الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إعراب الفعل
ارْفَعْ مُضَارِعًا إذَا يُجَرَّدُ
…
مَنْ جَازمٍ ونَاصِبٍ كَتَسْعَدُ
قد تقدَّم في أول الأُرجوزة أن الفعل المضارع معرب إن عَرِيَ من نون توكيد مُبَاشِر، ومن نون جماعة المؤنَّث، ومَرَّ بيانهُ هنالك.
وتقدَّم أيضا أن إعرابه: رفعٌ، ونصبٌ، وجَزْمٌ، كما أن إعراب الاسم رفعٌ ونصبٌ، وجَرٌّ، ومَرَّ إعراب الاسم وما يتعلق به.
فأخَذ هنا في الكلام على إعراب الفعل، وابتدأَ بالرَّفْع لأنه الأصل، ويعني أن الفعل المضارع إذا تجَّرَد من الناصب والجازم فأنه يرفع حينئذ، فتقول: أنتَ تَسْعَدُ، وزيدٌ يَسْعَدُ، ويَخرُجُ أبو عبدالله، وما أشبه ذلك.
وأتى بالتجَّريد عن الناصب والجازم على مَساق الشَّرْطية، لأنه قال: ارفعْه إذا تجدَّد، فيَحتمل أن يكون قد جَعل التعرِّيَ هو نفسَ الرافع للفعل، فيكون مذهبه هنا مذهبَه في «التسهيل» لأنه جعل التعرِّيَ هو الرافع، فقال: يُرفع المضارع لتعرِّيه من الناصب والجازم، لا لوقوعه موقعَ الاسم خلافًا للبصريين.
ويَحتمل أن يكون قد جَعل التعرِّيَ شرطًا في الرفع لا عاملًا، كأنه قال: ارفعْه بشرط التعرِّي، فيكون الرافع مسكوتا عنه في كلامه، وإنما ذكَر الشرطَ في ارفع ولم يَذكر السبب فيه، لأن الشرط أكيدُ الذكِّر، وليس
السبب عنده بأكيد الذِّكر، وأيضا فالشرط مُتَّفَق على اعتباره.
وقد قيل: إنه الرافع، والسبب مختلَف فيه، وهو بعد في مَحل الاجتهاد، فسَكَت عن تعينه إبقاءً للناظر فيه.
وقد اختُلف في الرافع هنا على ثلاثة أقوال:
أحدهما: ما ذهب إليه في «التسهيل» من أنه التعرِّي من الناصب والجازم، وهو مذهب الفَرَّاء وأصحابه.
والثاني: أنه ارتفع لوقوعه موقعَ الاسم، وهو مذهب سيبويه والجمهورِ من البصريين.
والثالث: أنه ارتفع بالزوائد الأربع التي في أوله، وهو أضعفُها وأشدُّها مخالفةً للقياس والسماع.
والذى نَكَّت عليه، إن كان أراد أن التعرِّيَ هو الرافع، هو مذهب البصريين.
ووجه التَّنْكيت أن الرافع لو كان الوقوعَ موقعَ الاسم لَمَا ارتفع بعد (لَوْ) ولا بعد حرف التحضيض، لأنها مختصة بالأفعال، فليس المضارع بعدها في موضع اسم، فالرافعُ، على قولهم، في هذا معدوم، ولا يقال: إن المراد بوقوعه موقعَ الاسم وجودُ ذلك فيه على الجملة، وأنت تعلم أن الاسم قد يقع بعد (لَوْ) وحرف التحضيض نحو:«لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي» .
وقوله:
*فَهَلَاّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُهَا*
فالوقوع موضعَ الاسم حاصل - لأنا نقول: لا يخلو مرادُكم بالوقوع موقعَ الاسم من أن يكون / بمعنى أن الموضع للاسم في الأصل أو في الاستعمال، أو ما هو أعمُّ من هذا.
فالأول: مُنْتَقِض بالرفع بعد حروف التخصيص لأنه ليس للاسم في الأصل.
والثاني منتقض بالرفع بعد (كاد) فإنه ليس للاسم في الاستعمال.
والثالث: منتقض بالجزم بعد (إنْ) الشرطية، فإنه موضعٌ صالح للاسم في الجُمْلة، نحو: إنْ زيدٌ قامَ أكرمتُه. وإذا بَطَل على كل تقدير صَحَّ أن الرافع له ما تقدَّم.
وهذه الأدلَّةُ من ابن مالك غيرُ واردة على مَقْصدِ سيبويه في الوقوع موقعَ الاسم، فانظره لابن خروف في «شَرْح الكتاب» فليس بنا حاجة إلى الإطالة بذكره. والمسألة على الجملة لا يَنْبني عليها حكم، فالأمر فيها قريب. ثم أخذ في ذكر النواصب فقال:
وبَلَنِ انْصِبْهُ وُكَىْ كَذَا بِأَنْ
…
لا بَعْدَ عِلْمٍ والَّتِى مِنْ بَعْدِ ظَنْ
فَانْصِبْ بِهَا والرَّفعَ صَحِّحْ واعْتَقِدْ
…
تَخْفِيفَهَا مِنْ أَنَّ فَهْوَ مُطَّرِدْ
وبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلًا عَلَى
…
مَا أُخِتَها حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلَا
ذكر الناظم نواصبَ أربعة وهي: لَنْ، وكَىْ، وأَنْ، وإذَنْ، وهي التى تَنصب بنفسها. وما عداها غيرُ ناصب نفسه، كحَتَّى، والواو والفاء في الأجوبة الثمانية، وأوْ، بمعنى (إلَاّ)
فهذه وما أشبهها مِمَّا نُصب، الفعل بعدها منصوبٌ بإضمار (أنْ) لا بنفس ذلك الحرف على حَسَب ما يَذكره إثْرَ هذا.
والضمير المنصوب في «انْصِبْهُ» عائدٌ على الفعل، أي انصبه بهذه الحروف المذكورة.
أما «لَنْ» فينتصب الفعل بعدها بها لابغيرها، فتقول: لَنْ يُكْرِمَكَ زيدٌ، ولَنْ يُهِينَكَ عمروُ.
وجَعْلُه الناصبِ نفسَ «لَنْ» دليلٌ على اعتقاد مذهب سيبويه أنها ليست بمركَّبة من (لَا أَنْ) كما يزعمه الخليل، فإن النصب على مذهبه يكون بـ «أنْ» وحدَها لا بـ «لَنْ» بجُملتها.
والمختار ما أشار إليه الناظم أنها غيرُ مركَّبة، لأن التركيب على خلاف الأصل، فلا يُدَّعى إلا بدليل، ولا دليل، و (لا أنْ) مع الفعل والفاعل كلامٌ تام، ولو كان أصلها (لا أنْ) لكان الكلام تاما بالمفرد، وهو محال.
ورَدَّه سيبويه بأنه لو كان كذلك لم يتقدَّم معمولُ معمولها عليها، لأن ما في حَيِّز الصلة لا يتقدم على الموصول، و (أَنْ) حرفٌ موصول. وأنت تقول: زيدًا لن أضربَ، وهو جائز، فَدلَّ على عدم تقدير الخليل.
وأما «كَىْ» فتنصب أيضا بنفسها، فتقول: جئتُكَ لكَىْ تُكْرِمَنى.
ومنه قوله تعالى: } لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}. وقوله: } لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنينَ حَرَجٌ} الآية.
ودَلَّ من كلامه على كونها ناصبةً بنفسها عطفُه «كَىْ» على «لَنْ» كأنه قال: وبِكَىِ انْصِبْهُ أيضًا.
وهنا إشكال في كلامه/ وهو أنه نَصَّ على نصبها بنفسها مطلقا من غير تَقييد، وذلك غير صحيح، لأن (كَىْ) على وجهين:
أحدهما: أن تكون ناصبة بنفسها كما قال، ويتعَّين ذلك إذا دخلت عليها لامُ الجر، نحو الآيتَيْن المتقدِّمتين.
والثانى: أن تكون جارَّة لا ناصبة؛ بل يكون نصب الفعل الواقع بعدها بإضمار (أنْ) و (أنْ) والفعل فى موضع اسم هو مجرور «كَىْ» والجرُّ بها ثابت من كلام العرب، فإنها قد وقعت موقعَ اللام مع اسم الاستفهام. قال سيبويه: وبعض العرب يجعل «كَىْ» بمنزلة (حَتَّى) يَعنى حرفَ جَرِّ، وذلك أنهم يقولون: كَيْمَهْ؟ في الاستفهام، فيُعملونها في
الأسماء، كما قالوا: حَتَّامَهْ؟ وحَتَّى متَى؟ ولِمَه؟ ثم أتمَّ الكلام عليها، وأن النصب بعدها بـ (أنْ) مضمرة، لأنه لا وجه في (كَيْمَهْ) إلى حذف الألف غلا أنها مثل اللام في (لِمَهْ) ولا يَدخل هنا اللامُ عليها لأنها حرفُ جَرٍّ مثلُها، وحرفُ الجر لا يدَخل على مِثْله، وإذا كان ذلك ثابتا من كلام العرب كان كلامه هنا بإطلاقه غيرَ مستقيم.
والعجَبُ أنه أتَّم الكلامَ عليها في كتبه، وترَك ذكرَ ذلك هنا، إلا أن يقال: إنه ذهب هنا مذهبِ الكسائى في جَعْله «كَىْ» قِسْمًا واحدا، وهى الناصبة بنفسها، وتَأَوَّل (كَيْمَهْ) على أنها منصوبة على مذهب المصدر، كقول القائل: أقومُ كى تقومَ. فسمعه المخاطب ولم يَفهم «تَقُومَ» فقال: كَيْمَهْ؟ يريد: ماذا؟ فالتقدير: كَىْ تفعلَ ماذا؟ فموضع «مَهْ» نصبٌ على جهة المصدر والتشبيه به، وليس لـ «كى» في «مَهْ» عمل، وهو مذهب مَردود لا ينبغى أن يقال به، وحَمْلُ كلام الناظم عليه ضعيفٌ جدا.
وقد حَكى الأستاذ رحمه الله أن بعض المتأخرين ذهب إلى أن «كَىْ» الداخلةَ على الأفعال هي الناصبةُ على كل حال، سواءٌ تقدمَّها حرفُ جر أم لا، فإن تقدَّمها فلا إشكال في أنها الناصبة، وإذا لم يتقدَّمها كان مقدَّرا قبلها.
وأما من جعلها من العرب حرفَ جر فإنه لا يُدخلها على الأفعال أصلا، لأن جَعْل ذلك في (لام كَىْ) و (لام الجحُود) و (حَتَّى) الجارة ينبغى أن يكون موقوفا على السماع، ولو كان ذلك قياسا لجاز أن تقول: عجبتُ مِنْ تُكْرِمَني،
وهذا لك بتَقُومَ، تريد: من أن تُكْرِمَنى، وبأَنْ تقومَ، فإذا لم يكن ذلك قياسا وجب الاقتصار على الموضع الذى قامت الدلالة على أنه من ذلك.
قال الأستاذ: وهذا تحقيقٌ في الموضع كان يجب الأخذُ به، لولا أن سيبويه قد أثبت دخول (كَى) الجارَّة على الأفعال.
هذا ما حكاه الأستاذ، وما أسْعَده بكلام الناظم حين أَتَى بها في (باب حروف الجر) فدَلَّ ذلك على اختصاصها بالأسماء، وأتى بها هاهنا، فدل على اختصاصها بالأفعال.
والدليل على أن هذا رأيه أنه لم يَذكر (كَىْ) فيما يُنصب بعده الفعل/ بإضمار (أنْ) حين أتى بحتى، ولام كى، ولا الجحود، والجوابِ بالفاء، والواو، وأوْ، ولم يأتِ معها بـ (كَىْ) الجارة، كما أتى بها غيرُه مع هذه الأشياء، فهذا يوضِّح أنه ما أراد سواه، ولا قَصد إلا إيَّاه.
والقياس يَعْضُده، وذلك أن «كَىْ» ظهر منها أمران:
أحدهما: دخولها على الأسماء على حَدِّ دخول حروف الجر، نحو: كَىْ مَهْ؟ كما تقول: حَتَّى مَهْ، ولِمَهْ؟ ولا شك في كونها هنا جارة، ولا تكون جارة حتى تختص بما جَرَّته.
والثانى: دخولها على الأفعال المضارعة، فيُنْصب ما بعدها. والأصل أن يُنْسب الفعل إليها حتى يَدل على خلاف ذلك دليل. وأيضا، قد دل الدليلُ الواضح على صحة وقوعها في النواصب، وهو دخول اللام الجارةَّ عليها، نحو: } لِكَيْلَا تَأْسَوْا}. وهي هنا ناصبة
باتِّفاق.
والأصل في العامل ألَاّ يعمل حتى يَختص، فأَنْتج هذا النظرُ غيرَ ما نَقله الأستاذ رحمه الله ولا يلزم من ذلك مخالفةُ السماع، ولا إبطالُ القياس، لأن «كى» بهذا الاعتبار لفظٌ مشترَك لموضعين، ولا يُنكر مثل هذا.
وقد يُجاب عن السؤال أيضا على مذهب الجماعة ومذهبه في «التَّسْهيل» وغيره أنَّ ما أتى به هنا صحيح، لأنه إنما أتى بـ «كَىْ» الناصبة وحدها، ولم يتعرض للجارة.
والدليل على هذا من كلامه أنه ذكر الجارَّة في حروف الجر، وجعلها منها إذ قال:«مُذْ مُنْذُ رُبَّ اللَاّمُ كَىْ وَاوٌ وتَا» فاتى هناك بها حرفَ جر، ومُحال أن يريد أن الجارةَّ هناك هى الناصبة هنا، فلابد من مُبَاينة إحداهما للأخرى، فَتثَبَّت القسمان من كلامه، غلا أنه يبقى نظرٌ آخر. وهو أنه لم يَذكر في الجارةَّ ماهو واجبُ الذكر فيها، من كونها لا تجرُّ غلا تقديرا، فيقع بعدها الفعل مقدَّرا قبله (أنْ) ولا يقع بعدها الاسم الصريح إلا (ما) الاستفهامية.
فإطلاقُه أنَّها حرفُ جر، ولم يَذكر لها غير ذلك، يُوهم أن لها حكم سَائرِ الحروف، وليس كذلك، فالإخلال واقعٌ في عدم ذِكْر حكم مجرورها.
فلو قال مثلا إذا أخذ في ذكر ما يَنتصب على إضمار (أن):
وبَعْدَ كَىْ إضْمَارُ أنْ يَغْلِبُ إنْ جُرٌ بِهَا نحُو ائِتهِ كَيْلَايَهِنُ
أو نحو هذا - لتخلصَّ عن هذا الشَّغْب، فالواجب إذًا حملُه على ما تقدم
قبل هذا.
ثم قال: «كَذَا بأنْ لَابَعْدَ عِلْمٍ» يَعنى أنَّ (أنْ) المفتوحة حكمُها حكمُ (لَنْ) و (كَىْ) في كونها ناصبةً بنفسها، ولا خلاف في هذا، لكنه شَرط ألَاّ تكون (أنْ) بعد العِلْم، وحقيقةُ هذا الاشتراط وما ذكُر معه يُعطى في (أنْ) تقسيمًا، وهو أن (أنْ) على ثلاثة أقسام:
أحدها: إلَاّ تقع بعد عِلْم ولا ظَنٍّ، فهذه هى الناصبة للفعل، نحو: جئتُكَ أنْ تُكْرِمَنى، وأعجبنى أن تقومَ} وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ونحو ذلك.
ولا تقع غيرَ ناصبة إذا دخلت على المضارع إلا نادرًا، كما سيَذكره، وهو الذى ابتدأ به الناظم.
والثانى: أن تقع بعد (العِلْم) فمقتضى اشتراطه ألَاّ تقع الناصبةُ بعدَه دليلٌ على أنها بعدَ العِلْم غيرُ ناصبة للفعل وإن وقعتْ بعده، فتقول: علمتُ أنْ يَقُومُ زيدٌ وعلمتُ أنْ لا يَقُوُم/ زيدٌ، تَرفع الفعل هنا لا غيرُ، إذْ أُخْرِج (أنْ) معه عن النصب جملة، وكونُها بعد العِلْم مخففَّةً من الثقيلة هو السببُ في عدم النصب، على ما يَذكره إثْرَ هذا.
ولا يختص هذا الحكم بـ (عَلِمَ) وحدها؛ بل كلُّ ما يُعْطِى معنى العِلْم فُحكْمُه حُكْمُه، نحو: تَيَقَّنْتُ أنْ لَا يَقُوُم زيدٌ، ورأيتُ أنْ تَخْرُجُ، وتحقَّقْتُ أنْ لا تَقُوُم، ونحو ذلك لقوله:«لَا بَعْدَ عِلْمٍ» فعَمَّ أفعالَ العِلْم.
والثالث: أن تقع بعد (الظنِّ) نحو: ظَنَنْتُ، وحَسِبْتُ، وخْلِتُ،
ورَأَيْتُ، ونحوها مما يُعْطى معنى الظن.
فإذا وقعت (أنْ) بعد أحد هذه الأفعال أو نحوها فلك وجهان:
أحدهما: أن تَنصب بها ما بعدها، فتقول: حَسِبْتُ أنْ يَقُومَ زيدٌ، وخِلْتُ أنْ تَخْرُجَ. ومنه قوله تعالى: } آلم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا} الآية. وقوله: } أيَحْسَبُ الإنْسَانُ أن يُتْرَكَ سُدىً} وقوله: } إنْ ظَنَّا أنْ يُقَيمَا حُدُودَ اللهِ} و} تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}.
وقَدَّم النصبَ هنا كأنه أرجحُ عنده من الرَّفْع وأكثرُ، ويُشْعر بذلك قولُه:«فَانْصِبْ بِهَا» فأتى بالنصب في مَساق الاعتماد عليه، ثم استدرَك وجهَ الرفع وصَحَّحه، وإلَاّ فكان يقول:«فَانْصِبْ بِهَا وارْفَعْ» وكذلك قال ابن المؤلف في تَكْملة الشرح: «قال: ولذلك اتُّفِق على النصب في: أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا» وكان أكثر القُرَّاء على النصب في قوله تعالى: } وحَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وهم غيرُ أبى عمروٍ وحمزةَ والكسائى، والرفع لهؤلاء الثلاثة.
والثانى: ألَاّ تنصبَ بها، بل يبقى ما بعدها على رَفْعه، نحو قولك: حَسِبْتُ أنْ لا تَقُولُ ذلك، وظننتُ أنْ لا تفعلُ ذلك.
ومنه قوله تعالى: } وَحَسِبُوا أنْ لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ}. على قراءة أبى عمروٍ وحمزةَ
والكسائي.
وهما على وجهين مختلفين، أما النصب بعدها فلجريانها على بابها، من عدم التحقيق وثبوت التردد، فصارت كالرجاء ب (عسى) فالوضع ل (أن) الناصبة.
وأما الرفع فعلى معنى أنك أثبت ذلك في ظنك، وأدخلته مدخل العلم، وعلى إجرائه مجرى العلم صارت هنا (أن) غير ناصبة، وإلى هذين أشار بقوله:"والتي ومن بعد ظن. فانصب بها والرفع صحح" يعني أن (أن) إذا وقعت بعد الظن فالنصب هو الأكثر، والرفع صحيح جائز.
ثم أخذ في بيان وجه الرفع بعدها حيث لم تقع ناصبة فقال: "واعتقد تخفيفها من أن"
يعني أن (أن) التي لا تنصب الفعل الواقع بعدها لا ينبغي أن يعتقد أنها هي الناصبة للفعل؛ بل هي غيرها، لأن عامل النصب من شأنه ألا يتخلف عن عمله في موضع من المواضع من غير مانع، وأن يكون مختصا بما يعمل فيه، لا يدخل على غيره كسائر العوامل، فإن شأن العامل أن يكون عاملا على / الإطلاق، ومختصا بما يعمل فيه على اللزوم، إلا ما خرج عن هذا عن أصله، نحو (ما) فإنها تعمل مرة ولا تعمل أخرى، وذلك خلاف القاعدة الأصلية، والقياس المستمر؛ فلا بد أن يعتقد في (أن) هذه التي لم تعمل أنها غير الناصبة، وأنها المخففة من (أن) الناسخة للابتداء، فيقال: إنها لم تعمل] لأنها المختصة بالأسماء فلا تعمل في الأفعال. لكن قد يقول القائل: ما الحامل لكم على هذا التقدير، ولعلها (أن) الناصبة، لم
تعمل هنا [كما لم تعمل في مواضع أخرى كما سيأتي؟ .
فأجاب الناظم عن هذا بأن تخفيف (أن) مطرد في كلام العرب، على أن يكون اسمها مقدر لا يبرز إلا في الضرورة، وبيان اطراده قد تقدم في باب (إن) ووقوع الفعل بعد (أن) غير الناصبة للفعل كثير مطرد أيضا، كما تقدم.
فالحق أن يحمل المطرد على المطرد، ولا يحمل على أنها (أن) الناصبة للفعل لم تعمل، فإن ذلك ليس بمطرد ولا كثير، بخلاف التخفيف من (أن) وحكمها مبين في موضعه، فلم يحتج إلى ذكره هنا، وعلى أنه كرر حكمها في "التسهيل" في باب (إن) وفي نواصب الأفعال. وإن التكرار ينافي الاختصار.
واعلم أن الذي تعرض للكلام عليه من (أن) المخففة من الثقيلة هي التي لم يقع بينها وبين الفعل فاصل سوى (لا) النافية، لأنه إذا وقع بينهما فاصل غير (لا) لم يقع بينها وبين الناصبة للفعل لبس، لأنك إذا قلت: خلت أن سيكون كذا، أو خلت أن لن تقوم- لم يمكن أن تكون هنا ناصبة، لمكان الفاصل الحائل بين (أن) وبين ما كان يمكن أن يكون معمولا لها، فلا يحتاج إلى تفرقة بين المخففة والناصبة في مثل هذا، وإنما يحتاج إلى ذلك حيث يمكن على الجملة أن تعمل (أن) فيما بعدها، وذلك إذا لم يقع بينهما فصل، كقولك: علمت أن تقوم، وخلت أن تخرج، وذلك على الوجه غير الأحسن المنبه عليه في باب (إن) أن يقع من الفواصل ما لا يمنع (أن) من تأثيرها في معمولها، وذلك (لا) نحو: خلت ألا تقوم، وعلمت ألا تخرج، فها هنا يحتاج إلى قانون التفرقة بين (أن) الناصبة للفعل والمخففة من الثقيلة.
ثم قال: "وبعضهم أهمل أن"
يعني أن بعض العرب أهمل (أن) فلم يعملها وهي الناصبة للفعل، فيقول: أعجبني أن يقوم زيد، وهو قليل.
ومنه ما روى في غير السبع من قوله تعالى: } لمن أراد أن يتم الرضاعة} برفع "يتم" وأنشد السيرافي، ورواه ابن جنى، عن احمد بن يحيى.:
أن تقرآن على أسماء ويحكما
…
مني السلام وأن لا تشعرا أحدا.
وقد يكون منه ما أنشد الفراء من قوله:
أن تهبطين بلاد قوم
…
يرتعون من الطلاح
ثم أخذ في توجيه هذا الإهمال فقال: "حملا على ما أختها".
يعني أنها الناصبة للفعل، أهملت بالحمل على (ما) أختها، وهي المصدرية، لأنها أختان في تأويلهما بالمصدر، فكما أن الفعل إذا وقع بعد (ما) مهمل غير منصوب، فكذلك حملت (أن) عليها فقيل:"أن تقرآنن" ونحو ذلك.
وقوله: وحيث استحقت عملا"/.
يعني أن هذا الإهمال إنما هو في] موضع استحقت فيه العمل، لا في موضع لا تستحقه فيه، فتحرز من وقوعها بعد علم أو طن، فإنها هناك غير مستحقة على التفسير [المذكور أولا، فليس مخصوصا بهذا البعض الذي حكى عنه.
وما قرر من التوجيه هو رأي البصريين، وأحمد بن يحيى من الكوفيين. حكاه عنه ابن جنى في كتاب "التعاقب" له ومذهب الكوفيين في التوجيه: الحمل على أنها المخففة من الثقيلة، أتى بها من غير فصل، وهو مذهب الفارسي، حكاه عنه ابن جنى أيضا في البيت المتقدم:
- أن تقرآن على أسماء ويحكما*
والأظهر فيه خلافه، لقوله في البيت:
- وأن لا تشعرا أحدًا *
فنصب بها، فلو كانت الأولى عنده المخففة لكان من التناسب أن تكون الثانية كذلك. والمذهبان متقاربان.
لكن على الناظم هنا درك ما مع ما تقدم له في باب "إن" وذلك أنه قدم في المخففة من الثقيلة أن الأحسن الفصل، ويجوز ترك الفصل قليلا، وذلك في قوله: وإن يكن فعلا ولم يكن دعا.
ثم قال: فالأحسن الفصل بقد أو كذا" إلى آخره. ونبه على ما جاء من نحو قوله تعالى: } لمن أراد أن يتم الرضاعة}. ونحو البيتين المنشدين، فظاهره فيما تقدم أنها المخففة، وها هنا نقض ذلك، فحملها على (أن) الناصبة للفعل لا على المخففة والجواب أن الناظم قصده في الموضعين صحيح.
فأما قصده في باب (إن) فالإخبار عن المخففة إذا تعين ذلك فيها، وذلك عند وقوعها بعد العلم، أو بعد ما كان نحوه، فلم تتعين الآية ولا البيتان بخصوصها لتمثيل عدم الفصل في المخففة.
وإنما نبه على ما يصلح أن يكون مثالا له هنالك، وذلك إذا وقعت بعد العلم أو الظن نحو: علمت أن يقوم زيد، وظننت أن يقوم زيد، ونحو ذلك.
وأما القصد هنا فالإخبار عن (أن) التي لا تقع بعد علم ولا ظن، وهو موضع الخلاف.
فالكوفيون يحملونه على المخففة، والبصريون على الناصبة للفعل،
فلا تناقض. ووعلى هذا التوهم استظهر بقوله: "حيث استحقت عملا".
أي إنما هذا التأويل حيث تستحق العمل، فإن الموضع الآخر حيث لا تستحق العمل متفق عليه، وهذا حسن من التنبيه كما مر تفسيره آنفا.
ونصبوا بإذن المستقبلا
…
إن صدرت والفعل بعد موصلا.
أو قبله اليمين وانصب رافعا
…
إذا إذن من بعد عطف وقعا.
هذا هو الموضع الرابع من الأدوات الناصبة بأنفسها، وهو (إذن) وهو حرف جواب وجزاء.
فقوله: "ونصبوا بإذن" نص في أنها الناصبة بنفسها.
وقد حكى المؤلف في "التسهيل" عن الخليل: أن النصب بعدها بإضمار (أن) قال: ابنه: وإنما مستنده فيه قول السيرافي في /أول شرح الكتاب: روى أبو عبيده عن الخليل أنه قال: لا ينصب شيء من الأفعال إلا بأن مظهرة، أو مضمرة في (كي، ولن وإذن) وغير ذلك.
قال: وليس في هذا نص، لجواز أن تكون مركبة عنده من (إذ) التي للتعليل و (أن) كما يقول في (لن).
قال: وهذا على ضعفه أقرب من تلك الدعوى.
هكذا قال، ولم يدر أن سيبويه حكى ذلك عنه في باب (إذن) ورد عليه، فتأمله.
والنصب بعدها بإضمار (أن) مذهب الزجاج أيضا، ورد عليه الفارسي في "الإغفال" بما فيه كفاية، فطالعه ثمة إذ لا حاجة إليه هنا.
ثم شرط في عملها النصب شروطا أربعة:
أحدها: أن يكون الفعل الذي تنصبه مستقبلا من جهة معناه.
فقوله: "والمستقبلا" على حذف الموصوف، أي: ونصبوا بإذن الفعل المستقبل، كقولك لمن قال: آتيك غدا، فتقول: إذن أكرمك.
ومن ذلك قول ابن عنمة الضبي:
اردد حمارك لا تنزع سويته
…
إذن يرد وقيد العير مكروب.
فلو كان الفعل غير مستقبل لم تنصبه (إذن) فتقول إذا حدثت حديثا: إذن أظنه فاعلا، وإذن أظنك صادقا، فرفعت لأنك حالة الإخبار في ظن، فخرجت بذلك عن باب (أن، وكي) لأنهما لا ينصبان إلا المستقبل، وهي مشبهة في العمل بهما، فلا يجوز أن تنصب إلا ما ينصبانه، وهو المستقبل.
والثاني من شروط النصب بها: أن تقع صدر الكلام، وذلك قوله: "إن صدرت: والتصدير فيها على إطلاقه، من كونها لا يقع قبلها شيء، لا حرف عطف ولا غيره، لأنه قد ذكر وجهين فيما إذا تقدم حرف العطف.
و"إذن" لها ثلاثة أحوال" أن تتقدم، وأن تتأخر، وأن تتوسط.
فأما إذا تقدمت: فتنصب، فتقول في جواب ممن قال: آتيك: إذن أحسن إليك، وأما إذا توسطت أو تأخرت: فلا تعمل، فتقول في الجواب: أنا إذن أكرمك، ووالله إذن أكرمك.
ومنه قول كثير عزة، أنشده سيبويه:
لئن عادلي عبد العزيز بمثلها
…
وأمكنني منها إذن لا أقيلها.
فقوله: "إذن لا أقيلها" مبني على اليمين، فصار متوسِّطاً.
وكذلك إذا قلت: أكرمك إذن، فأخرت.
وقد أنشد بيت حكي فيه النصب بها مع توسطها، وهو قوله:
لا تتركني فيهم شظيرا
…
إني إذن أهلك أو أطيرا.
ومنشده الفراء.
وإنما أعملت مبتدأة ولم تعمل على غير ذلك، لأنها أصل وضعها جواب تكفي من بعض كلام المتكلم، كما تكفي (نعم، ولا) فتقول: إن تزرني أزرك، فيقال: إذن أزورك، أي للشرط الذي شرطت، فنابت عن الشرط، وكفت من ذكره.
فلما كانت جوابا قويت في الابتداء، لأن الجواب لا يتقدمه كلام.
ولما وسطت وأخرت زايلها مذهب الجواب، فبطل عملها.
وشببها الخليل ب (أرى) / في أنه إذا تقدم بني الكلام عليه فأعمل.
فإذا توسط أو تأخر ألغي لدخوله بعد بناء الكلام على غيره، فصار لغوا، فكذلك (إذن).
والثالث من الشروط أن يكون الفعل الذي تعمل فيه بعدها لا قبلها، وذلك قوله:"والفعل بعد" وهي جملة في موضع الحال من ضمير "صدرت"] أي: إن صدرت [(إذن) حالة كون الفعل واقعا بعدها.
وليس هذا الشرط داخلا تحت الأول، لأن (إذن) قد يكون الفعل واقعا بعدها، وهي بعد غير مصدرة نحو: إني إذن أكرمك، وما أشبه ذلك، فإن تقدم الفعل عليها لم يصح نصبه، فلا يجوز أن تقول: يقوم إذن زيد، ويخرج إذن.
ووجه ذلك راجع إلى ما تقدم قبل هذا، من أن حقها التصدير، وأيضا، لا يتصرف في معمولها بالتقديم، لأن أختيها وهما (أن، وكي) لا يكون ذلك فيهما، فلا يتقدم معمولها، فكذلك ما حمل عليها، وهو أحرى بذلك، لنقص رتبته عن رتبتهما.
والرابع: أن يكون الفعل متصلا ب (إذن) غير مفصول بينهما بفاصل معتد به. وذلك قوله: "موصلا أو قبله اليمين".
و"موصلا" حال من "الفعل" والعامل فيه الكون والاستقرار الذي دل عليه الظرف، بل الظرف نفسه لقيامه مقامه.
فإذا اتصل الفعل ب (إذن) نصبت فقلت: إذن أقوم.
فإن فصل بينهما فاصل فلا يخلو أن يكون مما يعد فاصلا أولا، فإن كان كذلك بطل العمل، فلا يجوز أن تقول: إذن أنا أكرمك، ولا إذن زيد يحسن إليك، بل يجب الرفع، وكذلك إذا فصل بمفعول أو غير ذلك نحو: إذن طعامك آكل، وإذن درهما أعطيك.
وإنما امتنع النصب لأجل الفصل بين العامل والمعمول، إذ كنت لا تفصل بين (أن) أو (كي) ومنصوبها، فلا تقول: أعجبني أن زيدا تضرب، ولا جئتك كي درهما تعطيني، فصارت (إذن) كحروف الابتداء، نحو (إنما، وكأنما) لا تعمل شيئا.
وإن كان الفاصل [لا يعد فاصلا] لم يضر، وبقي اعمل منسحبا على الفعل، وذلك اليمين نحو: إذن والله أكرمك، وما أشبه ذلك، لان القسم في حكم الزائد المطرح، ودخوله كخروجه، وغنما دخوله لمجرد التوكيد، ولذلك يقع في مواضع لا يقع فيها غيره.
ثم ذكر حكم ما إذا تقدمها حرف العطف فقال: "وانصب وارفعا" إلى آخره.
يعني أنه إذا وقعت (إذن) من بعد حرف العطف، ولم يتقدمها غيره، فلك في العمل وجهان: أحدهما: النصب فتقول: فإذن أكرمك، وإذن آتيك".
قال سيويه: وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف} وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا}.
قال: وسمعنا بعض العرب قرأها: "وإذن لا يلبثو" وهي قراءة هارون/القارئ.
والثاني: الرفع فتقول: وإذن أكرمك، وهو الأكثر. ومنه قوله تعالى: } فإذن لا يؤتون الناس نقيرا} وقراءة الجماعة: } وإذن لا يلبثون خلفك إلا قليلا}.
وإنما جاز الوجهان لأن حرف العطف صير (إذن) بتقدمه عليها كمتوسطة، فألغيت تارة اعتبارا بتوسطها، وأعملت تارة اعتبارا بكون العاطف غير معتد به.
ويدخل تحت إطلاقه نوع آخر من مسائل العطف، وذلك أن العطف يجوز أن يكون عطف جملة على جملة ليس بينهما علقة، فالنصب هنا هو المحكوم به، لأن (إذن) مبتدا بها، فالحكم فيه الرفع.
ويتبين لك هذا في مسألة سيبويه، وهي قولك: إن تأتني آتك، وإذن أكرمك، ] فإن جعلت (وإذن أكرمك [جملة مستأنفة غير متعلقة بالأولى أعملت وألغيت على وجهي العطف، وإن جعلتها متعلقة جزمت، فقلت: وإذن أكرمك، عطفا على (آتك) وإن شئت نصبت لا على (إذن) بل على العطف على الجواب، كقوله تعالى: } فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}، بعد قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [. الآية.
فقد تصور في المسألة وجهان على الجملة، إعمال (إذن) إهمالها، لكن قد يقال: إنمه لا يشمله كلام الناظم لقوله: "وارفعا" فجعل قسيم النصب الرفع، وفي مسألتنا الجزم، فكيف يصح أن يريد مثل هذا؟
والجواب: أن نفس الرفع ها هنا ليس بمقصود في نفسه، وإنما المقصود عدم إعمال (إذن).
وإذا كان المقصود هذا دخل فيه ما كان في معناه مما لا تعمل فيه (إذن) وعلى أنك في هذه المسألة قادر على جعلها من قبيل ما يكون فيه الفعل مرفوعا، بجعلك (إذن) في موضع (إن) أو إتيانك بفعل الشرط ماضيا وبفعل الجواب مضارعا، في أحد الوجهين، على ما سيذكر إن شاء الله تعالى.
فعلى كل تقدير يشمل كلام الناظم أمثال هذه المسائل، والله أعلم.
وعلى كلام الناظم في مسألة (إذن) أسئلة:
أحدها: أنه جزم بالنصب مع وجود الشروط الأربعة؛ إذ قال: "ونصبوا" وأطلق القول في ذلك، وهذا الإطلاق غير صحيح، إذ النحويون يحكون مع اجتماع الشروط الوجهين: النصب والرفع.
فقد حكى سيبويه عن عيسى بن عمر: أنا ناسا من العرب يقولون:
إذن أفعل في الجواب، يعني مع اجتماع الشروط. قال: فأخبرت يونس بذلك فقال: لا تبعدن ذا.] ولم يكن ليروي إلا ما سمع، جعلوها بمنزلة (هل، وبل) ومنه الحديث "إذن يحلف يا رسول الله" فقد ثبت الوجهان. وكلام الناظم يقتضي الاقتصار على وجه واحد، وهو إخلال في النقل.
والجواب عنه أن إلغاءها مطلقا لغة ضعيفة، على خلاف ما عليه جمهور العرب، ولذلك قال في "التسهيل": وينصب غالبا ب (إذن) وحكاية سيبويه تدل على قلته إذا لم يحفظه يونس وقال له: لا تبعدن ذا [.
وهذا مما يدل على ضعفها في القياس، وقلتها في السماع، فلم يبن
الناظم عليها على عادته في البناء على الشهير من اللغات.
والسؤال الثاني: أنه استثنى من الفصل بين (إذن) والفعل اليمين خاصة، فيعطى بمفهومه في الاقتصار في جواز الفصل عليه ألا يفصل بغير اليمين، لدخوله تحت منع الفصل/، وذلك لا يصح، لأن الفصل يقع أيضا بالنداء نحو: إذن يا زيد أكرمك، لأنه يجري مجرى القسم في كونه الفصل به كلا فصل.
وكذلك (لا) النافية إذا فصل بها، لم يمنعها ذلك عملها، لعدم اعتبارها فاصلا؛ إذا كانت تدخل بين الجار والمجرور، والناصب والمنصوب، وغير ذلك.
وكذلك يقول ابن عصفور في الظرف والمجرور، قياسا على القسم والنداء] لأنهما قد يتصرف فيهما بالتقديم والتأخير ما لا يتصرف في المفعول، فصارا بذلك في حكم القسم والنداء [.
وقد جمع بعضهم شروط إعمال (إذن) واستثنى من الفصل ما ذكرت لك، فقال:
أعمل إذن إذا أتتك أولا .... وسقت فعلا بعدها مستقبلا
واحذر إذا أعملتها أن تفصلا
…
إلا بحلف أو نداء أو بلا.
فجعل النداء و (لا) مع اليمين.
وزاد بعضهم على هذا الظرف والمجرور فقال:
والظرف والمجرور زدهما على
…
قول ابن عصفور نبيل النبلا
وزاد ابن خروف أيضا الدعاء إذا فصل به، فلا اعتبار به في ذلك، نحو قولك: إذن غفر الله لك بفعل كذا.
هذه ستة أشياء، ذكر الناظم منها واحدا فقط، وأهمل البواقي، وهذا كله فيه ما ترى.
والجواب: أنه في ذلك متبع لكلام سيبويه، لأنه إنما تكلم على الفصل بالقسم خاصة، وكأن ما عدا ذلك إنما هو قياس على القسم.
وأما (لا) فقد علم من حكمها أنها تدخل في الاختيار بين العامل والمعمول مطلقا، فلم يحتج إلى ذكر ذلك فيها، وزيادة ابن عصفور قد لا يسلم له فيها، لأن الظرف والمجرور إنما يتسع فيهما بالسماع، ولذلك لما استدل الفارسي على جواز تقدم خبر (ليس) عليها بجواز تقدم معموله، وتلا قوله تعالى: } ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم}.
اعترض عليه بأن الآية لا دليل فيها، لأن الظرف والمجرور قد يتصرف فيهما بالتقديم حيث لا يتصرف في المفعول.
ورد هذا الاعتراض بأن التصرف في الظرف والمجرور، وإن كثر، موقوف على السماع، فلا يقع إلا حيث سمع، والظرف والمجرور لم يقع واحد منهما،
فاصلا أصلا، فلا ينبغي أن يقال به، وإن كانوا قد قالوا في (لن):
لن ما رأيت أبا يزيد مقاتلا
…
أدع القتال وأشهد الهيجاء.
ففصلوا بين (لن) ومعمولها، وهي أشد في طلب الاتصال من (إذن) فذلك موقوف على السماع.
وما زاده ابن خروف فيلزمه أن يجيز ذلك في جمل الاعتراض مطلقا، فيقول: إذن فاعلم أكرمك، وإذن لو علمت أكرمك، وما أشبه ذلك.
ويطول الأمر في هذا، فالأولى الاقتصار على ما قرب مرماه، وسهل في الحكم تناوله، كالنداء والقسم.
والسؤال الثالث: أن قوله: "وانصب وارفعا" ظاهره الإشعار بقوة النصب، وفضيلته على الرفع لتقديمه إياه، وكثيرا ما يجري ذلك في كلامه، وقد عرفت أن الرفع هو الأكثر على تقدم ذكره.
والجواب عنه: أن التقديم والتأخير ليس بواجب التحكيم، وأيضا/فالوجهان جائزان على الجملة.
وقد مر أنه لا يقتصر على المثال المذكور أولا، بل يدخل فيه غيره، والإعمال والإلغاء مختلف بحسب المسائل، فهو قد أطلق القول في الوجهين، ولم يعتبر جهة التقديم والتأخير.
والضمير في "قبله" عائد على الفعل.
وقوله: "من بعد عطف" على حذف مضاف تقديره: من بعد حرف عطف، أو في عطف، ويريد الحرف.
وبين لا ولام جر التزم
…
إظهار أن ناصبة وإن عدم.
لافأن اعمل مظهرا أو مضمرا
…
وبعد نفي كان حتما أضمرا
هنا أخذ في الكلام على ما ينتصب بإضمار الناصب، والمضمر ها هنا (أن) وحدها من بين سائر أخواتها، لأنه أم الباب ك (يا) في حروف النداء، و (الهمزة) في حروف الاستفهام، و (إن) في حروف الشرط.
والمواضع التي تقع فيها (أن) ناصبة على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون مضمرة لا تظهر أصلا، ومواضعها المذكورة في هذا النظم خمسة، وذلك بعد (حتى) ولام الجحود، والجواب بالفاء، والواو، و (أو) بمعنى (حتى) أو (إلا).
ولم يذكر (كي) الجارة، وقد تقدم التنبيه على ذلك.
والثاني: أن يجوز فيها الأمران، ولها موضعان، وذلك بعد: لام (كي) بغير (لا) وبعد حرف العطف المعطوف به الفعل على الاسم الصريح.
والثالث: ألا يجوز الإضمار أصلا، وذلك فيما عدا ما تقدم.
وخص بالنص ما إذا وقعت بعد لام (كي) إذا كانت معها لا. وبه ابتدأ الكلام في هذا الفصل فقال: "وبين ل ولام جر التزم إظهار أن".
يعني أنه إذا كان موضع (أن) بعد لام جر و (لا) الذي هو حرف نفي فإظهارها لازم فتقول: جئت لئلا تعتبني، وتحصنت لئلا تخذلني.
} لئلا يكون للناس عليكم حجة}.} لئلا يعلم أهل الكتاب} الآية.
وإنما لزم إظهارها لما يلزم لو أضمرت من قبح اللفظ باجتماع لامين إذا قلت: للا تعتبني، كما أنهم لا يلحقون لام التوكيد بعد (إن) حيث الخبر مصدرا ب (لا) إلا نادرا نحو:
وأعلم أن تسليما وتركا
…
للامتشابهان ولا سواء.
لأجل قبح اجتماع المثلين.
وإنما قال: "ولام جر" ولم يقل: ولام كي، لأن لام الجر لا تقع في مثل هذا الموضع إلا كانت للتعليل، وهي لام (كي). وأيضا، فأطلق في لام الجر لما يحتاج إليه إثر هذا فيما إذا لم يأت معها (لا) فإنها قد تكون للتعليل ولغير التعليل، كما يتبين إن شاء الله.
وقوله: "ناصبة" حال من (أن) عاملها (إظهار) ومراده أن يبين أن هذا الحكم ل (أن) الناصبة للفعل، لا للمهلة، ولا للتي أصلها (أن).
ثم قل: "وإن عدم لافأن أعمل مظهرا أو مضمرا".
يعني أن (لا) إذا لم يؤت بها مع الحر، فلك في (أن) وجهان:
أحدهما: أن تظهر (أن) وهو الأصل فيها، لأن الإضمار/على خلاف
الأصل، فتقول: جئتك لأن تكرمني، وضربته لأن يتأدب.
والثاني: أن تضمرها، فتثقول: جئتك لتكرمني، وضربته ليتأدب.
وهذا الحكم لا يختص بلام (كي) بل يكون معها كما ذكر، ويكون مع لام العاقبة، نحو قوله تعالى: } فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}. وهذه اللام راجعة في الحقيقة إلى الأولى، ولكن المؤلف من عادته أن يعتبر الظاهر في المعاني.
والثالث: اللام الزائدة في نحو: أريد لتفعل كذا. ومنه قوله تعالى: } يريد الله ليبين لكم}، وقوله: } ولكن يريد ليطهركم}.
ومنه قول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
…
تمثل لي ليلى بكل سبيل.
وأنشد المؤلف في "الشرح":
ومن يك ذا عود رطيب رجابه
…
ليكسر عود الدهر فا كاسره.
وهذه المعاني الثلاثة التي يتأتى معها دخول اللام على المصدر، فيؤتى لها
بـ (أن) والفعل.
وبقي قسم رابع خالف حكمه هذا الحكم، وذلك لام الجحود، فلذلك استدركها إثر هذا.
وإنما خص الإضمار باللام دون غيرها، لأنه لا يجوز ذلك مع غيرها، كالباء و (في) ونحو ذلك: بل يلتزم الإظهار، نحو: رغبت في أن تفعل، وعن أن تخرج، وعجبت من أن تضرب زيدا، وسررت بأن تقول كذا. وكذلك سائرها، لأن استعمال اللام في الكلام أكثر من استعمال غيرها، فاستخف ذلك فيها لكثرة دورها في الاستعمال دون غيرها.
ثم استثنى من جواز الوجهين لام الجحود، وهو أول المواضع الخمسة فقال:"وبعد نفي كان حتما أضمرا".
يريد بعد اللام التي بعد نفي (كان) ولا يريد مطلق نفيها، بل بقيد تقدم لام الجر، فهو مستثنى من وقوع (أن) بعد لام الجر مضمرة أو مظهرة.
ومعنى كلامه أن للام الجر إن إذا وقعت بعد (كان) المنفية. فإن العرب ألزمت إضمار (أن) فلا يجوز إظهارها، فتقول: ما كنت لأفعل، وما كان زيد ليقوم. ولا يجوز أن تقول: ما كان زيد لأن يفعل، ولا لإن يقوم. ومنه قوله تعالى: } وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} وقوله: } ما كان الله ليذر المؤمنين}.} وما كان الله ليطلعكم على الغيب}. وهو كثير.
وتسمى لام الجحود، لأنها تقع بعد الجحود، وهو النفي.
ويريد بقوله: "ونفي كان" فعل الكون مطلقا، كأنه يقول: ونفي فعل كون، وليس المثال بمعين للماضي في قصد الناظم؛ بل الحكم جار إذا كان الفعل المنفي مضارعا، نحو يكن ليفعل. ومنه قوله تعالى: } لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا}. نعم الذي يلزم أن يكون فعل الكون ماضيا معنى، ولا /يلزم أن يكون ماضيا لفظا.
ووقع لابن خروف ها هنا مخالفة لهذه القاعدة، فزعم أن لام الجحود قد تقع بعد النفي وإن وإن لم يكن ثم (كان) إذا اقتضى المعنى ذلك، وجعل من ذلك قوله تعالى} ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}. قال: لأن المعنى: ما كان الله ليفعل كذا، وهذا خلاف ما عليه الناس. والحق أن اللام في الآية إنما هي اللام التي تدخل في الإيجاب في نحو قوله: } يريد الله ليبين لكم}. بدليل قوله إثر الآية المستشهد بها: } ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}.
وأتى أيضا بحديث وقع لأبي عبيد في "غريبه" من حديث أبي الدرداء أنه قال في الركعتين بعد العصر: "ما أنا لأدعهما، فمن شاء أن ينحضج فلينحضج" أي ينقد من الغيظ. وهذا أيضا نادر.
والصيمري أطلق القول بذلك، وأن لام الجحود هي الواقعة بعد النفي مطلقا.
وعلى ما قال الناظم: جلة النحويين، وهم أعرف بكلام العرب، لأن ذلك راجع إلى صحة ظهور (أن) وعدم صحته.
فالجمهور على جواز ظهورها في نحو: ما جئتك لتسبني، ولزوم إضمارها في: ما كان زيد ليقوم، وإنما لزم الإضمار هنا دون ما تقدم لأن لام الجحد جواب لفعل ليس تقديره تقدير اسم، ولا لفظه لفظ الاسم، وهو الفعل الداخل عليه السين أو سوف.
فقولك: (ما كان زيد ليخرج) الأصل فيه: كان زيد سيخرج، أو سوف يخرج فكرهوا في الجواب إظهار (أن) لأن ظهورها يحقق تقدير الاسم، فيخرج بذلك عن مذهب الجواب.
وأيضا، تقدير الكلام من حيث كان جوابا لمستقبل: ما كان زيدا مقدرا لأن يخرج، أو مستعدا، أو هاما أو عازما، أو نحو ذلك من التقديرات التي توجب الاستقبال للفعل، و (أن) توجب الاستقبال فيه، فاستغنى عن ذكر (أن) بما تضمن الكلام من الدلالة على الاستقبال.
وقد زعم الكوفيون أن اللام هنا في الناصبة بنفسها، سواء كانت لام جحد أم لا، وليست عندهم بلام جر، وذهبوا في ذلك مذاهب لا فائدة في الاشتغال بها إذا فهم وجه الكلام، وهو ما ذكر الناظم مما تقدم شرحه. ثم قال:
كذاك بعد أو إذا يصلح في
…
موضعها حتى أو إلا أن خفى.
وهذا موضع ثان من المواضع الخمسة التي يلزم فيها إضمار (أن) ويعني أن الحذف لازم في (أن) أيضا إذا وقعت بعد (أو) التي بمعنى (حتى) أو التي بمعنى (إلا) وذلك أن (أو) على وجهين إذا وليها المضارع:
أحدهما: أن يكون ذلك المضارع مساويا للفعل التي قبلها في الشك أو الإبهام أو غيرهما، فحكم هذا أن يتبع الثاني الأول في الإعراب، فتقول: هو يقيم أو يذهب، ويعجبني أن تقيم أو تذهب، وليقم زيد أو يذهب، وهذا مبين في باب العطف.
والثاني: أن/ يكون المضارع بعد (أو) مخالفا لما قبلها، بأن يكون ما بعدها على الشك وما قبلها على اليقين، فحكم هذا عدم التبعية للإعراب، لأنه لم يشاركه في الحكم، فلا يشاركه في الإعراب، بل ينصب ب (أن) لازمة الإضمار، كما قال الناظم.
و(أو) في المخالفة تارة تكون بمعنى (حتى) وأراد الجارة المرادفة ل (إلى) نحو: لألزمنك أو تقضيني حقي، ولأسيرن أو تغرب الشمس.
ومن ذلك ما أنشده الأشنانداني من قول عبد الله بن ثعلبة:
فلا وأساف لا تلطون دونه .. ز تيوسا بقوسي أو تعضكم الحرب.
وحكى الكسائي في قراءة أبي: } تقاتلونهم أو يسلموا}. تقديره: حتى يسلموا.
وتارة تكون بمعنى (إلا) كقولك: لأقتلنك أو تسقيني، ولأقتلن الكافر أو يسلم. وأنشد سيبويه لزياد الأعجم:
وكنت إذا غمزت قناة قوم
…
كسرت كعوبها أو تستقيما.
التقدير: إلا أن تستقيم. وأنشد أيضا لامرئ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما
…
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا.
فإن قلت: كان يجزيه أن يقول: إذا يصلح في موضعها (إلا) ولا يحتاج إلى ذكر (حتى) لأن كل ما يقدر بحتى يصح أن يقدر بإلا. فلو قلت: لألزمنك إلا أن تقضيني حقي، وتقاتلونهم إلا أن يسلموا، أو غير ذلك من المثل- لصح المعنى، مع أن سيبويه والنحويين إنما يقدرونها ب (إلا) ويفسرونها بذلك، فيقولون: و (أو) بمعنى (إلا أن) فظهر أن الإتيان بحتى شطط من غير معنى زائد.
وقد قال ذلك ابن الناظم في "التكملة" من أن كل ما يصح فيه تقدير (أو) ب (إلى أن) يصح أن يقدر ب (إلا أن).
فالجواب: أن المعنى فيما قال ظاهر، لأن قول القائل: لألزمنك أو تقضيني حقي، ولأسيرن أو تغرب الشمس- ليس معناه أن السير أو اللزوم
يقع عند عدم الغروب أو القضاء، وأما إذا وقع ذلك فلا يقع سير ولا لزوم، بل المعنى أن السير واللزوم واقع على كل حال إلى هذه الغاية، بخلاف ما إذا قلت: لأقتلنه أو يسلم، فإن المعنى فيه أن القتل يقع عند فقد الإسلام خاصة، لا أنه واقع إلى غاية الإسلام. فمعنى (حتى) في الأول ظاهر، وفي الثاني محال.
نعم، قد يقول القائل: لألزمنك أو تقضيني، على معنى (إلا) كأنه يقول: إلا أن تقضيني، على ما تقدم في الوجه الثاني، وذلك صحيح وداخل تحت قوله:"أو إلا" وعليه فسر سيبويه والنحويون.
وسبب ذلك أن معنى - إلا) لازم لمعنى (إلى) فإن قولك: لألزمنك إلى هذه الغاية، كمعنى قولك: لتصلن اللزوم إلا أن تقضي، وهذا ظاهر، فإذا لا بد من ذكره.
فإن قلت: على كل حال لا يحتاج إلى ذكرها، إذ لا يوجد معنى (إلا) مفارقا لمعنى (إلى) فكان الاجتزاء بها أولى.
فالجواب: أن الاقتصار على (إلا) لا يشعر بمعنى (إلى) فذكره محتاج إليه لأجل ذلك.
وقوله " أن خفي""أن" مبتدأ. و"خفي"/خبره و"بعد" متعلق ب "خفي" كأنه قال: تخفى (أن) أيضا بعد كذا وكذا.
فإن قلت: ما الذي أحرز بقوله: "أن خفي" وكان قوله: "كذاك" مجزيا عنه، لأنه يعطي تشبيه حكم هذا المتأخر بحكم المتقدم، وذلك يكفي، فالظاهر لبادئ الرأي أنه حشو؟
فالجواب: أنه احتراز وليس بحشو، وذلك أن قوله:"كذاك" إشارة
إلى متقدم.
فإما أن تعتبر دلالة الكاف فتقول: إنه إشارة إلى غير القريب، وذلك لام (كي) إذا لم تكن ب (لا) والوجهان هنالك جائزان، فلو لم ينص على لزوم الإخفاء لأخذ له الوجهان، وهو فاسد.
وإما ألا تعتبر دلالتها فتقول: إنه يشير إلى أقرب مذكور، فذلك غير ظاهر، لأن الكاف لا تقع في لإشارة إلى القريب، فلا يفهم أنه راجع في لزوم الإضمار إليه، فلا بد من ذكر ذلك رفعا لهذا الإيهام.
وقوله: "خفي" يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويحتمل أن يكون وصفا، لكن خفف الياء للقافية، وأصلها التشديد.
وبعد حتى هكذا إضمار أن
…
حتم كجد حتى تسد ذا حزن.
وتلوحتى حالا أو مؤولا .. به ارفعن وانصب المستقبلا.
وهذا موضع ثالث من المواضع التي يلزم فيها إضمار (أن) وذلك بعد (حتى) فلا يجوز أن تظهر معها (أن) أصلا، فلا تقول: سرت حتى أن تطلع الشمس، ولا جد حتى أن تسر ذا حزن.
وما ذكر من أن النصب بعدها بإضمار (أن) هو مذهب سيبويه والبصريين.
وذهب الكوفيون والجرمي من البصريين إلى أن النصب بحتى نفسها.
زعم الكوفيون أنها ليست بحرف جر، وإنما هي ك () كي، وأن) فإذا دخلت على الأسماء فالجر بعدها بإضمار (إلى) وهو مذهب مردود، أصله الدعوي.
وإنما الأقرب أن يدعى فيها أنها لفظ مشترك للنصب في الأفعال، والجر في الأسماء، كما يقول السيرافي في (لا) من حيث كان أصلها النفي، ثم تعمل في الاسم النصب والرفع، وفي الفعل الجزم نحو: لا تفعل، فهذا يمكن أن يقال.
ولكن الأصح ما ذهب إليه الناظم، لأن الجر قد ثبت من عملها.
ومواقعها المعلومة في الكلام ثلاثة: تقع حرف ابتداء، تأتي بعدها الجملة الاسمية والفعلية، وتقع حرف عطف وقد تقدم ذلك، وتقع حرف جر، كما تقدم أيضا.
وها هنا لم يثبت لها نصب بأمر بين، فإذا رجعنا إلى المواضع الثلاثة أمكن فيه منها أن تكون جارة لأجل نصب الفعل بعدها، فلا بد من تقدير ما يصير به الفعل في تقدير الاسم المجرور وهو (أن) وصارت (حتى) في ذلك كلام الجحود و (كي) الجارة ونحو ذلك.
وهذا غير خارج عن قياس النحو، بخلاف ما إذا ادعي أنها ناصبة مطلقا، والاسم بعدها مجرور ب (إلى) فإن هذا غير جار على قياس، ولا يساعده سماع.
وقوله: "إضمار أن حتم""إضمار أن" مبتدأ و"حتم" خبر، وهو بمعنى: لازم. و"بعد حتى" متعلق باسم فاعل حال، يعمل فيه قوله:"حتم" أي: إضمار (أن) لازم حالة كونها بعد (حتى) ويجوز تعلقه بـ
"إضمار" وذلك شاذ، كقوله:
- كان جزائي بالعصا أن أجلدا*
ويريد أن إضمار (أن) لازم، لا يجوز إظهارها مع (حتى) كأنهم جعلوها عوضا من اللفظ ب (أن).
وشبه سيبويه (أن) في هذه المواضع بالفعل في (أما) في قولهم: أما أنت منطلقا انطلقت معك.
ومثال الناظم وهو: "جد حتى تسر ذا حزن""حتى" فيه بمعنى (كي) كأنه قال: جدكي تسرذا حزن، و (حتى) إذا نصبت لها معنيان.
أحدهما هذا، وهو أن يكون ما قبل (حتى) سببا فيما بعدها، ولم يقع، ومنه قولك أسلمت حتى أدخل الجنة، وكلمته حتى يأمرلي بشيء.
والثاني: أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها، وسواء أكان ما قبلها سببا فيما بعدها أم لا، إلا أنه إذا لم يكن سببا فإنه يتعين الغاية نحو: سرت حتى تطلع الشمس، إذ المعنى: سرت إلى أن تطلع، وإذا كان سببا فيما بعدها احتمل الغاية، ومعنى (كي) كقولك: سرت حتى أدخل المدينة، فقد تريد معنى: إلى أن أدخل، وقد تريد معنى: كي أدخل، لكن يتعين، الدخول في الأول دون الثاني.
ومثال الناظم محتمل للوجه الأول أيضا، وهو معنى الغاية، إلا أن
الآخر أظهر.
ثم ذكر الموضع الذي يرفع فيه ما بعدها، والموضع الذي ينصب فيه، لأنها على ما تقدم ذات استعمالات فقال:"وتلوحتى حالا أو مؤولا. به ارفعن".
"تلو" مفعول ب "ارفعن" و"حالا" حال منه. و"به" متعلق ب"مؤولا".
ويعني أن "تلو"(حتى) وهو الفعل الذي بعدها يليها، لا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون حالا حقيقة، أو مؤولا بالحال، وإما أن يكون مستقبلا.
فإن كان حالا أو مؤولا به فهو مرفوع، لا يضمر بعد (حتى) شيء.
وإن كان ذلك الفعل مستقبلا فهو منصوب على إضمار (أن) بعد (حتى) فتقول في المستقبل: لأسيرن حتى تطلع الشمس، وسر حتى تدخل المدينة، وكلمته حتى يأمر لي بشيء ومنه مثاله: جد حتى تسرذا حزن. فما بعد (حتى) هنا مستقبل، و (أن) إنما تدخل على المستقبل.
وفي الحال تقول: سرت حتى أدخل المدينة الآن، ومرض حتى لا يرجونه، وضربته أمس حتى لا يستطيع اليوم أن يتحرك.
ومنه قول حسان بن ثابت- رضي الله عنه: -
يغشون حتى ما تهر كلابهم
…
لا يسألون عن السواد المقبل.
فالفعل عنا مرفوع ولا بد، لأنه مراد به الحال، و (أن) مخلصة للاستقبال، / فلا يصح أن تدخل إلا على المستقبل.
وأما المؤول بالحال فذلك المضارع الماضي معني، إذا كان مسببا عما قبل (حتى) فتقول: سرت حتى أدخلها، على معنى: سرت فأنا الآن أدخل، على معنى أنك تحكي حال الدخول، لا على الحقيقة، فإنه قد مضى.
ومنه قوله تعالى: } وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه}. الآية، على قراءة الرفع وهي لنافع.
هذا حاصل ما ذكر الناظم، إلا أنن هذا الكلام يحتمل بسطا به يتبين مقصوده، وما احتوى عليه هذا الاختصار.
فالمضارع الواقع بعد (حتى) لا يخلو أن يقع بعد المفرد أو بعد الجملة. فإن وقع بعد المفرد فليس إلا النصب بإضمار (أن) لأن غير النصب لا يتصور. وذلك قوله: سيري حتى أدخل المدينة، لأن (حتى) هنا حرف خفض في التقدير، وما بعدها مخفوض بها، والخافض والمخفوض في موضع خبر "سيري" ولا يصح أن يكون حرف ابتداء، لأن الكلام بعدها يكون إذ ذاك مستأنفا، فيبقى المبتدأ بلا خبر، فلا بد أن يكون في موضع خفض، وذلك لا يكون إلا بعد تقدير (أن) فلا بد من النصب هنا.
فإن وقع الفعل بعد الجملة: فلا يخلو أن تكون تلك الجملة تقتضي
وقوع الفعل أولا تقتضي وقوعه.
فإن كانت لا تقتضي وقوعه فلا بد من نصب ما بعد (حتى) نحو قولك: ما سرت حتى أدخلها، وهل سرت حتى تدخلها؟ لأن ما قبلها لا يقتضي وقوع الفعل، وما بعد (حتى) لا يكون في الرفع إلا مسببا عما قبلها، فلا يصح الرفع، لأن عدم السير غير سبب للدخول، فلا يصح إلا النصب، بمعنى ما سار إلى هذه الغاية.
وقد أجاز الأخفش هنا الرفع قياسا منه قولك: ما تأتينا فتحدثنا، فإن ما قبل (الفاء) مثل ما قبل (حتى) في أنهما سبب فيما بعدهما، وأنت تجيز الوجهين مع (الفاء) فكذلك مع (حتى).
قال النحويون: وهذا منه قياس في موضع السماع، لأن الرفع وضع فيه المضارع موضع الماضي، و (حتى) موضع (الفاء) فلا يقال منه إلا ما قالته العرب، لأنه خروج عن الأصل. ألا ترى أنهم قدروا: سرت حتى أدخلها بقولك: سرت فدخلت؟
وإن كانت الجملة تقتضي الوقوع فلا يخلو أن يكون سببا فيما بعد (حتى) أو غير سبب، فإن كان غير سبب فلا بد من النصب، نحو: سرت يؤذن المؤذن، وسرت حتى تطلع الشمس، فالسير ليس بسبب في أذان المؤذن، ولا في طلوع الشمس.
وإذا لم يكن سببا فلا يرفع، لأن الرفع من شرطه أن يكون ما قبل (حتى) سببا فيما بعدها.
وهذا القسم ليس كذلك، فإنما المعنى هنا معنى: إلى أن يؤذن المؤذن، وإلى أن تطلع الشمس، وهو ماض في المعنى، لكنه مؤول بالمستقبل، لأنه
بالنسبة إلى السير مستقبل.
وإن كانت الجملة سببا فيما بعدها فلا يخلو أن يكون ما بعدها مستقبلا في المعنى أو ماضيا أو حالا.
فرن كان مستقبلا فلا بد من النصب، نحو قولك: أسلمت حتى أدخل الجنة، وكلمته حتى يأمر لي بشيء، ولأسيرن حتى تطلع الشمس، وحتى أدخل المدينة.
وهذا ظاهر الدخول تحت نص الناظم. ومعناها ها هنا معنى (كي) في المثالين الأولين، وفي الآخرين معنى (إلى).
ولا يجوز هنا رفع ما بعد (حتى) لأن الرفع لا يحصل ما يراد من الاستقبال، بخلاف ما إذا نصبت بإضمار (أن) التي تخلص للاستقبال.
وإن كان ماضيا في المعنى جاز الرفع والنصب، فالرفع على حكاية الحال، كما تقدم، وقد نبه عليه. والنصب على معنى الاستقبال، لأن قولك: سرت حتى أدخل المدينة، والدخول ماض في معنى المستقبل، وذلك بالنسبة إلى حال السير.
وإن كان حالا فالرفع خاصة لقوله: "حالا أو مؤولا به ارفعن".
فالحاصل من هذا التقسيم: أن الرفع إنما يكون إذا كان ما بعد (حتى) حالا أو مؤولا بالحال، وهو ما نص عليه. وسائر الأقسام داخلة تحت قوله:"وانصب المستقبلا" إذ لا يصح فيها إلا أن تكون مستقبلة: وقد جعل في "التسهيل" علامة كون ما بعدها مستقبلا كونه غاية لما قبلها، أو متسببا عنه، فيصح تقدير (حتى) بمعنى (إلى أن) أو بمعنى
(كي) وعلامة كونه حالا صحة جعل (الفاء) مكان (حتى).
ولا بد من التسبيب في الرفع، ولذلك كان علامة ذلك (الفاء) المقتضية للتسبب، وذلك أن (حتى) أصلها أن تكون جارة، وكونها جارة يأتي بمعنيين: بمعنى (إلى) وبمعنى (لام السبب) وما عدا ذلك، من ابتداء الغاية والعطف، إنما هو اتساع فيهما، ولذلك يصحبها معنى الغاية في جميع الأقسام، فإذا اتسع فيها فلا يكون ذلك إلا في موضع لا تصلح أن تكون فيه جارة، ولا يمكن كونها جارة إذا دخلت على غير الاسم الصريح إلا مع تقدير (أن) وذلك لا يصح إلا مع الفعل المستقبل.
وأما الحال والجملة الاسمية فلا يصلح معها (أن) فلا تدخل عليها الجارة فهنا تكون حرف ابتداء، فيرتفع الفعل بعدها؛ إذ لا سبيل إلى تقدير (أن) وما فيه الوجهان فعلى اللحظين المذكورين.
وعلى الناظم بعد هذا سؤالان:
أحدهما: أن كلامه يقتضي أن الفعل المضارع إذا كان حالا، كيفما وقع، لازم فيه، ولم يقيد ذلك بقيد. الفعل الحالي لا يرتفع إلا بشرط أن يكون ما قبله سببا له، وأن يكون موجبا، وأن يكون بعد جملة. فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة صح الرفع، وإلا لم تجز المسألة.
أما إن لم يكن ما بعد (حتى) مسببا عما قبلها نحو: سرت حتى تطلع الشمس، على معنى: سرت حتى الشمس الآن طالعة، فلا يجوز الرفع، لأن العرب لا ترفع هنا الفعل إلا إذا كان مسببا، ولا يجوز النصب أيضا لأنه فعل حال.
وأما إن لم يكن ما قبلها موجبا فكذلك لا يجوز الرفع، لأن / عدم
السير لا يكون سببا للدخول إذا قلت: ما سرت حتى أدخل المدينة، ولا بد في الر فع من السببية كما ذكر، ولا يجوز النصب لأن الفرض أن الفعل حال.
وأما إذا وقع قبلها المفرد نحو: سيري حتى أدخل المدينة، فلا يجوز الرفع، لأن ما بعد (حتى) جملة مبتدأة، فيبقى المبتدأ بلا خبر كما تقدم، ولا النصب لأنه فعل حال، والناس قد شرطوا في الرفع في الحال هنا الشروط الثلاثة، فإن تخلف شرط لم تجز المسألة بحال.
فأنت ترى قول الناظم: "وتلو حتى حالا أو مؤولا به ارفعن" يقتضي بإطلاقه أن يقال ذلك كله، وأن يقع فعل الحال في كل موضع، فيقال: سيري حتى أدخلها، وما سرت حتى أدخلها، وسرت حتى تطلع الشمس، وذلك كله غير جائز.
ولا يقال: إن هذه المسائل تمتنع رأسا، ولم يتكلم هو إلا على ما يجوز، ] لأنا نقول: الجواز [والمنع من كلامه نستفيده لا من خارج، لأنه موضوع لبيان ما يجوز في الكلام وما يمتنع.
والسؤال الثاني: أن المستقبل على وجهين كما ذكر في الحال، مستقبل حقيقة كقولك: كلمته حتى يأمر لي بشيء، ومؤول كقولك: سرت حتى أدخل المدينة، لأن معناه: فدخلت، لكنه يرجع إلى المستقبل بالتأويل كما ذكر، وحقيقته المضي، فيقتضي أن ما أدل بالمستقبل ليس بمنصوب، إذ لم يثبت النصب إلا للمستقبل حقيقة وإلا فإطلاقه القول فيه بعد تقييد الحال يشعر بأن التأويل فيه غير مقصود، وهذا غير صحيح، بل هو كالمستقبل في الحكم، إلا أنه يلحظ فيه لحظان، فينصب ويرفع باعتبارهما.
والجواب عن الأول أن يقال أولا: إن الناظم إنما تكلم على الحال
والمستقبل حيث يصلح وقوعه، وإليك النظر في ذلك، ولا نكر في هذا، فقد يترك المختصر مثل هذا اتكالا على ما يقع في تفسيره.
وأيضا، أصل (حتى) أن تكون جارة كما تقدم، فلا يصلح مع تقدم المفرد غيرها، كما ذكر قبل، فلم يحتج إلى التنبيه عليه، ولا إلى اشتراط وقوع الجملة قبلها، لأنه مع (حتى) الابتدائية ليس بكلام، ومعلوم أن ما ليس بكلام غير معتبر عند النحويين، ولا جائز.
وأما اشتراط كون الكلام موجبا في وقوع الفعل الحالي بعد (حتى) فلم يذكره، لأن الكلام غير الموجب لا يكون سببا فيما بعد (حتى) وإذا لم يكن سببا فالفعل غير واقع لعدم وقوع ما قبلها، ولا معنى لكون الفعل مستقبلا إلا كونه غير واقع، فلم يصلح الموضع لفعل الحال أصلا.
وأيضا، فما المانع من أن يكون ذهب في ذلك مذهب أبي الحسن في جواز الرفع، فيكون الحال والمستقبل واردين على الموضع، والقياس على (ما تأتينا فتحدثنا) صحيح في نفسه.
وأما اشتراط أن يكون ما قبلها/ سببا لما بعدها فقد يقال: إن ذلك غير لازم عنده، كمذهب الكوفيين القائلين بجواز قولك: سرت حتى تطلع الشمس، بالرفع حكى الفراء عن الكسائي: أن من العرب من يرفع بعدها وإن لم يكن الأول سببا للثاني وحكى: إنا لجلوس فما نشعر حتى يقع حجر بيننا، وأنشد:
وقد خضن الهجير وعمن حتى
…
ويفرج ذاك عنه المساء.
وعلى هذا انبنى مذهب أبي الحسن في المسألة المتقدمة وإذا كان كذلك لم يكن ما أطلقه الناظم فاسدا. وهذا لجواب في غاية التكلف، والحق أنه لم يبن على بيان مواقع الفعل بعد (حتى) وهو إخلال.
والجواب عن الثاني: يقال: أتى بالمستقبل على أعم من أن يكون حقيقة أو مؤولا، وكأنه قال: وانصب المستقبل حقيقة أو تأويلا، لأنه لما بين ذلك في الحال علم أن المستقبل يكون فيه ذلك.
وأيضا: المستقبل المؤول راجع إلى الحقيقي، لأن استقبال الفعل إنما هو بالنسبة إلى المتكلم، يتصور وقوعه حالا في الإخبار لا بالنسبة إلى ما قبل (حتى) من الفعل؛ إذ هو بالنسبة إليه مستقبل ليس إلا، فلذلك أطلق لفظ الاستقبال، ولم يقيده كالحال.
وبعد فاجواب نفي أو طلب
…
محضين أن وستره حتم نصب.
هذا موضع رابع من المواضع التي يلزم فيها إضمار (أن) وذلك بعد (الفاء) الموصوفة بما ذكره، وهو أن تشتمل على ثلاثة أوصاف:
أحدها: أن تقع جوابا، ومعنى كونها جوابا أن يكون ما قبل (الفاء) من كلام منفي، أو فعل طلب، سببا فيما بعدها من الفعل، وشرطا فيه وذلك لأن الفاء في جميع أماكنها عاطفة.
وقد يتناول العامل بالعطف الشيئين بإعراب واحد، وبلفظ واحد، على وجه
واحد، وعلى وجهين مختلفين.
فالوجه الواحد كقولك: زيد يقوم فيتكلم، وأنت تأتيني فتحدثني.
والوجهان المختلفان كقولك: لو يترك زيد وعمرو لظلم أحدهما الآخر، ولو ترك زيد والأسد لأكله، فالترك وقع عليهما معا في اللفظ، وأحدهما ممنوع، والآخر ممنوع منه. يجري الحكم في (الفاء) فالعطف بها على وجهين:
أحدهما ظاهر، وهو أن يكون الثاني جاريا على الأول في إعرابه وظاهر معناه وهذا قد تقدم في "باب العطف".
والآخر متأول، وهو أن يكون ما قبل (الفاء) معلقا بما بعدها، شرطا فيه، وهو المتكلم فيه الآن، وذلك على أوجه مختلفة، أحوجت إلى التغيير وإضمار (أن) لتدل على تلك الوجوه.
وذلك أنك إذا قلت في النفي: ما تأتيني فتحدثني، فالعرب تنصب (فتحدثني) لتدل به على معنيين لا يدل الكلام عليهما مع الرفع:
أحدهما: أن يكون الإتيان منفيا نفيا مطلقا، والحديث ممتنع من أجل عدم/ الإتيان، ولو وجد الإتيان لوجد الحديث.
والوجه الآخر: أنت يكون المعنى: ما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك، فالمنفي هو الإتيان الذي يكون معه الحديث، لا الإتيان مطلقا.
فهذان الوجهان منعا عطف (تحدثني) على (الإتيان) المنفي، لأنه إذا رفع فليس أحدهما شرطا في الآخر.
ومن هنا يظهر معنى كلام الناظم، في كونه حكم على ما بعد
(الفاء) بالنصب حتما إذا كان جوابا لما ذكر، أي مسببا عما قبلها، فذكر أن (أن) تنصب بعد (الفاء) في جواب النفي أو الطلب، ولم يذكر جواز الرفع، وإن كان النحويون قد أجازوه في المسألة، لأن الرفع لا يكون مع بقاء كونه جوابا فإذا قلت: ما تأتيني فتحدثني، ارتفع من وجهين:
أحدهما: أن تترك الثاني مع الأول في النفي، كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني. ولا سببية في هذا.
والآخر: أن يكون موجبا، والعطف عطف الجمل، كأنك قلت: ما تأتيني، ثم أنت تحدثني الآن، ولا سببية في هذا أيضا) فلم يحتج إلى ذكر ذلك بحسب قصد ذكر النصب.
ولما كان الرفع لا يستقيم فيه المعنى الذي أرادوا صرفوا الكلام عن ظاهر لفظه، لئلا يبطل ما قصدوه من المعنى، وتأولوه على معناه، فجعلوا الكلام الأول في تقدير مصدر، وإن لم يكن لفظه لفظ المصدر، وجعلوا الثاني مقدرا بمصدر غير ظاهر، فلذلك قدرت (أن) فعملت عملها. فالكلام في تقدير: ما يكون منك إتيان فحديث، ولا ينطق به لأنه لا يعطي من المعنى ما يعطيه الكلام الأول. ولم تظهر "أن" لأن ظهورها لفظا كالمصدر الذي ظهر، ولم يظهر المعطوف عليه، إذا الظاهر إنما هو الفعل، فكان من المشاكلة لزوم الإضمار، وعليه نبه بقوله:"وستره حتم" والضمير عائد على "أن" وهي جملة اعتراض بين المبتدأ الذي هو "أن" وخبره الذي هو "نصب" وقوله: "وبعد نفي" متعلق ب "نصب.
وقد حصل أن مذهبه كون النصب بإضمار "أن" وهو مذهب سيبويه وجمهور البصريين.
وذهب الجرمي إلى أن الناصب (الفاء)، كذلك (الواو) الشبيهة وكذلك (أو) بمعنى (إلا أن) وذهب الفراء إلى أن النصب بالخلاف، كما قالوا مثل ذلك في خبر المبتدأ إذا كان ظرفا، وفي المفعول معه، وخطب الخلاف هنا يسير، لا ينبني عليه إلا حفظ حكمة هذه لصناعة خاصة، فلا ينبغي أن يتشاغل فيها بالترجيح، إلا أن ما تقدم تقديره أمكن في الحكمة الصناعية.
الوصف الثاني: أن تكون جوابا لأحد أمرين: إما النفي، وإما الطلب. وذلك قوله:"جواب نفي أو طلب" ويشملهما أن تكون جوابا لغير الواجب، فإنه إن كان في الوجب لم يجز النصب إلا في الشعر، ويكون وجهه في الضرورة كما في غير الواجب. ومن ذلك قوله، انشده سيبويه:
سأترك منزلي لبنى تميم
…
وألحق بالحجاز فأستريحا.
وأنشد للأعشى، وقال: أنشدنا يونس:
ثمت لا تجزونني عند ذاكم
…
ولكن سيجزيني الإله فيعقبا
/ وأنشد أيضا لطرفة:
لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها
…
ويأوي إليها المستجير فيعصما.
وقال: وهو ضعيف في الكلام، وإنما بابه غير الواجب كما ذكر.
فأما (النفي) فنحو قولك: ما تأتينا فتحدثنا، وما تكرمنا فنكرمك.
ومنه قوله تعالى: } ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم}. وقوله تعالى: } لا يقضى عليهم فيموتوا}.
وأنشد سيبويه للفرزدق:
فما أنت من قيس فتنبح دونها
…
ولا من تميم في اللها والغلاصم.
وأنشد أيضا لرجل من بني دارم:
كأنك لم تذبح لأهلك نعجة
…
فيصبح ملقى بالفناء إهابها.
وأنشد للفرزدق أيضا، وما قام منا قائم في ندينا
…
فينطبق إلا بالتي هي أعرف.
وأنشد أيضا للعين:
وما حل سعدي غريب ببلدة
…
فينسب إلا الزبرقان له أب.
وقال الآخر:
لم ألق بعدهم حيا فأخبرهم
…
إلا يزيدهم حبا إلى هم.
وأما (الطلب) فعلى أنواع ستة:
أحدها (الأمر) نحو: أكرم زيدا فيكرمك، وأحسن إليه فيشكرك.
ومنه قول أبي النجم، أنشد سيبويه:
يا ناق سيري عنقا فسيحا
…
إلى سليمان فنستريحا.
والثاني (النهي) نحو: لا تكذب فتهان، ولا تعجل فتندم، ومنه قوله تعالى: } لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب} وقوله: } ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي}.
والثالث (الدعاء) نحو: اللهم اغفر لنا فتدخلنا الجنة. وأنشد ابن المولف في "التكملة":
رب وفقني فلا أعدل عن
…
سنن الساعيين في خير سنن.
والرابع (الاستفهام) نحو قولك: هل تأتينا فتحدثنا، وأين بيتك فأزورك.
ومنه قوله تعالى: } فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل}.
والخامس (العرض) نحو: ألا تنزل فتصيب خيرا. وأنشد ابن الناظم عليه:
يا ابن الكرام أما تدنو فتبصرما
…
قد حدثوك فما راء كمن سمعا.
والسادس (التحضيض) وهو قريب من (العرض) في المعنى. ومن أمثلته قوله تعالى: } لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}: وتقول: هلا أكرمت زيدا فيكرمك.
فهذه الأنواع الستة داخلة تحت (الطلب) لأن فيها كلها معناه.
وأما (التمني) و (الترجي) فليسا بداخلين تحته، إذ معناهما مخالف لمعنى (الطلب) ولكن الحكم فيهما واحد، وقد ذكره بعد هذا.
والوصف الثالث: أن يكون النفي والطلب اللذان وقعت (الفاء) جوابا لهما محضين، ومعنى المحض: الخالص، أي لا بد أن يكونا خالصين من غيرهما، يريد: إلا يكون النفي بالتأويل، ولا الطلب بالتأويل أيضا، بل يكونان صريحين.
والصريح منهما ما تقدم التمثيل به وأما غير الصريح، وهو/ المحرز منه، فالنفي كقولك: أنت غير آت إلينا فتحدثنا، وغير قائم الزيدان فيكرمهما، فها هنا لا ينصب عنده ما بعد (الفاء) لأن النفي هنا بالتأويل، إذ كانت (غير) أصلها مخالف، واستعمالها في النفي بالتأويل، كما
قال تعالى: } غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. وعدم الجواز في هذا مذهب ابن السراج.
وقد ذهب إلى النصب بعده قوم من النحويين، واختاره المؤلف في "التسهيل" لأجل دخول (لا) النافية في العطف، كما ذكر في الآية التي في "الفاتحة".
ورد ذلك ابن السراج بأن (غيرا) ليس بحرف نفي، وإنما هو اسم مضاف. وتحرز أيضا بكون النفي محضا من أن يكون قد صحب ما يخرجه عن معناه إلى الإيجاب مع بقاء أداته كقولك: ما زلت تأتينا فتحدثنا، ولا تزال تأتينا فتحدثنا، (فلا بد هنا من الرفع في "تحدثنا").
وكذلك أخوات (زال) التي يشترط فيها النفي نحو: ما انفك، وما فتئ، وما برح، فالنفي هنا قائم، والمعنى معنى (أنت تأتينا فتحدثنا) فلا بد من الرفع في "تحدثنا" إلا على قول من يقول: وألحق بالحجاز فأستريحا فلم يكن النفي هنا محضا.
وهذه المسألة أدخل في رأس المسألة منها في هذا الموضع، وهو قوله:"وبعد فاجواب نفي" لأن هذا ليس بنفي في الحقيقة، وكذلك قولك: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، لصيرورته إيجابا.
ومن النفي المؤول التشبيه في قولهم: كأنك وال علينا فتشتمنا، وكأنك أمير فتضربنا.
النصب هنا مذكور، لأن المعنى معنى النفي، كأنك قلت: ما أنت وال علينا فتشتمنا، وما أنت أمير فتضربنا.
ولكن الناظم أخرجه عن مراده لكون مثل ذلك غير مطرد في باب النفي، ومن ذلك ما جاء في (حسبت) من قولهم: حسبته شتمني فآثب عليه، نصب "فأثب" من حيث الشك الذي في (حسبت) وهو يشبه النفي، لأن المعطوف فيه غير واجب الوقوع، والوثوب لم يقع، لأن الشتم لم يتحقق وجوده، فكأنه في تقدير: ما شتمني فآثب عليه، وهذا ليس بقياس في مثله، فلذلك تحرز منه.
ويدخل له في التحرز أيضا نفي (قلما) لأن النفي فيها ليس بحق الأصل، وإنما هو بالتأويل، فلا تقول: قلما يأتيني فأكرمه، وإن جاء فإنما يكون متلقي من السماع.
وانظر في ذلك.
وأما (الطلب) غير المحض، وهو المتحرز منه، فيقع في الأمر، والدعاء، والاستفهام.
فأما (الأمر) فقد يكون بلفظ الخبر، كقولهم: حسبك ينم الناس، واتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه.
ومنه قوله تعالى: } تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله}.
ثم قال: } يغفر لكم ذنوبكم}. فجزم الجواب فيها دال على أن المعنى:
اكتف نيم الناس، وليتق الله امرؤ. والمعنى في الآية: آمنوا بالله ورسوله/ وجاهدوا في سبيل الله.
فمثل هذا لا ينصب فيه الفعل بعد (الفاء) على ما يقتضيه (النظم) فلا تقول: حسبك الكلام فينام الناس، ولا اتقى الله امرؤ فيثاب، ولا نحو ذلك، وهو نص المؤلف في "التسهيل" ونسب الجواز إلى الكسائي. قال: ابنه في "التكملة": والقياس يأبى ذلك، لأن المصحح للنصب بعد (الفاء) بإضمار (أن) إنما هو تأول ما قبلها بالمصدر، ليصح العطف عليه، فإذا كان قبل (الفاء) أمر بلفظ المبتدأ والخبر، أو اسم فعل، تعذر تأوله بالمصدر، لتعذر تقديره صلة ل (فامتنع نصب ما بعد (الفاء).
قال: ومن ثم لم يوافق الكسائي فيما ذهب إليه أحد، إلا أن بعض أصحاب كتاب سيبويه، وهو أبو الحسن بن عصفور، أجاز نصب جواب اسم الفعل غير المشتق، ثم رد عليه بتعذر تقدير المصدر من اسم الفعل، وفي الرد نظر، ليس هذا موضعه.
وسيأتي الكلام على اسم الفعل إثر هذا إن شاء الله، حيث تعرض له الناظم.
وأما (الدعاء) فكالأمر في هذا، والخلاف فيه واحد، إلا أن الفراء
وافق الكسائي في النصب، فيجوز عندهما أن تقول: غفر الله لك فيدخلك الجنة، كما لو كان بلفظ الأمر عند المؤلف.
وقد حكى ابن المؤلف في "التكلمة" عن البصريين منع النصب في جواب الدعاء إذا كان بغير لفظ الطلب، وأجازه ابن عصفور، وظاهر كلام النحويين الجواز، لأن عباراتهم في الجواز مطلقة، وابن السراج نص على عدم الجواز، وهو الذي يقتضيه السماع؛ إذ لم ينقل البصريون ذلك سماعا عن العرب، وإنما نقلوه حيث يكون الأمر محضا لا مؤولا، وإذا كان الأمر محضا كان النصب جوابا على القياس.
وأما إذا خرج عن ذلك فلا يقاس؛ إذ الأمر ليس على بابه، فلا يترتب عليه من النصب ما يترتب على ما جاء على أصل الباب، فالأظهر ما أشار إليه من عدم النصب.
وأما (الاستفهام) فإذا لم يتمحض معناه للكلام بعده ويتبين فلا يجوز النصب بعده عند الناظم، فإن النصب عند المؤلف فيما ولي (الفاء) أو (الواو) بعد الاستفهام لا يجوز إلا إذا لم يتضمن وقوع الفعل، إما لأنه استفهام عن الفعل نفسه نحو: هل تسير فتصيب خيرا؟ وإما لأنه استفهام عن متعلق الفعل، غير محقق الوقوع نحو: متى تسير فأرافقك؟ .
وفي الحديث: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر به؟ "فينصب لأنه جواب فعل غير واجب.
فلو كان الاستفهام غير متعلق فعل محقق الوقوع كقولك: لم تأتينا فتحدثنا؟ وأين ذهب زيد فنتبعه؟ فالفعل هنا محقق الوقوع، فليس الاستفهام فيه بمتمحض، فلم يجز النصب لأنه في معنى الواجب.
وعلى أن ابن كيسان حكى النصب في جواب الاستفهام في نحو: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكم مالك/فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ .
قال ابن المؤلف: ولا أراه يستقيم على مأخذ البصريين إلا بتأويل ما قبل (الفاء) باسم معمول لفعل أمر دل عليه الاستفهام، والتقدير: ليكن منك إعلام] بموضع ذهاب زيد فاتباع منا، وليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا، وليكن منك إعلام [بأبيك فإكرام مناله.
ثم على الناظم هنا درك من وجهين:
أحدهما: أن نصه على كون النفي محضا يقتضي أنه إذا دخل الاستفهام على النفي، فصيره تقديرا لا ينتصب الفعل معه بعد (الفاء) فلا تقول: ألم يقم زيد فيكرمك؟ لأن النفي هنا غير متمحض؛ بل صيرته الهمزة إي معنى آخر غير النفي، لكن ذلك جائز مطلقا، ولا أعلم أحدا خالف فيه.
قال سيبويه: وتقول: ألم تأتينا فتحدثنا؟ إذا لم يكن على الأول، بمعنى: إذا لم تعطفه على المجزوم، ثم أنشد في النصب:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم
…
على فرتاج، والطلل القديم.
ثم قال بعد ذلك: وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدثنا؟ إذا جعلته جوابا، ولم تجعل الحديث وقع إلا بالإتيان.
فهذا وما كان مثله النصب فيه بعد (الفاء) سائغ، وذلك عند الناظم، بمقتضى اشتراطه، غير سائغ، وهو إخلال.
ولو كانت المسألة مختلفا فيها لكان له بعض العذر في الاحتراز منها إن لم يحجج بالدليل.
والوجه الثاني أن الاستفهام أيضا قد يتغير معناه ولا يكون محضا، فينتصب جوابه بعد (الفاء) وذلك نحو قولك: هل أتيتنا فتحدثنا؟ إذا جعلت (هل) تعطي معنى النفي.
وكذلك: هل أحسنت إلي فأكرمك؟ لأن (هل) قد تأتي للإشعار بالنفي نحو قوله: } هل من خالق غير الله}.} ومن يغفر الذنوب إلا الله}، وهو جائز قياسا بلا إشكال. والتقييد هنا يعطي خلاف ذلك.
ولا يقال: إنه دائر بين النفي والاستفهام، فلا بد أن يدخل تحت أحدهما إن لم يدخل تحت الآخر، وكلاهما يشمله كلام الناظم- لأنا نقول: كلا المحملين غير محض في معناه، لأن الاستفهام، الذي هو الأصل، متروك بالمعنى
الطارئ، والنفي غير أصيل في (هل) فلا يدخل له تحت واحد منهما.
والجواب عن الأول: أن نصب الفعل بعد التقرير] الأول [ليس جوابا للتقرير، وإنما هو جواب للنفي.
وذلك أنك إذا قلت: ألم تأتنا فتحدثنا؟ ] أصله: لم تأتنا فتحدثنا [على معنى: لم تأتينا محدثا، وهكذا كل ما دخل عليه الاستفهام من النفي.
والنصب قبل الاستفهام جائز، لأن ما قبل (الفاء) منفي حقيقة، فإذا دخلت الهمزة فإنما دخلت بعد استقرار النفي المحض، فأحدثت التقرير فبقي اللفظ كما كان، لوجود محرزة، وهو أداة النفي، ولا يضر حدوث ما حدث من المعنى، لأنه غير قادح في أصل معنى الكلام.
والذي يبين هذا أن التقرير لو كان النصب جوابا له لكان نصبا بعد الواجب، وذلك لا يكون إلا في الشعر، لأن المعنى قد أتيتنا محدثا. ونظير هذا في اعتبار الأصل قولهم: كأنك لم تأتنا فتحدثنا، وقول الدارمي، أنشده سيبويه:
كأنك لم تذبح لأهلك نعجة
…
فيصبح ملقي بالفناء إهابها.
قال الأعلم: شاهده/ النصب وإن كان معنى الكلام الإيجاب، مراعاة لما كان قبل دخول "كأن" يعني أن معنى الكلام أنك ذبحت،
وكذلك المعنى في: كأنك لم تأتنا، أي قد أتيتنا.
وعلى ما تقرر نص ابن خروف في التقرير، وقال في هذا البيت: أبقي النصب كما أبقى الباء في قولك: ألست بزيد؟ يعني حين دخل التقرير، فنسخ معنى النفي اعتبارا بالأصل، فإذا قد دخل هذا المعنى تحت النفي المحض، فلا إشكال على الناظم فيه.
والجواب عن الثاني جار على الجواب الأول في المعنى، لأن أصل الكلام الاستفهام، فروعي ذلك الأصل، والذي يبين ذلك أن النفي فيه ليس بصريح الدلالة إلا من جهة ما يلزم عن الاستفهام المراد به التقرير.
وأصل المعنى أن المتكلم يستفهم المخاطب عن الإحسان الذي علق عليه الإكرام، وجعله سببا فيه، تقريرا له عليه إذا قال: هل أحسنت إلي فأكرمك؟ والمخاطب يعلم أنه لم يحسن إليه، فإذا لا إكرام؛ إذ لم يقع إحسان، فالنفي راجع إلى ما عند المتكلم والمخاطب، لا إلى نفس الاستفهام، لكن حصل من المجموع النفي معنى، والاستفهام حاصل، فلا درك على هذا الوجه. والله أعلم.
ولما أتم الكلام على (الفاء) أخذ يذكر حكم (الواو) أختها في هذا الحكم، وهو الموضع الخامس من مواضع لزوم الإضمار، فقال:
والواو كألفا إن تفد مفهوم مع
…
كلا تكن جلدا وتظهرا الجزع.
يعني أن (الواو) التي بمعنى (مع) حكمها حكم (الفاء) في جميع مالها، من كونها تقع جوابا للنفي المحض، والطلب المحض، أو جوابا للتمني أو الترجي، على حسب ما يذكره بعد هذا.
فينتصب ما بعدها ب (أن) لازمة الإضمار، وليس مع (الواو) جواباً، لأن
السببية معها لا تكون، وإنما هو على نحو من الجواب في النفي والطلب.
ووجه النصب بعدها نحو مما تقدم في (الفاء) من أن المعنى معها قد يكون على غير جهة مجرد الجمع الذي هو الأصل فيها.
فإذا قلت: ما تأتينا وتحدثنا، فأصل الجمع فيه يفيد التشريك في عدم الإتيان، ثم إنهم قد يريدون معنى زائدا على الجمع المطلق، وهو المعية، أي: ما تجمع بين الإتيان والحديث معا، فأرادوا أن يدلوا على هذا المعنى بتغيير الكلام عن حده، إذ كان أصل الكلام لا يؤذيه، ففعلوا في (الفاء) ليحصل لهم ما أرادوا، فقدروا (أن) وألزموها الإضمار، وقدروا العطف على مصدر يعطيه معنى الكلام الأول، على حسب ما تقدم في (الفاء) من كل وجه، ولذلك أحال الناظم في حكم (الواو) على (الفاء) ولا يكون هذا إلا بعد غير الواجب، وهو النفي والطلب اللذان ذكر.
فأما (النفي المحض) فنحو: ما تأتينا وتحدثنا، ويقال: لا يسعني شيء ويعجز عنك. ومنه قوله تعالى: } ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.
وإذا دخل الاستفهام/ على النفي فالحكم كذلك، لأن الأصل النفي كما تقدم، فلا اعتراض به على الناظم. ومنه قول الخطيئة، أنشده سيبويه رحمه الله تعالى:
ألم أك جاركم ويكون بيني
…
وبينكم المودة والإخاء.
ومن ذلك ما أنشده أيضا، من قول دريد بن الصمة:
قتلت بعبد الله خير لداته
…
ذؤابا فلم أفخر بذاك وأجزعا.
وقال حسان بن ثابت- رضي الله عنه أنشده ابن خروف:
فإن لم أصدق ظنكم بتيقن
…
فلا سقت الأوصال مني الرواعد.
ويعلم أكفائي من الناس أنني
…
أنا الحافظ الحامي الذمار المراود
نصب (يعلم) على (لم أصدق) أي: إن لم يجتمع هذان، وهذا في صريح النفي.
وأما النفي غير الصريح فلا ينتصب بعده الفعل، كما لو قلت: أنت غير قائم وتسير، لأن النفي غير متمحض، وكذلك: ما زال يأتينا ويحدثنا، وقلما يأتينا ويحدثنا، وما أنت إلا تأتينا وتحدثنا، وما كان مثل ذلك، من الأشياء التي لم يكن النفي فيها صريحا، فلا بد فيها من الرفع، كما تقدم في (الفاء).
وأما (الطلب) فعلى ستة أنواع:
فالأمر نحو: زرني وأزورك، أي: ليكن منك لي زيارة، وزيارة مني لك.
وأنشد سيبويه للأعشى:
فقلت ادعى وأدعو إن أندى
…
لصوت أن ينادي داعيان.
والنهي نحو قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وأنشد سيبويه للأخطل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم.
وقوله تعالى: } ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق}. الآية، تحتمل النصب والجزم.
والدعاء نحو: رب وفقني وأطيعك.
وأما نحو: غفر الله لك ويدخلك الجنة، فعلى ما تقدم في (الفاء) وسيأتي إن شاء الله تعالى.
والاستفهام نحو: هل تأتينا وتحدثنا؟ وذلك إذا كان الاستفهام عن الفعل، أو عن متعلق الفعل، وهو غير محقق الوقوع نحو: هل تأتينا وتحدثنا؟ ومن يأتينا ويحدثنا؟
فأما إن كان الاستفهام يتضمن وقوع الفعل لا يكون النصب إلا ما مر في (الفاء).
وأصل هذه المسألة للفارسي في "الإغفال" إذ رد على الزجاج في تجويزه النصب في قوله تعالى: } يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق}.
وأنه لو قال: وتكتموا الحق على معنى: لم تجمعون بين ذا وذا- لجاز، ولكن الذي في القرآن أجود.
فرد عليه الفارسي في هذا بمعنى ما تقدم، من كون الفعل هنا واجبا محقق الوقوع، فلا يصح فيه النصب إلا على من ينصب في الواجب، وهو شاذ، وقد ذكر مثل ذلك في (الفاء).
والعرض نحو: ألا تنزل وتصيب خيرا؟
والتحضيض نحو: هلا تنزل وتصيب خيرا.
والتمني والترجي سيأتيان إن شاء الله.
فالحاصل: أن (الفاء) و (الواو) في هذا الباب على حكم واحد، وهو ما نص عليه الناظم.
وأتى بمثال من ذلك نصب فيه ما بعد (الواو) بعد النهي، وهو قوله، "لا تكن
جلدًا وتظهر الجزع" أي لا يجتمع فيه الجلد وإظهار الجزع، والواو فيه تفيد المعية.
وإنما قيدها بذلك لأن (الواو) إذا لم تفد ذلك المعنى فهي على أصلها من الجمع المطلق، فلا حاجة إلى تغيير/ الكلام، وإخراجه عن أصله.
والجلد من الرجال: الصليب القوي على الشيء، يقال منه: جلد الرجل جلدا، وجلادة، وجلودة، فهو جلد وجليد.
والجزع: ضد الصبر، وقد جزع- بالكسر- من الشيء، وأجزعه غيره.
وجواب "إن تفد" في البيت محذوف، دل عليه قوله:"والواو كالفاء" وكان الوجه أن يأتي بالماضي، فإن الإتيان بالمضارع مختص بالشعر.
وكذلك قوله بعد "إن تسقط الفاء" وقد مر من هذا مواضع.
وبعد غير النفي جزما اعتمد
…
إن تسقط ألفا والجزاء قد قصد.
وشرط جزم بعد نهي أن تضع
…
إن قبل لا دون تخالف يقع.
يعني أن الفعل إذا وقع بعد غير الواجب في الأشياء المذكورة التي تقدم تفصيلها، وهي ينتصب بعدها مع (الفاء) فإنه ينجزم مع سقوط (الفاء) إلا ما وقع بعد النفي، فإنه لا ينجزم.
فقوله: "وبعد غير النفي" متعلق ب "اعتمد" و"جزما" مفعول "اعتمد" وغير النفي هو الطلب إن سقطت (الفاء) التي انتصب بعدها، فتقول في
الأمر: إيتنا تحدثنا، وأسلم تسلم.
ومنه قوله تعالى: } وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا}. وفي الحديث: "وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما".
وتقول في النهي: لا تدن من الأسد تسلم.
وفي الدعاء: اللهم اغفر لنا تدخلنا الجنة، وارزقنا مالا نتصدق به.
وفي الاستفهام: هل جاءني أكرمه؟ وأين بيتك أزرك؟
وفي العرض: ألا تنزل تصب خبرا.
وفي التحضيض: هلا تقرأ تنتفع؟ وأنشد الفراء:
لو كنت إذ جئنا حاولت رؤيتنا
…
أو جئتنا ما شيا لا يعرف الفرس.
ذهب الخدب إلى (لو) هنا تحضيض لاتمن.
وأما النفي: فلا ينجزم الفعل بعده إذا سقطت (الفاء) وإنما يكون مرفوعا فتقول: ما تأتينا تحدثنا، ولا يجوز "تحدثنا" ولذلك استثناه الناظم.
وعلة ذلك ستذكر إن شاء الله.
ثم ذكر أن الجزم، حيث ذكر، لا يكون إلا إذا قصد الجزاء، وذلك قوله:"والجزاء قد قصد" وهي جملة في موضع الحال، العامل فيها "تسقط" من
قوله: "إن تسقط الفاء" أي إن سقطت الفاء حال كون الجزاء مقصودا بذلك الفعل، أو يكون عاملة "اعتمد" أي اعتمد الجزم في هذا الحال، يعني أن الحكم بالجزم فيما ذكر إنما يكون إذا قصد به كونه جزاء لما تقدم من الكلام، أي مسببا عنه، فهناك يصح الجزم.
أما إن لم يقصد به الجزاء فلا ينجزم، نحو قولك: أكرم زيدا يكرمك، ف "يكرمك" جزاء "أكرم" أي أن إكرامه لك مسبب عن إكرامك له، فإن لم تقصد ذلك رفعت فقلت: أكرم زيدا يكرمك، ف "يكرمك" مستأنف، أي هو كذلك، أو في موضع الحال من "زيدا".
ومما جاء من ذلك مجزوما لأنه/ قصد به الجزاء جميع ما تقدم من الأمثلة.
ومما جاء غير مجزوم لأنه لم يقصد به الجزاء قول الله تعالى: } ثم ذرهم في خوضهم يلعبون}. وقال تعالى: } فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى}. وأنشد سيبويه للأخطل:
وقال قائلهم أرسوا نزاولها
…
فكل حتف امرئ يقضي لمقدار
وأنشد أيضا، ونسبه ثعلب لعمرو لن الإطنابة ونسبه أبو عبيدة
لعمرو بن امرئ القيس:
خالفت في الرأي كل ذي فخر
…
يا مال والحق عنده فقفوا.
تؤتون فيه الوفاء معترفا
…
بالحق فيه لكم فلا تكفوا.
استشهد سيبويه بعجز الأول وصدر الثاني، وأنشد أيضا:
كونوا كمن آسى أخاه بنفسه
…
نعيش جميعا أو نموت كلانا.
وأنشد أيضا للأخطل:
كروا إلى حريتكم تعمرونهما
…
كما تكر إلى أوطانها البقر
فهذه الشواهد وأمثالها إنما يرفع فيها الفعل على أحد ثلاثة أشياء: إما على القطع وابتداء الكلام، أو على الحال من المعرفة، أو على الصفة من النكرة، وعلى هذه يحمل الفعل بعد النفي.
وعليه في هذا الاشتراط نظر، فإن ما ينجزم بعد هذه الأمور على ضربين:
أحدهما: أن يكون الجزاء مقصودا فيه كالأمثلة المتقدمة.
والآخر: ألا يقصد ذلك فيه، ومع ذلك فالجزم فيه سائغ كقولك: قل له بفعل كذا، ومره بحفر البئر، ونحو هذا، فالجزم هنا صحيح وإن لم يكن على معنى: إن تقل له يفعل، وإن تأمره يحفر، وهو كثير.
وفي القرآن الكريم: } قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة}.
ف "يقيموا" مجزوم على جواب "قل" وليس المعنى على: إن تقل لهم يقيموا، ولو كان على ذلك المعنى لم يتخلف عن الإقامة أحد، وليس كذلك، فدل على أنه ليس على معنى قصد الجزاء.
وكذلك قوله تعالى: } فذرهم يخوضوا ويلعبوا}.} ذرهم يأكلوا ويتمتعوا}.} قل للذين ءامنوا يغفروا}.} فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث}. على قراءة أبي عمرو، بجزم "يرث" وهو كثير.
وإذا ثبت هذا، فمفهوم اشتراط الناظم يقتضي أن مثل هذا لا ينجزم، وهو غير صحيح.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن يقال: لعله قائل بمذهب المازني والفرااء القائلين بن (يفعل) مبني لأنه فعل أمر، يعني (افعل) لكن زيد فيه حرف المضارعة حكاية، فإذا قلت: مرة يحفرها، أو فل له يفعل، بمعنى: قل له افعل، وأتى بالياء لأن صاحب الفعل غائب، كما تقول: حلف زيد ليخرجن، ولفظ يمينه "لأخرجن".
قال السيرافي: وقواه الزجاج، وإذا ساغ هذا فلا عتب عليه.
والثاني: أنه لو سلم نفي الخلاف في المسألة. لكان له وجه من التأويل يرجع به إلى ما اشترط، وذلك بأن يقدر أن المعنى على: إن تقل له يفعل، على قصد الجزاء. إما من جهة تغليب الظن بأن الأول إذا وقع وقع الثاني، وإما ثقة بأن الأمر كذلك يكون. وهذا لا إشكال فيه في كلام العباد، وأما في كلام الله تعالى: فعلى أن يكون ذلك/ راجعا إلى اعتقاد العباد] وظنهم [، كما قال سيبويه في قول الله تعالى: } فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}.
وقد تقدم تقرير هذا المعنى، وبهذا التقرير يدخل كل ما اعترض به تحت اشتراط الناظم، فلا يبقى إشكال.
وفي قوله: "والجزاء قد قصد" إشعار بالجزم للفعل في الجواب، لأن الجزاء إنما يكون لشرط تقدمه، ولا شك أن المعنى في الكلام مع الجزم على الشرط والجزاء.
وقد أشعر بذلك أيضا في البيت بعد هذا، فقولك: أكرمني أكرمك،
في معنى: إن تكرمني أكرمك، ولا تدن من الأسد تسلم، في معنى: إن لا تدن منه تسلم، واللهم اغفر لنا تدخلنا الجنة، في معنى: إن تفعل ذلك يكن هذا.
وكذلك الاستفهام وغيره، فقولك: أين بيتك أزرك؟ في معنى: إن أعرف موضع بيتك أزرك، وقولك: ألا تنزل عندنا تكرم، في معنى: إن تنزل تكرم.
ولا خلاف في هذا إلا أنهم اختلفوا في الجازم ما هو؟ فمنعهم من جعل الجزم ب (إن) مقدرة، كأنه قال: إن تكرمني أكرمك، ثم وضع الأمر موضع الشرط.
ومنهم من جعل الجزم بنفس الأمر، لما تضمن من معنى الشرط.
وكلام سيبويه يحتمل الأمرين، وهو أظهر في الثاني، وإليه ذهب المؤلف، واختار ابنه الأول، والخطب في المسألة يسير، وكلاهما محتمل مما يقال به، فلا حاجة إلى الإكثار، وإنما كان هذا في غير الواجب، لأن الشرط غير واجب، فلا يقوم مقامه إلا غير واجب مثله، لأن الواجب بخلاف غير الواجب، فلا يصلح للقيام مقامه.
ولما كان النفي في التحقيق واجبا لم يصلح أن يقوم مقام غير الواجب.
ألا ترى أنه يحتمل الصدق والكذب إذا قلت: ما تأتينا، والشرط لا يحتمل ذلك.
وأيضا إذا قدرت (إن) في موضع (ما تأتينا تحدثنا) فلا يخلو أن تبقى النفي أولا، فغن لم تبقه لزم أن يقوم ما ليس فيه حرف نفي مقام ما هو فيه، وذلك غير صحيح، كما يذكر في النهي إثر هذا إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: فقد تقدم أن النفي غير واجب، ولذلك نصبت معه بعد (الفاء) وها هنا زعمت أنه واجب.
فالجواب: أن المنفي هناك بغير الواجب أنه غير الخبر المثبت، وها هنا معناه أنه غير الخبر مطلقا.
فالحاصل أن الجزم بعد النفي ممتنع، وهو مذهب البصريين.
وذهب الكوفيون إلى جوازه، ونسب إلى أبي القاسم الزجاجي القول به من ظاهر كلامه في "الجمل" وهو مذهب مردود بما تقدم آنفا، فلذلك لم يعتبره الناظم، واعلم أن كلام الناظم يشمل ما تقدم، مما ينتصب بعد (الفاء) وما سيأتي، فإن الترجي لم يتقدم له ذكر، كما تقدم تفسيره، وإنما ذكره متأخر عن هذا الموضع، وهو مما ينتصب معه الفعل بعد (الفاء) فينجزم الفعل مع إسقاطها بمقتضى هذا/ الإطلاق: فتقول: لعلي أراك أنتفع بك، وكذلك التمني نحو: ليت لي ما لا أنفق منه.
ومما جاء من الجزم في التمني قول الشاعر:
لعل التفاتا منك نحوي ميسر
…
يمل منك بعد العسر لليسر جانبا.
والكلام في جزمه على ما تقدم.
ثم لما كان النهي محتاجا إلى ضميمة في جزم جوابه أردف بالكلام عليها فقال: "وشرط جزم بعد نهي أن تضع إن قبل لا".
يعني أن الجزم إذا وقع بعد النهي فلا بد أن يكون ذلك الجزم بحيث يصح أن يقع (إن) في التقدير قبل (لا) التي للنهي، فإذا استقام الكلام صح الجزم.
فإذا قلت: لا تدن من الأسد- تسلم- صح الجزم هنا، لأنك إذا قدرته ب (إن)] قلت: إن لا تدن من الأسد تسلم، وهذا الكلام صحيح، بخلاف ما لو قلت: لا تدن من الأسد يأكلك، فها هنا لا يصح الجزم، لأنك إذا قدرته ب (إن) [قبل (لا) لم يستقم؛ إذ كنت تقول: إن لا تدن من الأسد يأكلك. وهذا محال لا يصح، ممن جهة أن عدم الدنو لا يكون سببا في الأكل، وهذا معنى التخالف الذي نبه عليه بقوله:"دون تخالف يقع".
يعني من غير أن تقع مخالفة بين التقدير بالشرط والكلام الأول، فإذا حصل التخالف لم يصح الجزم، فينتقل إلى غيره، فيلزم الرفع هنا على الاستئناف.
وهذا الحكم في الجزم مخالف لحكم النصب إذا قلت: لا تدن من الأسد فيأكلك× إذ المعنى فيه: عن تدن منه يأكلك، فلا يصح فيه الإتيان ب (لا) بعد (إن) إذ يصير المعنى: إن لا تدن منه يأكلك، وهذا محال.
وكذلك إن قلت: لا تدن من الأسد تسلم، تقديره على الجزم: إن تدن منه تسلم، وهو غير صحيح، فلا بد من الرفع.
ومن هنا قال سيبويه: وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء. ألا ترى أنك تقول: ما تأتينا فتحدثنا، والجزاء هنا محال. وذلك بعد ما قرر أن قولك: لا تدن من الأسد يأكلك- بالجزم- قبيح، يعني غير جائز، وأنك إن رفعت فالكلام حسن، وكذلك إن أدخلت الفاء فحسن.
والفرق بين الموضعين، حيث لزم في الجزم الإتيان ب (لا) دون النصب، أن الجزم إنما يجوز في فعل يصح كونه جوابا لشرط، دل عليه فعل النهي، وفعل النهي منفي في المعنى، فلا بد من تقدير فعل الشرط على موافقته فتقول: لا تدن من الأسد تسلم.
وأما النصب: فإنما يجوز في فعل مسبب عن فعل قبل (الفاء) لا عن نفيه، لكنه نهى عنه طلبا لنفي المسبب لانتفاء سببه، كما في قولك: لا تدن من الأسد فيأكلك، فإن "الأكل" هنا أتى به مسببا عن "الدنو" ونهى عنه، خوفا من وقوع مسببه الذي هو "الأكل" بوقوعه.
فالجزم بعد النهي لازم لنفي ما قبله، والنصب بعده لازم لثبوت ما قبله. فهذه علة اشتراط صحة الإتيان ب (لا) بعد (إن) في الجزم.
وقد ظهر أن الناظم ذهب في المسألة مذهب الإمام والبصريين.
وذهب الكسائي إلى جواز/ التخالف بين التقدير والمقدر، فتقول على مذهبه: لا تدن من الأسد يأكلك، وتقديره بإسقاط (لا) كأنه قال: إن تدن منه يأكلك. وقد احتج الكسائي بقول بعض العرب: لا تسألونا نجبكم بما تكرهون.
وفي الحديث "أن بعض الصحابة قال في بعض المغازي: يا رسول الله، لا تشرف يصبك سهم من سهامهم".
وروي أيضا: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذنا بريح الثوم" بجزم "يؤذنا".
والأكثر في الرواية على إثبات الياء، وجاء أيضا:"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وهذا الذي استدل له به لا مقنع فيه إذا سلم صحة الاستشهاد بالحديث في أحكام العربية، وهي طريقة المؤلف، لندوره، ولجواز أن يكون المجزوم ثانيا بدلا من المجزوم أولا لا جوابا، فالصحيح ما عليه البصريون، وهو كلام العرب.
وقوله: "وشرط" مبتدأ خبره "أن تضع" و"إن" مفعول "تضع" و "دون تخالف" متعلق باسم فاعل حال من (إن) أي حالة كون (إن) بلا مخالفة في ذلك الكلام المقدر.
وفي لفظه شيء، وذلك أنه جعل الشرط وضع (إن) قبل (لا) ولم يتعرض ل (لا) والشرط إنما هو أن توجد (لا) في التقدير، وكونها توضع (إن) قبلها أو بعدها أمر آخر.
فلو قال مثلا: أن تضع (لا) مع (إن) لكان أصرح في مقصوده، ولكن لما كان وضع (إن) قبل (لا) لازما لوجودها اكتفى بذلك لوضوح المعنى. والله أعلم. نجز الجزء المبارك بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.
ويتلوه إن شاء الله تعالى: والأمر إن كان بغير فعل فلا.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ منه يوم الخميس المبارك تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة اثنين وستين وثمانمائة من الهجرة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم.
والأمر إن كان بغير افعل فلا
…
تنصب جوابه وجزمه اقبلا
لما قدم أن الأمر ينتصب بعده الجواب إذا كان محضا، وكان كل ما يدل على الأمر المحض داخلا فيه، فدخل عليه ثم أسماء الأفعال كلها، إذ هي تدل على الأمر دلالة محضة، لا بالتأويل ولا بغير الوضع الأصيل- أراد أن يخرج ذلك، ويخص مواضع النصب، ويبين أن أسماء الأفعال لا يجري فيها ذلك الحكم، الذي هو النصب بعد الفاء.
وأيضا لما كان ما يدل على الأمر، وكانت دلالته غير محضة، خارجا عن أن ينصب معربا بعد الفاء، ـ بما قيد به هناك- أراد أن ينص هنا على أن الجزم جائز فيه، وإن لم يجز النصب، فقال:"والأمر إن كان بغير افعل" إلى آخره.
يعني أن الأمر إذا أتى في الكلام بصيغة غير صيغة الفعل المخصوص بالأمر- فلا يجوز النصب معه بعد الفاء، سواء كانت تلك الصيغة- للأمر في الأصل أولا، ويجوز الجزم إذا سقطت الفاء، وقصد معنى الجواب كما تقدم.
وقد تقدم أن صيغة (افعل) ينتصب معها الفعل بعد الفاء، فلذلك لم يذكره.
وقد ضم هذا الكلام من أنواع الصيغ الدالة على الأمر ثلاثة:
أحدهما: اسم الفعل، سواء كان على وزن (فعال) أو على غير ذلك.
فأما ما جاء على (فعال) فقولك: نزال أكرمك، ومناع زيدا من الشر تؤجر عليه، وتراك زيدا يخرج، ونحو ذلك، فتجزم بقصد الجواب، والجزم على ما تقدم.
ولا يسوغ النصب بعد الفاء، فلا تقول: نزال فأكرمك، ولا مناع زيدا فتؤجر عليه. وأجاز ذلك الكسائي من أهل الكوفة، وابن جنى من أهل البصرة،
ذكر ذلك في "الخصائص" وتبعه على ذلك بعض المتأخرين كابن عصفور، اعتبارا بالاشتقاق فيه، فإنه يتأتى بسببه أن يبنى منه المصدر كالفعل، فكما تقول في تقدير (أنزل أكرمك): ليكن منك نزول فإكرام مني، كذلك تقول في (نزال) لا فرق بين التقديرين في الفعل واسم الفعل.
ورد عليه ابن المؤلف في "التكملة" بأنه ليس في كون (نزال) وشبهه مشتقا من المصدر ما يصحح تأويله بالمصدر، لأن المصحح للنصب في الفعل هو صحة تأويله بالمصدر، من جهة أنه يصح/ أن يقع صلة ل (أن) مؤولا بالمصدر، حتى يصح: أن يعطف عليه بالفاء، وذلك في الفعل سائغ إذا قلت: ليكن منك أن تقوم فتكرم، في تقدير: قم فتكرم، بخلاف اسم الفعل المشتق من المصدر، فإنه لا يقع في صلة (أن) ولا يقدر بالمصدر، وليس بمصدر في نفسه، فبان الفرق بينهما.
وأما ما جاء على غير (فعال) فنحو: صه أكلمك، ومه تكرم، ورويد أحسن إليك، وأنشد ثابت في "دلائله" قول الشاعر:
رويد تصاهل بالعراق جيادتا
…
كأنك بالضحاك قد قام نادبه.
ومنه أيضا: عليك زيدا أكرمك، ودونك عمرا أحسن إليك، ومكانك تحمد رأيك، ومنه قول الشاعر:
وقولي كلما جشأت وجاشت
…
مكانك تحمدي أو تستريحي.
وكذلك ما أشبه هذا من أسماء الأفعال.
ولا يجوز النصب كما قال، لا يسوغ التأويل بالمصدر، لأنها غير مشتقة، ولا صالحة لأن تقع في صلة (أن) ولا أن يقدر منها ما يصح فيه ذلك، حتى يصح العطف إذا كان النصب راجعا إلى عطف مصدر على مصدر، قال الفارسي:
وليس العطف بالفاء في هذا كالجواب، فيجوز لقائل أن يقول: يجوز أن يجاب بالفاء كما جاز أن يجاب بجواب مجزوم، لأن الجواب المجزوم ليس
بمعطوف فيقتضى أن يكون المعطوف عليه مثله، فلهذا أجاز: صه يكن خيرا لك، وحسبك ينم الناس، ألا ترى أنك لو قلت: ايتني آتك، وجاز وإن كان الأول مبنيا والثاني معربا، لأنه ليس بمعطوف، ولو كان أراد العطف لم يجز، زرني أزرك. وقد أجاز ذلك الكسائي، فيجوز عنده أن تقول: عليك زيدا فأكرمك، وصه فأكلمك، وهو مردود بالقياس المتقدم آنفا، وبعدم السماع فيه، فلا يلتفت إليه.
والنوع الثاني: من الأنواع الدالة على الأمر بلفظ الخبر، وهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون دعاء، والآخر: أن لا. والدعاء عند النحويين يطلقون عليه لفظ الأمر، لان صيغته كذلك.
فأما الدعاء بلفظ الخبر فكقولك: غفر الله لك يدخلك الجنة، وأكرمك لا يحاسبك، ونحو ذلك.
قال ابن الضائع: ويجري هذا المجرى، يعني مجرى (حسبك ينم الناس) ونحوه في الدعاء قولك: غفر الله لي أنج من عذاب الله، أي. إن غفر الله لي نجوت، فهذا معناه معنى (اللهم اغفر لي أنج) لكنه جاء مجئ لفظ الإخبار بالغفران على خلاف / الأصل، فصح الجزم، لأن معنى الشرط فيه صحيح، ولا يصح النصب، فلا تقول: غفر الله لك فيدخلك الجنة، وقد تقدم وجه ذلك. وأجازه الفراء والكسائي، وليس لهما في ذلك سماع يستند إليه، ولا قياس يعول عليه.
وأما غير الدعاء فمنه قولك: حسبك ينم الناس، أي اكتف ينم الناس.
وقالوا: اتقي الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه، معناه: ليتق، ومنه قوله تعالى: } يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار}. الآية: بعد قوله: } تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}.
قال الزجاج: هو جواب ل (تؤمنون) أي إن تؤمنوا يغفر لكم، وهو خبر معناه الأمر، والدليل عليه قراءة ابن مسعود: } آمنوا وجاهدوا} وفي الآية محمل آخر.
ولا يجوز أن تنصب بعد الفاء، فتقول: حسبك فينام الناس، ونحو ذلك، والعلة في المنع عند ابن المؤلف ما تقدم في اسم الفعل، من عدم صحة تقديره بالمصدر، لأن الجملة الاسمية أو الفعلية لا يصح أن تتقدر بالمصدر، ولا تقع صلة ل (أن) فلا يصح أن ينتصب بعدها شيء.
والنوع الثالث: التحذير والإغراء ونحوهما، نحو: إياك وزيدا تسلم منه، وأخاك أخاك تقو به. وهذا أولى في الجزم من قولك: حسبك ينم الناس، لأن باب "التحذير والإغراء" قام فيه المفعول مقام الفعل، فهو مقدر كأمه منطوق به، و"حسبك" لفظ خبري يعطي معنى فعل الأمر، ولا دلالة له على لفظه، فكان أبعد
منه، إلا أنهم لازموا هنا تقدير الفعل وعدم اللفظ به، فصار الأمر بغير (فعل) كما في (دونك، وعليك) وعلى ما اقتضاه كلام الناظم هنا لا يقال: إياك والأسد فتسلم ولا أخاك أخاك فتقوى به، لأنه شبيه بأسماء الأفعال في لزوم إقامته مقام الفعل.
ومن هذا الباب ما قام من المصادر مقام أفعال الأمر لزوما، كضربا زيدا يتأدب، ولا يقال: فيتأدب.
وهذا كله إنما أتيت به على ما يحتمله كلامه، وما يسوغه القياس، ولم أر فيه نصا فانظر فيه. ووجه امتناع النصب ما تقدم من تعذر تقدير الكلام بالمصدر، وعدم تأتي جعله صلة (أل).
والفعل بعد لافاء في الرجا نصب
…
كنصب ما إلى التمني ينتسب.
هذا تمام الكلام في الجواب بالفاء، وهو ما لم يدخل له تحت العقد المتقدم/، لأن (الرجاء) ليس بطلب، كما كان الاستفهام والعرض والتحضيض ونحوها طلبا، وكذلك (التمني) لأن الطلب إنما هو ما أعطى معنى (افعل) فالاستفهام والعرض وغيرهما فيها معنى (افعل) فقولك: هل قام زيد؟ في معنى: أخبرني عن قيان زيد، وكذلك: ألا قمت، وهلا قمت، في معنى (قم) بخلاف الرجاء والتمني.
وقد جعل ابن الناظم (التمني) داخلا تحت الطلب، فهو عنده
قسم سابع من أقسامه. وقد يشعر بذلك قول الناظم: "كنصب ما إلى التمني ينتسب" فأتى به في مساق المقرر الحكم، حيث جعله مشبها به.
فإن أراد الناظم هذا فهو بعيد، لبعد الطلب في التقدير من معنى التمني. ألا ترى أنه لا يستلزم حضور مخاطب كالترجي، بخلاف الاستفهام وغيره مما تقدم، فالتمني والترجي من باب واحد، والفرق بينهما أن الرجاء إنما يكون في الممكن، كقولك: لعلي أحج، ولعلي أكرمك، والتمني يكون في الممكن وغير الممكن، نحو: ليت لي مالا أنفق منه، و:
ليت هذا الليل شهر
…
لا ترى فيه عربيا.
فأخبر الناظم- رحمه الله أن الفعل ينتصب بعد الفاء في الرجاء، فتقول في الرجاء: لعل لي مالا فأنفق منه، وقرأ حفص عن عاصم: } لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى} بنصب (أطلع) وقرأ عاصم أيضا: } وما يدريك لعله يزكي. أو يذكر فتنفعه الذكرى} بنصب
(فتنفعه) وذلك كله على جواب (لعل) ومعناها الترجي.
وأنشد الفراء:
عل صروف الدهر أودولاتها
…
يدللننا اللمة من لماتها
فيستريح القلب من زفراتها.
بنصب "يستريح".
والنصب بعدها ليس بكثير، لم يطرد في الكلام أن يقال: لعلك تأتينا فتحدثنا، ولكنه قد جاء في الكلام الفصيح الذي هو القرآن، فلا يقال: إنه ممتنع.
وقد حكى ابن المؤلف في "التكلمة" عن البصريين أنهم يمنعون النصب بعد (الرجاء) لأنه في حكم الواجب، وحكى جوازه عن الكوفيين، بناء على كون "لعل" تأتي للاستفهام وللشك فيجاب في الوجهين، ومن أمثلتهم: لعلي سأحج فأزورك. والاستفهام ب (لعل) غير معروف عند البصريين. وقد استدل المؤلف على
ثبوته بقوله عليه السلام: "لعلنا أعجلناك" وبقوله: } وما يدريك لعله يزكى} ولا حجة في شيء من ذلك.
/والصحيح أنها محمولة على التمني في نصب الجواب، لأن التمني والترجي متقاربان في المعنى، فكأنهم أشربوا (لعل) معنى (ليت) فنصبوا، وكذلك قال الجزولي: وأشربها معنى (ليت) من قرأ (فأطلع) نصبا.
وإلى هذا أشار الناظم بقوله: "كنصب ما إلى التمني ينتسب" أي نصب على حد نصب ما انتسب إلى التمني، لتقارب معنييهما.
ولما كان النصب في الترجي عنده ثابتا نبه عليه، وعلى أنه من كلام العرب، بقوله:"والفعل بعد الفاء في الرجا نصب" وأنه مثل التمني، فلا بد من القول بقياسه، كما يقوله الكوفيون، خلافا للبصريين على ما حكى ابنه عنهم، لكن ليس على ما يتأوله الكوفيون، بل على ما يتأوله البصريون.
وقوله: "بعد الفاء" قيد للنصب بعد "الرجاء" وظاهره أنه مقتصر به على ما بعد الفاء، فإذن لا يدخل ما بعد الواو في هذا الحكم، فلا يقال: لعلي أحج وأزورك.
وذلك غير مستقيم، لأن النحويين المتأخرين من البصريين يجيزون ذلك مطلقاً.
والجواب بالفاء والواو في الأجوبة الثمانية صحيح سائغ عندهم، ولم يستثنوا ترجيا ولا غيره.
والجواب عن هذا أن ذكر الفاء ليس بقيد يخرج الواو، بل ذكرها ليلحقها بما تقدم من النفي والطلب. والناظم قد تقدم له أن الواو كالفاء في وقوعها جوابا إذا كانت بمعنى (مع)
يعني حيثما وقعت، ومن مواقعها الرجاء والتمني، فلا بد أن تقع الواو فيهما فتقول إذن: لعلي أحج وأزورك، على معنى: لعلي يجتمع لي حج وزيارة لك، وهذا ظاهر.
وقوله: "كنصب ما إلى التمني ينتسب" أي أن الفعل بعد الفاء إذا كان منتسبا إلى التمني، أي واقعا جوابا له، لأنه إذا وقع جوابا انتسب له، فقيل: جواب التمني، فإنه ينتصب أيضا، لأن الكلام مع التمني غير واجب، فاستوى في ذلك مع الاستفهام والدعاء ونحوهما، فتقول: ليت لي مالا فأنفق منه، ومنه قوله تعالى: } يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} وتقول في الواو إذا وقعت جوابا: ليت لي مالا وأنفق منه، ومنه قراءة حفص وحمزة: } فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} بنصب "نكذب" و"نكون" على جواب التمني، أي يا ليتنا يجتمع لنا هذا وهذا، وقرأ ابن عامر بنصب "نكون" على الجواب، ورفع "نكذب" عطفا على "نرد"/ولم يذكر ها هنا كون ما بعد الفاء جوابا في القصد، لذكر ذلك فيما تقدم، فلم يحتج إلى إعادته لأنه معلوم.
و"ما" في قوله: "ما إلى التمني" موصولة، وهي واقعة على الفعل الواقع جوابا. بعد الفاء.
وإن على اسم خالص فعل عطف.
تنصبه أن ثابتا أو منحذف هذا هو الموضع الثاني من الموضعين اللذين يجوز فيهما إظهار (أن) وإضمارها، وذلك إذا عطف الفعل على الاسم الخالص.
يعني أن الفعل إذا عطف على اسم خالص، فإن ذلك الفعل ينتصب ب (أن) ثابتة غير محذوفة، أو محذوفة غير ثابتة، لكن قوله:"الخالص" يمكن أن يفسر بأحد وجهين:
أحدهما أن يريد به ما أراد النحويون بقولهم: الاسم الصريح، أي غير المؤول، ومثلوا ذلك بنحو قولك: أعجبني قراءتك وتفهم، وإن شئت قلت: وأن تفهم. ومنه قوله تعالى: } وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} على قراءة النصب، وهي قراءة من عدا نافعا من السبعة. وأنشد سيبويه قول الشاعر، وهو لميسون بنت بحدل الكلابية:
للبس عباءة وتقر عيني
…
أحب إلي من لبس الشفوف.
ولا يختص هذا العطف بالواو، بل يجوز في غيرها أيضا، ولذلك لم يقيد ذلك الناظم، فيدخل فيه العطف (أو) كما في الآية المذكورة، والعطف ب (ثم) نحو قوله:
إني وقتلي سليما ثم أعقله
…
كالثور يضرب لما عافت البقر.
وبغير ذلك.
وقوله: "على اسم خالص" أعم من أن يكون ذلك الاسم مصدرا أو غيره، فالمصدر كما تقدم، وغير المصدر نحو قوله، وهو كعب الغنوي، أنشده سيبويه:
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي
…
ويغضب منه صاحبي بقؤول
جعل "ويغضب" معطوفا على "الشيء" أي ما أنا بقؤول للشيء: غير نافع،
ولأن يغضب، أي للسبب المؤدي إلى الغضب، وقال الآخر:
ولولا رجال من رزام أعزة
…
وآل سبيع أو أسوءك علقما.
ومثال إظهار (أن) في هذا قول الشاعر:
أبت الروادف والثدي لقمصها
…
مس البطون وأن تمس ظهورا.
وإنما لزمت (أن) هنا لأجل المشاكلة، من حيث كان الفعل لا يعطف على الاسم إلا إذا كان الاسم مشاكلا للفعل، كاسم الفاعل ونحوه، فإن لم يكن مشاكلا فلا بد من رد الفعل إلى الاسم، وذلك مع تقدير (أن).
وإنما/جاز إظهارها لأنها إذا ظظهرت مع الفعل كالاسم الصريح، ولذلك يطلق سيبيويه على (أن) أنها اسم، لما كانت في تقديره، فناسبت لذلك المعطوف عليه، وهو الاسم الصريح المتقدم، فجاز الإظهار لذلك، وفارق بذلك باب (ما تأتينا فتحدثنا) وهو المتحرز منه على هذا التفسير، لأن المعطوف عليه ليس بصريح، فلو أظهر لم يكن في اللفظ ما يعطف عليه، فامتنع.
ومن هذا تحرز بقوله: "على اسم خالص) لأن المصدر في (ما تأتينا فتحدثنا) غير خالص، بل هو مقدر تقديرا معنويا، فلا يجوز أن تظهر (أن)
تقدم ذكره عند ذكر الأجوبة.
والوجه الثاني: أن يكون معنى "الاسم الخالص" الذي لم يشبه الفعل، فكأنه خالص الاسمية، وعلى هذا حمله ابن الناظم، ومثاله ما تقدم، قال: فلو كان المعطوف عليه وصفا شبيها بالفعل لم يجز نصب الفعل المعطوف على ذلك الوصف، كما قد نبه عليه بقوله:"على اسم خالص" أي غير مقصود به معنى الفعل، قال ابن الناظم: واحترز بذلك من نحو: الطائر فيغضب زيد الذباب، فإن "يغضب": معطوف على اسم الفاعل، ولا يمكن أن ينصب، لأن اسم الفاعل مؤول بالفعل، لأن التقدير: الذي يطير فيغضب زيد الزباب، هذا ما قاله. وهو ممكن في التفسير، إلا أنه يرد على كلا التفسيرين إشكال.
أما الأول فلا شك أنه يدخل عليه النصب، بل وجوبه في مسألة (الطائر فيغضب زيد الذباب) ونحوها من مسائل عطف الفعل على الاسم الذي بمعناه، نحو: مررت برجل ضارب ويشتم، والنصب هنا غير سائغ، لأنه في المعنى كعطف فعل على فعل، كما تقدم في "باب العطف".
وأما الثاني: فيخرج له عن الحكم بالنصب المصدر المقدر ب (أن) والفعل، لأنه ليس باسم خالص عن قصد معنى الفعل، لان قولك: أعجبتني قراءتك وتفهم، في تقدير: أن تقرأ وتفهم، فلم يتمحض إلى جانب الاسم.
فإن قال: إن المصدر غير شبيه بالفعل وإن كان عاملا عمله، وإنما عمل بالنيابة لا بالشبه، إذ لا شبه له بالفعل كشبه اسم الفاعل به.
فالجواب أن هذا الاعتذار يدخل له في وجوب المنصب مسألة (الطائر
فيغضب زيد الذباب) لأن اسم الفاعل، بالألف واللام، إنما عمله بالنيابة لا بالشبه، لأنه في تقدير: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، والدليل على ذلك أنه يعمل وإن كان في معنى الماضي كما تقدم، فالإشكال وارد على التفسيرين/ معا.
ويمكن أن يجاب عن الأول بأن المصدر المقدر ب (أن) والفعل حاصل له حكم النصب كيف اعتقدته، فإن اعتبرت فيه تقدير الفعل فهو منصوب، فالمعطوف عليه مثله، وإن اعتبرت لفظ المصدر فهو صريح في الاسمية.
وأما اسم الفاعل فله أيضا جهتان:
جهة الاسمية الخالصة إذا قدرتها فيها، بحيث يكون نحو (قائم) في حكم: كاهل، وغارب، فلا شك على هذا التقدير في نصب الفعل بعده، نحو: يعجبني فاضل ويتكرم. وعلى هذا التقدير يصح قولك: عجبت من رجل ضارب ويشتم، بالنصب.
والأخرى جهة معنى الفعل، والعطف فيها في المعنى من "باب عطف الفعل على الفعل" وقد تقدم أن الفعل يعطف على الاسم الذي يعطي معنى الفعل، إعمالا لمعناه، وإهمالا للفظه، فكأنه ليس باسم صريح بذلك الاعتبار، فخرج له عن الحكم بالنصب.
وأما الثاني: من الإشكالين فهو قوي، والاعتذار عنه صعب، فلذلك كان التفسير الأول الذي جرى عليه الناس أولى، والله أعلم.
وقوله: "فعل" مرفوع بفعل مضمر، يفسره "عطف" تقديره: وإن عطف على اسم خالص فعل عطف، و"ثابتا" حال من (أن) وذكره لأن
تذكيره جائز، و"منحذف" معطوف عليه، على لغة: رأيت زيد أراد "أو منحذفا"
وشذ حذف أن ونصب في سوى
…
ما مر فاقبل منه ما عدل روى.
يعني أن حذف (أن) مع بقاء نصبها في غير المواضع المذكورة، حذفها فيه لا يجوز في الكلام، وما جاء منه فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه، ومما جاء من ذلك ما أنشد سيبويه لعامر بن جوين الطائي:
فلم أر مثلها خباسة واجد
…
ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله.
أراد: بعد ما كدت أن أفعله، وأنشد الكوفيون قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي.
وحكى الكسائي عن العرب: لا بد من تتبعها. وقيل: خذ اللص قبل يأخذك. وهذا نادر، وكلام العرب على خلاف ذلك، بل إذا حذفت (أن) رفعت الفعل، نحو قولهم:"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وعلى الرفع أنشد سيبويه قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد الذات هل أنت مخلدي.
ويقال: تفعل كذا أحسن، وتكرم الضيف خير لك، والمراد: أن تفعل، وأن تكرم كقول الله تعالى: } وأن تصوموا خير لكم} ومن ذلك في /أحد الوجهين قوله تعالى: } تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون} الآية بعد قوله: } هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} ففسر التجارة بالفعل، والمراد مصدره، فلما حذفت أداته وهي (أن) رفع، وهو كثير في كلام العرب.
وقوله: (فاقبل منه ما عدل روى) تنكيت على مذهب الكوفيين القائلين بجواز الحذف مع بقاء النصب، قياسا على ما شذ من ذلك، على عادتهم
في القياس على الشذوذات، فكأنه يقول: إن ما جاء من ذلك برواية العدل فإن حكمه أن يقبل قبولا، ويحفظ فقط، لأنه شاذ، لا أن يقاس عليه. وهذا رد من جهة السماع، والقياس أيضا غير قابل له، لأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء، فلم تقو أن تحذف ويبقى عملها، كما تحذف عوامل الأسماء، ويبقى عملها: وإنما حذفت (أن) فيما تقدم لوجه من القياس موافق للسماع، ولولا ذلك لما أعمل فيها القياس، وهذا ظاهر.
وجر "سوى ب (في) لأنها عنده متصرفة، وقد تقدم نصه على ذلك في باب "الاستثناء".