الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم عطف بيان نوع ثالث من المعارف وهو
اسم الإشارة
فقال.
اسم الإشارة
بذا لمفرد مذكر أشر
…
بذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر
اعلم أنه قسم أولا أسماء الإشارة وجعلها على ضربين:
أحدهما: ما كان مختصا بالمكان.
والثاني: ما لم يكن كذلك، وابتدأ بهذا الثاني، إذ هو الأكثر في الاستعمال والأصل في الباب، ثم أتى بتقسيمين يشتملان على ذكر جملة أسماء الإشارة والأحكام المتعلقة بها، فابتدأ بذكرهما بالنسبة إلى الضرب الثاني، فالتقسيم الأول هو بالنسبة إلى المشار إليه من كونه مفردا أو مثنى أو مجموعا، ومذكرا أو مؤنثا، وذلك قوله:(بذا لمفرد مذكر أشر .. ) إلى آخره. "بذا" متعلق بأشر، أي: أشر بهذه الأداة إلى كذا، يعني أن "ذا" من أسماء الإشارة، موضوع لأن يشار به إلى المفرد المذكر فتقول: هذا زيد وهذا مالك، ولم يذكر للمذكر غير أداة واحدة وأما المؤنث فذكر له أربع أدوات هي المذكورة في قوله:(بذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر) أراد وبذي وذه وتي تا، فحذف العاطف ضرورة، ويعني أن هذه الألفاظ المذكورة حكمها أنها مقتصر بها على الإشارة إلى الأنثى، فلا يشار بواحد منها إلى المذكر، ويراد بالأنثى الواحدة دل على ذلك المساق وأن الأنثى صفة لموصوف محذوف، أي: الواحدة الأنثى فكأنه قال: المفرد المؤنث له من الأدوات أربع:
إحداها: "ذي" بيا فتقول: هذي فلانه، وقد تحذف ياؤها في الضرورة. أنشد ابن الأعرابي: /
قلت لها يا هذا في هذا إثم
…
هل لك في قاض إليه نحتكم
قال ابن جني: الياء هي الأصل، وهذه بدل، أعني الهاء.
والثانية: "ذه" بالهاء، وأتى بها في اللفظ ساكنة فيحتمل أنه أراد السكون في الوصل والوقف، فإن من العرب من يقول: هذه زينب فيسكنون وصلا ووقفا، ويحتمل أن يكون أراد الهاء مطلقا وأسكنها لما أحتاج إلى ذلك، وعلى هذا ففي هذه لغات ثلاث: ذه مثل به وهي اللغة الشهرى، وأكثر ما تستعمل مع "هاء التنبيه" وقد تسقط كقول ذي الرمة:
بثنتين أن تصرف ذه تنصرف ذه
…
لكلتيهما روق إلى جنب مخدع
و"ذه" مختلسة الكسرة من غير ياء، و "ذه" ساكنة الهاء، وهي المتقدمة حكى هذه اللغات سوى لغة الاختلاس ابن الأعرابي، وهذا الاحتمال الثاني أولى، ويكون إشارة على اللغة الشهرى مع غيرها، إذ بعيد أن يذكر لغة تسكين الهاء مع قلتها، ويترك لغة إشباع الكسرة ولحاق الياء على كثرتها وفشوها، فقوله:(وذه) قد تضم ثلاث لغات.
والثالثة: "تي" فتقول: هاتي زينب، وهي التي لحقتها الكاف في قوله أبي النجم:
*فافعل بنا هاتاك أو هاتيكا*
والرابعة: "تا" تقول: تا هند. قال النابغة:
ها إن تا عذرة إن لا تكن نفعت
…
فإن صاحبها قد تاه في البلد
وقال عمران بن حطان:
وليس لعيشنا هذا مهاه
…
وليست دارنا هاتا بدار
ثم ذكر المثنى لما استوفى ما أورد من أدوات المفرد فقال:
وذان تان للمثنى المرتفع
…
وفي سواه ذين تين اذكر تطع
جعل للمثنى أداتين:
إحداهما: للمذكر وهي "ذان" فتقول: هذان رجلان.
والثانية: للمؤنث وهي "تان" فتقول: هاتان امرأتان، وفهم له أن الأول للمذكر والثاني للمؤنث، ومن كلامه في الإفراد، حيث تكلم فيه بحسب التذكير والتأنيث، وابتدأ بالتذكير، فكذلك يكون الأمر في المثنى، ولم يذكر
إلا أداتين، فتعين أن تكون الأولى للمكر والثانية للمؤنث، وهذا بين من مساق كلامه، وقيد المثالين إذا كانا بالألف بأنهما للمثنى المرتفع، وأنهما إذا كانا بالياء لغيره وهو المثنى المنتصب والمثنى المنجر، وهذا صحيح، فإنك تقول: رأيت هاتين، ومررت بهاتين، نحو:{إن هذين لساحران} و {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} ، وقالت العرب: هو أحسن الناس هاتين. و "ذين تين" منصوبان على المفعولية بـ (اذكر) و (وفى سواه) متعلق به أيضا، وجر سوى، لأنها عنده متصرفة خلاف ما ذهب إليه سيبويه، وقد تقدم التنبيه على ذلك، وسيأتي إن شاء الله.
وقوله: "تطع" جواب "اذكر" أي: اذكر ذين وتين في المثنى غير المرتفع تطع العرب في ذلك.
ثم يتعلق بهذا الكلام مسألتان:
إحداهما: أن قوله: (وذان تان .. ) إلى آخره، نبه به على أن الكلمتين غير جاريتين على حكم التثنية الحقيقية، وأنهما فيهما مخالفة والذي دل على ذلك أنه ذكر حكمهما في الرفع والنصب والجر بالنص، ولم يقتصر على الإحالة على حكم التثنية، ولا سكت عن ذلك جملة، فيؤخذ له حكمها مما تقدم، بل/ نص على حقيقة الحكم في
تثنيتهما، إشعارا بأن ذا وتا محذوف منهما الألف في التثنية، إذ كان الأصل أن يقال: ذوان وتوان، كما يقال: في عصا عصوان، وفي الجر ذوين وتوين كعصوين لكنهم خالفوا ذلك الحكم كما فعلوا ذلك في تصغيرهما، والتنبيه على ذلك حسن جدا، كأن مذهبه فيهما التثنية على الحقيقة أولا، ولأجل هذا قال:(اذكر تطع) أي تطع أمر العرب تنبيها على أنهما غير جاريين على القياس، ونظير هذا قوله في باب الموصول في تثنية الذي والتي:(واليا إذا ما ثنيا لا تثبت، بل ما تليه أوله العلامه) وسيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
والثانية: أن كلامه هنا ليس فيه ما يدل على أن هاذين وهاتين عنده من قبيل المثنى حقيقة، بل يحتمل أن يكون مذهبه مذهب الجمهور في كونهما جاريين مجرى المثنى وليسا بمثنيين، ويحتمل أن يكونا عنده من قبيل المثنى حقيقة، لكن لم تثبت ألفهما مع ألف التثنية، وعلى هذا الثاني نص في "شرح التسهيل" وارتضاه في اللذين واللتين وهو يظهر منه في هذا النظم بعض ظهور حيث قال:(واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) أما "ذان" و "تان" هنا فلفظه فيهما محتمل، إذ قال:(وذان تان للمثنى) وهذا لا يدل على أنهما مثنيان أو غير مثنيين، إلا أن في لفظه ما يدل على كونهما مثنيين حقيقة، وذلك في باب الإعراب والبناء، فإنه لما ذكر ما يجري مجرى المثنى في الإعراب لم يذكر ذان وتان، ولا اللذان واللتان، فدل ظاهر هذا على أنهما عنده مثناة حقيقة. والمسألة خلافية والجمهور على
خلاف ما ذهب إليه الناظم، ولكن حجته في جريانها بوجوه الإعراب كالمثنى ظاهرة، وإنما عارضه في ذلك أمران:
أحدهما: حذف ألفاتها إذ كان القياس قلبها كما تقلب ألف عصا ورحى وهذا ليس بمعارض فإنهم أرادوا أن يجعلوا بين تثنية ما حقه ألا يثنى وما يثنى فرقا، كما جعلوا بينهما فرقا في التصغير حيث قال لي في تصغير ذا وتا والذي والتي ذيا وتيا واللذيا واللتيا فخالفوا بينهما وبين ما يصح تصغيره كعصا ورحى حيث قالوا: عصية وروحية ورمية، وذلك مذكور في بابه.
والثاني: إن هذه الأسماء مما توغل في شبه الحرف، والتثنية والجمع بمعزل عما شأنه هذا كما، ومن، وهي، وهو، باتفاق، فكذلك ينبغي أن يقال في هذه الأسماء.
والجواب: عن هذا أن هذه الأسماء فارقت سائر المبنيات ببعض تصرف فيها لم يقع في غيرها، ألا ترى أنها تنعت وينعت بها، وتصغر بخلاف سائر ما توغل في شبه الحرف، فلما كانت قد دخلها ما يدخل الأسماء المتمكنة أجريت في التثنية أيضا مجراها وحصل فيها بسبب ذلك الإعراب أيضا، وهو الذي أشار إليه بقوله:(للمثنى المرتفع) فجعله مرتفعا في نفسه، لا في موضع رفع كسائر المبنيات، وإنما ساغ له دعوى ذلك كله حين دخل عليها ما يختص بالمتمكن، وذلك التثنية تغليبا لحكمها على حكم شبه الحرف.
قال ابن مالك: كما جعلت إضافة "أي" معارضة لشبهها
بالحروف فأعربت وأيضا فيجاب عن المعارضة الأولى بأن "ذا" و "تا" قد قيل فيهما إن الألف زائدة نص الكوفيون على ذلك في ذا، ويلزمهم في "تا"[و] إن لم ينصوا عليه، فهذا ممكن وإن ضعف/ دليله عند البصريين فالتثنية حجة لهم، وأما الذي والتي فزعم ابن مالك فيهما الاستغناء بتثنية اللذ بغير ياء واللت كذا قال: فاعتبروا أخف اللغات وذلك أن المفرد أخف من المثنى، وهم قد خففوا في المفرد جوازا بحذف الياء، فلما قصدوا التثنية التزموا ذلك التخفيف، واللذ واللت في الذي والتي ثابت من كلامهم وأنشد النحويون في الذ
*واللذ لو شاء لكنت صخرا*
وأنشدوا أيضا في لغة تسكين الذال:
*كاللذ تزبى زبية فاصطيدا*
وفي اللت قول الآخر
فقلت للت تلومك إن نفسي
…
أراها لا تعوذ بالتميم
وللمسألة غور آخر من الاحتجاج يتعلق باشتراط التنكير في التثنية والجمع لا يليق ذكره بهذا الموضع لخروجه عن المقصود، وكذلك أيضا تركت النظر مع الكوفيين في زعمهم أن ذال "ذا" وحدها هو الاسم والألف واللام زائدة على خلاف ما يظهر من الناظم، إذ ليس هذا البحث من صلب النظر في كلامه، كما أن النظر في الألف واللام في الذي والتي وفروعهما ليس مما قصد التنبيه على أنها أصلية أو زائدة على الموصول، فأعرضت عن ذكر ذلك كله، والله المستعان، وبه التوفيق.
***
ثم شرع في ذكر الإشارة إلى الجمع فقال:
وبأولى أشر لجمع مطلقا
…
والمد أولى ولدي البعد انطقا
بالكاف حرفا دون لام أو معه
…
واللام إن قدمت "ها" ممتنعه
وجعل لذلك أداة واحدة وهي "أولى" بقوله: (وبأولى أشر لجمع) ولم يزد على ذلك فتقول: قام أولى، هكذا مقصورا. ومنه قول ابن مقبل:
شاقتك أخت بني دالان في ظعن
…
من هؤلاء وأولى أنسابها شيع
وقال الآخر:
هؤلي ثم هؤلي كلا اعطيـ
…
ت نعالا محذوة بنعال
وأتى بلغة القصر أولا، قم أردفها بلغة المد بقوله:(والمد أولى) مع عدم التنبيه على زيادة عنى، فدل على أن اللغتين عنده بمعنى واحد، ويعني أن الأشهر في كلام العرب مد "أولى" لا قصرها وإن كان فيها لغتان، وإنما نص على ذلك لوجهين:
أحدهما: تعيين النقل في اللغتين مطلقا.
والثاني: أنه قدم أولا لغة القصر، فلو نقل بعد ذلك لغة المد خلية عن التنبيه على الأولوية لتوهم الناظر في نظمه أن لغة القصر هي الشهرى، اتكالا على التقديم، إذ الناظر يعتمد (كثيرا التنبيه) بالتقديم على الأولوية حسب ما تراه إن شاء الله، فلما كان سكوته عن بيان ما هو الأولى يؤدي إلى فهم ما ليس بمقصود له صرح بأن ما ذكر آخرا هي اللغة الفصحى وأن ما قدم لغة دونها، ولا مرية في أن ذلك على ما قال: لأن المد لغة القرآن ففيه: {ها أنتم أولاء تحبونهم} ، {ها أنتم هؤلاء حاججتم} وهو كثيٍ، لكن في كلامه إيهاما ما، يوجب إيهام نقل لا يصح، وذلك أن المد في أولاء فيه لغتان بل ثلاث لغات:
إحداها: ما قصد ذكره من المد مع الكسر من غير تنوين.
والثانية: الكسر مع التنوين، فتقول: هؤلاء قومك/، ورأيت هؤلاء، ومررت بهؤلاء. حكاها ابن جني والجوهري عن أبي زيد.
قال ابن جني: وهي لغة بني عقيل.
والثالثة: أولاء بضم الهمزتين من غير تنوين حكاها قطرب، وكلتا اللغتين الثانية والثالثة ضعيفة، فلا تكون أولى من القصر، بل ربما كان القصر أولى منها، وإذا ثبت هذا فالناظم لم يعين من هذه اللغات الثلاث واحدة، بل أطلق المد وهو دائر كما تر بين لغات ثلاث، ففيه إيهام أنها كلها أو إحداها على الجملة أولى من لغة القصر، وهذا غير صحيح فكان الأولى به أن يقيد بالمد مع الكسر من غير تنوين، لكنه لم يفعل فكان معترضا.
وقد يعتذر عنه بأن ما عدا اللغة المشهورة نادر وغير مستعمل، على خلاف ما عليه لغة القرآن، فاكتفى بشهرتها عن تقييدها.
وقوله: (مطلقا) يحتمل من جهة اللفظ أمرين:
أحدهما: أن يريد أن هذا اللفظ يشار به للجمع، أي جمع كان لمذكر أو لمؤنث، فيستوي في الإشارة به إليه جمع المذكر وجمع المؤنث فتقول: أعجبني هؤلاء الرجال، وهؤلاء النسوة، وما أشبه ذلك، ومن الأول قوله تعالى:{ها أنتم أولاء تحبونهم} ومن الثاني قوله- حكاية عن لوط- عليه السلام {هؤلاء بناتي} .
والثاني: أن يريد ما تقدم، وأمرا آخر، وهو أنه لا يختص بجمع العاقل دون غير العاقل، بل قد يشار به إلى كل واحد منهما، فمثال العاقل ما تقدم ومثال غير العاقل: أعجبني هؤلاء الأثواب وهؤلاء الدور. ومن ذلك
قول الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} .
وقال جرير بن عطية:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
…
والعيش بعد أولئك الأيام
فهذا محتمل أن يريده بإطلاقه، كما أن قوله: (بذا لمفرد مذكر أشر
…
) إلى آخره مطلق في العاقل وغيره، فإذا تضمن ذلك إطلاقه في المذكر والمؤنث من قسمى المفرد والمثنى، فإطلاق الجمع يتضمن ذلك أيضا إلا أن قصده لهذا الإطلاق يوهم أن أولاء في الإشارة إلى العاقل وغير العاقل على سواء، وليس كذلك، بل زعم الجوهري أن الإشارة به غير العاقل قليلة، والغالب اختصاصه من يعقل، بخلاف ذا وذي ونحوهما فإن الإشارة بها إلى غير العاقل كثيرة، وللناظم ألا يلتزم هذا الإلزام لمجيئه في أفصح الكلام الذي هو القرآن، وعادته الاعتماد على ما جاء به والبناء عليه، وإن قل في غيره، وسيأتي ذلك في كلامه.
والاحتمال الأول أولى لوجهين:
أحدهما: أن الكلام في وضع هذه الأدوات لمن يعقل أو لما لا يعقل كلام في وضع لغوي، لا تعلق له بالنحو، فالظاهر أن الناظم لم يقصده إذ
كلام النحوي في اللغة خروج منه عن صناعته إلى ما ليس منها، وهو في المخاطبة التعليمية غير صواب.
فإن قيل: فإن النحويين يتكلمون كثيرا في معاني الأدوات والألفاظ أفتراهم خارجين عن الصواب بذلك؟
فالجواب: أن كلامهم في معاني الألفاظ في الغالب إنما يكون لما يعرض لهم من بناء القوانين على النقل اللغوي، أو لأن كلامهم في ذلك يجري مجرى ضبط القوانين، فالأول: نحو/ قول الناظم وغيره في هذا الباب: إن لحاق الكاف واللام في ذلك، وذلك يدل على البعد وتركها يدل على القرب، فمثل هذا ينبني عليه من القياس أن الكاف واللام تلحقان اسم الإشارة قياسا إذا قصدت الإشارة بها إلى البعيد.
والثاني: مثل كلامهم في معاني حروف الجر، فإن كلامهم في ذلك من قبيل ضبط القوانين وسيأتي شرح ذلك في باب حروف الجر إن شاء الله، وقلما يتكلم النحوي في معاني اللغة على غير هذين القصدين، إلا أن يتصدى لغويا محضا كشراح شواهد سيبويه وأمثلته وما جرى مجرى ذلك، فخذ هذا أصلا في معناه تنتفع به إن شاء الله.
فإذا كان كذلك فتفصيل الناظم هذا الاحتمال يؤدي إلى إخراجه عن صناعة النحو إلى تفسير اللغة، وليس بشارح لكلام غيره، ولا لشعر غيره، ولا لمطلق اللغة، فلا ينبغي أن يحمل هذا المقصد في إطلاقه.
والثاني من الوجهين أن عادة الناظم إذا نص على الإطلاق وأن يذكره في مقابلة تقييد له أو تأخر، وعلى ذلك يجب أن
يحمل كلامه، ألا ترى إلى ما تقدم له في تعريف العلم من قوله:(اسم يعين المسمى مطلقا) أي: لا يعينه بقيد، كما كان الضمير معينا لمسماه بقيد الحضور أو الغيبة على ما فسر هو في قوله فيه:(وما لذي غيبة أو حضور) وكذلك قوله في "أي"(وبعضهم أعرب مطلقا) يعني وإن كان صدر وصلها ضميرا انحذف، لقوله قبل:(وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف) وعلى هذا الترتيب جرى في كلامه النص على الإطلاق إذا اعتبرته، وإذا ثبت هذا فالذي تقدم له من التقييد هو بحسب التذكير والتأنيث خاصة، فإلى ذلك يصرف الإطلاق خاصة من غير شك، وما سوى ذلك فتعسف على كلامه بغير دليل، مع إهمال دليل خلافه، فالذي تحصل: وجوب حمله على الاحتمال الأول، والله أعلم.
ثم شرع في التقسيم الثاني فقال: (ولدى البعد انطقا بالكاف
…
) إلى آخره، لدى ترادف في المعنى عند.
وقوله: (انطقا) أراد انطقن بنون التوكيد، إلا أنه وقف عليها بالألف كما يجب، وأراد أنك تنطق بالكاف مع البعد، أي: مع بعد المشار إليه منك، وهذا ظاهر في أن ما تقدم إنما هو في الإشارة إلى غير البعيد وهو القريب، وظاهر اللفظ هنا يقتضي أمرا غير مقصود، وهو أنك إذا أردت الإشارة إلى البعيد اقتصرت على الكاف وحدها، أو مع اللام، وهذا غير صحيح وإنما مراده بالنطق بذلك زيادة على ما تقدم من الأدوات، حتى كأنه قال: انطقن بالكاف مصاحبا لما تقدَّم.
وإن قال قائل: من أين يفهم له هذا؟ قيل: يفهم له إذا جعل قوله: (بالكاف) متعلقا باسم فاعل محذوف حال من معمول لا نطقا محذوف لدلالة على الكلام عليه، والباء في "بالكاف" باء الملابسة والتقدير: ولدى البعد انطقا بما تقدم من الأدوات ملتبسة بالكاف.
فإن قلت: وهل تقع الحال من المحذوف؟
فالجواب: نعم/، إذا كان في حكم المنطوق به كهذا الموضع نحو: قولك الذي لقيت راكبا زيد، أي: لقيته، فالحال من الضمير المحذوف وهذا ظاهر، فلو جعلت بالكاف متعلقا بـ (انطق) لم يكن في الكلام ما يدل على المعنى المراد منزلا على الأحكام اللفظية وأوهم معنى غير صحيح كما مر وقد حصل من هذا الكلام تقسيم أسماء الإشارة إلى قسمين:
قسم يشار به إلى القريب وهو ما تقدم ودل عليه ذكر القسم الثاني وهو المشار به إلى البعيد في قوله: (ولدى البعد انطقا) بكذا يعني أنك تزيد إذا أشرت إلى البعيد على ما تقدم كافا وحدها مع بقائها على ما كانت عليه في التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع، فتقول للمفرد المذكر ذاك، وللمؤنث تاك أو تيك أو ذيك، وللمثنى المذكر ذانك وذينك وللمؤنث تانك وتينك، وللمجموع مطلقا أولاك وأولئك، وهذا الثاني أكثر وأولى والأول جائز، ومنه قول مسافع بن حذيفة العبسي:
أولاك بنو خير وشر كليهما
…
جميعا ومعروف ألم ومنكر
وقال ذو الرمة:
أولاك كأنهن أولاك إلا
…
شوى لصواحب الأرطى ضئالا
ومن إلحاق الكاف تا وتي قول أبي النجم:
جئنا نحييك ونستجديكا
…
فافعل بنا هاتاك أو هاتيكا
وقد تلحق اللام مع الكاف وذلك قوله: (دون لام أو معه) يريد أن الكاف تلحق مع اللام في الإشارة إلى البعيد فتقول: ذلك وتلك وتيك وتالك وأولالك وما أشبه ذلك أنشد يعقوب:
أولا لك قومي لم يكونوا أشابة
…
ومن يعظ الضلال إلا أولالكا
وأما ذانك وتانك فلا تلحقهما اللام البتة، وكذلك ذي وذه إذا قلت: ذيك لا تقول: ذلك ولا ذيلك، كما تقول: تلك وتيلك. فإن قلت: فكلام الناظم إذا معترض حيث أشعر باللحاق، فإنه خير بين اللام مع الكاف وبين الكاف وحدها
مطلقا، ولم يستثن في هذا التخيير أداة دون أخرى، فاقتضى جواز اللحاق أن ذلك يصح في ذيك، وفي المثنى كما صح في المفرد المذكر أولاء وفي المجموع، وهذا غير صحيح.
فالجواب: أنه ليس مقصوده بقوله: (ولدى البعد انطقا بالكاف حرفا دون لام أو معه) التنبيه على لحاق اللام مطلقا في كل أداة تقدم ذكرها وإنما قصده أن الكاف على الجملة تدل على البعد، فإذا أردت البعيد أتيت بها ولا شك أن الأمر كذلك.
وأما قوله: (دون لام أو معه) فالمقصود التنبيه والتنكيت على مخالفة من يرى أن الإشارة للبعيد إنما تكون باللام، فإذا تركت اللام فهو إشارة إلى المتوسط بين القريب والبعيد، وهو مذهب مشهور للمتأخرين من النحويين، وإذا كان هذا قصده الأعظم بقى النظر في لحاق اللام وعدم لحاقها ليس مقصودا أولا، وإنما تكلم فيه بالانجرار فيقف موضع لحاقها على اللغة أو على غير هذا الكتاب، فإذا لا اعتراض عليه في هذا الموضع، وحين ذكر أن الكاف تلحق دلالة على البعد بين فيها حكما لابد من بيانه لما ينبني عليه بقوله:"حرفا" وهو/ حال من الكاف، يعني أن الكاف اللاحقة هنا ليست اسما ككاف الضمير، وإنما هي حرف من الحروف، وهذا هو مذهب سيبويه والبصريين وأصلها عندهم الاسمية على ما ذكره ابن جني إلا أنها جرد عنها معنى الاسمية وأتى بها للمعنى الزائد على ذلك وهو معنى الخطاب، كما جردت الضمائر عن معنى الاسمية حين جعلت فصولا، وباب التجريد شائع في كلام العرب، وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب، والدليل على صحة هذا المذهب هو أنه لا يخلو لو كانت اسما من أن تكون مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة، فلا يجوز أن تكون
…
مرفوعة، لأن الكاف ليست ضمائر الرفع ولا منصوبة أيضا، لأنك إذا قلت: ذلك زيد فلا ناصب هنا للكاف ولا مجرورة، لأن الجر إنما هو في كلامهم من أحد وجهين: إما بحرف، وإما بإضافة اسم، ولا حرف جر هنا، ولا يجوز أيضا أن يضاف اسم الإشارة من قبل أن الغرض في الإشارة إنما هو التخصيص والتعريف، وأسماء الإشارة معارف كلها قد استغنت بتعرفها عن إضافتها، وإذا كان من شروط الإضافة أنه لا يضاف الاسم إلا وهو نكرة فما لا يجوز أن يتنكر البتة لا يجوز أن يضاف البتة، وأسماء الإشارة مما لا يجوز تنكرها فلا يجوز إضافتها ولأجل هذا لم يصح في الكاف والهاء في إياك وإياه ونحوهما أن تكون اسما؛ لأنها لا تكون إلا معارف ولا يجوز تنكيرها البتة، وقد تقدم في الضمائر ما يستدل به على فساد كون الكاف هنا اسما، فانقل معناه إلى هنا، ثم قال:(واللام إن قدمت ها ممتنعه) لما قدم أن اللام يجوز لحاقها مع الكاف ذكر أنها تلحق إذا فقدت ها وهي ها التنبيه، وأما إذا لحقت ها ولا تلحق إلا متقدمة على اسم الإشارة، لذلك قال: إن قدمت ها فلا تلحق اللام معها فهما أعنى "ها" واللام كالمتعاقبين على اسم الإشارة إن لحق هذا لم يلحق هذا، فلا يجتمعان البتة إلا في شعر، أو في نادر من الكلام ومنه قول الشاعر:
ياما أمليح غزلان شدن لنا
…
من هاؤليائكن الضال والسمر
فتقول: إذا جاءني ذا وهذا، وجاءتني تا، وهاتا، وذي، وهاذي، وتي، وهاتي، وذان، وهاذان، وتان، وهاتان، وأولاء، وهؤلاء. وتقول أيضا: جاءني ذاك، وهاذاك، (وذلك، وتلك)، وتاك، وهاتاك، وتيك، وهاتيك، ومنه قول طرفة:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
…
ولا أهل هذاك الطراف الممدد
وقال أبو النجم:
جئنا نحييك ونستجديكا
…
فافعل بنا هاتاك أو هاتيكا
ولا تقول: هاذلك، ولا هاتلك، ولا هاتالك، ولا هؤلالك، ولا ما أشبه ذلك، كأنهم كرهوا كثرة الزوائد على الكلمة الواحدة.
وفي قوله: (واللام إن قدمت ها ممتنعة) ما يدل على جواز لحاق "ها" لاسم الإشارة مقدمة عليه، لأن ترتيب ما ذكر من الحكم فيها مع اللام إنما يكون بعد صحة لحاقها، وذلك صحيح كما تقدم تمثيله، ولما لم يبين وجه لحاقها ولا لأي معنى لحقت دل ذلك على أنها تلحق لما تقرر فيها من معنى التنبيه والتأكيد، لا لغير ذلك، وقد نص في "التسهيل" على أنها هي لا غيرها، فهي إذا داخلة لمعناها خلافا لمن زعم خلاف ذلك.
وقد يدل قوله بعد: (وبهنا أو هاهنا/ أشر) على أنها تلحق لأمر زائد على التنبيه، وإذا تقرر هذا بقى النظر في كلام الناظم في هذا الفصل في أمرين: الأول في تقرير الخلاف الذي أشار إليه وذلك في مسألتين:
إحداهما: في تحقيق مراتب الإشارة بحسب المشار إليه فهي عنده مرتبتان: مرتبة بعد، ومرتبة قرب، وعند الجمهور ثلاث مراتب: مرتبة قرب، ومرتبة بعد، ومرتبة توسط بين القرب والبعد. فللمذكر في الدنيا هذا، وفي الوسطى ذاك، وفي البعدي ذلك، وفي التثنية هذان في الدنيا، وذانك في الوسطى وذانك في البعدي بالتشديد، وللمؤنث في الدنيا هذه، وكذا في أخواتها من غير كاف، وفي الوسطى تيك، وفي البعدي تلك وتالك، وفي التثنية في الدنيا هاتان، وفي الوسطى: تانك، وفي البعدي: تانك بالتشديد وفي الجمع من النوعين: أولاء في الدنيا، وأولاك في الوسطى، وأولئك وأولالك في القصوى. وعلى هذه الطريقة جرى أكثر المتأخرين، واستدل في "شرح التسهيل" على صحة ما ذهب إليه بخمسة أوجه:
أحدها: الإجماع على أن المنادي ليس له إلا مرتبتان: مرتبة القريب: تستعمل فيها الهمزة، ومرتبة البعيد وما في حكمه: تستعمل فيه بقية الحروف وهو والمشار إليه شبيه بالمنادى، فليقتصر فيه على مرتبتين إلحاقا للنظير بالنظير.
والثاني: أن المرجوع إليه في مثل هذا النقل لا العقل، وقد روى الفراء أن بني تميم يقولون: ذيك وتيك بغير لام حيث يقول
الحجازيون: تلك وتالك باللام. وأن الحجازيين لا يستعملون الكاف من غير لام وأن التميميين ليس من لغتهم استعمال الكاف مع اللام فلزم من هذا أن اسم الإشارة ليس له إلا مرتبتان: إحداهما: للقرب، والأخرى: لأدنى البعد وأقصاه.
والثالث: أن القرآن ليس فيه إشارة إلا بأداة مجردة من الكاف واللام معا أو بمصاحبة لهما معا ما عدا المثنى والمجموع، فلو كانت الإشارة إلى التوسط بكاف لا لام معها لكان القرآن غير جامع لوجوه الإشارة وهذا مردود بقوله تعالى:{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} .
والرابع: أن التعبير بلفظ ذلك عن مضمون الكلام المتقدم على إثر انقضائه شائع في القرآن وغيره من غير واسطة بين النطقين كقول الله تعالى: {ذلك ما كنا نبغ} ، {ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} ، {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} ، {ذلك حكم الله} . يعني فاعتبر البعد على الجملة مع أنه ليس بموضع بعد، بل هو أقرب لاعتبار حالة التوسط، فلو كان التوسط معتبرا بإشارة لا يشاركها فيها غيرها لكانت هذه المواضع جديدة بلك، لكن ذلك غير واقع فدل على أن قصد التوسط غير معتبر.
والخامس: أن المراتب لو كانت ثلاثا لم يكتف في التثنية والجمع
بلفظين لأن في ذلك رجوعا عن سبيل الإفراد وفي اكتفائهم بقولهم: هذان وذانك وهؤلاء وأولئك دليل على أن ذاك وذلك مستويان وأن ليس للإشارة إلا مرتبتان، ثم اعتذر عن تشديد النون/ وحمله على التعويض مما حذف من الواحد، وقد ذكر ذلك في باب الموصول حسب ما يأتي ورد قول من زعم أن التشديد مثل اللام في ذلك وهو قول المبرد، لكنه لم يذكر اختصاص ذلك بالبعيد دون ذاك، بل قال: إن التخفيف في ذان نظير ذاك والتشديد نظير ذلك، فنزله المتأخرون على ما قصدوه من إثبات المراتب الثلاث.
المسألة الثانية: في تحقيق معنى "ها" مع اسم الإشارة، ومعنى المد في أولاء، وقد تقدم أن الناظم قائل بأن هاء التنبيه لا تفيد في أسماء الإشارة معنى زائدا على التنبيه، وأن المد في أولاء لا يفيد زيادة معنى على معنى أولى المقصورة، وقد خالف الشلوبين في الموضعين فجعل مد أولاء قد يفي انتقال اسم الإشارة من مرتبته التي هو فيها إلى مرتبة أبعد وكذلك "ها" تفيد عنده الانتقال، فأما "ها" فمطلقا وأما المد ففي أحد الوجهين، وفي الوجه الآخر لا يفيد شيئا، وكذلك تشديد النون عنده يفيد الانتقال في أحد الوجهين، وبنى على ذلك أنك تقول في المرتبة الدنيا للواحد المذكر ذا، وفي التثنية ذان، وفي الجمع أولى مقصورا، وفي الوسطى ذاك وهذا، وفي التثنية ذانك وهذان، وفي الجمع هؤلى وأولاك بقصرهما وأولاء بالمد في أحد الوجهين، وفي الآخر هو في الدنيا وفي القصوى ذلك وهذاك، وفي
التثنية ذانك بتشديد النون في أحد الوجهين، وفي الآخر هو في الوسطى، وفي الجمع أولئك وهؤلاء بالمد فيهما في أحد الوجهين، وفي الآخر هو في الوسطى، وأولالك وهؤلاك بالقصر فيهما، ثم ذكر نحو ذلك في المؤنث، وذكر أن الأصل في هذا الترتيب أن الكاف واللام والهاء زيادة على الكلمة التي هي اسم الإشارة، فمتى كانت الإشارة باسمها مجردا فينبغي أن يكون للمرتبة الدنيا، لأنها أقل ما يكون من اللفظ في هذا الباب، إلا أن يكون في اسم الإشارة لغتان إحداهما أمد من الأخرى، فربما حكم لذلك المد بحكم زيادة من الزوائد، وربما لم يحكم، وإن أضيف على اسم الإشارة من هذه الزوائد واحد أو ما حكم له بحكمه كان للمرتبة الوسطى، لأنه في المرتبة الثانية من اللفظ، وإن أضيف إليه منها اثنتان كان للمرتبة القصوى، لأنه في المرتبة الثالثة من اللفظ، وليس بعدها رتبة، ولذلك لا يجوز: هذلك ولا هؤلالك، فأما هؤلائك فإن المد (قد لا) يحكم له بحكم الزوائد كما تقدم، ولم يقل أولائلك بالمد وزيادة اللام، وكذلك هؤلائلك لا يقال بالمد وزيادة اللام، استثقالا لتوالي الكسرتين، وكذلك ذانلك وما كان مثل ذلك، هذا ما قال الشلوبين وكل ما رد به المؤلف مذهب الجمهور فناهض في رد هذا المذهب مع زيادة أنه مذهب مخترع لم يسبقه إليه فيما أظن أحد، وإنما جرأه عليه قاعدة إمساس الألفاظ أشباه المعاني وهي لا تنهض دون
سماع، والعجب من ابن الضائع سلم هذه الطريقة لكن/ جعل ذلك من باب الأولى لا على الوجوب، فالحق خلاف ما قال، إذ ليس في السماع ما يدل على خلاف ما قال والله أعلم، وأوقى أدلة المؤلف في مسألته دليل السماع، وما عداه فللنظر فيه مجال.
الأمر الثاني: فيما عسى أن يرد على الناظم في بعض أطراف المسألة وذلك سؤالان:
أحدهما: أنه نص على لحاق الكاف في البعد، ولم يبين اختلافها بحسب المخاطب من كونها لمذكر أو مؤنث مفرد أو مثنى أو مجموع، وهي ستة أحوال في الخطاب ضرورية، وكل واحد من تلك الأحوال يتصور الإشارة معه إلى مذكر أو مؤنث مفرد أو مثنى أو مجموع، فإنك قد تشير إلى مفرد مذكر مع اختلاف المخاطب إلى ستة الأحوال وإلى مثناه وإلى مجموعه كذلك، وقد تشير إلى مفرد مؤنث مع الأحوال الستة وإلى مثناه وإلى مجموعه كذلك، فهذه ستة وثلاثون وجها هي أصول الباب، وعلى ذكرها احتوى باب المخاطبة المترجم عليه في كتب النحويين وهو من ملح العربية الضرورية، لكن الناظم لم يعرج على بيانها، وكان من حقه ذلك فكان كلامه معترضا.
والثاني: أنه لما أشار إلى إلحاق "ها" التنبيه عند عدم اللام، ولم يقيد ذلك ظهر من قوة كلامه أن لحاقها مع وجود الكاف ومع عدمها على سواء في الجواز وليس كذلك، بل قد ذكر هو في "التسهيل" أن لحاقها المجرد من الكاف كثير في الكلام ومع الكاف قليل، بل عدم
لحاقها المجرد قليل، ولذلك لا تجد في القرآن الكريم اسم إشارة مجردا من الكاف وهاء التنبيه أيضا معا، ولما وقع فيه الفصل بين ها واسم الإشارة بـ "أنتم" أعيدت في أكثر المواضع كقوله:{ها أنتم هؤلاء حاججتم} ، {ها أنتم هؤلاء جادلتم} ، ولم يقع غير مكرر معه "ها" إلا في قوله {ها أنتم أولاء تحبونهم} ، فهذا دليل على قوة لحاقها وأن غيره قليل، وأما إذا لحقت الكاف فلحاق "ها" معها قليل وهو نص ابن مالك في "التسهيل"، وإذا كان كذلك فهذا الإطلاق غير محرر، وقد يعتر عن الأول بأن يقال: لعله سكت عن بيان اختلافها لما تقدم له مثل ذلك في فصل "إيا" من باب الضمائر، فقد أشار هنالك إلى الاختلاف وبين أن التفريع ليس مشكلا، وهو اعتذار ضعيف.
وعن الثاني: بأن قوة كلامه إنما يقتضي الجواز على الجملة، فإن التسوية بين الوجهين معنى زائد على مطلق جوازهما، كما أن التفضيل بينهما كذلك على صدق المختلفين في القوة والضعف، كما يصدق على المتساويين صدق الأعم على الأخص، وهذا ظاهر فلا اعتراض عليه.
وقوله: (إن قدمت ها)"ها" ليس بضمير نصب متصل، وإنما هي ها التنبيه تكتب منفصلة من الفعل، لأنها اسم ظاهر.
ثم قال:
وبهنا أو ها هنا أشر إلى
…
داني المكان وبه الكاف صلا
في البعد أو بثم فه أو هنا
…
أو بهنالك انطقا أو هنا
هذا هو النوع الثاني من نوعي الإشارة وهي الإشارة إلى المكان، فاعلم أن الإشارة إلى المكان لا تنفصل من/ الإشارة إلى الأشخاص وغيرها إلا بكون اسم الإشارة ظرفا، فإنك إذا أردت الإشارة إلى المكان من غير إرادة كونه ظرفا تجريه مجرى الأشخاص، فكما تقول: أعجبني هذا الرجل، وهذا الفعل كذلك تقول: أعجبني هذا المكان وهذا الزمان، فلا ينفصل المكان من غيره إذا لم تقصد فيه كونه ظرفا، فأما إذا قصدت كونه ظرفا فأشرت إليه، فالخاص بهذا النحو لفظ هنا، وما ذكر معه لا يشار بها إلا إلى المكان من حيث كونه ظرفا بخلاف هذا وأشباهه فإن الأمر فيها مطلق، فقد تشارك هنا فيما اختصت به نحو قوله تعالى:{إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} فإذا ثبت هذا فلا يشار بهنا ونحوه إلى المكان إلا بقيد كونه ظرفا لفعل، والناظم لم يأت بهذا القيد، بل أطلق القول بأنها يشار بها إلى المكان، وهذا الإطلاق غير صحيح لاقتضائه جواز قولك: هنا موضع زيد، في معنى هذا موضع زيد ونحو ذلك، وأيضا لما خص الإشارة إلى المكان بهنا ونحوه بدليل تقديمه المجرور لأن معناه الاختصاص كأنه قال: أشر بهذه الأشياء إلى المكان لا بغيرها اقتضى ذلك أنك لا تشير إليه بهذا وما ذكر معه فلا تقول: هذا موضع زيد ولا هذه بقعة عمرو ولا قعدت هذا المكان ولا ما أشبه ذلك وهذا كله غير مستقيم وقد احترز في "التسهيل" من هذا الاعتراض بقوله: ويشار إلى المكان بهنا لازم
الظرفية أو شبهها.
والجواب: أن الناظم قد أتى بما يشعر بقيد الظرفية، وذلك أن لفظ الزمان والمكان إذا أطلق في عرف النحويين يراد به المكان من حيث هو ظرف لفعل والزمان كذلك، إما على حذف المضاف كان الأصل ظرف المكان وظرف الزمان، وأما لأنه صار اسما له عرفا وقد يستعمل ذلك الناظم، ألا ترى إلى قوله:(وقد ينوب عن مكان مصدر) وأراد عن ظرف المكان، فهو إنما أراد هنا بالمكان ظرف المكان، وقد عرف أن أداة الإشارة بحسب المشار إليه فإن كان مفعولا فهو مفعول أو فاعلا فهو كذلك، أو ظرفا فهو على حسبه إذ هو قائم في الكلام مقامه، فإذا أشير إلى الظرف من حيث هو ظرف، فاسم إشارته ظرف مثله.
فقول: (وبهنا أو هاهنا أشر إلى داني المكان) معناه أشر إلى ما وقع من الأمكنة المحسوسة منصوبا على الظرفية أو في حكم المنصوب على ذلك، ويلزم أن يكون اسم الإشارة كذلك ظرفا، وإذا كان هذا مقصوده كان قد أتى بالقيد الصحيح للإشارة بهذه الأدوات، وعند ذلك يكون التنبيه على اختصاص هنا وأخوته بالمكان وإخراج ذي وذا وما ذكر معهما عن ذلك صحيحا إذ قد يشار بها إلى الأمكنة من حيث هي أمكنة ومن حيث تشخصها وإجراؤها مجرى الأناسي كزيد وعمرو/، فالأمر فيها أوسع، فقد وضح أن الناظم لم يغفل ما توهم المعترض إغفاله والله أعلم، ولنرجع إلى تفسير كلامه. فقوله:(وبهنا أو هاهنا أشر إلى داني المكان) الداني هو القريب، يعني أن هنا مجردا عن التنبيه، وهاهنا لاحقا له التنبيه أداتان من أدوات الإشارة إلى المكان القريب فتقول: جلست هنا وأكلت هاهنا، أي: في هذا المكان القريب وتقييده بالداني يدل على أن هاهنا تقسيما بحسب
القرب والبعد وأنهما عنده مرتبتان فقط من غير توسط، ويلزم على ما تقدم من مذهب الأكثرين إثبات مرتبة التوسط وأن لها هناك وللبعدي هنالك، وعلى طريقة الشلوبين يكون هاهنا في مرتبة التوسط كهناك، وكلامه هنا نص في رد ذلك المذهب، وقد تقدم ما يكفي فيه وتقييده الظرف بالمكان يدل على أن هذه الإشارة لا يشار بها إلى ظرف الزمان فلا تقول: صمت هنا، تريد هذا اليوم، وهذا إنما هو أكثر فقد يشار بهنا وهنالك وبهنا إلى الزمان، ومن ذلك قوله تعالى:{هنالك ابتلي المؤمنون} ولم يتقدم غير ذكر الزمان. وقوله: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} بعد قوله: {ويوم نحشرهم} ، ومن ذلك في الشعر قول الأفوه الأودى:
وإذا الأمور تعاظمت وتشابهت
…
فهناك يعترفون أين المفزع
ولما كان هذا قليلا لم يبن عليه وجعل هنا مختصا بالمكان.
ثم قوله: (وبهنا أو هاهنا) فخير بين الأمرين نص في جواز لحاق
ها لهنا، كما تلحق ذا وذي وأخواتهما، وكذلك الحكم فإن شئت قلت: قعدت هنا، وإن شئت قلت: قعدت هاهنا.
ثم ذكر القسم الثاني وهو قسم الإشارة إلى البعيد فقال: (وبه الكاف صلا في البعد) الضمير في "به" عائد على هنا والكاف مفعول بـ (صلا)، وأراد صلن بنون التوكيد، فأبدل للوقف وبه متعلق بـ (صلا) أيضا، وكذلك قوله:"في البعد" وهو على حذف المضاف، أي: في إشارة البعد أو في إشارة ذي البعد وهو في المكان البعيد، وقد يحذف أكثر من مضاف واحد كقول الله في القرآن حكاية {فقبضت قبضة من أثر الرسول} ، أي: من أثر حافر فرس الرسول، هكذا قالوا: فكذلك هنا، ويعني أن الإشارة إذا أردتها إلى المكان البعيد فإنك تصل بهنا الكاف فتقول: جلست هناك أو هناهناك والألف واللام في الكاف للعهد وأحال على الكاف المذكورة الحرفية، ثم قال:(أو بثم فه أو هنا) إلى آخره استدرك بهذا الكلام أدوات هي مثل هناك في الحكم فخير فيها، يعني أن ثم- بفتح الثاء- وهنا- بفتح الهاء- وهنا بكسرها مع تشديد النون فيهما- حكاهما السرافي وغيره، قال: والكسر اردؤها. وأنشد لذي الرمة:
هنا وهنا ومن هنا لهن بنا
…
ذات الشمائل والأيمان هينوم
وهنالك بالكاف مع اللام كلها يشار بها للمكان البعيد فتقول رأيت زيدا ثمت. قال تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} وتقول: رأيتك هنا أو هنا. ومنه قول الشاعر:
كأن ورسا خالطه اليرنا
…
خالطه من هاهنا وهنا
ويقولون: تجمعوا من هنا ومن هنا، وحكى الفراء أن تميما تقول: هاهنا زيد وأنشد:
تلقاه مقتسما تبدو خليقته
…
هنا وهنا وعقلي غير مقتسم/
وتقول: رأيتك هنالك من غير إدخال ها التنبيه وتخصيصه هذا اللفظ بالذكر مع أنه لما ذكره بغير لام خير في ها التنبيه دليل على أن العرب لا تدخلها عليه وإلا فلو لكان كذلك لكان ينبغي أن يقول: وبهنالك أو ها هنالك انطقن أو ما أشبه ذلك، كما قال قبل:(وبهنا أو هاهنا أشر) فإذا لا يجوز أن تقول: هاهنالك، وهذا موافق لما تقدم في النوع الأول وهو صحيح بخلاف ما تلحقه الكاف وحدها فإن "ها" يجوز دخولها عليه لقوله:(وبه الكاف صلا) أي: بما تقدم من هنا أو هاهنا فتقول: هاهناك كما تقول ها ذاك وهاتيك ولم ينبه الناظم على لحاق الكاف لهنا أو هنا، مع أنهما عنده إشارة إلى البعيد، كما نبه على لحاقها لهنا المضموم الهاء المخفف، فاقتضى أن الكاف لا يجوز أ، تلحقهما فلا تقول: هناك ولا هناك، وكذلك يقتضي ألا تلحقهما ها التنبيه، إذ لم يبين ذلك فلا تقول على هذا هاهنا ولا هاهنا.
فإن قلت: وما الدليل على هذا القصد؟ ولعله أغفل ذكر ذلك إحالة على جواز مثله في هنا وما تقدم.
فالجواب: أن سياق كلامه يعطي القصد إلى ما ذكر، فإنه ذكر في هنا لحاق الكاف وفي هنالك لحاق اللام والكاف بعد أن ذكر لحاق الكاف وحدها وفي قوله:"وبه الكاف صلا في البعد" مع ما تقدم له من ذلك في النوع الأول، فلو كان مراده الإحالة على ما تقدم لسكت عن ذكر ذلك في هنا وهنالك، ثم إن تركه لذكر ذلك في هنا المفتوحة الهاء والمكسورتها مع ذكره في هنالك، وهو معترض بينهما ما يشعر بأن ينك اللفظين هكذا جاء السماع بهما، فقد حصل من هذا أن هنا وهنا فيهما ثلاثة أحكام ذكرها: اختصاصهما بالبعيد، وأن لا تلحقهما ها التنبيه في أولهما ولا الكاف في آخرهما، وعدم لحاق اللام من باب أولى، أما كونهما للبعيد فإن الجوهري زعم خلاف ذلك، وأن معنى هنا معنى هنا. وقال في قولهم: تجمعوا من هنا ومن هنا، أي من هاهنا وهاهنا، وقد علم أن هنا للقريب، فكذلك عنده هنا، ولذلك بنى عليه جواز لحاق الكاف وهو الحكم الثالث، وكره على أنه محكي عن العرب فقال: وهنا- بالفتح والتشديد- معناه، هاهنا، وهناك: أي: هناك، وكذلك السيرافي جعلها مكسورة الهاء ومفتوحتها كهنا مطلقا، وقد حكى ابن مالك أيضا لحاق الكاف، ولحاقها على هذه الطريقة جار على قياس هنا المضموم المخفف، ولا يلزم عليه جواز لحاق اللام لأنها إنما تلحق بالسماع، الأ ترى أنها لا تلحق المثنى ولا أولاء الممدود، وما زعمه المؤلف من قلة لحاق الكاف مناسب لما لحقت به، إذ ليس هنا في الاستعمال كثير كهنا، بل هو قليل، فقل لحاق الكاف له لقلته هو في نفسه، وأما لحاق ها التنبيه فقد تقدم من حكاية الفراء عن بني تميم أنهم يقولون: هاهنا، ونص السيرافي على الجواز مطلقا كهنا، وإذا
كان كذلك فجميع ما زعم الناظم هنا غير ثابت، أما "ثم" فالحكم فيها ما ذكر من كونها للبعيد ولا تلحقها ها ولا الكاف فلينظر في صحة ما زعمه الناظم هنا وفي "التسهيل"، فلعل الأمر كما ذكره غيره والله أعلم.
وقوله: (أو بثم فه) يقال: فاه بالكلام يفوه به، أي لفظ به وما فهت بكلمة وما تفوهت بمعنى ما فتحت فمي بها، وهو مشتق من الفم إذ أصله فوه/.
***