الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعرب والمبني
النظر في هذا العلم قسمين
أحدهما: الأحكام المتعلقة بالكلم من حيث هي مفردات.
والثاني: الأحكام المتعلقة بها ن حيث هي مركبات. وجرت عادة الناس بتقديم النظر في القسم الثاني؛ لما فيه من الفائدة (العائدة) على الناظر في هذا العلم حسب ما يذكر في مقدمة التصريف إن شاء الله، ولكن هذا القسم يفتقر إلى تقديم مقدمتين واجب ذكرهما قبل الشروع فيه؛ لأن الأحكام التركيبية مبنية عليهما.
إحداهما: مقدمة الإعراب والبناء، والثانية: مقدمة التعريف والتنكير. فأما الأولى فهي التي شرع الآن فيها، وإنما كانت ضرورية ومفتقرا إليها؛ لأن المعاني الثلاثة اللاحقة بعد التركيب وهي الفاعلية والمفعولية والإضافة لا تتبين إلا بالإعراب، والإعراب والبناء وأنواعهما وعلامتهما وموضوعهما وهما المعرب والمبني.
وابتدأ بذكر المعرب والمبني وقدم الكلام على ما الإعراب أصل فيه من الكلام الثلاث وهو الاسم فقال:
والاسم منه معرب ومبني
…
لشبه من الحروف مدني
كالشبه الوضعي في اسمى جنتنا
…
والمعنوي في متى وفي هنا
وكنيابة عن الفعل بلا
…
تأثر وكافتقار أصلا
المعرب والمبني لفظان مشتقان من الإعراب والبناء، فبمعرفة الإعراب يعرف المعرب، وبمعرفة البناء يعرف المبني، فلابد من التعريف بهما على جهة التقريب فتقول: أما الإعراب فرسمه في "التسهيل" بأنه ما جيء به لبيان مقتضى العامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف. فإذا قلت: ضرب زيد غلام عمرو فالضم في زيد جيء به بيانا لما اقتضاه فيه ضرب المفعولية: والجر في عمرو جيء به بيانا لما اقتضاه فيه العامل الذي هو غلام ن الإضافة، وكذلك الحرف نحو: ضرب أخوك حما أبيه، وأكرم أهلوك ضاربي الزيدين، وكذلك السكون في نحو: لتقم ولا تضرب من لم يكرمك، وكذلك الحذف نحو: لم يغزو ولم يخش ولم يرم، فالحاصل أن هذا الأشياء التي يطلق عليها إعراب علامات على معان تعتور المعرب والألفاظ الدالة على تلك المعاني هي العوامل.
وأما البناء: فهو ما جيء به لا لبيان مقتضى عامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف، وليس بحكاية ولا إتباع ولا نقيل ولا تخلص من سكونين بهذا عرف البناء على "التسهيل".
فإذا قلت: جلست حيث جلست، وجئت من حيث جئت، فضمه حيث لم يقتضها العامل، وكذلك الفتح في أين والكسر في أمس، وكذلك السكون في نحو: كم رجلا عندك؟ وعلى كم جذع ببيتك مبني؟ وكذلك الحرف إذا قلت: جاءني الذين قاموا، ورأيت الذين قاموا، ومررت بالذين قاموا، ومثله الواو
في يا زيدون، والألف في يا زيدان، والياء في لا رجلين في الدار، وكذلك الحذف في نحو: اغزُ واخش وارم، وضربا واضربوا، واضربا واضربوا، هذه كلها ليست بإزاء معان اقتضتها العوامل بدليل أن العوامل المختلفة المقتضية لمعان مختلفة تَعتَوِرُ على هذه الكلم فلا يتغير آخره، وقد توجد هذه الأشياء ولم يدخل على الكلمة عامل نحو: ضرب واضرب واغزُ وما أشبه ذلك، وأما ما تحرز منه من الحكاية نحو: من زيدا؟ والإتباع نحو: الحمد لله، والنقل نحو: من أبوك، والتخلص من سكونين نحو: من الرجل، فليست بإعراب، إذ لم يقتضها عامل وليست ببناء أيضا، إذ ليس فيما هي فيه شبه حرف ولا مبنى عنده إلا لشبه الحرف.
ولنرجع إلى بيان لفظه فقوله: (الاسم منه معرب ومبني) يعني أن الأسماء على قسمين: قسم يسمى معربا وهو ما ثبت لآخره حكم لم يقتضه العامل.
وقوله: (منه معرب ومبني) لا يريد أن منه هذين الشيئين على أنهما قسم واحد، لأن ذلك يقتضي قسما آخر في الاسم غير ذلك، وحينئذ يصح التقسيم وهو غير موجود بالنسبة غلى ما تعرض لبيانه، فإنما الكلام على تقدير: منه معرب، ومنه مبني فيحصل بهذا التقدير قسمان، لكن حذف لفظ "منه" في الثاني لبيان المعنى مع الحذف، ونظيره قول الله تعالى: ((ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها
قائم وحصيد)) المعنى - والله أعلم- منها قائم ومنها حصيد. ومثله قوله تعالى: ((فمنهم شقي وسعيد)) وهو كثير.
والألف واللام في الاسم للتعريف الجنسي، أي: جنس الاسم منقسم إلى كذا وكذا.
ولما قسّم الاسم إلى هذين القسمين أخذ في بيان كل واحد منهما وابتدأ بالقسم الثاني وهو المبني لخروجه عن أصل الأسماء فهو آكد في البيان، وذلك أن أصل الأسماء الإعراب على ما سيذكر، وما كان منها مبنيا فعلى غير الأصل وما كان على غير الأصل فإنما يأتي كذلك لموجب، فأخذ الناظم يذكر موجب الخروج عن الأصل فقال:(لبه من الحروف مُدني) اللام متعلقة بمبنى ومن الحروف متعلق بمدن، ومدن صفه لشبه. والتقدير: ومنه ما بني لشبه مدن من الحروف، معنى مدن مقرب، يريد أن سبب البناء في الأسماء شبهها بالحروف الشبه المقرّب منها، والشبه الذي يلحق الأسماء على ضربين:
أحدهما: شبه الفعل، وحكم هذا أن يمنع الاسم ما يمتنع منه الفعل من التنوين والخفض بالكسرة، ولا يقوي هذا الشبه عند الناظم أن يبني لأجله الاسم كما زعمه قوم من النحويين، فإنهم أدخلوا شبه الفعل في أسباب البناء وذلك من أوجه ثلاثة:
أحدهما: كثرة موانع الصرف فإنه كثرة شبه بالفعل، قال به المبرد في فعال المعدولة نحو: يسار وجعار ويا فجار.
والثاني: تضمن معنى الفعل، وعبّر عنه السيرافي بالوقوع موقع الفعل
المبني، وهو رأي السيرافي والجُزولي وابن عصفور وغيرهم في بناء أسماء الأفعال المراد بها الأمر أو الماضي.
والثالث: الاستغناء باختلاف الصيغ لاختلاف المعاني عن الإعراب، قال به ابن مالك في بناء المضمرات، ولم ير ذلك الناظم هنا، بل موجب بناء أسماء الأفعال وبناء المضمرات عنده شبه الحرف على وجه يتبين في ثالث هذا البيت الذي نحن بسبيل الكلام عليه. وأما فعال المعدولة فموضع الكلام عليها باب مالا ينصرف، فهنالك يتبين -بحول الله- أن موجب بنائها شبه الحرف.
الضرب الثاني: شبه الحرف، وهذا هو الذي يؤثر في الاسم فيخرجه عن أصله من الإعراب إلى البناء، وهو الذي أخذ يتكلم فيه، وأتى له بأربعة أنواع:
أحدهما: الشبه الوضعي وهو كون الاسم وضِع وضْع الحرف، على حرف واحد أو حرفين على ما يتبين، فلما أشبهه من هذا الوجه حكم عليه بالبناء الذي هو أصل في الحرف، إعمالا للشبه المذكور، ومثله الناظم باسمى جئتنا وهما التاء ونا، فالتاء: موضوعة في الأصل على حرف واحد كاللام والباء والكاف والواو والهمزة وما أشبهها، ويدخل في ضمن هذا المثال كل ما وضع من الأسماء ذلك الوضع كالكاف في أكرمك، والياء في تضربين على مذهب سيبويه، والواو في ضربوا، والألف في ضربا. والنون في ضربن، وما كان مثلها، و "نا" في قوله:(جئتنا) موضوعة على حرفين، ثانيهما حرف لين وضعا أولياء كـ "ما" و "لا" و "يا". فإن شيئا
من الأسماء على هذا الوضع غير موجود، نص عليه سيبويه والنحويون بخلاف ما هو على حرفين وليس ثانيهما حرف لين، فليس ذلك من وضع الحرف المختص به، إذ من الأسماء ما هو على الحرفين نحو: يدٍ ودمٍ وهنٍ، وهي مع ذلك معربة، فلو كان وضعها على حرفين مطلقا معتبرا لكان يدٌ ودمٌ مبنيين؛ لأنهما موضوعان على حرفين: كمن وعن وإن ولم، وبهذا بعينه اعترض ابن جني على من اعتل لبناء "كم" و "من" و "ما" ونحو ذلك بأنها موضوعة على حرفين فأشبهت "هل" و "بل" و "قد".
فإن قيل: إن يدًا ودمًا ونحوهما لاماتها مقدرة بدليل ظهورها في التصغير والتكسير فليست بثنائية في الأصل فلذلك أعربت.
فالجواب: أن هذا التقدير أمر حكمي اضطر إليه عند الاحتياج إلى الحرف الثالث لإقامة بنية التصغير أو التكسير. ألا ترى أن "من" و "عن" ونحوهما على حرفيين حقيقة، فإذا سميت بواحد منهما تركته على حاله ولم تحتج إلى حرف ثالث كيدٍ ودمٍ، بخلاف ما إذا سميت "بما" أو "لا" أو في أو "لو" أو نحو ذلك مما ثانيه حرف لين فإنك لا تتركه على حاله بل تزيد عليه حرفا ثالثا حتى يدخل في بنات الثلاثة لفظا، ليخرج عن وضع الحرف الأصيل له إلى وضع الاسم الأصل، فعلى الجملة وضع الحرف المختص به إنما هو إذا كان ثاني الحرفين حرف لين على حد ما مثل به الناظم، فما أشار إليه هو التحقيق، ومن
أطلق القول في الوضع على حرفين وأثبت به شبه الحرف فليس إطلاقه بسديد، وعلى إطلاقه أخذه ابن النام، ويدخل في ضمن هذا المثال كل ما وضع من الأسماء على حرفين ثانيهما حرف لين نحو:"ذا" و "ذي" و "تا" و "تي" أسماء الإشارة و "ها" و "هو" و "هي" وما أشبهها، وكذلك يدخل له أسماء حروف التهجي نحو با تا ثا حا خا طا ظا: لأنها حالة الوقف على حرفين ثانيهما حرف لين، وهي أسماء حروف الكلم الملفوظ بها لا حروف كـ "لا" و "يا" فاقتضى كلامه أنها مبنية، وكذا يقول السيرافي وابن جني وغيرهما.
النوع الثاني: الشبه المعنوي، وهو كون الاسم وضع دالا على معنى ليس في الأصل إلا للحرف وذلك قوله:(والمعنوي) وهو مخفوض عطفا على (الوضعي) أراد وكالشبه المعنوي، فالأسماء التي وضعت لتؤدي معاني الحروف لما أدت معانيها صار لها بذلك شبه بالحروف فبنيت بناءها، ولما كانت معاني الحروف على قسمين: قسم وضعت العرب له "ما" و "لا" و "لن"، والشرط الموضوع له "إن" و "إذما" على ما ذهب إليه الناظم، وقسم لم تضع له لفظا وهو حقيق بذلك كالإشارة والتكثير، وكل إذا تضمنه الاسم بنى لشبه الحرف الحاصل فيه كونه دالا على معناه، أتى الناظم رحمه الله بمثالين يشير بهما إلى القسمين وهما "متى" و "هنا"، أما "متى" فإنها تضمنت معنى الهمزة في الاستفهام نحو قول الله
تعالى: "ويقولون متى هذا الوعد" -ومعنى "إن" في الشرط نحو قول الكندي:
متى ما ترق العين فيه تسهل
ويدخل تحت مقتضى هذا المثال جميع ما أدى معنى حرف الاستفهام "كمن" و "كم" وجميع ما أدى معنى الحرف الشرط نحو: "من" و "مهما" و "أيان" وما أشبهه وأما "هنا" فإنها قد تضمنت معنى الحرف، لكن العرب لم تضع لذلك المعنى لفظا وهو حقيق بذلك، كما وضع للتنبيه والاستفتاح وغيرهما من المعاني الزائدة على مدلولات الأسماء والأفعال، والمعنى الذي تضمنته "هنا" هو معنى الإشارة لكنهم استغنوا عن وضع حرفها بالاسم الذي تضمن معناها، فلم يضعوا لها حرفا يدل عليها، وإن كانت من المعاني التي تستحق أن يوضع لها حرف، ويدخل ضمن هذا المثال "كم" الخبرية، لتضمنها معنى الحرف وهو التكثير، ولم يضعوا للتكثير حرفا، وإن زعم ذلك ابن مالك في "رب" بل الأصح أنها للتقليل ويدخلها معنى الافتخار، وليس في تشبيه سيبويه لها بكم دليل على ما قال، ولم يتعرض في هذا النظم لتفسير معناها، فلذلك لم نتعرض لتحيق معناها، ولا لبيان حكمها، وهذه قاعدة في تضمن معنى الحرف صحيحة نبه عليها هنا وذكرها في "شرح التسهيل"، وأصلها -فيما أظن- للفارسي في
"التذكرة" نبه عليها في مسألة وضع (هذا) اسم الإشارة في أوائل الأبواب وخرج عن حكم البناء مع وجود هذا الشبه، أي: فأعربت مع أنها موضوعة على تضمن معنى الحرف وهو الهمزة في الاستفهام و "إن" في الشرطية، وكذلك خرجت عنه في الموصولة مع وجود الافتقار الأصيل المذكورة بعد هذا، وسيأتي بيان خروجها عن أصلها من البناء، وعلة ذلك إن شاء الله.
النوع الثالث: شبه النيابة عن الفعل بلا تأثر وهو كون الاسم نائبا عن الفعل في تأدية معناه والعمل عمله من غير أن يعمل في عامل ولا يقبل عمله فيه، وذلك قوله:(وكنيابة عن الفعل بلا تأثر) يعني أن الاسم يبني أيضا إذا أشبه الحرف هذا الشبه المذكور، والذي حاز هذا الشبه أسماء الأفعال فإنها مؤدية معنى الفعل على جهة اللزوم وعاملة عمله، وهو معنى النيابة عنه وهي لا تقبل أيضا عمل عامل فيها فتتأثر به ألفاظها وهو معنى قوله (بلا تأثر).
فإذا قلت: (صه) فهو مؤد لمعنى اسكت وعامل عمله، ولا يصلح أن يكون معمولا لعامل البتة، وكذلك (نزال) في النيابة عن انزل و "هيهات" في النيابة عن بعد و "أف" في النيابة عن اتضجر، ومع ذلك لا تصلح أن تكون معمولات لعام، ووجه الشبه فيها أنها اشبهت الحروف الناسخة للابتداء فإنها لازمة لتأدية معنى الفعل، لأن معانيها كمعاني الأفعال، وهي عاملة
عملها؛ لأنها تعمل الرفع والنصب، وأيضا لا تأثير للعوامل في ألفاظها لكونها لا تصلح أن تدخل عليها، هذا وجه الشبه بين هذه الأسماء وبين الحروف، وهو الذي أوجب البناء عنده على ما قرر في "شرح التسهيل"، والتأثر قبول التأثير فـ (تأثر) مطاوع أثر، ومعنى أثرت في كذا: جعلت فيه أثرا فتأثر؛ أي قبله وحصل فيه، وتحرز بقوله:(بلا تأثر) من المصادر النائبة عن أفعالها نحو (: ضربا زيدا، وزيد سيرا سيرا، فإنها وإن أدت معاني أفعالها النائبة هي عنها قابلة لأن تكون معمولة لعامل من جهة معانيها) فخرجت بذلك عن شبه إن، وما كلن من بابها فدخلها الإعراب، فالحاصل أن التأثر في هذا التفسير معنوي، وقد يقرر على نحو آخر يكون التأثر فيه أو عدمه بالنظر غلى الاستعمال فيال: إنا وجدنا أسماء الأفعال لم تستعمل قط معمول لعامل، (وإنما استعملت عاملة غير معمولة، فأشبهت "إن" بخلاف المصادر في نحو: ضربت زيدا ضربا، فلم يتقرر (فيها) بسبب ذلك شبه الحرف فأعربت وعلى هذا النحو قرر ابن الناظم هذا الشبه، وارتضاه بعض أصحابنا والنحو الأول عليه جرى بعض الشيوخ الأندلسيين، وكثير من الناس يفهم هذا الوضع على انه يتحرر بقوله:(بلا تأثر) من المصادر المنصوبة بالأفعال التي نابت عنها كما ذكر، لكن على معنى أن
هذه المصادر قد تأثرت ألفاظها بالعامل فأخرجها بقوله: (بلا تأثر). قال بعض الشيوخ: وهذا تفسير لا محصول له، فإن تقديره من شرط بناء الاسم، أعني الاسم النائب عن الفعل أن لا يكون العامل مؤثرا في لفظه، وهذا هو نتيجة وجوب البناء لا شرطه ولا سببه، فحاصل المعنى على هذا من شرط بناء اسم الفعل ان لا يكون معربا، وهذا محال. وهذا التفسير الذي فسر به شبه اسم الفعل للحرف أولى من تفسير من فسره بأنه تضمن معنى لام الأمر في اسم فعل الأمر. وأما غيره ن اسم الفعل الماضي كشتان، واسم الفعل المضارع كأوه، فمحمول على اسم فعل الأمر؛ ليجري الباب كله مجرى واحد، وهو رأي الفارسي وابن جني وغيرهما، فإن هذا المذهب فيه أمر مرجوح وهو جعل العلة خاصة ببعض المبني وسائره لا علة فيه إلا الحمل على ما فيه العلة بخلاف علة الناظم فإنها عامة في الجميع، وكون العلة عامة في معلولاتها أولى من كونها خاصة ببعضها ما وجد ذلك، لكن يرد على ما اختاره إشكال ما، وذلك أن النحويين استدلوا على هذا الصنف من الكلم من قبيل الأسماء بإسناد الفعل إلى بعضها في نحو قول زهير:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا
…
دعيت نزال ولج في الذعر
وقد تقدم ذكر ذلك، فإذا كان (نزال) هنا قد صح كونه مسندا إليه وصح تأثر معناه للعامل بدليل عمل الفعل فيه، فإذن قبول التأثر حاصل في جميع الباب لوجوده في فرد من أفراده، فقد استوى إذن (نزال) وبابه مع
(ضرباً زيدا) وبابه، إذ كانا معا يؤديان معنى الفعل ويعملان عمله وهما قبلان (لتأثر) العامل فيهما، فيقع الإشكال هنا من وجهين:
أحدهما: في قول الناظم "هنا" بلا تأثر" حيث نفى التأثر مع صحته ووجوده.
والثاني: ما يلزم على ذلك من إعراب أسماء الأفعال، كما أعرب (ضربا زيدا)، أو بناء (ضربا زيدا)، كما بنيت أسماء الأفعال.
والجواب: أن مثل "دعيت نزال" ليس الإسناد فيه بمعتبر كما تقدم والذي يستدل به على اسمية اسماء الأفعال غير ذلك، وقد ذكر فنزال وبابه مما يسند أبدا ولا يسند إليه البتة؛ لعدم قبوله للتأثر للعوال كما قرره الناظم، وإذا كان كذلك ظهر الفرق بين القبيلين، وأيضا فإن دلالة نزال وبابه على معنى الفعل ونيابته عن الفعل بحق الأصل، وبالوضع الأول كما كان ذلك في "إن" وأخواتها، فتمحض الشبه بخلاف (ضربا زيدا)، فإن نيابته عن الفعل عارضة بعد التركيب، فلم يؤثر البناء لعدم أصلية الشبه وفقد تمحضه.
فإن قيل: يخرج عن هذا على رأيه "دونك" و "وراءك" و "أمامك" ونحوها، فإنه قد عدها في أسماء الأفعال مع أنها معربة باتفاق على ما نقل ابن خروف، وإن نصبها بالأفعال التي نابت عنها كضربا زيدا فهي خارجة بقوله:(بلا تأثر) لصحة تأثرها للعامل ووجود ذلك فيها،
فكيف يجتمع هذا مع دعوى أنها من أسماء الفعل؟ .
فالجواب: أنها على رأيه أيضا مبنية لقوله في باب أسماء الأفعال والأصوات - بعد ذكر "دونك" وشبهه-: (والزم بنا النوعين فهو قد وجب) وما ظهر في أواخرها ليس بتأثير العامل ولا هي قابلة لأن تتأثر، وما نقل ابن خروف من الاتفاق لا يثبت، وكل ذلك سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
النوع الرابع: (الشبه الافتقاري) وهو كون الاسم وضع مفتقرا إلى ما يفسر معناه ويبينه، وهو المراد بقوله:(وكافتقار أصلا) ويريد أن الاسم إذا وضع على الافتقار بني كالموصولات، فإنها وضعت على الافتقار في فهم معانيها إلى صلاتها، فهي لا تستقل بالمفهومية دون أن يؤتي بما يبينها، كما أن الحروف كذلك، وكذلك المضمرات وضعت على الافتقار إلى مفسر يعود عليه، فهي متوقفة في فهم معانيها على غيرها، كما أن الحروف كذلك، ولذلك قيل في الحروف: إنها تدل على معنى في غيرها، وقيد الافتقار بكونه قد أصل، أي جعل أصيلا.
وأصل، أي ثبتت له الأصالة استظهارا على كل ما وضع في الأصل غير مفتقر، وإنما عرض له الافتقار حالة التركيب كالأسماء اللازمة للإضافة فإنها مفتقرة، ولذلك لزم تفسيرها بالمضاف إليه، وكذلك أسماء العدد كعشرين وثلاثين هي مفتقرة إلى ما يفسر معناها لكن بعد التركيب، وأما وضعها الأولى فعلى أن تكون غير مفتقرة، فلذلك لم يعتبر فيها الافتقار، فلم تبن لعروض السبب الموجب وعدم أصالته، وبهذا المعنى نجيب عن إعرابِ
الظروف نحو: صمت يوما، وأقمت شهرا، وإن توهم كونها مستحقة للبناء للشبه المعنوي؛ لأن ذلك ليس بحق الأصل، وإنما هو لاحق بعد التركيب، فلم يكن لذلك الشبه تأثير، فجاء على أصلها من الإعراب، ومن هذا النوع ما حدثنا به الأستاذ أبو عبدالله بن الفخار شيخنا -رحمة الله عليه- أن الشلوبين حكي عنه أنه قال في بعض مجالس إقرائه في "كم" إنها بنيت شبهها بالحرف في افتقارها إلى مفسر، فتقده بعض طلبته فقال له: يلزم على هذا بناء جميع أسماء الأعداد لتساويها في هذه العلة، فلما رأى الشلوبين ورود هذا النقد على عدم تقييد الافتقار بالأصالة زاد زيادة أخرج بها أماء الأعداد فقال: بنيت لشبهها بالحرف في افتقارها إلى مفسر لا يعقل لها معنى إلا به، فخرج قولك: عشرون وثلاثون وبابه، فإن لها في أنفسها معنى معقولا وهو المقدار، وإنما بقي بيان جنس ذلك المقدار فجيء بالمفسر لأجله، هذا معنى الحكاية، وحاصلها ما تقدم من أن المؤثر من الشبه إنما هو ما كلن في الاسم بحق الأصل، فبحق ما قيد الناظم الافتقار بالأصالة وبالله التوفيق.
ويخرج له عن مقتضى هذا الشبه -وإن كان موجودا- "أي" الموصولة فإنها معربة مع وجود شبه الحرف وهو الافتقار الأصيل، لكن عارضة شبه بالمعرب آخر فأعربت، وبيان ذلك في باب الموصول، فقد نص (هنالك) على خروجها عن هذا الحكم، وكذلك يخرج له "الذي" و
"التي" حالة التثنية، كما خرج "ذا" و "تا" في حالة التثنية أيضا عن مقتضى الشبه المعنوي، لمعارضة موجب الإعراب كما سيأتي في بابه إن شاء الله. وبقي في كلام الناظم سؤالان:
أحدهما: أن يقال: هل يشمل كلامه ما بني بناء عارضا، وعلى الجواز مع ما بني بناء لازما، وبحق الأصل كالبناء لقطع عن الإضافة، والبناء لتركيب الاسم مع "لا" أو مع (اسم) آخر كخمسة عشر وما أشبه ذلك، أم هو مقتصر به على المبني بناء لازما وبحق الأصل؟
والثاني: أن يقال: هذه الأنواع التي ذكر هل هي محيطة بجميع أنواع شبه الحرف أم لا؟ فإن لم تكن محيطة وإنما أتى بها تنبيها على الباقي فما الذب بقي له منها؟ وإن كانت محيطة فكيف يرجع إليها سائر الأنواع التي ذكرها الناس؟
والجواب عن الأول: أن الظاهر من كلامه أنه إنما أراد الكلام على البناء اللازم، وعلى المبني بحق الأصل لا الذي بناؤه عارض وعلى الجواز والدليل على ذلك أن جميع هذه الأنواع التي ذكر إنما تقتضي الأول لا الثاني، وأما الشبه الوضعي فظاهر، إذ ليس في المبنى على الجواز ما يوجد فيه هذا الشبه الوضعي فظاهر، إذ ليس في المبنى على الجواز ما يوجد فيه هذا الشبه في حال دون حال، ولا أيضا يوجد هذا الشبه مقتضيا لبناء جائز، وأما المعنوي فقد قيَّده بالمثال حيث قال:(والمعنوي في متى وفي هنا) أي: وكالشبه المعنوي الموجود في هذين المثالين، ولا شك أن الشبه في المثالين لازم وبحق الأصل، فـ "لا رجل" إذا عللنا بناءه بتضمنه معنى "
مِن" فليس التضمن فيه على حدِّ التضمن في مَتَى وهُنَا.
وأما الاستغنائي: فكذلك أيضًا، لأنَّ تقييده بقوله (بَلَا تأثُّر) منع أن يدخل فيه المبنى على لجواز (لأن المبنى على الجواز) صالحٌ للتأثر ألا ترى: أنَّا إذا سمينا بـ "نَزَالِ" فصلح للتَّأثر لم يبق بناؤه على اللزوم، بل صار فيه وجهان بلحظَين مُختلفين، فالبناءُ لأجل الشبَه بأصله، والإعرابُ اعتبارٌ بحاله من كونه قابلًا للتأثر للعامل، وليس اسمًا للفعل الآن، وأما الافتقاري فتقييده له بالأصالة يُخرج له بناء قبلُ وبعدُ وسائرَ ما يُبنى لقطعه عن الإضافة، وكذلك المُرَكَّبُ وسائرُ ما فيه بناء على الجواز مما يرجع بناؤه إلى علة الافتقار، وإذا تقرَّر هذا ظَهَرَ أنَّه لم يَتَعَرَّض لما البناء فيه عارضٌ وعلى الجواز.
فإن قلت: فمن أين يُؤخذ له وجه البناء فيه وهو لم يعرف به في واحدٍ من أفراد هذا الصِّنف؟
فالجواب: إن ذلك يرجعُ بالتأويل إلى ماذَكَرَ من أوجه شبه الحرف وعلى عدّ العارض من البناء كاللا الأصلي، وسترى ذلك في مواضعه من هذا الشرح إن شاء الله، لكن الناظم تَرَك ذكر الطريق إلى ذلك إحالة الناظر في نظمه على نَظَره، إذ ليس من ضرورياته.
والجواب عن الثاني: أن كلامه محتملٌ لأن يكون أراد أن أنواع شبه الحَرف غير منحصرة في هذه الأربعة إلا أنه ذَكَر ما ذكر منها
تنبيهًا على مالم يذكره، فكأنَّه قال: إن أنواع الشَّبَه متعددة منها هذه، ويحتمل أن يريد أن وجوه الشَّبه وإن تعددت معاقدها هذه الأربعة، فكل ما يذكر دونها فإليه يرجع من جهة المعنى.
والوجه الأول: أسعد بلفظة من جهة اتيانه فيها بالكاف التَّشبيهية؛ لأن المعهود في الكلام إذا قيل في التمثيل: مثل كذا، أو قولك: أو كذا أو نحو كذا، أن تريد التنبيه على أشياء لم تُذكر وإلا فقد كان الوجه الأول أن يقول: في كذا وكذا، ولا يقول في مثل كذا.
فقوله: (كالشَّبَهِ الوَضْعِيَّ
…
وَكنَيَابَةٍ عن الفعل .. وكافتقار أُصلًا) تنبيه على أشياء لم يذكرها، والكاف هنا نظيرة من جهة المعنى لقوله في باب الابتداء - صحين ذكر أوجهًا من الابتداء بالنكرة -:(ولْيُقَس ما لم يُقل) وأما الوجه الثاني: فهو -وإن كان مرجوحًا - محتمل في لفظه، وتكون الكاف داخلةً باعتبار تعدُّد المُثُل المذكورة، لا باعتبار مالم يذكره، وقد يفعلُ مثل هذا المتأخرون. ألا ترى إلى قول ابن الحاجب في كتابه "الفقهي": الصّام الواجب مع إدخال الكاف، لأن صيام التمتع في الحج وصيام فدية الأذى وجزاء الصيد داخل ذلك كله في الكفارات فيمكن أن يكون الناظم فعل مثل هذا.
فإن أراد الوجه الأول فلِشَبَه الحرف أنواع أُخر. منها: سقوط موجب
الإعراب قاله ابن أبي الربيع في بناء أسماء الأفعال، لأن الإعراب إنما يكون في اللفظ أمارةً على اعتقاب المعاني الثلاثة التي هي الفاعلية والمفعولية والإضافة، وهو الموجب للإعراب، كما أن الحُرُف كذلك لا تقبل معنى من تلك المعاني فبُنيت لهذا الشبه، ومثل ذلك أسماء العدد المُطلَقة لما كانت في حين العدِّ بها لا تقعُ فاعليةً ولا مفعولةً لم تكن على الحد الذي تستوجب معه الإعراب فصارت كالأصوات فبُنيت، وكذلك حُرُوفُ التَّهجِّي كألفاظ العدد سواد، وأسماء الأصوات داخلة أيضًا هنا، وأما ما يُحكى به منها كقَب وطِيخ فظاهر، وأما ما يكون زجرًا أو دعاء كَهلًا وتَشُؤْ فلأنها لا مدلول لها من الفعل كما لأسماء الأفعال مدلول من الفعل فكانت مثل قَب وطِيخ ونحو ذلك:
ومنها الوُقوع موقع الحرف علَّل به بعضهم بناء "غير" من قولهم: ليس غير، فإنها عنده موضوعة موضع "إلا" فرجعت إلى شَبَه الحرف؛ لأن للواقع شَبَهًا بالموقوع في موضعه، وأولى من هذا المثال في الموضع ما حُكِي في أسماء الأصوات الحكائية من قولهم: مِضِّ في حكاية صُويت، مُغْنٍ عن قولك "لا" ، فـ ، "مِضِّ" واقعة "لا" فقد يقال إنها بُنيت لذلك.
ومنها الإبهام في الأشياء كلها فليس (شبهُ اسم الإشارة والضمير بالحروف) والدخول عليها علَّل به السِّيرافيُّ بناء اسم الإشارة والضمير
فإنهما مبهمان يقعان على كل شيء من الحيوان وغيره، فهما داخلان على (كل شيء) فأشبها الحروف، لأن الحروف أعراضٌ تعترض في الأشياء كلها.
فإن قيل: كذلك لفظ "شيء" يقع على الأشياء كلها، فليس شَبَه اسم الإشارة والضمير بالحروف بأولى من شَبَهِها بلفظ شيء، بل هذا الشبه أولى لأنه شبه يردُّ إلى الأصل بخلاف شبَبَه (الحروف).
فالجواب: أنهما ليسا كشيء في الوقوع على الأشياء كلها، لأن شيئًا لازم لمسمَّاه في جميع الأحوال بخلاف اسم الإشارة والكناية والحروف فإنها أعراض تدخل في الأشياء كلها، ومثل ذلك عند السيِّرافي أيضًا. حيث بينت لإبهامها في الجهات السِّت وفي كل مكان، فتُبِّهت لإبهامها بإذ المُبهمة في الزمان الماضي كله، إلا أن بناءها عنده في حال دون حال كما بين في كتابه.
ومنها قلَّة التمكن واللزوم فموضع واحد، علَّل به السيِّرافي بناء الآن يريد عَدَمَ التصرف الذي فيها من جهة المعنى، إذ هي دالة على آخر الزمان الماضي وأول الزمان الآتي، وهذا شأن الحروف، لأنه لا يعدو موضعه الذي وضع له إلى غيره فهو لازم لموضع واحد، فبنى الآن ذلك، وكذلك "لدن" بنيت للزومها موضعًا واحدًا وهي تُعطى معنى عند ، إلا أنهم أعربوا "عند" حيث تَوسَّعوا فيها فأوقعوها على ما بحضرتك، وعلى ما بَعُدَ عنك، وإن كان
أصلها الحاضر، تقول عندي مال، وإن كان بخُراسان وأنت ببغداد، وقد كان حقٌّ "عند" البناء لولا ما لحقها من التصرف، بخلاف "لّدُن" فإنها لا يُتجاوز بها حضرةَ الشيء، فلذلك بُنيت وعلّل بهذا بعضهم بناء "قط"، وقد بمعنى "حَسْب"؛ لأنهما لم يتمكنا في الكلام تمكُّن الأسماء، ولم يُستعملا استعمالها فأشبها ما وُضع كذلك من الكلم وهو الحرف.
ومنها شَبَه ما أشبه الحرف كفَعَال المعدولة في غير الأمر، فإنها أشبهت فَعال في الأمر في الوزن والتأنيث والعدْل فبُنيت بناءها. ومنها الوقوع موقع ما أشبَهَ الحرف كالمُنادى المفرد، لوقوعه موقع المضمر على قول من يُعلِّل بناءه بذلك، ووجه كون هذين النوعين من أنواع شبه الحرف أن يقال: أما الأول: فلأن "فَعَال" حين أشبهت ما أشبه الحرف صارت مشبهة للحرف بواسطةٍ، ومُشبِهُ مِشْبِهِ الشيء شبيه للشيء.
وأما الثاني: فلأن الوقوع موقع الشيء يُوجب للواقع شَبَهًا بالموقوع موقعه، فإذا كان الموقوع موقعه الحرف فالواقع يُشبه الحرف؛ لأن مشبه المشبه مشبهه، وردَّ هذا ابن عصفور بأن قول القائل بُنيت لشبه مَشبه الحرف إقرار بأن البناء يكون لغير مشبه الحرف، وهو مشبه ما أشبه الحرف.
والجواب: أنه راجع في الحقيقة إلى نوع من أنواع الشبه، وأيضًا فالشبه يكون قريبا ما لذي تقدم، ويكون بعيدًا وهذا كم ذلك البعيد، ويُعْدُهُ لا يمنع وجوب الحكم له، فهذه أنواع من شَبَهِ الحرف وَقَعَ التنبيه من الناظم عليها بالكاف، على فرض أنه أراد الوجه الأول، وإن أراد الوجه الثاني فيُمكن ردُّ هذه الأنواع إلى ما ذكره. أما الأول فراجع
بالحقيقة أو بالتَّأويل إلى النوع الثالث مما ذكره الناظم. أما أسماء الأفعال فقد تقدم ذلك فيها، وأما أسماء الأصوات فراجعة إليها بالشبه، فما هو منها للدعاء أو للزجر ظاهر الشبه باسم الفعل، وماعدا ذلك محمول عليه، لأن الجميع تصويت أو نقول: إنها اجتمعت في كونها غير متأثرة للعامل، إذ لا تُستعمل فاعلة ولا مفعولة ولا مضافة، فحُكِم لها بالبناء كهذا الشبه، وهذا أولى من مطلق الحمل، لأن العلة هنا عامة وفي الأول خاصة، وعلى هذا يجري الحكم في أسماء العدد المطلقة، وفي حروف الهجاء، فإذا سقوط موجب الإعراب هو معنى عدم التأثر للعامل، غير أن العرب أهملت ها هنا جزء العلة ولم تُعمله في أسماء الأفعال على رأي الناظم، إلا مع النيابة عن الفعل على ما قرَّره ولو قيل بإسقاط الاعتبار في الحقيقة لأن "غير" في قولهم: ليس غير إنما لنى لقطعه عن الإضافة كقبلُ وبعدُ، وليس الكلام هنا في البناء العارض وإن سلمنا ذلك فهو في الحقيقة تضمين لغير معنى "إلا" فرجع إلى النوع الثاني.
وأما الثالث: فغير محتاج إليه، لأن المضمرات والمبهمات قد تقدم دخولها في النوع الأول والثاني وكذلك في الرابع، وأيضًا فمن الأسماء ما هو كذلك وليس بمبنيٍّ، وذلك "كل" و "بعض" ونحوهما. ألا ترى أن مدلولها عرض يُعترض به في الأشياء كلها، ويتحقق ذلك في "بعض" حيث وافقت "من" التبعيضية في معناها، حتى قال لنا بعض شيوخنا: لا فرق بين قولنا أكلتُ الرغيف، وقولنا أكلت بعض الرغيف من جهة المعنى، وإنما فرق بينهما الأحكام اللفظية، فأنت ترى أن هذا السبب غير مطّرد، فبحق ماترك ذكره الناظم.
وأما الرابع: فإن قلة التمكن وإن كانت أصلًا في الحروف قد وجدت في الأسماء، ولم يكن ذلك موجبًا للبناء نحو قولك: جئت من عل، وأشياء من هذا النمط، ويكثُرُ في الظروف، فقلَّة التمكن إن سلمنا أنها تقتضي البناء ففي بعض دون بعض، ألا أن نحو: صاد وقاف كم حروف الهجاء إذا جُعل اسمًا للسورة جاز فيه الإعراب والبناء، وعلل البناء بقلة التمكن، وإذا كان كذلك فما كان كذلك فما كان من العلل مُطَّرِدًا في معلوماته أولى مما كان غير مُطَّرِد، وقد وجدنا لبناء "الآن" علة مُطَّرِدة غير ما ذكره السيِّرافي، وهي تضَمُّن معنى الحرف فعند الفارسي وابن جِنِّي أنها َضُمنت معنى ألف ولامٍ سوى التي ظهرت عليها، وبها حصل تعريفها لا بالظاهرة، فإنها زائدة حسب ما نصَّ عليه الناظم في باب المُعرَّف بالأداة، وعند الزَّجاج أنها بُنِيت لما فيها من معنى الإشارة، فإذًا لا يتعين ما قاله السيِّرافي في مذهب الناظم، لإمكان قوله بما سواه، وكذلك "قطُّ" لا يتعيَّن تعليل بنائها بقلَّة التمكن، فإنها عند السيِّرافي اسم فعل نائب عن فعل الأمر في أول أحواله، فمعنى: قطْك درهمان، بمعنى لِيَكْفِك درهمان، أو اكتفِ بدرهمين، وكذلك "قد" بمعناها إذا قلت: قَدْك درهمان.
وأما الخامس والسادس: فقد ظَهَر رجوعها إلى ذكره، ففَعال المعدولة في غير الأمر راجعة في بنائها إلى بناء المعدولة في الأمر. والمنادى المفرد راجع إلى بناء المُضمر. وإن قلت: إن المنادى بني
لتَضَمُّنه معنى حرف الخطاب زال هذا الشغب.
فإن قيل: إنما الكلام هنا في المبني اللازم البناء بأصل الموضع والمنادى ليس كذلك. فالعذر في ذلك ما قاله بعضهم من أن المنادى وإن كان أصل وضعه على التمكن لما وجب له البناء من غير تخيير كان كغير المتمكن، غير أنه شبيه بالتمكن، ولذلك بُني على حركة، وقد جَنَحَ بنا الكلام في هذا الفصل، لكن فما لابد لشرح كلام الناظم فلنثن عنانه.
* * *
ولما تكلَّم على أحد قسمَيْ الاسم وهو المبنى وذكر أنواع موجب البناء فيها أخذ في تعريف القسم الثاني الذي هو قسم المُعرب فقال:
ومُعْرَبُ الأسماء ما قد سَلِمَا
…
مِن شَبَهِ الحرف كأرضٍ وسما
تعرض في هذين المزدوجين لمسألتين:
إحداهما: الإشارة إلى أن الاسم المُعرب بحق الأصل، ليس أصله غير ذلك لخلوه من العلل الموجبة للبناء، ولاشك أن السلامة من العلل هي الأصل فالإعراب هو الأصل من غير تخيير في ذلك، وهو مذهب الجمهور وهو صحيح فإنا وجدنا باب المُعربات من الأسماء أوسع بابًا من المبنيات بكثير
وقد ثبت أن الكثرة لها الأصالة، فالإعراب إذًا هو الأصل، وأيضًا فحقيقة الاسمية إنما تظهر غالبًا في الأسماء المعربة، وأما الأسماء المبنية فليست بأسماء حقيقة، إلا القليل منها، بل هي أشبه بالحروف منها بالأسماء، وإنما قيل فيها أسماء لوجود بعض أحكام الأسماء فيها.
وأما ابن خَروف فقرر أن الإعراب فرعٌ في الأسماء، بمعنى أنه أمرُ طارئ على الكلمة، لأن الكلم كلها قبل التركيب أصلها الوقف، وهذا صحيح وهو الأصل الأول، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في الأمر الطارئ بعد التركيب، من الإعراب أو البناء، أيهما الأصل في الأسماء؟ فقال يمكن الأمران في الأسماء أن يكون أصلها البناء، ثم دخلها الإعراب للمعاني الطارئة عليها، وما بُني منها بَقيَ على أصله، أو يكون أصلها الإعراب، لأنها لم تُجعل علامات للأشخاص والأجناس إلا للإخبار عنها وتصرفها في الإسناد للمعاني المحتوية عليها، والمانع من إعرابها تضمنُها معاني الحُروف أو شبهها بها أو خروجها عن أصلها ونظائرها، ثم جعل الأظهر القول بأن أصلها الإعراب، وهذا في الحقيقة راجع إلى الوِفَاقِ، حيث رجَّح ما ذهب إليه غيره إلا أن في كلامه نظرًا فتأمله، فليس موضع ذِكِرِه هذا الموضع.
المسألة الثانية: حَصرُهُ البناء العارض للأسماء فيها أشبه الحرف لأنه ذكر أولا أن بناء ما بُني لأجل شبه الحرف، ثم ذكر هنا أن
المُعرب ما سَلِمَ عن شبه الحرف، فاقتضى أن شيئًا من الأشياء غير شبه الحرف لا يُبنى له الاسم، وهذا مذهب سيبويه. ألا تراه قال: وأما الفتح والضم والكسر والوقف فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنى ليس غيرُ نحو: "سوف" و "قد" ، فموجب البناء عنده شيء واحد، وقد اختلفت عبارات الناس في عدِّ موجبات البناء، فالمحققون على أن ذلك واحد كما ذكر الناظم، وإياه عضَّد الشَّلوين حتى حمَل قول سيبويه ليس غير، على أنه يرجع إلى الأيماء غير المتمكنة، والمعني عنده أن علة البناء في الأسماء إنما هو عدم تمكنها، أي مضارعتها للعديم التمكن من الكلم الثلاث وهو الحرف ليس غير، ثم تأول ما كان غيره خارجًا عن شبه الحرف.
ومنهم من عدَّ وجهين وهما شبه الحرف وتضمن معناه كالفارسي وابن جِنِّي وهو بمعنى الأول، لأن تضمن معنى الحرف من أنواع شبه الحرف، إذ ليس شبه الحرف أتيا على وجه واحد كما تقدم، فهذا غير مخالف لمذهب سيبويه.
ومنهم من ذكر ثلاثة أوجه فزاد خروج الاسم عن أصله ونظائره، ذكر ذلك ابن خروف ونبَّه به على بناء "أي" عند سيبويه إذا سيبويه إذا حذف المبتدأ من صِلَتِها نحو: أكْرِم أيهم أفضل.
ومنهم من عدَّ أربعة أوجه كالسِّيرافي حيث قال: البناء في الأسماء إما لمشابهة الحروف، أو للتعلق بها، أو لوقوع المبنى موقع فعل مبني، أو لخروجه عمَّا عليه نظائره. ولعله يردي بالتعلق بالحروف تضمُّنها لمعانيها أو الإبهام في الأشياء وقد تقدَّم ذلك.
ومنهم من عدَّ خمسة أوجه كالجُزُوليِّ، وهي شبه الحرف وتضمُّن معناه والوقوع موقع المبني، ومضارعة ما وقع موقع المبني، والإضافة إلى المبني وقد عُدّت أكثر من ذلك حتى إن بعد تلاميذ شيخنا الأستاذ أبي عبدالله الفخَّار -رحمة الله عليه- رفعها إلى اثنين وعشرين وجهًا، لكنها إذا ضُبطت ترجع إلى أقل من ذلك. وحاصل ما زادوه على ما ارتضاه الناظم ثمانية أوجه: الوقوع موقع الفعل المبني ومضارعته وكثرة موانع الصرف والإضافة إلى مبني، والتركيب، والقطع عن الإضافة، والخروج عن النظائر (وكثرة الاستعمال).
فأما الأول: فعَنَوا به أسماء الأفعال، وقد تقدَّم أن الوقوع موقع الشيء يُوجب للواقع شَبَهًا بالموقوع موقعه، وإذا كان كذلك فشَبَهُ الفعل لا يوجب أكثر من مَنْع الصرف، أما أن يوجب البناء فلا، وإنما الذي
يوجب البناء مضارعة ما لا يكون إلا مبنيا، وهو الحرف بخلاف الفعل فإنه قد يكون معربا، ومما يدل على ان مضارعة الاسم للفعل بوقوعه موقعه لا يوجب بناء أن مضارعته له قد تكون بتضمنه معناه، وهو معنى وقوعه موقعه وشبهه به في اللفظ، فإن كان وقوعه موقع الفعل المبني يوجب البناء فليكن شبهه به في اللفظ موجبا للبناء أيضا، كما إذا سميت رجلا بالفعل الماضي نحو: انفعل وافتعل وفَعل وفُعل وما أشبه ذلك، إذ لا فرق بين الشبه بالمبنى والوقوع موقعه في إيجاب البناء، كما لم يكن بينهما فرق بالنسبة إلى الحرف، لكن العرب إنما يوجب شبه الفعل عندها منع الصرف فقط، ولا يوجب بناء البتة فكذلك وقوعه موقعه لا يوجب بناء، وأيضا قد وجدنا الأسماء تقع موقع الفعل المبني، ولا يوجب ذلك بناء، وذلك اسم الفاعل إذا كان صلة للألف واللام فإنه غنما عمل هنالك وإن كان بمعنى الماضي لوقوعه موقعه كذلك ينبغي أن يبنى، لكن العرب لم تفعل ذلك، فدل على أن الوقوع موقع الفعل المبني لا يوجب بناء البتة، بهذا المعنى استدل الشلوبين على عدم صحة ما ذهب إليه السيرافي وغيره. وأما المضارعة لما وقع موقع المبني فذلك في: جعار وسَفَار، حيث أشه نزال، وهذا الشبه يقول به الناظم على طريقته في نزال، لأن مشبه المشبه مشبه كما تقدم وأما كثرة موانع الصرف فهو مذهب المبرد في جعار ونحوها قال: بنيت لأنها معرفة مؤنثة لا تنصرف فزادها العدل ثقلا. وليس بعد منع الصرف غلا البناء ورد عليه السيرافي
بأن صحراء إذا سمّينا بها مؤنثا لم تبن اتفاقا وكذلك مساجد مسمى به مؤنث، ولا يزاد فيها على منع الصرف، لأن كثرة موانع الصرف إنما هي كثرة وجود شبه الفعل، وشبه الفعل لا يوجب البناء فعلى هذا كل ما استدل به بطلان الوجه الأول، به يستدل على بطلان هذا الثالث.
وأما الإضافة إلى المبنى فخارجة عما نحن بسبيله، لأنها لا توجب بناء لطروئها بعد التركيب، وكلامنا في المبنى بحق الأصل، وإنما الإضافة إلى البنى -إن ثبت علة تجوز البناء لا توجبه، وأيضا فالبناء معها لشبه الحرف على ما سيذكر في مواضعه إن شاء الله تعالى. ومثاله قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وكذلك التركيب نحو: لا رجل، وخمسة عشر، والقطع عن الإضافة نحو "لله الأمر من قبل ومن بعد". وأما الخروج عن النظائر، وذلك في "أي" فهو الحقيقة رجوع إلى الأصل من البناء؛ لأن أصل أي أن تكون مبنية كسائر ما تكون بمعناه من الموصولات أو
أسماء الشرط وأسماء الاستفهام، إلا أنها أعربت لتمكنها بالإضافة، فلما حذف المبتدأ من صلتها إذا كانت موصولة وصار المضاف إليه أي كالعوض منه توهموا زوال الإضافة منها، فصيروها إلى أصلها من البناء وخروجها عن نظائرها، إنما معناه أنها انفردت بحسن حذف المبتدأ من صلتها إذا كان هو الضمير العائد عليها دون سائر المواصلات حيث قبح ذلك فيها، وإن دخل تحت هذا الوجه بناء "حيث" لانفرادها دون سائر ظروف المكان بالإضافة إلى الجملة لزوما، فشبه الحرف أولى أن يعلل به بناؤها، كما ستأتي في هذا الباب إن شاء الله وأيضا فهذا الوجه مما يكون البناء معه في حال دون حال.
أما في "أي" فعلى رأي سيبويه وغيره، وأما في "حيث" فعلى رأي السيرافي، فانظر فيه في باب المجاري من "شرح الكتاب" وأما كثرة الاستعمال وذلك في "لهى أبوك" على ما قاله بعضهم، فلم يعتبرها المؤلف علة بناء، إذ لم يثبت لكثرة الاستعمال إلا التغيير بالزيادة والنقصان كلم يك، ولم أبل، وأيش، ويابن أم، أو بتغيير الحركات نحو: يا زيد بن عمرو وما أشبه ذلك، ولم نر شيئاً من ذلك بني لكثرة الاستعمال، فكذلك "لهى أبوك"، فهم وإن غيروه -وكان أصله: لله أبوك- لم يبنوه لما ذكره بل لأمر آخر وأولى من
ذلك ما قاله المؤلف من أنه ضمن معنى التعجب الذي كان حقه أن يوضع له حرف، فإذا تقرر هذا لم يستقر من هذه الأوجه المتقدمة سببا للبناء في الأسماء إلا الحرف، وهو ما أراد الناظم رحمه الله تقريره.
وقوله: (من شبه الحرف) أراد به الشبه في أي نوع كان من تلك الأنواع التي ذكرها، وهذا إن قلنا: إنه قصد حصر الشبه في تلك الأربعة أو الشبه العام فيما ذكر، وفيما لم يذكر مما تقدم لنا ذكره في شرح كلامه، أو لم يتقدم فيه ذكر، وهذا إن قلنا أنه قصد بإتيانه بالأنواع الأربعة قصد التمثيل لا الحصر، ومثل ما سلم من شبه الحرف بمثالين، وهما أرض ومعناه بيّن، وسما وأصله سماء -بالمد- من السمو وهو الارتفاع، لكن قصره للشعر، ووقع في نسخ مضبوطا بضم السين على وزن هُدى وتُقى، وعليه شرح ابن الناظم وهي لغة في الاسم، إذ فيه خمس لغات: اِسم واُسم -بكسر الهمزة وضميها- وسِم وشُم -بكسر السين وضم مع النقص- وهذه هي اللغات المشهورة في النقل، واللغة الخامسة هي التي في كلام الناظم نقلت عن ابن الأعرابي، وذكرها ابن السيد، وهي غريبة، واستشهد عليها بما أنشده الفارسي عن أبي زيد:
فدع عنك ذكر اللهو واقصد بمدحه
…
لخير معد كلها حيث انتمى
لأعظمها قدرا وأكرمها أبا
…
وأحسنها وجها وأعلنها سُما
بوما أنشده الزجاج وغيره من قول الآخر:
الله أسماك سما مباركا
…
آثرك الله به إيثاركا
ولا دليل في هذين الشاهدين على إثبات هذه اللغة، لأن سُما في الموضعين منصوب، فيم كن أن تكون الألف ألف التنوين كيد ودم، إذا قلت رأيت يدا ودما، وإنما أتى الفارسي بالشاهد الأول على أن سُما منقوص، وكذلك الزجاج والجوهري في الشاهد الثاني، وفسر القالي سُما على غير هذا المعنى فقال: سُما الرجل: بعد ذهاب اسمه، فلم يجعله مرادفا للاسم وأراد ببعد ذهاب الاسم انتشار ذكره في الأقطار وطيرانه كل مطار. وأتى بمثالين ولم يقتصر على مثال واحد ليعلم أن الاسم المعرب منه ما يظهر في آخره الإعراب كأرض، ومنه ما يقدر في آخره كسُما، فإن جميع ما آخره ألف ليس بمعرب لعدم ظهور الإعراب فيه، وهذا المعنى يشير إلى صحة ما ثبت في النسخ من ضم السين سُما، إذ لو أتى بسَما الممدود لم يحصل ذلك المعنى بالمثالين لاستبعاد أن يكون المثال الثاني لغير معنى زائد لأنه قلما يفعل ذلك، ويمكن أن يكون الضبط -بفتح السين- على ما يقع في بعض
النسخ، ويكون المثالان لمعنى واحد أو يكون كالضم في القصد، لأن سماء الممدود لما قصر للشعر صار من قبيل المقصورات كفتى ورحى. ألا ترى أنك تكتبه بالياء إن كان من ذوات الياء نحو: قضى مقصور قضاء، فهو إذا كسما المضموم السين في إعطاء المعنى المقصود.
ثم قال:
* * *
وفعل أمر ومضى بنيا
…
وأعربوا مضارعا إن عَرِيا
من نون توكيد مباشر ومن
…
نون إناث كيرعن من فتن
لما فرغ من بيان قسمة الاسم إلى المعرب والمبني أخذ في بيان ما للفعل من ذلك، ثم ما للحرف فقسّم الفعل أيضا غلى المعرب والمبني، فأما المبني منه فصيغة الأمر وصيغة الماضي، وذلك قوله:(وفعل أمر ومضى بنيا) وألف بنيا ألف تثنية، وهو ضمير عائد على الفعلين: فعل الأمر وفعل الماضي وتقديره: وفعل أمر وفعل مضى بنيا، وفعل المُضي هو الفعل الماضي وأضافه إلى المضي لأنه من صفته، فمثال (فعل) الأمر: قم واضرب وكل واشرب ومثال الفعل الماضي: قام وضرب واقتدر واستكبر وما أشبه ذلكن فهذان مبنيان حتما كما ذكر، لا إعراب يدخلهما البتة؛ وإنما بُنيا لفقد العلة الموجبة للإعراب فيهما، وذلك التفرقة بين المعاني الحادثة بعد التركيب وهي التي إذا اختلفت على الكلمة لم يتبين بعضها من بعض إلا بالإعراب كالفاعلية والمفعولية والإضافة في الأسماء، فلما كانا كذلك لم يكن لدخول الإعراب فيهما معنى فبنيا لذلك، وما ذهب إليه في الأمر هو مذهب
البصريين، وذهب الكوفيون إلى أنه معرب مجزوم. وأصل ارم واخش واغزُ عندهم لترم ولتغز، فليس أصل بناء، وإنما هو محذوف من المضارع، والمضارع معرب. وأدل دليل عندهم على ذلك حذف آخره وجريانه في ذلك على المضار، والظاهر مذهب البصريين من كونه مبنيا.
وأصل بنائه لوجهين:
أحدهما: أن ما زعموا من الحذف دعوى.
والآخر: أن طريق الحذف أن يكون للتخفيف، وإذا كان كذلك، فلو أرادوا التخفيف لحذفوا اللام ويبقى حرف المضارعة، فحذفهم له وإتيانه بالهمزة بعيد عن مقصد التخفيف، وأيضا حذف الجازم وإبقاء عمله محذور كما كان ذلك في الجار الذي هو نظيره.
وأما حذف الآخر: فإن هذا البناء كما اطرد في الأمر وأشبه المجزوم لموافقته له في السكون، وحركات الفعل وسكونه حكم له بحكمه فحذف آخره المعتل، كما حكم للمبني في النداء وفي باب "لا" بحكم المعرب على ما سيأتي عن شاء الله تعالى.
وأما المعرب منها فهو الفعل المضارع، وذلك قوله:(وأعربوا مضارعا) أي: فعلا مضارعا، يريد أنهم لم يعاملوه معاملة أخويه
فبينوه بل أعربوه كما أعربوا الاسم، وضمير أعربوا عائد على العرب، وهو من قبيل ما يفسره السياق، إذ لم يتقدم للعرب ذكر، لكن لما كان هذا العلم تقريرا لكلامهم صار ذلك قرينة تدل على أنهم المقصودون بالضمير، فصار كقوله تعالى:((حتى تورات بالحجاب))، والمضارع مشتق من المضارعة وهي المشابهة، وإنما سمي مضارعا لمضارعته الاسم، أي مشابهتهن وهذه المضارعة هي التي أوجبت الإعراب فيه عند البصريين، إذ ليس فيه عندهم موجب له كما كان في الاسم موجب، بل هو في ذلك كأخويه الأمر والماضي، إلا أن العرب من شأنهم مراعاة الشبه، فيعاملون المشبه معاملة ما شبه به بعض الأحكام ولما كان المضارع شبيها باسم الفاعل من جهة اللفظ، لجريانه عليه في الحركات والسكنات وعدد الحروف مطلقا، وفيما زاد على الثلاثة شابهه أيضا لجريانه معه في تعيين الحروف الأصول والزوائد، وتعيين محالها ماعدا الزيادة، ومن جهة المعنى؛ لن كل واحدة منهما يأتي بمعنى الحال وبمعنى الاستقبال أعرب بالحمل عليه، كما عمل اسم الفاعل بالحمل على المضارع، وهذا الوجه أحسن ما سمعت في تعليل إعراب المضارع من شيوخنا وما رأيته مما ذكره النحويون، وإياه كان يعتمد شيخنا القاضي أبو القاسم الحسنى رحمه الله. وللبصريين في تقرير في تقرير هذا الشبه أوجه لا حاجة بنا إلى إيرادها. واعلم أن قول الناظم:(وأعربوا مضارعا) ليس فيه ما يدل على أصالة الإعراب في المضارع ولا على فرعيته فيه، بل قال:(وأعربوا) كما قال في الأمر والماضي "بنيا" أي بنتهما
العرب، فترك التنبيه على ذاك لنها مسألة في محل النظر بعد، ولأنها غير ضرورية ولا ينبني ليها في اللسان العربي فائدة، وقد اختلف أهل البصرتين فيها، فأهل البصرة ذهبوا غلى أن الإعراب في المضارع فرع دخله بالشبه المنبه عليه وأهل الكوفة ذهبوا غلى أنه أصل فيه، والسبب في دخوله فيها كالسبب في دخوله في الاسم من التفرقة بين المعاني الحادثة بعد التركيب، فكما أن الإعراب في الاسم للتفرقة بين الفاعلية والمفعولية والإضافة في قولك: ما أحسن زيدٌ إذا نفيت، وما أحسن زيدا! إذا تعجبت، وما أحسن زيدٍ؟ إذا استفهمت، كذلك هو في الفعل إذا قلت: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. للتفرقة بين النهي عن الفعلين مطلقا وبين النهي عن الجمع، وبين الاستئناف والتخيير في الفعل الثاني والنهي عن الأول، ثم حمل في البابين ما لا يفتقر إلى التفرقة على ما يفتقر غليها، ومن هذا المذهب الأخير استنبط المؤلف مذهبا ثالثا هو أضعف المذاهب، فلم نطوّل بذكره، ثم شرط في إعراب المضارع شرطا فقال:(إن عريا من نون التوكيد .. إلى آخره) يقال: عري الرجل من ثيابه يعري عرية وعرْوة، إذا تجرد منها فهو عار وعريان، والمرأة عريانة، هذا أصله، ثم يستعمل في غير ذلك مجازًا
كهذا الموضع، ويعني أن إعراب الفعل المضارع مشروط بسلامته من لحاق نونين، إحداهما: نون التوكيد المباشرة، ونون التوكيد على وجهين: خفيفة وثقيلة وكلتاهما مرادة، ولذلك أطلق زلم يقيد بواحدة دون أخرى، فالخفيفة نحو قول الله تعالى:((لنسفعا بالناصية))، ((وليكونا من الصاغرين))، والثقيلة: نحو قوله: ((فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))، والمباشر: وصف للنون على اعتبار التذكير، ولو اعتبر التأنيث فيه لقال مباشرة، والحروف كلها تذكر وتؤنث باعتبار أنه لفظ وأنه كلمة وأنشد سيبويه على التذكير:
كافا وميمين وسينا طاسما
وأنشد على التأنيث:
كما بينت كاف تلوح وميمها
وإنما قيد النون بالمباشرة وهي الملامسة والملاصقة من غير حائل لأن نون التوكيد تارة تكون مباشرة للفعل من غير فاصل يفصل بينهما كالمثل المتقدمة، تارة تكون غير مباشرة؛ إما حقيقة كالشديدة مع ألف الاثنين إذا
لحقت الفعل نحو: هل تضربان يا زيدان؟ ، وإما حكما كما إذا لحق الفعل واو جماعة أو ياء واحدة مخاطبة نحو: عل تضربُنَّ يا زيدون؟ وهل تضربِنَّ يا هندٌ؟ فإن النون وإن باشرت الفعل لفظا، هي غير مباشرة حكما إذ أصله هل تضربون وهل تضربين؟ لكن حذف حرف العلة لالتقاء الساكنين وبقيت الضمة دالة على الواو المحذوفة، والكسرة دالة على الياء، كذلك فالفاصل هنا في حكم الموجود.
فأما المباشرة: فهي التي تحرز منها، وإن المضارع إنما يعرب إذا سلم منها، وأما غير المباشرة: فلم يتحرز منها، لأن لحاقها عنده وعدم لحاقها سواء، فالمضارع إذا لحقته معرب كما لو لم تلحقه.
فإذا قلت: هل تضربان؟ وهل تضربون، وهل تضربين؟ إلا أن علامة الإعراب وهي النون حذفت لاجتماع الأمثال، وهذا المذهب الذي ذهب إليه هو أحد المذاهب الثلاثة في المسألة لأنهم اختلفوا في الفعل المضارع إذا لحقته نون التوكيد، هل يرجع إلى أصله من البناء أم يبقى على حالة من الإعراب؟ على ثلاثة أقول:
أحدها: أنه باق على حالة من الإعراب مطلقا، ولا تأثير للنون التوكيدية فيه، لكن يصير الإعراب فيه مقدرا، ونظيره في الأسماء المضاف إلى ياء المتكلم، ومن الناس من يطلق على الفعل هنا أنه لا معرب ولا مبني كالمفرد المضاف إلى ياء المتكلم، فله حال بين حالين.
والثاني: النون، تؤثر فيه المنع من الإعراب فيصير إلى أصله من البناء مطلقا وعلى هذا المذهب أكثر النحويين.
والثالث: مذهب الناظم، وهو التفرقة بين ما لحقه ألف اثنين أو واو جماعة أو ياء واحدة مخاطبة وبين غيره، فالأول باق على أصله الثاني وهو الإعراب، والثاني منتقل عنه إلى أصله الأول وهو البناء، وإليه ذهب الخِدَبُّ على ما حكاه عند تلميذه ابن خروف، وأن نون الرفع إنما حذفت لاجتماع النونات، قال: وهو الأظهر من قول سيبويه؛ لأنه لو حذف للبناء لم يحتج إلى علة اجتماع النونات، يعني أن سيبويه علل حذف النون باجتماع النونات.
ألا تراه يقول: وإذا كان فعل الاثنين مرفوعا فأدخلت النون الثقيلة حذفت نون الاثنين لاجتماع النونات. وقال: نحو ذلك في فعل الجميع ولم يعلل بغير الاستثقال باجتماع النونات، ثم نظر ذلك بقراءة من قرأ:((أتحاجوني)) و ((فيم تبشرون)) ول كان الحذف للبناء لعلل به، فهو كان الأحق في الموضع، فدل على أن مذهبه فيه عدم البناء بخلاف ما لم تلحقه ألف ولا واو
ولا ياء، فإنه قد نص في باب المجاري على أنه مبني فثبت أن مذهب الناظم هو مذهب الكتاب، وقد رجح ما ذهب إليه بأن المؤكد بالنون إنما بنى لتركيبه معها، وتنزله منها منزلة صدر المركب من عجزه وذلك منتف من يفعلان وأخويه هذا مذهب المحققين، ويدل على صحته أن البناء المشار إليه إما للتركيب وإما لكون النون من خصائص الفعل، فيضعف بلحاقها سبه الاسم. والثاني: باطل لأنه مرتب على كون النون من خصائص الفعل، ولو كان ذلك مؤثرا لبنى المجزوم، والمقرون بحرف التنفيس والمسند إلى ياء المخاطبة لأنها مساوية للمؤكد بالنون في الاتصال بما يخص الفعل، بل تأثير هذه الثلاثة أشد من تأثير النون، لأن النون وإن لم يلق لفظها بالاسم معناها به لائق بخلاف هذه الثلاث، فإنها لا تليق بالاسم لفظا ولا معنى، لن الفعل معها لم يبن، فدل على أن بناء المؤكد بالنون إنما هو للتركيب، إذ لا قائل بثالث، وإذا كان للتركيب، إذا لا قائل بثالث وإذا كان للتركيب لم يكن فيه ليفعلان وأخويه نصيب، لأن الفاعل البارز خارج، وثلاثة أشياء لا تركب وأيضا فإن الوقف على نحو: هل تفعلن؟ بحف نون التوكيد وثبوت نون الرفع، فلو كان قبل الوقف مبنيا لبقي بناؤه؛ لأن الوقف عارض فلا اعتداد بزوال ما زال لأجله، كما أنه لا اعتداد بزوال ما زال لأجله، كما أنه لا اعتداد بزوال ما زال لالتقاء الساكنين نحو: هل تذكر الله؟ الأصل: تذكرنْ، فحذفت النون الخفيفة لالتقاء الساكنين وبقيت فتحة الراء بين العوضين، فلو كان ليفعلن ونحوه قبل الوقف بناء لاستصحب عند عروض الوقف، كما استصحب بناء هل تذكرن؟ عند عروض التقاء الساكنين، هذا ما قال المؤلف في الاستدلال على مذهبه في إعراب ما
لحقه ألف واو أو ياء، ثم لحقته نون التوكيد واستدل غيره على بناء ما لم يلحقه ذلك مع النون بأنها إذا وقعت على الفعل المعتل الآخر، وقد حذف منه الآخر للجزم رد معها ما قد كان حذف فنقول في نحو: لتغز ولترم ولتخش، لتغزون ولترمين ولتخشين، وكذلك الموقوف الشبيه بالمجزوم نحو: اغز وارم واخش، فلو كان الإعراب باقيا مع لحاق النون لكانت علامة الجزم باقية، ولا يصح أن يقال: إن الإعراب مقدر مع لحاق النون؛ لأن ذلك وإن تأتي في المعرب بالحركة والسكون غير متأت في المعرب بالحرف أو بحذف الحرف، فثبت إذا ما ارتضاه الناظم مذهبا، ويكفي من الاستدلال هذا المقدار وبالله التوفيق. وقد اقتضى هذا الشرط الذي شرطه الناظم في إعراب المضارع في قوله: إن عرى من كذا مفهوما، وهو أنه إن لم يعرَ من نون التوكيد المباشر فلا يعربونه، وضد الإعراب البناء فالذي لحقه نون التوكيد المباشر إذا مبني نحو: هل تقومن؟ وهل تخرجن؟ وقد تقدمت الدلالة على كونه مبنيا، وإنما بني لأحد أمور أربعة:
أحدها: أن الفعل لحقه ما لا يلحقه ما لا يلحق إلا الأفعال، فقوى فيه جانب الفعلية، فرجع إلى أصله من البناء، وكان ذلك أقرب من خروجه عن أصله إلى الإعراب لأجل الشبه بالاسم والرجوع إلى الأصل يكون بأدنى سبب.
الثاني: أنه ركب مع النون وصير معها كصدر المركب مع العجز والتركيب سبب من أسباب البناء كما في خمسة عشر وحضر موت.
الثالث: أن الفعل لما لحقته النون فخصصته من آخره بالمستقبل بعد عن شبه الاسم، إذا المضارع إنما أعرب لشبهه بالاسم في الإبهام والتخصيص
بالحرف من أوله، فلما اختص هذا من آخره بَعُدَ عن شبه الاسم بذلك فعاد إلى أصله من البناء، والرجوع إلى الأصل يكون بأدنى سبب، وهذا الوجه لم يطلع عليه المؤلف، وهو فيما أحسب لابن جني في "الخصائص".
الرابع: ذكره ابن أبي ربيع وهو أن الفعل عند لحاق النون له أشبه صيغة الأمر فقولك: لتفعلن مثل قولك: افعلن، وكذلك ما أشبهه فبنى لمعارضة هذا الشبه شبهه بالاسم، كما بنى إذا لحقته نون جماعة المؤنث لشبهه بالماضي كما يأتي بحول الله وقوته.
النون الثانية نون جماعة المؤنث وهي المرادة بقوله: (ومن نون إناث) وهو معطوف على نون توكيد المتقدم، فكأنه يقول: أعربوا مضارعا إن عرى على من نون الإناث، فإذا سلم المضارع من هذه النون بإطلاق كان معربا نحو: يقوم زيد، وهند تخرج وما أشبه ذلك، وكذلك يعرب وإن لحقه ألف اثنين نحو: الزيدان يقومان ويقومان الزيدان، أو واو جمع نحو: الزيدون يقومون، ويقومون الزيدون أو ياء الواحدة المخاطبة نحو: يكرمني ويذكرني وما كان نحو ذلك، فإنما يشترط في إعرابه السلامة من هاتين النونين خاصة.
ونون الإناث هي النون الموضوعة للدلالة على جماعة الإناث كناية عنهن نحو انون في قُمن وضربن وما أشبه ذلك وقد أعطى مفهوم هذا الشرط في قوله: إن عرى من كذا، أن الفعل إذا لم يعر من نون الإناث فليس بمعرب، إذا لم يكن معربا فليس إلا البناء، وهذا صحيح فإن النون عند الجمهور كذلك.
فإن قلت: هن يضربن أو يخرجن، فالفعل هنا مبني خلافا لمن زعم أنه باق على إعرابه لوجود سبب الإعراب فيه، وهو شبهه
بالاسم كما تقدم، وإنما تغيَّر إعرابه لشغل كحله وهو آخر الفعل بالتسكين لأجل النون اللاحقة، كما تغير إعراب الاسم المضاف إلى ياء المتكلم لشغل محلِّه بالكسرة لأجل الياء وهذا مذهب السُّهيلي وبن طلحة ولم يرتضه الناظم، ووجه ما ذهب إليه أن الضمير المرفوع يتنزل مع ما يتصل به منزلة الشيء الواحد، ولذلك سكن آخر الماضي عند لحاق ضمائر الرفع عدا الألف والواو؛ لأنه لو لم يسكن لتوالي أربع متحركاتٍ فيما هو كالشيء الواحد، وذلك غير موجود، فلهذا لم يمكن أن يبقى المضارع معربًا؛ لأن الإعراب لا يكون وسطًا، ولا يمكن أن ينتقل إلى النون لأنها متحركة فصار المضارع بذلك شبيهًا بالماضي في أن لحق المضارع وهو الآخر الذي كان متحركًا قبل لحاقها، وقد كان أصل المضارع البناء فصار لهذا السبب إلحاقه بأصله من البناء أقرب ، ولا يمنع ذلك الاسم خروجه عن الإعراب لما أشبه الحرف.
وقيل: إنما بُني لتركيبه مع النون؛ لأن الفعل والفاعل كالشيء الواحد
فإذا انضم إلى ذلك أن يكون مستحقًا للاتصال لكونه على حرف واحد تأكد امتِزاجُهُ، وجعله مع ما اتصل به شيئًا واحدًا ، ولكن اقتضى هذا التعليل أن يبنى المتصل بألف الضمير أو واوِه أو يائه ، غير أنه مَنَعَ من ذلك شَبَهُه بالاسم المثنى والمجموع على حدِّه، فيضربان ويضربون يشبه ضاربان وضاربون، فلم يُبْنَ كما مَنَعَ من بناء "أي" ، وإن وجد فيها شبه الحرف شبهها ببعض وكلًّ.
وقيل إنما بُنِيَ المضارع لنقصنا شَبَهِهِ بالاسم من حيث لحقه ملا يلحق الاسم؛ لأن هذه النون مختصة بالفعل. فما لحقته من الأفعال إن كان مباينًا للاسم مثل الماضي زادت بهام باينته، وإن كان مشابهًا له نقصت مشابهته، وأتى لهذه النون بمثال وهو قوله:(يَرُعْنَ من فُتِن) ويَرُعْنَ: من راعه يروعه رُؤعًا -بالهمز- ورووعًا -بغير همز- عن ابن الأعرابي ورَوَّعه: إذا أفزعه بجماله وكثرته. قال الجوهري: راعني الشيء أي أعجبني ، ورجلٌ أروع وامرأة روعاء ورائعة أيضًا من نسوة روائع.
ويقال: فُتِن الرجل فهو مفتون، إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله وفَتَنَتْه المرأة: إذا أذهلته بحبها ، وحقيقته عند الخليل جَعَلت فيه الفتنة.
وإذا قلت: أفْتَنَتْهُ فمعناه صيَّرته ذا فتنة، وقد يجيئان بمعنى واحد، ومنه ما أنشده أبو عبيدة لأعشى هَمْدان:
لئن فتنتني لَهْيَ بالأمس أفْتَنَتْ سعيدًا فأمسى قد قلا كل مسلم
ويعني أن هؤلاء النسوة لحُسنهن وجمالهن يَرُعن من فُتِنَ بهن.
وقد اقتضى كلام الناظم أن المضارع فيما سوى هذين الموضعين معرب، إذ لا موجب للبناء فيه، فلم يَرتَضِ إذًا مذهب من ادَّعى سبب بناء غير ذلك، وقد وجد لبعضهم دعوى البناء لغير ذلك في بعض الموضع، فمنها وُقوع المضارع موقع الأمر في نحو:(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا التِّي هِيَ أحْسَنُ) فليس معناه الجزاء، أي إن قلت لهم فَعَلوا، لأنه لو قال: فلم يفعلوا.
قال الجَرْمِيُّ: فوقع موقع أفعلوا ، وأفعلوا غير متمكن فبنى المضارع لوقوعه موقعه، كما بُني المنادي لوقوعه موقع أنت، ومنها ما كان
من نحو: (فاليَوم اشْرَبْ) ونحو (فلا تَعْرفْكُمُ العَرَبُ) مما سَكَن للضرورة قد جوَّز فيه أنه مردود إلى أصله من البناء اضطرارًا ، كما ردَّ غير المُنصرف إلى أصله من الانصراف اضطرارًا ، وانظر في الحادي عشر من "التذكرة"، فالناظم لم يرَ في هذين إلا الإعراب ، أما نحو:(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا) ، (وَقُلْ لِعِبَادِيَ الذِّينَ آمَنُوا يُقِيمُوا)
* * *
وكل حَرْفٍ مُستحقٌ للبِنا والأصلُ في المَبنِي أن يُسَكَّنا
ومنه ذُو فَتحٍ وذُو كَسْرٍ وضَم كأينَ أمْسِ حَيثُ والسَّاكِنُ كم
لما أتمَّ الكلام على ما للفعل من الإعراب والبناء، أخذ في بيان ما
للحرف من ذلك، فأخبر أن الحروف كلها مبنية لا تستحق إعرابًا: لأن الإعراب إنما يُحتاج إليه ليُفرق به بين المعاني المعتورة على الكلمة اللاحقة لها بعد التركيب ، والحروف خلِيَّة عن لحاق المعاني لها سوى ما كان لها بأصل الوضع ، فلم تستحق أن يدخلها إعراب فبُنيت لذلك.
وفي إتيانه بلفظ (مُستحِقٌ) هنا نَظَرٌ، وهو أنه إنما قَصَدَ أن يبين أن الحروف كلها مبنية، وليس فيها ما يعرب، كما كان ذلك في الاسم والفعل فكان الواجب عليه أن يأتي بلفظ يُعطي هذا المعنى، لكنه لم يفعل ذلك من جهة أن لفظ (مُستحِقٌ) إنما يُعطي أن البناء من حق الحروف ولا يدل حصوله له. ألا ترى أنك تقول: فلانٌ الشريف مُستحِقٌ للإكرام، وإن لم يحصل إكرامٌ أصلًا، وتقول الأجير مُستحِقٌ الأجرة وإن يُعطه. ومن هذا مسألتنا الفعل المضارع هو مستحق للبناء من حيث أن فائدة الإعراب من التفرقة بين المعاني التركيبية غير موجودة فيه على مذهب البصريين، ومع ذلك فقد أُعرب. فلم يستلزم استحقاقه للبناء حصوله، ومن ذلك "أي" فإنها مستحقةٌ للبناء لتضمنها معنى الحرف في الشرط والاستفهام ، ولافتقارها إلى غيرها في باب الموصولات ثم لم يحصل لها البناء، وينظر إلى هذا المعنى ما قاله جماعة من العلماء في قوله تعالى:(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنًا مُتَعمِّدًا فَجَزَؤُه جَهَنَّمُ) الآية. قالوا المعنى ذلك جزاؤه، إن جازاه، إذ لا يلزم من تقدير الجزاء للمُجازي حصوله، أي هو مستحق لهذا النكال الشديد، ويبقى حصوله مسكوتًا عنه فالحاصل أن الاستحقاق للشيء لا
يلزم منه حصول ذلك الشيء
فقول الناظم: (وكل حرف مستحق للبنا) لا يعطي أن الحروف مبنية وهو المقصود بالذكر، فلفظ الاستحقاق هنا فيه ما ترى.
والجواب: أن لفظ الاستحقاق وإن لم يدل بمنطوقه على حصول المستحق فمقتض بمعناه حصوله؛ إذ لا يطلق على المستحق أنه مستحق حتى يكون مقتضيا للمستحق، ويدل على ذلك الاشتقاق. ألا ترى أن الاستحقاق مشتق من قولك: لفلان عليك حق، أي شيء واجب له أخذه منك ويقال: استحق فلان حقه أي: استوجبه، فإذًا لفظ الاستحقاق يقتضي بمعناه الحصول، لكن قد يعارض معارض فلا يحصل المستحق لأجل ذلك المعارض، لا لعدم اقتضاء اللفظ له ويتبين ذلك في المثل المتقدمة، فالفعل المضارع كان حقه البناء إلا أن شبه الاسم عارض فيه فلم يحصل لأجله، وكذلك "أي" عارض فيها شبهها بالمعربات، فمنع ذلك اقتضاء شبه الحرف البناء فيها، وكذلك قوله تعالى:((فجزاؤه جهنم)) يقتضي الحصول وإلا لم يسمَّ جزاء. لكن جاء في الشريعة ما منع اقتضاء اللفظ معناه حصولا، وهو ما ثبت من أن الذنوب سوى الكفر لا تقتضي نفوذ الوعيد بدخول النار لقوله تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء)) وقد استفادت طائفة من علماء السلف من الآية نفوذ الوعيد على القاتل حتما نظرا إلى ما ذكر، وجعلوا هذا الذنب مخصوصا من عموم الآية الأخرى لنص هذه الآية على أن القاتل يدخل النار بلابد، فمسألتنا مثل هذه المسائل في اقتضاء حصول المستحق، والمعارض في الحروف مفقود، فلم يكن مانع من حصول البناء فيها، فهي إذا مبنية بمقتضى الاستحقاق والله أعلم.
وقد حصل من كلام الناظم في هذا الفصل أن المعرب من الكلم صنفان: ما سلم من الأسماء من شبه الحرف، وما سلم من لحاق إحدى النونين من الأفعال المضارعة، وأن المبني منها خمسة أصناف، الحروف كلها، وما أشبهها من الأسماء، والفعل الماضي، وفعل الأمر، وما لحقه إحدى النونين من الأفعال المضارعة.
ولما فرغ من ذكر المبني من الكلم شرع في ذكر أنواع البناء وهي الضم الفتح والكسر والسكون، وابتدأ بذكر ما هو الأصل من ذلك فقال:(والأصل في المبنى أن يسكنا) المبنى هنا لفظ عام يشمل جميع ما تقدم من المبنيات اسما كان أو فعلا أو حرفا.
ويعني أن التسكين في المبنى هو الأصل، يريد تسكين آخره؛ لأن البناء ضد الإعراب، والإعراب أصله أن يكون بالحركات كما سيأتي، فضده الذي هو البناء ينبغي أن يكون على ضد الحركة وهو السكون، فلذلك قال: إن الأصل في المبني التسكين.
ثم قال: (ومنه ذو فتح وذو كسر وضم) أي: ومنه ما خرج عن أصله من السكون فبني على حركة، والحركات إما فتحة نحو: أين، أو كسرة كـ "أمس" أو ضم كـ "حيث"، وأما ما بنى على السكون الذي هو الأصل فنحو "كم" وقد حصل في ضمن هذا الكلام أن أنواع البناء أربعة: وهي الضم والفتح والكسر والسكون، وهي تناظر أنواع الإعراب التي يذكرها بعد هذا.
ثم يبقى في كلام الناظم النظر في مسائل:
إحداها: أن قوله: (والأصل في المبنى) يحتمل أن يكون أراد بالمبنى جميع ما يدخله البناء، عارضا كان أو ازما، فتكون الألف واللام فيه للتعريف الجنسي، وهي التي يراد بها الشمول والعموم كقوله:((والعصر إن الإنسان لفي خسر)) فيكون معنى كلامه أن الأصل في كل ما دخله البناء ولو في الة ما أن يسكن آخره، ومنه ما يخرج عن هذا الأصل، لأحد الحركات الثلاث، ويحتمل أن يريد بالمبنى ما تقدم ذكره، وهو ما البناء لازم له، فتكون الألف واللام فيه للعهد الذكرى كقول الله تعالى:((فعصى فرعون الرسول)) فيكون المعنى أن الأصل فيها جرى مجرى الحرف، في لزوم البناء أن يسكن ويخرج عنه ما البناء له عارض، وقد يترجح هذا الاحتمال الثاني بتميله بما هو مبنى بناء لازما كـ "أين" و "حيث"، لكن الأولى أولى؛ لن النحويين إذا ذكروا خروج المبنى من أصل السكون إلى الحركة لعلة مثلوا بالعارض البناء واللازمة، فيبعد أن يكون الناظم ذكر أحد القسمين دون الآخر مع استوائهما في الحكم الذي يذكره.
المسألة الثانية: أنه رتب السكون مع الحركة رتبتين، فجعل السكون في رتبة الأصالة، وجعل أنواع الحركة في رتبة ثانية تليها قال:(والأصل في المبنى أن يسكّنا) فهذه رتبة، ثم قال:(ومنه ذو فتح) غلى آخره، فهي رتبة ثانية جعلها تلي الرتبة الأوى وهي في الحقيقة ثلاث رتب: رتبة السكون، ورتبة جنس الحركة، ورتبة نوعها، فترك الرتبة الوسطى، وهي رتبة جنس الحركة، ولا بد منها؛ لأن الحركة المخصوصة وهي الضمة أو الفتحة أو الكسرة نائبة بالطبع عن الحركة المطلقة، التي هي أعم من كل واحدة منها، وإنما تركها لبيان معناها بين الرتبتين، وأيضا لما بين أصالة الرتبة الأولى وهي رتبة السكون، اقتضى ذلك فرعية ما عداها وأنها ليست على الأصل، وما خرج عن الأصل فلعله، فإذا التحريك آت لعلة، والضم أو الفتح أو الكسر آت لعلة، وهذا يدعو إلى بيان علل مطلق التحريك وعلل نوعه، فأما علل مطلق التحريك فثماني علل في الغالب.
إحداها: التقاء الساكنين نحو: "أين" و "حيث" و "كيف" و "أمس" إذ لو بنى مثل هذه على السكون لالتقى ساكنان على غير شرطهما، وذلك محذور.
والثانية: كون المبني على حرف واحد، وهو معرض لأن يبتدأ به ولا يبتدأ بالساكن، فحرك لذلك نحو واو العطف وفائه وهمزة الاستفهام.
والثالثة: حصول المزية للمبنى على ما هو من نوعه نحو: ضرب وسائر الأفعال الماضية فإنها بنيت على حركة للمزية التي لها على فعل الأمر، وذلك وقوع الماضي موقع المضارع في الشرط، وموقع الاسم في الصفة والحال وخبر "إن" و "كان" وأخواتها، وموقع المفعول الثاني من ظننت، والثالث من أعملت وأخواتها، بخلاف فعل الأمر؛ فإنه لا يقع في واحد من هذه المواضع.
والرابعة: طروء البناء نحو: قبل، ويا زيد، ولا ريب، فإن هذه الأشياء لما كان البناء طارئا عليها أرادوا ألا يجعلوها في درجة ما أصله البناء، وأصل هذا أن يقال: إنما بنيت على الحركة للمزية التي لها على ما لم يعرب قط.
فإن قيل: إنما بني "قبل" وما ذكر معه على حركة لالتقاء الساكنين، قيل: لا؛ لأنك تقول: أول ويا حكم، ولا رجل، فيكون البناء على حركة فلو كان لالتقاء الساكنين لبنى هذا على السكون لانتفاء العلة.
والخامسة: الشبه بالمعرب نحو: "عل" المعرفة، فإنها بنيت على حركة عند قوم لشبهها بـ "عل" النكرة، وقد يظهر أن محصول هذه العلة مع ما قبلها واحد، وإن كان سيبويه قد فرق بينهما فقال في قبل وبعد والمنادى: وإنها بنيت على حركة؛ لأن كلا منها متمكن صير في موضع بمنزلة غير المتمكن.
وقال في: "عَلُ" أنه ضارع المتمكن ولم يقل فيه: أنه متمكن صُيّر في موضع كغير المتمكن مع أنهم أعربوه حالة التنكير، والمعرفة أصلها النكرة فاستوى مع قبل ويا رجل في هذا المعنى؛ لأن كل واحد منهما معرب حالة التنكير.
والجواب: أن "عَلُ" المنقوص إنما استعمل معرفة في حال القطع عن الإضافة، وأما في حالة الإضافة الظاهرة فلم يستعمل إلا متمما فقالوا: من عليه ولم يقولوا: من عَلُهُ. فالمنقوص المعرفة إذا لم يعرب قط، فلذلك شبهة عندهم بـ "عُلُ" النكرة المنقوص مثله، ولم يقل إنه أعرب في حالة ما؛ لأنه قد أعرب عل النكرة، كما يقال في: يا رجل المقصود، أنه قد أعرب في حال التنكير؛ لأن "عل" المعرفة هنا ليس فرعا عن النكرة معرفا منه، بل هو المتمم في المعنى، ومنه قطع عن الإضافة إلا أنه نقص عنه، فالمعرفة والنكرة متباينان فلذلك قال سيبوبه هنا ما قال.
والسادسة: التقوية للكلمة المبنية لكونها في أصل الوضع على حرف واحد كالضمائر المتصلة نحو: التاء، والكاف، فأرادوا تقويتها لضعفها ولذلك تقول في ياء المتكلم: إن الأصل فيها الحركة وإنما سكنت لثقل الحركة في حرف اللين.
والسابعة: قوة الطلب للحركة نحو: "ذية" و "كية" اللتين يكنى
بهما عن الحديث، فإنهما مبنيان على حركة لن آخرهما تاء التأنيث وهي يحرك ما قبلها لأجلها، فإذا كانت طالبة لتحريك ما قبلها فهي أقوى في طلب الحركة في الضمير لنفسها.
والثامنة: الفرق بين أداتين نحو "أنا" فإنها بنيت على حركة فرقا بينها وبين "أن" المصدرية وإنما جعلت الحركة في الضمير دون الحرف لمزية الاسمية، فهذه علل التحريك مطلقا. وأما علل نوع التحريك فثنتا عشرة علة.
الأولى: الخفة نحو: "هو" و "هي" وخمسة عشرة، فإن الفتحة أخف الحركات عندهم وكذلك الفعل الماضي، إذ لو بنى على كسرة للزم فيه توالي كسرتين في مثل علم، والخروج من ضم إلى كسر في مثل ظرف، ولو بنى على الضم للزم فيه توالي ضمتين في مثل: ظرف، والخروج من كير إلى ضم في مثل: علم فكانت الفتحة أخف الحركات فيه، وكذلك هي في غيره.
والثانية: مناسبة اللفظ للعمل نحو باء الجر، بنيت عندهم على الكسر ليناسب لفظها عملها اللازم لها وللزومها الحرفية، وتحرز بقيد الزوم من واو القسم، وبلزوم الحرفية من كاف التشبيه هكذا قالوا. وقد قيل نحو هذا في لام الجر، ومنه عند السهيلي لام الأمر قال: بنيت على مثل عملها، كما بنيت لام الجر وياؤه كذلك، ولذلك سكنت مع الواو والفاء كثيرا، قال: وكسرت في الابتداء ضرورة، ولم يؤت لها بهمزة الوصل لقلة ذلك في الحروف.
والثالثة: الفرق بين أداتين نحو: لام الجر، بنيت على الكسر فرقا بينها وبين لام الابتداء، ولم يقتصر على التفرقة بالإعراب لعدم ظهوره في
المنقوص والمقصور والمضاف إلى ياء المتكلم، وعدمه في المبنى والوقف، وفتحت مع المضمر؛ لأن الضمير يرد الشيء إلى أصله، ولم ترد مع الياء مخافة الإعلال والالتباس بـ "لا"، أو لأنها تسكن فيجب قلب الفتحة لأجل ذلك فصنع لك ولم يراع اللبس في لهم ولهما ولهنّ لقلته، واختص الكسر بلام الجر ليناسب لفظها وعملها.
والرابعة: الفرق بين معنى أداة نحو: يا لزيد لعمرو فتحت مع المستغاث به وكسرت مع المستغاث من أحله فرقا بين المعنيين، وكذلك الكسرة في ضربتِ، والضمة في ضربتُ، وجعلت الضمة للمتكلم؛ لأنه أول. وأول أحوال الاسم الرفع، والضم نظيره، والكسرة للمؤنث؛ لأن الكسرة ن لياء، والياء مما تكون للمؤنث فلم يبق للمخاطب إلا الفتحة.
والخامسة: الاتباع كما قيل في "منذ" أنها بنيت على الضمة للإتباع لضمة الميم، ومثل ذلك قيل في "كيف" إنما بنيت على الفتحة للإتباع وأين أيضا.
السادسة: مناسبة النظير مثل "نحن"، فإنها بنيت على الضم؛ لأنها تدل على الجميع، والواو تدل على الجميع، فكانت الضمة في نحن كالواو في الزيدون ويضربون، وحملت الدالة على الاثنين محمل الدالة على الجميع؛ لأن الاثنين جمع كما قال سيبويه.
والسابعة: الفرق بين حركتي الإعراب والبناء في الكلمة الواحدة نحو: قبل وبعد، بنيا على الضم، هما وما كان من بابهما فرقا بين حركتي إعرابهما وبنائهما، وكذلك المنادى المبني على الضم فرق به بين إعرابه وبنائه في باب النداء، ولم يبن على الكسرة، لئلا يلتبس بالمضاف إلى ياء المتكلم. والثامنة: الشبه بما فيه ذلك، ومثاله:"حيث" فإنها بنيت على الضم لشبهها بـ "قبل" و "بعد" إذ هي مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد، الذي كان حقها أن تضاف إليه كسائر أخواتها، كما أن "قبل" و "بعد" مقطوعان عن الإضافة إلى المفرد، وهو شأنهما، فبنيت على الضم كما بنى عليه قبل وبعد.
والتاسعة: كون الحركة المبني عليها لها الأصالة في الموضع نحو: هؤلاء وأمس، فإنهما بنيا على الكسر؛ لأن أصل الساكنين إذا التقيا في مثل هذا أن يكسر ثانيهما، وإنما كان الأصل ذلك لأن الكسرة لا تلتبس بحركة الإعراب، إذ لا تكون حركة الإعراب إلا مع التنوين أو الألف واللام أو الإضافة، وأما الضمة في "مذ اليوم" فليست بحركة بناء فيمثل بها هذا الموضع، وإنما هي حركة التقاء الساكنين.
والعاشرة: الحمل على المقابل، كلام الأمر بنيت على الكسر حملا على لام الجر، لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، وهذا على مذهب غير السهيلي.
والحادية عشرة: كون الحركة مشعرة بالتأنيث نحو: حذام ورقاش وغلاب؛ فإن باب فعال إنما بني على الكسر، لأن الكسر مما يؤنث به، ألا ترى أن تاء خطاب المؤنث مكسورة نحو: أنتِ كرمتِ، وقد مر ذلك.
والثانية عشرة: شبه محل الحركة بما في كنف هاء التأنيث، نحو: خمسة عشر وحضرموت، فإن أخر الصدر بني على الفتح؛ لأن محله من العجز محل ما قبل هاء التأنيث منها نحو: طلحة، ووجه هذا سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
هذه علل البناء على الحركة المخصوصة وإليها يرجع غالب ما ذكره الناس من ذلك، وقد ذكروا غير هذه لكنها إما راجعة إليها وإما ضعيفة في أنفسها.
المسألة الثالثة: أن الناظم بيّن أن أصل الأسماء الإعراب، وأن البناء فيها لعلة، وهي شبه الحرف، فعلى هذا ما جاء منه معربا فلا سؤال فيه وما جاء منها مبنيا فيتوجه السؤال عليه لم بني، ولم يبق على أصله من الإعراب؟ وبين أيضا أن الحروف أصلها البناء، فعلى هذا لا سؤال فيها لمجيئها على الأصل.
وأما الأفعال فلم يتبين منها ما هو الأصل فيها من الإعراب أو البناء لكن بيّن في "التسهيل" وغيره أن أصلها البناء، فالفعل الماضي إذن لا سؤال فيه لم بني، لمجيئه على الأصل. والأمر كذلك أيضا على مذهبه ومذهب البصريين، والمضارع
يحتمل أن يكون قوله فيه هنا ما قاله في "التسهيل". فيسأل لم أعرب إذ ليس الإعراب فيه عنده بأصل، وهو مذهب جمهور البصريين، ويحتمل أن يكون قوله فيه ما قاله الكوفيون، فلا يتوجه عليه السؤال لم أعرب لمجيئه عندهم على الأصل، وإنما يتوجه السؤال عليه إذا بني وكذلك الأمر عندهم، لذهابه إلى إعرابه، وأن أصله المضارع كما تقدم، وأيضا قد تقرر أن أصل البناء السكون، فإذا ما جاء مبنيا عليه فلا سؤال فيه وإن من المبنيات ما خرج عن الأصل إلى التحريك، ففيه السؤال في المرتبتين فيقال: لم بني على حركة؟ ولم اختص بالحركة المعينة؟ فإذا لابد من النظر في أمثلة ذلك كله وقد ذكر أربعة أمثلة من الأسماء فلينظر فيها.
فأما "أين" فمن الظروف المكان فيرد عليه السؤال لم بني؟ لأن أصله الإعراب، ولم بني على حركة وأصل البناء السكون؟ ولم اختص بتلك الحركة؟
فأما بناؤه فإنه على وجهين: أداة الشرط، وأداة استفهام، وهو في كلا الوجهين مبني، لشبه الحرف المعنوي، وذلك تضمن معنى "إن" في الشرط وتضمن معنى الهمزة في الاستفهام، وأما بناؤه على حركة فلئلا يلتقي ساكنان لو بني على السكون.
وأما اختصاصه بالفتحة فلأنها أخف الحركات، أو للإتباع لحركة
الهمزة.
وأما "أمس" فظرف من ظروف الزمان ويرد عليه ثلاثة أسئلة كما وردت على ما قبله، فأما بناؤه فلتضمنه معنى الألف واللام، لأنك إذا أردت به اليوم الذي قبل يومك صار معرفة بالإشارة إليه، فخرج بذلك عن حكم النكرات؛ لأن بابها أن تتعرف بالألف واللام، فمن بناه جعله كأنه تضمن معنى حرف التعريف أو في حكم أسماء الإشارة، لأن تعريفه بالإشارة إلى اليوم الذي قبل يومك، فإن قيل: تمثيله بأمس من أي قبيل هو، لأن الظاهر من قصده هنا النظر في المبنى مطلقا كما مر، فإذا عددنا "أمس" من المبنى اللازم أو غير اللازم كان مطابقا، لكن مثله الباقية من اللازم البناء فالأظهر أن "أمس" عند كذلك وهو الصحيح، وذلك أن "أمس" إذا عري عن الألف واللام والإضافة وأريد به المعرفة ذو لغتين، فأما أهل الحجاز يبنونه البتة، فهو عندهم كالمبني بحق الأصل، لتضمن معنى الحرف، كـ "أين" و "كم" وما أشبههما، وعلى هذه اللغة أتي بالمثال، وأما بنو تميم فهو عندهم ذو حالين فيوافقون الحجازيين حالة النصب والجر بغير "مذ" و "منذ"، ويعربونه حالة الرفع والجر بـ "مذ" أو "منذ" لجواز الرفع بعدهما ووجه الإعراب التشبيه له بـ "سحر" إذا أريد
به يوم بعينه، فيمنع الصرف كما منع "سحر"، للعدل عن الألف واللام والتعريف، فالإعراب عندهم بتقدير العدل، والبناء بتقدير التضمن فإذا قد حصل في هذا التمثيل تمثيلان على اللغتين، وإذ ذاك نقول يحتمل أن يكون الناظم قصد هذا المعنى، وهو مقصد صحيح وحسن من التنبيه، والله أعلم.
وقد حصل أن بناء "أمس" للشبه المعنوي، وأما بناؤه على حركة فلالتقاء الساكنين. وأما اختصاصه بالكسرة فعلى أصل التقاء الساكنين.
وأما "حيث" فمن ظروف المكان، فحقه في الأصل الإعراب؛ إلا أنه بنى على حركة فتردد الأسئلة الثلاثة، فأما بناؤه؛ فلأنه لا يفهم له معنى إلا مع غيره، فهو موضوع على الافتقار، فهو راجع إلى الشبه الافتقاري، هذا في غير الشرط، وأما في الشرط فيضمن معنى "إن" فيرجع إلى الشبه المعنوي. وفي حيث لغات أشهرها ما ذكر، وأما بناؤه على حركة فلالتقاء الساكنين، وأما كونها ضمة فبالحمل على باب "قبل" و "بعد" كما تقدم.
وأما "كم" فاسم يعبر به عن العدد في سؤال أو ما هو جار مجراه فأصله الإعراب، إلا أنه خرج عن أصله إلى البناء، فيسأل عن بنائه، وإنما بنى لشبه الحرف المعنوي، لأن "كم" إما استفهامية وبناؤها لتضمن معنى الهمزة، وإما خبرية وبناؤها إما بالحمل على الاستفهامية، لموافقتها لها في كثير من أحكامها، وفي أصل معناها،
إذ لا تخلو الخبرية من معنى الاستفهام. وإما لتضمنها معنى "رب" إن اعتقدتها للتكثير، كما ذهب إليه في التسهيل، او معنى التكثير الذي حقه أن يوضع له حرف، كما نبه عليه في موضعه، إن اعتقدت أن "رب" للتقليل، ولما كان بناؤها على السكون لم يتوجه عليها غير هذا السؤال.
وقول الناظم: (كأين أمس حيث) على حذف العاطف، أي: كأين وأمس وحيث، فحذف لضرورة الوزن كالذي أنشد ابن جني وغيره.
كيف أصبحت كيف أمسيت معا
…
يزرع الود في فؤاد كريم
وقد جاء نظيره في النثر قليلا، حكى ابن جني: أكلت لحكا سمكا تمرا، أي: وسمكا وتمرا، كما أنه أراد في البيت: كيف أصبحت وكيف أمسيت.
ولما قدم أن أصل المبنى أن يسكن، ومثل الضم والفتح والكسر فيما جاء على غير الأصل، أتى للسكون الذي هو الأصل في المبنيات بمثال فقال:(والساكن كم) أي: ومثال المبني على السكون الذي هو الأصل قولك: "كم" ويريد وما كان مثلها، كما قال:(كأين أمس حيث) فقرنها بأداة التشبيه، ليدل على غيرها من المبنيات التي على شاكلتها، فمن الأمثلة المبنية على الفتح كأين قولك:"طيف" و "كيت" و "ذيت" و "حيث" فيمن بناها على الفتح، و "لاريب فيه"، ومن المبنى على الكسر:"نزال" و "حذام"
و "أولاء"، والتاء في قمت وضربت، ومن المبني على الضم:"عل" و "قبل" و "بعد" و "منذ" الاسمية و "يا حكم"، ومن المبني على السكون:"من" و "ما" و "صه" و "مه"، وألف با تا ثا جيم دال ذال
…
وما أشبه ذلك.
المسألة الرابعة: أن ما جاء في هذا الباب على أصله فلا سؤال فيه، لأنه أتى على ما ينبغي فيه فلا يقال: لم جاء كذلك؟ وأما ما خرج عن أصله إلى غيره فيتوجه عليه السؤال: لم جاء كذلك ولم يبق على أصله؟ إذ لا يكون الخروج عن الأصل إلا لسبب، وقد تقدمت أمثلة ذلك، لكن قد يصير الأصل استعماليا، بعد أن كان قياسيا، فيسأل عما جاء على الأصل: لم جاء ذلك؟ وذلك إذا كان في الآتي على الأصل علة تقتضي خروجه عن أصله فلم يخرج، ومثال ذلك "أي" أصلها الأول الإعراب كسائر الأسماء، ثم إنها أشبهت الحرف فكان حقها البناء، إلا أنهم أخرجوها عن حكم البناء إلى الإعراب، لشبهها بالمعرب، فلابد من إيراد السؤال فيها لم أعربت مع قيام سبب البناء وهو شبه الحرف؟ ولذلك نبه الناظم على إعرابها في باب الموصول، إشارة إلى أنها خرجت عن أصلها الثاني وهو البناء، وكذلك تقول في الفعل الماضي أصله البناء على السكون كسائر المبنيات، ثم إنهم بنوه على حركة للمزية التي له على فعل الأمر، حسب ما تقدم، لكن أخرجوه عن ذلك إلى البناء على السكون عند اتصال أحد الضمائر الثمانية به، خوفا من توالي المتحركات، فيرد السؤال هنا:
لم بني على السكون وأخرج عن البناء على الحركة مع قيام موجبها وهو المزية؟ وكذلك تقول على مذهب البصريين: الأصل في الفعل الضارع البناء كسائر الأفعال، إلا أنه أعرب لشبهه بالاسم، فإذا اتصل به أحد النونين بني، فسبيله أن يسأل عنه لم بني؟ ولم يبق على أصله الثاني من الإعراب مع قياس سببه وهو الشبه بالاسم، ووجه هذا أن ما استحقه من الخروج عن أصله الثاني، أعني الذي استحقه بسبب العلة الموجودة فوجب السؤال عن ذلك، والحاصل: أن الأصل صار فرعًا والفرع عاد أصلا لكن باعتبارين وهذه المسألة مبسوطة في "الأصول العربية". ومن هنا يظهر أن قول الناظم: (ومعرب الأسماء ما قد سلما من شبه الحرف) معترض بـ "أي"، وقوله:(والأصل في المبني أن يسكنا) معترض بالماضي اللاحق له الضمائر الثمانية، والاعتذار عنه في "أي" أنه قد ذكرها في بابها، وفي الماضي أن تسكينه للضمائر عارض، وإنما يتكلم في الأصول الثابتة، لا في الطوارئ الزائلة، ومن هنا قال الزجاجي في الماضي:"وهو مبني على الفتح أبدا"، إذا لم يعتبر عروض اتصال الضمائر، وحسن ما فعل.
المسألة الخامسة: أن تمثيل الناظم بما مثل به بين أن الأسماء تبنى على الضم، وعلى الفتح، وعلى الكسر، وعلى السكون، وذلك صحيح، ولم يذكر للأفعال ولا للحروف مثالا فيتبين به أمرها، والذي بين الاستقراء أن الحروف تبنى على الأوجه الأربعة أيضا، فمثال الضم فيها
"منذ" الحرفية، ومثال الفتح:"ثم" و "سوف" و "ليت" و "لعل"، ومثال الكسر: الباء واللام في بزيد ولزيد، ومثال السكون "من" و "عن" و "لو" و "أو" وما أشبه ذلك، وأن الأفعال تبنى على الفتح نحو: ضرب وعلم ومكث، وعلى السكون نحو: اضرب واعلم وامكث ولا يدخلها الضم ولا الكسر وقد تقدمت علة ذلك قبل.
المسألة السادسة: أن قول الناظم: (والأصل في المبنى أن يسكنا .. ) إلى آخره، لا يقتضي حصر علامات البناء في الأربع التي ذكر، وإنما فيه أن الأصل في المبنى أن يبنى على السكون، ومنه ما بنى على الضم ومنه ما بني على الفتح، ومنه ما بني على الكسر وتقدير كلامه، ومنه ذو فتح ومنه ذو كسر ومنه ذو ضم كما تقدم في قوله أول الباب (الاسم منه معرب ومبني) فالحاصل: أنه لم يستوقف علامات البناء، إذ من المبنيات ما يبنى على غير ما ذكر، ففعل الأمر يبنى على ما يجزم به المضارع، وقد بين هو أن للجزم علامتين: إحداهما الحذف، وأن الحذف نوعان: حذف النون، وهو علامة للجزم فيما اتصل به ألف اثنين، أو واو جمع، أو ياء واحدة مخاطبة. وحذف آخر المعتل الآخر بالألف أو الواو أو الياء، فعلى هذا النحو يبنى فعل الأمر الذي هو نظير المضارع فتقول: افعلا وافعلوا وافعلي، كما تقول: لم تفعلا ولم تفعلوا ولم تفعلي، . وتقول: اخش واغز وارم، كما تقول: لم يخش ولم يغز ولم يرم، وعلى هذا النحو يجري القول في الماضي المتصل به ألف الاثنين أو واو الجمع، فقاما نظير قوما، وقاموا نظير قوموا. والدليل على ذلك رجوع النون في التسمية إذا كانت الألف أو الواو علامة لا
ضميًرا.
والاسم أيضا يبنى على ما يرفع به من واو أو ألف كالمثنى والمجموع على حده في النداء، هذا في البناء العارض، وكذلك في اللازم كأسماء العدد المطلقة كقولك: اثنان، ثلاثون، أربعون، مائتان، ألفان، ويبنى أيضا على ما ينصب به كياء المثنى والمجموع على حده في باب "لا" التي لنفي الجنس، فقد ظهر أنه يبنى على الألف والواو والياء، ويبنى على حذف الألف والواو والياء والنون، لأنا نجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: ما تقدم م أنه لم يعترض للحصر، بل قد يقال: إنه لما ذكر العلامات الأربع استوفى ما عادة الناس أن يذكروه، ونبه بـ "من" المقتضي للتبعيض، على أن ثمّ علامات أخر يبنى عليها، وإذا كان كذلك فلم يفته ذكر شيء يحتاج إلى ذكره.
الثاني: أنا لو سلمنا أنه لم ينبه على ما ذكر في السؤال من علامات البناء لما كان ذلك قدحا، لأنه جرى على ما جرى عليه غيره في باب البناء من الاقتصار على هذه العلامات الأربع، ووجه الاقتصار أن غيرها متفرع عنها ونائب منابها، كما كان ذلك في علامات الإعراب، إذ كانت الواو أو الألف أو غيرها إنما تلحق الفرع كالمثنى والمجموع الذي على حده، فإذا لا اعتراض على كلام الناظم والله أعلم.
*
…
*
…
*
ولما فرغ من بيان أسباب البناء وأنواعه، أخذ في الكلام على أنواع الإعراب وعلاماته ووجوهه فقال:
والرفع والنصب اجعلن إعرابا
…
لاسم وفعل نحو لن أهابا
والاسم قد خصص بالجر كما
…
قد خصص الفعل بأن ينجزما
أراد أن الرفع والنصب من أنواع الإعراب يشترك فيهما الأسماء والأفعال فالرفع نحو: زيد يقوم، وعبد الله يذهب، والنصب نحو: إن زيدا لن يركب، وإن عبدالله لن يذهب وما أشبه ذلك، ومثل النصب في الفعل بقوله:(لن أهابا)، وهو من قولك: هاب الرجل الشيء يهابه، وهاب منه أيضا أي خاف منه، هيبة ومهابة، وقال الجوهري: الهيبة والمهابة: الإجلال والمخافة.
وأما الجر فمختص بالأسماء، فلا يدخل الأفعال كقولك: مررت بعبد الله صاحب زيد، وجئت إلى أخيك صاحب الدار.
وأما الجزم فمختص بالأفعال فلا يدخل الأسماء كقولك: لم يقم، ولم يخرج، وإن تضرب أضرب، وهذا المعنى أراد بقوله:(والاسم قد خصص بالجر .. ) إلى آخره، وقد حصل بهذا التقرير أن أنواع الإعراب أربعة: رفع ونصب وجر وجزم، فالجر مختص بالاسم، والجزم مختص بالفعل، وما عدا ذلك مشترك بين الاسم
والفعل، وعلة ذلك على طريقة المؤلف في "التسهيل" و "شرحه" أن الاسم لما كان في الإعراب أصلا للفعل كانت عوامله أصلا لعوامله، وعوامل الرفع والنصب في الاسم قوية لاستقلالها بالعمل، وعدم تعلقها بعامل آخر، فشارك المضارع الاسم في الرفع والنصب لقوة عواملهما بالاستقلال، وإمكان التفريع عليها، بخلاف عامل الجر، فإنه ضعيف لعدم استقلاله، ألا ترى أنه مفتقر إلى متعلق من فعل أو جار مجراه فلم يقو أن يفرع عليه غيره، فلذلك لم يكن إلا في الاسم، فجعل الجزم في الفعل عوضا مما فاته من المشاركة في الجر، وانفرد به ليكون لكل واحد من صنفي المعرب ثلاثة أوجه من الإعراب، ثم عودل بينهما بأن جعل الجزم راجحا بأنه غير محتاج إلى تعلقه، وجعل الجر راجحا بكونه ثبوتا بخلاف الجزم، فإنه حذف فتعادلا، هذا ما علل به المؤلف، وللناس في تعليل هذه المسألة طرق كثيرة لا يحتاج إلى إيرادها لضعف أكثرها، وقلة الفائدة فيها، وأقربها طريقة من قال: لم يدخل الفعل جر لضعفه عن مرتبة الاسم؛ لأن إعراب بالشبه لا لأجل المعاني كما كان دخول الأنواع الثلاثة من الإعراب في الاسم للتفرقة بين المعاني الثلاثة فنقص عنه درجة وعوض من ذلك الجزم فكمل له ثلاثة أنواع من الإعراب كالاسم، وهذه الطريقة نحو مما قاله المؤلف، إلا أن المؤلف كملها.
والكاف في قوله: (كما قد خصص الفعل) كاف شبيه التنظير الكاف التي في قول سيبويه، وليس في الأفعال المضارعة جر، كما أنه ليس في الأسماء جزم، فإن التشبيه هنا تشبيه تنظير، لا تشبيه
تعليل، وكان الأصل أن يقول: الاسم قد خص بالجر كما قد خص الفعل، لأنك تقول: خصه بالشيء خصوصا وخَصوصية وخُصوصية والفتح أفتح وخِصيصي، إلا أنه ضعف العين فجعله من خصص بذلك المعنى، وكذلك كان الأولى أن يقول: كما قد خصص الفعل بأن يجزم أو بالجزم، فإن قوله:(بأن ينجزم) مقدر بمصدره الذي هو الانجزام، والانجزام غير مستعمل في معنى الجزم، ولا مصطلح على استعماله بذلك المعنى؛ لأن الرفع والنصب والجر والجزم في استعمالهم على وجهين:
أحدهما: أن يكون عبارة عن الحركات التي أحدثتها العوامل وما ناب عنها، فالضمة رفع والواو رفع وكذلك سائرها.
والثاني: أن المراد بالرفع والنصب والجر والجزم الحكم الذي أحدثه العامل، والعلامات دالة عليه، وهو معنى المصدر، وكلا المعنيين في في الجزم مغاير لمعنى الانجزام، إذ كان عبارة عن حصول الجزم في المجزوم على أي معنى أطلق الجزم، وإذا كان كذلك فتعبيره بالانجزام معترض من وجهين:
الخروج عما اصطلحوا عليه، والإيهام بمعنى لم يتعرضوا له.
والجواب: أن ضرورة النظم دعته إلى أن يغير لفظ الجزم إلى لفظ الانجزام ووجه ما فعل من ذلك أن الانجزام لما كان لازما عن الجزم إذ هو مطاوعة فصار كالمسبب مع سببه، اكتفي عنه اتكالا على فهم
المراد والله أعلم.
*
…
*
…
*
ثم أخذ في ذكر العلامات فقال:
فارفع بضم وانصبن فتحا وجر
…
كسرا كذكر الله عبده يسر
واجزم بتسكين وغير ما ذكر
…
ينوب نحو جا أخو بني نمر
يعني أن الرفع في الكلمة المعربة يكون بالضم نحو: زيد قائم، ويقوم زيد، والرجال في الدار، وخرجت الهندات، والنصب يكون بالفتحة نحو: إن زيدا لن يذهب، وأعجبني أن تكرم الزيود، والجر يكون بالكسر نحو: مررت بغلام زيد، وجئت إلى الرجال والهندات، والجزم يكون بالسكون نحو: لم يذهب زيد، وإن تذهب أكرمك. وأتى الناظم بأثلة للرفع والنصب والجزم والجر في الاسم، ومثال الرفع في الفعل وهو (ذكر الله عبده يسر "فـ" ذكر مرفوع بالضمة على الابتداء، ولفظ "الله" مجرور بالكسرة بإضافة ذكر إليه و "عبده" منصوب بالفتحة بذكر؛ لنه مصدر موصول و "يسر" مرفوع بالضمة أيضا، إذ لم يدخل عليه ناصب ولا جازم، وهو في موضع خبر المبتدأ.
وقوله: (وانصبن فتحا وجر كسرا) على حذف الجار، أراد: وانصبن بفتح، وجر بكسر، دل على ذلك قوله:(فارفع بضم) وقوله: (واجزم بتسكين) فحذف الباء ضرورة، وذلك في كلام العرب قليل.
وأنشد المبرد وغيره قول الشاعر:
ترون الديار ولن تعوجوا
…
كلامكم علىّ إذا حرام
وقوله: (وغير ما ذكر ينوب) يعني أن ماعدا ما ذكر من الرفع بالضمة والنصب بالفتحة والجر بالكسرة والجزم بالسكون ينوب عنها، ثلاثة أصناف:
أحدها: الحركات لكن على نحو آخر وذلك الكسرة تنوب عن الفتحة في الجمع بالألف والتاء، والفتحة تنوب عن الكسرة في جر ما لا ينصرف من الأسماء.
والثاني: الحروف وذلك الألف في المثنى والواو في الجمع الذي على حده والأسماء الستة والنون فيما لحقه من الفعل ألف اثنين أو واو جمع أو ياء واحدة مخاطبة، كلها تنوب عن الضمة، والألف في الأسماء الستة، والياء في المثنى والمجموع على حده كلاهما ينوب عن الفتحة، والياء في الأسماء الستة والمثنى والمجموع على حده تنوب عن
الكسرة.
والثالث: الحذف ينوب عن الفتحة في نصب الفعل المرفوع بالنون وعن السكون فيه وفي الفعل المعتل الآخر، وجميع ذلك مفصل في الباب، وقد ظهر من الناظم أن أصل الإعراب للحركات والسكون؛ لأنه أحل غيرها محل النيابة عنها، وذلك لا يسوغ غلا بتقدير كون المحل للمنوب عنه بحق الأصل وبذلك صرّح في "التسهيل" فقال: والإعراب بالحركة والسكون أصل ينوب عنهما الحرف والحذف، وكذلك قال الجزولي: أصل الإعراب للحركات، والحروف عند من يرى الإعراب بها تبع. والدليل على ذلك أن الإعراب بها أكثر، والكثرة دليل الأصالة، وأيضا فإنه لا يصار إلى الإعراب بغيرها إلا عند تعذرها أو اعتقاد تعذرها. قال المؤلف في "شرح التسهيل": ولذلك اشترك الفعل والاسم في الرفع بضمة، والنصب بفتحة ولم يشتركا في الإعراب، وإنما كانت الأصالة للإعراب بالحركة في غير الجزم؛ لأن الحركة أخف من الحرف وأبين في إعطاء المعنى المقصود. وأما كونها أخف فظاهر، فإن زيادة بعض حرف أخف وأهون من زيادة حرف كامل.
وأما كونها أبين فلأنها لا تخفى زيادتها على بنية الكلمة لسقوطها وإدراك مفهوم الكلمة بدونها، بخلاف الحرف، فإنه قد يخل سقوطه بمفهومها، ولذلك اختلفوا في المعرب بحرف هل هو قائم مقام الحركة
أو الحركة مقدرة فيه؟ وإنما كان السكون في الجزم أصلا؛ لأن نقصان حركة زائدة على الكلمة أسهل من سقوط حرف من نفس الكلمة، وأتى الناظم بمثالين مما ينوب فيه الحرف عن الحركة.
أحدهما: مما يعرب بالواو رفعا، وبالألف نصبا، وبالياء جرا وذلك الأسماء الستة التي يذكرها على أثر هذا وهو الأخ في قوله:(جا أخو بني نمر).
والثاني: مما يعرب بالواو رفعا، وبالياء نصبا وجرا، وذلك الجمع على حد التثنية وهو "بني" في المثال، أصله: بنون وبنين وحذف النون للإضافة، وبنو نمر من العرب قبيلة منهم ينسبون إلى أبيهم نمر، وهو نمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. ويقال: يا أخا بني فلان لمن كان ينسب إليهم وكان منهم، وحذف الناظم همزة "جاء" للهمزة التي بعدها وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء في نحو ((جا أجلهم)):
*
…
*
…
*
ثم قال:
وارفع بواو وانصبن بالألف
…
واجرر بياء من الأسماء أصف
من ذاك ذو إن صحبة أبانا
…
والفم حيث الميم منه بانا
أب أخ حم كذاك ومن
…
والنقص في هذا الأخير أحسن
وفي أب وتالييه يندر
…
وقصرها من نقصهن أشهر
لما قدم آنفا أن ماعدا الحركات الثلاث المذكورة المخصوصة بالمواضع المذكورة ينوب عنها، أخذ يذكر الأصناف النائبة ومحالها، فإذا حصر مواضعها علم أن ما عداها حكمة ما تقدم من الرفع بالضمة، والنصب بالفتحة والجر بالكسرة، والجزم بالسكون، فابتدأ بذكر ما يرفع بالواو وينصب بالألف ويجر بالياء فقال:(وارفع بواو ..... ) إلى آخره، وهذا التقرير في الأسماء الستة نص منع على اعتماد القول بأن الحروف فيها هي نفس الإعراب بحكم الاستقلال، وهو أحد المذاهب في هذه الأسماء الستة المفسرة، وهو مذهب أبي القاسم الزجاجي، وظاهر كلام الفارسي في أول كتابه "الإيضاح" وعليه طائفة من المختصرين. ومن النحويين من ذهب إلى أن إعرابها بالحركات مقدرة في حروف العلة، وأتبع فيها ما قبل الآخرِ الآخرَ، دلالة على الإعراب المقدر في حروف العلة، وهو مختار شيخنا الأستاذ رحمة الله عليه، وعليه جماعة أيضا. ومنهم من ذهب إلى أنها معربة بالحركات، كإعرابها عارية عن الإضافة من غير فرق وحروف العلة إشباع تلك
الحركات قبلها، ومنهم من جعل إعرابها بالحركات والحروف معا، ومنهم من ذهب إلى غير ذلك، والكلام في ذلك يطول، وإنما اختار الناظم ما تقدّم؛ لأنه أبين المذاهب، وأبعدها عن التكلف، لأن الإعراب إنما جيء به لبيان مقتضى العامل، ولا فائدة في جعل مقد متنازع فيه دليلا، وإلغاء ظاهر واف بالدلالة المطلوبة. قال المؤلف: ولا يمن من ذلك أصالة الحروف لأن الحرف المختلف الهيئات صالح للدلالة أصلا كان أو زائدا، مع أن في جعل الحروف المشار إليها نفس الإعراب مزيد فائدة وهو كون ذلك توطئة لإعراب المثنى والمجموع على حده، لأنهما فراعان عن الواحد، وإعرابهما بالحروف لا مندوحة عنه، فإذا سيق مثله في الآحاد أمن من الاستبعاد ولم يخرج عن المعتاد، هذا ما وجه به مذهبه ويكفي هذ القدر إذ لا فائدة في جلب الحجج مع أن المسألة لا يبنى عليها حكم.
وقوله: (ما من الأسماء أصف)"ما" موصولة صلتها "أصف": وهي مفعولة بارفع وانصب واجرر من باب الإعمال أعمل فيها الآخر. "ومن الأسماء" متعلق بـ "أصف" وضمير ما محذوف، أي ما أصفه من الأسماء وقصر الأسماء ضرورة.
ثم قال: (من ذاك ذو إن صحبة أبانا) يعني أن من الأسماء التي ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء هذا الاسم الذي هو "ذو" وذلك بشرطين:
أحدهما: منصوص عليه وهو قوله: (إن صحبة أبانا) والآخر قيده بالمثال وهو أن يكون "ذو" بلفظ المذكر، فأما الأول فيريد به أن يكون ذو
بمعنى صاحب، وذلك إبانته للصحبة كقولك: مررت برجل ذي مال، وجاء زيد ذو العلم، ورأيت رجلا ذا ثوب، معناه: صاحب مال وصاحب العلم وصاحب ثوب، وتحرز بذلك إن كان قصد التحرز من ذا وذو وذي التي ليست بذلك المعنى فإنها لا تعرب كلك إن أعربت، فأما "ذو" فتأتي بمعنى الذي وهي "ذو" الطاّئية نحو ما أنشد الجوهري من قول الشاعر:
ذاك خليلي وذو يعاتبني
…
يرمي ورائي بامْسَهْمِ وامْسَلِمَهْ
وقول الآخر:
وإن المال مال أبي وجدي
…
وبئري ذو حفرت وذو طويت
وأما "ذا" و "ذي" فتأتيان للإشارة نحو قول الله تعالى ((هذا من شيعته وهذا من عدوه)).
وقال أبو الطيب المتنبي:
هذي برزت لنا فهجتِ رسييا
فهذه الثلاثة لا تبين صحبة، وإنما تبين شيئا آخر، فلا تعرب ذلك الإعراب.
فإن قلت: فهذا الشرط غير محتاج إليه أبدا. لأن ما تحرز منه خارج عن باب الإعراب فضلا عن كونه يعرب بالحروف أو بالحركات، فلو قال:"من ذاك ذو" كذا وكذا ولم يقيده - بمعنى الصحبة لم يفهم له سواه، إذ لا يتوهم ذلك في "ذو" الطائية، ولا في "ذا" و "ذي" اللتين للإشارة، لفقد الإعراب فيهما، وإنما يسبق إلى الذهن ما هو معرب، وليس ثم معرب، إلا الذي بمعنى صاحب، فقد تعين بنفسه، فيكون هذا الشرط ضائعا، فالاعتذار عنه أن يقال: لعله لم يقصد بذلك إلا مجرد البيان عن معنى "ذو" وإن ساق ذلك مساق الاشتراط والتحرز مما يدخل عليه، على أنه قد أتى به في التسهيل كذلك، فقال: وفي "ذي" بمعنى صاحب، وذكر في "الشرح" أنه تحرز بالقيد من "ذي" المشار إليها، فالله أعلم. فإن أراد هنا ما صرح به هنالك توجه الاعتراض عليه.
وأما الشرط الثاني المقيد بالمثال وهو أن يكون "ذو" بلفظ المذكر فذكره ضروري، فإن المؤنث لا يعرب هذا الإعراب، وإنما يرجع إلى الإعراب بالحركات، كما ذكر أولا كقولك: جاءتني امرأة ذات مال، ورأيت امرأة ذات مال، ومررت بامرأة ذات مال، وكذلك يعتبر في المثال أيضا الإفراد، فإن المثنى والمجموع سيأتي ذكره.
فأما إذا كان مفردا مذكرا فهو المعرب بالحروف كما قال.
ثم قال: (والفم حيث الميم منه بانا) فاعل "بان" ضمير مذكر عائد على الميم، وذكره لأن الميم كسائر حروف المعجم تذكر وتؤنث، أنشد سيبويه في التذكير:
كانا وميمين وسينا طاسما
وأنشد في التأنيث:
كما بنيت كاف تلوح وميمها
ومعنى بان: بعد. ويقال: بان الشيء عنى يبين بينا وبينونة: إذا بعد عنك وتفرّق منك، والمباينة: المفارقة، وتباين القوم: تهاجروا فيعني حيث زالت الميم عن الفم، وأراد أن الفم إذا كان بغير ميم معدود من تلك
الأسماء التي تعرب هذا الإعراب المذكور، وذلك في قولك: هذا فو زيد، ورأيت فاه، ونظرت إلى فيه، وإنما اشترط فقد الميم؛ لأنه إذا وجدت فيه لم يعرب بالحروف، بل بالحركات على حد ما نص عليه في قوله:(فارفع بضم وانصبن فتحا وجر كسرا) فتقول: هذا فم، ورأيت فما، ونظرت إلى فم، هذا إن كان منقوصا، وكذلك في لغة القصر تقول: هذا فما، ورأيت فما، ونظرت إلى فما، إذا ثبت أنها لغة كقول الشاعر يا حبذا عينا سُليمى والفَمَا.
فإعراب هذا كإعراب فتى ورحا. وقوله: (أب أخ حم / كذلك وهن) يعني أن هذه الأسماء أيضا حكمها في الإعراب ما تقدم من الرفع بالواو والنصب بالألف والجر بالياء، فتقول: هذا أبوك وأخوك وحموك، ورأيت أباك وأخاك وحماك، ومررت بأبيك وأخيك وحميك.
وحمو المرأة أبو زوجها، وكذلك من كان من قبله، وحمو الرجل أبو امرأته أو أخوها أو عمها. وقيل: الأحماء من قبل المرأة خاصة، والأختان من قبل الرجل، والصهر يجمع ذلك كله، هكذا حكى صاحب "المحكم" وعكس الجوهري فقال: وكل شيء من قبل الزوج مثل الأب والأخ فهم الأحماء وأحدهم حما وفيه أربع لغات: حما مثل
قفا، وحمو مثل أبو، وحم مثل أب، وحم ساكنة الميم مهموزة عن الفراء. ثم قال: وكل شيء من قبل المرأة فهم الأختان، والصهر يجمع ذلك كله، فهذا خلاف ما حكى ابن سيده، والناس على ما ذكره الجوهري. قال الأصمعي: الأحماء من قبل الزوج والأختان من قبل المرأة، وقال يعقوب: كل شيء من قبل الزوج -أخوه أو أبوه أو عمه_ فهم الأحماء. وقال أبو عبيد: الحم أخو الزوج. ويقال للمرأة حماه لا لغة فيها غير ذلك. "وهن المرأة" فرجها وكذلك هن الرجل. وأصل الهن في اللغة الكناية عن اسم الشيء. قال الجوهري: تقول هذا هنك أي شيئك. هذا أصله، ثم كنوا به عما يقبح التصريح باسمه، واستعملوه حتى غلب عليه. ويقال: ذهبت فهنيت أي: فعلت من قولك هن، وقد حصل من المثال في الحم والهن أن المؤنث خارج عن هذا الحكم لأنك تقول: هذه حماة فلان، فيعرب بالحركات، وكذلك هنه كما خرجت الأخت عن حكم الأخ. وقد ظهر أن المعرب بهذا الإعراب ستة أسماء؛ وهي ذو بمعنى صاحب، وفو زيد، وأخو زيد، وأبوه، وحموك، وهنوها، لكن ليس ذلك على الإطلاق، وفي كل لغة، بل العرب فيها مختلفون، فمنهم من يعربها بالحروف كما قال، ومنهم من يعربها بالحركات، وأيضا فالذين يعربونها بالحروف ليسوا فيها على سنن واحد بل هي عندهم على درجات متباينة، فقد يكون الإعراب
بالحروف في بعضها نادراً، وبالحركات هو الأشهر كما في "هن" وقد يكون الأمر بالعكس كما في أخ وأب، وقد يشتهر الوجهان على تساو أو مقاربة التساوي كما في "حم" هذا كله فيما عدا الفم بلا ميم، و"ذا" بمعنى صاحب فإن العرب متفقون فيها على الإعراب بالحروف، فلما كان الأمر على هذا لم يكتف الناظم بما قدم من الإطلاق، بل ذكر اختلاف العرب في أب وأخ وحم وهن، وسكت عن ذكر ذو وفو، فدل ذلك على أنها معربة بالحروف على الإطلاق، وذلك صحيح.
فقوله: (والنقص في هذا الأخير أحسن) أراد به أن جعل "هن" وهو الأخير في الذكر من باب المنقوص كيد ودم أحسن وأفصح من جعله من هذا الصنف، فالذي يقول: هذا هنوها، ورأيت هناها، ونظرت إلى هنيها/ أقل ممن يقول: هذا هنها، ورأيت هنها، ونظرت إلى هنها، وعلى اللغة الشهيرة جاء في الحديث:"من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا"، وقول علي رضي الله عنه: من يطل هن أبيه ينتطق به، ومعناه من كثر ولد أبيه يتقوى بهم.
وأنشد سيبويه:
رحت وفي رجليك ما فيهما
…
وقد بدا هَنْكِ من المئزر
أراد هَنُكِ، فكسن النون. والنقص في الاسم هو أن ينقص من آخره حرف، ويجري الإعراب على الحرف الذي قبله. ثم قال:(وفي أب وتالييه يندر) ضمير "يندر" عائد على النقص في قوله: (والنقص في هذا الأخير أحسن) وضمير تالييه عائد على الأب، والتالي هو التابع يقال: تلوت الرجل أتلوه تلوا: إذا تبعته. ويقال: ما زلت أتلوه حت أتليته، أي: حتى تقدمته وصار خلفى يتلوني، ويندر: معناه: يقل وأصله من الندور وهو السقوط والخروج عن الغير، وندر الرجل من القوم خرج منهم، فلما كانت لغة النقص خارجة عن جمهور كلامهم أطلق عليها لفظ الندور لذلك، وفي أصل اللغة يرادف لفظ الندور لفظ الشذوذ إذ هما بمعنى الخروج عن الجمهور، يقال: شذ عنه يشذ ويشذ شذوذا إذا انفرد عن الجمهور وندر، بهذا فسره الجوهري، كما أنه قال في الندور: ندر الشيء يندر، سقط وشذ، ففسره كما ترى أحدهما بالآخر. إلا أن الناظم اصطلح في كلامه على إطلاق الندور على ما ندر في الكلام المنثور، وإطلاق الشذوذ على ما ندر في الشعر، هذا في الغالب فليعرف ذلك من اصطلاحه، فيريد هنا أن النقص في أب وتالييه جاء في الكلام قليلا، فتقول على القلة في أب: هذا أبك، ورأيت أبكن ومررت بأبك، وهي لغة محكية عن أحمد بن يحيى أنه قال: يقال: هذا أبوك وهذا أباك، وهذا أبك فمن قال: هذا أبوك أو أباك، فتثنيته أبوان
ومن قال: هذا أبك، فتثنيته أبان، وأبوان وأنشد:
سوى أبك الأدنى وأن محمدا
…
علا كل عال يا ابن عم محمد
وتقول في أخ: جاءني أخك، ورأيت أخك، ومررت بأخك، وعليه قول بعض العرب في تثنيته أخان. وتقول في حم: هذا حمك، ورأيت حمك ومررت بحمك. ومنه ما أنشده الفراء من قول الشاعر:
قلت لبواب لديه دارها
…
تِيْذَنْ فإني حمها وجارها
هكذا أنشده القالي عنه، وأنشد أبو عرمو على ما حكى الجوهري عنه حمؤها.
ثم قال: (وقصرها من نقصهن أشهر) الضمير في قصرها عائد
لأب وتالييه، وإليها يعود الضمير "قصرهن"، وكلا الضميرين يجوز أن يعود على جمع القلة كهذا الموضع، ويجوز أن يعود على جمع الكثرة، و "هن" على جمع القلة. والقصر في الاسم هو أن يكون آخره ألف والاسم بذلك مقصور، ويعني أن في الأسماء الثلاثة لغة أخرى وهي القصر، وهي أشهر فيها من النقص فتقول: هذا أباك، ورأيت أباك، ومررت بأباك، ومنه أنشده ابن جني وغيره:
إن أباها وأبا أباها
…
قد بلغا في المجد غايتاها
وتقول: هذا أخاك، ورأيت أخاك، ومررت بأخاك، ومنه المثل "مكره أخاك لا بطل".
وحكى سيبويه: لا أخا -فاعلم- لك. قال ابن سيدة: قوله: "فاعلم" اعتراض بين المضاف والمضاف إليه، كذا الظاهر، وأجاز أبو على أن يكون لك خبرا ويكون أخا اسما مقصورا تاما غير مضاف كقولك: لا عصا لك، قال ابن جني: ويدلك على صحة هذا القول أنهم قد كسروه على أفعال وفاؤه مفتوحة، فهو إذا فعل، وذلك قولك: أخ وآخاء، فيما حكاه يونس، وقال بعض ولد المهلب:
وجدتم بنيكم دوننا إذا نسبتم
…
وأي بنى الآخاء تنبو مناسبة
قال: فغير منكر أن يخرج واحدها على أصله، كما خرج واحد الآباء على أصله. وتقول في حم: هذا حماك، ورأيت حماك، ومررت بحماك وعليها جاءت حماة المرأة لأم زوجها.
قال الجوهري: لا لغة فيها غير ذلك.
والحاصل من نقله أن فما بلا ميم، وذا بمعنى صاحب، ليس فيهما إلا لغة واحدة. وأن هنا فيه لغتان. وأن أبا وأخا وحما فيها ثلاث لغات.
وإذا تقرر هذا ورد على الناظم سؤال وهو أن يقال: كان من حقه حين أراد أن يذكر في هذه الأسماء اختلاف العرب فيها أن يستوفي ذكر ذلك فيأتي على جميع لغاتها. لكنه لم يفعل ذلك، بل ذكر بعضها وأهمل البعض، فكان معترضا، ولا يقال إن نظمه هذا غير موضوع لنقل اللغات وإنما وضع لضبط القوانين، فلم يلزمه أن يستوفيها في هذه الأسماء ولا في غيرها، لأنا نقول: فكان الأولى به ألا يتعرض لذكرها رأسا، إذ كان نظمه على ما ذكرت.
فإن قيل: لو لم يذكر ما ذكر لأوهم أنها تعرب بالحروف مطلقا في كل لغة وليس كذلك، فأراد أن يرفع هذا الإيهام، ولذلك لما نبه في "التسهيل" على قلة إعراب "هن" بالحروف ذكر في "الشرح" أن عادة النحويين جرت بذكر "هن" مع هذه الأسماء، وذلك يوهم مساواته لهن في الاستعمال، وليس كذلك، بل المشهور فيه إجراؤه مجرى يد، في ملازمته النقص إفرادًا وإضافة
وإعرابه بالحركات. ومن العرب من يقول: هذا هنوك، ورأيت هناك، ومررت بهنيك وهو قليل، فمن لم ينبه على قلته فليس بمصيب، وإن حظى من الفضائل بأوفر نصيب. وما قاله صحيح كما ترى، فغيره من إخوته بهذا المثابة، فلما كان ترك التنبيه على لغاتها مخلا بالفهم مخيلا لا لا يستقيم نبه على ما يجب التنبيه عليه.
فالجواب: أن الإحالة باقية لأنه حين اقتصر في حم مثلا على نقل لغتين سوى الأولى، أوهم أن سائر العرب سوى أصحاب هاتين اللغتين متفقون على الإعراب بالحروف، وهذا غير صحيح، بل للعرب في حم ست لغات: الثلاث المذكورة، والرابعة: حمو كدلو، والخامسة: حمءٌ كخبْءٍ، والسادسة: حمأ كَرَشأ.
كما أن في أخ خمس لغات: الثلاث التي ذكر، والرابعة: أخّ مشددا كفخّ، والخامسة: أخو كدلو، وكما أن في أب أربع لغات: رابعهن أبّ مشددا كحبّ.
وكما أن في "هن" ثلاث لغات: ثالثتهن هنّ مشددة كـ "منّ"، لا يقال: إن ما ذكرت لغات قليلة غير مشهورة، فلذلك لم يذكرها، بخلاف ما ذكر فإنها شهيرة، لأنا نقول ليس كذلك، لأنه في ذكر في "هن" الإعراب بالحروف، وهو قليل، وذكر النقص في أب وأخ وهو نادر. وكذلك في "حم" على ما نص عليه هنا، وكذلك القصر فيهن على ما
نص عليه في "التسهيل" حيث قال وربما قصرا أو ضعف دم، يعني أخا وأبا، وترك ذكر حمو وحمء، وأهل اللغة لا يصفونهما بالقلة، بل إطلاقهم يدل على خلاف ذلك، فقد ظهر أن كلام الناظم معترض عليه.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أنه لو اقتصر على ذكر الإعراب بالحروف فيها كلها لأوهم اتفاق العرب فيها على ذلك، وهو غير صحيح، فلما ذكر فيها لغات أخر ارتفع ذلك الإيهام، وحصل أن إعرابها بالحروف جائز على الجملة، لا واجب يعني أن ماعدا فوك وذو مال، كما انه لو ذكر جميع لغاتها لم يزدنا على جواز الإعراب بالحروف شيئا سوى استيفاء لغات لا حاجة بنا إليها وما ذكر من بقاء الايهام بالاقتصار على ذكر البعض فغير متجه على قصد الناظم؛ لأن ظاهر قصده أن يبين لنا كيف نحتذي كلامهم، فذكر أن لنا أن نعربها بالحروف على القياس التي ذكر، ولنا ألا نعربها إلا بالحركات على الأصل، لأن العرب فيها مختلفون.
فإذا قيل له: فاشرح لنا ما للعرب فيها من الخلاف. كان جوابه أن هذا من وظائف اللغوي، وحسبك هنا أن يتبين لك أنهم ليسوا بمتفقين على الإعراب بالحروف. فلقائل أن يقول: إن لم يقصده بنقل تلك اللغات بيان اختلاف العرب في هذه الأسماء، وإلا كان متنقلا من علم إلى علم لغير ضرورة.
والوجه الثاني: أن إعرابها بالحروف بين أنها معتلة الأواخر مذبذبة في الاعتلال بين النقص والتمام، فهي في الإضافة إلى غير الياء تامة غير منقوصة، وفي الإفراد والإضافة إلى الياء على خلاف ذلك، فأراد أن يبين اختلاف العرب فيها إذا كانت معتلة الأواخر، لأنها من مادة واحدة، وعلى حكم واحد، تكملة لما قصد ذكره، ويكون قصده بذكر "هن" هنا ما ذكره من التنكيت على إطلاق النحويين فيه، وأنهم ليسوا على صواب في ذلك الإطلاق، أما من قال في حم "حمء" أو حمأ فهذا من مادة أخرى غير مادة حم، وكذلك أخ وأب وهن المشددات هي من مواد أخر غير مواد أخ وأب وهن، فصارت منها كالأجنبيات وكالألفاظ المترادفة فعد هذه في جملة لغات تلك كعد الألفاظ المتباينة في اللفظ المترادفة في المعنى في جملة اللغات كالأسد والليث والسبع ونحو ذلك، وهذا غير لائق بالقصد النحوي، وأما أخو وحمو فلما جريا مجرى الصحي كغزو ودلو فارق المعتل الآخر، وأشبه الصحيح الآخر، فلم يعده في اللغات، كما لم يعد المضاعف والمهموز، وهذا حسن من القصد وبالله التوفيق.
*
…
*
…
*
ثم ذكر شرط هذا الإعراب فقال:
وشرط ذا الإعراب أن يضفن لا
…
لليا كجا أبو أخيك ذا اعتلا
الإعراب الذي أشار إليه هو الرفع بالواو، والنصب بالألف، والجر بالياء، في الأسماء الستة، والضمير في "يضفن" عائد على الأسماء المذكورة، ويعني أن شرط حصول هذا الإعراب المذكور في هذه الأسماء الستة أن يكن مضافات، وأن تكون الإضافة إلى غير ياء المتكلم، فهذان شرطان لابد منهما، ساقهما مساق الشرط الواحد في قوله:(أن يضفن لا لليا) فإنهن إذا لم يضفن البتة أعربن بالحركات، فتقول: هذا لك أخ، ورأيت أخا لك ومررت بأخ لك، وكذلك أب وحم وهن، وأنشد الجوهري في إفراد حم:
هِيَ ما كَنَّتِي وَتَزْ
…
عُمُ أني لها حم
و"فو" كذلك لأنها إذا لم تضف يبدل من واوها الميم، فتقول هذا فم، ورأيت فما، ونظرت إلى فمٍ، وأما "ذو" فهي لازمة للإضافة أبدا لا تتجرد عنه. فأما قولهم لملوك اليمن: الأذواء والذوون، فليس على تجريد
"ذو" من الإضافة، وهي بمعنى صاحب، كما كانت في أصل الوضع بل على تجريد التسمية بذو لكل واحد منهم، حين تسموا بذو كذا، نحو: ذو يزن، ذو الكَلَاع، وذو جَدَن، وذو نُوَاس، وذو أصبح، وهم التبابعة من قضاعة فسموا الأذواء على تقدير التسمية بـ "ذو"، فشرط الإضافة في "ذو" حاصل بحكم الأصل، وكذلك إذا أضفن إلى ياء المتكلم، لم يعربن بهذا الإعراب، أعني إعراب الحروف.
فإذا قلت: هذا أبي وأخي وحمى وهنى كان معربا بالحركات، مقدرة في أواخرها، واتفق في ذو أن كان لا يصح فيه أن يضاف غلى الياء، لأن أصله ألا يضاف إلا إلى أسماء الأجناس، إذ كان وضعه لأن يكون وصله إلى الوصف بأسماء الأجناس، فلا يضاف إلى الضمير مطلقا إلا شاذا، وعادة بعض الشيوخ أن يضيف إلى هذين الشرطين شرطا ثالثا، وهو: أن تكون مكبرة غير مصغرة، لأنها إذا صغرت رجعت أواخرها المحذوفة، وأدغمت في ياء التصغير، فأعربت بالحركات ظاهرة فيها، وإن كانت مضافة فقلت: هذا أخي زيد وأبيه وحميه وما أشبه ذلك، فيظهر لبادي الرأي أن مثل هذا داخل على الناظم، إذ هو معرب بالحركات مع تفر الشرطين، فكان من حقه أن يزيد هذا الشرط الثالث. وقد يجاب عنه بأن مثال الناظم أغنى عن اشتراط التكبير تنصيصا، لأنه أتى بالأمثلة مكبرة، فقد حصل الشرط بالإشارة وأيضا من حيث قصد بيان إعراب المعتل الآخر، قد خرج له أخي ونحوه، كما خرج له اعتبار حمو وأخو لجريانها بعد التصغير مجرى الصحيح فصارت كحمو وأخو، وعلى الجملة فإنما يأتي بهذا الشرط من يأتي به تقريباً على
المبتديء، والأمر في ذلك قريب، وجاء لما ذكر من الاشتراط بثلاثة أمثلة توفر فيها الشرطان وهي قوله:(كجا أبو أخيك ذا اعتلا) فالأب مضاف إلى الأخر والأخ مضاف إلى الكاف، وذو مضاف إلى الاعتلاء، وحصل في الأمثلة الثلاثة وجوه الإعراب الثلاثة والإضافة إلى الظاهر، وإلى الضمير غير الياء والاعتلاء والعلاء والرفعة والشرف. يقال: اعتلى اعتلاء، وعلا علاء، والاعتلاء أيضا: الاعتماد، كذا قال ابن سيده، وأنشد لأبي ذؤيب:
علوناهم بالمشرفي وعريت
…
نصال السيوف تعتلي بالأماثل
قال: تعتلي: تعتمد، وعداه بالباء لأنه في معنى تذهب بهم وهذا التفسير محتاج إلى التفسير، ولعله يريد الاعتماد بالشيء، أي: الاضطلاع به والاستقلال، وهذا المعنى في بيت أبي ذؤيب واضح، ولا يحتاج معه إلى تضمين الفعل، والعرب تقول: علا بالأمر: إذا استقل به واضطلع وأنشد الجوهري:
اعمد لما تعلو فمالك بالذي
…
لا تستطيع من الأمور يدان
اعتلى من هذا بلا شك.
*
…
*
…
*
ثم قال:
بالألف ارفع المثنى وكلا
…
إذا بمضمر مضافا وصلا
كلتا اثنان واثنتان
…
كابنين وابنتين يجريان
وتخلف اليا في جميعها الألف
…
جرا ونصبا بعد فتح قد الف
هذا ضرب ثان تنوب فيه الحروف عن الحركات، على وجه آخر غير ما تقدم وذلك المثنى. والمثنى: هو ما حصل في التثنية من الأسماء، ولم يحتج إلى بيان كون المثنى من الأسماء لأمرين:
أحدهما: كون التثنية من خواص الأسماء.
والثاني: أنه قد جعله محلا للجر في قوله: (جرا ونصبا) فدل على أن كلامه فيما يدخله الجر، وهو الاسم، وأيضا قولك: يفعلان بتثنية ليفعل، لأنك لم ترد أن تضم إلى يفعل هذا يفعل آخر، كما كنت فاعلا في الاسم، فليس المثنى إلا الاسم، ولم يبين الناظم معنى التثنية وكان ذلك مما ينبغي له أن يبينه، والتثنية أن تزيد في آخر الاسم ألفا ونونا في الرفع، وياء ونونا في النصب والجر، ليصير الاسم بذلك يدل على اثنين مما كان يدل عليه قبل ذلك، وحدها المؤلف في "التسهيل" بحد آخر جمع فيه شروط التثنية التي يذكرها هؤلاء المتأخرون فقال: التثنية: جعل الاسم القابل دليل اثنين متفقين في اللفظ غالبا وفي المعنى على رأي بزيادة ألف في آخره رفعا، وياء مفتوح ما قبلها جرا ونصبا، تليهما نون مكسورة
فتحها لغة، وقد تضم. فقوله:"جعل الاسم القابل" يجمع من شروط التثنية الإفراد والإعراب والتذكير.
وقوله: متفقين في اللفظ غالبا، وفي المعنى على رأي هما الشرطان الباقيان على أن مذهب الناظم هنا وفي "التسهيل" أن الإعراب ليس بشطر لازم، ألا ترى أن اسم الإشارة والموصول إذا جعلا للمثنى نحو: هذان واللذان فهما عنده من قبيل المثنى حقيقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم نرجع إلى كلامه:
فقوله: (بالألف ارفع المثنى) أراد به أن الاسم المثنى رفعه بالألف خلاف ما تقدم، فإن رفعه بالواو، وهذا منه نص في إعراب المثنى، وكذلك يقول في الياء في الجر والنصب إنها العلامة بنفسها من غير تقدير شيء، وهو الذي اختار في "التسهيل" واحتج على صحته في "الشرح" ببطلان ما عداه.
وقد ذهب قوم إلى أن الرفع فيه بغير علامة، بل صار عدمها علامة له وأما النصب والجر فعلامتهما التغير والانقلاب وإليه ذهب ابن عصفور. ومنهم من جعل الإعراب بالحركات مقدرة في الألف والياء، فهو عند هؤلاء لم يخرج عن قاعدة الإعراب بالضمة رفعا وبالفتحة نصبا
وبالكسرة جرا. وذهب الأخفش والمبرد غلى أن الإعراب مقدر في الحرف الذي قبل العلامة، وحرف اللين علامة على ذلك. ومنهم من ذهب إلى غير ذلك، ولا حاجة بنا إلى الكلام في إبطالها، وتصحيح مذهب الناظم، وهو مذهب الفراء، وأبي إسحاق الزيادي، وأبي القاسم الزجاجي، وجماعة.
ولنا التمسك بالظاهر الذي هو أصل من أصول العربية، فإن حروف اللين نجدها تختلف لاختلاف العوامل، كما تختلف الحركات، فندعي أنها هي الإعراب، ولو زعمنا أن الإعراب غيرها لما ساغ لما فيه من تكلف التقدير المنافي قصد البيان.
فإن قيل فقد ثبت أن علامات الإعراب زوائد على الكلمة، وهي الحركات فادعاء غيرها مما ليس بزائد على الكلمة دعوى عارية عن الدليل.
فالجواب: أن العذر عن هذا قد تقدم في فصل إعراب الأسماء الستة فلا نعيده. وقوله: (وكلا) معطوف على المثنى، يعني أن رفع "كلا" بالألف أيضا، فتقول: جاءني الزيدان كلاهما، فتكون علامة الرفع فيها الألف، كما كانت الألف علامة الرفع في المثنى، إذا قلت: جاء الرجلان ثم إنه لم يجعل ذلك فيها مطلقا، بل شرط في ذلك وهو أن يضاف إلى المضمر، وذلك قوله:(إذا بمضمر مضافا وصلا). فقوله: (بمضمر) متعلق بـ
(وصلا)، وضمير (وصل) عائد على (كلا) باعتبار كونه لفظا، و (مضافا) حال من ضمير وصل، والتقدير: إذا وصل بضمر حال كونه موصولا به، يعني أن (كلا) إنما تعرب إعراب المثنى إذا أضيفت إلى مضمر فتقول: جاءا كلاهم، ورأيتهما كليهما، وجئت إليهما كليهما، وسواء كان هذا المضمر لمتكلم، أو مخاطب، أو غائب، نحو: أتينا كلانا، وأكرمتكما كليكما ومررت بهما كليهما، أما إذا كانت مضافة إلى الظاهر فمهوم شرطه أنها لا تعرب هذا الإعراب، وإذا لم تعرب كذلك رجعت إلى أصله المتقدم، وهو الإعراب بالحركات حسب ما تقدم، فقول الفرزدق:
كلاهما حين جد الجري بينهما
…
قد أقلعا وكلا أنفيهما راب
الأولى فيه: معربة بالحروف والثانية: معربة بالحركات. فالحاصل أن "كلا" عنده تارة تعرب بالحروف كالمثنى، وتارة تعرب بالحركات كالمفرد المنصرف، وهذا مذهبه في "كلا" في تواليفه مثل "التسهيل" و "الفوائد" و "لبّ الألباب" ووجه هذه التفرقة عند أن (كلا) لما كانت مفردة اللفظ مثناة في موضع، إلا أن آخره معتل، فلم يلق به من إعراب المفرد إلا المقدر فجعل ذلك مضافا إلى مظهر ليتخلص من اجتماع إعرابي تثنيته في شيئين كشيء واحد، وجعل الآخر مضافا إلى مضمر؛ لأن المحذور فيه قد أمن بهذا وجّهه في "شرح
التسهيل" وكلامه هنا إنما هو على اللغة المشهورة في "كلا" وقد ترك وجهين للعرب فيهما:
أحدهما لكنانة، وهو إجراؤها مجرى المثنى مطلقا، مضافة إلى المضمر أو إلى الظاهر فيقول هؤلاء: رأيت كليْ أخويك، ومررت بكلي أخويك، كما يقول الجمهور: رأيتهما كليهما، ومررت بهما كليهما.
والثاني: إجراؤها مجرى المقصور مطلقا، وهو الجاري على لغة بلحارث بن كعب، وعلى لغة من قال: إلاك وعلاك، وإنما تر ذكرهما لقلتهما، فاكتفى بما هو الشهير في الكلام ويمكن أن يكون غير تارك لهما، فتكون "كلا" على لغة بلحارث جارية مجرى المفرد المقصور، فترجع إلى الأصل المتقدم من الإعراب بالحركات مطلقا، وعلى هذا دل كلامه في "التسهيل" حيث قال: وما أعرب إعراب المثنى مخالفا لمعناه أو غير صالح للتجريد، وعطف مثله عليه فملحق به. ثم قال: وكذلك "كلا" و "كلتا" مضافين إلى مضمر، ومطلقا على لغة كنانة. انتهى، وترك لغة بلحارث لدخولها في حكم المفرد المنصرف، ثم قال:"كلتا" يحتمل في إعرابها وجهان:
أحدهما: أن تكون منصوبة الموضع عطفا على "كلا" في قوله: "بالألف ارفع المثنى وكلا" فكأنه قال: ارفع المثنى وكلا وكلتا، إلا أنه حذف حرف العطف، كما قال قائل: أكلت لحما سمكا تمرا. قال ابن جني: أراد
لحما وسمكا وتمرا، وعلى هذا يكون قوله:(كذاك) خبرا للمبتدأ الذي هو اثنان واثنتان. وقوله: (كابنين وابنتين يجريان) بدل من (كذاك).
والثاني: أن تكون "كلتا" مرفوعة على الابتداء، وخبرها كذلك، ويكون "ذا" إشارة إلى "كلا" وعلى الأول يكون إشارة إلى المثنى. وقوله:(اثنان واثنتان .. ) إلى آخره مبتدأ، خبره المجرور بعده على هذا الوجه الثاني، وعلى كلا الوجهين أراد أن "كلتا" حكمها حكم "كلا" فيما ذكر، فترفعها بالألف إذا أضيفت إلى مضمر، وبالحركات إذا فقد هذا الشرط، والكلام فيهما واحد.
واعلم أن كلام الناظم يقتضي في "كلا" أمرين:
أحدهما: أن "كلا" عنده من قبيل المفردات، لا من قبيل المثنيات وذلك أنه عطفها على المثنى حيث قال:(بالألف ارفع المثنى وكلا)، فدل على أنها ليست من المثنى حقيقة، وإلا فكان يكفيه إطلاق لفظ المثنى فيدخل فيه. وهذا المذهب هو رأي أهل البصرة، وذهب أهل الكوفة إلى أنها من قبيل المثنى حقيقة، كغلاما زيد، وصاحبا عمرو، وكذلك كلتا، وواحد "كلا" كل، فخففت اللام، وواحد
كلتا كلت، وأنشدوا:
في كلتَ رجليها سلامى واحده
…
كلتاهما مقرونة بزائدة
فأفرد في البيت الأول وثنى في الثاني، وإذا كانا كذلك استويا مع سائر المثنيات، وحداهم إلى هذا الانقلاب ألفهما مع المضمر، نحو: رأيتهما كليهما، ومررت بهما كليهما. والصحيح ما ذهب إليه الناظم والبصريون إذ ليس "كلا" من لفظ كل بسبيل، ولا "كلتا" مفردها "كِلت"، بل "كلت" محذوفة من "كلتا"، وأبقيت الفتحة في التاء دليلا عليها، كذا قال ابن الأنباري والسيرافي، وأيضا انقلاب الألف مع المضمر لا يدل على أنهما مثنيان، بل يدل على خلاف ذلك، إذ لو كانا لم يختص انقلاب الألف بالمضمر، بل كانت تنقلب مطلقا، والمضمر كالمثنى من لك وجه، فلما لم تكن كذلك دل على مخالفة ما هي فيه للمثنى، وأيضا لو كان من قبيل المثنى لم يعد عليهما ضمير المفرد في غير ندور، بل كان يكون الضمير العائد عليهما ضمير المثنى، لكنهم لم يفعلوا إلا العكس، قال الله تعالى:((كلتا الجنتين آتت أكلها)) ولم يقل أتتا أكلهما، وكذلك الحال في "كلا" قال الأعشى:
أكاشره وأعلم أن كلانا
…
على ما ساء صاحبه حريص
والكلام في الاحتجاج يطول.
والأمر الثاني: أن إعرابهما عنده على وحين بالحروف تارة، وبالحركات أخرى، وذلك احد المذاهب الثلاثة، وهو ظاهر كلام الفارسي في الجزء الأول من "الإيضاح" وظاهر كلام ابن جني في كتاب "التعاقب" وعليه طائفة من المشارقة.
والثاني: أنهما معربان بالحركات مطلقا، وهو رأي الجمهور ممن نفى التثنية عنهما، وإنما انقلبت ألفهما في الجر والنصب حملا على "لدى" في الجرّ، و "إلى" و "على"، أعني مع المضمر فقالوا في النصب كليهما كما قالوا: لديهما. وقالوا في الجر كذلك، كما قالوا: إليهما.
قال سيبويه: وسألت الخليل رحمه الله عمن قال: رأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك، ثم قال: مررت بكليهما. فقال جعلوه بمنزلة عليك ولديك في الجر والنصب، لأنهم ظرفان يستعملان في الكلام مجرورين ومنصوبين، فجعل "كلا" بمنزلتهما حين صار في موضع الجر والنصب.
والثالث: من المذاهب أنهما معربان بالحروف مطلقا كالمثنى، وهو رأي الكوفيين، وقد تقدم وجه ما ذهب إليه الناظم، وقد رجح ما ذهب إليه بثلاثة
أشياء.
أحدها: أن كنانة أجرتهما مع الظاهر مجرى المثنى أيضا، وبذلك يتبين صحة قول من جعل:"كلا" و "كلتا" من المعرب بحرف لا بحركة مقدرة. فإن القائل: إنهما معربان بحركة مقدرة، يزعم أن انقلاب ألفهما ياء مع المضمر بالحمل على ألف "لدى" و "إلى" و "على"، ولو كان الأمر كما قال لامتنع انقلاب ألفهما ياء مع الظاهر في لغة كنانة، كما يمتنع عندهم وعند غيرهم انقلاب ألف "لدى" و "إلى" و "على" مع الظاهر.
والثاني: أن مناسبتهما للمثنى أقوى من مناسبتهما لـ "لدى" و "على" ومراعاة أقوى المناسبتين أولى من مراعاة أضعفهما.
والثالث: أن تغير ألفها حادث عن تغير عامل، وتغير ألف "لدى" و "إلى" و "على" حادث بغير تغير عامل، فتباينا وامتنع أن يحمل أحدهما على الآخر.
ثم قال: (اثنان واثنتان كابنين وابنتين يجريان) يعني أن هذين اللفظين حكمهما حكم المثنى حقيقة في الإعراب.
فتقول: هذان اثنان كما تقول: هذان ابنان، وتقول: هاتان اثنتان، كما تقول: هاتان ابنتان وكذلك الحكم فيهما جرا ونصبا حسب ما نبه عليه، وبين هذا فيهما لأنهما ليسا من
قبيل المثنى حقيقة كـ "كلا" و "كلتا"، إذا ليس لهما مفرد كابنين وابنتين، ولا يحتاج إلى التنبيه عليهما. فقوله:"كابنين" وابنتين" أي كجريان المثنى حقيقة يجريان ويجري مجراهما ثنتان في أن حكمه حكم قولك: بنتان.
واعلم: أنا إذا جعلنا قوله: (كابنين
…
) إلى آخره "خبر اثنان واثنتان، كذلك على تقدير أن يكون قوله: "كذاك" خبر كلتا، فلا إشكال في حصول الفائدة بقوله: (كابنين وابنتين يجريان) إلا أن "كذاك" إشارة إلى البعيد، وإنما أشار إلى قريب فيكون عامله معاملة البعيد ومثل هذا الاستعمال سائغ، وإن كان على خلاف الأصل، وأما إذا جعلنا "كذاك" خبر اثنان و "اثنتان" والإشارة إلى المثنى فيقع السؤال عن الفائدة في قوله: (كابنين
…
) إلى آخره "إذ قد حصل" ذاك بالإشارة إلى المثنى، لا سيما وقد أشار "بذاك" المقتضية غير القريب، فلذلك كان يكفي، إذ لا يتوهم معها أن المراد "كلا" لأن الإشارة إليها إنما تكون بذا المقتضية للقرب، لا بذاك المقتضية لغيره، فالحاصل للفهم أن اثنين واثنتين كالمثنى، فما الفائدة في قوله:(كابنين وابنتين يجريان)؟
والجواب: أن الإشارة بذاك ليست بنص فيما دون القريب إذ قد يقع ذو البعد موضع ذي القرب وبالعكس لمقاصد، أو للاتساع في الكلام، وإذا كان كذلك أوهم الموضع أن تكون الإشارة بذاك إلى القريب كما
هي للقريب في الوجه الآخر، حيث جعلنا كذاك خبر "كلتا"، إذ ليست الإشارة فيه إلا لكلا، وهي أقرب في الذكر من المثنى فرفع الناظم هذا الإيهام بقوله:"كابنين وابنتين يجريان" وعين أن الإشارة للمثنى لا لكلا والله أعلم.
فإن قيلك اقتصار الناظم على أربعة ألفاظ مما أجرى مجرى المثنى مشكل، ؛ فإنه إما أن يريد أن هذه الألفاظ وما كان مثلها مما شذ عن الباب فيكون اقتصاره عليها تنبيها على ما هو في معناها مما لم يذكر، وإما أن يريد أن هذه الألفاظ بخصوصها شذت، وترك ذكر ما عداها، وعلى كلا التقديرين يرد الإشكال، فإن أراد الأول فليس في لفظه ما يدل عليه إذ لم يقل بالألف ارفع المثنى وكذا كذا، وما كان نحوها، ولا ما أشبه ذلك، وإن أراد الثاني كان اقتصاره على ما ذكر قصورا مع القدرة على التنبيه على ما بقي، بأقل إشارة، ولإيهام أن هذه المذكورة هي التي شذت عن باب المفردات، وذلك قادح، وقد جعل في "التسهيل" وشرحه ما شذ من ذلك على ضربين:
أحدهما: ما خرج عن حقيقة التثنية، بكونه مخالفا لمعنى المثنى وإن صلح للتجريد وعطف مثله.
والثاني: ما وافق معنى المثنى لكنه غير صالح للتجريد وعطف مثله عليه فمن الأول ما أريد به التكثير نحو قول الله تعالى: ((ثم ارجع البصر كرتين)) المعنى كرّات كثيرة لقوله: ((ينقلب إليك البصر خاسئا)) أي: مزدجر، ((وهو حسير)) أي: كليل، وقالوا: سبحان الله
وحنانيه، المعنى: حنان بعد حنان. وأنشد البغداديون:
ومهمهين قذفين مرتين
قال الفراء: أراد ومهمة بعد مهمة. ومنه مما يراد به الجمع قول الله تعالى: ((فأصلحوا بين أخويكم)) أي: بين إخوانكم. وفي الحديث: "البيعان بالخيار". والمراد البيعون. ومن الثاني: مما هو مفرد ولا يصلح للتجريد، قولهم للذي يأخذ به الحداد الحديد المحمى: كلبتان. وقولهم: البحران وأبانان ونحو ذلك. ومنه ما يصلح لعطف مخالفة عليه، لا مثله كالقمرين في الشمس والقمر، والزهدمين في زهدم وكردم.
ومن ذلك قولهم لما هو وسط الشيء: هو بين ظهريهم وظهرانيهم ولقيته بين الظهرين والظهرانين، أي: في اليومين أو في الأيام، وقالوا: المِذرَوان، ومنه ما هو مساو لمفرده نحو: نزل فلان حولنا وحوالنا وحوالينا. وفي الحديث: "اللهم حوالينا
ولا علينا"، وأنشدوا.
ماء رواء ونصى حوليه
وأجاز الفراء أن يكون من هذا النوع قوله تعالى: ((ولمن خاف مقام ربه جنتان)) ويدخل تحت هذا الضرب ما ذكره الناظم فكان الأولى به أن يقول كما قاله في "التسهيل" فيجمع الضربين، أو يأتي بما يرفع عنه الإيراد.
فالجواب: أنا نلتزم أنه قصد الأمر الثاني، ولا يلزم عليه اعتراض، وذلك أن الضرب الأول مما ذكر في السؤال غير خارج عن كونه مثنى حقيقة إذا تأملته، ولولا الإطالة لبين ذلك. وأما الضرب الثاني فليس بضروري الذكر لوجهين:
أحدهما: أنه غير مقيس، وإنما هو موقوف على السماع، فلو لم ينبه على شيء منه لما لزمه اعتراض؛ لأن النحويَّ لا يتكلم إلا فيما كان مقيسا خاصة.
والثاني: أن ما لم يذكر منه قليل في الكلام، وغيره متداول في الاستعمال بخلاف الألفاظ الأربعة التي ذكر، فإنها كثيرة الدوران في الاستعمال، فاقتصر على ذكر حكمها في النحو، لشدة الحاجة إليها، كما اقتصر في الجمع أيضا على المحتاج إليه، الدائر على الألسنة دون غيره مما له حكمه. وذلك في قوله:"وبه عشرونا وبابه ألحق والأهلونا .. " إلى آخرها ولم يتعرض لنحو "صريفين" و "قنسرين" و "نصيبين" و"صفين" و "مرئين" في جمع مرء، المراد به امر، وقولهم أطعمنا مرقة مرقين، وما كان نحو هذا، وفي نظمه مواضع من هذا النحو، يأتي التنبيه عليها حيث نعرض لها إن شاء الله، فكذلك يقال في هذا الموضع، وهو قصد صحيح بالنسبة إلى علم النحو عموما، وإلى مما انتصب له في هذا النظم من الإتيان بجلائل النحو وما يليها خصوصا.
واعلم أن "هذان" و "هذين" و "اللذان" و "اللذين" و "اللتان" و "واللتين" عند الناظم من قبيل المثنى حقيقة، فهي داخلة تحت قوله:(بالألف ارفع المثنى) لكن لما كانت عند جمهور البصريين غير مثناة حقيقة، ومخالفة في بعض الأحكام للمثنى لم يقتصر على دخولها هنا، بل نبه عليها في أبوابها حسب ما يأتي إن شاء الله.
ثم ذكر كم الجر والنصب فقال: (وتخلف اليا في جميعها
الألف جرًا ونصبًا) يعني أن الياء تقع خلفا من اللف في الجر والنصب معا فتكون علامة لهما، وذلك في جميع ما ذكر من المثنى والجاري مجراه، وذلك قوله:(في جميعها) فالضمير عائد على المثنى والجاري مجراه، وذلك قوله:(في جميعها) فالضمير عائد على المثنى، وما ذكر مما جرى مجراه، وشرط أن تكون الياء (بعد فتح قد ألف) تحرزا من أنتكون بعد كسر، فإنه كان يلتبس بالجمع، فجعلت الفتحة في المثنى قبل الياء فرقا بينهما وبين ياء الجمع، هذا تعليل طائفة فتقول: مررت بالزيدين، ورأيت الزيدين كليهما، ومررت بهما كليهما، ورأيت الهندين كلتيهما، ومررت بهما كلتيهما، وغرست من الشجر اثنين، ورأيت من الرجال اثنين وما أشبه ذلك.
وقيّد الفتح بأنه قد الف من حيث كان مألوفا في الرفع؛ لأن الألف تطلب بفتح ما قبلها أبدا، فلما جاءت الياء في موضعها ترك ما قبل ذلك على فتحه، ولذلك أتى بلفظ (تخلف)، أي: تكون خلفا منها وعوضا، لأن الخالف للشيء محرز لموضع ما خلفه، فلا ينبغي أن يغير من حكمه شيئا، وكأنه -والله أعلم- أشار بهذا إلى علة هذا الفتح، وأنه الذي ألف في الرفع فلذلك ثبت هنا قبل الياء، ولم يكن كسرا، وهو الذي يناسب الياء، وكأنه لم ير التعليل بالتفرقة بين ياء المثنى والمجموع تعليلا كافيا. إذ يقال له: فما وجه الاختصاص؟ فنبه على أنه إنما اختص المثنى بالفتح، لكونه مألوفا فيه ومعتادا، وذلك حالة الرفع، وأيضا فلا يرد السؤال على الكسر قبل الياء، لأنه المناسب لها، بخلاف الفتح فإنه غير مناسب، فلذلك نبه على علة الفتح هنا، بعد ما نبه على أنه الذي يجب فيه التثنية، ولما كان الكسر هو الجاري على القياس والمناسب للياء لم ينبه عليه في الجمع ولا على علة الفتح هنا، بعد ما نبه على أنه الذي يجب في التثنية، ولما كان الكسر هو الجاري على القياس والمناسب للياء لم ينبه عليه في الجمع ولا على علته، بل قال: (وارفع بواو
…
وبيا اجرر وانصب) وترك التنبيه على كون الياء مكسورة ما قبلها، كما لم ينبه على ضم ما قبل الواو أيضا، للعلم بأن
ذلك هو المناسب فيهما، وهذا (التنبيه) حسن في معناه. ويقال: خلف فلان فلانا، إذا صار خليفة له، وخلفته في قومه خلافة، ومنه قول الله تعالى -حكاية عن موسى عليه السلام:((اخلفني في قومي)) الآية. وخلفته أيضا إذا جئت بعده، وخلف قوم بعد قوم منه أيضا، ومنه قول الله تعالى:(فخلف من بعدهم خلف)) و "ألف": من ألفت الشيء ءآلفه إلفا، وقدم الناظم الجر على النصب في قوله: جرا ونصبا لأن الجر أحق بالياء من النصب، إذ الياء من الكسرة هي علامة الجر في الأصل وحمل النصب على الجر.
*
…
*
…
*
ثم:
أو ارفع بواو وبيا أجرر وانصب
…
سالم جمع عامر ومذنب
وشبه ذين وبه عشرونا
…
وبابه ألحق والأهلونا
أولو وعالمون عليونا
…
وأرضون شذ السنونا
وبابه ومثل حين قد يرد
…
ذا الباب وهو عند قوم يطرد
هذا نوع ثالث من نيابة الحرف عن الحركة في الإعراب، وهو أن تكون الواو نائبة عن الضمة، والياء نائبة عن الفتحة والكسرة،
فتكون الواو علامة الرفع، والياء علامة الجر والنصب، وذلك في الجمع السالم المختص بنحو: عامر ومذنب، وهو الجمع الذي على حد التثنية، ويسمى جمع المذكر السالم، وإنما سماه سالما لسلامة بناء الواحد فيه، فإذا قلت: عامرون في عامر، ومذنبون في مذنب، فلم تزد على أن ألحقت العلامتين آخر المفرد فهو سام عن التغيير، وتحرر بذلك عن المجموع جمع التكسير، وهو ما تغير فيه بناء الواحد بزيادة أو نقصان أو تبديل شكل، فإن مثل هذا إنما يعرب بالحركات لا بالحروف، نحو: الزيود، جمع زيد، ورأيت الزيود، ومررت بالزيود.
وقله: (وبيا اجرر) أصله بياء اجرر، لكنه قصره ضرورة وكثيرا ما يفعل هذا، كما قال بعد هذا:(وما بتا وألف قد جمعا) ثم لما قصره بقي التنوين ساكنا، وألف اجرر ساكنة أيضا، فالتقى ساكنان، فكان القياس كسر التنوين، إلا أن الناظم اضطر إلى حذفه فحذفه، كما حذفه أبو الأسود:
فألفيته غير مستعتب
…
ولا ذاكر الله إلا قليلا
وقرئ من الشواذ: ((قل هو الله أحدُ الله الصمدُ)) وجعل إعراب هذا الجمع بالحروف أنفسها، كما ذهب إليه في التثنية، وهو أحد المذاهب فيه، والخلاف في الموضعين واحد والترجيح واحد فلا نعيده.
وقوله: (سالم جمع عامر ومذنب وشبه ذين) إعلام بأن هذا الإعراب إنما يجعل لجمع ما كان مثل هذين الاسمين، إذا جُمع جَمع سلامة، تحررا مما لم يكن مثلهما، فإنه لا يعرب هذا الإعراب لكونه لا يجمع هذا الجمع، وكأنه قصد في هذا الكلام إدراج مسألة في مسألة أخرى، وذلك أن قصده أن يبين علامات الإعراب في جمع المذكر السالم، كما بين ذلك في التثنية والأسماء الستة غير أن هذا الجمع يبقى غير معرف به، فأدرج ذلك في كلامه، وأشار إلى أنه الجمع الذي يجمع عليه عامر ومذنب وما أشبههما مما كان على وصفهما فخرج بذلك جمع السلامة، بالألف والتاء، إذ له إعراب آخر سنذكره.
والقاعدة عند النحويين في هذا أن يقال: الاسم المجموع جمع سلامة بحرف العلة والنون على ضربين: جامدة وصفة، فأما الجامد: فيشترط في جمعه كذلك أربعة شروط، زيادة إلى شروط التثنية:
أحدهما: الذكورية في المعنى، فإنه إن كان مؤنث المعنى لم يجمع هذا الجمع، نحو: هند ودعد وزينب، فلا تقول: هندون ولا دعدون ولا زينبون.
والثاني: العلمية، تحرزا من النكرة، والمعرف بغير العلمية فإنهما
لا يجمعان هكذا لا تقول: في رجل: رجلون، ولا في الغلام وغلام زيد الغلامون وغلامو زيد.
والثالث: العقل، فإن ما ليس بعاقل لا يصلح لهذا الجمع، وإن كان مذكرا في المعنى وعلما فلا تقول في لاحق اسم فرس: لاحقون، ولا في شدق اسم فحل من الإبل شدقم، ولا ما أشبه ذلك.
والرابع: خلوه من هاء التأنيث تحرزا من نحو: طلحة وحمزة، فإنك لا تقول فيهما شرط التذكير في المعنى والعلمية والعقل، وهذه الأوصاف الأربعة موجودة في عامر الذي نبه به الناظم، إذ هو مذكر في المعنى، علم عاقل، خال من هاء التأنيث فتجمعه وما كان مثله هذا الجمع، فتقول: العامرون والعامرين، ومثله الزيدون والزيدين، والجعفرون والجعفرين، والخالدون والخالدين وما أشبه ذلك، وقد ظهر بهذا مخالفته للكوفيين في إجازتهم جمع ما سمي به مما فيه التاء هكذا، فيقولون في حمزة: حمزون، وفي هبيرة هبيرون. والصحيح مذهب البصريين الذي ذهب إليه الناظم؛ لأن السماع بذلك معدوم فضلا عن كونه مما يقاس عليه، فإن سمع من ذلك شيء فمن النادر غير المعتبر، ورد أيضا بأن قيل لهم: إذا جمعتم ذلك بالواو والنون، فإما أن تبقوا العلامة أو تحذفوها،
فإن أبقيتموها لزم اجتماع علامتين متضادتين، وهما التاء والواو؛ لأن الواو علامة تذكير والتاء علامة تأنيث، وذلك غير جائز، وإن حذفتموها غيرتم بنية المفرد بإذهاب حرف دال على معنى، ولا عوض عنه؛ لأنه إنما جاز حذفها في الجمع بالألف والتاء، لتعويض تاء الجمع منها وحذفت في التكسير في نحو:"أعقاب" جمع عقبة؛ لأنه محل تغيير بخلاف جمع السلامة، ولا حجة لهم في جمع ما فيه ألف التأنيث أو همزته إذا سمي به وإن كان يجوز معه بالواو والنون، فتقول في رجل اسمه حُبلى أو حمراء: حبلون وحمراوون؛ لأن ما فيه الألف أو الهمزة قد تنزلتا منزلة الجزء، فجمع الاسم مع بقاهما بخلاف التاء فإنها زائدة على الكلمة فلم يسغ إبقاؤها ولا حذفها دون تعويض، فاختص ما هي فيه بالجمع باللف والتاء دون ما فيه الألف أو الهمزة لذلك.
وأما الصفة فيشترط في جمعها هكذا زيادة إلى شروط التثنية ثلاثة شروط:
أحدها: الذكورية لفظا ومعنى، فإنه إن كانت مؤنثة لفظا لم تجمع هذا الجمع، ولو كان مدلولها مذكرا نحو: رجل ربعة، ورجل هُزَأة، وعلامة ونسّابة، فلا تقول: رَبعون ولا هُزَؤون ولا علّامون ولا نسّابون، وكذلك إن كانت مؤنثة معنى، وإن كان لفظها مذكرا نحو: حائض وطامث، فلا تقول حائضون ولا طامثون، وكذلك لو اجتمع التأنيثان نحو: حُبلى وحمراء لا تقول الحُبلون من النساء جئنني ولا الحمراوون أتينني.
والثاني: العقل، تحرزا من الصفة الجارية على غير العاقل نحو: سابق إذا أردت به فرسا فلا تقول: سابقون، ولا في قاطع إذا أردت به سيفا قاطعون، ولا ما أشبه ذلك، وما جاء على خلاف ذلك فمسموع نحو ما أنشدوا من قوله:
لا خمس إلا جندل إلا حرين
…
والخمس قد يجشمك الأمرين
وقال الآخر:
فأصبحت المذاهب قد أذاعت
…
بها الإعصار بعد الوابلينا
لكن قد يعامل غير العاقل معاملة إذا وصف بوصف من أوصافه فيجوز إذ ذاك جمعه كما قال الله تعالى -حكاية عن نبيه يوسف عليه السلام-
((يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) فعاملها معاملة العاقل حين وصفها بم يختص بالعاقل وهو السجود، وأنشد في "شرح التسهيل" قول الشاعر -يصف قوسا ونبلا-:
لها فتية ماضون حيث رمت بهم
…
شرابهم قان من الدم أحمر
قال: وهذا مطرد فيما جرى هذا المجرى مما لا يعقل، فإن كان الناظم لم يعرض لهذا النوع، بل أخرجه بقوله:(مذنب) من حيث لا تكون هذه الصفة إلا لمن يعقل، وهو الظاهر، فيكون هذا النوع عنده غير مقيس، وهو الذي يظهر من سيبويه وغيره، وإن كان إنما أراد بقوله:(مذنب) أن مثل هذه الصفة التي هي جارية على العاقل وخاصة به تجمع هذا الجمع مطلقا سواء استعملت على حقيقتها، أم جرت على غير عاقل كما جرى (ماضون) في البيت على النبل لما عبر عنها بعبارة من يعقل، وذلك فتية فكذلك يكون لفظ (مذنب) فقد تجريه على ما يتعاصى عليك فيما تريد منه، كبعض الدواب والآلات فتقول: هؤلاء عبيد مذنبون وعاصون فإن تأتت لك وانقادت قلت: هؤلاء مطيعون كما قال في البيت (ماضون حيث رمت بهم) فالحاصل: في هذا الوجه اشترط كون الصفة في الأصل تجري على العاقل، وفي الأول جريانها عليه في الحال، وهذا أظهر في المقصد النحوي،
وهو مراد من اشترط العقل.
والثالث: صحة لحاق هاء التأنيث في مؤنثها، تحرزا من نحو: قتيل وصبور وأحمر وسكران فإنك أردت المؤنث منها لم تلحق التاء فيها، وإنما تقول: امرأة صبور وقتيل بغير تاء، وامرأة حمراء وسكرى، فتأتي للمؤنث ببنية أخرى، فلا يصح إذ أن تقول: رجال قتيلون ولا صبورون ولا أحمرون ولا سكرانون، وما جاء من ذلك فشاذ نحو قول قيس بن رفاعة:
منا الذي هو ما إن طر شاربه
…
والعانسون ومنا المرد والشيب
وقال الشاعر:
فما وجدت نساء بني نزار
…
حلائل أسودين وأحمرينا
فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة جاز في الصفة هذا الجمع نحو: الصالحون والحامدون والظالمون والمسلمون والحسنون و "المذنبون" في مثال الناظم، وهو الذي أشار به إلى هذه الشروط؛ لأن هذه الصفات كلها تلحقها التاء، إذا أريد بها المؤنث، فإذا شروط الجامد مشار إليها بمثال عامر، وشروط الصفة مشار إليها بمثال مذنب، وحصل بذلك ضابط ما يجمع على حد التثنية وما لا، بأوفى كمال في أشد اختصار، وهذه عوائد في هذا النظم كما ستراه في أثناء هذا الشرح بحول الله تعالى.
وقوله: (وشبه ذين) تنبيه على أنه لم يرد خصوص المثالين، بل أراد مع ذلك كل ما كان في معناهما، ثم ذكر ما ألحق بهذا الجمع في الإعراب
بالحروف فقال: (وبه عشرون وبابه ألحق) ضمير "به" عائد على الجمع السالم المذكر، يعني أن العرب قد ألحقت بهذا الجمع في الإعراب ما ليس في بابه، إما لأنه اسم جمع، وإما لأنه جمع تكسير أو جمع سلامة، لكنه غير مستوف للشروط، أو مفرد ليس فيه معنى جمع، فأما "عشرون وبابه" وذلك ثلاثون وأربعون وخمسون إلى التسعين فملحقات بالجمع كما قال، وإن لم تكن جموعا حقيقية، إذ ليس "عشرون" مما له مفرد ولا ثلاثون مفردة ثلاثة ولا أربعون مفرده أربعة، وكذلك سائرها، إذ كان يلزم أن يكون أقل ما ينطلق عليه ثلاثون تسعين، وأقل ما ينطلق عليه أربعون مائة وعشرون، وذلك فاسد، وإنما هي أسماء تشبه أسماء الجموع أعربت إعراب جمع السلامة، وقد حكى المؤلف عن بعضهم أنها جموع على سبيل التعويض، كأرض لما سقطت منها تاء التأنيث حين عد بها المؤنث، ولم يكن من حقها أن تسقط، جمعت هذا الجمع تعويضا، وما تقدم يرد عليه، وأما الأهلون فجمع أهل، إلا أنه غير مستوف لشروط الجمع إذ ليس علما ولا صفة، لكن أهلا قد يستعمل استعمال مستحق في قولهم: هو أهل لكذا، بمعنى مستحق له، فعومل معاملته. قال الله تعالى: ((سيقول المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا
وأهلونا))، وقال: من أوسط ما تطعمون أهليكم))، وفي الحديث:"إن لله أهلين من الناس"، وقوله (والأهلونا أولو) أي وأولو، وعالمون
…
إلخ مبتدآت معطوف بعضها على بعض خبرها قوله: (شذ)، وضمير شذ عائد على جميع ما ذكر على المعنى، كأنه قال:"شذ" ما ذكر ومثله ما قال رؤبة:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَيَلَقْ
…
كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
قال أبو عبيدة قلت لرؤبة: إن كانت الخطوط فقل كأنها، وإن كان سواد وبياض فقل كأنهما، فقال: كأن ذلك ويلك توليع البَهَق، فحمل الكلام كما ترى على معناه، فكذلك قول الناظم:"شذ" وأما "أولو" فاسم جمع وليس له واحد من لفظه، فليس على سبيل الجمع، ولكنّك تقول: جاءني أولو العلم، ورأيت أولي العلم، ومررت بأولي العلم، كما تقول: جاءني حاملوا العلم، ورأيت حاملي العلم، ومررت بحاملي العلم، قال الله تعالى:((والملائكة وأولو العلم)) وقال: ((واتقون يا أولي الألباب))، ومفرده من جهة المعنى "ذو" الذي بمعنى صاحب، فهو مرادف لذووا، إذا قلت: ذوو العلم، إلا أن ذوو جمع حقيقة، فلذلك لم يذكره في الملحقات بالجمع، وأما "عالمون" فهو عند الناظم على ما ظهر منه اسم جمع، وليس بجمع
عالم وعلى مقتضى هذا الظاهر نص في "شرح تسهيل" فقال: وأما "عالمون" فاسم جمع مخصوص بمن يعقل قال: وليس جمع عالم؛ لأن العالم عالم، والعالمين خاص، وليس ذلك شأن الجموع ولذلك أبى سيبويه أن يجعل الأعراب جمع عَرَب؛ لأن العرب يعم الحاضرين والبادين، والأعراب خاص بالبادين وما قاله بناء منه على أنه خاص بمن يعقل، كما ذكر، وفيه اختلاف، وقد ذهب كثير من العلماء وأهل اللغة إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمعية، لكنهم اختلفوا في تفسير العوالم التي جمعت هذا الجمع، فمنهم من ذهب إلى أنها أصناف الخلق ما عقل منها ما لم يعقل، وهذا ظاهر كلام الجوهري ورأى أبي الحسن ومنهم من ذهب إلى أنها أصناف العقلاء وهم الإنس والجن والملائكة، وهو رأي أبي عبيد، ومنهم من ذهب غلى غير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره، فالأول صحيح في القياس من باب التغليب، كما تقول في رجل سابق وفرسين سابقين سابقون. والثاني كذلك أيضا صحيح وليس مفردة إذ ذاك أعم منه، بل هو بالعكس، فقد خالف العرب مع الإعراب، وصار كعالم مع عالمون، ولكن لا يخرج عن كونه جاريا مجرى الجمع وليس بجمع حقيقة، لعدم استيفاء شروطه، إذ قد فاته شرطان:
أحدهما: أنه ليس بعلم، ومن شروط الجامد أن يكون علما.
والثاني: أنه ليس بعاقل؛ لأن لفظ "عالم" عبارة عن الصنف والصنف من جهة ما هو صنف ليس مما يوصف بالعقل، وإن كانت مفرداته توصف به، وقد حكى هو هذا القول الثاني، وأنه جمع هذا الجمع لتقويم جمعيته مقام ذكره، موصوفا بما يدل على عقله، ثم رده بأن هذا لو كان جائزا في عالم لكان جائزا في غيره من أسماء الأجناس الواقعة على ما يعقل وما لا يعقل، فكنت تقول في جمع شيء إذا أردت به جميع من يعقل شيئون، وفي امتناع ذلك دليل على فساد ما أفضى إليه.
وأما "عليّون" فهو الاسم لأعلى الجنة، جعلنا الله من أهلنا بمنه وكرمه فهو مفرد جار مجرى الجمع، كصريفين وصفين ونصيبين. قال الله تعالى:((كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون)) وكأنه في الأصل جمع عِلِّيٌّ على فعِّيل، ثم سمى به أعلى الجنة، وذكر الغزنوي عن يونس أن واحد علِّيين عِلِّي على وعلّيّة، والعِلّية: الغرفة. وقول الناظم (علّيُّونا) هو على حذف العاطف، أي: وعلّيون.
وأما "أرضون" فخّوه من شروط الجمع أيضا ظاهر؛ لأنه جمع أرض وأرض اسم جامد مؤنث لما لا يعقل' إلا أنه جمع هذا الجمع لأنه ربما يورد في مقام التعجب والاستعظام. ألا ترى إلى قولهم: لقيت منه البِرُحَين
والفتكرين، وهي الشدائد والدواهي، وبذلك علل الفراء عليّين، وقول العرب: أطعمنا مرقة مرقين؛ بهذا علل المؤلف وأنشد على وروده في أرض في مقام الاستعظام قول الشاعر:
لقد ضجت الأرضون إذ قام من بنى
…
سدوس خطيب فوق أعواد منبر
وأنشد بيتا آخر لم أقيده، وقوله:"شذ" خبر قوله: (والأهلون) ما عطف عليه، أي: أن هذا الذي تقدم شاذ عن القياس، فبابه الحفظ، ثم قال:(والسنونا وبابه) يعني أنه شذ أيضا كشذوذ ما تقدم من الألفاظ، فهو مبتدأ محذوف الخبر، كقولك: زيد قائم وعمرو.
فإن قلت: لم فصل السنين وبابه عما تقدم وكان قادرا على أن يقول: وأرضون والسِّنون وبابه شذ، هذا كان يكون وجه الكلام فلم عدل عنه.
فالجواب: أن يقال: إنما عدل إلى فصل السنين وبابه عما قبله، وإن كان الجميع على غير قياس الجمع؛ لأنه مخالف لما تقد م بحكم يذكر فيه، وهو قوله: (ومثل حين يرد ذا الباب
…
) إلى آخرة، فلأجل هذا فصله ليتعين إذا أشار إليه بعد وأحال عليه وإشارته
بقول: (والسنونا وبابه) إلى ما حذفت لامه فجعلت هاء التأنيث فيه عوضا مما حذف منه نحو: سنة وبرة قلة وظبة ورئة وثبة، فإنهم قالوا فيها على جهة الشذوذ، سنون ويرون وقلون وظبون ورئون وثبون، وفي القرآن الكريم ((في بضع سنين))، وأنشد أبو زيد:
فغظناهم حتى أتى الغيط منهم
…
قلوبا وأكبادا لهم ورئينا
وأنشد أبو عمرو:
نحن هبطنا بطن والغينا
…
والخيل تعدو عصبا ثبينا
وقال الكميت:
يرى الراؤون بالشفرات منها
…
كنار أبي حباحب والظبينا
وقال كعب:
تعاور أيمانهم بينهم
…
كؤوس المنايا بحد الظبينا
وقال عدي بن زيد:
عن مبرقات بالبرين وتبـ
…
دو بالأكف اللامعات سؤر
فسنة: أصل لامه الواو لقولهم: سنوات، أو الهاء لقولهم: سانهت، وقلة من الواو كذلك لقولهم: قلوت، وهي عودان يلعب بهما الصبيان، وبرة من الوا أيضا، وهي حلقة من صفر تجعل في أنف بعير.
قال أبو علي: أصلها بروة؛ لأنها جمعت على بُرًى، كقرية وقُرًى. وظبة السيف حده، وهي من الواو، ورئة أصلها الياء؛ لقولهم: رأيته إذا أصبت رئتهن فهذا الباب كله على غير قياس، بل إنما مجراه مجرى التكسير، ولذلك غيرت أوائل المفردات في الجمع فقالوا: في قلة قلون، وفي ثبة ثبون، وفي سنة سنون، والهاء فيها كلها عوض من المحذوف، ولما كانت تحذف في الجمع أتو بهذا الجمع المخصوص عوضا من ذلك المحذوف، فإذا تقرر هذا ورد على كلام الناظم سؤالان:
أحدهما: أن هذا النوع الذي فصله مما قبله، وهو باب "سنين" كان حقه أن يذكر معه "أرضون"؛ لأنه مثله في التعويض، فقد قالوا في أرض، إنما جمع هذا الجمع ليكون عوضا مما كان حقه أن يلحقه فلم يلحقه، لأن الأرض مؤنثة وحق المؤنث أن تلحقه علامة التأنيث، فلما لم تلحقه، وكان من الواجب في الأصل لحاقها عوّضوا منها هذا الجمع فساوى
بذلك باب "سنين" من حيث كان حقه في الأصل أن يستعمل تاما، فلما لم يستعمل كذلك جعلوا له هذا الجمع عوضا مما فاته من ذلك، وإذا ثبت هذا فإخراجه لأرضين عن باب "سنين" المفصل غير سديد في بادئ الرأي.
والثاني: أنه جعل باب "سنين" من الشاذ في هذا الاستعمال، إذ عطفه على ما بين أنه شاذ كما تقدم في التفسير، وليس من الشاذ، ألا ترى أن طائفة من النحويين يقولون بالقياس فيه حسب ما يأتي إثر هذا بحول الله، ولا يقال بذلك إلا فيما كثر مثله في الاستعمال، وعلى هذا نص في "التسهيل" حيث قال: وشاع هذا الاستعمال فيما لم يكسر من المعوض من لامه هاء التأنيث فعده من الشائع المستمر لا من الشاذ، وهو هنا قد عده من الشاذ، كما ترى، فلا بد من صحة أحد كلاميه وعدم صحة الآخر، لكن ما قاله في "التسهيل" صحيح جار على ما ذكره غيره من النحويين، فثبت أن ماقاله هنا غير صحيح.
والجواب عن الأول أن ما قيل: في أرضين، من العلة لم يعتبرها المؤلف، وإنما اعتبر فيه معنى الاستعظام كما مر، فهو عنده كعلّين لا كسنين، وإذا كان كذلك لم يلزمه اعتراض، إذ ليس قائلا بأن هذا الجمع في أرض عوض من الهاء المحذوفة؛ لأنه أمر توهمي لا يبنى عليه ولا يرجع في قياس إليه.
والجواب عن الثاني أن يقال: يحتمل أن يكون مراد الناظم أن باب "سنين" شاذ أيضا حسب ما تقدم، غير أن شذوذه على غير جهة شذوذ ما تقدم فإن القاعدة الأصولية أن الشاذ على ثلاثة أضرب: شاذ في القياس والاستعمال معا، وذا هو الذي لا يوجد إلا في الشعر، أو في قليل من الكلام.
ومثله ابن جني بتصحيح عين مفعول مما عينه واو نحو: فرس مقوود ورجل معدود، وما ذكره الناظم من أهلين وأولي وعالمين وأخواتها هو من هذا الضرب، إذ ليس بشائع، وإنما هو قليل وشاذ في القياس دون الاستعمال وهو الذي يوجد كثيرا في الكلام، ولكنه مع ذلك غير مقيس، ومثله ابن جني بتصحيح عين أفعل واستفعل في مثل: أخوص الرمث، وأغليت المرأة واستحوذ فلان على البلد، واستصوبت الأمر، فمثل هذا شائع في الكلام إلا أنه لم يبلغ مبلغ القياس، وما ذكرت من باب "سنين" من هذا القبيل عنده، إذ هو مع شياعه لم يبلغ مبلغ القياس، فلم يخرج عن باب الشذوذ، فإذا لادرك عليه في إطلاق لفظ الشذوذ على القسمين لصحة الإطلاق.
وشاذ بعكس هذا الثاني كماضي يذر ويدع ونحوه من مسائل باب الاستغناء ولا حاجة بنا إلى هذا الضرب، والحاصل أن كلامه هنا وفي "التسهيل" صحيح، وقد يحتمل أن يكون مراد الناظم أن باب سنين أجرى أيضا مجرى الجمع السالم في الإعراب هكذا على الجملة، من غير تعويض لكونه شاذا أو غير شاذ بل يقدر خبر المبتدأ الذي هو "والسنون وبابه" كأنه قال: والسنون وبابه كذلك، أو مثل ما مر، يعني في الإعراب، أو ملحق بالجمع، كما قال في باب عشرين أنه ألحق به ودل على هذا المقدر الكلام قبله، فيكون قد أتى بثلاثة أنواع مما أجرى مجرى الجمع، وليس به.
أحدها: أسماء الأعداد كعشرين.
والثاني: باب ستين.
والثالث: ألفاظ شذت لا ضابط لها.
وإنما أخر باب "سنين" لما تقدم، ولا يبقى بعد هذا في كلامه إشكال، والله أعلم.
ثم قال: ومثل حين قد يرد ذا الباب "مثل" منصوب على الحال من "ذا" ويريد أن هذا الباب الذي أشار إليه بقوله: "والسنونا وبابه" قد يرد عن العرب مثل حين، أي في جعل الإعراب على النون، فتعامل النون فيه معاملتها في حين، كأنها من أصل الكلمة ويجري الإعراب عليها، بالرفع والنصب والجر بالحركات، ويتبعها التنوين، لكن بشرط نبه عليه التمثيل بحين، وهو أن يكون قبل النون الياء، كما كان
ذلك في لفظ "حين". قال في "شرح التسهيل": وإنما ألزموه إذا أعربوه بالحركات الياء دون الواو؛ لأنها أخف عليهم؛ ولأن باب الياء في مثل هذا كغسلين أوسع من باب الواو كالسيلَجُون ولأن الواو كانت إعرابا صريحا إذ لم يشترك فيها شيئا فلو لزمت عند الإعراب بالحركات لكان الرفع بالضمة معها كرفعين، وليست الياء كذلك، إذ لم ينفرد بها شيء واحد لوجودها علما للنصب والجر، فعلى هذا تقول: في "سنين" على ما قرر الناظم: أتت عليه سنين حسنة "وإن سنينا يطاع الله فيها لسنين" وفي سنينك كثرة، ولا تسقط النون للإضافة، بل حكمها حكم حين على الإطلاق ومما جاء في ذلك في السماع قول الشاعر -أنشده السيرافي-:
دعاني من نجد فإن سنينه
…
لعبن بنا شيبا وشيبننا مرادا
وقول الآخر -وهو كثير عزة-:
حرام على الدهر نضر أمانة
…
لذات هوى عندي وإن طال حينها
طوال الليالي ما بقيت وما مضى
…
شهور وأيام لها وسنينها
حياتي ما غنت حمامة أيكة
…
وما طاوعت يسرى يدي يمينها
وأنشد بعضهم هذا البيت هكذا:
أرى مر السنين أخذن مني
…
كما أخذ السرار من الهلال
وحكى أيضا في جمع مائة مئين، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وذاك بأن ألفكم قليل
…
بواحدنا أجل أيضا ومين
أراد: ومئين، فحذف الهمزة، ومثل هذا فعل بقلة، أنشد السيرافي
مثل المقالي ضربت قِلِينها
وفي البرة أيضا:
إلى برين الصفر الملويات
وقد فعل هذا ببنين. أنشد السيرافي:
وإن لنا أبا حسن عليا
…
أب بر ونحن له بنين
كما جمع ما فيه الهاء جمع سنة، وإن لم يحذف منه شيء، وقوله:(وهو عند قوم يطرد) مرجع الضمير يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يرجع إلى الحكم الذي قرره بقوله: (ومثل حين قد يرد ذا الباب) ويعني أن هذا الإعراب يطرد عند قوم في سنين وبابه مما حذف فيه اللام وعوض منها الواو والياء، والقوم هاهنا عند العرب لا النحويون، قال في "شرح التسهيل": من العرب من يشبه سنين ونحوه بغسلين، فيلزمه الياء ويعربه بالحركات، ومثل ذلك، ثم قال: وإنما اختص هذا النوع بهذه المعاملة لأنه أعرب إعراب جمع التصحيح، وكان اللائق به إعراب جمع التكسير لخلو واحده من شروط جمع التصحيح، ولعدم سلامة نظمه، وكان جديرا بأن يجري مجرى صنوان وقنوان، فلما كان ذلك له مستحقا ولم يأخذه نبه عليه بهذه المعاملة وكان بها مختصا قال: ولو عومل بهذه المعاملة نحو: رقين،
يعني مما حذفت فاؤه لا لامه لجاز وكان قياسا وإن لم يرد به سماع، ثم ذكر أنه لو عومل بهذه المعاملة عشرون وأخوته لكان حسنا؛ لأنها (ليست) جموعا' فكان لها حق في الإعراب بالحركات كسنين، وحمل ذلك الأربعين في بيت سحيم:
وماذا يدري الشعراء مني
…
وقد جاوزت حد الأربعين
قال: ويمكن أن يكون كسرة ضرورة، ثم قال: وإذا جاز لهم الانقياد إلى التشبيه اللفظي في الخروج عن أصل أحق بالجواز، وذلك أنهم قالوا في نحو: يا سمين وشياطين، ياسمون وشياطون، فأعربوهما إعراب جمع التصحيح تشبيها للآخر بالآخر، وإن كان نون بعضها أصليا، مع أن هذا الإعراب فرع، والإعراب بالحركات أصل، فكان تشبيه باب سنين وظُبين بباب قرين ومبين أنسب وأقرب.
فإذًا يكون معنى كلام الناظم هذا الإعراب بالحركات على حد إعراب "حين" يطرد عند الناس من العرب في كل مكان من باب "سنين".
والثاني: أن يكون الضمير عائدا على إعراب سنين وبابه، بالواو رفعا وبالياء نصبا وجرا، أي: وإلحاقه بالجمع الحقيقي في الإعراب يطرد عند قوم، والقوم هاهنا النحويون وهو سيبويه ومتابعوه، فإن القاعدة عندهم: أن ما حذفت لامه من الثلاثي، ولم يعوض منها ألف الوصل، فإن قياسه أن يجمع بالألف والتاء، وبالواو والنون، وإذا جمع بالألف والتاء لم يرد المحذوف، وإذا جمع بالواو والنون غير أوله إلى الكسر إن لم يكن مكسورا، وهذا كله ما لم تكسره العرب، فإن كسرته لم يجمع هذا الجمع، استغناء به عن هذا الجمع، والتكسير في هذا النوع شاذ نحو: أمه وإماء وآمٍ، وشفه وشفاه، وشاة وشياه، وكان القياس في باب "سنين" الجمع بالألف والتاء، ليكون محذوفا في الجمع، كما كان في المفرد محذوفا، ولما لم يمكنهم ذلك في التكسير للزوم رد المحذوف فيه، جمعوه بالواو والنون، وكسروا الأول، فكان ذلك نوعا من التكسير للزوم رد المحذوف فيه، جمعوه بالواو والنون، وكسروا الأول، فكان ذلك نوعا من التكسير، وقد لا يكسرون وهو قليل، وقد يكون الكسر في النية، إذا كان أول المفرد مكسورا، ولما صح القياس عدم رد المحذوف كان التكسير فيه شاذا، وكان رده في الجمع بالألف والتاء قليلا كذلك، ودل على قياس الجمع بالواو والنون في هذا عند سيبويه قوله -في باب جمع الرجال والنساء-: ولو سميت رجلا بربة في لغة من خفف والتكسير في هذا النوع] *فقال: ربة رجل، فخففت ثم جمعت* [قلت: ربات وربون
في لغة من قال: سنون، وقال أيضا: وإن جاء شيء مثل برة لم تجمعه العرب، ثم قست ألحقت التاء والواو والنون؛ لأن الأكثر مما فيه هاء التأنيث من الأسماء التي على حرفين، جمع بالتاء والواو والنون ولم يكسر على الأصل. فهذا قياس نحوي فيما اجتمعت فيه أربعة الشروط، وهي أن يكون محذوف اللام، وألا يعوض منها ألف الوصل، وألا تكون العرب قد سمع منها تكسيرة، وأن يكون مؤنثا بالهاء، وهذه الشروط موجودة في تمثيله بسنين، فإن مفرده سنة، وهو محذوف اللام، غير لاحق له ألف الوصل، ولا سمع له جمع تكسير، وهو مؤنث بالهاء، فلا يحق به ما لم يحذف لامه وإن جمع هكذا فشاذ نحو: حرة وحرون وأرض وأرضون وإوزة وإوزون، وكذلك ما لحقته ألف الوصل، لا يجمع إلا شاذا نحو: بنون في ابن، وكذلك ما جمع تكسيرا يشذ جمعه هكذا نحو: ظبة وظبا وظبون وبرة] ويرى [ويرون، وكذلك ما لم تكن فيه الهاء نحو: أخ وأب، فقولهم: أخون شاذ، وكذلك لا يلحق به على مقتضى الشرط الأول ما حذفت فاؤه، لأن جمعه عنده بالواو والنون قليل نحو: رقة ورقون، ولدة ولدون، نص على ذلك في "شرح التسهيل" ثم إن تمثيله بالجمع مكسور الفاء دل على طلب هذا التغيير في المجموع جمع سنين، إذ غير من الفتح إلى الكسر فكذلك ينبغي أن يكون المضموم الفاء كثبة، تقول: فيه ثبون،
وفي قلة قلون.
فإن قلت: فإن المضموم الفاء فيه وجهان: الكسر وبقاؤه على حاله ومثاله يعطي وجها واحدا وهو الكسر، قيل: نعم، وهو مراده هنا وإن أجاز في "التسهيل" الوجهين، فإن ظاهر كلام سيبويه أن البقاء على الضم قليل، فلذلك لم ينبه عليه، وهو حسن.
فإن قيل قوله: (وهو عند قوم يطرد) إذا حملته على هذا التفسير الثاني اقتضى أن قوما آخرين قائلون بعد اطراده، فمن هؤلاء القوم؟
فالجواب: أن ظاهر كلامه في "التسهيل" القول بعدم الاطراد، ألا تراه قال: وشاع هذا الاستعمال فيما لم يكسر من المعوض من لامه هاء التأنيث فلم يلتزم فيه القياس، بل أخبره بشياعه فحسب، فدل ذلك على أنه عنده غير مطرد، وأيضا فإن الجزولي قال: وربما جاء هذا الجمع فيما لا يعقل عوضا من نقص الكلمة لفظا أو توهما كسنين وأرضين وإوزّين فهذا الكلام أيضا ظاهر في عدم القياس والاطراد، ولا يبعد أن يكون ثم مخالف غير من ذكر، وبمثل هذا يخرج قصير الباع مثلى عن عهدة النقل، وقد يمكن في هذا الكلام وجه ثالث من التفسير، وهو أن يكون شاملا للتفسيرين معا ومتضمنا للمسألتين، ويكون المراد بقوم في قوله:(وهو عند قوم يطرد) النحويين خاصة، أما في التفسير الثاني فقد ظهر، وأما في الأول فقد نص السيرافي على أن كثيرا من النحويين أجازوا في المنقوص الذي يجمع بالواو والنون أن يعرب في النون وتلزم الياء قالوا: لأن النون قامت مقام الذاهب من الكلمة، ولو كان الذاهب موجودا لكان الإعراب فيه كسائر المفردات، فكذلك
يكون ما قام مقامه، وأنشد على ذلك الأبيات المتقدمة، فإذا يكون الضمير عائدا على معنى ما ذكر من الحكمين كما قال رؤبة:
كأنه في الجلد توليع البهق
وق تقدم مثله.
* *
…
*
ثم قال:
ونون مجموع وما به التحق
…
فافتح وقل من بكسره نطق
ونون ما ثنى والملحق به
…
بعكس ذاك استعملوه فانتبه
نون منصوب بـ "افتح" و "ما" مجرورة الموضع عطفا على مجموع وهي عبارة عما جرى مجرى الجمع مما تقدم، و "به" متعلق بـ "التحق" والضمير عائد على مجموع، وفاء "فافتح" فاء جواب شرط محذوف، دل عليه تقديم معمول افتح، والتقدير: مهما يكن من شيء فافتح نون مجموع وما التحق بالمجموع، والتحق افتعل من قولهم: لحقت فلانا ولحقت به لحاقا وألحقته أيضا، ومنه في القنوت "إن عذابك (الجِدّ) بالكافرين ملحق" أي: لاحق، ولحاق غير المجموع به هو كونه أعرب بإعرابه، ويريد أن النون اللاحقة للمجموع وما جرى مجراه يلزم فتحها، ولا يجوز فيها الضم مطلقا، ولا الكسر إلا قليلا يحفظ ولا يقاس عليه، وكان أصلها أن تكون ساكنة، لأنها في مقابلة
التنوين والتنوين ساكن، فكذلك كان الأصل في مقابله، وأيضا أصل البناء السكون، وإنما حركت لالتقاء الساكنين وكانت الحركة فتحة، لأنها أخف من الضمة والسرة، وأيضا فلما يلزم في الضم والكسر من توالي الأمثال، أما الضمة فكان يلزم باجتماعها مع الواو اجتماع الأمثال فانتقلوا إلى ما ليس فيه ذلك من الحركات وهي الفتحة، وأيضا فللفرق بينها وبين نون التثنية.
وقوله: (وقل من بكسرة نطق) أراد به أن الذين كسرو هذه النون من العرب قليل، وإنما ذكر قلة من نطق بالكسر فقد قل الكسر في نفسه، فاستغنى بذكر السبب وهو قلة الناطقين، عن ذكر المسبب وهو قلة الكسر، وأطلق لفظ القلة ها هنا ومراده به الشذوذ، وغالب استعماله له مرادا به ما جاء في الكلام قليلا، لا على ما اختص بالشعر، كما أن أصل استعماله للفظ الشذوذ أن يكون مرادا به الاختصاص بالشعر كما تقدم، لكن قد يخرج عن هذا الأصل فيطلق الشذوذ على ما جاء فيا لكلام، كما قال: في أهلين ونحوه، ويطلق لفظ القلة على الشاذ كهذا الموضع، اتساعا واتكالا على فهم المقصود ومثال كسر نون المجموع حقيقة قول الشاعر وهو سحيم بن
وثيل فيما ذكره الجوهري:
عرين من عرينة ليس منا
…
برئت غلى عرينة من عرين
عرفنا جعفرا وبني عبيد
…
وأنكرنا زعانف آخرين
وقال ذو الإصبع العدواني:
إني أبي ذو محافظة
…
وابن أبي أبي من أبين
لا يخرج الفسر مني غير ما بيه
…
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
ومثال ذلك فيما جرى مجراه قول سحيم:
وماذا يدري الشعراء مني
…
وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدى
…
ونجدني مداورة الشؤون
وفي الحماسة:
أقول حين أرى كعبا ولحيته
…
لا بارك الله في بضع وستين
من السنين تعلّاها بلا حسب
…
ولا حياء ولا عقل ولا دين
وقوله: (ونون ما ثنى والملحق به) إلى آخره، يعني أن نون المثنى من الأسماء حقيقة وما ألحق به مما ليس بمثنى حقيقة استعملوه بعكس نون المجموع وما لحق به، أي: جعلوا كسر النون منه واجبا وقل من نطق بفتحه، ومعنى العكس لغة: رد الشيء أوله، ومنه عكس الوليّة وهي الناقة المتروكة عند قبر صاحبها ليحشر عليها بزعمهم كانوا يربطونها معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي صدرها وبطنها ويقال: مما يلي ظهرها ويتركونها هناك حتى تموت جوعا وعطشا، وعلى هذا المعنى جاء في اصطلاح أهل المنطق، فالعكس في القضية عندهم هو تصيير موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا، على وجه يصدق الكلام به، فالعكس في كلام الناظم أن تقول: فاكسر وق من بفتحه نطق، وذلك راجع إلى الكلام الأول، وهو قوله:(فافتح وقل من بكسره نطق) وهو المنعكس هنا، وإنما حركت النون هنا لالتقاء الساكنين، وخصت بالكسر على أصل التقاء الساكنين ومثال فتحها قول
حميد بن ثور:
على أحوذيين استقلت عشية
…
فما هي إلا لمحة وتغيب
وقال الآخر:
فعلته لا تنقضي شهرينية
…
شهرى ربيع وجماديينه
وأنشد السيرافي:
أعرف منها الأنف والعينانا
…
ومنخرين أشبها ظبيانا
ويرد على الناظم سؤلان:
أحدهما: أنه عبر هنا بالكسر في قوله: (وقل من بكسره نطق) والكسر إذا أطلق في الاصطلاح المعهود فالمراد به كسر البناء، لا كسر الإعراب، وإذا كان كذلك أشكل هذا الإطلاق؛ إذ لا دليل على كونه كسر بناء، لاحتمال أن يكون كسر إعراب، بل ثم ما يدل على كونه كسر إعراب، وهو أنه لم يأت جميع ما استشهد به على الكسر إلا مع تقدم عامل الجر على ذي النون كقوله:(من أبيين) وقول الآخر:
*وقد جاوزت حد الأربعين*
وقول الآخر: (وفي بضع وستين) ولم يأت في حالة رفع ولا نصب، فدل ذلك على أنه جار على مقتضى العامل، وقد نص في "شرح التسهيل" على جواز كونها كسرة إعراب وقد تقدم التنبيه على شيء منه، وعلى القطع بهذا الاحتمال حمل الأخفش الأصغر والأعلم هذا النحو فقال الأخفش في بيت ذي الإصبع جعله بمنزلة الجمع المكسر، وجعل إعرابه في آخره، كما يفعل في فتيان وغلمان فيقول: هؤلاء أبين فاعلم، ورأيت أبيينا فاعلم ومررت بأبيين فاعلم، ونحو هذا ذكر الأعلم في بيت الحماسة إلا أنه قال: وهو في الستين ونحوها من العقود أمثل منه في المسلمين ونحوه؛ لأنه لفظ مخترع للعقود غير جار على واحد، فهو أشبه بالواحد الذي إعرابه بحركة آخره من المسلمين ونحوه، وإذا ثبت هذا كان قطعه بأنه كسر بناء معترضا عليه.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن النحويين لم يتفقوا على ما قال الأخفش والأعلم، بل منهم
من ادعى أنه كسر التقاء الساكنين، نص ابن جني في "التنبيه" على أن المبرد قال بذلك في قول سحيم:
*
…
حد الأربعين*
وحمل عليه ابن جني قول الآخر: (في بضع وستين) وذكر أنه فعل ذلك ضرورة، ولذلك فتح نون "السنين" في البيت الثاني على الأصل كما ذكر الأعلم في مذهبه أن ذلك ضرورة وإلى هذا ذهب المؤلف في "التسهيل"، وإن أمكن عنده الوجه الآخر، ويظهر هذا المذهب من كثير من النحويين وإذا كان كذلك لم يبعد أن يكون ذهب إلى رأي من رآه كسر بناء.
والثاني: أن المذهبين في حقيقة المسألة لا فرق بينهما؛ لأن الجميع ضرورة، فإن قلت: بل الفرق بينهما ظاهر في التفريغ عليهما ألا ترى أن القائل بأنه كسر بناء يلتزم أنه إن اضطر إلى الكسر كسر، وإن تقدم عامل النصب؛ فيكسر النون في نحو: رأيت الزيدين، وجاوزت الأربعين بخلاف القائل بأنه كسر إعراب، إذ لا يتأتى إلا مع عامل الجر كالشواهد المتقدمة.
فالجواب: أن هذا ليس بفرق في حقيقة قصده، إذ كلامه وكلام غيره في المسألة في توجيه شيء مسموع، لا في القياس عليه، فطائفة تقول: إنه كسر إعراب، وأخرى تقول: كسر بناء، وكلا القولين لا ينبني عليه في لك المسموع شيء، وإنما يحتاج
إلى الفرق المذكور، ويكون مفيدا حيث يتكلم في القياس على ذلك المسموع، وذلك من باب الضرائر الشعرية، وهو لم يتعرض لذلك ولا غيره، حين وجهوا المسموع' فإذا لا فرق بين القولين في هذا القصد، نعم يبقى الاعتذار عن تعبيره بالكسر في هذا الوجه وهو قريب، إذ الكسر لمطلق يطلق على كسر الإعراب، كما يطلق على كسر البناء، وهو على هذا الإطلاق أعم من كونه كسر بناء، أو كسر إعراب، فعبر بالعبارة العامة تحاميا أن يلتزم أحد المذهبين، أو فسحا لمجال النظر في المدركين، والله أعلم.
والسؤال الثاني: أن قول الناظم: (ونون ما ثنى والملحق به) شيء واحد لا شيئان وإنما يعني أن كل ما كان مرفوعا بالألف، ومنصوبا ومجرورا بالياء، فإن نونه قد تفتح في بعض المواضع فلا يلزم في الفتح، وإن كان قليلا أن يأتي في كل قسم من أقسامه، بل في أي قسم أتى يلزم وجوده في الجملة، كما تقدم في الاستشهاد عليه، وكذلك قوله:(ونون مجموع وما به ألتحق) معناه أن كل مرفوع بالواو، ومنصوب ومجرور بالياء، قد تكسر نونه قليلا، فالباب واح وإن كان الكسر قد حصل في الملحق كما تقدم، لكنه لم يعينه الناظم من حيث قال:(وما به التحق)، بل من حيث الجملة، واتفق أن وجد ذلك
في الملحق وهذا حسن في الجواب فتدبره، وبالله التوفيق.
وقوله: "فانتبه" معناه انتبه لتحقيق العكس وتنزيله على كلام العرب.
*
…
*
…
*
وما بتاء وألف قد جمعا
…
يكسر في الجر وفي النصب معا
كذا أولات والذي اسما قد جعل
…
كأذرعات فيه ذا أيضا قبل
هذا نوع آخر من أنواع النيابة، وهو من (المواضع) التي تنوب فيها الحركات عن الحركات على غير ما تقدم، وذلك موضعان: أحدهما: جمع المؤنث السالم وما جرى مجراه، والثاني: الاسم الذي لا ينصرف، فأخذ أولا في ذكر جمع المؤنث السالم، فبين أن ما جمع بالألف والتاء حكمه أن يكون في الجر والنصب معا مكسورا، على أن الكسر هي العلامة في النوعين فتقول: مررت بالهندات، ورأيت الهندات. قال الله تعالى: ((إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
…
)) إلى آخر الآية، وأما الرفع فسكت عنه، لأنه داخل له في حكم الكلية التي قدمها في قوله (فارفع بضم
…
) إلى آخره فلم يحتج هاهنا إلى ذكر ذلك، لأنه إنما يذكر ما خالف تلك الكلية، وهنا يقال له: كان الأولى ألا تذكر الجر؛ لأنه بالكسر وقد تقدم
الكلية وإنما يخالفها هذا النوع في النصب خاصة، ووجه ما فعل من ذلك أنه لم يقصد الإخبار بحكم الجر، بل قصد الإخبار بالمشاركة الحاصلة بين النصب والجر، فكأنه أراد بيان حكم النصب، وبيان كونه مشاركا للجر، كما شاركه في التثنية والجمع على حدها، وقدم الجر في قوله:(يكسر في الجر وفي النصب) لأنه الأحق بالكسرة كما تقدم، وإنما كان النصب ها هنا تابعا للجر في كونه بالكسرة، لأنه نظير جمع المذكر السالم، وجمع المذكر السالم حمل فيها النصب على الجر في كونه بالياء، فكذلك حمل النصب ها هن على الجر في مونه بالكسرة، لنوع من المقابلة، كما جعلوا ها هنا التنوين في مقابلة النون هنالك، فلم يزل مع وجود مانع الصرف في اللغة الفصحى، كما لو تزل النون هنالك.
وقوله: (معا) أتى به على معنى التوكيد لإثبات مشاركة النصب للجر في الكسر، ثم ذكر ما ألحق بهذا الجمع في الإعراب، وإن لم يكن منه حقيقة، فقال:(كذا أولات) وهو بمعنى ذوات: اسم جمع لذات، مؤنث بمعنى صاحب، وأراد أن حكم "أولات" حكم هذا الجمع من النصب بالكسرة كالجر، كقوله تعالى:((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن)) ورفعه بالضمة من مقتضى الكلية الأولى، كقوله تعالى:((وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)).
ثم قال: (والذي اسما قد جُعل كأذرِعاتٍ .. ) إلى آخره يعني أن الذي سمي به من الجُموع يقبل فيه هذا الحكم، أي: الإعراب كإعرابه قبل أن يسمى به ومثَّل بأذرعات. قال ابن سيده: هما موضعان، وقال الجوهري مواضع بالشام تنسب إليها الخمر، وأنشد لأبي ذؤيب الهذلي:
فما إن رحيق سَبَتْها التجارُ
…
من أذْرَعَات فوادى جَدَر
وهو اسم علم لها، وأنشد سيبويه لامرئ القيس:
تنوَّرْتُها من أذرعات وأهلها
…
بيثربَ أدنى دارِها نظر عالِ
ومثله: " عرفات " حكمه هذا، وهو اسم / علم للموضوع المعروف
واستدل سيبويه على ذلك بقولهم: " هذه عرفات مباركًا فيها " فنصب مباركًا على الحال، ولو كان نكرةً لجرى عليه صفةً، وبأنه لو كان نكرةً لدخلت عليه الألف واللام، وهي لا تدخل عليه، ولم يُفصل الناظم في حكم هذا الجمع بعد التسمية بين كونه منونًا وكونه غير منونٍ، بل أطلق القول في إعرابه هكذا، ولم يلتفت إلى صرف أو غيره، والإطلاق صحيح، فقد ذكروا أن للعرب هنا وجهين:
أحدهما: بقاءُ التنوين كما كان قبل التسمية به، وهي اللغة
الفاشية وبها نزل القرآن.
والثاني: ترك صرفه، إلا أن من لم يصرفه من العرب قسمان: فمنهم من يتركه على حاله كما لو كان منونًا، فينصبه ويجره بالكسرة فيقول: هذه عرفاتُ، ورأيتُ عرفاتِ، ومررتُ بعرفاتِ، وعليه أنشد بعضهم بيت الأعشى:
تخيّرها أخُو عانات شهرًا
ومنهم من يجعله مثل: أرطاة، إذا سمى به، فيجره وينصبه بالفتحة فيقول: رأيتُ عرفاتَ، ومررتُ بعرفاتَ، وعليه أنشدوا:
تخيرَها أخُو عاناتَ شهرًا
وقال امرئ القيس:
تنورتُها من أذرِعاتَ
وقال الهذليُّ:
من أذرعاتَ فوادي جَدَرْ
بفتح التاء في الجميع. قال ابنُ خَروف: كذا وقع بخط ابن خالوية، يعني بيت الهذليُّ، بفتح التاء وهذه اللغة الأخيرة نادرةٌ فلم يعتبرها الناظم ولم يشر إليها، وإنا أشار بمقتضى إطلاقه إلى اللغتين المتقدمتين، والإشارة بذا في قوله:(فيه ذا أيضًا قُبِلْ) إلى النصب بالكسر المتقدم الذِّكر، أي أن هذا الحكم مقبول فيما سمِّي به من هذا الجمع وبقي في هذا الفصل مُشاحةٌ لفظية في مواضع ثلاثة من كلامه:
أحدها: قوله: (وما بتا وألِف قد جُمِعَا) فأطلق القول في التاء والألف، ولم يقيدهما معا بالزيادة، ولابد من ذلك، لأن عبارته إن دخل فيها الهندات والزينبات، فكذلك يدخل تحتها نحو: قضاة وأبيات، فإن كل واحد منهما يصدق عليه أنه مجموع بالألف والتاء؛ لأن ألف قضاة منقلبة عن أصل، لا زائدة، وتاء أبيات أصل لا زائدة، فلم تجتمعا معًا في الزيادة، فلم يكن من الجمع السالم بالألف والتاء، فالحاصل أن جمع التكسير يدخل عليه ما كان آخره ألف وتاء، فيقتضي أنه ينصب بالكسر وهذا غير صحيح، ولأجل هذا قيّد الألف والتاء بالزيادة في " التسهيل " حين ذكر نيابة الكسرة عن الفتحة وعين لذلك نصب أولات، والجمع بالألف والتاء الزائدتين، وبين في " الشرح " أنه تحرز مما ذكرته، فكان ينبغي أن يتحرز هنا من
ذلك أيضًا.
والثاني: قوله: (والذي اسما قد جُعِل) جُعِلَ هنا بمعنى صُيِّرَ، أي: لم يكن اسمًا ثم صار اسمًا، وهذا اللفظ غير مبين للمقصود، لأن أذرعات مثلًا لم يكن غي اسمٍ، ثم صيّر اسمًا، بل هو اسم في الحالتين معًا، حالة العَلَمية وقبل ذلك، فكان الأولى به أن يقيد لفظه فيقول: والذي اسما علَمًا قد جُعِل أوو الذي نقل إلى العَلَمية، أو ما كان نحو هذا، ليظهر مقصودهُ.
والثالث: قوله: (فيه ذا أيضًا قُبِل) أراد أن هذا الإعراب فيه مقبول، وذلك لا يعطى / كونه قياسًا أو سماعًا، إذ كلاهما مقبولٌ في الجملة، ومرادنا نحن أن نبين أهو قياس أم سماع؟ وذلك لا يُعطيه لفظ القبول، فكان لفظه غير محرر.
والجواب عن الأول: أن المجرور في قوله: (بِتَا وألفٍ) متعلق بـ" جُمع " وذلك يقتضي أن بهما حصول الجَمع، فالباء باءُ الاستعانة أو السببية، وتقدير الكلام: وما بسبب حصول ألفٍ وتاء جُمع، أو ما بهذه الآلة جُمع، فإذا الألف والتاء هما اللذان حصل بهما الجمع، فهما لاحقان لأجله، وإذا لحقا لأجله فهما زائدان بلا شك، فقوة الكلام أعطت هذا الشرط، وأيضًا لا يصدق على هذا التقدير في قُضاة وأبيات أنهما جُمعا بالألف والتاء، إذ ليستا آلة للجمع ولا سببًا فيه، وإنما سبب الجَمع فيهما تغيير بِنْيَيةِ المفرد إلى فُعَلَةٍ أو أَفعال، وإنما كان يحتمل ما قال على فرض أن تكون الباء متعلقة باسم فاعل محذوف، يكون حلًا من ضمير جُمِعَ، أي: وما جمع حال كونه بتاء وألف، أي ملتبسًا بهما، لكن هذا المعنى لا محصول له، إذا تدبرته،
فوجب أن تكون متعلقة بالفعل نفسه، وإذ ذاك لا يبقى إشكال.
وعن الثاني: أن مراده أنه جُعِل اسمًا علمًا، كأنه قال: والذي جُعِلَ اسمًا خالصًا وهو العَلَمَ أو الذي جُعل اسمًا، أي: مفردًا بعد أن كان جمعًا وذلك إنما يكون يالتّمية، وها ظاهر من قوة كلامه.
وعن الثالث: أن مرادَه القبول القياسي، والذي عين مراده وأنه القبول القياسي ما هو آخذٌ فيه من بيان الأصول القياسية، فهو السابق للفهم، بحسب صناعته، والله أعلم.
و"فيه" متعلق بـ " قُبل " وضميره عائدٌ على الذي، و " ذا " مبتدأ خبره "قُبل " وفي تقديمه المجرور على المبتدأ وهو معمول الخبر نظر، وفي جوازه خلاف، ولكن الناظم يرتكبه في هذا النظم كثيرًا، وهو مذهبه فيه ومنه ما قد مضى، وسننبّه على بعضه إن شاء الله عز وجل.
* * *
ثم قال:
وجر بالفتحة ملا ينصرف
…
ما لم يُضف أويكُ بعد أل ردِفْ
هذا هو الموضع الثاني من الموضعين اللذين تنوب فيهما الحركة عن الحركة، وهو ما لا ينصرف، وما لا ينصرف - هو عند المؤلف - ما منع التنوين لعلتين، أو علّة قائمة مقامهما، فأراد أن ما لا ينصرف من الأسماء حُكمه أن يجر بالفتحة كأَحمد وأحمر ويوسف وإبراهيم وغضبان وغضبى
وأسماء وعمر وثلاث ومعدى كرب ونحو ذلك تقول: مررت بأحمد، وجئت إلى رجل أحمر غضبان وكذلك سائر الأمثلة، ولم يذكر حكم الرفع والنصب لدخوله تحت الكلية سائر الأمثلة، ولم يذكر حكم الرفع والنصب لدخوله تحت الكلية المتقدمة ثم شرط في هذا الإعراب شرطا، وهو ألا يضاف ولا يصحب الألف واللام، وذلك قوله:(ما لم يضف أو يك بعد أل ردف) بمعنى أنه إنما يعرب كذلك إذا لم يضف إلى غيره، ولم تدخل عليه الأللف واللام، فإنها إن دخلت عليه لم يجر بالفتحة، وإذا لم يجر بالفتحة رجع إلى ما تقدم أولا، من الجر بالكسرة نحو: مررت بأحمر القوم، وبالحمراء، وجئت إلى مساجد بني فلان، فذلك لم يذكر حكمه إذا أضيف أو صحب الألف واللام، و "ردف" معناه تبع، ومنه قوله تعالى:((قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون)) أي: تبعكم، يردي ما لم يكن الاسم ردفها، أي الألف واللام، فحذف الضمير لفهم المراد، ومعناه أن يكون الاسم الذي لا ينصرف تابعا لها، وفي ردفها، متصلا بها، ومذهب المؤلف أن العلتين إنما منعتا التنوين فقط، وأما الجر فلشيء آخر، قال: لأنه لو جر بالكسرة مع عدم التنوين لتوهم أنه مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها، أو أنه مبني على الكسرة؛ لأن الكسرة لا تكون إعرابية إلا مع التنوين، أو ما يعاقبه من الألف واللام أو الإضافة، ولذلك إذا أضيف أو دخلت عليه الألف واللام انجر بالكسرة.
وقوله: (ما لم يضف) أطلق القول في الإضافة ولم يقيدها فدل
على جريان الاحتراز من كل إضافة، محضة كانت أو غير محضة، فتقول: مررت برجل أحمر الوجه، أزرق العينين، غضبان الأب، ومررت بأحمديك، أحمد بني فلان، وإبراهيمهم، وما أشبه ذلك، وكذلك قوله:(أويك يعد أل ردف) أراد أن هذا عام في جميع أقسام الألف واللام، فلا يفترق الحكم فيها بكونها زائدة أو موصولة أو غير ذلك كقول الشاعر:
رأيت الوليد بن يزيد مباركا
…
شديدا بأعباء الخلافة كاهله
وقال الآخر:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا
…
ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وقال الآخر:
وما أنت باليقظان ناظره إذا
…
رضيت بما ينسيك ذكر العواقب
*
…
*
…
*
ولما أتم الكلام على النيابة في الأسماء، شرع في ذكر نحو ذلك في الأفعال فقال:
واجعل لنحو يفعلان النونا
…
رفعا وتدعين وتسألونا
وحذفها للجزم والنصب سمه
…
كلم تكوني لترومي مظلمه
يعني أن النون تكون علامة للرفع فيما كان من الأفعال على نحو:
يفعلان وتدعين وتسألونا، وضابط ذلك -على ما أشار إليه تمثيله-: كل فعل مضارع لحقه من آخره ألف اثنين أو واو جماعة أو ياء واحدة مخاطبة، فألف اثنين نحو: يفعلان، وواو الجماعة نحو: تسألون، وياء المخاطبة نحو: تدعين، أصله تدعوين، ثم نقله الإعلال إلى تدعين، فوزنه في الأصل تفعلين وفي اللفظ تفعين، وإطلاقه القول في يفعلان ويفعلون يدخل له ما كانت الألف فيه والواو ضميرين نحو: أنتما تفعلان، وهم يفعلون وما كانت فيه علامة نحو: يعلان الزيدان ويفعلون الزيدون، ومنه قول الشاعر -أنشده السيرافي-:
يلومونني في اشتراء النخيل
…
قومي فكلهم يعذل
وذلك على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" و (رفعا) مفعول ثان، لـ (اجعل) على حذف المضاف، أي علامة رفع أو أداة رفع على أن تكون (جعل) بمعنى صير، أو حالا، أي: رافعا، أو ذا رفع على أن تكون بمعنى الوضع أو نحوه.
وفي قوله: (تدعين) وتخصيصه دون أن يقول: ترمين فائدة، ويطلق الإتيان بالمعتل فائدة أخرى، فأما إتيانه بفعل معتل فلبيان كون هذا الحكم شاملا للمعتل وغيره من الأفعال، فتضربان مع تدعوان أو ترميان على حكم واحد رفعا لتوهم المخالفة ولو بوجه ما، كما في الفعل المعتل إذا لم تلحقه من آخره أحد هذه الثلاثة، فإن الحكم فيه يختلف بحسب التقدير للإعراب وعدم التقدير، وأما هذا القسم فلا يختلف الأمر فيه، بل النون هي العلامة مطلقا في الرفع والحذف فيما سواه، وكذلك إذا قلت: أنت يا هند تدعين حكمه حكم تخرجين في الإعراب من غير مخالفة، وأما تخصيصه المعتل بالواو دون الياء في مثال لحاق ياء المخاطبة، فليتبين ما أشار إليه، إذ لو أتى بالمعتل بالياء مثل: ترمين لم يتبين ونه مما لحقه ياء المخاطبة دون ما لحقه نون جمع المؤنث، لأنك تقول: أنتن يا هندات ترمين، فيكون الفعل هنا مبنيا للحاق نون المؤنث وتقول: أنت يا هند ترمين، فيكون هنا معربا بالنون رفعا وأصله ترمين كتضربين بخلاف الأول فإنه ترمين كتضربين، فلما أتى بما هو من ذوات الواو لم يشكل أنه مما النون فيه علامة للرفع والياء للمخاطبة، إذ لو كان لجماعة المؤنث لقلت: أنتن تدعون بالواو على تفعلن كتخرجن لا بالياء، وهذا
الموضع مزلة أقدام الشادين، فقد قال الحضرمي في "إعراب أشعار الستة" في قول امرئ القيس:
يظل العذارى يرتمين بلحمها
…
وشحم كهداب الدمقس المفتل
إن النون من "يرتمين" نون الرفع، وإنما هي نون جماعة المؤنث فهو مبني لا معرب، ولو قال الناظم: وتدعون وتسألينا، لما تبين مثال ما قصد لاحتمال أن تكون النون ضمير جمع المؤنث، وكذلك لو قال: وتخشين وتسألون ولو قال: وتخشون وتسألينا، لما التبس، كما لم يلتبس في "تدعين وتسألونا" فالحاصل أن هذا الموضع مما يحتاج إلى التثبت فيه ولأجل هذا لم يمثل الناظم بمحتمل، بل عين ما لا يغلط فيه، والله أعلم.
حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن الفخار رحمة الله عليه قال: حدثني بسبتة بعض المذاكرين أن أبا عبدالله بن خميس لما ورد عليها بقصد
الإقراء بها اجتمع إليه عيون طلبتها، فألقوا عليه مسائل من غوامض الإشتغال، فحاد عن الجواب عنها بأن قال لهم: أنتم عندي كرجل واحد يعني ابن أبي الربيع ازدراء بهم، فاستقبله أصغر القوم سنًا وعلمًا بأن قال له: إن كنت بالمكان الذي تزعم فأجبني عن هذه المسائل من باب معرفة علامات الإعراب التي أذكرها لك. فإن جئت فيها بالصواب لم تحظ بذلك في نفوسنا لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدراك والتحصيل، وإن أخطأت فيها لم تسعك هذه البلاد وهي عشرٌ، الأولى: أنتم يا زيدون تغزون، الثانية: أنتن يا هندات تغزون، الثالثة: أنتم يا زيدون ويا هندات تغزون، الرابعة: / أنتن يا هندات تخشين، الخامسة: أنت يا هند تخشين، السادسة: أنت يا هند ترمين، السابعة: أنتن يا هندات ترمين، الثامنة: أنتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقولُ؟ ، التاسعة: أنت يا هند تمحون أو تمحين كيف تقول؟ ، العاشرة: أنتما تمحوان أو تمحيان على لغة من قال: محوت كيف تقول؟ ، فهل هذه الأفعال كلها مبنية أم معربة أم بعضها معرب وبعضها مبني، وهل هي كلها على وزن واحد أو على أوزان مختلفة علينا السؤال وعليك التمييز هلُم الجواب.
قال: فبهت الشيخ وشغل المحل بأن قال: إنما يُسأل عن هذا صغار الوِلدان.
فقال له الفتى: فأنت دونهم إن لم تجب، فأنزعج الشيخ وقال: هذا سوء أدب ونهض منصرفًا، ولم يصبح إلا بمالقة متوجهًا إلى غوناطة، فلم يزل بها مع الوزير ابن الحكيم إلى أن مات جميعهم رحمهم الله.
وإنما أتيت بهذه الحكاية لما تضمنته من فوائد المسألة التي نبه عليها الناظم رحمه الله بإشارته، وبيان المسائل العشرة موكولٌ
إلى الناظر في هذا التقييد وبالله التوفيق.
ثم قال: (وحذفها للجزم والنصب سمه) ضمير (حذفها) عائد على النون التي هي علامة الرفع، والسمة: العلامة، يقال: وسمه وسمًا وسمةً، إذا جعل فيه علامة يعرف بها أو غيره. ويريد أن حذف النون التي هي علامة الرفع علامة للجزم والنصب في هذه الأفعال المذكورة وما كان نحوها كقولك: إن تكرموا زيدًا فأكرموا أخاه، وأعجبني أن تأتيا زيدًا، وإن تكرمي غلاميك يخدماك وما أشبه ذلك، وقدم الجزم على النصب؛ لأنه أولى بالحذف لوجوده في المعتل على ما سيأتي، فكأنه أصل فيه ولأنك إذا اعتبرته وجدت عمل الجزم الحذف مطلقًا، أما في المعتل فحذف حرف، وأما في الصحيح فحذف حركة، ولذلك كان يقول الأستاذ أبو عبدالله بن عبد المنعم شيخ شيخنا: ليس للجزم إلا علامة واحدة وهي الحذف، فالنصب إذًا في هذا الحذف محمول عليه، فكما حمل النصب على الجر في الأسماء، كذلك حمل النصب على الجزم في الأفعال؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء كما تقدم التنبيه عليه في قول الناظم:
والاسم قد خُصص بالجرِّ كما
…
قد خصص الفعل بأن ينجزما
وأتى بمثالين للجزم والنصب وهما قوله: (كلمْ تكوني لترومي مظلمة) فالأول: حذف النون فيه للجازم وهو "لم". والثاني: حذف النون فيه للناصب
وهو "أن" المقدرة بعد لام "لترومي"، تقديره: لأن ترومي ولكنهم التزموا حذفها بعد هذه اللام وتسمى لام الجحود، ولم يبين الناظم حركة هذه النون وكان ينبغي له ذلك، ولعله ترك ذلك تعويلًا على التمثيل إذ أتى بها مكسورة مع الألف غالبًا، ومفتوحةً فيما عداها؛ ولأن النون هنا تشبه النون في المثنى والمجموع وهي مكسورة في المثنى مفتوحة في الجمع بالواو والياء، وقد ذكر ذلك هنالك، فترك هنا ذكر ذلك، لسبق الفهم إلى أنها / مثلها؛ لأن كل واحد منهما واقعة بعد الأحرف الثلاثة الدالة على المثنى والمجموع. وفي كلها حمل النصب فيها على غيره فكان في ذلك إشعار باستحقاق الكسر مع الألف، والفتح مع الواو والياء وقد ندر هنا فتح النون مع الألف كقراءة الحسن:(أتعدانني أن أخرج) وهي أيضًا مروية عن نافع وأبي عمرو، كما أن النون قد تحذف في الرفع وتثبت في النصب، فالأول نحو قول الشاعر -أنشده ابن خروف-:
أبيت أبكي وتبيتي تدلكي
…
وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وأنشد أيضًا لأيمن بن خريم:
وإذ يغصبوا الناس أموالهم
…
إذا ملكوهم ولم يغضبوا
وقال عمر في قتلى بدر: "يا رسول الله كيف يسمعون، أنَّى يجيبوا وقد جيًّفوا؟
والثاني: كقول الشاعر -أنشده السيرافي-:
أن تقرآن على أسماء ويحكما
…
منى السلام وألا تُشعرا أحدا
وأنشد غيره:
أن تهبطين بلاد قومٍ
…
يرتعون من الطِّلاحِ
وقد نبّه على هذا في الجملة في النواصب حيث قال:
وبعضهم أهمل أن حملا على
…
ما أختها حيث استحقت عملا
ولكنّ الجميع قليل لا يفتقر إلى التنبيه عليه لعدم القياس فيه، والله أعلم.
* * *
ثم قال:
وسم معتلا من الأسماء ما
…
كالمصطفى والمرتقي مكارما
هذا فصلٌ يذكر فيه ما يقدر فيه الإعراب كله أو بعضه، في الأسماء أو الأفعال، وكان ما تقدم إنما تكلم فيه على مجيء الإعراب بحق الأصل، وهو أن يكون ظاهرًا، وذلك إذا كان آخر المعرب صحيحًا على غالب أحواله وأما المعتل الآخر فيختلف الحال فيه، فأخذ ذكره، ولما كان السبب في الخفاء في الغالب هو الاعتلال، وكان موجودًا في الأسماء والأفعال أخذ في ذكر معنى الاعتلال أولًا، ثم في الخفاء ثانيًا - بالنسبة إلى كل من الضربين، وابتدأ بذكر المعتل من الأسماء، فعرفه بأنه: ما كان آخره ألفًا أو ياءً قبلها كسرةٌ، كما أعطاه مثال: المصطفى والمرتقي وذلك أن الأسماء على ضربين، صحيح الآخر، وهو ما آخره حرف صحيح كزيد وقائم وعامر، ومعتل: وهو ما آخره حرف علة ألف أو واو أو ياء، والمعتل ينقسم إلى قسمين: جارٍ مجرى الصحيح، وهو ما كان الحرف الذي قبل حرف العلة فيه ساكنًا، نحو: غزوٍ وعدوٍ وظبيٍ ورعيٍ، يدخل في ضمنه المضاعف، نحو: عدوّ وعتوّ ووليّ وكميّ. أما الألف فلا يكون ما قبلها ساكنًا أبدًا، فخرج ما آخره ألف عن هذا القسم، وهذا القسم حكمه في ظهور الإعراب كله حكم الصحيح، كما ظهر في الأمثلة.
والقسم الثاني: ما كان الحرف الذي قبل حرف العلة فيه متحركًا ولا يتحرك في الاستعمال إلا بمجانس الحرف المعتل، وذلك نحو: الفتى
والرحى والقاضي والغازي، أما ما آخره واو قبلها ضمة فمعدوم في كلام العرب، وإن اقتضى ذلك قياس رفض نحو: أجر وأدل في جمع جرو ودلو، أصله أجروُ وأدلوُ فرفض ذلك وصير إلى جنس ما آخره ياء قبلها كسرة، إلا "ذو" بمعنى صاحب و "فو" في قولك: قولك فو زيد وهما عند الناظم من الأسماء المعربة بالحروف، فعلى هذا لا يسمى من الأسماء معتلا بحسب قصده، إلا ما كان آخره ألفا أو ياء قبلها كسرة، لأن القسم الأول قد جرى في ظهور الإعراب فيه مجرى الصحيح، فدخل في قم الصحيح، فيجري بالحركات مثله، وهذا هو الذي قصده الناظم بقوله:
وسم معتلا من الأسماء ما
…
كالمصطفى والمرتقى مكارما
فكأنه يقول: كل ما آخره ألف مطلقا، أو ياء قبلها كسرة، فهو المسمى معتلا عند النحويين، وما عداه ليس كذلك، فما آخره واو هو من قبيل الصحيح، إذ لا يوجد إلا وما قبل الواو فيه ساكن، وكذلك ما آخره ياء من غير ما ذكر هو من قبيل الصحيح في الحكم، لا من قبيل المعتل فالمثال الأول يدخل له فيه جميع ما آخره ألف، كانت أصلا أو لا، نحو: الفتى والقفا والحبلى والذكرى والحثيثى وجمادى، وما أشبه ذلك.
والثاني: يدخل له به جميع ما آخره ياء قبلها كسرة، كان ذلك بحق الأصل نحو: القاضي والداعي والعمى والمستجدى والمعتدي، أو محولا إليه نحو: الأدلى والأجرى والتداعي والتناهي، والقلنسي
والعرقي، جمع قلنسوة وعرقوة، وما أشبه ذلك، فإن قيل: هذا الاصطلاح في المعتل، إما أن يكون فيه ناقلا لكلام غيره ممن اصطلح، وإما أن يكون مخترعا لاصطلاح غير سابق فلا يجوز أن يريد هذا الثاني لقوله في الأفعال:(فمعتلا عرف) يعني أن هذه المعرفة سواء كانت معروفة قبل في الفعل، فكذلك الاسم، لأنهما سواء في هذا الاصطلاح، فليس مراده إلا أنه يسمى معتلا عند النحويين، وإلا ذاك فيشكل كلامه فيه، لأن المعتل في اصطلاحهم أعم من هذا، فالمعتل الفاء أو العين يسمى عندهم معتلا، وكذلك المعتل اللام لكن على أعم مما قال، فمثال غزو وظبي يسمى أيضا عندهم معتلا، وإذا ثبت هذا فتخصيصه هذه التسمية بما كان معتل الآخر مطلقا في الفعل، أو بالألف والياء التي قبلها كسرة في الاسم، إخلال بالاصطلاح المعروف.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن لفظ العتل في اصطلاحهم يطلق بإطلاقين: إطلاق بحسب النظر التصريفي، وهو الاطلاق الأعم، المعترض به، وليس بمراد هنا، وإطلاق بحسب خفاء الإعراب فيه، استثقالا أو تعذرا، وذلك لا يكون في المعرب إلا فيما ذكر دون ما سواه، وهو المراد هاهنا.
فقوله في الاسم: (وسم معتلا) وفي الفعل: (فمعتلا عرف) أراد في هذا الباب وحده، وأما باب التصريف فله اصطلاح آخر، أوسع من هذا لا حاجة به إليه هاهنا، وإذا كان كذلك لم يكن في كلامه إشكال لاختصاص ما
نص عليه ببابه.
والوجه الثاني: إذا سلمنا أن المعتل إنما يطلق بالإطلاق الأعم دون ما سواه فلا يلزم عليه اعتراض؛ لأنه إنما ذكر أن ما كان نحو: المصطفى والمرتقى يسمى معتلا، وكذلك ما كان نحو: يخشى ويغزو ويرمي، وذلك صحيح هنا، وفي باب التصريف؛ لأن المعتل اللام يسمى معتلا في كل باب، ولم يقل إن ما عداه هذه الأشياء لا يسمى عتلا، بل أثبت إطلاق لفظ المعتل عليها فقط، مع قطع النظر عما عداها، إذا لم يحتج هنا إلى غير ذلك، وإنما كان الإشكال يلزم أن لو شاء إلى نفي الاعتلال عما سواه، فإذا لم يخرج عن الاصطلاح التصريفي، وإذا كان كذلك لم يبق إشكالا، والحمد لله.
والمصطفى معناه المختار، مأخوذ من صفو الشي وصفوته، وقد تقدم تفسيره.
والمرتقى: مفتعل من الرقي، وهو السمو والارتفاع، إما حسا كارتقاء السلم ونحوه، وإما معنى كالارتقاء في منازل الشرف أو الكرم وهو المراد هنا.
والمكارم: جمع مكرمة، وهي الفعلة التي بها ينسب الإنسان إلى الكرم، ونصب مكارما على الظرف مجازا، كأنه ارتقى في نفس المكارم أو على حذف المضاف، أي: درج المكارم، أو منازل المكارم، والناظم جعل في البيت الثاني "مكارما" قافية مع قوله في الأول:"الأسماء ما" فاعتد في "الأسماء ما" تأسيسا، مع
كون كلمة الروي منفصلة منه وليست بضمير، والوجه يكون متصلا بكلمة الروى، ما لم يكن ضميرا أو لم يعتد بها تأسيسا، مع إتيانه بالتأسيس في البيت الثاني في قوله:"مكارما" وكلا الأمرين عيب في القافية عند الجمهور، مذهب سيبويه جواز كون التأسيس من كلمة أخرى مطلقا، كما في كلام الناظم فإياه اتبع في هذا الموضع، وأيضا فقد جاء المؤسس مع غير المؤسس قليلا ومنه قول الراجز:
تحلف لا تنزع عن ضراريه
…
حتى لطمت خذها بكفيه
فيحمل هذا على ذلك، وعادة الناظم ارتكاب الشذوشات والنوادر في هذا النظم، حسب ما تراه إن شاء الله عز وجل.
*
…
*
…
*
ثم قال:
فالأول الإعراب فيه قدرا
…
جميعه وهو الذي قد قصرا
والثان منقوص ونصبه ظهر
…
ورفعه ينوي كذا أيضا يجر
يعني بالأول هنا مثال المصطفى وما كان مثله، فهذا القسم يقدر فيه جميع الإعراب، أي: جميع الأنواع التي تصلح له وهي الرفع والنصب والجر فتقول: جاءني الفتى، ورأيت الفتى، وإنما قدر لتعذر تحريك الألف بخلاف الواو والياء، فإنهما يقبلان الحركة، وإن كان التحريك مسثقلا فيهما، والألف لا يصح فيها التحريك، فلما اضطروا يوما إلى تحريكها أبدلوا منها حرفا يصح تحريكه وهو الهمزة، كما قرأ أيوب
السختياني ((ولا الضالين)) فرارا من اجتماع الساكنين، وكما قال:
خطامها زأمها أن تذهبا
وهو مبين في التصريف، ثم قال:(وهو الذي قد قصرا) يعني أنه الذي سمي مقصورا، وإنما سمي مقصورا؛ إما لأنه في مقابلة الممدود فكأنه قصر عن التمام، وإما لأنه قصر آخره، أي: حبس عن أن يظهر فيه الإعراب فيختلف فكأنه قصر على حلة واحدة.
ثم قال: (والثان منقوص) الثاني هو مثال المرتقى، وما جرى على شاكلته، ويعني أن هذا القسم يسمى منقوصا، للنقص الحاصل فيه، إذا قلت: مرتق وقاض وغاز؛ لأن الياء لما استثقلت الضمة أو الكسرة عليها حذفتا، فالتقى الساكنين، وهما الياء والتنوين، فوجب حذف الياء لالتقاء الساكنين، وتسمية نحو: قاض وغاز منقوصا، فلذلك قال في "التسهيل" فإن كان -يعني حرف الإعراب- ياء لازمة تلي كسرة فمنقوص عرفي، وذكر في "الشرح" أنه تحرز من نحو: يد وعدة؛ لأن العرف الصناعي قد غلب إطلاق المنقوص على نحو: شج وقاض، فإذا أراد بالمنقوص هنا التسمية العرفية، وحذف الياء من الثاني فذلك
جائزةٌ. قال الله تعالى: ((مهطعين إلى الدّاع)) وقال: ((يوم يدع الدّاع إلى شيء نكر)) وهو كثير.
ثم ذكر حكمه فقال: (ونصبه ظهر، ورفعه ينوَى .. ) إلى آخره يعني أن النصب يظهر في المنقوص، على حد ما يظهر في الصحيح، فتقول: رأيت القاضي، وأجبت الداعي، وكذلك ما أشبه. وأما الرفع والجر فلا يظهران بل يكونان منويين في آخر المنقوص، كما ينوى جميع الأعراب في آخر المقصور، فتقول: جاء القاضي، ومررت بالقاضي، وهذا رامٍ، ومررت بداعٍ، ووجه ذلك أن الضمة والكسرة مستثقلتان على حرف العلة، فأدى الاستثقال إلى أن قدروا الحركتين، وليست الياء هنا كالألف، فإن الألف يتعذر تحريكها، والياء إنما في تحريكها استثقال، ولذلك يصح ظهور الضمة والكسرة فيها في الضرورة مثل ما أنشده السِّيرافي وغيره من قول الشاعر:
فيومًا يجاريني الهوى غير ماضي
…
ويومًا ترى منهن غولًا تغول
وأنشد أيضًا قول الآخر - وهو ابن قيس الرقيات-:
لا بارك الله في الغواني هل
…
يصبحن إلا لهن مطلب
وأنشد أيضًا:
ما إن رأيت ولا أرى في مدتي
…
كجزاري يلعبن في الصحراء
وقال الهذلي:
تراه وقد فات الرماة كأنه
…
أمام الكلاب مصفي الخد أصلم
وأما الفتحة فغير مستثقلة على الياء، ولا على الواو، فلذلك ظهرت في السعة، إلا أن تعامل معاملة أختيها في الشعر، أو في قليل من الكلام فتنوى، كما روى عن جعفر بن محمد أنه قرأ:((من أوسط ما تطعمون أهاليكم)) بإسكان الياء، ومنه في الشعر ما أنشده ابن جنّي وغيره من قول الراجز:
كأن أيديهن بالقاع القرق
…
أيدي جوارٍ يتعاطين الوَرِق
وقول زهير:
ومن يعص أطراف الرماح فإنه
…
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
وقال النابغة الذبياني:
ردت عليه أقاصيه ولبَّده
…
ضرب الوليدة بالمسحاة في لثأد
وهذا كله من قبيل ما لا يعتمد به الناظم، فلذلك لم ينبه عليه.
وقوله: (كذا أيضًا يجرُّ) أي كرفعه يجر، يعني أنه ينوي فيه الجر كما ينوي فيه الرفع.
*
…
*
…
*
ثم ذكر معتل الأفعال فقال:
وأيُّ فعل آخر منه ألف
…
أو ياء أو واو فمعتلًا عُرِفْ
هذا بيان المعتل من الأفعال بالنسبة إلى باب الإعراب كما تقدم ويعني أن كل فعل مضارع آخره حرف من حروف العلة وهي الألف والواو والياء نحو: يخشى ويدعو ويرمي يسمى معتلًا، لكن إنما بين أنه عُرف فيما تقدم بأنه معتل، ويلزم من ذلك أنه يسمى الآن معتلًا كما سماه النحويين؛ لأنه إنما وضع كتابه هذا ليقتفي به أثر من تقدم في تبيينهم طرق القياس، وما يتبع ذلك من الألفاظ الاصطلاحية المؤدية إلى المطلوب، فإذا نص الناظم على أن من تقدم سمي اللفظ الفُلاني بكذا، والمعنى الفلاني بكذا، أو أخبر أنهم قاسوا كذا، وأن العرب نطقت بكذا،
أو اطرد عندها كذا، فإنما قصده أن تأخذ ذلك على ما أخذوه وأن تصطلح على ما اصطلحوا عليه، وهذا واضح من قصده وقصد غيره من أئمة النحو، نفعهم الله.
وقوله: (آخر منه ألف) آخر مبتدأ خبره "ألف". وصحّ الابتداء بالنكرة للاختصاص اللاحق لها بالمجرور الواقع صفة لها.
*
…
*
…
*
ثم قال:
فالألف انو فيه غير الجزم
…
وأبدِ نصبَ ما كيدعو يَرمِي
والرفعَ فيهما انوِ واحذف جازمًا
…
ثلاثهن تقض حكمًا لازما
الألف منصوب بفعل مضمر يفسره (انوِ فيه) من باب الاشتغال، ويجوز الرفع، لكنه خلاف المختار، وأراد أن غير الجزم من أنواع الإعراب الثلاثة يجب أن ينوي فيه، وذلك الغير هو الرفع والنصب، فكأنه قال: انوِ فيه الرفع والنصب، فالرفع نحو: زيدٌ يخشى، والنصب نحو: زيدٌ لن يخشى، فهو مرفوع بضمة مقدرة في الألف، ومنصوب بفتحة مقدرة، وإنما استثنى الجزم لأنه ظاهر في آخر يخشى؛ لأنه بالحذف للألف لا بتقدير السكون حسب ما نذكره/ وأما ما آخره واو وياء فيختلف فيه حكم الرفع والنصب، فإن النصب يظهر فيه فتقول: لن يغزو، ولن يرمي، لخفة الفتحة على الواو والياء، وذلك قوله:(وأبدِ نصبَ ما كيدعو يرمي) أبدِ معناه: أظهر، و"ما" موصلة، صلتها الجار والمجرور، وأراد ويرمي فحذف العاطف ضرورة، وقد جاء قليلًا، ومنه في الشعر ما أنشده ابن جنِّي من قوله:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما
…
يغرس الود في فؤادِ الكريمِ
أراد وكيف أمسيت، ومعنى الكلام أظهرِ النصب فيما آخره واو كيدعو وما آخره ياء كيرمي، وأما الرفع فينوي فيهما، كما ينوي في الألف وذلك قوله:(والرفع فيهما انوِ) والضمير المجرور يعود على ما كيدعو وما كيرمي، وإنما نُوي فيهما لاستثقال ظهوره فيهما لو قلت: يغزوُ ويرميُ، ولو اضطر شاعر إلى الإظهار لجاز، كما يجوز في الأسماء، بخلاف الألف.
وقوله: (والرفع) منصوب بانوِ، أي: انو الرفع فيهما، ويقال: نويتُ الشيء نيةً ونويةً ونواةً: إذا قصدته بنيتك، فمعنى انو فيه غير الجزم، أي: اقصد فيه قصد الرفع والنصب في نيتك إذ ذاك غير ملفوظ به.
وكذا قوله: (والرفع فيهما انوِ) أي اقصده في نيتك في الواو والياء.
ويقال: بدا الشيء يبدو بُدُوًا: إذا ظهر، وابتديته أنا أي: أظهرته، ومنه قول الله تعالى:{بادي الرأي} أي: في ظاهر الرأي يحكي كلام قوم نوح عليه السلام، فيريد بقوله:(أبدِ نصبَ) كذا، أي أظهره، ولا تقدره، كما تقدر الرفع، ثم قال:(واحذف جازمًا ثلاثهن)"جازمًا" حالٌ من الضمير في احذف، أي: احذف ثلاثهن، حالة كونك جازمًا لهنَّ، ولا يكون ثلاثهن منصوبًا بـ "جازمًا" أصلًا، بل باحذف لأنه الطالب له، وأما "جازمًا" فإنما هو طالبٌ من جهة معناه، لما آخره من ألف أو واو أو ياء، وهو الذي يسمى
معتلا ويعني بالثلاث: الألف والواو والياء، وضمير "هن" عائد على الأحرف كأنه قال: احذف ثلاث الأحرف وأتى بالثلاث على التأنيث، ولم يقل: ثلاثتهن، وهي مذكرة اعتبارا بتأنيثها لثبوت الاعتبارين فيها، وقد اعتبر التذكير في الألف في قوله:(فاللف انو فيه) ولم يقل فيها، ومن التذكير فيها في اللغة ما أنشده سيبويه من قوله:
كافا وميمين وسينا طاسما
وأنشد في التأنيث فيها:
كما بينت كاف تلوح وميمها
وعادة الناظم ألا يبالي بها في التزام تذكير أو تأنيث، بل يأتي بها كذا مرة، وكذا مرة، على حسب ما يتأتى له في هذا النظم، وذلك قريب، وإنما حذفت هذه الأحرف في الجزم ليخالف الجزم الرفع، لأنه لما كان الرفع بالحركة وهو الأصل فيها، ثم استثقلت فبقي لفظ الواو والياء ساكنا كرهوا أن ينووا السكون فيهما، فيبقى اللفظ في الجزم كما كان في رفع، فحذفوهما، وعلل ذلك الفارسي في "التذكرة" بأن الياء والواو أجريت في الفعل مجرى الزوائد كالنون في يضربان ونحوه وكالحركات، كما
أجريت مجرى الزيادات في القوافي حيث جعلت حرف الإطلاق وسوى بينهما وبين الحرف الزائد حقيقة فقيل:
ولأنك تفري ما خلقت
…
وبعض القوم يخلق ثم لا يفر
ثم قال:
والستر دون الفاحشات وما
…
يلقاك دون الخير من ستر
فعومل الياءان معاملة واحدة في الحذف، كما يحذف الزائد، فكذلك جعلت هنا بمنزلة الزائد فحذفت للجزم، والألف في هذا محمولة على الواو والياء في الحكم، وكأن تعليل الفارسي مقو لتعليل الأول، وهو الذي نحا إليه سيبويه.
وقوله: (تقض حكما لازما) تقض: مضارع قضى الرجل قضاء، أي: حكم وهو متعد بالباء، تقول: قضى لي بحقى، أو حكم به لي، فإما أن يكون المتعدي إليه هو وقله:(حكما) وكان الأصل تقض بحكم لازم، إلا أنه حذف الجار فنصب كما قال:
تمرون الديار ولن تعوجوا
وإما أن يكون غير مذكور، ونصب "حكما" نصب المصدر بـ "تقض"، لأنه في معناه ومرادف له كما تقول: ذهبت انطلاقا، وانطلقت ذهابا، وجلست
قعودًا، ومنه قول امرئ القيس:
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت
…
عليّ وآلت حلفة لم تحلل
أي: حلفت / حلفة، فكذلك قول الناظم:(تقض حكما لازما) أي: تحكم حكما، أو تقض قضاء لازما، وأراد بهذا الكلام: أن حذف حرف العلة من آخر الفعل للجازم أمر لابد منه، يعني في القياس، فإن السماع لا يلزم فيه هذا.
فإن قلت: هذا الكلام فضل لا حاجة به إليه، لأن قوله:(واحذف جازما ثلاثتهن) يفهم منه لزوم هذا الحكم، بالحذف إذ لم يذكر خلافه ولا في السماع ما يتوهم فيه القياس فتحصل أن قوله:(تقض حكما لازما) لا فائدة فيه.
فالجواب: أنه لا فائدة ظاهرة، وذلك أن مخالفة هذا الحكم جاءت على ضربين:
أحدهما: جاء في الشعر والآخر جاء في الكلام، فمن الجائي في الشعر قوله:
إذا العجوز غضبت فطلق
…
ولا ترضاها ولا تملق
فقدر الجزم في الألف، فلذلك لم يحذفها، ومثل ذلك قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي:
وتضحك مني شيخة عبشمية
…
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
ومثل ذلك في الياء قول قيس بن زهير -أنشده شيبويه-:
ألم يأتيكَ والأنباء تنمى
…
بما لاقت لبون بني زياد
وفي الواو قول الآخر:
هجوت زبان ثم جئت معتذرا
…
من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
ومما جاء في الكلام قول الله تعالى: ((لا تخف دركا ولا تخشى)) على
قراءة حمزة، وقوله:((إنه من يتق ويصبر)) بإثبات الياء في رواية قنبل عن ابن كثير، وإذا كان كذلك فقد يقول القائل: إن هذا مما يجوز القياس عليه لمجيئه في فصيح الكلام المنثور وتقويته بالمنظوم لا سيما على مذهب المؤلف في أمرين:
أحدهما: اعتبار ما جاء في القرآن والقياس عليه -وإن قل- كمسألة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، ومسألة تحقيق الهمزتين في أئمة، حسب ما يتفسر في موضعه إلى غير ذلك من اعتباره لما جاء في القرآن وقياسه عليه.
والثاني: اعتباره لما جاء في الشعر معاملة الآتي في الكلام، إذا كان الشعر لا ينكسر مع زوال الضرورة، كما في قوله:
*ولا ترضاها ولا تملق*
إذ الشاعر متمكن من الجزم بالحذف، فيقول:"ولا ترضاها" فيكون الشعر مخبونا، فكأنه أثبت الألف غير مضطر، ومثله قوله:
*ألم يأتيك والأنباء تنمى*
لجواز حذف الياء فيصير منقوصا وهو جائز وإن كان قبيحا في باب الزحاف، ومثله قوله:"لم تهجو ولم تدع" لجواز حذف الواو فيكون مطويا فقد ترشح على هذا القول بالقياس، فلما كان الأمر على هذا، وكان السماع
موهمًا لإثبات خلاف ما نص عليه، نفي هذا الإيهام، وصرح بأن ما نص عليه هو اللازم، وما عداه غير معتبر في القياس، ولا معول عليه، لأن مجيء هذا الضرب في الشعر لم يكثر، وأيضًا فجميع الأبيات محتمل لإشباع الحركات ضرورة كما أشبع الضمة في ظاء "انظر" من قال:
وأنني حيث ما يثني الهوى بصري
…
من حوث ما سلكوا أدنو فأنظور
أنشده الفارسي، وكما أشبع فتحة:"منتزح" ابن هرمة حيث قال:
فأنت من الغوائل حين ترمي
…
ومن ذم الرجال بمنتزاح
وكما أشبع الكسرة في الدراهيم "و" الصيارف" الفرزدق حيث قال: -أنشده سيبويه-.
تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ
…
نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
وقد أجاز ذلك ابن خروف في بيت قيس بن زهير: "ألم يأتيك" البيت والجواز سارٍ في الجميع، فإذا احتملت الأبيات هذا لم يكن فيها دليل.
وأما آية "طه" فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون تخشى مستأنفًا، أي: وأنت لا تخشى.
والثاني: أن تكون الألف للإطلاق في الفاصلة كقوله: "الظنونا"، و"الرسولا"، و"السبيلا".
وأما آية "يوسف" فتحتمل أن تكون (مَن) فيها موصلة و (يتَّقي) مرفوع في صلتها (ويصبر) معطوف عليه، وإنما سكن تخفيفًا كأنه عُدَّ "بِرُفَ" من {يصبر فإن} كبناء على فعل فسكن لذلك، كما قال امرؤ القيس في نحو ذلك:
فاليوم أشرب غير مستحقبٍ
…
إثمًا من الله ولا واغل
فإذا ثبت هذا في تلك الشواهد لم يكن فيها دليل على ثبوت الجزم بتقدير حذف الحركة سماعًا، فأحرى ألا يثبت بها كون ذلك قياسًا، فلذلك قال:(تقضِ حُكمًا لازمًا) والله أعلم، أي: أن الحذف هو الحكم اللازم الذي لابد منه على كل حالٍ، وهذا حسن من الاعتبار، وبالله التوفيق.
?