المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الابتداء هنا ابتدأ كلامه في الأحكام التركيبية، والتراكيب كلها راجعة عند - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌الابتداء هنا ابتدأ كلامه في الأحكام التركيبية، والتراكيب كلها راجعة عند

‌الابتداء

هنا ابتدأ كلامه في الأحكام التركيبية، والتراكيب كلها راجعة عند الاعتبار إلى جملتين: جملة اسمية وهي المصدرة بالاسم، وهي جملة المبتدأ والخبر، وجملة فعلية وهي المصدرة بالفعل وهي جملة الفعل والفاعل، وإلى هاتين الجملتين ترجع التراكيب الإفادية كلها، وأما جملة المنادى نحو: يا زيد فعدها قوم جملة ثالثة مباينة للجملتين المتقدمتين فهي عندهم مركبة في الأصل من الحرف والاسم وعند الجمهور هي راجعة إلى الجملة الفعلية على تقدير نيابة الحرف عن الفعل، وهذا مذهب ابن مالك في "التسهيل" إذ قال:"المنادى": منصوب لفظا أو تقديرا بـ "أنادي"/ لازم الإضمار، وأما في هذا النظم فهو محتمل، لأنه لما فرغ من الأحكام المتعلقة بالجملتين الاسمية والفعلية ذكر بعد ذلك النداء فيمكن أن يكون ذلك مقطوعا مما تقدم، لأن كون النداء من قبيل الجمل الفعلية أمر تقديري وحكم لو ظهر لنا في معنى النداء، ويمكن أن يكون ألحق النداء بما قبله من الجملة الفعلية وأخر ذكره لما فيه من كون الفعل مقدرا أبدا، ويدل على هذا الإمكان ذكره في "باب التحذير والإغراء"(لاشتراكهما في امتناع ظهور الفعل، فهذا الثاني أظهر في قصد الناظم) وهو موافق لمذهبه في "التسهيل"، وقد شرع في ذكر الجملة الاسمية أولا وما يتعلق بها من الأحكام، ثم أتبعها بالجملة الفعلية وما يتعلق بها فأما الجملة

ص: 589

الاسمية فقال فيها:

مبتدأ زيد وعاذر خبر

إن قلت زيد عاذر من اعتذر

وأول مبتدأ والثاني

فاعل أغنى في أسار ذان

هذه توطئة اصطلاحية في معنى المبتدأ والخبر، تفيد التعريف بهما على الجملة فيعني أنك إذا قلت: زيد عاذر، فزيد يعرب مبتدأ وعاذر خبره، ويجري مجرى هذا ما كان نحوه من قولك: عمرو خارج وبكر منطلق، والله ربنا، ومحمد نبينا، وما أشبه ذلك، و (من اعتذر) مفعول عاذر وهو من تمام المثال.

ثم قال: (وأول مبتدأ والثاني

) إلى آخره "هذا نوع ثان من الجملة الابتدائية وهو ما لا يكون فيه خبر استغناء عنه بفاعل يرفعه المبتدأ لكونه عاملا عمل الفعل، وذلك الصفة فيريد أنك إذا قلت: "أسار ذان "فـ" أسار" وهو الأول مبتدأ تقدمت عليه أداة من أدوات الاستفهام، وأما الثاني: وهو "ذان" تثنية "ذا" فإنه فاعل بسار؛ لأنه اسم فاعل جار في عمله مجرى الفعل، وذلك الفاعل "أغنى" يعني عن الخبر، فلم يحتج إليه لحصول الفائدة به دون أن تأتي بالخبر فلا حاجة إلى تقديره، كما لا تحتاج إلى تقدير المفعولين لعلم إذا قلت: علمت أن زيدا قائم على طريقة بعض المتأخرين هذا ما قال على الجملة، وحقيقة معنى كلامه يتبين ببيان مثاليه: أما الأول فإن زيدا في قولك: "زيد عاذر" اسم مخبر عنه، لم يتقدم عليه عامل لفظي يطلبه برفع ولا نصب ولا جر، فكونه مخبرا عنه دل عليه قوله: "وعاذر" خبر أي: خبر عن المبتدأ الذي هو زيد، فقد بان أن زيدا مخبر عنه، وكونه لم

ص: 590

يتقدم عليه عامل لفظي بوجه من وجوه الإعراب دل عليه نفس المثال، إذ لم يتقدم عليه شيء من العوامل اللفظية، وعدم العامل قد يكون حقيقة كما مثل، وقد يكون حكما فيوجد العامل اللفظي داخلا على المبتدأ، ولكنه في حكم ما لو لم يدخل عليه عامل البتة، فلا يخرج الاسم عن كونه عادما للعامل اللفظي فقد يدخل الحرف الزائد على المبتدأ كقول الله سبحانه:{هل من خالق غير الله} ، فـ "خالق" مبتدأ وإن دخلت عليه "من"، لأنها زائدة، والزائد لا حكم له، وقالوا: بحسبك زيد، فالباء زائدة أيضا وحسبك مبتدأ خبره زيد.

وأما المثال الثاني: فإن سار في قولك: (أسار ذان) اسم أيضا قد عدم العوامل اللفظية فلم يتقدم عليه شيء منها كما في "زيد عاذر" لكن فارقه بأن هذا ليس بمخبر عنه وإنما هو صفة من الصفات التي ترفع الظاهر وقد رفعت ظاهرا على الفاعلية وهو "ذان" وتقدمت/ في أول الكلام فلم تقع جزءا من الخبر ولا خبرا، فونه عادما للعامل اللفظي ظاهر، وكونه صفة من الصفات الرافعة للظاهر كذلك، وعليه دل بقوله:(والثاني فاعل) فهي من الصفات التي شأنها هذا، فيدخل تحت مضمون المثال اسم الفاعل واسم المفعول نحو: أمضروب عبداك، والصفة المشبهة باسم الفاعل نحو: أحسن أبواك؟ وما جرى مجرى ذلك نحو: أقرشي قومك؟ وكون الصفة قد تقدمت في أول الكلام ظاهر من مثاله أيضا، فإنها إن لم تسبق لم تكن مبتدأ وإن رفعت الظاهر نحو: الزيدان قائم أبواهما، فقائم هان خبر لا مبتدأ.

وأما قوله: (فاعل أغنى) فهو بيان أن من شرط كون سار ونحوه

ص: 591

مبتدأ أن يكون مرفوعه مغنيا ومعنى قوله معنيا أن يحسن السكوت عليه لحصول الفائدة به، فإن لم يكن كذلك فمفهومه أنه ليس بمبتدأ أعني "سار" ونجوه كما إذا قلت: أقائم أبوهما؟ فقائم هاهنا لا يكون مبتدأ، إذ لا يحسن السكوت على ذلك وإن أتيت بالفاعل حتى تقول: الزيدان فتأتي بمبتدأ يكون قائم خبره، وهذا الشرط مع قوله:(أسار ذان) يخرج أيضا قولك: أقائم؟ مما يرفع الضمير ولا يرفع ظاهرا مذكورا، فإنه لا يحسن السكوت عليه من جهة أنه في حكم المفرد، والمفرد لا يكون كلاما، وإنما لم يغن ضمير الفاعل هنا وإن كان رافعه صفه تجري مجرى الفاعل، لأن الصفة تستلزمه من حيث هي مشتقة، لا من حيث قصد التركيب للإفادة، ومن هنا قيد الإغناء بقوله:(في أسار ذان) أي: أن كونه مغنيا إنما يكون في نحو: "أسار ذان" ووجه إغنائه وقيامه مقام الخبر، فلم يحتج إلى تقدير كون المبتدأ في معنى الفعل، فالجملة في قوة الفعلية كأنك أتيت بالفعل نفسه فقلت: أيسير ذان؟ ولو كان هكذا لم يحتج إلى خبر؛ لإغناء الفاعل مع الفعل وحصول الفائدة بذلك، وإذا ثبت هذا ظهر أن في قوة هذين المثالين التعريف بالمبتدأ على حد ما عرف به في "التسهيل"، إذ قال: وهو ما عدم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا (من مخبر عنه أو وصف سابق رافع لما انفصل وأغنى.

فقوله: ما عدم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا) هو معنى قوله: (مبتدأ زيد وعاذر خبر) إن قلت: كذا، وقوله: "أو وصف سابق رافع ما انفصل

ص: 592

وأغنى" هو معنى قوله: (وأول مبتدأ والثاني فاعل أغنى) في كذا، وقد مر شرح ذلك، فلا تظنن أنه أتى بمثالين على ظاهرهما وهكذا عادته في هذا النظم فأعطه حظا من نظرك، فإن فيه دفائن قلما يتنبه لها إلا من أعطاه حقه في التفتيش والبحث والله المستعان، و "سار" اسم فاعل من سرى يسري سرى، وهو سير الليل بخلاف سار، فإنه ليس كذلك. وأسرى أيضا بمعنى سرى و "ذان" تثنية "ذا" اسم الإشارة للقريب المذكر، ويتعلق بكلام الناظم مسألتان:

إحداهما: أنه لما أتى بالمثال الذي ناب فيه الفاعل عن خبر المبتدأ قرنه بهمزة الاستفهام، فدل ذلك من إشارته على أن لحاقها من شرط هذا الحكم، فلا يجوز إذا أن يرفع اسم الفاعل ونحوه من الصفات فاعلا منفصلا ينوب عن الخبر إذا لم يقرن بهمزة الاستفهام/ ولا بما يقوم مقامها فلا تقول: لا قائم الزيدان ولا سار ذان، وهذا تنبيه على طرف من شرط اسم الفاعل وهو أن يكون معتمدا على متقدم قبله، ومن جملة ما يعتمد عليه الاستفهام والنفي، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله، لكن الخاص من الاعتماد بهذا الموضع هو ما ذكره، لأنه يعتمد عليه المبتدأ الذي هو في ذكره بخلاف غير ذلك من وجوه الاعتماد كوقوع اسم الفاعل خبرا، أو حالا، أو صفة، أو منادى، أو غير ذلك، فإن ذلك خارج عن باب الابتداء فإن كان كذلك ثبت أن الاقتران بهمزة الاستفهام شرط في كون المبتدأ يرفع الظاهر النائب عن الخبر وهو رأي الجمهور.

ص: 593

وذهب الأخفش إلى جواز ذلك من غير تقدم استفهام ولا غيره، فتقول قائم الزيدان وخارج الصالحون ونحو ذلك، والأصح قول الجمهور الذي اختاره الناظم؛ لأن اسم الفاعل قد تقرر فيه أنه لا يعمل حتى يعتمد، لأنه بالاعتماد يتقوى فيه جانب الفعل، لأنه إذا وقع في الصلة نائب عن الفعل، وبذلك يعمل وإن كان بمعنى الماضي، وإذا وقع صفة أو حالا أو خبرا فهو قد وقع في موضع الاسم المشتق، وأيضا ذلك موضع تقع فيه الجملة الفعلية كثيرا، والاستفهام أيضا طالب الفعل، وكذلك النفي، ولذلك يترجح معهما النصب في باب الاشتغال فلذلك لم يعمل إلا أن يعتمد، وهذا التعليل موافق للسماع إذ لم ينقل نحو: قائم الزيدان إلا نادرا بحيث لا ينبني عليه قياس، وأيضا فإن اسم الفاعل اسم محض واشتقاقه لا يوجب له العمل عمل الفعل، إذ يلزم أن يعمل كل مشتق عمل فعله الذي اشتق منه، أو من مصدره كالمسجد والمربع والمصيف والمغرفة، وما أشبه ذلك ولكنه إنما يعمل إذا تقدم ما يطلب بالفعل أو كان في موضع لا تدخل عليه فيه العوامل اللفظية التي تدخل على الاسم النعت والخبر فيقوى فيه حينئذ جانب الفعل، وهذا الاحتجاج الأخير منقول معناه من كلام السهيلي، وفيه نظر لمن تأمله، فقد ثبت رجحان ما قاله الناظم، وما احتج به الأخفش من الاشتقاق غير منتهض دليلا من حيث يشترط في عمل اسم الفاعل الاعتماد القوي بجانب الفعل وإلا فهو إلى الاسم أقرب منه إلى الفعل ولم يعمل في الماضي عند البصريين اعتمد عدم جريانه على فعله، فوجود الاشتقاق إذا عدم شرط العمل غير مؤثر في العمل ولزوم الضمير تابع للاشتقاق هكذا قالوا:

ص: 594

والحاصل أن مجرد الاشتقاق لا يكفي في إطلاق القول بجواز العمل، فإن السماع لا يساعد عليه.

المسألة الثانية: أن تمثيله بأسار ذان فيه تنبيه على الموضع الذي يتعين فيه الرفع في الثاني على الفاعلية وهو حيث يكون غير مطابق للمبتدأ إذا كان (ذان) مثنى و (سار) مفرد ولا يخبر عن المقرر بالمثنى، فلا تقول: الرجل قائمان فكذلك لا يكون (ذان) خبرا لـ (سار) البته، فلم يكن له وجه إلا الحمل على أنه مرفوع بـ (سار) على معنى أيسير ذان، أما لو كان مطابقا لكان في الإفراد محتملا لما قال، ولأن يكون الأول خبرا للثاني قدم عليه كقولك: أقائم زيد حسب ما يذكره بعيد هذا. فلا يتعين ما ذكر وإنما يتعين في غير المطابقة كما مثل./

***

ثم قال:

وقس وكاستفهام النفي وقد

يجوز فائز أولو الرشد

أما قوله (وقس) فهو على الجملة راجع إلى حكم تقدم أو أحكام تقدمت أي: قس على ما تقدم ذكره غيره، وهذا يحتمل سبعة أوجه من التفسير:

أحدهما: أن يريد القياس على ما ذكر تمثيله من المبتدأ المخبر عنه في قوله (مبتدأ زيد وعاذر خبر)، وقوله (وأول مبتدأ والثاني فاعل) إلى آخره، وذلك أنه أتى بمثالين حكم عليهما بأعيانهما ولم يأت بما يدل على أن الحكم المذكور مقيس يجري في غيرهما فبين ذلك بالنص، كأنه قال وقس على المثالين غيرهما، فالحكم مطرد في كل واحد منهما.

ص: 595

والثاني: أن يكون راجعا إلى مسألة (أسار ذان) وهو أقرب مذكور ليبين أنه مقيس لأن المبتدأ أصله أن يؤتى له بخبر ولا يستعني عنه بغيره، فلما بين أن هذا المثال الذي عدم فيه المبتدأ خبره مقول كأنه مظنة لسبق الفهم إلى أنه مسموع غير مقيس لما عرض فيه من الخروج عن أصل الباب، فأزال هذا التوهم بقوله (وقس) أي أن هذا كثير في كلام العرب بحيث يسوغ فيه القياس وإن جاء على خلاف الأصل.

والثالث: أن يكون راجعا إلى أقرب مذكور أيضا، لكن على معنى آخر وهو أنه لما قدم الإشارة إلى (اشتراط) تقدم الاستفهام، لكنه أتى بالهمزة وحدها خاف أن يتوهم اختصاص ذلك بها من بين سائر أدوات الاستفهام، فرفع ذلك التوهم بقوله:(وقس) كأنه أراد: قس سائر أدوات الاستفهام على الهمزة، فإن الوصف إذا وليها رفع الفاعل وأغنى عن الخبر، ومثال ذلك قولك: متى ذاهب البكران؟ وأين جالس صاحباك؟ وكيف مصبح إخوتك؟ وما أشبه ذلك، فهذا مما يليق أن يكون مراده.

والرابع: أن يكون منبها على أن هذا الحكم غير مختص بالفاعل المثنى، بل هو جار في غيره من المفرد والمجموع فتقول: أسار هؤلاء؟ وأقائم الزيدون؟ ، وأفائز إخوتك؟ وكذلك المفرد على أحد الاحتمالين فيه إذا قلت: أقائم زيد؟ ، وأسار هذا؟ وقد نبه هو على أن المجموع مثل المثنى في قوله:"وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد". وفي قوله: (والثاني مبتدأ وذا الوصف خبر) إلى آخره ..

والخامس: أن يكون راجعا إلى المرفوع بالفاعلين، فإنه قال:(والثاني فاعل أغنى) فكأنه يوهم الاقتصار على الرفع للفاعل وإن كان قياساً

ص: 596

فيه فأخبرك أن الرفع بالصفة لا يختص بالفاعل، بل قد يكون مفعولا لم يسم فاعله كقولك: أمضروب الزيدان؟ وأمكرم إخوتك؟ وما أشبه ذلك، والحكم فيهما واحد، فنبه على ذلك ليكون قد نص عليه فلا يؤخذ له بقياس.

والسادس: أن يكون قصد أن هذا الحكم لا يختص (باسم الفاعل الذي نبه عليه المثال، لأنه إنما أتى بهذا المثال من باب اسم الفاعل وإنما يتوهم أنه مختص به)، وليس في الحقيقة كذلك، بل نقول: أحسن الزيدان وأقرشي قومك؟ وإنما أراد صفة يصح رفعها للظاهر، ولم يرد كونها اسم فاعل وقد مر التنبيه على ذلك، وهذا الوجه والذي قبله يرجعان إلى قيد واحد في الحقيقة وهما وجهان من حيث الانتزاع.

والسابع: /أن يكون تنبيها على أن الصفة إذا تقدمها الاستفهام، فإن رفعها للظاهر المغني عن الخبر قياس بإطلاق لا وهن فيه ولا ضعف، فلا يتحاشى عنه، كما يتحاشى إذا لم يتقدمها شيء نحو: قائم الزيدان، فإنه لا يبلغ في الجواز رتبة ما تقدم عليه الاستفهام.

فإن قلت: فإن الخالي عن الاستفهام قياس عنده أيضا لقوله: (وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد) وهذه العبارة مشعرة بالقياس لكن على ضعف، فلو كان مراد الناظم التنبيه على الجواز فيما تقدمه الاستفهام والتنكيت على ما لم يتقدمه لاقتضى عدم القياس فيه، لكنه لم يفعل ذلك، فدل على عدم قصده لهذا المعنى وإلا كان كالمتناقض.

فالجواب: أنه لم يقصد التنبيه على كون العاري من الاستفهام لا يقاس بخلاف غيره، بل قصد أن المعتمد على الاستفهام قياس على الإطلاق إذ قال:"وقس" ولم يقيد ذلك بضعف ولا قلة سماع، فظهر

ص: 597

من ذلك أن غير المعتمد ليس كذلك، بل هو قليل ضعيف، وكونه بحيث يقاس عليه مع ذلك أمر محتمل بينه بقوله:"وقد يجوز" وهذه الأوجه يمكن أن يكون أشار إلى جميعها بقوله: (وقس) فلا يختص التفسير ببعضها دون بعض وهو أولى؛ لأن جميعها أحكام ضرورية تقدم ذكرها بالإشارة إليها. فيبعد أن يشير إلى بعضها دون بعض مع أنها كلها قياس والله أعلم.

ثم قال: (وكاستفهام النفي) يعني أن النفي بأداة من أدواته كالاستفهام فيما تقدم له من الحكم وهو كونه معتمدا على الوصف في رفع الفاعل، فكما أن قولك:(أسار ذان)، قياس مطرد، فكذلك قولك: ما سار ذان، لأن النفي مما يعتمد عليه اسم الفاعل في عمله، كما يعتمد على الاستفهام، ومن ذلك ما أنشده فبي الشرح من قول الشاعر:

خليلي ما واف بعهدي أنتما

إذا لم تكونا لي على من أقاطع

فإن قيل: إطلاقه النفي صريح في أن أدواته كلها صالحة لهذا الموضع، إذا كان كذلك دخل فيها "ما" التميمية نحو: ما قائم الزيدان، والحجازية إذ عدم شرط من شروط إعمالها نحو: ما إن قائم أخواك، وما قائم إلا أخواك، وهذا قد يقرب الأمر فيه، فإن أداة النفي هنا كأداة الاستفهام لا عمل لها، فتدخل على المبتدأ وما يليه، كما تدخل على الجملة الفعلية في قولك: ما قام زيد، ودخل في مقتضاه أيضا "ما" إذا عملت و "لا" إذا عملت عمل "إن" أو "ليس" و "إن" كذلك و "ليس" أيضا، ومثل هذا لا يقدم على إجازته بغير دليل وسماع يمكن أن يقاس عليه أو بنص إمام

ص: 598

تضمن القول بالقياس في هذه الأشياء وإلا جاز أن تقول بجواز دخول نواسخ الابتداء على (سار ذان) إذا جاز ليس قائم الزيدان، وما قائم الزيدان؟ وهي الحجازية، وكذلك "لا"، و "إن" اللتان كليس فتقول إن قائم الزيدان ولا قائم الزيدان، وهذا كله فيه نظر.

فالجواب: أن هذا كله قد نص على جوازه في "شرح التسهيل" عملا أطلقت الاستفهام أطلقت النفي ليتناول/ منها كل ما يصلح لمباشرة الأسماء، وذلك "ما"، و "لا" و "إن"، و "ليس" إلا أن "ليس" يرتفع الوصف بعدها على أنه اسمها ويرتفع به ما يليه فيسد مسدها، كما سد مسد خبر المبتدأ قال: وكذا الحكم بعد "ما" إن جعلت حجازية ولم ينتقض النفي، فإن جعلت تميمية أو انتقض النفي فالوصف بعدها مبتدأ، والمرفوع به ساد مسد الخبر، ثم أتى بأمثلة ذلك، فالحاصل أنه بنى هاهنا على ما بنى عليه هنالك، وأنه تضمن عهدة دخول الناسخ على مثل هذا المبتدأ، فإن كان في ذلك سماع يقاس عليه فلا عتب، وإن كان ذلك بالقياس النظري فهو غير مسلم لأمرين:

أحدهما: أنه أناب مرفوعا عن منصوب وهو خبر "ليس" و "ما" الحجازية وذلك غير موجود في كلام العرب، فإن وجد فبحيث لا يعتد به، وقد منع ابن خروف أن ينوب منصوب عن مرفوع في نحو: ضارب زيدا. قال: بل يجري عنده مجرى قائم زيد حين أناب منصوبا عن مرفوع،

ص: 599

وليس ثم فاعل ولا مبتدأ قال "فإن قلت: ضارب زيدا عمرو كان أضعف من قائم زيد لعلمه في المفعول وقد رفعته بالابتداء، وإذا لم ينب المخالف في الإعراب هنا فكذلك في مسألتنا، والموجود في كلام العرب في هذا النحو نيابة المرفوع عن مثله، أما نيابة المرفوع عن المنصوب فلابد لابن مالك من إثباتها مقدمة لمسألته، وإثباتها متعذر.

والثاني: أن عمل الصفة في باب اسم الفاعل إنما حصل في موضع قوى فيه جانب الفعلية باشتراط الاعتماد حسب ما مر، ألا ترى أن أقائم الزيدان؟ صار في معنى أيقوم الزيدان؟ وكذلك مع النفي، وإذا كان الأمر كذلك فدخول النواسخ مناف لتقوية جانب الفعل، بل هي مقوية لجانب الاسمية؛ لاختصاصها بالدخول على المبتدأ والخبر، وعدم قبولها للدخول على الفعل، فلا يسوغ إذا رفع الصفة عند دخول الناسخ، كما لا يسوغ عند التعري من الاعتماد، بل هنا أولى أن لا ترفع لتقوية جانب الاسمية فيها، فقربت بذلك من الجوامد.

ووجه ثالث- أشار إلى معناه الفارسي-: وهو ما يلزم على ذلك من دخول النواسخ على غير مبتدأ وخبر وذلك معدوم النظير، وهذا كله قد نبه عليه ابن خروف فقال: ولا ينبغي أن يجوز كان قائم زيد، على أن تجعل قائم اسم "كان" وزيد فاعلا يسد مسد الخبر؛ لأنه أناب مرفوعا عن النصب، وأدخل كان على ما ليس بمبتدأ وخبر، وعلى صفة، وقوى فيها معنى الاسمية وقد رفع بها، هذا ما قال وفيه ما ذكرت وغيره. فإن أجيب عن الأول: بأن المنصوب قد ينوب عن المرفوع كما في قولهم: ضربي زيدًا

ص: 600

قائمًا، وإذا جاز "مثل هذا فليجز عكسه. والثاني: بأن النواسخ قد تدخل على ما لا خبر فيه بل ناب عنه غيره. وحكى ابن كيسان عن الكسائي: دخول "إن" على نحو: كل رجل وضيعته، فقالوا: إن كل ثوب وثمنه، وإذا جاز في "إن" مثل هذا فليجز في مسألتنا فيقال: لم يبلغ مثل هذا أن يقاس عليه لقلته وخروجه عن قياس كلام العرب فلا يعتبر به.

والذي ينبغي أن يقال/ في الجواب عن الناظن أن دخول الناسخ على الصفة مذهب له حسب ما صرح به في الشرح فإياه اتبع في هذا النظم، ويمكن أن يقال: - وهو الأولى- إن إطلاقه النفي لا يتعين منه دخول ناسخ ينفي به لأن مثل ذلك يتوقف على جوازه ابتداء، وهو لم يتعرض لذلك هنا، فلا يؤخذ له منه مذهب؛ لاحتمال أن يريد نفيا لا يكون ناسخا للابتداء والله أعلم.

وعلى الناظم هنا سؤال وهو أن يقال: لم لم يفرض الناظم المسألة مع غير الاستفهام والنفي، وقد علم أن ذلك لأجل الاعتماد، والاعتماد يحصل بغيرهما كالاعتماد على المبتدأ، فهلا بين أن "قائم" من قولك: زيد قائم أبواه مبتدأ وأبواه فاعل سد مسد الخبر، كما بين ذلك مع الاستفهام والنفي؟

والجواب: أن ذلك لا يجوز فيما جرى على المبتدأ (فإن قائما) وقع نكرة وحق الخبر أن يكون نكرة فقد وقع في موضعه، وعاد مما تعلق به الضمير على المبتدأ، فلم يجز أن ينوى به غير موضعه لأنه شبه

ص: 601

التهيئة والقطع إلى هذا النحو نحا الفارسي في الجواب.

وقد يجاب بجواب آخر: وهو أن الخبر الذي هو قائم إن اعتاد أنه مبتدأ صار من قبيل قائم الزيدان؛ لأنه إذ ذاك مقطوع من زيد، والجملة هي الخبر، فصار قائم أبواه جملة مستقلة، فلم يبق للمبتدأ الذي هو قائم ما يعتمد عليه واسم الفاعل هنا إنما يرفع إذا اعتمد إلا قليلا.

فإن قيل: لم لا يجوز على ذلك القليل؟

قيل: لا يجوز لما تقدم أولا للفارسي، فالواجب ما فعله الناظم من تخصيص ذلك بالنفي والاستفهام، والكلام على سائر مواضع الاعتماد كالكلام هنا، كما لو قلت: أعجبني زيد قائم أبواه، فترفع قائما، أو مررت برجل قائم أبواه وتكون الجملة في موضع الحال أو في موضع الصفة.

ثم قال: (وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد). "قد" هنا بمعنى ربما وكذلك عادته أن يأتي بها للتقليل، ويعني أنه قد يجوز قليلا أن يأتي هذا الوصف مبتدأ يرفع فاعلا يغني عن الخبر وإن لم يتقدم نفي ولا استفهام وذلك نحو (فائز أولو الرشد) فهذا المثال لم يتقدمه نفي ولا استفهام، وقد رفع الفاعل وأغنى عن الخبر، إذ لا يمكن فيه غير ذلك لإفراد فائز وجمع أولى، فلا يصح أن يكون "فائز" خبرا مقدما و "أولو" مبتدأ، إذ لا يخبر بالمفرد عن الجمع ومثال ذلك ما أنشده في الشرح من قوله:

خبير بنو لهب فلاتك ملغيا

مقالة لهبي إذا الطير مرت

ص: 602

ويلحق به- وإن لم يكن كمثاله- قول الفرزدق:

فخير نحن عند الناس منكم

إذا الداعي المثوب قال يالا

لأنه يتعين فيه عند ابن مالك أن يكون خبر مبتدأ ونحن فاعلا، ولا يكون خبرا مقدما ونحن مبتدأ، قال: لأنه يلزم في ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل و "من" وهما كالمضاف والمضاف إليه، فلا يقع بينهما مبتدأ، وإذا كان خبر مبتدأ لم يلزم ذلك، لأن فاعل الشيء كجزء منه، على أن ابن خروف تأول البيت على أن "نحن" توكيد للضمير في "خير" وعلى الجملة فهذا عند الناظم جائز على قلة لقوله:(وقد يجوز نحو) كذا.

فإن قيل: إجازته للقياس في هذه المسألة إما أن تكون موافقة الأخفش أولا، فإن كانت/ موافقة له فلم جعلته أولا مخالفا له عند الكلام على قوله:(فاعل أغنى في أسار ذان) وإن لم تكن موافقة له فما هذا المذهب الثالث؟ والناس في المسألة على فرقتين:

فرقة تمنع وهم الجمهور، وفرقة تجوز مطلقا وهم الأخفش ومن وافقه، وقد نقل المؤلف الجواز عن الكوفيين أيضا.

وأما مذهب ثالث يجوز عدم الاعتماد على قلة فمذهب مبتدع ورأي مخترع.

ص: 603

فالجواب: إن ما ذهب إليه لم يوافق فيه الأخفش ولا غيره (وذلك لأن الأخفش لا يجيز المسألة على قلة، بل هي عنده جائزة جوازا حسنا فخالفه الناظم كما خالفه غيره)، وأما إجازته إياها على قلة فهو عنده مذهب سيبويه والناس في إيراد مذهب سيبويه على رأيين؛ لأنه قال: وزعم الخليل- رحمه الله أنه يستقبح أن تقول: قائم زيد، وذاك إذا لم تجعل قائما خبرا مقدما مبنيا على المبتدأ، كما تقدم وتؤخر فتقول: ضرب زيدا عمرو، وعمرو على ضرب مرتفع، ثم قال: فإذا لم يريدوا هذا المعنى، يريد أن يكون "قائما" خبرا مقدما، وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقولك: يقوم زيد وقام زيد، قبح، لأنه اسم. قال: وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف، أو جرى على شيء قد عمل فيه، كما أنه لا يكون مفعولا في ضارب حتى يكون محمولا على غيره فتقول: هذا ضارب زيدا، وأنا ضارب زيدا.

قال: فكما لم يجز هذا (يعني أن ينصب غير محمول على شيء) كذلك استقبحوا أن يجري، (يعني ضاربا) مجرى الفعل المبتدأ.

فذكر أن عدم الاعتماد قبيح على الجملة، واستقباحه له يحتمل أن يريد به عدم الجواز جملة، ويحتمل أن يريد أنه مع قبحه جائز بخلاف ما إذا

ص: 604

اعتمدت الصفة فإن ذلك جائز حسن وعلى الأول حمله طائفة، ويظهر ذلك من السيرافي حيث قال: إذا نقلت الفعل إلى اسم الفاعل ورفعت الفاعل به ولم يكن قبله ما يعتمد عليه قبح وإنما قبحه فساد اللفظ لا المعنى.

لو قلت: قائم الزيدون، لكان مبتدأ بغير خبر.

قال: ومجيزه يزعم أن الفاعل يسد مسده ويحتاج إلى برهان على ذلك، هذا اختصار كلامه، ونجوه أيضا يظهر من ابن خروف، لأن سيبويه يطلق لفظ القبح ويريد به المنع، وقد استدل على ذلك الفارسي في "التذكرة" بمواضع من كلام سيبويه يقع فيها لفظ القبح ومراده المنع، ولم ير ابن مالك هذا التفسير، بل زعم أن المفهوم من كلام سيبويه القبح دون المنع. قال: ومن زعم أن سيبويه لم يجز جعله مبتدأ إذا لم يل استفهاما أو نفيا فقد قوله ما لم يقل، ثم استدل على صحة استعماله بالبيتين المتقدمين، فلهذا- والله أعلم- أتى بالمسألة لينبه على أنها مع عدم الاعتماد غير ممتنعة خلافا لمن ظن أن ذلك كذلك.

واعلم أن الناظم لما أطلق القول في جواز القياس على "أسار ذان"، اقتضى جواز ذلك، وأن يقال به فيما إذا كان بعد الصفة ضمير منفصل نحو قوله تعالى:{قال أراغب أنت عن آلهتي} فأنت يجوز أن يكون فاعلا بـ "راغب"، كما يجوز أن يكون زيد من قولك أقائم زيد؟ فاعلا بـ "قائم"، وقد نص على جواز ذلك في "شرح التسهيل" وانبني على ذلك جواز عدم المطابقة، فيكون الضمير المنفصل فاعلا البتة فتقول: أقائم

ص: 605

أنتما؟ وأضارب أنتم؟ وهذا أيضا قد نص عليه/ في "الشرح" وأن لا فرق بين قولك: أضارب الزيدان؟ وما ضارب بهما؟ وهذا فيه نظر فإن الضمير المنفصل لا يكون فاعلا مع إمكان اتصاله وإنما يكون فاعلا إذا لم يمكن اتصاله بالعامل نحو: ما قائم إلا أنت، وأعجبني الضاربه أنا، وما أشبه ذلك. أما إذا تأتى الاتصال فانفصاله يدل على أنه مبتدأ قدم عليه خبره لا فاعل. ألا ترى إلى قوله عليه السلام:"أو مخرجي هم" ولم يرو إلا بتشديد الياء لأنه خبر وهم مبتدأ، فجمع من أجل الضمير الذي في الخبر والتقدير: أو هم مخرجي ولو كان "هم" فاعلا لقال: أو مخرجي هم، بتخفيف الياء كما تقول: أو مخرجي أخواك، لكنه لم يفعل، فدل على أنه لا يجوز أن يكون الضمير المنفصل فاعلا ولا أن يكون غير مطابق للصفة، هذا ما قال بعض المتأخرين فاستثنى كما ترى الضمير المنفصل ولم يستثنه الناظم فكان معترضا عليه.

والجواب: أن ما قاله هذا المتأخر غير مسلم له، بل انفصال الضمير هنا هو الصواب وإن لم يكن في الصفة من الموجب ما قال، لأن الصفة هنا خاصة توجب انفصال الضمير ليست في الفعل وسيأتي بيانها في هذا الباب إن شاء الله.

فالضمير إذا وقع بعدها مطابقا لها احتمل ما يحتمله الظاهر، وإذ ذاك تجوز المخالفة فتقول: أضارب الزيدان؟ وأقائم هما؟

ص: 606

وأقاعد أنتم؟ وما أشبه ذلك، وقد جاء السماع بذلك. أنشد المؤلف في الشرح قول الشاعر:

*خليلي ما واف بعهدي أنتما*

وأما ما في الحديث من قوله: "أو مخرجي هم"، فلا دليل له فيه البتة؛ لمجيئه على أحد الوجهين، فلا يلزم من كونه آتيا في الرواية على الابتداء والخبر ألا يجوز خلاف ذلك، وغايته أنه لم يسمع فيه، فقد سمع في غيره وإطلاق الناظم غير صحيح في انتظام الضمير وغيره لاسيما مع التمثيل بما لا ضمير فيه، بل في كلامه ما يدل على أن رأيه رأى هذا المتأخر حسب ما يأتي. والرشد والرشد: ضد الغي، فهو إذا فتحت الراء والشين مصدر رشد بالكسر، يرشد بالفتح رشدا، وإذا ضممت الراء وسكنت الشين فهو مصدر رشد بالفتح يرشد بالضم رشدا.

وقال ابن القوطية: رشده الله رشدا وأرشده هداه، فرشد رشدا ورشادا اهتدى، ورشد رشدا ضد غوى، ومعنى:(فائز أولو الرشد)، أي أن أهل الرشد فائزون في الآخرة بمطلوبهم جعلنا الله منهم.

ص: 607

ثم أتم ما بقي من مسألته فقال:

والثان مبتدأ وذا الوصف خبر إن في سوى الإفراد طبقا استقر قوله: "والثان" أراد: والثاني فحذف الياء للحاجة إلى ذلك، وهو أيضا جائز في الكلام، فقد قرأ ابن عامر والكوفيون:{يوم يدع الداع} من غير ياء مطلقا، وأنشد سيبويه في نحوه:

وأخو الغوان متى يشا يصرمنه

ويعدن أعداء بعيد وداد

أراد: الغواني بالياء، و (مبتدأ)، أراد مبتدأ: ولكنه سهل الهمزة بالإبدال المحض على لغة من قال في: أخطأت أخطيت، ثم حذفها لالتقائها ساكنة مع التنوين، وأراد بالثاني: الاسم الواقع بعد الوصف وهو زيد مثلا في قولك: أقائم زيد؟ فيريد بهذا الكلام أن الاسم الواقع بعد الوصف المذكور لا يخلو أن يكون غير مفرد أو مفردا ويعني بغير المفرد المثنى والمجموع، فإن كان غير مفرد، فلا يخلو أن يطابقه الوصف المتقدم أولا، فإن لم يطابقه/ جرى على الحكم المتقدم من كون الوصف مبتدأ وما بعده فاعل به، إذ لا يمكن

ص: 608

في المسألة غير ذلك، وإلا فلو جعلت الزيدين من قولك: أقائم الزيدان؟ مبتدأ والوصف خبرا للزم أن تخبر بالمفرد عن المثنى وذلك غير جائز، وكذلك لو كان مجموعا، إذ لا يجوز الزيدان قائم ولا الزيدون قائم وهذا الحكم مفهوم من قوله:(إن في سوى الإفراد طبقا استقر) فمفهوم الشرط أنه إن لم يطابق فلا يكون الثاني مبتدأ والوصف خبرا بلابد، والطبق المطابق وهو الموافق، والمطابقة: الموافقة، والتطابق: الاتفاق، ويقال: طابقت بين الشيئين: إذا جعلتهما على حد واحد وألزقتهما، فجعل الموافق للشيء كأنه حذى حذوه، وجعل ملتفا به، و"طبقا": حال من ضمير "استقر" وهو عائد على الوصف، أي: إن استقر ذلك الوصف مطابقا لما بعده في التثنية أو الجمع وإن طابق الوصف الاسم وجب حمل الوصف على أنه خبر مقدم والثاني: مبتدأ؛ لأن الوصف لو كان مرفوعا على الابتداء وما بعده فاعل به لم يكن مطابقا، لأنه جار مجرى الفعل فلا يوصف ولا يصغر ولا يثنى ولا يجمع، كما لا يكون ذلك في الفعل، فلابد من أن يكون خبرا مقدما وهو الذي نص عليه بقوله:(إن في سوى الإفراد طبقا استقر) أي: أن الثاني يعرب مبتدأ والوصف خبر إذا طابقه في غير الإفراد. وأما إن كان الاسم الواقع بعد الوصف مفردا فإنه يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون فاعلا بالوصف على حد ما كان عليه وهو غير مطابق له، والوصف مبتدأ ناب الفاعل عن خبره.

ص: 609

والثاني: أن يكون مبتدأ خبره الوصف المتقدم، وإنما احتمل وجهين لأن إفراد الوصف يمكن أن يكون لجريانه مجرى الفعل فيرتفع ما بعده به وهو مفرد ويمكن أن يكون لأجل المطابقة بينه وبين الثاني لا لجريانه مجرى الفعل فيرتفع ما بعده على الابتداء والوصف خبره، وهذا الحكم مفهوم من قيد الإفراد في قوله:(إن في سوى الإفراد طبقا استقر) يريد: أن انحتام الحكم بكون الثاني مبتدأ خبره الوصف مشروط بكونه غير مفرد، فإذا إذا كان مفردا فلا ينحتم ذلك الحكم، وضد الانحتام الجواز فيكون ذلك الحكم جائزا مع وجود الإفراد، لا واجبا، فيدخل الوجه الآخر.

فإن قيل: إنك أخذت بمفهوم الصفة هنا جواز أن لا يكون الثاني مبتدأ والوصف خبرا، وأخذت بمفهوم الشرط انحتام أن لا يكون كذلك، وذلك أنه لما قال:(إن الثاني مبتدأ والوصف خبر شرط فيه أن لا يكون) مطابقا فأخذت من مفهومه أنه إن لم يكن مطابقا فلا يكون كذلك، ومفهومه الجاري على كلامه أنه إن لم يطابق فلا ينحتم ذلك الحكم؛ لأن الشرط إنما هو شرط في الانحتام، وهو الذي قررته في مفهوم التقييد بغير الإفراد، وإذا كان كذلك اقتضى أنه إن لم يطابق جاز أن يكون الثاني مبتدأ خبره الوصف وذلك غير صحيح.

فالجواب: أن المفهوم هنا في الوجهين عدم الانحتام كما تقرر في السؤال لكنه قد بين قبل هذا وجوب أحد الوجهين حين تكلم على (أسار

ص: 610

ذان) فحتم بكون الوصف مبتدأ وما بعده فاعل به، فصار مفهوم الشرط هنا معطلا لمعارضته النص له كما حكم العلماء القائلون بالمفهوم بتعطيله في نحو قوله تعالى:{لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} . لأن الدليل قد قام (على) أن الربا وإن لم يتضاعف محرم الأكل، فكذلك ما نحن فيه لما كان قد حتم بحكم واحد عند عدم المطابقة صار مفهوم الشرط هنا المقتضي لعدم انحتامه غير معتد أو نقول/: إنه جعل الثاني مبتدأ والوصف خبرا بشرط واحد وهو المطابقة في غير الإفراد، ولا نقول: حتم ذلك، إذ ليس فيه إلا أن هذا الإعراب مشروط بكذا، فمفهوم الشرط أنه إن لم يطابق في غير الإفراد فلا يكون كذلك، وهذا حكم صحيح في نحو: أسار ذان، ويبقى قيد عدم الإفراد من حيث جزء الشرط لا مفهوم له منفردا، فلا يكون قولك: أقائم زيد؟ مذكورا للناظم لا بمنطوق ولا بمفهوم، بل تركه لفهم حكمه مما تقدم له في الطرفين، وهما المطابقة في غير الإفراد، وعدم المطابقة، والأمران محتملان حسب ما تقدم توجيهه قبيل هذا، ولا يبقى عليه إشكال إلا في شيء آخر يظهر منه حكم لا يستقيم، وذلك أنه يقتضي أن المطابقة في غير الإفراد يكون فيها الثاني مبتدأ والوصف خبرا بإطلاق، وذلك غير صحيح من جهتين:

إحداهما: أن ذلك ليس في كل لغة، بل هو مختص بلغة من لا يلحق الفعل علامة التثنية والجمع إذا أسند إلى الظاهر فيقول: قام

ص: 611

الزيدان وقام الزيدون وأما من يلحق العلامتين فيقول: هنالك قاما الزيدان وقاموا الزيدون وهي لغة: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" فيصح أن يعرب الثاني فاعلا بالوصف لا مبتدأ إذا قلت: أقائمان الزيدان؟ وأقائمون الزيدون؟ (بخلاف من يقول: قام الزيدان والزيدون فإنه لا يقول هنا: أقائمان الزيدان وأقائمون الزيدون) إلا على الابتداء والخبر، ولا يقال: إنه غنما تكلم على اللغة المشهورة وهي لغة القرآن، وما قال لازم فيها بخلاف لغة:"يتعاقبون فيكم ملائكة" فإنها قليلة فلم يعتد بها في قانونه لأنا نقول: كان يكون هذا عذرا لو لم ينبه هو عليها في باب الفاعل بقوله: (وقد يقال سعدا وسعدوا) إلى آخره ولا مرية في أن الصفة هنالك جارية مجرى الفعل، فقد نبه على، هذه اللغة واعتد بها فلزمه أن يبنى عليها في نظمه هذا وإلا أوهم أن ذلك الإعراب لازم في اللغتين معا وهو غير مستقيم.

والثانية: على تسليم أنه لم يعتد إلا باللغة المشهورة، فذلك على الإطلاق فيها غير صحيح أيضا، وإنما يلزم ذلك في التثنية وفي الجمع السالم إذا قلت: أقائمان الزيدان؟ وأقائمون الزيدون؟ وأقائمات الهندات؟ وأما في جمع التكسير فلا، إذ لا يجوز في اللغة الفصيحة أن تجمع الصفة جمع التكسير إذا كان مرفوعها (مجموعا) فتقول: أقيام الزيدون؟ وأنت تعتقد أن الزيدين فاعل بقيام على حد ما لو قلت: أقائم الزيدون؟ فهو إذ ذاك

ص: 612

في عداد أقائم زيد؟ كما يجوز هناك الوجهان، فكذلك هنا نص على هذا الحكم في جمع التكسير سيبويه وغيره وسيأتي التنبيه عليه في باب النعت إن شاء الله ولا أجد الآن جوابا عن هذين وأقربهما الأول.

***

ورفعوا مبتدأ بالابتدا

كذاك رفع خبر بالمبتدأ

أخبر في هذين المزدوجين بأمرين:

أحدهما: أن المبتدأ والخبر كلاهما مرفوع، وذلك مفهوم من إخباره/ بالرافع لهما.

والثاني: أن العامل للرفع في المبتدأ الابتداء، والعامل في الخبر المبتدأ فأما الأول فقوله:(ورفعوا مبتدأ بالابتداء) يعني أن الرافع للمبتدأ (هو الابتداء) وإنما بين هذا لأن كل عمل لابد له من عامل، هكذا تقرر الأمر في كلام العرب وظهر في العوامل الملفوظ بها الموجودة عند وجود عملها، فما لم يظهر فيه ذلك للعيان قدروا عاملا ليستتب قياسهم، وما بنوا عليه صناعتهم وأما الثاني فقوله:"كذاك رفع خبر بالمبتدأ" أي إنهم رفعوا أيضا الخبر بالمبتدأ الذي هو طالب له، وأصل العمل الطلب، فأما الخبر فسيفسره بعد، وقد أشار إليه قبل بقوله:"وعاذر خبر" وأما الابتداء فلم يبينه.

ص: 613

وقد اختلفت عبارات الناس في تفسيره، فالذي رآه ابن مالك أنه: عبارة عن كون الاسم مجعولا أول الكلام معرى من العوامل اللفظية حقيقة أو حكما مسندا إليه الخبر، أو مسندا هو إلى ما يقوم مقام الخبر، وحقيقته ترجع إلى تعري الاسم من العوامل اللفظية، وهي عبارة أكثر الناس كالجرمي والفارسي وابن الأنباري وغيرهم، ويظهر ذلك من سيبويه في أول الكتاب.

وقال الزجاجي: إنه مضارعة المبتدأ للفاعل، وقيل: مضارعته للفعل وقيل: غير هذا مما لا حاجة إلى ذكره، إذ لا فائدة إلا نسبة العمل لشيء ما جريا على أسلوب ضبط القوانين ولنجر على ما ظهر من المؤلف.

فإذا قلت: زيد منطلق، فزيد ارتفع بالوصف الذي اتصف به وهو كونه عادما ما يعمل فيه من عامل لفظي، والمنطلق (ارتفع) بزيد وهو المبتدأ، وهو وإن كان ليس بفعل ولا معناه معنى الفعل فصحيح أن ينسب إليه العمل، لأن أصل العمل الطلب، والمبتدأ طالب للخبر طلبا لازما اختصاصيا فيعمل فيه، كما أن فعل الشرط عند طائفة والناظم منهم في غير هذا النظم عامل في فعل الجواب، وإن كان المطرد ألا يعمل الفعل في الفعل، ولكن لما كان طالبا له عند اقتران أداة الشرط به عمل فيه وهو ظاهر قول الخليل، فإنما معتمدهم في العمل الطلب فإذا طلب لفظ ما لفظا آخر وكان طلبه له اختصاصيا، ولم يقع منه موقع الجزء عمل فيه، وهذا الذي ذهب إليه الناظم في رفع المبتدأ والخبر وهو مذهب سيبويه. قال في باب الابتداء: واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو يكون في مكان أو زمان، وهذه الثلاثة

ص: 614

يذكر كل واحد منها بعد ما تبتدئ. قال: فأما الذي يبنى عليه شيء هو فإن المبنى عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وقد ذكر نحو هذا في غير هذا الموضع وهذا مذهب جمهور البصريين ولأجل أنه الصحيح عنده بنى عليه واعتمده، وفي المسألة خلاف شهير جملته خمسة مذاهب:

أحدها: ما تقدم.

والثاني: أن الابتداء رافع للمبتدأ والخبر معا.

والثالث: أن الابتداء رافع للمبتدأ وهو والمبتدأ معا رافعان للخبر.

والرابع: أن المبتدأ والخبر رفع كل واحد منهما صاحبه وهو مذهب الكوفيين ومن الناس من يحكي عنهم أن المبتدأ يرتفع بما يعود عليه من الخبر والذي حكى ابن الأنباري والمحققون عنهم هو الآخر.

والخامس: أن/ الابتداء رافع للمبتدأ والخبر معا لا مطلقا، بل يرفع المبتدأ بغير واسطة، ويرفع الخبر بواسطة المبتدأ، وهو اختيار ابن الأنباري، والمسألة طويلة والخلاف فيها يرجع إلى تحقيق اصطلاحي لا ينبني عليه في التفريع فائدة، فالأولى فيها وفي أمثالها ترك الاشتغال بالرد والترجيح وقد نص ابن مالك على ما ذهب إليه هنا

ص: 615

واحتج على صحته بإبطال ما عداه وقد تقدم طرف من التوجيه له، فلنضرب عن ذكر الحجج واستيعابها صفحا، لكن نذكر مذاكرة جرت بين كوفي وبصرى في مذهبيهما، فحكى ابن الأنباري في "الإنصاف" أنه اجتمع أبو عمر الجرمي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء فقال الفراء للجرمي: أخبرني عن قولهم: زيد منطلق، بم رفعوا زيدا؟ فقال له الجرمي: بالابتداء، فقال له الفراء: ما معنى الابتداء؟ قال: تعريه من العوامل اللفظية. قال له الفراء: (فأظهره) فقال له الجرمي: هذا معنى لا يظهر. قال له الفراء: فمثله إذا. فقال له الجرمي: لا يتمثل. قال له الفراء: ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل، فقال له الجرمي: أخبرني عن قولهم: زيد ضربته، بم رفعتم زيدا فقال: بالهاء العائدة على زيد. فقال له الجرمي: الهاء اسم فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء: نحن لا نبالي من هذا فإنا نجعل كل واحد من الاسمين إذا قلت زيد منطلق رفعا لصاحبه. فقال الجرمي: يجوز أن يكون كذلك في زيد منطلق، لأن كل واحد منهما مرفوع في نفسه، فجاز أن يرفع الآخر، وأما الهاء في ضربته ففي محل النصب، فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء: لم نرفعه بالهاء وإنما رفعناه بالعائد على زيد. فقال الجرمي: ما

ص: 616

معنى العائد؟ فقال الفراء: معنى لا يظهر. فقال الجرمي: أظهره، قال الفراء: لا يمكن إظهاره، قال الجرمي: فمثله: قال: لا يتمثل، قال الجرمي: لقد وقعت فيما فررت منه.

قال ابن الأنباري: فحكى أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له: كيف وجدت الجرمي: فقال: وجدته آية، وسئل الجرمي فقيل له: كيف وجدت الفراء؟ فقال: وجدته شيطانا، وهنا مسألة اصطلاحية في كلام الناظم إشارة إليها وإلى مقصد النحويين فيها وذلك حيث قال:(ورفعوا مبتدأ بالابتدا) والضمير في رفعوا إما أن يكون عائدا على العرب، وإما على النحويين وهم المصطلحون وعلى كلا التقديرين فمعنى الكلام أنهم هم الرافعون لهما بسبب وجود الابتداء والمبتدأ، فمن حيث جعلوا الرفع موجودا مع وجودهما ومعدوما مع عدمهما جعلوهما كالسبب في الرفع، وليس السبب في الحقيقة إلا المتكلم، ثم إنهم ينسبون العمل للألفاظ لتحقيق هذا الاصطلاح، إذ كانت هي العلامات لرفع ما يرفع ونصب ما ينصب وجر ما يجر ويستعمله الناظم كثيرا كقوله:(ترفع كان المبتدأ اسما والخبر تنصبه) وهو اصطلاح عام في كلام أهل هذه الصناعة لضبط القوانين لا أنهم مدعون لذلك حقيقة لأن الألفاظ لا ترفع ولا تنصب ولا تجر، وعلى هذا نبه ابن جني في "الخصائص" حين بين أن مقاييس العربية معنوية في الغالب، ومثل ذلك بموانع الصرف، ثم قال: ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول: رفعت هذا بأنه فاعل، ونصبت هذا بأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوي لا لفظي. قال: ولأجله

ص: 617

ما كانت/ العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفرا فإن (ضرب) لم تعمل في الحقيقة شيئا، وهل تحصل من قولك: ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل، وهذا هو الصوت، والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوبا إليه الفعل.

وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك ّأن بعض العمل يأتي مسببا عن لفظ يصحبه كمررت بزيد، وليت عمرا قائم، وبعضه يأتي عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع المبتدأ بالابتداء ورفع الفعل بوقوعه موقع الاسم هذا ظاهر الأمر وعليه صفحة القول.

فأما في الحقيقة ومحصول الحديث ما يعمل فيهما فالعمل من الرفع والنصب/ والجر والجزم إنما هو المتكلم نفسه لا لشيء غيره.

قال: وإنما قالوا: لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ أو باشتمال المعنى على اللفظ وهذا واضح. هذا ما قال، وهو ما أشار إليه الناظم في قوله:(ورفعوا مبتدأ بالابتدا) ومما يؤنسك بهذا وأنهم جعلوا اللفظ والمعنى كالسبب في اختلاف وجوه

ص: 618

الرفع والنصب والجر والجزم ما حكاه ابن جني في "الخصائص" قال: سألت الشجري يوما فقلت له: يا أبا عبد الله: كيف تقول: ضربت أخاك؟ فقال: كذلك قلت: أفتقول ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول أخوك أبدا. قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ قال: كذلك، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدا؟ فقال: أيش ذا اختلفت جهتا الكلام، فهذا في قوة أن لو قال: صار المفعول فاعلا أو زال اللفظ الذي يقتضي الرفع وخلفه لفظ آخر يقتضي النصب، فهذا الاصطلاح في النحو قد تبين معناه، وإنما بسطت القول فيه لأن ابن مضاء ممن ينسب إلى النحو قد شنع على النحويين في هذا المعنى أخذا بظاهر اللفظ من غير تحقيق مرادهم فنسبهم إلى التقول على العرب وإلى الكذب في نسبة العمل إلى الألفاظ، بل نسبهم إلى مذهب الاعتزال والخروج عن السنة وظلمهم- عفا الله عنه- إذ لم يعرف ما قصدوه.

ص: 619

وقد صنف في الرد عليه وفي بيان مقاصد النحويين في هذه الأشياء ابن خروف جزءا سماه: "تنزيه أئمة النحو مما ينسب إليهم من الغلط والسهو" فإن أردت كمال القول في ذلك فعليك به. وبالله التوفيق.

***

ولما تبين من قوله: أولا المبتدأ وعرفه التعريف الذي تقدم ذكره أخذ في بيان الخبر وتعريفه فقال:

والخبر الجزء المتم الفائدة

كالله بر والأيادي شاهده

وبين أنه الجزء الذي تمت به فائدة الكلام، وإنما قال: الجزء لأنه من الجملة المفيدة جزؤها.

فإذا قلت: زيد فهذا أحد الجزءين ولا تحصل به فائدة إلا مع الخبر إذا قلت: قائم أو عائم أو صائم، فهنالك يكتفي السامع بالفائدة الحاصلة له.

وقد جرت عادة النحويين المتأخرين أن يعرفوه بأنه الجزء الذي استفيد من الجملة أو أنه الذي تقع به الفائدة (أو أنه) معتمد الفائدة كما قال الجزولي: وهذا خطأ لأن المفرد وحده لا يفيد شيئا، وإنما فيه الدلالة/ على مسماه، وذلك ليس بفائدة خبرية، فإذا كان كذلك فكلام الناظم رحمه الله مخالف لهذا المعنى حيث عرفه

ص: 620

بأنه الجزء المتم الفائدة، فجعله متما لها ولم يجعله معطيا لها من أصل، كما هو ظاهر من كلام غيره، فمعناه أن الفائدة حصلت بينهما، أعني بين المبتدأ والخبر، فالمبتدأ يحصل شيئا منها لكن على غير تمام، ثم يأتي الخبر فيتمها ويكملها، هذا مقتضى لفظ "متم" وحيث اعتبرنا نحن ما قاله الناظم مع ما قاله غيره سبق لنا ما قاله غيره، واعتبرنا ذلك بأن المبتدأ إذا ذكر وحده لم يفدنا شيئا حتى يذكر الخبر، فما وجه ما قاله الناظم؟

والجواب: أن ما ظهر من الناظم هو الصواب، والذي لا ينبغي أن يقال بغيره وذلك أنه لا يمكن أن يقال: إلا أن الفائدة حصلت بهما معا، وكل واحد من الجزءين له حظ وطريق خاص في إعطاء الفائدة.

ومن الدليل على هذا أنه لا يستفاد من الخبر وحده فائدة البتة إذا قلت: قائم أو عالم دون أن يأتي بالمبتدأ، كما أنه لا يحصل بالمبتدأ وحده فائدة دون أن يؤتى بالخبر.

وأما من أطلق من النحويين القول بأن الخبر هو محل الفائدة، فمن جهة أنه الذي جاء آخرا وعند الإتيان به حصلت الفائدة، ولم يتشوف إلى منتظر، كما يتشوف بعد ذكر المبتدأ إلى الخبر، فإذا ثبت هذا فللمبتدأ حظ في الإفادة من حيث هو المحدث عنه، وللخبر حظ أيضا من حيث هو الحديث، فصح إذا أن الخبر هو الجزء المتمم الفائدة كما قال الناظم.

فإن قيل: كيف هذا وأنتم تشترطون في المبتدأ أن يكون معروفا عند السامع والخبر مجهولا، فإذا ذكرت المبتدأ فكأنك لم تزد شيئا على ما كان عند السامع فإذا ذكرت الخبر فقد ذكرت ما كان مجهولا عنده وذلك هو موضع الفائدة ضرورة، وإلا فلو كان معلوما لم يستفد شيئا.

ص: 621

فالجواب: أن هذا وإن كان ظاهرا لا يوجب أن الخبر هو المستفاد وحده أو المستفاد به وحده، بل نظير علمك بالمبتدأ وحده علمك بمدلول الخبر، ولاشك أنه معلوم للسامع قبل الإخبار وإلا لم يصح الإفهام، فإذا كل واحد من المبتدأ والخبر معلوم من جهة، وإنما المجهول النسبة والحكم بأن صاحب هذا الاسم هو صاحب هذا الآخر، وهذه النسبة المجهولة لا يستقل بإعطائها الخبر وحده دون المبتدأ ولا المبتدأ دون الخبر، بل هما جميعا، وهو مقتضى ما قاله الناظم، فوضح أن كلامه غاية في تحقيق المسألة، والكلام فيها هنا مستعار من علم آخر للحاجة إليه، وأتى بمثالين وهما: الله بر، والأيادي شاهدة، ومعنى: بر أي: يبر عباده، وهو من قولهم: بره يبره برا فهو بر من قوم أبرار، وبار من قوم بررة، وهو راجع إلى معنى الإكرام، والأيادي: العطايا، واليد الجارحة لا تجمع في الغالب على أياد، ولا تجمع على أيد، وأما اليد بمعنى العطية فإنها تجمع على أياد ولا تجمع على أيد، نص على ذلك أهل اللغة، وقد تجمع اليد بمعنى العطية على يدي كثدي وثدى، وقد تجمع اليد الجارحة على أياد. أنشد ابن جني: /

ومستامة تستام وهي رخيصة

تباع بساحات الأيادي وتمسح

ص: 622

ومعنى "و""الأيادي شاهده"، أي: أن نعم الله تعالى وعطاياه التي خولها عباده من غير استحقاق بأنه بر بهم ورحيم بهم سبحانه.

***

ثم قال:

ومفردا يأتي ويأتي جمله

حاوية معنى الذي سيقت له

وإن تكن إياه معنى اكتفى

بها كنطقي الله حسبي وكفى

قسم الناظم- رحمه الله خبر المبتدأ إلى أقسامه العظمى وهي ثلاثة أقسام:

أحدها: الجملة الصريحة.

والثاني: المفرد الصريح أيضا.

والثالث: الظرف وشبهه وهو المجرور، وإنما جعله قسما برأسه مع أنه واحد من القسمين إما من الجمل، وإما من المفردات؛ لأن له حكما يخالف فيه المفرد والجملة كما سيذكر.

وهذه الأقسام الثلاثة لا يخرج عنها نوع من أنواع الخبر على كثرتها وانتشارها إذ الخبر ينقسم إلى نيف وسبعين قسما، كل قسم منها يخالف صاحبه في حكم ما، لكن أتى الناظم بالأحكام التي لابد للخبر منها من حيث هو خبر وترك ما سوى ذلك لعدم الاحتياج إليه ولعدم ارتضائه الأحكام المخالفة لما ذكر، وقد ذكرها ابن خروف في "شرح الكتاب" وابتدأ بذكر الجملة وذلك أنه جعل الخبر أولا منقسما إلى قسمين: مفرد وجملة، ثم

ص: 623

استدرك القسم الثالث بعد، ثم جعل الجملة على قسمين:

أحدهما: ما كانت هي المبتدأ من جهة المعنى.

والثاني: ما لم يكن كذلك، وهذا الثاني هو المراد بقوله:(ويأتي جمله حاوية معنى الذي سيقت له) فكأنه قال: ويأتي جملة ليست هي المبتدأ معنى، ودل على أن هذا مراده قوله في القسم الثاني:"وإن تكن إياه معنى اكتفى" فأما ما لم تكن هي نفس المبتدأ في المعنى فشرط فيها شرطا أتى به على مساق اللفظ فقال: (ويأتي جمله حاوية معنى الذي سيقت) فيريد أن هذه الجملة التي ليست للمبتدأ يشترط فيها أن تحتوي على معنى المبتدأ وهو الذي سيقت الجملة لأجله، فالضمير في "سيقت" عائد على الجملة، وفي "له" عائد على "الذي" ومدلول الذي هو المبتدأ، فإنها إن لم تكن تحتوي على معناه لم يصح وقوعها خبرا له؛ لعدم الربط بين المبتدأ والخبر.

فإذا قلت: زيد عمر وأخوك، أو زيد عمر وقائم، لم يجز لعدم الرابط بخلاف ما إذا احتوت الجملة على المبتدأ من جهة المعنى، فإن الفائدة حاصلة لأجل الربط، والكلام صحيح نحو: زيد أبوه قائم أو زيد قام أبوه، وإذا ثبت هذا بقى النظر في مسائل أربع:

إحداها: أنه أطلق الجملة ولم يقيدها باسمية دون فعلية، فدل ذلك على أنهما كلتيهما تقعان خبرا للمبتدأ وذلك صحيح، فمثال الاسمية قولك: زيد أبوه قائم، وزيد عمر وقاعد في داره، وبكر خالد قائم في حانوته وما أشبه ذلك.

ومثال الفعلية قولك: زيد قام أبوه وعمر ولا يقوم، وبكر أكرمت عمرًا

ص: 624

من أجله، وما أشبه ذلك، وقد يدخل الناسخ على الجملة الاسمية كقولك: زيد إنه قائم، وعمر ووما هو قائما، وزيد لا أحد في داره، وقد تكون/ الجملة منفية كما تكون موجبة نحو: زيد لا هو قائم ولا عمرو، وزيد ما هو قائم، إذ لم يعمل "ما" على لغة بني تميم أو على لغة أهل الحجاز إذا فقد شرط الإعمال نحو: زيد ما هو إلا قائم، وزيد ما إن هو قائم، وزيد ما قائم هو وما أشبه ذلك، كما أن الفعلية أيضا تكون موجبة ومنفية نحو: زيد هرج ولا يخرج وزيد ما خرج، وكل واحدة من الجملتين على قسمين:

قسم يكون فيه للمبتدأ لفظا ومعنى نحو: زيد هو قائم وزيد قام

وقيم سكون فيه للمبتدأ لفظا ولما هو من سببه معنى نحو: زيد أبوه قائم وعمرو خرج أبوه، ويدخل الناسخ النفي كما تقدم، وكل هذا ينتظمه كلام الناظم.

والثانية: أن اطلاقه ينتظم أيضا جواز وقوع الجملة خبرا، كانت خبرية أو طلبية ولا يتشرط فيها أن تكون محتملة للصدق والكذب، فأما الخبرية فما تقدم، والطلبية والإنشائية وإن لم تكن طلبية فتكون اسمية وفعلية، فالاسمية نحو: زيد ليته أخوك، وعمر ولعله قادم، والأسد لعله يأكلني، وبكر كأنه الأسد فالتشبيه هنا ليس بخبري ولكنه إنشائي، وزيد سلام عليه، وبكر ويح له وترب لفيه، والفعلية نحو: زيد اضربه، وعمر ولا تشتمه، وزيد لا يقصدك، وبكر هلا أكرمته، وزيد نعم الرجل، وعمر وبئس الغلام، وما أحسن زيدا، وزيد أكرم به، وزيد غفر الله له، وبكر اللهم اغفر له، وزيد عسى أن يحج، وزيد عساه يموت غدا، ويدخل الاستفهام على الجملة الخبرية فتصير طلبية نحو: زيد أهو قائم؟ وزيد أأبوه قائم، وزيد كيف هو؟ وزيد أين هو؟

ص: 625

وزيد متى قيامه؟ وزيد هل أكرمته؟ وزيد كيف وجدته؟ وزيد أين استقر؟ وما أشبه ذلك، فهذا كله مما يقع خبرا للمبتدأ بمقتضى إطلاقه، كما أنها تقع أخبارا إذا كانت غير إنشائية وهذا مذهب الجمهور.

وذهب ابن الأنباري وابن السراج ومن وافقهما إلى أن الجملة الطلبية لا تقع خبرا للمبتدأ من حيث هي طلبية، وحجتهم في ذلك أن الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ مؤولة بالمفرد كما تقول: زيد أبوه قائم، فهو في تأويل زيد قائم الأب وكذلك زيد يقوم في تأويل زيد قائم، ولو حاولت تقدير الجملة الطلبية بمفرد لم يصح، لذهاب معنى الطلب إذا قدرت قولك: زيدا اضربه، بقولك: زيد مضروب، بخلاف الجملة الخبرية، فإن معناها لا يذهب بتصييرها بالتقدير إلى المفرد وما جاء مما ظاهره هذا فعلى إضمار القول، فالقائل زيد اضربه، هو على تقدير مقول فيه اضربه، كما يقدر القول في الجملة الواقعة صلة أو صفة إذا لم تكن خبرية كقوله

وإني لرام نظره قبل التي

لعلى وإن شطت نواها أزورها

أي: قبل التي أقول من أجلها لعلى أزورها، وكذلك قول الآخر في الصفة:

ص: 626

*جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط*

التقدير: جاءوا بمذق يقول من رآه: هل رأيت الذئب قط؟ والخبر والصفة والصلة يجرين مجرى واحدا، فلذلك يقدر القول مع ما جاء من الإخبار جملة غير خبرية، ورده المؤلف من وجهين:

أحدهما: أن خبر المبتدأ لا خلاف في أن أصله أن يكون مفردا، والمفرد من حيث هو مفرد لا يحتمل الصدق/ والكذب، فالجملة الواقعة موقعه حقيقة بألا يشترط احتمالها للصدق والكذب؛ لأنها نائبة عما لا يحتملهما وما قاله المؤلف صحيح وأيضا لو اشترط في الجملة احتمالها للصدق والكذب للزم من ذلك أن تكون أيضا واقعة موقع ما لا يحتملهما؛ لأن المفرد لا يحتملهما، فالجملة إذا- وإن كانت خبرية- لا يصح تقديرها بالمفرد لذهاب معنى الخبرية واحتمال الصدق والكذب، فالحاصل أن الجملتين المحتملة وغير المحتملة بالنسبة إلى تقديرهما بالمفرد سواء، فما يلزم في إحداهما يلزم في الأخرى.

والثاني: أن وقوع الخبر مفردا طلبيا ثابت باتفاق نحو: كيف أنت؟ فلا يمتنع ثبوته جملة طلبية بالقياس لو كان غير مسموع فكيف وهو مسموع كقول رجل من طييء:

قلت من عيل صبره كيف يسلو

صاليا نار لوعة وغرام

ص: 627

هذا ما قال، وفيه بحث ولكن فيه تقوية لمذهبه على الجملة وما زعموه من إضمار القول لا يستقيم معناه، لأن معنى زيد اضربه هو معنى اضرب زيدا من غير فرق، وأنت لو قلت: زيد مقول فيه اضربه لكان مخالفا لمعنى اضربه فقد أوقعهم هذا التقدير في مثل ما فروا منه، والخبر في هذا المعنى مخالف للصلة والصفة؛ إذ المعنى على تقدير القول فيهما مستقيم وموافق للمعنى المراد، وهو في الخبر مخالف للمعنى المراد، فلا قياس مع وجود الفارق، وغنما يصح تقدير القول في الخبر الذي وقع جملة طلبية في نحو قوله:

*وكانت كليب خامري أم عامر*

فهذا بلا شك على تقدير: كليب مقول فيهم هذا الكلام، لأن المعنى عليه لا على حقيقة الطلب؛ وأيضا إن احتجنا إلى التأويل فيمكن في الكلام غير ما ذكروه من إضمار القول وذلك وجهان:

ص: 628

أحدهما: أن الجملة في نحو زيد اضربه، وزيد هل ضربته؟ موضوعة موضع مفرد يفيد الأمر والاستفهام وإن لم ينطق به على ذلك المعنى استغناء عنه بهذا الذي نطق به وله نظائر كثيرة كالتعجب والنداء وما أشبههما.

والثاني: أن أصل الخبر أن يكون بالمفرد، لأنه الذي أفاد بالتركيب، وأما الجملة فتقيد وحدها وإنما وقعت الجملة الخبرية موقع المفرد لأن تقديرها به لا يخل بالمطلوب، ووقع الإخبار بالجملة الاستفهامية حملا على الخبرية، وهذا التأويل لابن عبيدة وما قبله لابن أبي الربيع.

والثالثة: أن إطلاقه يقتضي أن الجملة التي هي في الإنشاء والإخبار ذات وجهين وهي جملة القسم والجواب، وكذلك الشرط والجزاء، فإن كل واحدة من الجملتين مركبة من جملة محتملة للصدق والكذب، وأخرى لا تحتملها وإذا اجتمعا كانتا معا جملة واحدة محتملة للصدق والكذب، تقع كل واحدة منهما خبرا للمبتدأ مطلقا على الشرط المتقدم، وهو كونها حايوة معنى المبتدأ. فتقول في القسمية: زيد أمانة الله ليخرجن، وعمرو لعمر الله لاكرمنه، وزيد أقسمت إنه لكريم.

ص: 629

وتقول في الشرط والجزاء: زيد إن يكرمني أكرمه، وعمرو متى يأتني آته/ وما أشبه ذلك، وهذا رأى الجمهور وذكر عن ثعلب منع الإخبار بجلة/ قسمية فلا يجوز عنده زيد لأكرمنه، ولا زيد أقسم ليخرجن. قال المؤلف: وهذا ضعيف، إذ لا دليل عليه مع ورود الاستعمال بخلافه كقوله تعالى:{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم} الآية وكذلك قوله تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة} الآية، ومثله:{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا} - الآية وقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} .

والرابعة: أن قوله: (حاوية معنى الذي سيقت له) يحتمل تفسيرين:

أحدهما: خاص وهو أن يريد بذلك المعنى ما يشترطه غيره من اشتمال الجملة على ضمير يعود على المبتدأ فكأنه يقول: وجملة حاوية ضمير الذي سيقت له نحو: زيد قام أبوه وزيد أبوه قائم، وهذا هو الأصل وإن جاء في الجملة ما ليس بضمير وكان رابطا فهو قائم مقامه نحو قوله:{ولباس التقوى ذلك خير} ، وما أشبه ذلك.

ص: 630

والثاني: عام، وهو أن يريد ما هو أعم من الضمير، إذ المقصود الربط بين الجملة والمبتدأ وذلك يحصل بالضمير وغيره ويصدق على الجميع أنه معنى المبتدأ، وجملة ما ذكروا من ذلك خمسة أشياء:

أحدها: الضمير وقد ذكر.

والثاني: اسم الإشارة نحو قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} ، "أولئك" هو الرباط وكأن التقدير: كلها {كان عنه مسئولا} ، وقوله تعالى:{ولباس التقوى ذلك خير} على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة، والتقدير: ولباس التقوى هو خير. وقال تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار} الآية، وقوله:{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة} وما أشبه ذلك.

والثالث: إعادة المبتدأ بلفظه كقوله تعالى {الحاقة ما الحاقة} ، و {القارعة ما القارعة} ، {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} {وأصحاب

ص: 631

الشمال ما أصحاب الشمال} وما أشبه ذلك، وأنشد سيبويه لسوادة بن عدي:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فالموت الثاني في موضع الضمير العائد على المبتدأ في الأصل، لأن أرى علمية، فالأصل الموت لا يسبقه شيء، ومنه عند طائفة قول توبة بن الحمير:

فأما الصدور لا صدور لجعفر

ولكن أعجازا شديدا ضريرها

وقال الآخر- أنشده الفارسي-:

ص: 632

فأما القتال لا قتال لديكم

ولكن سيرا في عراض المواكب

وقال الآخر:

ألا ليت شعري هل إلى أم مالك

سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا

وهذا عند طائفة من النوع الذي بعده، كما أن من الذي نحن فيه قولهم:

أما العبيد فذو عبيد، وأما ابن مزنية فابن مزنية، وأما عبدان فذو عبدين، وما أشبه ذلك.

والرابع: الاسم الذي يعم ما تقدم وغيره ومثلوه بقولهم: زيد نعم الرجل، / وعمر وبئس الغلام، ومنه قوله تعالى:{والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} ، ويحتمل أن يكون منه قوله تعالى:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} ، فالرجل في نعم والغلام في بئس يعم المبتدأ وغيره، فحصل الربط بسبب تناوله له، وكذلك "المصلحين" و "من أحسن" في الآيتين.

والخامس: إعادة الأول بمعناه لا بلفظه نحو: زيد قام أبو عبد الله،

ص: 633

ويذكر هذا عن الأخفش، واستدل على ذلك بقول الشاعر:

إذا المرء لم يخش الكريهة أوشكت

حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا

فالمعنى أوشكت حبال الهوينا به أن تقطع، فوضع الفتى موضعه. ورد عليه الشلوبين بأن البيت شرط وجزاء. ولا يلزم أن يعود من جملة الجزاء إلى جملة الشرط ضمير، كما يلزم ذلك في الخبر. واستشهاد الأخفش صحيح لأنه إنما استشهد بوقوع الأول بمعناه حيث يقع الضمير، فـ "الفتى"- في شاهده- موضوع موضع الضمير بلابد، وإذا ساغ ذلك على الجملة فليسغ حيث يفتقر إلى الربط، وإنما الرد عليه بأمر آخر. أنا ذاكره على إثر هذا بحول الله.

فهذه خمسة أوجه تضمنها قول الناظم: (حاوية معنى الذي سيقت له) فإن قيل: أي التفسيرين أولى أن يحمل عليه كلامه؟

فالجواب: إنه محتمل لهما معا، لكن الثاني أقرب إلى معنى كلامه لقوله:(حاوية معنى الذي سيقت له) وهذا الكلام لا يعين الضمير من غيره، ولأن مذهبه في غير هذا النظم أن غير الضمير مما تقدم يجري مجراه في الربط، وأيضا، فهو أعم لجمعه لما ذكر غيره من وجوه الربط، فأما في النظر

ص: 634

الأصح فالتفسير الأول أولى وذلك أن ما عدا الضمير لا يتخلص فيه قياس يطرد كاطراد الضمير، ولا ما يقاربه وإن اتفق ذلك فيقيد لا مطلقا، والناظم قد قال:(حاوية معنى الطي سيقت له) بعد قوله: (ويأتي جمله) وهذا يقتضي إجراء القياس بإطلاق وليس كذلك.

فأما اسم الإشارة فإنه يلزم من القول بالقياس فيه أن يقال: زيد قام هذا أو ذاك، والزيدون خرج أولئك، وتجويز مثل هذا صعب جدا، وقد منعه ابن الحاج. وأما قوله تعالى:{ولباس التقوى ذلك خير} فذلك المتقدم ضعيف عند النحويين، وقد حمل الزجاج الآية على غير هذا الوجه، وضعف هذا الوجه فأجاز فيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون ذلك تابعا لـ "لباس التقوى" وخير خبر اللباس، وهو رأي الفراء.

والثاني: أن يكون "لباس التقوى" خبر ابتداء مضمر كأنه قال: وستر العورة لباس المتقين.

والثالث: هو ذلك الضعيف وأيضا إن سلم اطراده فيما تقدم من قيامه مقام الضمير، فليس ذلك في كل موضع وعلى كل حال. فأكثر ما ورد ذلك إذا طال المبتدأ بصلة أو صفة أو نحو ذلك، فيحتاج إذ ذاك إلى إعادة لفظ المبتدأ بلفظ الإشارة المستعمل للبعد كذلك، وأولئك إذ له موقع/ ليس للضمير، لأنه ليس في الضمير دلالة على البعد، ومن ذلك الآيات المستشهد بها.

ص: 635

وأما إعادة المبتدأ بلفظه فضعيف في الكلام، وقد نص على ذلك سيبويه في باب "ما"، قال فيه: وتقول: ما زيد ذاهبا ولا محسن زيد الرفع أجود وإن كان يريد الأول، لأنك لو قلت: كان زيد منطلقا زيد، لم يكن حد الكلام، وكان هاهنا ضعيفا، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقا هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره. ألا ترى أنك لو قلت: ما زيد منطلقا أبو زيد لم يكن كقولك: ما زيد منطلقا أبوه، لأنك قد استغنيت عن إظهاره قال: فلما كان هذا كذلك أجرى مجرى الأجنبي واستؤنف على حياله حيث كان ضعيفا قال: وقد يجوز أن تنصب ثم أنشد:

*لا أرى الموت يسبق الموت شيء*

وقول الجعدي:

*إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها

البيت*

ثم قال: والرفع الوجه، هذا كلامه منبئا عن ضعفه وقلته، وقد قال الأعلم: إنه قبيح وإنما يجيء في الشعر، وأيضا لو سلم قياسه فليس في كل موضع، بل إنما يحسن ويطرد في موضعين.

ص: 636

أحدهما: باب أما العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبد وما أشبه ذلك، على أنه لا يتعين فيه وضع الظاهر موضع المضمر لإمكان أن يكون المعنى، أما العبيد فأنا ذو عبيد منهم أو فيهم، أو تجعل العبيد الثاني بعض الأول والمعنى أما العبيد فبعضهم لك، وقد قرر ذلك المعنى سيبويه، وشرحه ابن خروف فلا يتعين هذا الموضع أن يكون من ذلك القبيل.

والثاني: حيث يقصد التهويل والتعظيم بتكرار الأول كقوله: {الحاقة ما الحاقة} ، و {القارعة ما القارعة} ، ونحو ذلك مما يحسن معه تكرار الأول، وذلك ليس في كل موضع، بل له مقاصد التلذذ بذكر المذكور نحو قوله:

*ألا حبذا هند وأرض بها هند*

وما أشبه ذلك كما أنه قد تأتى مواضع ينعكس الأمر فيقبح ذكره جملة فضلا عن تكراره ولاشك أن الغالب استقباح التكرار، فلذلك كان ضعيفا على الجملة ومقاصد التكرار معدودة بخلاف مقاصد عدمه، فإنها لا تنحصر وأيضا فإن من شرط التكرار فهم كون الثاني هو الأول لئلا يلتبس.

قال ابن خروف: لا يقع الظاهر موقع المضمر حتى يعلم أنه المضمر من

ص: 637

اللفظ أو من المعنى وهذا صحيح، فأين اشتراط الناظم ذلك؟

وأما الاسم العام فإن الناس وإن قالوا ذلك في نحو: زيد نعم الرجل، كالفارسي ومن سواه، فإن ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يقولوه مع الوقوف فيه مع السماع فيكون توجيها للمسموع فهذا قريب إلا أن من أراد دخوله تحت قياس، وأن العموم على الإطلاق يغني عن الرابط، لزمه أن يجيز زيد الرجل أفضل من المرأة، لأنه في معنى: زيد جنسه أفضل من جنس المرأة، فالرجل يدخل تحته زيد وغيره، وكذلك قولك: زيد الكاتب ما أحسن الكاتب، تريد بالثاني الجنس، وأمثلة هذه كثيرة. ويلزمه أيضا أن يقول: زيد نعم الرجال، وهند نعمت النساء، وهذا كله غير جائز، وأما إن أرادوا أنه قياس على الإطلاق أعني الفارسي. ومن قال بقوله: لزمهم ما لزم هؤلاء، وإنما الرابط/ هنا أمر آخر لا حاجة إلى ذكره هنا، فإن احتج على قياس ذلك بقوله:"والذين يمسكون بالكتاب" الآية، فلا دليل فيه لاحتمال أن يكون المراد: إنا لا نضيع اجر المصلحين منهم.

قال ابن الحاج: عليه المعنى لأنه لا يريد في الثاني العموم ولكن يفيد الإيمان والتمسك بالكتاب. قال: ويجوز أن يكون من إعادة الأول ولكن بغير لفظه وجاز ذلك، وإن لم يجز زيد قام أبو عمرو وأبو عمرو كنيته لأنه ليس في لفظ زيد ولا في لفظ أبي عمرو ما يعطي أنهما لمسمى واحد بخلاف ما تقدم، والقول في الآية الأخرى:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع} الآية كالقول في هذه الآية

ص: 638

من غير فرق، وهو معنى كلام الزجاج. قال ابن الحاج: وهو عندي حسن جدا. قال وفي آية الكهف وجه ثالث وهو: أن يكون الخبر: {أولئك لهم جنات عدن} ، وجملة:"إنا لا نضيع" اعتراض، وأما قولهم:

*فأما القتال لا قتال لديكم*

وبابه فلا يتعين فيه ما تقدم: لاحتمال أن يكون من باب حذف المسبب وإبقاء السبب كأنه قال: فأما كذا فليس عندك لأنه ليس بشيء موجود، ولذلك جاء هذا الباب مع إما بغير فاء، وقد جاء بغير إما نحو قول الزبير بن عبد المطلب- عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: -

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فتطلبينه

وإن سلم أنه من هذا الباب فهو باب مخصوص، لا يصح القياس عليه كما تقدم في زيد نعم الرجل، فلا ينبغي أن يطلق القول فيه سواء أكان من هذا النوع أم مما قبله. وأما إعادة الأول بمعناه فهو مذهب الأخفش وقد خولف فيه، إذ ليس ثم ما بين أن الثاني هو الأول إذا قلت: زيد قام أبو عمرو فصار كالأجنبي، فلم يجز ذلك، كما لم يجز زيد قام عمرو، ولو سلم ذلك فهو من

ص: 639

الندور بمكان ومنه على رأي الزجاج قوله تعالى: {والذين يمسكون بالكتاب} وآيتا الكهف المذكورتان قبل، فلا ينبغي أن يبنى على مثل ذلك قياس، فقد تبين أن التفسير الأول من التفسيرين المذكورين في كلام الناظم أولى، إذ من عادته عدم الاعتماد على ما قل مما خالف المشهور في الكلام إلا أن لفظه لا يعينه حتى يقول: إنما أراد بقوله: (حاوية معنى الذي سيقت له) الضمير خاصة، وهذا قريب، وهو أقرب من تكلف القول بالقياس في جميع ما تقدم، مع ما فيه من الشغب والإشكال والاعتراض الذي يصعب الانفصال عنه والله أعلم.

هذا تمام الكلام في القسم الأول من قسمي الجملة الواقعة خبرا.

وأما الجملة التي هي نفس المبتدأ في المعنى فلم يشترط فيها ما اشترط في الأخرى، بل قال:(وإن تكن إياه معنى اكتفى بها) فضمير تكن عائد على الجملة وكذلك ضمير بها، وضمير إياه عائد على المبتدأ، وكذلك ضمير اكتفى وهي أن الجملة إذا كانت هي نفس المبتدأ في المعنى اكتفى المبتدأ بها في الربط؛ لوضوح الارتباط بينهما، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي":"لا إله إلا الله" جعلوا

ص: 640

المبتدأ بعينه الخبر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها لبيد:

*ألا كل شيء ما خلا الله باطل*

وبهذا النوع مثل الناظم وهو: (نطقي الله/ حسبي وكفى) فالله حسبي وكفى، هو نفس النطق، أي: المنطوق به، ومثله قولهم: أول قولي: إني أحمد الله- بكسر "إن"- ومن هذا الجملة المخبر بها عن ضمير الأمر والشأن نحو: إنه أخوك منطلق، وهو زيد قائم، ومنه في القرآن الكريم: {قل هو الله أحد

} إلى آخره، وقوله {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا .. } الآية. وقال:{فإنها لا تعمي الأبصار} ، ويأتي اسم "إن" و "ما" و "كان" و "كاد" وأول مفعولي "ظن" وفي الجميع الخبر هو نفس المبتدأ. فإذا قلت: هو زيد قائم، كان في معنى القصة هذه أو الأمر هذا، فالحقيقة هي في هذه الجملة أنها في قوة مفرد غير مشتق وقع خبرا للمبتدأ، ولما كان المفرد الجامد لا يفتقر إلى ضمير لتعذر تحمله له، ولأنه هو الأول في المعنى واكتفى بذكر الربط المعنوي على الرابط كان ما هو بمعناه بمنزلته، ولا يلزم على هذا الجملة

ص: 641

المتضمنة لمعنى الأول، لأنها بمنزلة المشتق أبدا، وبه تقدر لا بالجامد.

***

ثم ذكر القسم الثاني من أقسام الخبر المفرد المحض فقال:

والمفرد الجامد فارغ وإن

يشتق فهو ذو ضمير مستكن

وأبرزنه مطلقا حيث تلا

ما ليس معناه له محصلا

فقسم المفرد قسمين: جامد ومشتق، فالجامد ما لم يشعر بمعنى الفعل الموافق له في المادة بالنظر إلى القياس الاستعمالي.

فإذا قلت: رجل أو فرس أو زيد أو زينب، فهذه الأسماء لا تشعر بمعنى الفعل الموافق لها في المادة، فلم يدل رجل على معنى قولك: رجلته رجلا إذا ضربت رجله، أو رجل البهمة أمه إذا رضعها أو نحو ذلك، وكذلك فرس لم يدل على معنى فرس الأسد فريسته، أي: كسرها ولا نحو ذلك وكذلك ما ذكر معه وإنما قيل بالنظر إلى الاستعمال؛ لأنه قد يشعر الاسم بمعنى الفعل الموافق له لكنه لا بحسب القياس الاستعمالي، بل بحسب القياس الأصلي كصاحب فإنه يشعر بمعنى صحب إلا أنه تنوسي ذلك فيه بحسب الاستعمال، ولذلك لا تقول: مررت برجل صاحب أخوه، وكذلك ما أشبهه فهو عندهم من قبيل الجوامد.

والمشتق: بخلافه وهو المشعر بمعنى الفعل الموافق له في المادة بالنظر إلى القياس الاستعمالي كضارب، الدال على معنى ضرب، والقائم الدال على معنى قام، والمستكبر الدال على معنى استكبر وما أشبه ذلك، وإنما قيل:

ص: 642

المشعر بمعنى الفعل الموافق له في المادة تحرزا من أسد إذا استعمل بمعنى شجاع، وحمار إذا استعمل بمعنى بليد، وما أشبه ذلك؛ فإنها من هذا الاستعمال مشعرة بمعنى الفعل لكن بمعنى فعل غير موافق في المادة كأسد مع شجع وحمار مع بلد بلادة فليست بمشتقة، وإنما وضعت موضع المشتق، وكذلك الأسماء الأعلام التي ينتزع منها معنى الأوصاف كالذي أنشد الفارسي من قول الشاعر:

*أنا أبو المنهال بعض الأحيان*

وقول الطائي:

فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها

سجية نفس كل غانية هند

فـ "أبو المنهال" في معنى النجدة أو المغنى، وفي "هند" معنى غادرة لا على حذف مثل، بل على تضمين لمعنى، وتأمل طريقة الفارسي وابن جني في ذلك في "الخصائص" فهذه الأسماء كلها جوامد إذ لم تشعر بمعنى الفعل الموافق لها.

وهذا الاشتقاق الذي أراد هو أخص وجوه الاشتقاق، إذ هو على مراتب لا حاجة إلى ذكرها هنا ولها موضع غير هذا. وفي إطلاق لفظ الجامد على ما ليس بمشتق مشاحة اصطلاحية، وذلك أن الجامد إنما وجه العبارة فيه أن يطلق في مقابلة المشتق ما ليس بمشتق لا الجامد،

ص: 643

إذ الجامد من الأسماء إنما يطلق في الحقيقة على ما يمكن أن يدل على معنى الفعل الموافق له في المادة فلم يدل كرجل وفرس وحمار وقتب ورحل وكاهل وما أشبه ذلك. أما ما لا قابلية فيه البتة للاشتقاق ولا لدعواه فيه فلا يسمى جامدا كالضمائر والموصولات وأسماء الإشارة والأسماء الأعجمية، ونظير هذا لفظ المنصرف إنما يطلق عند المحققين على ما يمكن فيه منع الصرف فلم يمنع كزيد وعمرو، وأما ما كان نحو المسلمين وغلامك والرجل ونحو ذلك فلا يسمى منصرفا، ولعل بيان هذا يأتي في موضعه إن شاء الله.

فإذا ثبت هذا فالجامد يجري فيه هذا النحو، وإنما جرى في هذا التعبير على عادة غيره ممن لم يحرر العبارة فأطلق على الضمائر وغيرها مما تقدم لفظ الجمود توسعا وعدم مبالاة بالعبارة مع فهم المعنى المراد.

والمفرد في كلامه أراد به ما ليس بجملة من الأخبار كان مثنى أو مجموعا مضافا أو غير مضاف فزيد أخوك، والزيدان ضاربان، وهؤلاء الزيدون وما أشبه ذلك مفردات في هذا الإطلاق، إذ يطلق المفرد ويراد به هذا المعنى، ويطلق أيضا ويراد به معنى آخر كما سيأتي إن شاء الله. ويدخل تحت هذا المفرد كل نوع ذكره من أنواع الأعلام المنقولة كبرق نحره ومعدي كرب وغيرهما، فإنها بهذا الإطلاق مفردات لا جمل، وكذلك الموصولات مفردات أيضا؛ لأن الجميع بمنزلة زيد وعمرو ومراد الناظم بهذا الكلام أن المفرد إما أن يكون جامدا أو مشتقا، فإن كان جامدا فهو فارغ من ضمير عائد على المبتدأ؛ لأن ما لا يشعر بمعنى الفعل لا يقبل تحمل الضمير، إذ أصل ذلك للفعل وحده، وإذا جرى الاسم مجرى الفعل في الدلالة على معناه، تحمل ما لا يتحمله، وإلا فلا.

ص: 644

والذي ذكر هنا هو مذهب لجمهور البصريين.

وذهب الكوفيون والرماني من البصريين إلى أن الجامد يتحمل ضميرا أيضا مطلقا. كان مؤولا بمشتق أولا، ونسبه المؤلف في "الشرح" إلى الكسائي وحده.

قال: وهذا القول وإن كان مشهورا انتسابه إلى الكسائي دون تقييد، ففي إطلاقه استبعاد لتجرده عن الدليل قال: والأشبه أن يكون الكسائي قد حكم بذلك لجامد عرف لمسماه معنى لازم كالإقدام والقوة للأسد والحرارة والحمرة للنار.

قال: فإن ثبت هذا المذكور فقد هان المحذور وأمكن أن يقال معذور، وإلا فضعف رأيه في ذلك بين، واجتنابه متعين. انتهى كلامه.

والذي حكي ابن الأنباري عن/ الكوفيين القول بالضمير مطلقا، لكن أدلتهم تشعر بأن مرادهم كل جامد مؤول بمشتق، فأخوك بمعنى قريبك، وغلامك بمعنى خادمك، والتأويل بالمشتق يوجب تحمل الضمير كأسد بمعنى شجاع إذا قلت: زيد أسد، فكذلك زيد أخوك أو غلامك.

وأما البصريون فعمدتهم أن الاسم لا يتحمل الضمير إلا بالحمل

ص: 645

على الفعل لمشابهته له وتضمنه معناه بدليل عمله عمله، فـ "زيد ضارب" في معنى زيد يضرب، ولاشك أن الفعل فيه ضمير هو فاعله، فكذلك ضارب وما أشبهه، بخلاف الأخ ونحوه، فإنه لا معنى للفعل فيه ولا مشابهة بدليل أنه لا يعمل عمله البتة، ولم نحكم على أسد أنه يتحمل ضميرا في: زيد أسد إلا بعد أن رأينا العرب عاملته معاملة الفعل، فرفعت به الظاهر حين قالت: مررت برجل أسد أبوه، كما قالت: ضارب أبوه، ولولا ذلك لم ندع أنها تتحمل ضميرا البتة، فالكوفيون متفرقون إلى سماع من العرب يبين أن الجامد المحض يتحمل الضمير، وذلك بأن يجدوا مثل مررت برجل أخ أبوه، وصاحبك أخوه، ومررت برجل أبي عبد الله غلامه، وهذا غير جائز البتة، فكذلك لا يجوز رفعه للمضمر، وأيضا لو تحمل ضميرا لكان من جملة العوامل التي ترفع وتنصب، ويتعلق بها الظرف والمجرور، وليس الأمر كذلك، فدل على خلاف ما ذهبوا إليه.

وإن كان المفرد الواقع خبرا مشتقا فلابد فيه من الضمير يعود على المبتدأ وذلك قوله: (وإن يشتق فهو ذو ضمير مستكن) أي: وإن يكن مشتقا فهو متحمل لضمير مستتر فيه، ولم يبين حكم هذا الضمير أهو لضرورة الربط بين الخبر والمبتدأ، أم لأجل اشتقاقه؟ إذ من الضرورة الصفات المشتقة جريانها مجرى فعلها الموافق لها في المادة، والربط حاصل بغير ذلك، لأن الثاني هو الأول فلم يحتج إلى رابط، كما لم يحتج إليه في الخبر الجامد، والاحتمال الأول هو الذي يظهر من أكثر المتأخرين، والثاني هو

ص: 646

الظاهر من كلام ابن خروف، وكل واحد من الاحتمالين يمكن أن يقال به، فلذلك- والله أعلم- لم يحتم بأحد الوجهين:

وقوله: (ذو ضمير) ظاهره أنه يريد ضميرا واحدا لا أكثر من ذلك، وهو مذهب البصريين، وحكى ابن عصفور في باب "كان" من "شرح الإيضاح". عن الكوفيين أن ضمير الخبر هنا إن قدر صفة خلفت موصوفها وكان نكرة فلابد من ضميرين: ضمير للموصوف وآخر للمخبر عنه، وإن لم تقدر الموصوف فضمير واحد للمخبر، وإن كان معرفة بالألف واللام وقدرت الموصوف بثلاثة ضمائر، وإلا فضميران، فالزائد الألف واللام ورده بأن الموصوف إن قدر فهو الخبر.

وإن قلنا: إن الجامد لا ضمير فيه فظاهر أو قلنا: إن فيه ضميرا في الصفة ضمير للمخبر عنه على كل تقدير، وإن لم تقدم موصوفا فظاهر، وأما الألف واللام فالمشتق معها كالصلة مع الموصول فهي الخبر وهي اسم جامد، والمشتق من كاملها فلا يحتاج إلى ضمير يعود على المخبر عنه وضمير المشتق عائد عليها ولا يقدر معها موصوف لصحة مباشرتها للعوامل/ فصح ألا ضمير في المشتق إلا واحد بإطلاق كذا قال ابن عصفور. ووصفه الضمير بأن مستكن وهو المستتر يقال: اكتن الشيء واستكن بمعنى: استتر

ص: 647

واستخفى، إعلام بأن هذا شأنه وأصله، وكذلك هو فإنه لا يظهر الضمير في الصفة في تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

فإذا قلت: الزيدان قائمان، فالضمير في قائمان مستتر، وإنما الألف علامة التثنية كالتي في رجلان، وكذلك في قائمون وما أشبه ذلك، فلا يظهر البتة إلا فيما استثنى على إثر هذا وذلك قوله:(وابرزنه مطلقا حيث تلا) إلى آخره ضمير (أبرزنه) عائد على الضمير المستكن، وضمير (تلا) عائد على المشتق و (ما) بمعنى الذي وهي واقعة على الاسم المتقدم الذي جرت عليه الصفة وهو المبتدأ في مسألتنا و (تلا) بمعنى تبع، وضمير (معناه) عائد على المشتق، وفي (له) عائد على (ما)، التقدير: وأبرز الضمير حيث تبع المشتق الاسم الذي ليس معنى المشتق له محصلا. والمعنى أن الاسم المشتق إذا جرى خبرا على غير من هو له من جهة المعنى وجب إبراز الضمير (ولم يستتر فإذا قلت زيد هند ضاربها هو وجب إبراز الضمير) الذي في ضارب، لأن معناه: لزيد وهو جار في اللفظ على هند، فليس معناه حاصلا لها فيبرز الضمير فتقول): هند زيد ضاربها، وإنما أبرز لإزالة ما يؤدى إليه عدم إبرازه من الالتباس، لأنك لو قلت: زيد أخوك ضاربه، وجعلت الضارب لزيد ولم تبرز الضمير لأدى ذلك إلى أن يسبق لفهم السامع أنه

ص: 648

للأخ لا لزيد، وكان ذلك ملبسا، فإذا أبرزته فقلت: زيد أخوك ضاربه هو زال الالتباس، ثم إن العرب أجرت في هذه القاعدة مالا لبس فيه على ما فيه اللبس، فأبرز فيه الضمير نحو: زيد هند ضاربها هو، وهند زيد ضاربته هي، وزيد الهندان ضاربهما هو، والزيدان هند ضارباها هما وزيد، والهندات ضاربهن هو، وهند الزيدون ضاربتهم هي وما أشبه ذلك، فاللبس هاهنا مرتفع ولكن أبرزوا الضمير ليجرى الباب كله مجرى واحدا هذا معنى قوله:"مطلقا" أي: أبرزه إذا تبع ما ليس معناه له على كل حال وهو أحد التفسيرين المحتملين فيه فكأنه يقول: لا تراع اللبس، وإنما تراعى عدم جريانه على صاحبه، وهو مذهب البصريين، وذهب الكوفيون إلى أن اللبس إذا فقد لم يجب إبراز الضمير، لأن العلة لإبرازه هو اللبس، فإذا زال فالواجب الرجوع إلى الأصل، وإلى مذهبهم ذهب المؤلف في "التسهيل" وشرحه، ودليلهم السماع والقياس، فالقياس ما تقدم،

ص: 649

وأما السماع فأنشد الكوفيون:

وإن امرأ أسرى إليك ودونه

من الأرض موماة وبيداء سملق

لمحقوقة أن تستجيبي دعاءه

وأن تعلمي أن المعاني موفق

وأنشد أيضا:

ترى أرباقهم متقلديها

كما صدئ الحديد على الكماة

وأنشد المؤلف أيضا:

قومي ذري المجد بانوها وقد علمت

بكنه ذلك عدنان وقحطان

وهذا عند البصريين نادر، والنوادر لا عبرة بها، ولا ينبني عليها حكم لذلك لم ير الناظم ترك إبراز الضمير إذا ارتفع اللبس، هذا أحد التفسيرين في قوله:(مطلقا).

والتفسير الثاني: أن يريد عدم الاختصاص/ بالمبتدأ والخبر، بل أراد أن هذا الحكم جار في كل صفة تلت ما ليس معناها له كانت خبرا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو حالا من ذي حال، كما لو قلت

ص: 650

مررت برجل ضاربه أنا، فإن معنى ضارب ليس لرجل، بل لضمير المتكلم، فجرى على رجل وليس معناه له، فلزم إبراز الضمير وكذلك إذا قلت خرج زيد ضاربه أنا، وجاء زيد معترضا له أنا، وما أشبه ذلك، فالإبراز لا يختص بجريان المشتق على المبتدأ خبرا له. والخلاف المذكور منقول في الجميع، فالمسألة واحدة والنظر فيها واحد.

فإن قلت: إن حملت الإطلاق على هذا التفسير لزم أمران:

أحدهما: بقاء المسألة الأولى في التفسير الأول غير منبه عليها وذلك إخلال في مقصوده فيها.

والثاني: أن موضع كلامه هو الخبر، فقوله:(حيث تلا) يعني به الخبر وإذا عنى به الخبر لم يصح دخول الصفة والحال إلا من جهة القياس، لا من اللفظ، ولفظ الإطلاق إنما يفيد فيما هو داخل تحت دلالة اللفظ لا فيما هو خارج عن ذلك، فإذا لا يصح حمل الإطلاق إلا على التفسير الأول، ويبقى حكم الصفة والحال مسكوتا عنه فهذا أولى من حمل الكلام على ما لايسوغ.

فالجواب: أن المسألة الأولى داخلة له من حيث لم يقيد الحكم باللبس وأنه علقه على مجرد الجريان على غير من المشتق له.

وأما الثانية: فإن الضمير في "تلا" ليس عائدا على الخبر من حيث هو خبر، وإنما عاد على ما لا يصلح أن يكون خبرا، وذلك أن جميع الضمائر في "تلا" وفي "يشتق" و "فهو" عائدة على المفرد المذكور في قوله:

ص: 651

(والمفرد الجامد فارغ) وذلك المفرد إنما تكلم فيه من حيث يصلح أن يقع خبرا لا من حيث هو خبر في الواقع فكأنه يقول: المفرد الصالح للخبرية منه جامد ولا يحتاج إلى ضمير، يعني إن وقع خبرا. ومشتق ولابد فيه من ضمير، ثم ذلك الضمير مستتر لا يظهر إلا إذا جرى صاحبه المتحمل له على غير من هو له فإنه يبرز، فقد حصل في هذا الإطلاق حكمه إذا وقع خبرا وغير خبر، لأن الجريان والتبعية غير خاصة بما هو خبر، دون الصفة والحال، وهذا ظاهر، وبعد فعلى الناظم هنا الإشكال من أوجه ستة:

أحدها أن ما جرى من الجوامد مجرى المشتقات يقتضى كلامه أنها لا تتحمل ضمائر، لقوله:(والمفرد الجامد فارغ) والجامد- وإن جرى مجرى المشتق- لا يكون مشتقا لأن حد الجامد يتضمنه دون حد المشتق، واعرض ذلك على حدودهما فإنك تجد الجامد الجاري مجرى المشتق لا يؤدي بنفسه معنى الفعل الموافق له في المادة، وإنما يؤدي معنى فعل آخر من جهة تضمينه معناه وتنزيله منزلته، وهذا الاقتضاء غير صحيح، بل هي متحملة لضمائر كالصفات المشتقة لكونها في معناها، وذلك ستة أنواع:

أحدها: المنسوب نحو تميمي وقرشي، فإنه يتحمل ضميرا مثل المشتق ويوصف به، ويرفع الظاهر، ويبرز ضميره، فتقول: مررت برجل قرشي أبوه، وأتميمي أبواك؟ وما قرشي هنا.

والثاني: ما كان نحو: عرب وعرفج وخز في قولهم: مررت بقوم عرب أجمعون فعرب فيه ضمير جرى عليه أجمعون توكيدا، وكذلك مررت بقاع

ص: 652

عرفج كله، وكذلك قالوا/ مررت بسرج خز صفته، ومررت بصحيفة طين خاتمها، وما أشبه ذلك رفعوا الظاهر بهذه الأسماء إجراء لها مجرى المشتق.

والثالث: العلم المنزل منزلة المشتق نحو: أبو يوسف أبو حنيفة، وزيد زهير، وعمرو حاتم، وهو كثير، ففيه ضمير أيضا.

والرابع: المصدر المنزل منزلته نحو: ما أنت إلا سير، وزيد صوم وفطر ونحو ذلك.

والخامس: اسم الجنس المنزل منزلته أيضا نحو: زيد أسد وزيد حمار وشبه ذلك، وهذه الثلاثة الأخيرة تتأول على وجهين:

على أن تكون على حذف المضاف كأنه قال: أبو يوسف مثل أبي حنيفة وزيد مثل زهير ومثل الأسد وما أنت إلا ذو سير وذو صوم وفطر، وعلى أن يكون الثاني هو الأول مبالغة، أي: يغني غناه ويسد مسده، والمعنى زيد عالم وشاعر وكريم وما أشبه ذلك، وقد يتأول العلم بالمشتق لا على حذف المضاف، لكن على ما تقدم التنبيه عليه في قوله:

*أنا أبو المنهال بعض الأحيان*

وقوله:

*

كل غانية هند*

ص: 653

وعلى هذا الوجه الثاني من التأويل ينهض الاعتراض لا على الأول.

والسادس: الخماسي من الصفات نحو: همرجل وشمردل وجحمرش وخبعثن وقذعمل وجردحل، وما أشبه ذلك، فإنها صفات تتحمل الضمائر كسائر الصفات فما وقع منها خبرا للمبتدأ فهو ذو ضمير مستكن مع أنها غير مشتقة، لأنها خماسية الأصول والخماسي لا يدخله اشتقاق البتة حسن ما تقرر في عمله، فليس بداخل تحت ترجمة المشتق، فهذه الأنواع جامدة مع أنها ذوات ضمائر من غير إشكال وكلامه يقتضى أنها فارغة منها، وفي ذلك من الإشكال ما فيه.

والإشكال الثاني: أن الضمير في قوله: (وإن يشتق) إما أن يعود على المفرد غير مقيد بكونه جامدا، وإما أن يعود على المفرد بقيده المذكور، أما الأول فلا يصح، لأن سيبويه وغيره من الأئمة قد نصوا على أن الصفة مع الموصوف بمنزلة الاسم الواحد، لان الصفة مبينة للموصوف فهو من تمامه، كما أن الصلة من تمام الموصول، فكما أن الذي قام بمنزلة زيد كذلك الرجل القائم بمنزلة زيد، وذلك كان إعراب الصفة كإعراب الموصوف، فإذا عاد الضمير عليه فلا يعود عليه إلا من جهة ما هو معروف، وليس بمعروف إلا مع صفته تحقيقا أو تنزيلا فقول من يقول من الشيوخ المتأخرين بأن الضمير يجوز عوده على الموصوف دون صفته ويفرعون على ذلك بحوثا ومسائل فروعية وأصولية خطأ، وإنما يسأل عن كل علم أربابه، فإذا تقرر هذا تعين الثاني وهو أن يكون الضمير في "يشتق" عائدا على المفرد بقيد كونه جامدا، وعند ذلك يتهافت الكلام فكأنه قال: وإن كان المفرد الجامد مشتقا فهو كذا، والجامد لا يكون مشتقا أبدًا، كما

ص: 654

أن المشتق من جهة ما هو مشتق لا يكون جامدا أبدا، فهذا كلام في ظاهره غير صحيح.

والإشكال الثالث: أنه حكم على المشتق بأن فيه ضميرا مطلقا/ لكنه يستكن إذا جرى على من هو له، ويبرز حيث يجرى على غير من هو له، وهذا إنما يصدق على بعض الأخبار لا على جميعها، إذ الخبر على قسمين: أعنى المفرد المشتق:

أحدهما: أن يكون للمبتدأ لفظا ومعنى نحو: زيد قائم وعمرو خارج، فهذا هو الذي فيه يستكن ضميره مطلقا قال.

والثاني: أن يكون للمبتدأ لفظا ولما هو من سببه معنى وهذا على ضربين:

ضرب يكون مرفوعه ضميرا فهو الذي يبرز ولا يستكن، إذ الخبر جار على غير من هو له نحو: زيد [سائر] أنت إليه.

وضرب: يكون مرفوعه ظاهرا نحو: زيد قائم أبوه، وعمرو سائر أبوك إليه فهذا غير محتمل لضمير البتة فكيف يطلق القول بأن يكون كل مشتق ذو ضمير؟ هذا غير مطرد، بل منه ما هو ذو ضمير، ومنه ما ليس كذلك، إلا أنه إذا لم يكن فيه ضمير لزم أن يعود من بعض متعلقاته ضمير يربط بين المبتدأ وخبره نحو: زيد قائم أبوه، وعمرو سائر بكر إليه، وزيد سائر الذي أكرمه وما أشبه ذلك،

ص: 655

وكذلك إذا كان فيه ضمير يلزم إبرازه لجريانه على غير من هو له نحو: زيد هند ضاربها هو، وزيد ضاربه أنا أو أنت، وعند هذا يلزم الإشكال الرابع وهو أن قوله:(فهو ذو ضمير مستكن) إما أن يريد أنه كذلك من غير تعرض إلى كونه عائدا على الاسم الذي جرى عليه وهو- هاهنا- المبتدأ أو غير عائد عليه، واما أن يريد أنه ذو ضمير عائد على المبتدأ، فإن كان مراده الأول فقد فاته مقصود المسألة وهو التنبيه على أن المفرد المشتق لابد من ضمير يعود منه على المبتدأ ويخف الخطب إذا كان المشتق للأول لفظا ومعنى، إذ قد يقال: إنه لا يحتاج إلى عائد بخلاف ما إذا جرى على الأول لفظا لا معنى، فإنه لابد من ضمير من الخبر يعود على المبتدأ ضرورة، لتحصيل الارتباط بينهما، وإن أراد أنه ذو ضمير عائد على المبتدأ وهو الظاهر من قصده وقصد غيره، فذلك إنما يصدق على ما إذا كان الخبر للمبتدأ لفظا ومعنى، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يصدق عليه البتة؛ إذ ليس الضمير الذي في الخبر عائد (على مبتدئه، ولو كان عائدا عليه لكان من القسم الأول الذي هو للمبتدأ لفظا ومعنى، وإذا ثبت هذا فقوله: (وأبرزنه مطلقا) عائد على الضمير في قوله: (ذو ضمير مستكن) وقد فرضنا أنه أراد به العائد على المبتدأ، فلابد أن يكون البارز على قوله: هو العائد على المبتدأ، وهذا غير صحيح كما تبين، ولا يقال: إن الخبر إذا رفع الظاهر من قبيل الجمل أو داخل مدخلها، والناظم إنما تكلم في المفردات المحضة لأنا نقول: هو من قبيل المفردات، كما كان

ص: 656

الموصول مع صلته منها، ولذلك عملت فيه العوامل (فانتصب) بكان وبالظن وبما وأخواتها وسائر العوامل نحو: كان زيد قائما أبوه، وظننت زيدا قائما أنت إليه وما أشبه ذلك، ولو كان جملة لم يعمل فيه عامل، فصار كالموصول مع صلته/ والموصوف مع صفته، ولو جرى على حكم الجمل لم يعمل فيه عامل، كما لا يعمل في المحكى من الجمل وليس في الكلام لا جملة أو مفرد، وهذا تحرير ابن خروف في المسألة، فإذا كلام الناظم غير سديد.

والإشكال الخامس: أنه نص على أن موضع إبراز الضمير هو حيث يجرى متحمله على غير من هو له، وأنه إذا لم يكن كذلك فالضمير مستتر مطلقا، وهذا غير صحيح؛ لأن الضمير قد يجب إبرازه وإن لم يجر متحمله على غير من هو له، وذلك في نحو: أقائم أنتم؟ وأضارب أنتما؟ وفي أحد الوجهين في قوله تعالى: {قال أراغب أنت} الآية، إذ لا يجوز هنا أضارب؟ ويستتر الضمير، ولا أقائمان؟ عوض: أقائم أنتما؟ ولا ما أشبه ذلك، وكلامه يقتضى الجواز، لأن هذا القبيل لم يجر على غير من هو له.

فإن قيل: إن كان لم يجر على غير من هو له، فلم يجر أيضا على من هو له وسبب استتار الضمير جريانه على من هو له لا عدم جريانه على غير من هو له وبينهما فرق.

قيل هذا إن صح في نفسه، فليس في كلام الناظم ما يدل عليه هنا لأنه قال:(وإن يشتق فهو ذو ضمير مستكن) فأطلق

ص: 657

القول فيه كان جاريا على من هو له (أو لا)، وإنما استثنى الجريان على غير من هو له فقد تضمن قوله:(فهو ذو ضمير مستكن) ضربين: ما جرى على من هو له، وما لم يجر على من هو له ولا على غير من هو له، فثبت أن نحو:

*خليلي ما واف بعهدي أنتما*

لا يجوز، وإذ ذاك يلزم أحد أمرين:(إما بطلان كلامه هنا) وإما بطلان كلامه في مسألة: أسار ذان، إذ كان قد قال (وقس) فاقتضى قياس المضمر على الظاهر وهنا حكم بأن الضمير في مثل:(أسار ذان) لا يبرز فهما متضادان.

والإشكال السادس: أن كلامه في بروز الضمير إذا جرى متحمله على غير من هو له يقتضى أن الحكم فيه مطلق، سواء تكرر أم لا، وليس كذلك، بل هو مقيد بألا يتكرر ذلك المتحمل للضمير، فلو تكرر لم يكن في الثاني بروز الضمير فتقول: مررت برجل عاقلة أمه لبيبة، فلا تبرز الضمير من لبيبة، وكذلك مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، ولم يقل لا قاعد هما. فتقول على هذا: زيد عاقلة أمه لبيبة، وهذا قائم أبواه لا قاعدان، وما أشبه ذلك مع أن الصفتين معا جاريتان على المبتدأ لفظا لا معنى، ولم يلزم في الثانية بروز الضمير كما ترى، فكان من حق الناظم أن يتحرر من هذا

ص: 658

أيضاً، لكنه لم يفعل فكان مشكلا إطلاقه، وهذا الاعتراض كان يورده بعض شيوخنا على هؤلاء المتأخرين، إذ لم يحترزوا من هذا النحو، مع أنه كثير في الكلام، وابن مالك أولى بالاعتراض عليه هنا وفي "التسهيل" وغيره، فهذه إشكالات ستة يصعب الجواب عنها.

ومنها ما احترز المؤلف عنه في "التسهيل" كالأول فإنه قال فيه: ولا يتحمل غير المشتق ضميرا ما لم يؤول بمشتق. ومنه ما لم يحترز منه فلزمه هنالك، كما لزمه هنا كالرابع والخامس ومنه ما هو مختص بنظمه كالثاني، فأما الأول فظاهره اللزوم إلا أن يقال: إنه/ أطلق على المشتق بالتأويل لفظ المشتق باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه حتى كأنه قال: "وإن يشتق" حقيقة أو مجازا وهذا بعيد.

وأما الثاني: فقد يجاب عنه بوجهين:

أحدهما: أن الضمير قد يعود على غير المتقدم الذكر لمصاحبته له في الذهن مع عدم صلاحيته للمذكور، ومنه قوله تعالى:{وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} الآية، المراد من عمر غير المعمر، فأعيد الضمير غير المعمر؛ لأن ذكر المعمر مذكر به لتقابلهما، ومنه قولهم: عندي درهم ونصفه، وأنشد ابن خروف:

ص: 659

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب

وكلام الناظم من هذا فلا إشكال، إذ التقدير: وإن يشتق المفرد غير المذكور أولا.

والثاني: أن يحمل الجامد على غير الوصف، بل يكون مبتدأ ثانيا خبره فارغ، والجملة خبر المفرد والمراد به الجنس، والعائد عليه من الجملة محذوف تقديره: والمفرد، أما الجامد منه ففارغ والمشتق منه ذو ضمير مستكن ولا إشكال في هذا.

وأما الثالث والرابع، فلا أجد الآن عنهما جوابا.

وأما الخامس: فإن كلامه هنا يقرب أن يكون صريحا في منع أقائم أنتما؟ بخلاف كلامه في أسار ذان، فإنه محتمل؛ لأنه هنالك مثل بفاعل ظاهر، ثم قال:"وقس" فاحتمل أن يقصد وجها من تلك الأوجه المتقدمة أو جميعها، فليس ثم ما يقطع على إجازته أقائم أنتما؟ وأما هنا فالمنع ظاهر فهو الذي يعطيه إطلاقه، وعند ذلك يصير مذهبه المذهب الشاذ المتقدم الذكر، وقد مضى ما يحتج به صاحبه وكأنه حمل الصفة في ذلك على الفاعل، فكما أن الفعل لا ينفصل ضميره هنا فكذل ما أشبهه، فإن كان مراد الناظم هنالك شمول الظاهر والضمير، فهذا الموضع معارض

ص: 660

له، ويعتذر عنه بأن هذا الإطلاق هنا مقيد بما هنالك، فكان أقائم أنتما؟ ونحوه مما هو غير جار على شيء مستثنى من منع البروز، ويصح كلامه في الموضعين وإن كان مراده مقتضى ما هنا من المنع، فإن ما ارتضاه غير مرتضي، وذلك أن الصفة العاملة عمل الفعل تجتمع مع الفعل في بعض الأحكام وتفترق في بعض. فمما يجتمعان فيه الموازنة في الحركات والسكنات، وعدد الحروف، وتعيين الزائد غير الزائد الأول، فيما فوق الثلاثي من ذل وفي الثلاثي فيما عدا تعيين الزيادة في المراد به العلاج منها وكذلك طلب المرفوع مطلقا، والمنصوب فيما يتعدى، وكذلك الإعلال التصريفي في أكثر الأمر، ومما يفترقان فيه الأحكام المختصة بكل واحد منهما ككون الصفة تقع مبتدأ، ويدخل عليها الجار، وتجر بالإضافة وما أشبه ذلك مما يختص بالاسم، ونحو كون الفعل يتصرف عند اختلاف الأزمنة، ويدخل عليه الجازم وما أشبه ذلك مما يختص بالفعل، ومن جملة الأحكام المتعلقة بهما اتصال الضمائر بهما وانفصالهما وهما يجتمعان في بعض ذلك ويفترقان في بعض، / فمما يجتمعان فيه طلب الضمير بالاتصال مرفوعا كان أو منصوبا من حيث اجتمعا في معنى الفعل نحو: أنا الضاربة، وأنا أضربه، وكذلك زيد أنا معطيكه (وأنا أعطيكه)، وعدم الاتصال إذا عرض عارض يشتركان فيه كالتقديم على العامل نحو: أنا إياك ضارب، وأنا إياك أضرب، والفصل بـ "إلا" نحو: ما أنا بضارب إلا إياه، وما أنا أضرب إلا إياه، وزيد ما ضاربه إلا أنا، وما يضربه إلا أنا وشبه ذلك، فهذا النوع يجريان فيه على نسق غير متفاوت إلا بمقدار ما بين الاسم والفعل من التفاوت، وقد تقدم

ص: 661

بيان ذلك في باب الضمائر، ومما يفترقان فيه إبراز الضمير إذا جرى عامله على صاحبه وعدم إبرازه، فيجب إبرازه إذا عملت فيه الصفة وذلك نحو: زيد هند ضاربها هو، ولا يبرد إذا عمل فيه الفعل نحو: زيد هند يضربها، وإنما افترقنا في هذا الحكم لأمر هما فيه مفترقان، وهو أن في الفعل دلالة على فاعله، إذ هو مما يظهر معه ودلالة على محله من المتكلم والخطاب والغيبة.

فإذا قلت: زيد اضربه أو ضربته، ففيه دلالة على أن الفاعل هو المتكلم لا زيد، وكذلك إذا قلت: زيد تضربه أو ضربته، ففيه دلالة على أنه المخاطب بخلاف ما إذا قلت: زيد ضاربه، فإنه لا دلالة فيه على أن الفاعل غير زيد حتى تقول: أنا أو أنت، إذ لا يبرز ضميره فيدل عليه ولا تلحقه علامة دالة زائدة على كونه مفردا أو مثنى أو مجموعا لاختصاص الفعل بذلك، فعوض الاسم من ذلك إبراز الضمير ليرتفع اللبس ويزول الإشكال، وصار هذا التعويض (مختصا بالاسم) كما كان المعوض منه مختصا بالفعل، وهذا شرح ما قالوه في المسألة على أوفى ما يكون، وهو توجيه لما نص عليه الناظم من حكم الإبراز، وإذا ثبت ذلك فقولهم أضارب أنت؟ أو أنتما من هذا النمط، لأن الفاعل المستتر ضمير لا يعرف له رتبة في تكلم ولا خطاب ولا غيبة، ولم يتقدم عامله ما يعود عليه ذلك الضمير، فصار استتاره موقعا في اللبس والإشكال، فلم يكن بد من إبرازه ليتعين، وهذا- والله أعلم- هو السبب في كون الكلام مع إبرازه مفيدا

ص: 662

بخلافه إذا لم يبرز، والظاهر أن الناظم على مذهب الجمهور، ويتعذر عنه بأن إطلاقه هنا في منع الإبراز إذا لم يجر على غير من هو له مقيد بما هنالك ويكون كلامه صحيحا في الموضعين، ولكن الموضع كان يحتمل تحريرا أحسن مما ورد فيه والله أعلم.

وأما السادس: فإن الاحتراز من نحو: مررت برجل عاقلة أمه لبيبة، غير محتاج إليه؛ لأن لبيبة جار في اللفظ على عاقلة وهما معا للأم، فالثانية جارية على من هي له، لا على غير من هي له، فما الحاجة إلى إبراز الضمير؟ وكذلك مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، وما كان مثله فالاعتراض به على النحويين غير وارد.

ص: 663