. ومن النظم قال أبي الأسود الدؤلي (أنشده سيبويه):
فإلا يكنها أو تكنه فإنه
…
أخوها غنته أمه بلبانها
وأنشد السيرافي: قال: أنشدنا أبو بكر بن دريد:
عددت قومي كعديد الطيس
…
إذ ذهب القوم الكرام ليسي
وأما الانفصال فلم يأت إلا في النظم نحو ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:
ليت هذا الليل شهر
…
لا نرى فيه هريبا
ليس إياي وإيا
…
ك ولا نخشى رقيبا
أو في الاستثناء، نحو: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياك، وهذا قد يتعين انفصاله لإجراء "ليس" و"لا يكون" في باب الاستثناء مجرى "إلا" لوقوعها موقعها فلا يقاس على ذلك، وأما وجه اختيار الاتصال في (خلتنيه) فلأن باب ظننت مشبه في العمل بباب أعطيت، فإذا كان باب أعطيت يلزم فيه الا تصال على ظاهر سيبويه لما تقدم من القاعدة، فلا أقل من أن يكون الاتصال
فيما أشبهه راجحا إن لم يكن لازما.
وأعلم أن الجمهور على ما ذهب إليه سيبويه، فإن السماع معه وهو الأصل للقياس، ولذلك قال: قف حيث وقفوا ثم فسر، فالقياس إذا وجد السماع بخلافه متروك، وقد وجه سيبويه وغيره رجحان الانفصال في (كنته) و (خلتنيه)، فأشار سيبويه في (كنته) إلى أن المضمرات لم تستحكم مع هذه الأفعال التي هي "كان" وأخواتها، إذ ليست بأفعال حقيقة، وإنما هي أدوات دالة على الزمان فلم تبلغ بسبب ذلك مبلغ باب ضرب، وزاد السيرافي ثلاثة أوجه:
أحدها: أن "كان" وأخواتها أفعال دخلن على المبتدأ والخبر، والخبر يكون فعلا وجملة وظرفا غير متصرف نحو: زيد قام، وزيد أبوه منطلق، وزيد عندك فلما كانت هذه الأشياء لا يجوز إضمارها ولا تكون إلا منفصله من الفعل اختير فيما يمكن إضماره الخروج عن الفعل أيضا.
والثاني: أن الاسم والخبر كل واحد منهما منفصل عن الآخر، غير مختلط به/ فإذا وصلنا ضمير الخبر جاز معه أن يضمر الاسم، إذ هو الأصل في الإضمار، من جهة أنه كالفاعل، فيؤدي إلى أن يكون الخبر مختلطا مع الاسم، وغير منفصل عنه، وذلك نقص الغرض.
والثالث: أنا لو وصلنا ضمير الخبر بضمير الاسم والفاعل والمفعول في هذه الأفعال لشيء واحد، لزم أن يتعدى فعل الفاعل إلى نقسه متصلا وذلك لا يكون، وإنما يتعدى إليه منفصلا، وإنما جاز ظننتني لأن هذا الباب لا يقع على المفعول الأول حقيقة، فلم يعتد به، وإنما المعتد الثاني. وأما باب "خلتنيه" فإنما اختير فيه الانفصال
- على ما ذكره سيبويه- لأن حسبت بمنزلة "كان"، وإنما تدخلان على المبتدأ والمبني عليه فيكونان في الاحتياج على حال، ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما، كما لا تقتصر عليه مبتدأ، فالمنصوبان بعد "حسبت" بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد "كان"، و"ليس"، وكذلك الصروف التي بمنزلة "حسبت" و"كان": لأنهما إنما يجعلان المبتدأ والمبني عليه فيما مضى يقينا أو شكًا، وليس بفعل أحدثته منك إلى غيرك، كضربت وأعطيت إنما يجعلان الأمر في علمك، أو فيما مضى، هذا نص سيبويه، وهو مشير إلى ما تقدم. والناظم نبه على تأكيد الاتصال عنده يقوله:(واتصالا أختار) فقدم المفعول إشعارًا بذلك.
ثم قال: (غيري اختار الانفصالا) والغير هنا هم الجمهور، وهذا دليل على أن له في المسألة مستندًا قويًا، وسماعًا يرجع إليه، وقد أشار إلى القياس أول المسألة، وبين في "شرح التسهيل"، مستنده من السماع وأنه الحديث أما القياس المتقدم فصحيح، ما لم يعارضه ما يهمل حكمه، وقد وجد.
وأما السماع فقد تضمن عهدته نقل الجمهور، ويبقى النظر في اعتماد الناظم على الاستشهاد بالحديث، وليس بمستند عند الجهور من أهل اللسان وهي مسألة أصوليه لا يسعني الآن ذكرها، ولعلها تذكر في موضع هي به أخص من هذا الموضع والله المستعان، وعلى الناظم بعد في هذا الفصل
درك من خمسة أوجه:
أحدهما: أن قوله: "في كنته الخلف انتمى" لم ينص فيه على موضع الخلاف، فإنه محتمل أن يريد الخلف في اختيار أحد الوجهين الجائزين ويحتمل أن يريد به الخلف في جواز الوجهين، والذي قصد منها هو الأول لكن مساقه يدل على الثاني، لأنه خير أولا في الفصل والوصل، ثم قال: و (في كنته الخلف) فاقتضى أن الخلف إنما هو فيما تقدم ذكره من التخيير، فكان بعضهم يخير بين الوجهين في "كنته" وبعضهم لا يقول بذلك، وهذا الخلف هكذا لا أعرفه، بخلاف الاحتمال الأول، فإنه مقول به كما تقدم.
والثاني: أنه ذكر الخلف في الموضعين الأخيرين، وترك ذكره في باب "سلنيه" والخلاف فيه موجود، لكن على وجه آخر، فإن السيرافي أجاز الوجهين، وحكى ذلك عن بعض النحويين، وهو الذي نص عليه الناظم هنا، وظاهر كلام سيبويه لزوم الا تصال، إذ لم يعرج على خلافه، وذلك لقوة الفعل وأنه الأصل في اتصال الضمائر/ المنصوبات به، وأن الاتصال أخص، وإذا ثبت الخلاف في المواضع الثلاثة فذكره إياه في الموضعين وتركه له في الثالث موهم عدم الخلاف فيه، وهذا إخلال.
والثالث: أن إطلاقه القول في باب (كنته) ظاهر في شمول ذلك الحكم لكان وأخواتها وهو صحيح فيما عدا "ليس"، وأما "ليس" فحكى ابن هانئ عن النحويين الاتفاق على أن الاتصال فيها ضعيف. قال: فلو قلت: لسته على حد كنته لم يكن صوابًا. ومن الشاذ قولهم:
"عليه رجلا ليسنى" ووجهه في القياس ظاهر، فإن ليس في معنى الحرف لتعريها عن الدلالة على الحدث والزمان، وكلام الناظم، يقتضى القياس في الا تصال وإن كان الانفصال هو المختار ويقتضى أن الخلاف متقرر فيها، والأمر في كلا الفصلين على خلاف ما قال حسبما ذكره ابن هانئ ففي إطلاقه ما ترى.
والرابع: أن قوله: (واتصالا اختار) أراد في باب (كنته)، وفي باب (خلتنيه) أما باب (خلتنيه) فما اختار فيه من الاتصال ممكن أن يختاره مختار لوجوده في كلام العرب نثرًا، وإن كان قليلا عند سيبويه وأما باب (كنته) فما اختار فيه من الاتصال يقتضى أن الانفصال جائز أيضا في القياس، إلا أنه قليل في السماع، فغيره أحسن منه، وهذا عنده غير مستقيم؛ لأن الانفصال على ما قرره في "شرح التسهيل" إنما هو مخصوص بالشعر وبليس ولا يكون في باب الاستثناء وكلاهما لا يقاس عليه عنده كما تقدم ذكره، فعنه نقلت هذا المعنى، وإذا كان كذلك لم يصح على مذهبه في كنته إلا الاتصال فكيف يقول:(واتصالا اختار) فيأتي بعبارة مشعرة بجواز الوجه الآخر، لا يقال إنه اختار الاتصال، بمعنى أنه لا يجيز غيره، لأنا نقول يرد عليه. قوله:(غيري اختار الانفصالا)
أو لأنه لا يمشي له في (خلتنيه) فتأمله، وهذا الاعتراض لازم له أيضا في كتابه "التسهيل".
والخامس: أنه قصد في هذا المختصر ذكر الضروري والمشهور من قوانين النحو، وقد ترك من الضروري والمشهور أِشياء كثيرة وضابطها على التقريب والإرشاد إلى من طلب الاستقصاء أن نقول: العوامل التي يمكن اتصال الضمائر بها ثلاثة أنواع:
أفعال وحروف وأسماء.
فأما الأفعال فيتصل بها فاعلوها، وما أشبه فاعليها، كاسم كان وعسى.
وأما المفاعيل فكذلك إلا ما استثناه الناظم من خبر "كان"، وثاني مفعولي "أعطى" و"ظن"، ولا عبرة هنا بخبر "عسى"، إذ لا يكون ضميرًا، وإن فرض ذلك فهو مثل "كان"، ولا بثالث المنصوبات في أعلم، لعدم التكلم به، وإن كان فالانفصال فيه واجبًا لعدم تأتيه قياسًا، فهذا لا نوع مستوفى في النظم فلا اعتراض به.
وأما الحروف فثلاثة أضرب: ضرب عمل بالأصالة، وذلك حروف الجر فيتصل بها ضمائرها عملًا بالقاعدة الأولى، وضرب عمل بشبه الفعل الحقيقي، وذلك "إن" وأخواتها، فيتصل بها منصوبها عملا ً بالقاعدة ولا يتصل بها مرفوعها لعدم التأتي كما مر، وضرب عمل بشبه ما أشبه الفعل غير الحقيقي، أو بشبه الحرف المشبه للفعل "كما" و"لا" العاملتين عمل "ليس"، فلا يتصل بها شيء لعدم التأتي قياسًا، فهذا الاعتراض به/ أيضًا من جهة ما تقدم له من القاعدة المذكورة أولا.
وأما الأسماء فهي على ضربين: ما يعمل بمعنى الإضافة، فهذا يتصل به معموله وهو واحد أبدًا، كحرف الجر، وما يعمل بجريانه
مجرى الفعل وهذا ينقسم إلى ما يعمل بكونه وضع موضعه في الأصل، أو ناب عنه في الاستعمال، أو تضمن معناه وجرى على لفظه، فهذه ثلاثة أقسام
فالأول: أسماء الأفعال وحكمها حكم أفعالها، فكما تقول: اتركها كذلك تقول:
تراكها من إبل تراكها
وكما تقول: امهله، كذلك تقول: رويده، إلا أن هذا القسم إذا كان وضعه وضع الفعل استعماليًا حتى لحق بالوضعي كعليك ودونك وإليك فإن الوجهين فيه جائزان فتقول: عليكه وعليك إياه، ودونكه ودونك إياه، نص على ذلك سيبويه، وقد جعل بعضهم من هذا رويد، فأجاز رويد إياه، ولم يذكر سيبويه فيه إلا الاتصال، وإنما اعتبر فيه سيبويه أنه اسم فعل بالوضع الأول كـ "تراك"، واعتبر غيره أنه ليس بالوضع الأول، وإنما هو من قبيل "عليك" و"لديك"، ألا تراه يستعمل مصدرًا نحو: رويدًا زيدًا، وأما ما ناب عن الفعل استعمالًا فذلك المصدر الموصول فيجري أيضا مجرى
الفعل في اتصاله الفاعل به وحده، أو المفعول به وحده، على لفظ المضاف إليه، فإذا اجتمعا اختير الانفصال، كقولك: أعجبني إكرامي إياك، وجاز الاتصال أيضا نحو:
وكان فراقيها أمر من الصبر
وقال:
ومنعكها بشيء يستطاع
وأما ما جرى على الفعل وأشبهه لفظًا ومعنى حتى استتر فيه الضمير المرفوع فإنه يجرى في اتصال الضمير به مجرى فلعله فتقول: أنا معطيكه وأنا ظانكه وتفصل الثاني إن شئت وهو أولى من الفعل، ولم أنكر هنا الصفة المشبهة وأفعل التفضيل لدخولها في النوع الأول. فأنت ترى أن شيئًا من أقسام هذا النوع لم يشر إليه الناظم مع تشعب أضربه واختلاف أحكامها فيه زائدًا على كونه ضروري الذكر والاعتراض عليه في "التسهيل" وارد أيضا.
والجواب عن الأول: أن موضع الخلاف قد بينه بما يرفع ذلك الاحتمال ويزيح الإشكال بقوله حين حكى الخلف في الموضعين (واتصالا اختار غيري اختار الانفصالا) فبين أن الاختلاف إنما هو في اختيار الوجهين لا في غير ذلك وهو ظاهر.
والجواب عن الثاني: أن الخلاف في باب (سلنيه) غير متقن، وذلك أن سيبويه لما ذكر الاتصال لم يحك غير ولا نفاه، بل سكت عنه، والسكوت لا يقتضى نفي السكوت عنه بلابد، فلما كان كذلك كان غير سيبويه قد أجاز الوجهين وليس ذلك الأنباء على السماع، وقد وجده الناظم في الحديث في قوله عليه السلام: إن الله ملككم إياهم- والحديث عنده عمدة في الاستشهاد به- بني على إطلاق الوجهين من غير إشارة إلى خلاف حيث لم يتحقق له خلاف.
والجواب عن الثالث: ما ذكره شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار- رحمه الله فيما نقله عنه شيخنا الأستاذ أبو عبد الله البلنسي-
حفظه الله- أن ابن/ مالك لم تدخل به "ليس" في كلامه، لأنه إنمام مثل بـ "كان" وما كان نحوها، وهي فعل متصرف، فلا ينتظم المثال إلا ما كان منها متصرفًا فخرجت "ليس" عن مراده وإشارته بهذا الاعتبار، فلا اعتراض عليه بما لم يتضمنه كلامه، وقد يقال: إن هذا الجواب غير كافٍ فحسب مراد ابن مالك فإنه جعل قول العرب "ليسنى" حجة في ثبوت الاتصال، كما تقدم بيانه، وأيضا فكذلك فعل سيبويه إذ لم يفرق بين الفعلين، أعني بين "كان" و"ليس" بل جعل السماع في كل واحد حجة للآخر، وإذا ثبت هذا من مذهبه ومذهب غيره كان مؤذنًا بأن "ليس" عنده داخلة في حكم "كان"، وإذ ذاك يبقى السؤال كما كان، ولعل الجواب أن الإجماع الذي ذكره ابن هانئٍ في "ليس" وحدها أن الاتصال فيها ضعيف، وغير مقيس، فيه نظر، إذ النحويون إذا ذكروا في هذا الباب "كان" ذكروا معها "ليس" على مساقٍ واحد، فإن كان في "ليس" إجماع فهو في "كان" وبالعكس، وإن كان اختلاف ففيها جميعا لكن ابن هانئٍ يسلم في "كان" وقوع الخلاف، فليسلمه كذلك في "ليس" وإن فرضنا أن الأمر في "ليس" كما قاله، من الاتفاق فالاعتراض على ابن مالك لازم له والله أعلم.
والجواب عن الرابع: أن ذلك الاعتراض إنما يلزمه على كلامه في "التسهيل" حيث شرحه بمقتضى ذلك التقرير، أما في هذا
الموضع فلا يلزمه إذا لعله لم ير هنا من الاحتجاج ما رأي هنالك، بل أثبت السماع بالاتصال وأتكل في نقل الانفصال على غيره، إلا أنه مال به نحو القلة، وهذا هو الظاهر، وعليه يحمل رأيه هنا، والله أعلم.
والجواب عن الخامس: أن الحاصل من مقصده بمقتضى كلمه أنه لم يصرح بالكلام على ما يخالف تلك القاعدة إلا في الأفعال، وترك ما عداها في محل النظر، إذ قد يدرك مما ذكر من الانفصال في هذه الأعمال على تجرى فيما لم يذكر، وذلك أن علة الانفصال فيما ذكر أمران:
أحدهما: معارضة السماع، كما عارضنا في باب سلنيه.
والثاني: كون الفعل المتصل به الضمير لم يتحقق في باب الأفعال كما تقدم، في (كنته) و (خلتنيه) فصارا كأنهما أداتان، أو قريب من الأداتين، والأدوات لا أصل لها في هذا العمل المعين، فلم يستحكم الضمير في الاتصال بهما لذلك، وقد يقال أن علة الانفصال في (سلنيه) بعد ورود السماع هو (التشبيه) بباب (ظننت) فيحمل عليه في جواز الانفصال، وقد يحمل الفرع على الأصل فيما هو أصل في الفرع فرع في: الأصل، فإن علة الانفصال في باب "ظننت" مستحكمة، فاقتضت معلومها بحكم الأصل، ثم حمل عليه باب "سألت" فخرج عن أصل الاتصال إلى الانفصال، وعلى هذا تتخذ علة جواز الانفصال، وإذا ثبت هذا انبنى النظر في (فراقيها) و (تاكها) و (معطيكه) على ذلك، فإن الأسماء لها جهتان: جهة تقتضى الانفصال، إلا في ضمير واحد يجرى مجرى المضاف إليه، وجهة تقتضى الاتصال مطلقا، فالجهة الأولى هي جهة كونها أسماء أصلها أن لها
تعمل إلا في المضاف إليه وهو واحد، وما عدا ذلك فلا عمل لها فيه، والجهة الأولى (جهة) كونها متضمنة معاني الأفعال/ وجارية مجراها، فهي تطلب من تلك الجهة أكثر من معمول واحد، فاجتمع في الأسماء العاملة النظران وكل نظر منهما يطلب بضد ما يطلب الآخر، فمعنى الاسم يطلب الانفصال إذ لم يتحقق في باب الأفعال الطالبة بالاصتال، فلم يستحكم الضمير في الاتصال به، ومعنى الفعل يطلب بالاتصال، إذ هو ظاهر معنى ولفظًا، فكان للنظر القياسي هنا مجال، فتركه الناظم لما أشار إلى أصل العلة في ذكر الأفعال، فإذا يجب أن ننظر فيما تقتضيه تلك العلة، وليس إلا ما تقدم، أما ما عمل بمعنى الإضافة فواجب في معموله الاتصال، لأنه كالمجرور بحرف، ولأنه حل من الاسم محل تنوينه الذي هو كجزء منه.
وأما أسماء الأفعال فلما كان القصد بها أن لها تظهر بأنفسها، وإنما وضعت لتكون عوضا من أفعالها، وجب فيها ما وجب في الأفعال، إلا ما ظهر فيه شيء من الاعتبار اللفظي، فإنه روعي، فأنتج مجموع الاعتبارين جواز الوجهين كدونك وعليك.
وأما ما ناب عن الفعل استعمالًا وهو المصدر الموصول، فالاعتباران فيه ظاهران، ألا ترى أن ضمير الرفع إذا اتصل به يعامل معاملة المضاف إليه، فلا يستتر فيه، فصار الثاني كأنه غير معمول له، لكن لما طلب بما فيه من معنى الفعل، اقتضى الاتصال،
فجاز فيه الأمران وقد شرح هذا المعنى السيرافي وأصله لسيبويه، وأما اسم الفاعل والمفعول فهو أقعد بالفعل من حيث يضمر فيه، كما يضمر في الفعل ويتصل به الضمير مع اعتقاد نصبه لا جره بالإضافه نحو: الضاربك، على رأي سيبويه، فكان حقيقًا بأن يعامل معاملة فعله الجاري هو عليه، وهذا كله راجع إلى اعتبار العلة المذكورة في باب (خلتنيه) والنظر إلى فوة جانب الفعل المتقضى للاتصال، أو جانب الاسم المقتضى لانفصال ما زاد على الواحد، فإن كان الناظم قد ترك الكلام على ما سوى الأفعال، فقد أدرج فيما ذكر ضابطًا حسنًا، وتنبيهًا أصليًا، يقف بك على ما أردت، مع أنه بحسب قصد الاختصار، وعدم الاستيفاء معذور، ولا عذر له في تركه في "التسهيل" بل الاعتراض عليه هنالك (وارد) ولا يخلصه هذا الجواب هنالك، لاختلاف مقاصد الكتابين، والله الموفق.
وقدم الأخص في اتصال
…
وقدما ما شئت في انفصال
وفي اتحاد الرتبة إلزم فصلا
…
وقد يبيح الغيب فيه وصلا
مع اختلاف ما نحو ضمنت
…
إياهم الأرض الضرورة اقتضت
كلامه هنا في ترتيب الضمائر بعضها مع بعض في الاتصال والانفصال، قد قدم القاعدة فيما يتصل من الضمائر العاملة، وما لا، وما فيه الوجهان وعلى ذلك بنى هذه المسألة فيعني أنه إذا كان الضميران أو الضمائر
مجتمعة، فإما أن تكون في رتبة واحدة، أو في رتب مختلفة/ والرتب هنا هي التي بحسب التكلم أو الخطاب أو الغيبة، وذلك أن الضمائر على ثلاثة أقسام: ضمير تكلم، وضمير خطاب، وضمير غيبةٍ، وأخصها ضمير المتكلم، لأنه يدل على المراد بنفسه، وبمشاهدة مدلولهِ، وأيضا فإنه بعيد عن الصلاحية لغيره، ويليه ضمير المخاطب، لأنه يدل على المراد به حاضرًا أو غائبًا على سبيل الاختصاص، ويليه ضمير الغائب لأنه دونهما، فإذا اجتمعت ضمائر فأما أن تكون في رتب مختلفة، أو في رتبة واحدةٍ، فإن كانت في رتب مختلفة كضمير مخاطب مع غائب، أو ضمير متكلم مع مخاطب أو غائب، فإن كان العامل فيها يقتضي اتصالها قدم الأخص في الرتبة، وذلك قوله:(وقدم الأخص في اتصال) وذلك نحو: أعطاكه وأعطيتكه، وأعطتنيه ولا تقول: أعطاهوك ولا أعطاهوني، قال سيبويه: لأنه قبيح لا تتكلم به العرب. قال: وإنما قبح عند العرب كراهية أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب ثم ذكر أن العرب تنتقل في هذا إلى الفصل فتقول: أعطاك إياي، وأعطاه إياك وما اختاره من هذا الترتيب هو مذهب سيبويه والجمهور وحكى سيبويه عمن تقدم من النحويين أنهم يقولون بالقياس: أعطاهوك وأعطاكني، فلا يلتزمون الترتيب المذكور وارتضاه المبرد، وجعل ضمير الغائب والمتكلم والمخاطب سواء، فأجاز أعطاهوني واستجداه، وهذا المذهب مرجوح بمخالفة كلام العرب، فقد زعم سيبويه أن العرب لا تتكلم بهذا، وأن كلامها جارٍ على اعتبار المراتب، وهذا يكفي في
المسألة، وقد شنع عليهم سيبويه بأنه يدخل عليهم أن يقولوا في الرجل إذا منحته نفسه: منحتنيني.
ألا ترى أن القياس قد قبح إذا وضعت "ني" في غير موضعها، يريد أن موضع "ني" هنا النفس فتقول: منحتني نفسي كما كان موضع "ني" في أعطاهوني إياي، فلو جاز لك أن نضع الشيء على غير ما وضعته العرب عليه لجاز لك في كل موضع، وهذا شنيع من الارتكاب. قال ابن خروف: بنى سيبويه على الشايع، يعني فإنه يجوز منحتنيني لكن قليلا. قال المبرد: منحتنيني جيد، وإنما احتج به على جهة التشنيع الذي يشنع به المتكلمون وهو جائز.
قال ابن خروف: والذي قال هو صواب غير أن منحتنيني نفسي هو الكثير فصار بمنزلة أعطاهوها، لا بمنزلة أعطاهوني، فإن استدل من خالف الناظم وأصحاب مذهبه يقول العرب: عليكني، من حيث تقدمت الكاف على الياء، والياء أخص، فلا دليل فيه، لأن الكاف في عليك فاعلة في المعنى، فتقديمها على الياء بمنزلة تقديم التاء في أكرمتني، فلا ينبغي أن تجرى كاف لا حظ لها في الفاعليه، مجرى ما لها حظ فيها، وهذا ظاهر وإن اقتضى العامل انفصال بعض الضمائر أما لعدم تأتيه كقولك: ما أعطيتك إلا إياه، وأما لجواز ذلك فيه كقولك: ظننتك إياه وأعطيتك إياه، فأنت بالخيار
إن شئت قدمت الأخص فقلت: ظننتك إياه، وإن شئت عكست فقلت: ظننته إياك، وظننتك إياي، وذلك قول الناظم:(وقدما ما شئت في انفصال) يعني أنك مخير في تقديم أي الضمائر شئت، إذ وجد الانفصال ووجه ذلك أن المنفصل جارٍ مجرى الظاهر/ فلا عليك أن تقدم ما شئت من الضمائر لا اعتبار بالرتبة، والعرب إذا أرادوا تقديم غير الأخص على الأخص لجأوا إلى الانفصال، فأتوا بالضمير المنفصل الجاري مجرى الظاهر ليتأتى لهم الإتيان بغير الأخص مقدمًا على الأخص، لكن هذا الإطلاق هنا وفي القسم الأول فيه نظر.
وأما الأول فإنه زعم فيه أن لها لا بد من تقديم الأخص بقوله: (وقدم الأخص في اتصال) يعني على غيره مما هو في الاختصاص دونه، فظاهره انحتام ذلك كان بعض الضمائر في موضع رفع أو لم يكن ذلك، وهو غير صحيح، بل ضمير ارفع لا يعتبر به في هذه المسألة لوقوعه موقع الخبر من عامله فإنك تقول: زيد أعطانيها، فتقدم ضمير الفاعل وهو للغائب، وتؤخر ضمير المفعول وهو للمتكلم، وكذلك تقول: خلتنيه، فتقدم ضمير المخاطب على ضمير المتكلم، وضمير المتكلم أخص، وقالوا: عليه رجلا ليسنى، وفي القرآن الكريم:{وإذ يريكموهم} الآية، وعلى هذا كلام العرب، ولا خلاف فيه أعلمه، وإنما فرضوا المسألة في الضميرين المنصوبين، فهنالك يلزم تقديم الأخص عند الجمهور خلافا للمبرد والقدماء، فقد ظهر أن إطلاق الناظم في القسم الأول غير صحيح.
وأما الثانية: فإطلاقه فيه غير محرر، إذ يقتضى جواز أي الضميرين المنصوبين شئن كان، ثم لبس أولا، وليس كذلك، بل أفعال هذا الباب في ذلك على وجهين:
أحدهما: ما لا يلتبس أحد مفعولية بالآخر نحو: الدرهم أعطيتكه فالحكم فيه ما قال من التخيير، فتقول: أعطيته إياك إن شئت، وأعطيتك إياه إن شئت.
والثاني: ما يلتبس أحد مفعولية بالآخر، كما إذا كان لك عبدان فأعطيت أحدهما الآخر، فإذا قلت لأحدهما: غلامي أعطيتك إياه، فإما أن يكون الآخذ هو الغائب أو المخاطب فإن كان المخاطب لزم أن تقدمه فتقول: أعطيتك إياه، ولا تقول: أعطيته إياك إذ يلتبس الآخذ بالمأخوذ، فإن كان الآخذ هو الغائب وجب تقديمه أيضا خوف اللبس فتقول: أعطيته إياك، ولا يجوز هنا أن تقول: أعطيتك إياه من أجل للبس، فإذا قوله:(وقدما ما شئت في انفصال) غير صحيح على اطلاقه كما ترى.
فأما النظر الأول فظاهر الورود، ولا أجد الآن جوابا عنه، إلا أن يقال: إن تمثيله قبل (سلنيه) و (خلتنيه) يشعر بخروج ضمير الرفع عن إطلاق مسألته، لأن قدم في المثالين المرفوع وهو غير الأخص إذ يعيد أن يأتي بمثال غير حائز، فكان التمثيل قيد طلاق هذه المسألة وهذا اعتبار ضعيف (والله أعلم) ،
وأما الثاني: فقد يجاب عنه بأنه قد أشار إلى التحرز من ذلك لأنه قال
في "باب تعدي الفعل ولزومه: (ويلزم الأصل لموجب عصرا) وقال في باب الفاعل والمفعول: (وآخر المفعول إن لبس حذر) وهذا جار بين المعفول الأول والثاني كما هو جار بين الفاعل والمعفول، وإذا لزم تأخير المأخوذ وكان ضميرا أخص من ضمير الأخذ لمي جز اتصاله، إذ شرط فيه تقديم الأخص، والأخص هنا لا يتقدم، فوجب انفصاله فيدخل إذًا تحت إطلاقه قوله: (وقدما ما شئت في انفصال) فإن هذا الكلام إنما يعطي أنك إذا فصلت أحد الضميرين فلا تبال أكان هو الأخص أم لا؟ وبقي كون الفصل واجبا ًيؤخذ له من قوة كلامه في قاعدة الوصل وافصل، حيث قال: (وفي اختيار لا يجئ المنفصل .. ) إلى آخره فتقول: لما شرط في اتصال/ الضميرين تقديم الأخص، وبين وجوب تأخير ما يقع بتقديمه اللبس، في باب تعدي الفعل ولزومه جاء من ذلك أن لا بد من الانفصال وصح أن هذا من الأسباب الموجبة له، إذ لا يتأتى فيه المتصل، فظهر بهذا استقامة كلامه، لكن على استكراه شديد، ونداءٍ من مكانٍ بعيد وإن كانت الضمائر في رتبة واحدة، فسواء اقتضى العامل في الأصل اتصالها أو انفصالها جوازا ً أو وجوبًا لا بد من الانفصال، وذلك قوله: (وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا) يعني أن الضميرين إذا كانا في رتبة واحدة من تكلم أو خطاب أو غيبة فيتعين انفصال الثاني فتقول: زيد الدرهم أعطيته إياه، وعمرو بشر خلته إياه، وعلمتني إياي، وعلمتك إياك ولا تقول: أعطيتهوه ولا خلتهوه، ولا علمتنيني ولا علمتكك. قلا في "شرح التسهيل" انفصال ثاني الحاضرين متعين أبدا؛ لأنه لا يكون إلا مثل الأول
لفظًا، ومتحد به معنى، فاستثقل اتصالها، ولأن اتصالها يوم التكرار، قال: وانفصال ثاني الغائبين متعين أيضا؛ لأنه لا يكون إلا مثل الأول لفظًا ومعنى إن كان هو الأول في المعنى أو شبيها بما هو الأول في المعنى، فهذا وجه ما ذكره الناظم من الحكم إلا أن عليه فيه دركًا من وجهين:
أحدهما: لفظي، وهو أنه قال:(الزم فصلا) فحتم الحكم باللزوم واللزوم ضد الجواز فهو يقتضي أن لا يجوز الاتصال البتة، لكنه قال:(وقد أن لها يبيح الغيب فيه وصلا) فأجاز وجهًا آخر في بعض المسائل الداخلة تحت الإطلاق الأول، فإذا الفصل غير لازم، فظهر أن هذا الأخير مناقض للأول، وإنما كان الوجه أن يأتي بعبارة لا تقضى اللزوم فيما ليس فيه لزوم.
والثاني: معنوي وهو أن قوله: (وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا) يقتضي بإطلاقه إنك تأتي بالضمير الثاني منفصلا، وهذا مبني على صحة الإتيان بالمنصوب الثاني ضميرا، وهو صحيح إذا كان (الضميران) في رتبة الغيبة في نحو: مال زيد أعطيته إياه، وأما إذا كانا في رتبة التكلم أو الخطاب فلا يكون ذلك في أعطى إلا قليل من الكلام، وكذلك في رتبة الغيبة إذا اتخذ الأخذ والمأخوذ ذلك كله نادر لا يعتد به مثل ابن مالك في مثل هذا النظم فإن قولك: منحتنيني أو منحتني إياي، وكذلك منحتكك، ومنحتك إياك، وعندي: منحتهوه أو منحته إياه كأنه من قبيل المسوع عند الجمهور خلافا ً للمبرد، حيث أجاز منحتنيني ومثله منحتكك، وإنما كلام العرب على أن تعوض من الضمير النفس فتقول: منحتني نفسي، ومنحتك نفسك، أما أفعال القلوب فما قال فيها صحيح، وإذا ثبت هذا كان إطلاق
الناظم في الإتيان بالضمير مخلا بالمقصود. فالأول: أسماء الأفعال وحكمها حكم أفعالها، فكما تقول: اتركها كذلك تقول:
تراكها من إبل تراكها
وكما تقول: أمهله، كذلك تقول: رويده، إلا أن هذا القسم إذا كان وضعه وضع الفعل استعماليًا حتى حلق الوضعي كعليك ودونك وإليك فإن الوجهين فيه جائزان فتقول: عليكه وعليك إياه، ودونكه ودونك إياه، نص على ذلك سيبويه، وقد جعل بعضهم من هذا رويد، فأجاز رويد إياه، ولم يذكر سيبويه فيه إلا الاتصال، وإنما اعتبر فيه سيبويه أنه اسم فعل بالوضع الأول كـ"تراك"، واعتبر غيره أنه ليس بالوضع الأول، وإنما هو من قبيل "عليك" و"لديك"، ألا تراه يستعمل مصدرًا نحو: رويدًا زيدًا، وأما ما ناب عن الفعل استعمالًا فذلك المصدر الموصول فيجري أيضا مجرى الفعل في اتصاله الفاعل به وحده، أو المفعول به وحده، على لفظ المضاف إليه، فإذا
اجتمعا اختير الانفصال، كقولك: أعجبني إكرامي إياك، وجاز الاتصال أيضًا نحو:
وكان فراقيها أمر من الصبر
والثاني: أن يختلف لفظهما بعض اختلاف، فإنهما إن لم يختلفا لفظًا لم يزل القبح اللفظي، فلا بد من الفصل فقولك: مال زيد أعطيته إياه لا يجوز فيه الوصل، فلا تقول: أعطيتهوه ولا جارية هند أعطيتهاها، فإذا وجد الاختلاف فحينئذ يجوز ذلك على ما قال من القلة، والاختلاف الذي أشار إليه هو أن يكون أحدهما مذكرًا والآخر مؤنثًا، أو أحدهما مفردًا والثاني مثنى أو مجموعًا نحو: أعطاهوها، وأعطاهاه وأعطاهماه، وأعطاهوهم
وأعطاهاهما وأعطاهموهن، وما أشبه ذلك. قال سيبويه: فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت: أعطاهوها وأعطاهاه جاز وهو عربي، ولا عليك بأيهما بدأت من قبل أنهما كلاهما غائب، وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم، والكثير في كلا مهم أعطاه إياه، ثم أنشد قول مغلس بن لقيط الأسدي:
وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة
…
لضغمهماها يقرع العظم نابها
وروى غير سيبويه:
أعضهماها يقرع العظم نابها
وحكى الكسائي: (هم) أحسن الناس وجوها وأنظر هموما، ووجه إباحة الوصل ما تقدم من زوال بعض القبح اللفظي وزوال إيهام التكرار.
وقوله: (وقد يبيح الغيب فيه) أتى بقد دالة على القلة، وهكذا شأنه أن
يأتي بها للدلالة على قلته في الكلام، والغيب مرادف للغيبة. يقال: غاب عنه غيبًا وغيبة وغيوبًا ومغيبا، وحكى عن اللحياني أيضا غيابه وغيابًا بالكسر وغيبة بالكسر أيضا، فأراد وقد تبيح الغيبة فيه وصلًا، و"ما" في قوله/:"مع اختلافٍ ما" صفة أريد بها الايهام، فالعرب تضعها لايهامها مواضع الإيهام كقول العرب: "لأمرٍ ما جدع قصير آنفه وأنشد سيبويه:
عزمت على إقامة ذي صباحٍ
…
فأمرٍ ما يسود من يسود
أي: لأمرٍ عظيم، وعلى هذا النحو استعملها الناظم، كأنه قال: مع اختلاف، أي اختلاف (كان)، ثم قال: (ونحو ضمنت إياهم الأرض
…
إلى آخره)، أراد إن الضرورة اقتضت تسويغ انفصال ما لا يجوز انفصاله، نحو (ضمنت إياهم الأرض) فإن الواجب أن يقال: ضمنتهم، كما يقال: ضربهم زيد وهو الذي أشار
إليه أولًا في قوله: (وفي اختيار لا يجئ المنفصل
…
) إلى آخره، وقد مر الاستشهاد عليه، وكان الأولى أن يأتي بهذا المعنى في ذلك الموضع، لا ها هنا، والذي أشار إليه بقوله:(ضمنت إياهم الأرض) هو بيت للفرزدق اقتطع منه موضع الشاهد وهو قوله:
بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت
…
إياهم الأرض في دهر الدهارير
والضرورة: مبتدأ خبره اقتضت ونحو: مفعول به قد تقدم على المبتدأ والقاعدة في هذه المسألة أن المعمول لا يتقدم إلا حيث يصح تقدم العامل وتقدم العامل هنا لا يصح لأنه يوهم فاعلية المبتدأ، وقد قال في باب المبتدأ حين نص على منع التقديم:(كذا إذا ما الفعل كان الخبرا) فإذا القياس منع هذا التقديم على ما قالوا إلا أن يكون نحو: مبتدأ حذف الضمير العائد عليه، وهذا الوجه ضعيف، وقد نازع المؤلف في صحة تلك القاعدة وخالفها في بعض المواضع في "شرح التسهيل" فلعل هذا جارٍ على إجازته التقديم والله أعلم.
ثم قال:
وقبل يا النفس مع الفعل التزم
…
نون وقاية وليس قد نظم
لما أتم الكلام على الضمائر وأحكامها وألفاظها شرح في فصل يتعلق بها وذلك الكلام على نون الوقاية وهي النون اللاحقة آخر الكلمة، وقبل ياء المتكلم لتقيها من الكسر لكونها من جنس ما لا يدخله الكسر أو لشبهها بما هو كذلك وأصل ذلك للفعل، وذلك أنهم حرسوا أواخر الأفعال من دخول كسرة عليها لازمة لتباعد الأفعال من الجر والسكرة لفظها لفظ الجر: لأن الياء المتكلم يكسر لها ما قبلها إذا كان مما يتحرك، فلما كرهوا كسر الفعل وأثروا سلامة لفظه أدخلوا نونا يقع الكسر عليها نحو: ضربني ويضربني، (وأدخلوها) أيضا في المعتل نحو: أعطاني ويخشاني ويدعوني ونحوه، وإن كان لا يتحرك حملا للمعتل على الصحيح، ولأنه كان يلزم في يدعوني قلب الواو ياء كهذه عشري في إضافة العشرين للياء. والدليل على أ، لحاقها لذلك قولهم: الضاربي، فلم يزيدوا النون، فإن قيل، فأنت تقول: اضرب الرجل فيدخل الكسر الفعل "قيل: هذا ليس من الكسر الذي يختص بالأسماء كالجر وإنما هو لالتقاء الساكنين، فلم يكن ذلك مما يتوقى منه، لما لم يكن مختصا، هذا معنى ما علل به سيبويه وغيره، وقد علل ابن مالك في "شرح التسهيل" هذه التسمية بمعنى آخر بمعنى آخر فخذه من هنالك.
فقوله: (وقبل يا النفس مع الفعل التزم) إلى آخره، أراد أنه/ يجب الإتيان بنون تسمى نون الوقاية مع الفعل المتصل به "يا النفس"، وذلك ما بين الفعل والياء، وياء النفس هي الياء الدالة على النفس، أي التي هي ضمير المتكلم، وأراد ياء النفس بالمد لكنه قصر ضرورة، ولأنه حكى شربت ما يا هذا.
وقوله: (مع الفعل) يعني أن هذا اللزوم إنما هو مع الفعل لا مع غيره، فإن لحقت غير الفعل فليس ذلك إلا على الجواز دون اللزوم، وبالسماع دون القياس، فإذا احترازه من الاسم والحرف، أما الاسم فلأن الكسر ًاصلٌ فيه فلا يحتاج إلى نون الوقاية، أن تلحقه، فإن لحقته فسماعًا لا قياسا، ولحاقها الأسماء إما لشبهها بالحروف التي تلحقها النون، وإما لشبهها بالفعل، فشبه الحرف سيذكره وشبه الفعل اسم الفاعل قرئ في غير السمع:{هل أنتم مطلعون} بإسكان الطاء وكسر النون، وهي رواية أبي عمروٍ، وقراءة ابن عباس وابن محيصن، وعمار بن أبي عمار.
وأما الحرف فلأن الكسر مما يدخله على الجملة، فالأصل فيه ع دم الاحتياج إلى النون إلا أنه أشبه الفعل منه بعض أنواعه، فلحقته النون بمقتضى الشبه لا بالأصل، وعلى الجواز في الغالب لا على اللزوم، وسيذكر ذلك، فلأجل هذا كله قيد لحاقها للفعل باللزوم حين قال:"مع الفعل التزم": فالحاصل أن نون الوقاية تلحق الاسم والفعل والحرف على الجملة فقدم كلام على الفعل الذي هو الأصل.
ثم قال: (وليسي قد نظم) فنبه على أنه قد جاء في النظم سقوط نون الوقاية مع الفعل، قبل ياء المتكلم، ومخالفة الحكم باللزوم ونبه على أنه إنما جاء في الضرورة لا في الاختيار، لقوله:(قد نظم) أي: إنما نظم نظمًا ولم يأت في النثر، وذلك دليل على أنه اضطراري والذي أشار إليه هو ما أنشده السيرافي. وقال أنشدنا أبو بكر بن دريد:
عددت قومي كعديد الطيس
…
إذ ذهب القوم الكرام ليسي
ولم يذكروا ذلك في غير هذا البيت، ووجهه أن "ليس" شبيهة بالحرف لعدم تصرفها فعوملت معاملة "ليت" فلم تلحق النون في الشعر، كما لم تلحق في "ليت" كما سيأتي إثر هذا، وفي تنبيهه على السماع في "ليس" بيان أن مراده بالفعل عموم الأفعال متصرفة كانت أو غير متصرفة، فالمتصرفة نحو: أكرمني ويكرمني وأكرمني وغير المتصرفة نحو: "عليه رجلا ليسنى"، وما أحسنني عساني في نو ما أنشده سيبويه لعمران بن حطان:
ولي نفس أقول لها إذا ما
…
تنازعني لعلي أو عساني
ثم ذكر دخول النون في الحرف فقال:
وليتني فشا وليتي ندرا
…
ومع لعل اعكس وكن مخيرا
في الباقيات واضطرارا خففا
…
مني وعني بعض من قد سلفا
فذكر من ذلك ثمانية أحرف: إن وأخواتها، ومن حروف الجر: من وعن. أما إن وأخواتها فقسمها في هذا الحكم ثلاثة أقسام:
قسم شارع فيه لحاقها وندر عدم لحاقها.
وقسم بالعكس شاع فيه عدم لحاقها، وندر لحاقها.
وقسم شارع فيه الوجهانت/ معا.
وأصل هذه الحروف أن لا تلحقها النون مع ياء المتكلم، إذ ليس الكسر مما يمتنع من الحروف على الجملة، لكن هذه الحروف أشبهت الأفعال الماضية، ولذلك عملت عملها، فرفعت ونصبت حسب ما ذكره النحويون في باب "إن"، فثبت لها بحق الشبه أن عوملت معاملتها في لحاق النون، ولما كان المشبه لا يقوى قوة المشبه به لم يكن هذا الحكم لازمًا فيها، بل كان جائزًا على الجملة، فإن شئت ألحقت النون، وإن شئت لم تلحقها، وقد يغلب أحد الوجهين في بعضها دون الوجه الآخر.
فالقسم الأول: (ليت)، وهو الذي نبه عليه بقول:(وليتني فشا وليتي ندرًا) يعني أن الفاشي الشهير في كلام العرب لحاق النون في "ليت"، فتقول: ليتني اشتريت كذا، ومنه في القرآن:{يا ليتني كنت ترابا} و {يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} ، وقد لا
تلحق فتقول: ليتي فعلت كذا، ومنه قول زيد الخيل:
كمنية جابر إذا قال ليتي
…
أصادفه وأتلف بعض مالي
ووجه هذا النادر أن الحروف أصلها ألا تلحقها نون الوقاية، فجاء على مراعاة الأصل، فلم تلحق.
والقسم الثاني: (لعل)، وهو الذي أراد بقوله:(ومع لعل اعكس)، ويريد أن "لعل" حكمها بعكس حكم "ليت"، وحقيقة العكس تبديل مفردي القضية المفروضة على وجه يصدق، والمراد هنا عكس الحكم، لما كان دائرًا بين وجهين، وذلك قوله في "ليت": إن عدم اللحاق فشا، واللحاق ندر، فإذا عكست أنت هذا الحكم بالإضافة إلى "لعل" ثبت لك أن اللحاق فشا، وعدم اللحاق ندر، وهذا صحيح، ومثال الفاشي:{لعلي أبلغ الأسباب} و {لعلي أطلع} وهو كثير، ووجه ذلك أن لعل آخره لام، واللام قريبة من النون، ولذلك تدغم فيها حتى تبدل لامًا، وذلك قولك: ملك في: من لك، فحذفوا ها هنا النون لمكان قربها من اللام حتى إنهما لكالأمثال، وهم مما يحذفونها في هذا الباب كراهية التضعيف، حين
وافقت مثلها نحو: إني وكأني، فكذلك فيما قرب من المضاعفين، ومثال النادر ما أنشدوه من قول الشاعر:
فقلت أعيراني القدوم لعلني
…
أخط بها قبرًا لأبيض ماجد
ووجهه مراعاة أصل الشبه بالفعل مع عدم الالتفات إلى تقارب الحرفين في المخرج، وقد علل في "شرح التسهيل" عدم اللحاق وكونه هو الشائع في لعل بوجه آخر، وما تقدم هو تعليل الخليل في المعنى.
والقسم الثالث: وهو الشائع فيه الوجهان، فأنت فيه بالخيار في إلحاق النون وعدم إلحاقها، وهو أربعة أحرف:"إن" و"أن" و"كأن" و"لكن"، وإياها أراد الناظم بقوله:(وكن مخيرًا في الباقيات) أي: في الأحرف الباقيات، يريد من باب "إن"، ودل على أن الباقيات من باب إن ذكره "ليت" و"لعل" في القسمين الأولين، فعلم أن ثالث الأقسام مختص أيضا بباب "ليت" و"لعل"، فمثال لحاقها قول الله تعالى {إنني لكم [منه] نذير وبشير} وأنشد ابن جني عن قطرب لمهلهل:
زعموا أنني ذهلت وليتي
…
أستطيع الغداة عنها ذهولا
وقوله الآخر: /
ولكنني من حبها لعميد
ومثال عمد لحاقها في القرآن: {إني أمنت بربكم} ، {ولكني أراكم قوما تجهلون} ، وأنشد سيبويه:
وإني إذا ملت ركابي مناخها
…
فإني على حظي من الأمر جائح
وقال امرؤ القيس:
كأني لم أركب جوادًا للذة
…
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
وذلك شهير في الكلام. ووجه لحاقها قوة الشبه بالفعل، كما مر، ووجه سقوطها كراهية التضعيف لاجتماع التنوين، ثم ذكر لحاق النون لمن وعن فقال:(واضطرارًا خففا مني وعني) إلى آخره، يعني أن بعض من تقدم من العرب اضطر في الشعر فخفف نون "مني" و"عني" وذلك التخفيف عبارة عن عدم لحاقهما النون الوقائية وأشار بذلك إلى قول من قال:
أيها السائل عنهم وعني
…
لست من قيس ولا قيس مني
وقد استلزم كلامه وحكايته أن عدم إلحاق النون لها، ضرورة أن يكون الإلحاق لهما هو اللازم في الكلام والذي لا يعدل عنه إلى غيره، وهذا هو المقصود من كلامه لا الإخبار عما جاء ضرورة، لأن حكايته للضرورات ليست إلا بحكم التبع؛ لأن قصد النحوي القياس، ولكنه أتى بالعبارة على غير الأسلوب المقصود، اتكالًا على فهم المعنى، وإنما ألحقوها هذين الحرفين لأنهم اعتزموا على تسكين أواخرهما، ولم يريدوا أن يحركوهما لأن أصلهما السكون، بخلاف غيرهما من حروف الجر نحو: بي ولي، فلم يكن بدٌ من الإتيان بحرف قبل ياء الإضافة يتحرك بالكسر، فجاؤا بالنون لأن من شأنها أن يؤتى بها في هذا الوضع، أعني قبل ياء المتكلم، فلم تخرج عن موضعها حين وقت الحرف من الكسر، ولو أنهم أتوا ب غير النون مع الحرف لكان موضوعًا غير موضعه، فكانت النون أولى بذلك، ولئلا تشبه الحروف
الأسماء بعدم لحاق النون نحو: يد وهن وما أشبه ذلك، وإلى هذا المعنى أشار الخليل في التعليل. فإن قيل: فأنت ترى من الحروف ما هو ساكن الآخر سكونًا لازمًا، ولا تلحقه النون كعلى وإلى، فقد أجاب الخليل عن هذا بأن ياء الإضافة لا سبيل لها على الألف ولا على الياء المكسور ما قبلها في التحرك، وإنما تتحرك الياء نحو على وإلى، وهكذا أيضا ما كان نحو في، فلما كان كذلك لم يحتاجوا إلى النون، بخلاف ما يتحرك، إذ لو أضفت إلى الياء الكاف الجارة لقلت: ما أنت كي؛ لأنها متحركة كأواخر الأسماء وجارة كالأسماء.
ثم ذكر لحاق النون الأسماء فقال:
وفي لدني لدني قل وفي
…
قدني وقطني الحذف أيضا قد يفي
يعني أن تخفيف نون "لدني" وهو عدم إلحاقها نون الوقاية قليل، فيلزم عليه أن يكون لحاقها هو الكثير، وقد قرئ قوله تعالى:{قد بلغت من لدني عذار} بالوجهين، فالتشديد الذي هو الكثير قرأ به من الأئمة السبعة من عدا نافعًا وعاصمًا من رواية أبي بكر عنه، والتخفيف الذي هو القليل قرأ به نافع وأبو بكر. وقوله:(قل) دليل على أن هذا جائز عنده في الكلام، لا مختص بالشعر، وهذا دأبه في هذا/ النظم إنما يعبر بلفظ القلة عما جاء في النثر، وهو ثابت بقراءة نافع وأبي بكر، ونبه بذلك على مخالفة ظاهر كلام سيبويه. قال في "شرح التسهيل"
وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات، وليس كذلك، بل هو جائز في الكلام الفصيح، ثم حكى القراءة ووجه لحاق النون في "لدني" أنها عوملت معاملة "من" و"عن" لأنها شبيهة بهما، ووضعها على ذلك، فاعتزموا على إبقاء تسكين الآخر فيها كما فعلوا في "من" و"عن"، وكذلك الحكم عندهم في "قطني وقدني"، بخلاف ما آخره متحرك من الأسماء غير المتمكنة نحو:"لد" و"مع"، فإنهم يجرونه مجرى يد، فكما يقولون:(يدي فكذلك يقولون) لدي ومعي، قال سيبويه:"وأما (قط) (وعن) ولدن فإنهن يتباعدن من الأسماء، ولزمهن ما لا يدخل الأسماء المتمكنة، وهو السكون، وإنما يدخل ذلك الفعل نحو: خذ وزن وزر، فضارعت الفعل وما لا يجر أبدًا، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت مجراه ولم يحركوه".
وأما التخفيف في لدني فعلي وجهين: إما على أنهم أجروه على الأصل من الاسمية، فلم يلحقوا النون وعاملوا "لدني" معاملة عضدي. قالوا: وإلى نحو هذا أشار أبو إسحاق الزجاج. وإما على أنهم حذفوا النون كراهية التضعيف على حد حذفها من [قوله تعالى]: {فبم تبشرون} ونحوه وإلى هذا ذهب المبرد، ثم قال:(وفي قدني وقطني الحذف أيضا قد يفي) يريد: أن الحذف في قدني وقطني قد يأتي أيضا، وهو حذف نون
الوقاية وإتيانه بـ "قد" و"يفي" إشعارٌ بأنه مسموع في الكلام، بل قد يكثر كثرة ما، إذ معنى يفي يكثر، أي: إنه قد يكثر في السماع فلا يكون معدودًا في الشواذ، ولا في الضرائر، وهذا تنكيت منه على سيبويه، ومن قال بقوله: إن عدم اللحاق يختص بالشعر. قال سيبويه: وقد جاء في الشعر: "قدي" وأنشد:
قدني من نصر الخبيبين قدي
فجمع بين الحذف والإثبات، ثم لما اضطر شبهه بحسبي وهني، لأن ما بعدهن وحسب مجرور، كما أن ما بعد "قد" مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قال: ليتي، حيث اضطر، وقد استشهد ابن مالك على عدم اختصاصه بالشعر بما روى في الحديث من قوله: قط قط بعزتك وكرمك، ويروى بسكون الطاء ويكسرها مع الياء ويدونها وقطني بالنون، ومما لحقت فيه ما أنشده المبرد وغيره:
امتلأ الحوض وقال قطني
…
مهلا رويدًا قد ملأت بطني
ويقال: وفي الشيء وفيًا على فعول: إذا تم وكثر. هذا تمام الكلام على هذا الفصل، ثم يتعلق بكلامه فيه مسائل:
إحداها: أنه لما أطلق القول في لزوم النون للفعل ولم يستثن سوى "ليسى"، دل ذلك من مذهبه على ثبوت أمرين:
أحدهما: كون الأفعال غير المتصرفة داخلة في الحكم بلزوم النون، وقد تقدم، ومن ذلك فعل التعجب نحو: ما أكرمني وما أحسنني، وهذا مذهب البصريين، وحكى أبو سعيد السيرافي عن الكوفيين أنهم ذكروا فيه إسقاط النون فيقولون: ما أكرمي وما أحسني. قال: ولست أدري أعن العرب حكوه أم قاسوه/ على مذهبهم في أفعل؟ يعني من كونها اسمًا، أو أصلها الاسم، والأسماء ليس من شأنها أن تلحقها النون، بخلاف الأفعال.
والثاني: أن ما جاء من نحو قوله تعالى-: {أتحاجوني في الله} وقوله: {فبم تبشرون} ، وقوله:{أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم} . وقال الشاعر:
أبا لموت الذي لا بد أني
…
ملاق لا أباك تخوفيني
وغير ذلك هو ما حذفت فيه إحدى النونين للاستثقال، إذ أصله:"أتحاجونني" و"تبشرونني" و (تشاقونني، وتخوفينني) وهو كثير في الكلام، فإن نون الوقاية هي الباقية، وحذفت نون الرفع، كما حذفت مع نون التوكيد في نحو:{لتبلون في أموالكم} ، على مذهب الناظم، وهذا مذهب سيبويه، وكذلك يقتضى أن تكون هي الباقية فيما أنشده سيبويه من قول عمرو بن معدي كرب:
تراه كالثغام يعل مسكا
…
يسوء الفاليات إذا فليني
أصل الكلمة: "فلينني"، فحذف الأولى في رأي سيبويه، وهو مرتضى المؤلف في "التسهيل" إذ قال: وهي الباقية في "فليني" لا الأولى وفاقًا لسيبويه، ووجه ذلك في "الشرح" بأنهم حافظوا على بقائها مطلقًا لما كان للفعل بها صون ووقاية.
والثانية: أن الندور الذي ذكر في قوله: (وليتي ندرا) يحتمل أن يريد به أنه جاء في الكلام نادرًا، ويحتمل أن يريد به (أنه) جاء في الشعر خاصة، لكنه لا يسوغ حمله على أنه جاء في الكلام، لأنه قد نفى ذلك في "شرح التسهيل"، وجعل ليسي نظير ليتي، في اختصاصه بالنظم. وقال سيبويه: وقد قالت الشعراء: ليتي إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا: الضاربي، وهو منصوب، وإذا كان كذلك يتعين به أن الندور الذي أراد فيه هو المختص بالشعر، إلا أنه يعارضه في هذا التنزيل من كلامه قوله:(ومع لعل اعكس) فذكر أن لحاق النون في لعل نادر، كندور عدم اللحاق في "ليت" وقد ثبت أن ندور ليتي يختص بالشعر، فاقتضى أن ندور لعلني كذلك، وهذا الاقتضاء غير موافق لظاهر النقل، لأنه قد أشار في "شرح التسهيل" إلى عدم اختصاصه بالشعر، وهو ظاهر "التسهيل" أيضا، وهو أيضا ظاهر كلام سيبويه حيث قال: أعلم أن علامة المنصوب المتكلم "ني" وعلامة المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول: إذا أضمرت نفسك وأنت منصوب ضربني وقتلني وإنني ولعلني إلى تمام المسألة، بل هذا الكلام يدل على كثرة لعلني، خلاف ما يفهم من لفظ الندور، فظهر إذا أن لفظ الندور في الموضع وتنزيله مشكل، والاعتذار عنه أنه لفظ الندور إنما
حملناه على أنه أراد به ما جاء في الشعر على جهة التنزيل، لا على جهة أن اللفظ يقتضيه، وذلك لأن مقتضى لفظ الندور أنه قليل جدا خاصة، من غير تعرض إلى كونه مختصا بالشعر، أو غير مختص، فإذا حملناه في "ليت" أنه أشار إلى الندور الشعري لم يكن حكمًا بأن مراده في "لعل" أيضا أنه مختص بالشعر، بل يصح أن يقال أنه أراد ندوره في الكلام، لصلاحية اللفظ للمقصدين/ إذ لا يقتضي لفظ الندور ااختصاصا، فالقصد الأول في الموضعين التنبيه على الندور، وهو في لعلني وليتني حاصل على الجملة، إذ ليس بكثير، ولذلك لم يحفظه في "لعل" فيما علمت من تأخر عن سيبويه إلا في بيت الشعر، وليس كلام سيبويه بصريح في كثرته كما أنه لم يوجد في "ليت" إلا في الشعر، وإذا كان كذلك لم يكن في كلامه إشكال.
والثالثة: أن لفظ التخفيف في قوله: (واضطرارًا خففا) يعني أن الندوة لحقت، ثم حذفت بعد ذلك تخفيفًا للضرورة، وهذا أحد الاحتمالين في المسألة، ويحتمل أن يكونوا لم يلحقوها البتة، بل أتو "بمن" و"عن" عند الإضافة إلى الياء على الأصل، من عدم اللحاق فلو أخبر أن بعض من سلف لم يلحق النون في "من" و"عن" اضطرارًا لصح ولا سيما والموضع موضع ضرورة، فهو أولى ألا يع تبر فيه قصد التخفيف لكنه نبه على أصل ينبغي التنبه له، وهو أن ما لزم فيه من كلام العرب حكم من الأحكام أو غلب فيه أو أكثر، فدعوى أصالة ذلك الحكم لذلك المحل صحيحة، بناء على أن الكثرة لها الأصالة، وينبني على ذلك أن الحكم إذا تخلف عن ذلك المحل بعد ما ثبت له في القياس لعلةٍ أوجبت تخلفه، فهو لم يتخلف إلا بعد دخوله، أو تقدير دخوله كما
تقول في الأسماء أن أصلها الإعراب، وما تخلف عنه الحكم بالإعراب لعلة فخارج عن الحكم عليه بالإعراب، لكن بعد الحكم باستحقاقه إياه فكأنه أعرب أولا، ثم أخرج عن الإعراب إلى البناء لموجب البناء، وعلى ذلك انبنت مسألة سيبويه في الوقف على النون الخفيفة في فعل الاثنين والجميع، إذ زعم أنك تقول: هل تضربون؟ وهل تضربان؟ وهو مشكل في فعل الاثنين، لأنه لا يقول بلحاق النون الخفيفة في فعل الاثنين، فكيف يفرض مسألة لا يقول بها؟ ! ولا يصح أن يفرضها على مذهب يونس، لأنه إنما يقف عليها. هل تضربا دون نون، فوجه هذا ما تقدم من أن النون الخفيفة على مذهب سيبويه كأنها لحقت ثم حذفت، لعلة التقاء الساكنين، وإلا فلو لم يقدر لحاقها وجودًا لما ساغ له فرض المسألة، فلا بد في صحتها من هذا التقدير، وكذلك مسألتنا لما كان لحاق النون "لمن" و"عن" حكمًا لازمًا بالاستقراء صارا كأن النون لاحقة لهما وجودًا، فلذلك عد الناظم عدم لحاقها لهما تخفيفًا، وأيضا فعلة عدم لحاقها إنما هو استثقال التضعيف، والتضعيف إنما يستثقل عند وجوده حقيقة أو توهمًا فإذا التخفيف ثان عن التضعيف حقيقة أو توهمًا، وهو معنى التخفيف الذي ذكر، وعلى هذا أيضًا يحسن إتيان الناظم بلفظ الحذف في قوله: (الحذف
…
قد يفي) لأن الحذف إنما يكون بعد الإثبات، فنبه على أن لحاق النون فيها هو الأصل وأن عدم لحاقها حذف في المعنى القياسي، وهذه قاعدة صحيحة ناشئة عن أصل عربي نبهنا عليه شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني- رحمه الله وهو أن يقال: ما تخلف من الحكم لمانع، هل يقدر
تخلفه بعد ثبوته، إذ لا يتحقق المانع إلا كذلك، أم يقدر المانع أولا فلا يثبت الحكم/ ابتداءً.
فإن قلت: إنما هذا حيث توجد علة التخلف، ومسألتنا من باب ما تخلف الحكم فيه للضرورة لا لغير ذلك، فقد تخلف الحكم دون علة فزال اعتبار أصل القاعدة هنا.
فإن قيل: هذا السؤال لا ينهض، فإن القاعدة أن العرب لا يضطرون لشيء إلا وهم يحاولون به وجهًا، وقد نبه على ذلك الناظم حيث أتى بلفظ التخفيف المشعر بوجود الثقل في المخفف، وأن الحذف لأجله ولو سلم أن لا علة، فنفس الاضطرار من أقوى العلل، وهذا ظاهر وبالله التوفيق.
والرابعة: أن الناظم ذكر من الأسماء التي تلحقها النون بعضا وترك بعضًا، إذ من الأسماء ما تلحقه في الشعر وفي الكلام، ولم يتعرض له، فمن ذلك اسم الفاعل قد لحقته سماعًا ومنه القراءة المتقدمة:{هل أنتم مطلعون} وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: "هل أنتم صادقوني" وأنشد ابن جني وغيره
وما أدري وظني كل ظن
…
أمسلمني إلى قومي شراح
وابن مالك أنشد غير ذلك مما لم أقيده. ومن ذلك أفعل التفضيل ففي الحديث: "غير الدجال أخوفني عليكم" والأصل: أخوف خوفي، أو أخوف تخوفاتي، فحذف المضاف، وحكى سيبويه في أسماء الأفعال عليكني وعليكي، بل ينبغي أن يكون إلحاق النون لاسم الفعل كالفعل من كل وجه فكما تقول: تراكها، كذلك تقول: تراكني، وفي رويد رويدني وفي هلم الحجازيه هلمني، وكذلك سائر أسماء الأفعال المتعدية، بل والمصدر الموصول نحو: عجبت من ضربكني، ويظهر هذا من السيرافي، وذلك إذا آثرت اتصال الضمير ولا تقول: من ضربكني؟ لجريانه مجرى الفعل والالتباس، وقد نص على جواز إلحاق النون في اسم الفعل مطلقًا المؤلف في "شرح التسهيل"، فالحاصل أن الناظم قصر في المسألة من وجهين:
أحدهما: كونه ترك مما تلحقه النون ما هو قياس، وذكر ما ليس بقياس.
والثاني: أنه خص بالذكر مما ليس بقياس بعضًا وترك بعضًا لم يدل عليه بإشارة وظاهر هذا تحكم.
والجواب: أن يقال: أما الأول: فهو وارد عليه، وأما الثاني: فإن الذي ترك مما ليس بقياس هو لحاقها اسم الفاعل وأفعل التفضيل وكلاهما لا فائدة في تنبيهه عليه، إذ لا يتعلق به قياس على وجه، بخلاف ما ذكر فإن فيه قياسًا، وذلك أن القياس يجري في الكلام بحسب مسألتنا على وجهين:
أحدهما: أن يقيس ما لم يسمع على ما سمع، ولا مراء في أنه مفقود هنا، إذ لا يجوز لك أن تقيس على "قدني" و"قطني" غيرهما.
والثاني: ألا تقتصر فيما سمع على موضع السماع، بل تتكلم به في غير موضعه، كما في "لدني" و"قطني"، فإنك لا تقتصر مثلا على استعمالها في قوله:{وقد بلغت من لدني عذرا} ولا في قوله:
أمتلأ الحوض وقال قطني
بل تقول للرجل: انتظر الخير من لدني وقطني ما أعطيتني، بخلاف "مطلعون" و"صادقوني" و"مسلمني" فإنك لا تقول في الكلام، الزيدون مطلعوني على كذا، ولا هم صادقوني في كذا، ولا هم مسلموني إلى العدو كما لا تقول: أطولت القيام، قياسًا على قوله:
صددت فأطولت الصدود
وما أشبه ذلك، بل تقف بها على موضع السماع، وفرق ما بين الموضعين مبين في "الأصول"، فلما كان لدني وقدني وقطني تجري
مجرى المقيس على الجملة/ ذكرها دون ما ليس كذلك، وللناظم من هذا النحو مواضع يظن بها أنها شذوذات على الإطلاق لا يدخلاها قياس بوجهٍ وشأنها هذا الشأن، وسيأتي التنبيه على أشياء منها في مواضعها إن شاء الله تعالى