المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عوامل الجزم بلا ولام طالبا ضع جزما … في الفعل هكذا - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٦

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌عوامل الجزم بلا ولام طالبا ضع جزما … في الفعل هكذا

‌عوامل الجزم

بلا ولام طالبا ضع جزما

في الفعل هكذا بلم ولما.

واجزم بإن ومن وما ومهما

أي متى أين أين إذ ما.

وحيثما أنى وحرف إذ ما

كإن وباقي الأدوات أسما.

ابتدأ أولا بتعداد الجوازم للفعل، فذكر خمس عشرة أداة، وقسمها على قسمين:

أحدهما: ما يجزم فعلا واحدا، وهن الأربع المتقدمة: لا واللام، ولم، ولما.

ودل على ذلك من كلامه قوله: "ضع جازما في الفعل" وأول ما يثبت بهذه العبارة الفعل الواحد، وأيضا لما ذكر قوله:"واجزم بإن" فاستأنف ذكر الحكم بالجزم، ودل ذلك على أنه قسم آخر أعقبه بأنه يجزم فعلين بقوله:"فعلين يقتضين" فحصل أن ما تقدم في القسم الأول إنما يجزم فعلا واحدا، بسبب تقييده القسم الثاني، وإطلاقه في القسم الأول.

فأما (لا) فهي الناهية، لقوله:"طالبا" وهو حال من فاعل "ضع" كأنه قال: ضع جزما في الفعل ب (لا) و (اللام) حالة كونك طالبا بهما، ولا تكون طالباً

ص: 95

بهما إلا وهما أداتان للطلب.

وتحرز بكون (لا) للطلب من النافية، نحو: لا يقوم زيد، فإنها غير عاملة، لدخولها على الأسماء والأفعال، وعدم اختصاصها بالفعل.

ومثال ذلك قولك: لا تضرب زيدا، ولا يخرج من عندك، ومنه قوله تعالى: } لا تفتروا على الله كذبا}. و} لا تقولوا على الله إلا الحق} و} لا يسخر قوم من قوم} الآية.

وإنما قال: "طالبا" فأتى بلفظ الطلب الذي هو أعم من الأمر والنهي ليحصل له معناهما، لأن النهي طلب، وكذلك الأمر طلب.

وقد أتى بأداتين، إحداهما للنهي، والأخرى للأمر، فلو لم يأت بلفظ الطلب لاحتاج إلى أن يقول:(لا) للنهي، واللام للأمر، فآثر الاختصار.

وأيضا فيشمل لفظ الطلب الدعاء، نحو قوله تعالى: } ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا

ربنا ولا تحملنا} ونحو ذلك.

وكذلك قول جرير يهجو الأخطل:

بكى دوبل لا يرقئ الله دمعه

ألا إنما يبكي من الذل دوبل.

ص: 96

وأما اللام فهي لام الأمر نحو: ليقم زيد، وليكن كذا. ومنه قوله تعالى: } فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي}. وقوله: } فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه}.

وقرأ عثمان وأنس وأبي: "فبذلك فلتفرحوا" بالتاء.

ويشمل الطلب لام الدعاء نحو: لتغفر اللهم لنا. ومنه قوله تعالى: } ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك}. وقول أبي طالب:

فليكن المغلوب غير الغالب

وليكن المسلوب غير السالب.

ولم ينص الناظم على اشتراط ظهور اللام، ولا بد منه على مذهب البصريين، لكنه بإطلاقه يدل على ذلك، لأن الأصل في كل عامل الظهور، وأيضا فإنه أتى باللام مع: لا، ولم، ولما، وهن لا يضمرن أبدا، فكذلك اللام، وهو المذهب الصحيح، وذلك لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، وقد ثبت في حروف الجر أنها إنما تعمل ظاهرة، فكذلك حروف الجزم. وما جاء من ذلك

ص: 97

مخالفا للقاعدة فشاذ، نحو ما أنشده سيبويه لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:

محمد تفد نفسك كل نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا

وأنشد أيضا لمتمم بن نويرة:

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي

لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى.

وأنشد الفراء:

فلا تستطل مني بقائي ومدتي

ولكن يكن للخير فيك نصيب.

وأنشد أيضا:

من كان لا يزعم أني شاعر

فيدن مني تنهه المقادر

ص: 98

وذهب الكسائي إلى جواز ذلك، وعليه حمل قوله تعالى: } قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون} الآية/أي ليغفروا، وفي بيت متمم شاهد له أيضا على مذهب المؤلف. قال ابنه: لتمكنه من أن يقول: "ولبيك" وكذلك قوله:

قلت لبواب لديه دارها

تأذن فإني حمؤها وجارها.

لأنه لو لم يؤثر الجزم باللام المحذوفة لقال: (إيذن) بلفظ الأمر.

وهذا كله لا دليل فيه لشذوذه، والآية مجزومة على جواب الأمر، أي قل لهم: اغفروا يغفروا، وكذلك} قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} الآية.

ثم قال: } هكذا بلم ولما" يعني أن الفعل يجزم بهذين الحرفين أيضا، وهما لم ولما.

أما (لم) فهي أداة معناها النفي، وهي مختصة بنفي الماضي المنقطع، تقول: ندم زيد ولم تنفعه الندامة، أي ما نفعته عقيب ندمه،

ص: 99

بخلاف (لما) فإنها لنفي الماضي غير المنقطع، تقول: ندم ولما تنفعه الندامة إلى الآن، ف (لم) لنفي (فعل) و (لما) لنفي (قد فعل).

فمقال الجزم بلم قولك: لم يقم زيد. ومنه قوله تعالى: } هل أتى على الإنسان حسن من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}. فهذا نفي للماضي المنقطع، وكذلك قول عبد الله بن عبد الأعلى القرشي أنشده سيبويه:

وكنت إذ كنت إلهي وحدكا

لم يك شيء يا إلهي قبلكا

فيصح أن يقال هنا: لم يكن، ثم كان. وكذلك قول الطرماح:

لم يفتنا بالوتر قوم وللضيم

رجال يرضون بالإغماض

وأما (لما) فمثالها: لم يقم زيد. ومنه قوله تعالى: } أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله} الآية، أي ولم يعلم إلى الآن، فلا يقال في مثل هذا: لم يكن ثم كان. وقال تعالى: } كلا لما يقض ما أمره}. وقال الشاعر:

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلا فأدركني ولما أمزق

ص: 100

واعلم أن (لما) على ثلاثة أقسام: نافية، وهي الجاذمة المذكورة هنا، واستثنائية بمعنى (إلا) وهي نحو قولك: عزمت عليم لما فعلت. ومنه قوله تعالى: } وإن كل لما جميع لدينا محضرون} و} إن كل نفس لما عليها حافظ} على قراءة التشديد، وهي لابن عامر وعاصم وحمزة. وحرف وجوب لوجوب فيما مضى، نحو: لما قام زيد قام عمرو.

والثانية والثالثة: لاحظ للجزم فيهما، وكلام الناظم لا يقتضي اختصاص الجزم بالنافية دون غيرها، ففيه إيهام، إذ لم يبين ذلك، وكان حقه أن يبين.

والقسم الثاني من قسمي الجوازم ما يجزم فعلين، وهي إحدى عشرة أداة، وهي:

إن، ومن، وما، ومهما، وأي، ومتى، وأيان، وأين، وإذ ما، وحيثما، وأنى.

وهي قسمان: حروف، وأسماء، /وسيذكر ذلك.

فأما (إن) المكسورة الخفيفة فتقول فيها: إن يقم زيد يقم عمرو. ومنه قوله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}. وقوله: } إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}.

وهي أم الباب، ولذلك يجوز أن يليها الاسم في اللفظ في فصيح

ص: 101

الكلام، وإن كان على إضمار الفعل، فتقول: إن زيد قام أكرمته، ولا يجوز ذلك في غيرها إلا في الشعر، نحو ما أنشده سيبويه:

صعدة نابت في حائر .... أينما الريح تميلها تمل.

وأيضا فما عداها إنما يعمل عملها لتضمن معناها.

وأما (من) فهي اسم لمن يعقلـ ومثال الجزم بها قولك: من يكرمني أكرمه، قال تعالى: } ومن يؤمن بالله يهد قلبه} وقال: } ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله} الآية .. وأنشد سيبويه للأعشى:

ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى

مصارع مظلوم مجرا ومسحبا.

وتدفن منه الصالحات وإن يسئ

يكن ما أساء النار في رأس كبكبا

ص: 102

وأنشد أيضا لزهير:

ومن لا يقدم رجله مطمئنة

فيثبتها في مستوى الأرض تزلق.

وأما (ما) فهي اسم مبهم يقع على كل شيء، ومثال الجزم بها: ما تفعل أفعل مثله. قال الله تعالى: } ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}. وقال تعالى: } وما تفعلوا ممن خير يعلمه الله}.} وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم}. الآية. وقال حسان:

ما يقسم الله أقبل غير مبتئس

منه وأقعد كريما ناعم البال

وقال الكميت:

وما يك في الناس من نائل

جزيل فنائلهم أجزل.

وأما (مهما) فهي بمعنى (ما) وكذلك أصلها عند الخليل (ما) ثم أدخلت عليها (ما) فاستقبحوا تكرار اللفظ، فأبدلوا الألف الأولى هاء.

ص: 103

ومن الجزم بها قول الله تعالى: } وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين}. وقال زهير:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

ولو خالها تخفى على الناس تعلم.

وأما (أي) فنحو قولك: أي الناس يأتني أكرمه، وهي لتعميم أوصاف الشيء. ومن الجزم بها ما أنشده سيبويه من قول ابن همام السلولي:

لما تمكن دنياهم أطاعهم

في أي نحو يميلوا دينه يمل.

وقال لبيد:

فأي أوان ما تجئني منيتي

بقصد من المعروف لا أتعجب.

وأما (متى) فمثال الجزم بها قولك: متى تكرمني أكرمك. قال الحطيئة أنشده سيبويه:

ص: 104

/متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

وأنشد أيضا قول الآخر:

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأججا.

وأنشد أيضا لطرفة:

ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

وأما (أيان) فالسماع بها قليل، ولكنه جائز نحو: أيان تأتني آتك، ومنه قوله الشاعر:

ص: 105

أيان نؤمنك تأمن غيرنا ومتى

لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا

وقد جعلها الفارسي في "التذكرة" من قبيل ما لا يجازى به، نحو: كيف، وكم، وما ذاك إلا لندور السماع فيها.

وأما (أين) فمثال الجزم بها قولك: أين تجلس أجلس. قال الله تعالى: } أينما تكونوا يدرككم الموت}. وقال ابن همام السلولي أنشده سيبويه:

أين تضرب بنا العداة تجدنا

نصرف العيس نحوها للتلاقي

وأنشد أيضا:

صعدة نابتة في حائر

أينما الريح تميلها تمل.

وأما (إذ ما) فهي (إذ) التي هي ظرف لما مضى، زيدت عليها (ما) فصارت بمعنى (إن) للمستقبل، نحو: إذ ما تقم أكرمك.

ولا تكون شرطية دون (ما) أصلا، والخلاف في كونها حرفا أو ظرفا سيأتي بعيد هذا إن شاء الله.

ص: 106

ومن الجزم بها في السماع ما أنشده سيبويه من قول ابن همام السلولي:

إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي

أصعد سيرا في البلاد وأفرع

فإني من قوم سواكم وإنما

رجالي فهم بالحجاز وأشجع.

وأما (حيثما) فهي (حيث) لحقتها (ما) ولا تكون شرطية إلا مع (ما) فلذلك أتى بها مع (ما) كما فعل في (إذ ما) بخلاف سائر الأدوات، فإنها يكون منها جوازم بما دونها، فتقول: أين تكن أكن} وأينما تكونوا يدرككم الموت} ومتى ما يأتني آتك، ومتى تأتني آتك، ونحو ذلك، فكل ما قيده الناظم ب (ما) فلا يكون جازما إلا بها.

ومن الجزم بها قولك: حيثما تجلس أجلس، وأنشد ابن الناظم:

حيثما تستقم يقدر لك الله

نجاحا في غابر الأزمان.

ومما يشعر بالجزاء فيها قوله تعالى: }} وحيثما كنتم فولوا

ص: 107

وجوهكم شطره} فأتى بالفاء في الجواب.

وأما (أتى) فهي لتعميم الأحوال، وقد تأتي ظرف زمان أو مكان. ومثال الجزم بها قولك: أنى تفعل كذا أكرمك، ومنه قول لبيد أنشده سيبويه:

فأصبحت أتى تأتها تبتئس بها .. كلا مركبيها تحت رجلك شاجر.

وهنا انتهى ما أتى به من الأدوات الجازمة لفعلين. ودل ذلك على أن (كيف، وكم) لا يكونان منها، وكذلك (إذا).

أما (كيف) فمذهب البصريين عدم الجزاء بها، وخالف في ذلك الكوفيون، فجعلوها في الجزاء بها كمتى وأين، فيجوز عندهم أن تقول/ كيفما تكن أكن، وكيف تفعل أفعل.

وأما (كم) فذكر غير قطرب أنه جائز أن تقول: كم تلبس ألبس، ونحوه. ومعتمدهم القياس على ظروف الزمان والمكان لملاقاتها إياها في المعنى، إذ كان معنى (كيفما تكن أكن) في أي حال تكن أكن، كما أن معنى (أين تكن أكن) في أي مكان تكن أكن، ومعنى (متى تقم أقم) في

ص: 108

أي زمان تقم أقم.

وأيضا فكل اسم من أسماء الاستفهام قد استعمل في هذا الباب، إلا (كيف، وكم) وهما قابلان، من حيث وقعا مستفهما بهما، لاجتماع أدوات الشرط والاستفهام، في كون ما بهدهما غير موجب، فإذا دخل جميع أسماء الاستفهام في الشرط سماعا دونهما فالقياس سائغ فيهما، فيتدخلان.

وهذا قياس يهدمه السماع، إذ لم تفعل العرب ذلك، ولم يوجد لها الجزم بكيف، وإن كان الجزم بها في المعنى صحيحا، إذ جائز أن تقول: كيف تصنع أصنع.

ومما يدل على ذلك قوله تعالى: } ينفق كيف يشاء}. وقوله: } فيبسطه في السماء كيف يشاء} إذ المعنى: كيف يشاء بسطه بسطه، وكيف يشاء أن ينفق أنفق.

وإنما امتنع البصريون من الجزاء بهما لعدم السماع، لا لأجل القياس، إذ هو قابل للجزاء بهما.

قال الفارسي في "التذكرة" حين ذكر (كيف): ونظير ذلك في أن لم يجاز به (كم، وأيان) قال: ولو جوزي بكيف لكان جائزا، والمعنى عليه، قال: وعلى ذلك يدل كلام سيبويه، وأشار بذلك إلى قول سيبويه: وسألت الخليل- رحمه الله عن قوله: كيف تصنع أصنع. فقال: هي مستكرهة، وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأن معناها: على أي حال تكن أكن.

ص: 109

وقد فرق النحويون بين (كيف) وغيرها بأوجه، منها أن جوابها لا يكون إلا نكرة فتقول: كيف زيد؟ فيقال: سقيم، ولا تقول: السقيم، لأنه سؤال عن الحال، والحال نكرة، بخلاف (متى) وغيرها، فإن جوابها يكون معرفة ونكرة، فلما قصرت عن حال أخواتها لم يبلغ من قوتها أن تجري في الجزاء مجراها.

ومنها أن (كيف) قصرت عن نظائرها أيضا بأنها لا يخبر عنها، ولا يعود إليها ضمير، كما / يكون ذلك في: من وما، ومهما، وأي وهذا الوجه ضعيف، والمعتمد السماع.

وعلل المنع في (كم) بأنهم استغنوا عن الجزاء بها بالجزاء ب (ما) لدخول معناها تحت معنى (ما) إذا قلت: ما تأكل آكل عدده، وما تلبس ألبس عدده، فتقع على المعدودات وغيرها، لما فيها من الإبهام، كما استغنوا عن (وذر، وودع) بترك. وباب "الاستغناء" كثير.

وقد علل الفارسي أيضا بهذا النحو في (كيف) وذكر غيره أنهم استغنوا عنها بأني، لأنها تأتي بمعناها.

وأما (إذا) فلا يجازى بها أيضا في الكلام، كما أشعر به النظم، فلا يقال: إذا تقم أقم، وإنما الوجه الرفع، إلا أن يضطر شاعر إلى الجزم فيجوز، لأن معنى الجزاء حاصل فيها، وأنها للمستقبل ك (إن) ولأن وقتها غير معلوم، فأشبهت (إن) في جهالة الوقت، لأن الكون مع (إن) لا يدري كونه، فلا يدري وقت كونه.

ص: 110

ومما جاء مجزوما بها ما أنشده سيبويه من قول قيس بن الخطيم:

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها

خطانا إلى أعدائنا فنضارب.

فقوله: "فنضارب" دليل على جزم ما عطف عليه، وهو موضع "كان" وذلك يدل على جزم موضع "قصرت" وأنشد أيضا للفرزدق:

ترفع لي خندق والله يرفع لي

نارا إذا خمدت نيرانهم تقد.

وأنشد أيضا لبعض بني سلول:

إذا لم تزل في كل دار عرفتها

لها واكف من دمع عينيك تسجم.

قال سيبويه: فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكن الجيد قول

ص: 111

كعب بن زهير:

وإذا ما تشاء تبعث منها

مغرب الشمس ناشطا مذعورا.

وأنشد أيضا في الرفع لدى الرمة:

تصغي إذا شدها بالرحل جانحة

حتى إذا ما استوى في غرزها تثب.

وإنما كان الوجه الرفع، لأن (إذا) إنما تكون لما كان من المستقبل معلوم الوقوع، بخلاف (إن) فإنها إنما تكون لما يجهل وقوعه، ولذلك يجوز أن تقول: آيتك إذا احمر البسر، أو إذا غربت الشمس، ولا يصلح أن تقول: آتيك إن احمر البسر، أو إن غربت الشمس، ففارقت (إن) بذلك، فلم تجر مجراها، لكنها من حيث الاستقبال والمشاركة لها، فاعتبر ذلك في الضرورة.

ثم قال الناظم- رحمه الله (وحرف إذ ما كان) إلى آخره.

يعني أن هذه الأدوات التي تجزم فعلين على قسمين: أسماء، وحروف.

ص: 112

فأما الحروف فإن وغذ ما. أما /كون (إن) حرفا فمعلوم، ولا خلاف في ذلك، وأما كون (إذ ما) حرفا فهو موضع الإشكال، ولذلك اعتمد التعريف بذلك فيها، فقال:(وحرف إذ ما) فقدم الخبر تنبيها على الاعتناء بكونها حرفا لا اسما، أو أتى بها نكرة مبتدأ بها، والخبر ما بعدها، إشعارا بالحصر في المعنى، أي إنما هي حرف لا اسم، وشبهها ب (إن) التي هي شهيرة في الحرفية، ونبه بهذا الحصر على الخلاف الواقع في (إذما).

فمذهب سيبويه أنها حرف، كما ذهب إليه الناظم، وكان أصلها (إذ) التي هي ظرف زمان لما مضى، فضمت إليها (ما) وصيرتا حرفا واحدا يدل على الاستقبال، وصار التركيب ناقلا لها.

عن حكم أصلها، كما كان التركيب في (إنما) و (قلما) ونحوهما ناقلا لها. عن الحكم الأول. ولو كانت باقية على أصلها لكانت ظرفا لما مضى، ولم يصح إن تقع للجزاء.

وأيضا فلا دليل يدل على بقاء الاسمية ومعناها كمعنى (إن) فالحمل على ما ظهر أولى، وهو أصل مبين في الأصول، ولا نكر في أن تكون الكلمة قبل التركيب من قبيل، ثم تنتقل بالتركيب إلى قبيل آخر، كما في (قلما) ونحوه، وعلى ما ذهب إليه الإمام جمهور النحويين.

ص: 113

ونقل عن المبرد وابن السراج والفارسي القول باسميتها كما كانت في الأصل، وأنها بمعنى: أي حين، أو بمعنى: أي مكان. ورد عليهم ابن خروف وغيره بالاستقبال وبقوله:

- إذ ما تريني اليوم موجى ظعينتي*

والمراد، لا محاله: إما تريني، فدخول "اليوم" يفسد معنى: أي حين، بلا بد، وقد استدل لمذهبه بأن نقل (إذ) مع (ما) للاستقبال لا يخرجها عن وضعها، فإنها قد تأتي للاستقبال، حكى ذلك عن أبي عبيدة، واستدلوا على ذلك بقوله

يجزيه رب العالمين إذ جزى

جنات عدن في العلالي العلى

وأيضا فلو كان التركيب مع (ما) مخرجا عن الاسمية إلى الحرفية لكان مخرجا ل (حيثما) عن الاسمية، وذلك غير صحيح بلا اتفاق، فإنها عند الجميع اسم لا حرف، فكذلك ينبغي أن تكون (إذ ما).

وأجيب عن الأول بأن استعمال (إذ) في الاستقبال غير معروف، وما احتج به لا حجة فيه، لاحتمال حملها على المضي.

وعن الثاني بالفرق بين (إذ ما) و (حيثما) أن (حيثما) لم تزل عما كانت عليه قبل من الدلالة على المكان، بخلاف (إذ ما) فإنها كانت قبل دخول (ما)

ص: 114

عليها اسم زمان ماض، فلما دخلت/ (ما) عليها صيرتها تدل على غير ما كانت تدل عليه، وهو مستقبل، ولم تظهر فيها أمارة اسمية، فلذلك ادعى في (حيثما) البقاء على ما كانت عليه، بخلاف (إذ ما) وهذا واضح.

وأما الأسماء فما عدا ما ذكر، وذلك قوله:"وباقي الأدوات أسما" أي باقي الأدوات الجازمة لفعلين أسماء لا حروف، وإن كانت مع ذلك تدل على معنى (إن) لكن أمارات الأسماء موجودة.

والباقي المذكور تسع أدوات، كلها قد تضمن معنى (إن) وبذلك عملت عملها، وهي على خمسة أضرب: اسم محض، واسم يشبه الظرف، وظرف زمان، وظرف مكان، وجار على حكم ما صاحبه.

فالأول: ثلاث أدوات، وهي: من، وما، ومهما.

والثاني: (أنى) إذ هي في معنى (كيف) وقد تستعمل ظرفا كقوله: } أنك لك هذا}. أي من أين لك هذا؟ ويلحق بها (كيف) عند من ألحقها.

والثالث: (متى) و (أيان) ويلحق بها (إذا) في الشعر.

والرابع: (حيثما) و (أين).

والخامس: (أي) فهي بحسب ما تضاف إليه، إن أضيف إلى اسم محض فهي اسم، أو إلى ظرف فهي كذلك، نحو قولك: أيهم تكرمه يكرمك، وأي مكان تجلس أجلس فيه، وأي يوم تسر أسر معك.

وفي قوله: "وباقي الأدوات أسما" إشعار بانحتام اسمية (مهما) عنده، وهو كذلك عند النحويين، لثبوت اسميتها بإعادة الضمير عليها في

ص: 115

نحو قوله تعالى: } وقالوا مهما تأتنا به من آية} الآية، إلا أبا زيد السهيلي، فإنه زعم أنها تكون اسما في الموضع الذي يعود عليها فيه ضمير كما في الآية، وتكون حرفا في الموضع الذي لا يعود عليها فيه ضمير، كقول زهير بن أبي سلمى:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

ولو خالها تخفى على الناس تعلم.

قال: هي هنا حرف، لأنها لا موضع لها من الإعراب، فهي بمنزلة (إن) قال: وإنما كانت كذلك لأنها مركبة من (ما) الشرطية و (ما) الزائدة، فإذا غلب عليها حكم الحرف الزائد كانت حرفا، وإذا غلب عليها حكم (ما) الشرطية صارت اسما. ثم فرق في الدعوى بينها وبين (حيثما) و (كيفما).

ورد عليه الشلوبين بأنه بني في البيت على أنها ليس لها فيه موضع من الإعراب، وإنما ذلك إذا كان "من خليقة" فاعل "كان" إن كانت تامة، أو اسمها إن كانت ناقصة، و "من" زائدة، و"عند امرئ" خبر الناقصة، أو متعلق بها إن كانت تامة، وهذا لا ضرورة تدعو إليه إذا ثبت اسميتها، ويمكن أن يكون/لها في البيت موضع من الإعراب، بتقدير كون مرفوع

ص: 116

(كان) ضميرا عائدا على "مهما" وأنثه حملا على المعنى، و"من خليقة" تفسير معنى "مهما" وهذا صحيح. وما ذكره من التوحيد إنما يصح مع موافقة السماع، وهو لم يوافقه فلا يلتفت إليه.

وقوله: "وحرف إذ ما" مبتدأ وخبر، والخبر مقدم، والأصل: وإذ ما حرف، ولكنه قدمه لما ذكر من التنكيت على مذهب المخالف، ويجوز أن تكون "حرف" مبتدأ خبره ما بعده، وابتدأ بالنكرة لما فيها من معنى الحصر المقصود، كقولهم:"شر آهر ذا ناب" أي: ما أهره إلا شر، فكذلك المعنى هنا.

فعلين يقتضين شرط قدما

يتلو الجزاء وجوابا وسما.

ذكر في هذين الشطرين أولا أن هذه الأدوات المذكورة تطلب فعلين اثنين فالضمير في قوله: "يقتضين" عائد على لأدوات، والاقتضاء هنا بمعنى الطلب، أي يطلبن فعلين، والفعلان المطلوبان هما: فعل الشرط، ولا بد من كونه مجزوما في اللفظ إن كان مضارعا، أو في الموضع إن كان ماضيا، لأنهن من الأدوات الجوازم، وفعل الجواب، ولا بد أيضا من الجزم فيه، أو في موضعه.

وفي قوله: "فعلين يقتضين" إشعار بأن الأدوات المذكورة هي العاملة الجزم في الفعلين معا، لأنه وضعها جوازم، ثم ذكر محل الجزم الذي تطلبه، فذكر فعلين، فدل على أن الجزم فيهما معا بالأداة الداخلة على جملة الشرط، وهذا الذي ذهب إليه الناظم هو أحد المذاهب الأربعة في المسألة.

ص: 117

فمن النحويين من ذهب إلى جزمهما بالأداة وحدها كما تقدم.

ومنهم من ذهب إلى أن الفعل الأول مجزوم بها، والثاني: مجزوم بفعل الشرط، فليس على هذا المذهب بجازمة إلا فعلا واحدا.

ومنهم من ذه إلى أن الأداة هي الجازمة للأول وحده، وأما الثاني فمجزوم بالأداة وما عملت فيه، وهو فعل الشرط. وعليه حمل قول الخليل: إنما إذا قلت: إن تأتني آتك، / ف (آتك) انجزمت ب (إن تأتني) وقد يظهر من كلام سيبويه في قوله: وينجزم الجواب بما قبله.

وذهب الكوفيون إلى أن جزم فعل الجواب على الجوار، لمجاورته المجزوم، وهو فعل الشرط.

والأصح من هذه المذاهب مذهب الناظم، وقد أشعر في كلامه بالعلة التي لأجلها ذهب إلى ما ذهب إليه، وذلك أن العمل أصله الطلب، فكل عامل/إنما يثبت له العمل إذا ثبت طلبه له، وإذا كان يطلب أكثر من عامل واحد فلا بد من أن يقتضي جميع ما يطلبه، كالفعل اللازم، والمتعدي إلى واحد، أو إلى اثنين، أو ثلاثة. وبهذا احتجوا في القول بعمل المبتدأ في الخبر، وليس بفعل ولا مشتق من فعل، وهو ظاهر.

لكن شرط العمل بعد ثبوت الطلب أمران:

أحدهما: الاختصاص وهو في الحقيقة، المحقق للطلب.

والثاني: أن لا يصير مع مطلوبه كالشيء الواحد، فالعلة هي الطلب، وهو المناسب للعمل وما عدا ذلك شرط.

ص: 118

وهذه المسألة موضع بيانها الأصول، وقد ذكرها النوحويون، وإليها الإشارة بقول الناظم:"فعلين يقتضين" فآتي بعلة العمل، ليشعر أن الأداة هي الطالبة للفعلين، وإذا كان كذلك، وحصل شرطا العمل، وهما الاختصاص، وألا يصير الطالب كجزء من المطلوب- ثبت له العمل بلا شك، وثبت أن الفعل ليس بعامل في الفعل، لأن الفعل غير طالب للفعل.

فإن قيل: إنه طلبه لما كان شرطا- فيقال: فالشرط هو الطالب لا الفعل، وكذلك يقال في قول الخليل: إن الجملة، من الأداة والفعل، هي العاملة، لأن الفعل دخيل في الطلب، والأداة هي الطالبة.

وأما مذهب الكوفيون فضعيف جدا، فلا معنى للاشتغال برده.

وقد خالف الناظم هنا مذهبه في "التسهيل" إذ جعل الفعل الأول هو الجازم للثاني، ومذهبه هنا أسد.

واعترض هذا المذهب بأوجه، منها أن الأدوات لا تقتضي الفعلين معا، وإنما تقتضي الفعل الأول، والفعل الأول هو الذي يقتضي الثاني، فينبغي أن يكون هو العامل، وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب عنه.

أيضا، فالجزم في الفعل نظير الجر في الاسم، وليس في الحروف الجارة ما يعمل جرين دون إتباع، فوجب أن يكون عامل الجزم كذلك، تسوية بين النظيرين. وهذا الاعتراض ساقط مع أصل العمل، وهو الطلب.

وأيضا، فقالوا: لا يوجد عامل يعمل في معمولين عملا متفقا، قيل: إنما

ص: 119

يعمل عملاً مختلفا. وهذا لا يلزم (لأنه) إذا قام الدليل، فلا يلزم إيجاد النظير. وقد بسط هذا المعنى ابن جنى في "الخصائص".

وقد اعترضوا بغير ذلك مما لا يثبت مع تلك القاعدة.

والغالب في هذا النظم إنه إذا خالف / فيه "التسهيل" فما ذهب إليه هو الأصح، والأجرى على القواعد. وقد مضى من ذلك أشياء.

ثم قال: "شرط قدما يتلو الجزاء""شرط" هنا مبتدأ، "وقدم" خبره، وهي جملة مستأنفة لا تعلقلها من حيث اللفظ بما تقدم، إلا إن قدر حذف العاطف. وكذا قوله:(يتلو الجزاء).

وأراد بهذا الكلام أن جملة الشرط لها صدر الكلام، فلا يجوز إلا أن تأتي بها أولا، ثم تأتي بالجواب، فتقول: إن تكرمني أكرمك، و "إن تكرمني" هي جملة الشرط، و"أكرمك" هو الجزاء.

فإن قلت: أكرمك إن تكرمني، كان ذلك ممتنعا عند الناظم، وكذلك إذا قلت: أنا مكرمك إن أكرمتني.

ولكون الشرط له صدر الكلام لم يجز تقديم معمول معموله عليه، فلا يقال: متاعك إن أخذت أعطكه، ولا يجوز النصب في الاسم المبتدأ قبله على إضمار الفعل من "باب الاشتغال" نحو: زيد إن تكرمه يكرمك، وقد تقدم ذلك في "باب الاشتغال".

فعلى هذا إذا وجد ما هو جواب من جهة المعنى قد تقدم على الشرط فليس به، وإنما هو دليل عليه كقوله تعالى: } قد افترينا على الله

ص: 120

كذبا إن عدنا في ملتكم} وقوله: } أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين}. ونحو ذلك.

وخالف في هذا الكوفيون والمبرد وأبو زيد الأنصاري، فجعلوا الجواب جائز التقدم، وزعموا أن ما تقدم على الشرط فهو الجواب حقيقه، وقد احتج أبو زيد على صحة ما ذهب إليه بمجئ الجواب قبل الشرط مقرونا بالفاء في نحو قول الشاعر، وهو قيس بن مسعود:

فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت

فطعنة لاغس ولا بمغمر.

وعلى هذا أيضا حمل قول عمران بن حطان:

فتمسي صريعا ما تقوم لحاجة

ولا تسمع الداعي ويسمعك من دعا.

قال: أراد: ومن دعا يسمعك.

ورد هذا المذهب بأن حرف الشرط دال على معنى في الشرط والجزاء، وهو الملازمة بينهما، فوجب تقديمه عليهما، كما وجب تقديم سائر حروف المعاني على ما فيه معناها.

ص: 121

وأما البيت الأول فلا حجة فيه، لاحتمال كون الفاء لعطف ما بعدها على شيء تقدم قبلها، وإلا فكل ما جاء في كلام العرب، مما ظاهره تقدم الجواب، لم يأت بالفاء إلا أن تكون عاطفة، ولا بد في الجواب من لافاء إذا كان مثل قوله: } قد افترينا على الله كذبا} الآية.

وأما البيت/الثاني: فعلى تسكين العين تخفيفا، كما سكنت القاف في قوله: } ويتقه} في قراءة حفص. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.

وقوله: } يتلو الجزاء} أي الجزاء يتلو الشرط، وأراد بالشرط على هذا التفسير جملة الشرط، لا أداة الشرط وحدها، ويحتمل هذا الكلام تفسير أثانيا، وهو أن يكون الشرط في كلامه يراد به الأداة، ويعني أن أدوات الشرط لها صدر الكلام، فلا يجوز أن يتقدم عليها معمولها وهو فعل الشرط، ولا معمول معمولها ويكون ذلك مفيدا أمرين:

أحدهما: أن يكون تنكيتا على مذهب الكسائي القائل بجواز تقديم: طعامك إن آكل أكرمك، وتنكيتا على الكسائي والفراء في جواز تقديم ما انتصب بالجزاء، نحو: زيدا إن يقم تضرب. ودليلهم على ذلك أن الجزاء حقه التقديم على (إن) كقولك: أضرب إن تضرب، وكان حقه الرفع، لكنه لما تأخر انجزم بالجوار، ودليل ذلك قوله أنشده سيبويه:

ص: 122

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع

فالتقدير: تصرع إن يصرع أخوك، وغير ذلك من الأبيات المرفوع فيها الفعل، وإذا ثبت له الصدربة والشبة بأدوات الاستفهام التي لها الصدر، لكون كل واحد منهما يقتضي إبهام وقوع الفعل، ولذلك كام عندهم كل ما يستفهم به يصح فيه أن يكون شرطا.

وأما أن أصل الجواب التقديم فليس كذلك، بل الأمر بالعكس، لأن الشرط سبب في الجزاء، والسبب رتبته التقديم على المسبب، وإذا كان كذلك فمعموله أولى بالتأخير.

وأما الأبيات فسيأتي توجيهها إن شاء الله تعالى.

والأمر الثاني: أن يكون مبنيا أن اسم الشرط إذا كان معمولا لفعله فإنه لا يجوز أن يتقدم الفعل على الاسم، وإن كان معمولا، وحق المعمول التأخير عن عامله في الرتبة، كما تقرر في الكتب المبسوطة، فلا يجوز أن تقول في نحو (أي رجل تكرم يكرمك): تكرم أي رجل يكرمك، لأن قاعدة تأخير المعمول فيهه غير معتبرة، لمكان تضمن معنى (إن) التي لها صدر الكلام، فلزم تقديم المعمول لأجل ذلك، قال تعالى: أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقال ابن همام:

*في أي نحو يميلوا دينه يمل*

ص: 123

وقال الآخر:

*متى تأته تعشو إلى ضوء ناره*

/ ف "متى" معمول ل"تأته" وقد تقدم عليه. ومثل ذلك كثير، فكأن الناظم خاف أن يتوهم جواز التقديم في مثل هذا اعتبارا بالأصل، فنبه على جواز التقديم، فكأنه يقول: أداة الشرط لا يتقدم عليها شيء من المعمولات ولا من العوامل.

فإن قيل كيف لك بمنع التقديم وأنت تقول: زيدا رأيته يضرب، وزيدا متى رأيته تكرم، وما أشبه ذلك، فتقدم معمول "تضرب" وهو جواب الشرط، ولا يضر كونه مرفوعا، فإن الرفع هنا سائغ، لمكان مضي فعل الشرط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فيظهر أن هذا عين ما رددت على الكسائي، وهو جائز عند سيبويه والبصريين نص عليه سيبويه في أبواب "الاشتغال": وقبله الجمهور، وإذا كان كذلك انهدم مما بنيته في هذا التفسير الأول.

فالجواب أن هذه مغلطة، لأن سيبويه إنما أجاز ذلك حيث جعل قولك:"تضرب" في: زيدا إن رأيته تضرب، دليلا لي الجواب، أصله التقديم، لا أنه الجواب بعينه، ولذلك إنما أجازه حيث يكون فعل الجواب مرفوعا. وإما إذا كان مجزوما فهو عنده ممنوع، نص على هذا أيضا، واعتل للمنع بأنه جواب، فلا يتقدم ما في حيزه على الشرط، فالفعل المرفوع دليل على الجواب، فجاز تقديم معموله، لأن جملة الشرط صارت

ص: 124

إذ ذاك كجملة الاعتراض. وهذا صحيح.

فإذا لم يتقدم معمول الجواب على الشرط فيما أجازه سيبويه أصلا.

وإذا تقرر أن مراد الناظم بقوله: "شرط قدما" هذا التفسير الثاني بقي التفسير الأول كأنه ساقط الاعتبار، فيعترض به.

والجواب أن التفسير الأول على هذا دل على معناه من كلام الناظم قوله: "يتلو الجزاء" أي إن الجزاء يتلو ذلك، أي يتبع ما ذكر من الشرط وفعله، فإنه لا يخلو أن يريد أنه يتلو أداة الشرط وحدها، أو أداة الشرط مع فعله، فالأول لا يصح، لأنه يصير الجواب فاصلا بين أداة الشرط ومعمولها وهو أجنبي منهما، وإذا فسد هذا ثبت يتلو أداة الشرط مع فعلها، فيكون مفيدا لمرتبة الجزاء، وإنه بعد الشرط لا قبله.

وما أوهم خلاف ذلك فدليل على الجواب وليس إياه، على ما مضى تفسيره. ولا يبعد أن يقصد الناظم هذا التفسير الأخير، كما تقدم في نظائره من المقاصد الخفية. والله أعلم.

وقوله "وجوابا وسما" ضمير "وسم" عائد على "الجزاء" وهو أقرب مذكور، إن الجزاء/ وسم بلفظ الجواب، فيطلق عليه أنه جزاء، وأنه جواب وكذا قال في "التسهيل": وتسمى الجملة الثانية جزاء وجوابا، لأنها قد أدعي فيها أنها لازمة لما جعل شرطا، كما يلزم في عرف الناس، والجواب السؤال.

ص: 125

والجزاء: الإساءة أو الإحسان، فسميت بذلك على الاستعارة والتشبيه، والواسم بهذين الوسمين هم النحويون أهل الاصطلاح.

وقوله: "وسم" أي جعل لفز الجواب سمة على تلك الجملة، و"جوابا" مفعول ثان ل "وسم" لأنه بمعنى (سمى).

ثم أخذ يذكر كيفية مجئ الفعلين، فعل الشرط، وفعل الجزاء، فقال:

وماضيين أو مضارعين .. تلغيهما أو متخالفين

ويعد ماض رفعك الجزا حسن

ورفعه بعد مضارع وهن

فقسم الأمر فيهما إلى أقسام ثلاثة، تصير في التحقيق أربعة:

أحدهما: أن يكونا معا ماضيين، فتقول: إن قام زيد قام عمرو، وإن أكرمتني أكرمتك. ووقوع الماضي هنا ليس بالأصل، لأن الفعلين معا مستقبلان في المعنى بسبب أداة الشرط، ولكن لما كان الفعلان معا قد علم، باقتران (إن) أو إحدى أخواتها، استقبالهما لم يعتبر بالصيغة، فإن الصيغة عندهم: إنما يحافظ عليها في الدلالة على الزمن المخصوص إذا كان الموضع محتملا، وأما إذا كان ثم ما يعين الزمان فلا مبالاة بالصيغ.

هكذا يقول ابن السراج والفارسي في هذا النوع. وقد اعترضه الشلوبين بكى ولام الجحود، واختار أن سبب الإتيان بالماضي أمر معنوي، وهو تحقيق الأمر، وأنه صار في الاعتقاد كالواجب، والعرب تفعل مثل هذا، كقوله تعالى: } أتى أمر الله فلا تستعجلوه}.

ص: 126

ولما كان الجواب مرتبطاا بالشرط، وأنه لا بد من وقوعه عند وقوعه، أتوا بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع.

والثاني أن يكون الفعلان مضارعين، فتقول: إن تكرمني أكرمك، وإن تحسن إلي أحسن إليك. وهذا هو الأصل في الباب والحقيقة، إذا الأصل مطابقة اللفظ للمعنى، والمعنىى مع هذه الأدوات على الاستقبال فالمطابقة أولى.

والثالث: التخالف، ويعني له أن يكون الفعلان مختلفين في المضي والمضارعة لا متفقين، فيكون أحدهما ماضيا والآخر مضارعا، ولا يريد بالتخالف التخالف المطلق/ فيقع مثلا الماضي مع الأمر، أو المضارع مع الأمر، بل إنما يريد التخالف بين ما ذكر، وذلك الماضي والمضارع.

وللتخالف هنا صورتان:

إحدهما: أن يكون فعل الشرط ماضيا، وفعل الجزاء مضارعا، وذلك نحو قولك: إن قام زيد يقم عمرو، وإن أكرمتني أكرمك. ويجوز في الجزاء هنا وجهان: الرفع والجزم كما نذكره إثر هذا.

وهذا الوجه قليل بالإضافة إلى التوافق، ومنه قوله تعالى: } من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها}. وقوله تعالى: } من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها}.

ص: 127

وأنشد في الكتاب للأسود بن يعفر:

ألاهل لهذا الدهر من متعلل

على الناس مهما شاء بالناس يفعل.

وأنشد للفرزدق:

دست رسولا بأن القوم إن قدروا

عليك يشفوا صدورا ذات توغيز.

ومنه في (إذا) قول الفرزدق:

ترفع لي خندف والله يرفع لي

نارا إذا خمدت نيرانهم تقد.

وقول الآخر السلولي:

إذا لم تزل في كل دار عرفتها

لها واكف من دمع عينيك تسجم.

لأن (لم) وما بعدها في تقدير فعل ماض.

والصورة الثانية، وهو رابع الأقسام، أن يكون فعل الشرط مضارعا وفعل الجزاء ماضيا، نحو: إن تقم قمت، وإن تكرمني أكرمتك.

ص: 128

واقتضى كلام الناظم، حيث لم يفرق بين هذه الوجوه الأربعة، أن الجميع جائز، ولا فصل لأحدهما على الآخر في القول بالقياس، وقد قال المتأخرون: إنه ضعيف قال الشلوبين: ولا أحفظ منه إلا بيتا واحدا، وهو قوله:

من يكدني بشيء كنت منه

كالشجا بين حلقه والوريد.

وضعفه من جهة المعنى، وذلك لأن الإتيان بالماضي في الشرط أو في الجزاء إنما القصد به تحقيق الأمر، وأنه كالواقع، فكيف يجعل مع هذا القصد مرتبا على فعل لم يكن، وإنما هو بعد مستقبل، بدليل الإتيان بالمضارع فيه، فضعف لذلك.

وأيضا فتكون أداة الشرط قد هيئت للعمل بجزمها الفعل الأول، ثم قطعت عنه، بخلاف ما إذا كان الأمر بالعكس، فإن فعل الشرط إذا لم يعمل فيه الشرط فليس فيه تهيئة للعمل وقطع عنه، لأنه إذا عمل في الثاني علم أنه قد عمل في الأول من باب أولى، وكذلك إذا كانا معا ماضيين لا يلقى/ فيه محذور، لاستواء العمل في الموضعين، فهذا معنى توجيه الشلوبين.

ولم ير الناظم ذلك، فإنه قد جاء عنده في النثر الفصيح، وفي النم الذي قوته قوة النثر، فمن النثر، فمن النثر ما في الحديث من قوله

ص: 129

صلى الله عليه وسلم: "من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "إن أبا بكر رجل أسيف، إن يقم مقامك رق"

ومن النظم قول الشاعر:

إن يسمعوا سيئا طاروا به فرحا

مني وما سمعوا من صالح دفنوا.

وقول الآخر:

إن تصر مونا وصلناكم وإن تصلوا

ملأتم أنفس الأعداء إرهابا.

وصاحب البيت الأول متمكن من أن يقول بدل "إن يسمعوا": إن سمعوا. وصاحب البيت الثاني متمكن من أن يقول بدل "وصلناكم": نواصلكم، وإن تصلونا تملؤوا" فلما لم يقولوا ذلك مع إمكانه وسهولة تعاطيه علم أنهم غير مضطرين.

ص: 130

قال المؤلف: وقد صرح بجواز ذلك الفراء، وجعل منه قوله تعالى: } إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} لأن "طلب" بلفظ الماضي، وقد عطف على "ننزل" وحق المعطوف أن يصلح لحلوله محل المعطوف عليه.

هذا جملة ما احتج على مذهبه، ولعله يقول في قوله:

*من يكدني بسيء كنت منه*

أنه صالح لأن يقال فيه: من يكدني بسيء أك منه" فيجري على حكم الاختيار، والحق أنه نادر ليس في رتبة ما تقدم كما يقول النحويون. كل ما احتج به المؤلف جار على طريقته، وقد تقدم له نظائر من هذا النوع.

وقوله: "وماضيين" مفعول ثان ل (تلفيهما) أي تلفيهما ماضيين أو مضارعين، وألفى: بمعنى وجد.

ثم عطف بذكر بعض الأحكام اللاحقة لبعض الأقسام فقال: "وبعد ماض رفعك الجزا حسمن".

يعني أن فعل الجزاء يحسن رفعه، ولا يكون حينئذ إلا مضارعا، وذلك إذا كان فعل الشرط فعلا ماضيا.

وقوله: "حسن" يقتضي أنه لا يقتصر فيه على الرفع، بل يجوز فيه وجه آخر وهو الجزم، ولم يحتج إلى ذكره لأنه معلوم الدخول في حكم الجزم، لما تقدم من إطلاقه جزم الفعلين، وإنما ذكر ما لم يتقدم له، فتقول في الرفع: إن

ص: 131

أكرمتني أكرمك، وإن قمت أقوم، ومنه ما أنشده سيبويه:

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم.

وقال الآخر:

فإن كنت لا يرضيك أن لا تردني

إلى قطري لا إخالك راضيا.

/ وقال الآخر:

*وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه*

ولا يلزم هنا أن يكون فعل الشرط ماضيا لفظا ومعنى تقدم في الأمثلة بل يجوز أن يدخل له في عبارته ما كان ماضيا معنى لا لفظا، وذلك المضارع إذا دخلت عليه "لم" كقولك إن لم تكرمني أكرمك. ومنه

ص: 132

قول أعشى باهلة:

لا يأمن الناس ممساه ومصبحه

من كل أوب وإن لم يأت ينتظر.

والقوافي مرفوعة. وعلى هذا يكون الماضي في قوله: "وماضيين أو مضارعين" أعم من أن يكون ماضيا لفظا ومعنى، أو معنى دون لفظ، فيشمل ذلك قولك: إن لم تكرمني لم أكرمك، فهما ماضيان، وكذلك إن أكرمتني لم أكرمك، أو بالعكس، فإنهما ماضيان.

وإنما جاز رفع الفعل الواقع جابا، والشرط ماض، من جهة أنه مقدر التقديم، وليس عندهم في موضعه، فهو في الحقيقة دليل الجواب، كما قلت: أكرمك إن أكرمتني، ولو قدرت أنه نفس الجواب لوجب الجزم، فقلت: إن أكرمتني أكرمك.

والذي سوغ ذلك مجئ فعل الشرط ماضيا، لأنه إذا كان ماضيا لم يظهر فيه عمل الجازم، فحسن الإتيان بعده بما لا ينجزم، على حد ما لو أتى قبل الشرط.

ألا ترى انه لا يجوز: آتيك إن تأتني، إلا في الشعر، ويجوز: آتيك إن أتيتني

فهذا مثله، وذلك لأن العرب مما يكرهون أن تعمل (إن) أو غيرها من

ص: 133

أدوات الجزاء في لفظ الفعل جزما، ثم لا يكون لها جواب (ينجزم)، فعلى هذا الوجه جاز الرفع، فالجزم والرفع على وجهين مختلفين عند سيبويه.

وأما المبرد فزعم أنه هو الجواب بنفسه، وأنه على إرادة الفاء، ولم يرتض مذهب سيبويه، من جهة أن الفعل عنا في موضعه وهو الجواب، فادعاء كونه مقدما إخراج له عن موضعه، ودعوى لا دليل عليها.

وهذا المذهب ظاهر من كلام الناظم إذ قال: "وبعد ماض رفعك الجزا حسن" فجعله نفس الجزاء، ولو أراد أنه دليل عليه يقال: رفعك الفعل، أو نحوه مما لا يفهم له به أنه جزاء بنفسه.

والذي صححه الناس مذهب غير المبرد، لأن حذف الفاء من الجزاء لا يكون إلا في الشعر، وهذا كثير في الكلام، وذلك دليل على أنه ليس من ذلك القبيل، واحتجوا أيضا بغير هذا، ولكن قد يترجح مذهب المؤلف بما ذكر، وبان الجواب هما يغتفر فيه حذف الفاء، لأنه لما لم يظهر في الفعل الشرطي جزم كان الجواب كجواب (إذا) رفعا، تشبيها ل (إن) ب (إذا) لما لم ينجزم بها فعل الشرط لم ينجزم فعل الجواب.

وأما إن كان فعل / الشرط مضارعا فإن الجواب إذا كان مضارعا إنما بابه الجزم كما تقدم، ولا يجوز فيه الرفع إلا نادرا، وهو مراد الناظم بقوله:"ورفعه بعد مضارع وهن".

ص: 134

الضمير في "رفعه" عائد على "الجزاء" على حذف المضاف، يعني أن رفع الفعل المضارع الواقع جزاء، إذا كان فعل الشرط مضارعا، ضعيف نادر، لم يقل: إنه شاذ، كما قال غيره: من أنه لا يجوز إلا في الشعر، لأن مثل هذا عنده ثبت في النثر، حكى ابن جنى في "المحتسب" عن طلحة بن سليمان أنه قرأ: } أينما تكونوا يدرككم الموت} برفع "يدرككم".

وفي الشعر من هذا جملة صالحة، نحو قول جرير بن عبد الله البجلي أنشده في الكتاب:

يا أقرع بن حابس با أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع.

وأنشد أيضا للعجير السلولي:

وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي

ولكن متى ما أملك الضر أنفع.

والقوافي مرفوعة. وقال الآخر:

ص: 135

فقلت له احمل فوق طوقك إنها

مطبعة من يأتها لا يضيرها.

وهذا النوع قليل.

ووجه ما أشار إليه من ضعفه ما تقدم من أن العرب تكره أن يظهر لأداة الشرط عمل في اللفظ، ثم لا يكون له جواب مجزوم، وهكذا اجرى الأمر في كلامهم، على ما أخبر به سيبويه عنهم، وهو معنى ما علل به المسألة على الجملة.

وأما تأويل الكلام فعلى أحد وجهين:

أحدهما: أن يكون على التقديم والتأخير، فيكون الفعل المرفوع دليل الجواب، لا جوابا حقيقة، كأنه قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك، وكذلك: أنفع متى ما أملك الضر، ولا يضيرها من يأتها، كما تقدم في توجيه المسألة قبل هذا، فيكون مثل ما أنشده سيبويه:

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

ص: 136

أي: والمرء ذئب إن يلق الرشا. وما أنشده أيضا لذي الرمة:

وأنى متى أشرف على الجانب الذي

به أنت من بين الجوانب ناظر.

أي: إنني ناظر متى أشرف.

والثاني: أن يكون على حذف الفاء من الجواب، فإن الفعل المضارع بعد الفاء يرفع، فكأنه قال: إن يصرع أخوك فتصرع، ولكن متى ما أملك الضر فأنفع، ومن يأتها فلا يضيرها، فيكون على حد قول جابر بن ثابت، أنشده في الكتاب:

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله مثلان.

وأنشد. أيضا للأسدي.

ص: 137

بني ثعل لا تنكعلوا العنز شربها

بني ثعل من ينكع العنز ظالم

/ التقدير: فالله يشكرها، ومن ينكع العنز وظالم.

وكلا التوجيهين لا يجوز إلا في الشعر عند الجمهور، ولكن الذي يعطيه لفظ الناظم أن الرفع على حذف الفاء، لأنه جعله هو الجزاء بنفسه، لقوله: "ورفعه بعد مضارع فأعاد الضمير على الفعل الواقع جزاءا بنفسه، أي: ورفع الجزاء بعد مضارع وهن.

وهذا التوجيه مذهب المبرد، والأول لسيبويه، وكلاهما ممكن.

ويقال: وهن الإنسان يهن، ووهن بالكسر أيضا، ضعف، ووهنته أنا، وأوهنته، ووهنته.

واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لإن أو غيرها لم ينجعل.

قدم الناظم- رحمه الله أن الفعل الماضي والمضارع يقعان جوابا للشرط، وأطلق القول في ذلك إطلاقا، ولم يبين أنه مقتصر به على الفعل خاصة، بل أشار إلى أن الفعل ينجزم إذا كان مضارعا، وغنه إذا كان ماضيا في موضع جزم، ولم يذكر ما يقع من غير ذينك الفعلين جوابا، ولا ما لا يصلح منها أن يكون كذلك، فذكر هنا ذلك.

ولما كان الواقع جوابا منه ما لا يحتاج إلى الفاء ولا يفتقر إليها، ومنه ما يفتقر إليها، بقاعدة حسنة مختصرة، حاصلها أن كل ما صلح من جهة المعنى أن يكون جوابا للشرط إن لم يمكن أن يأتي شرطاً لـ

ص: 138

(إن) أو غيرها من أخواتها، أي يقع بعدها- فهو مفتقر إلى الفاء، لا بد له منها.

وهذا معنى قوله: "إن جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل" أي: لو فرض أن يجعل يلي أداة الشرط لم يصلح.

ويفهم منه أنه إن صلح جعله يلي الشرط فلا يقرن حتما بالفاء، فتقول: إن أكرمتني أكرمتك، بغير فاء، لأنك تقول: إن أكرمتك كان كذا، وكذلك تقول: إن تكرمني أكرمك، بلا فاء، لأنك تقول: إن أكرمتم يكن كذا، وكذلك إذا قلت: متى أكرمتك كان كذا، أو متى أكرمك يكن كذا. وهذا صحيح.

(فإن قلت: إن تكرمني فقد أكرمتك، فلا بد من الفاء، لأنه لا يصلح أن تقول: إن قد أكرمتك، وكذلك: إن أكرمتني فزيد يكرمك، لا بد فيه من الفاء، لأنك] لا [إن قد أكرمتك، وكذلك: إن زيد يكرمك، كان كذا) وقد ذكر هذه القاعدة في "التسهيل".

والذي يحصل تفسيرها على الكمال أن يذكر ما يصلح أن يقع تاليا ل (إن) لما يخصه من الأوصاف، فإذا انحصر فما خرج/ عن ذلك فلا بد له من الفاء، فتقول: الأصل أن تكون جملة الجواب مصدرة بفعل متصرف، غير طلبي، ماض، مجرد من (قد) لفظا أو تقديرا، أو غيرها من الأدوات مطلقا، كالنفي ونحوه، أو مضارع مجرد، أو منفي ب

ص: 139

(لم) أو (لا).

وقد جمع هذا العقد أوصافا لها يصح وقوع الجملة جوابا من غير فاء.

أحدهما: أن تكون الجملة مصدرة بفعل، فلو كانت مصدرة باسم لم تصلح أن تقع جوابا للشرط دون فاء، لأنها لا تقع تالية للشرط، فلا تقول: إن تأتني زيد مكرمك، لأنك لا تقول: إن زيد مكرمك يكن كذا.

وما جاء مما يخالف هذا فشاذ يحفظ، نحو ما أنشده سيبويه:

بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها

بني ثعل من ينكع العنز ظالم

وأنشد أيضا:

*من يفعل الحسنات الله يشكرها* البيت

فإن قيل: فأنت تقول: إن زيد قام أكرمه، فلم لا يجوز على ذلك أن يقال: إن أكرمتني زيد قام، فضابط الناظم يقتضي جواز هذا.

فالجواب: أن قولك: "إن زيد قام" ليست بجملة اسمية، وإنما هي فعلية، و"زيد" مرفوع بفعل مضمر من باب "الاشتغال".

ودليل ذلك أن (إن) من خواص الأفعال لا تدخل إلا عليها، لكنهم أضمروا بعدها لما كانت أم الباب، وأيضا لا يليها الاسم إلا وبعده فعل مفسر، كقوله تعالى: } وإن أحد من المشركين استجارك فأجره}.

ص: 140

فلو قلت: (إن زيد قائم) لم يصح فلا يصح، إذن أن تقول: إن قام زيد عمرو قائم. نعم أسلم الإلزام إن كان ما بعد الاسم فعلا، نحو قولك: إن تأتيني زيد يقل ذاك. فقوله: "زيد يقل ذاك" جملة مصدرة باسم، لكنه على إضمار فعل من باب "الاشتغال" ولذلك جزم "يقل ذلك" فكأنه قال: إن تأتني يقل زيد ذاك.

أجاز هذه المسألة سيبويه، وجعلها نظير: زيدا ضربته، لما كان الجواب موضع ابتداء على الجملة.

وقد منع المسألة الزجاج في "معانيه" ورد عليه الفارسي في "الإغفال" واستشهد بكلام سيبويه فيها، فإذا قد صار قولك:(زيد يقل ذلك) من وجه يصح أن يجعل شرطا ل (إن) لأنك تقول: إن زيد أتاني أكرمته، وإن زيد يأتي أكرمته، في الشعر.

فالحاصل أنك إن اعتبرت الفعل المقدر فهو معتبر في الشرط والجزاء، فتخرج الجملة عن التصدير بالاسم، فليس ما اعترض به من الجمل المصدرة بالاسم، وإن لم تعتبر التقدير، وإنما اعتبرت مجرد الظاهر، فاعتباره جار أيضا في / الشرط والجزاء. وقد تقدم أنه جائز في الشرط على تقدير الفعل، فكذلك يجوز في الجزاء فلا اعتراض به، لأنا نقول: الجملة المصدرة بالاسم لا يمتنع وقوعها جوابا بغير فاء مطلقا، بل يمتنع في وجه، وهو إذا كان الاسم مبتدأ ليس على إضمار فعل، ويجوز في وجع، وهو إذا كان على إضمار الفعل. وهذا ظاهر.

الوصف الثاني: أن يكون الفعل متصرفا، وقد تقدمت أمثلة ذلك.

ص: 141

فلو كان غير متصرف لم يصلح أن يقع جوابا دون فاء، لأنه لا يقع تاليا للشرط فلا تقول: إن تكرمني عسى أن أكرمك، ولا إن تكرمني نعم الرجل أنت. كذلك (بئس، وليس) بل لا بد من الفاء، قال الله تعالى: } إن تبدو الصدقات فنعما هي}. وقوله} إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا. فعسى ربي}. الآية.

وإنما امتنع ذلك لأنه لا تصلح هذه الأفعال أن تقع شرطا، فلا تقول: إن عسى أن تقوم، ولا إن نعم الرجل أنت، ولا ما أشبه ذلك.

الوصف الثالث: أن يكون الفعل غير طلبي، فإن كان طلبيا فلا يقع جوابا إلا الفاء وذلك قولك: إن قام زيد فأكرمه.

والأفعال الطلبية هي فعل الأمر كما ذكر، ومنه قوله تعالى: } قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.

والنهي، نحو ما في قراءة ابن كثير: } ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخف ظلما ولا هضما}.

والدعاء، نحو قوله تعالى: } وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا}. وفي الحديث: (اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها). وكذلك (لا تفعل) في الدعاء، وكذا إذا كان الدعاء بالماضي أو المضارع، نحو: إن قام زيد فغفر الله له، وإن قعد فيرحمه الله.

ص: 142

ومنه ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:

إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته

فقام بفأس بين وصليك جازر.

ف "قام"(دعاء عليها، وقد يكون الفعل طلبيا بالأداة- لداخلة عليه، كالاستفهام، والعرض، والتحضيض، (ونحو ذلك، فتلزم الفاء، لكن هذا داخل تحت القد الآخر، وهو قيد التجرد، فكل هذه الأفعال لا تصلح أن تكون جوابا إلا بالفاء، لانها لا تصل أن تلي أداة الشرط فلا تقول: إن اضرب زيدا، ولا يجوز ذلك).

والوصف الرابع: التجرد من الأدوات الداخلة، فأما في الماضي فأن يتجرد خصوصا/ من (قد) لفظا أو تقديرا، ومن غيرهما "عموما، فإن لم يتجرد عن (قد) في اللفظ فلا (تقع جوابا دون الفاء، لأنه لا يصح أن يلي الصرط، فلا تقول: إن أكرمتني قد أكرمتك، (لأنك لا تقول: إن أكرمتك) وكذلك إن قدرتها، فإنها في حكم المنطوق بها، فلا بد من الفاء، نحو قوله تعالى: } قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}.

ص: 143

وقوله تعالى: } إن كنت قلته فقد علمته} والتقدير كقوله تعالى: } إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكذابين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين}.

ودليل كونه على تقدير (قد) أنه ماض في المعنى، لأن الصدق ليس مسببا عن كون القميص قد من قبل، ولا الكذب مسببا عن كونه قد من دبر، فكأنه قال: إن كان قميصه قد من قبل فقد صدقت، أي فقد كان قولها صادقا، وكذلك في الطرف الآخر.

وكذلك إن لم يتجرد عن غير (قد) عموما فلا بد في وقوعه جوابا من الفاء، كما إذا دخلت عليه أدوات الاستفهام، أو العرض، أو التحضيض، أو النفي، أو نحو ذلك، كقولك: إن أكرمتني فهلا أكرمت عمرا، وإن قام زيدا غما قام عمرو.

وأما التجرد في المضارع فأن لا تدخل عليه أداة من الأدوات ما عدا (لم) و (لا) فلو دخل عليه حرف من حروف الاستفهام أو العرض، أو السين، أو سوف، أو قد، أو غير ذلك لم يستغن في كونه جوابا عن الفاء، فتقول: إن أكرمت زيدا فهل تكرم عمرا؟ أو فهلا تكرم عمرا، أو فسوف تكرم عمرا. قال الله تعالى: } فإن استقر مكانه فسوف تراني} أو فقد أكرمك.

ولا تقول: إن أكرمتني سوف تكرم زيدا، ولا قد تكرم زيدا، لأن واحدة من تلك الأدوات لا يصح أن تلي أداة الشرط إلا (لم) و (لا) فإن الفاء لا يفتقر إليها معهما، فتقول: إن قام زيد لم يقم عمرو (وإن قام زيد لا يقم عمرو، لأنك تقول:

ص: 144

إن لم يقم زيد لم يقم عمرو) وإلا تقم أقم. قال الله تعالى: } فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} الآية. وقال: } إلا تنصروه فقد نصره الله}.

فإذا تقرر هذا ثبت أن ما اجتمعت فيه من الجوابات هذه الأوصاف الأربعة لم تلزمه الفاء، فتقول: إن تكرمني أكرمك، وإن أكرمتني أكرمتك، ونحو ذا لا تقدم له أمثلة كثيرة، وكلها يصح أن يقع فعل شرط.

فإن قيل: قول الناظم "واقرن بفا حتما جوابا/صفته كذا" إلى آخره لا يخلو أن يريد ما عدا ذلك لا تقرن به الفاء أصلا، لصحة وقوعه شرطا، فإذا جاء أحد الفعلين الموصوفين جوابا لم تدخل عليه الفاء أصلا، فيكون "حتما" وصفا لا يفيد مفهوما في المسألة.

أو يريد أن ما عدا ذلك لا تلزمه الفاء حتما، بل قد تأتي مع احد الفعلين الفاء، وقد لا تأتي، فأنت في ذلك بالخيار، ويكون وصف "الانحتام" يعطي مفهوما، وكلا القصدين غير مستقيم.

فإن كان قصده الأول لزم أن لا تدخل الفاء مع الموصوف بما ذكره أصلا، وذلك باطل، فإن الفاء معه جائزة الدخول، فتقول: من يكرمني فأكرمه، وإن تأتني فأعطيك، قال الله:{فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} . وقال تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} . وقال تعالى: {قال ومن كفر فأمته قليلا} . وهو كثير.

ص: 145

وإن كان قصده الثاني لزم أن يجوز الوجهان في الفعل الماضي الموصوف بما ذكر، وذلك باطل أيضا، فغن الماضي الذي هو مسبب عن فعل الشرط لا تدخله الفاء فلا تقول: إن قام فقام عمرو، ولا إن أكرمتني فأكرمتك، ولا يثبت الذي كان بقوله:

فقام بفأس بين وصليك جازر

لأن "قام" دعاء، ولا بقوله تعالى:{فصدقت وهو من الكاذبين} لأنه على تقدير (قد) كما لو ظهرت، وليس "الصدق" مسببا عن الشرط، بل هو قيله، ومثله لا يصح أن يقع شرطا لأنه غير مستقبل ب (إن) فعلى كل تقدير هذا المفهوم الذي أعطاه النظم غير منتظم في سلك الصحة، إلا أن يقال: إن المفهوم هنا معطل، فهو على خلاف عادته، ويقتضي إهمال مسألة من الباب، هي غاية الشهرة، والحاجة إليها ضرورية.

فالجواب أن كل واحد من القسمين صحيح، فأما الأول، وهو كون ما عدا ما ذكر لا يقرن بالفاء أصلا، فصحيح، لأن المضارع على قسمين:

أحدهما: أن يكون في الجواب على تقدير مبتدأ، فلا بد هنا من الفاء لزوما، لان الجملة صارت اسمية. والاسمية لا بد فيها من الفاء كما تقدم ذكره. وعلى ذلك حمل المضارع بعد الفاء كما تقدم ذكره. وعلى ذلك خمل المضارع بعد الفاء سيبويه والنحويون.

فإذا قلت: إن تكرمني فأكرمك، فالمعنى فأنا أكرمك، لأنه واقع عند

ص: 146

سيبويه موقع الابتداء.

قال السيرافي: ولولا هذا لم يحتج إلى الفاء، يعني لولا أنه وقاع موقع الابتداء، والمعنى / فأنا أكرمك، لم يحتج إلى الفاء.

وقال ابن خروف في قول سيبويه: وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ: هذا نص بأنه لا يرفع بعد الفاء إلا على البناء على المبتدأ ظاهر أو مضمر. قال: ولذلك أدخلها، يعني الفاء، ولو لم يرد الاسم لم يدخلها، ولجزم الفعل.

وعلى هذا أيضا حمل ابن خروف كل ما دخلته الفاء من الجوابات، فجعل الأجوبة أخبار مبتدآت، كقوله تعالى:{إن كنت ثلته فقد علمته} وكذلك قوله: {فقد سرق أخ له من قبل} .

وإذا كان كذلك فالجملة الجوابية لا رابط لها إلا أن يؤتى بالفاء لتربطها بالجملة الشرطية، إذا كان الجزم الحاصل به الربط مفقودا، ليس على تقدير الظهور، وهي في ذلك نظير جملة الحال، في أنها لا بد فيها من الواو وإن لم يكن فيها ضمير عائد على ذي الحال، إذ لا بد من الربط بينهما.

وبهذا المعنى يتوجه دخول الفاء حيث دخلت. ومن تلك الجهات كلها لم يصح أن تقع تالية للشرط، لأن الشرط مختص بالفعل، لا يدخل على سواه، فإذا كان كذلك فقد دخل هذا القسم تحت ضابطه الذي يقتضي

ص: 147

لزوم الفاء.

والقسم الثاني: ألا يكون الفعل على تقدير مبتدأ أصلا، فلا بد من الجزم، لأنه لا مانع من دخوله، ولا مسوغ لغيره، وليس هذا بموضع للفطء، لأنه لمعنى الشرط وهو حاصل بالجزم، فلا يصح أن تدخل الفاء هنا أصلا، وهو الذي يعطيه المفهوم (على التقدير الأول، فلا خلل في عبارته هذا في المضارع).

وكذلك الماضي أيضا على قسمين:

أحدها: أن يكون مستقبل المعنى بالشرط، فلا بد هنا اجن التجرد عن الفاء، إذ ليس الماضي هنا على تقير (قد).

وأيضا فعلى ما قاله ابن خروف: إنما تدخل الفاء إذا كان الفعل في تقدير مبتدأ، فإذا لم يكن كذلك فلا مدخل للفاء، وهو ما أعطاه المفهوم، من جهة أن الماضي في موضع جزم، لأنه في موضع المستقبل الذي يحصل فيه الربط بالجزم.

والثاني: أن لا يكون مستقبل المعنى بالشرط، بل يكون على تقدير (قد) فقد دخلت (قد) في التقدير فهي كالظاهرة، وأني إذا أتيت بها لا بد لك من الإتيان بالفاء، إذ لا بد من الربط، فقد دخل هذا القسم تحت ضابط لزوم الفاء، فالكلام صحيح.

وأما الثاني، وهي ما أعطاه المفهوم من أن ما عدا ما ذكر غير لازمة فيه الفاء/ بل يجوز أن تلحق وأن لا، فصحيح، لأن الحاصل من المضارع إذا وقع جوابا أنه يجوز فيه الأمران، لكن على قصدين مختلفين، فإذا لم تأت بها فهو بننفسه الجواب. وإن أتيت بها فالجواب

ص: 148

جملة اسمية، وذلك لا يقدح في إطلاق جواز الوجهين، فكم من موضع في الكلام يكون الوجهان المختلفان فيه في اللفظ على قصدين مختلفين، بل هذا عند أهل البيان لازم، بخلاف ما إذا كان المضارع غير مجرد، فإنه لا بد من الفاء ولا يجري فيه وجه سوى ذلك، فلحاق الفاء فيه عند ذلك حتم.

والحاصل أيضا من الماضي غير المقرون بقد في اللفظ كما ذكر في المضارع، لأنه إذا كان يجوز فيه أن يؤتى بالفاء وأن لا يؤتى بها، لكن على قصدين، فقد جاز الوجهان، فالفاء غير لازمة.

ولا يقال: إن الماضي مع الفاء مقرون ب (قد) تقديرا، فهو كاللفظ بها معه، فلم يصح أن يكون في الماضي المجرد وجهان لأنا نقول: هو مجرد لفظا، فالوجهان جائزان، وأيضا فلحاق الفاء مع قطع النظر عن تقدير (قد) إنما يكون على إضمار المبتدأ كما تقدم من كلام ابن خروف، فلا اعتبار بتقديرها. فكأنها لم تقدر إذا كان الحكم في الإتيان بالفاء وغيرها وهو تقدير المبتدأ. فإذا ثبت هذا كان الفعل الماضي والمضارع المذكوران يجوز فيهما الوجهان على الجملة فكلام الناظم صحيح وقوله:"واقرن بفا" أراد: بفاء، بالمد، لكن قصر ضرورة، فصار مثل ما حكى من قولهم: شربت ما يا فتى. وفي هذا النظم منه مواضع كثيرة.

وقوله: "لو جعل" جملة شرطية في موضع الصفة ل"جوابا" أي جوابا هذه صفته، و"انجعل: فعل مطاوع ل (جعل) تقول: جعلت الشيء في موضع كذا فانجعل، وذلك قياس في (فعل) المقصود به العلاج، نحو: قسمته فانقسم، وفصلته فانفصل، وصرفته فانصرف، وما أشبه ذلك. ثم قال.

ص: 149

وتخلف الفاء إذا المفاجاة .... كإن تجد إذا لنا مكافأة

يعني أن (إذا) التي للمفاجأة، وهي التي في قولك: خرجت فإذا زيد قائم، تقوم مقام الفاء، فتقع في موضعها خلفا منها، كما في المثال المذكور، وهو إن تجد إذا لنا مكافأة ومثله: إن يقم زيدا إذا هو ماثل بين يديك. ومنه قوله تعالى/: {وغن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} ومنه أيضا: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا} .

قال الفراء: العرب تجعل (إذا) تكفي من (فعلت، وفعلوا) لو قال مكانها: (مكروا) لكان صوابا.

وإنما وقعت (إذا) المفاجأة بدلا من الفاء لشبهها بها، في أن كل واحدة لا تقع مبتدأة ك "غنما" وغيرها من حروف الابتداء، بل لا بد أن تقع مبنية على كلام، وأيضا (إذا) في الآية واقعة موقع الفعل، كأنه قال: قنطوا، كما أن الفاء في الجواب واقعة موقع الفعل، فلما اشتبها في هذا التصرف وقعت (إذا) موقع الفاء لذلك، ليس ذلك لكونها في معناها، لأن الفاء تدخل على (إذا) فتقول: خرجت فإذا زيد قائم.

وفي كلامه في (إذا) نظر من وجهين:

ص: 150

أحدهما: أنه يقتضي أن (إذا) تخلف الفاء حيثما وقعت، فكل موضع تقع فيه الفاء يصح أن تقع فيه (إذا) فإذن يقتضي أن تقول في نحو قولك: إن تقم فعسى أن تأتني، إن تقم إذا عسى أن تأتيني، وفي (إن تقم فقد قام عمرو): إن تقم إذا قد قام عمرو، وما أشبه ذلك من المواضع التي تدخل فيها الفاء.

وليس كذلك، بل (إذا) إنما تدخل على الجملة الاسمية خاصة، ولا تدخل على كل الجملة الاسمية، بل على غير الطلبية، فلا تقول: إن تأتني إذا هل أنا مكرمك؟ كما تقول: إن تأتني فأنا مكرمك، وإنما تقول: إن تأتني إذا أنا مكرمك، كما في الآية: } إذا هم يقنطون} وكما في مثاله "إذا لنا مكافأة" وأما غير ذلك فلا، لأنها مختصة بالجملة الاسمية، ألا ترى أنه لا يجوز بعدها نصب الاسم على إضمار فعل من باب "الاشتغال" بل يلزم الرفع على الابتداء، نحو: خرجت فإذا زيد يضربه عمرو، وهو مذهب الناظم في (إذا) كما مر تقريره في بابه، فإطلاق هذا الكلام مشكل كما ترى.

والثاني: انه نص في "التسهيل" على أن (إذا) لا تقع في موضع الفاء إلا إذا كانت جوابا ل (إن) خاصة، فقال: وقد تنوب بعد (إن)(إذا) المفاجأة عن الفاء في الجملة الاسمية غير الطلبية. فقيد النيابة بأن تكون بعد (إن) وبأن يكون ما بعدها جملة اسمية غير طلبية، وهو ما ذكر قبل هذا. وعلى هذا المعنى شرح ابنه هذا الموضع في "التكملة".

وإذا استقرأت كلام العرب فقلما تجده إلا على ما قال، وهذا النظم

ص: 151

يقتضي أن تقع بعد (من) و (ما) و (متى) وغيرها من الأدوات فتقول/: من يكرمني إذا أنا أكرمه، ومتى تأتني إذا أنا أحسن إليك، وما أشبه ذلك، وهذا غير مقول كما ذكر.

والجواب: أن تمثيله قيد فيما ذكر، إذ لم يأت (إذا) جوابا إلا بعد (إن) ومع الجملة الاسمية غير الطلبية، ذلك قوله:"كإن تجد إذا لنا مكافأة" فإنه قال: "وتخلف الفاء المفاجأة" فيما كان نحو هذا المثال، ومن عادته إفادة التقييد بالمثل، وقد مر من هذا شيء كثير.

و"الفاء" في قوله "وتخلف الفاء" مفعول ب"تخلف" و"إذا المفاجأة" هو الفاعل، يقال: خلف فلان فلانا، إذا جاء بعده، وخلفه إذا كان خليفة بعده، ومنه قوله تعالى: } اخلفني في قومي}. والمكافأة: المجازاة، يقال: كافأته على ما كان منه مكافأة، وكفاء: جازيته على فعله.

والفعل من بعد الجزا إن يقترن

بالفا أو الواو بتثليث قمن.

ذكر الناظم- رحمه الله في آخر هذا الباب مسائل تتعلق بأصل الباب، فذكر منها مسألتين يشترك في النظر فيهما باب النواصب والجوازم، وذلك فيما إذا عطف على الفعل الشرطي، أو على الفعل الجزائي.

وابتدأ بذكر العطف على فعل الجزاء فقال: "والفعل من بعد الجزا إن يقترن" إلى آخره.

ص: 152

يريد أن الجزاء إذا عطف عليه فعل بأحد حرفين، وهما الواو والفاء، فإن ذلك الفعل يجوز فيه ثلاثة أوجه، وهو التثليث الذي ذكر] أنه [مستحق لها، وهو معنى قوله:"قمن" أي جدير وخليق بها، وإنما قال ذلك لكونها عنده جارية على القياس، صحيحة التنزيل على حسب ما يذكر بحول الله.

وذكر الجزاء مطلقا، وهو أعم من أن يكون بالفعل أو بغيره، ولم يقيده بالفعل الذي يظهر فيه الجزم، أو يكون في تقدير الظهور وهو المضارع والماضي، لأن الحكم واحد فيما إذا كان كذلك، أو كان جملة اسمية أو غير ذلك، فتقول إذا كان فعلا: إن تكرمني أكرمك وأحسن إليك، بالجزم، وأحسن إليك، بالرفع، وأحسن إليك، بالنصب.

وكذلك الماضي تقول: إن أتيتني أحسنت إليك وأكرمك، وأكرمك، وأكرمك.

وكذلك إذا كان الجزاء غير الفعل المتقدم نحو: إن تزرني فأنا محسن إليك وأكرمك، بالجزم، وأكرمك، بالرفع، وأكرمك بالنصب.

وشرط الناظم في هذا الجواز أن يكون العطف بأحد هذين الحرفين، وهما الفاء والواو.

فمثال الفاء قوله تعالى: } وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله/فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} قرئت هذه الآية بالثلاث الحركات في "يغفر" و"يعذب" فقراءة الجزم لمن عدا. نافعا

ص: 153

وابن عامر. وقراءة الرفع لهما، وقراءة النصب في غير السبع، حكاها سيبويه، وهي مروية عن ابن عباس وأبي حيوة والأعرج.

ومثال الواو قوله تعالى: } وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر "ونكفر" بالرفع مع النون، وكذلك ابن عامر وحفص إلا أنهما قرأ بالياء، وقرأ الباقون بالنون والجزم، وروى عن الأعمش أنه قرأ بالنصب مع النون.

وقال تعالى: } من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} قرأ أبو عمرو وعاصم بالرفع مع الياء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء، والباقون برفع الراء مع النون، وأنشد سيبويه في النصب للأعشى:

ص: 154

ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى

مصارع مظلوم مجرا ومسحبا

وتدفن منه الصالحات وإن يسئ

يكن ما أساء النار في رأس كبكبا.

وقد حمل على هذا قول عنترة:

متى ما تلقنى فردين ترجف

روانف أليتيك وتستطارا.

فإن كان العطف بغير الواو فمقتضى كلام الناظم أن ثلاثة الأوجه لا تجوز في المعطوف، وكذلك الحكم عند سيبويه والبصريين أن الفعل إذا عطف ب (ثم) أو غيرها، فالتثليث غير جائز، بل إنما يجوز عندهم في ذلك وجهان:

أحدهما: التشريك في الجزم، فتقول: إن تأتني آتك ثم أحسن إليك. والآخر الرفع فتقول: وأحسن إليك.

ومن الأول قوله تعالى: } وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.

ص: 155

ومن الثاني: قوله تعالى: } وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}.

وذلك أن الرفع والجزم أمرهما ظاهر، ولذلك جازا في غير الواو والفاء، فالجزم على التشريك إما في اللفظ إن كان الجزم ظاهرا، وإما في الموضع إن لم يكن كذلك، والرفع على الاستئناف.

وأما النصب فعلى منزع (ما تأتينا فتحدثنا) كأن قولك: إن تكرمني أكرمك وأحسن إليك، أو فأحسن إليك، أردت به: إن تكرمني يكن مني إكرام لك؛ وإحسان، أو فإحسان، ولا يجوز إظهار (أن) ها هنا كما تقدم.

وإنما اختص هذان الحرفان بهذا الحكم للوجه الذي اختصا لأجله بدخولهما في الأجوبة الثمانية، لما/ في الفاء من معنى السببية، ولما في الواو معنى المعية، وكل واحد من هذين المعنيين يقتضي الاتصال بما قبل، بخلاف غيرهما من الحروف فإنها ليست كذلك قال سيبويه: واعلم أن (ثم) لا ينصب بها كما ينصب بالواو والفاء، ولم يجعلوها مما يضمر بعده (أن) وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء، وليس معناها الواو، ولكنها تشرك ويبتدأ بها.

وإذا كان الأمر ما قرره لم يكن النصب بعد (ثم) أو غيرها إلا من باب قوله.

ص: 156

*وألحق بالحجاز فأستريحا*

وقد جعلوا النصب مع الفاء والواو ضعيفا، لأنه عطف على الجزاء وهو واجب، والنصب إنما بابه غير الواجب، لكنه في الجزاء قوي من حيث كان الجزاء ليس بواجب الوقوع إلا بعد وقوع الأول، فلما كان كذلك ضارع مالا يوجب الفعل كالاستفهام، فنصبوا لذلك.

وقد تقرر أن هذا في الفاء والواو ولمعنى فيهما] فلا يلحق بهما [غيرهما، لأنه إما للتشريك، ولا إشكال، وإما للاستئناف، ومعنى النصب خارج عن هذين.

وقوله: "إن يقترن" أتى به مضارعا على الوجه الأقل، لأن الجواب محذوف لدليل قوله:"والفعل من بعد الجزاء بتثليث قمن".

ونظيره من كل وجه بيت الكتاب:

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب.

ويقال: هو قمن لكذا، وقمن به، أي حقيق وجدير.

ثم أخذ يذكر العطف بالواو والفاء على فعل الشرط فقال:

وجزم أو نصب لفعل إثر فا

أو واو ان بالجملتين اكتنفا

يعني أن الفعل إذا وقع بين جملتي الشرط والجزاء فصارتا تكتنفانه، أي تحيطان به، وكان ذلك الفعل إثر واوا أو فاء- فجائز فيه وجهان:

ص: 157

أحدهما: الجزم، وذلك على التشريك في العامل، نحو قولك: إن تأتني فتنزل عندي أكرمك، أو: ونزل عندي.

والوجه الآخر: النصب، وذلك على ما تقدم من تقدير المصدر معطوفا عليه هذا الفعل بإضمار (أن) كقولك: إن تأتني فتنزل عندي أكرمك، أو: وتنزل عندي.

والتقدير: إن يكن منك إتيان فنزول أكرمك، أو مع نزول.

والنصب هنا أمثل شيئا منه في المسألة الأولى، لأن العطف هنا على فعل الشرط، وفعل الشرط غير واجب، فكان قريبا من الاستفهام والأمر والنهي، ونحوهما.

ومن مثل الوجه/ الثاني ما أنشده سيبويه من قول ابن زهير:

ومن لا يقدم رجله مطمئنة .. فيثبتها في مستوى الأرض يزلق.

والنصب في هذه المسألة أيضا ضعيف، لأن النصب في قولك: إن تأتني فتحدثني أكرمك، معناه معنى الجزم، إذ كان قولك:(إن يكن منك إتيان فحديث أكرمك) في معنى قولك: إن تأتني فتحدثني أكرمك، فكرهوا أن يتخطوا به من بابه إلى باب آخر من غير زيادة معنى.

وأما البيت فالنصب فيه جيد، لأنه إثر النفي حسن كما تقدم، سواء كان بعد شرط أولا.

ومنع الناظم الرفع في هذا الفعل، لأنه أجاز الجزم والنصب بعد ما أجاز في المسألة الأولى الأوجه الثلاثة، فدل على أن الثالث غير جائز،

ص: 158

فلا يجوز على هذا أن تقول: إن تأتني فتحدثني أكرمك، ولا: وتحدثني، بالرفع، لأن "فتحدثني" موضوع موضع (محدثا) كما كان كذلك لم يأت بحرف العطف.

ولو قلت: إن تأتني ومحدثا أو فمحدثا- كان الكلام فاسدا لأنه ليس في الكلام منصوب يعطف عليه. وأما ضمير "تأتني" فلا يصح العطف عليه، وإذا كان كذلك لم يكن للرفع وجه. هذا معنى تعليل سيبويه.

وقد أجاز ابن خروف الرفع مع الواو خاصة على الحال، كأنه قال: إن تأتني وأنت تسألني، ولا يقدر الفعل مع الواو إلا بالجملة، فلا يقدر "وسائلا" كما يقدر:

نجوت وأرهنهم مالكا.

بالجملة، أي: وأنا أرهنهم.

والناظم لم يرتض هذا، بل وقف مع سيبويه والجماعة، لكن قد مضى له في باب "الحال" جواز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو، على إضمار المبتدأ، ومخالفة من ذهب إلى المنع في المسألة، فما باله منع ذلك هنا؟ فكان الأولى به أن يجيز الرفع مع الواو، لأن ما ألزم سيبويه هنا من وقوع الحال مع الواو قد أجاب عنه بأنه على تقدير الجملة، كما قاله ابن خروف، واستدل عليه بالسماع، فهو لازم له، فاقتصاره مع الواو على الوجهين غير سديد، أما مع الفاء

ص: 159

فلا سبيل إليه، فكان من حقه أن يجمع بين كلاميه.

وقيد جواز الوجهين في المسألة بشرطين ذكرهما: وأحد الشرطين: أن يكون العطف بالفاء أو الواو كما مر، فدل أن ذلك عنده مختص بهما، ولا يجوز في غيرهما، وهو رد لما أجازه الكوفيون فيما نقل عنهم في (ثم) من النصب، كما أجازه الجميع في الواو/والفاء، فيقولون: إن تأتني ثم تحدثني أكرمتك، بنصب "تحدثني" ومن حجتهم في هذه قراءة من قرأ: } ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} بنصب "يدركه" وهي قراءة قتادة ونبيح والجراح. وقد قرئ بالرفع، وهي لطلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي. والجزم قراءة الجماعة.

وهذه القراءة لم يثبت البصريون بها حكما، لندورها وكونها في القياس كقوله:

* وألحق بالحجاز فأستريحا*

لكنها امثل قليلا، لأن الشرط ليس بواجب في نفسه، وقد تقدم وجه اختصاص الواو والفاء بهذا الحكم دون غيرهما، فالأولى عدم القياس في غيرهما.

والشرط الثاني: أن يكون الفعل مكتنفا بجملتي الشرط والجزاء، وذلك قوله":"إن بالجملتين اكتنفا" يعني أنه لا بد من أن تكون جملة

ص: 160

الشرط وجملة الجزاء قد أحاطتا به، فصار بينهما، وقد تقدم تمثيل ذلك.

واكتنفا" في كلامه من قولهم: اكتنف القوم، إذا اتخذوا كنيفا لإبلهم، والكنيف: حظيرة من شجر تجعل للإبل، أي إن اتخذ بالجملتين كنيفا. ولا يكون من: اكتنف القوم زيدا، أي أحاطوا به، لأنه أتى بالفعل مستندا إلى ضمير الفعل، وليس هو المحيط بالجملتين، بل هما المحيطان به، فإنما يريد أنه اتخذ بهما كنيفا، أي ما يجري مجراه.

فإن قلت: ما الذي احترز بقوله: "عن بالجملتين اكتنفا" وهو إنما يريد أن يكون ذلك الفعل تابعا لجملة الشرط، سواء أكانت الجملتان تكتنفانه أم لا، فيظهر أن وصف الاكتناف غير محتاج إليه ..

فالجواب: أن هذا الكلام أحرز به أمرين:

أحدهما: ما تقدم من كونه تابعا لجملة الشرط لا لجملة الجواب، إذ تقدم الحكم في ذلك. والآخر: أنه قصد أن يكون الفعل المعطوف بالواو أو الفاء زائدا على فعل الجواب إن كان فعلا، لأنه إن لم يكن زائدا على ذلك فهو الجواب بعينه، وذلك يتصور في المعطوف بالفاء، وإذا كان هو الجواب بعينه فلا يجوز فيه هذان الوجهان أصلا، بل يلزم فيه بعد الفاء الرفع، كقولك: إن تأتني فأحدثك، وذلك أن الشرط في الأصل جملة مبناها على فعل وفاعل. والجواب جملة أخرى بائنة من الأولى، مبناها على مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، ربط إحداهما بالأخرى جرف (إن) أو غيره من أخواته، ولا حاجة إلى الفاء إذا كان الجواب فعلا، وجئ بها لما احتيج إلى الجواب بالابتداء والخبر، ثم جعل مكان المبتدأ الفعل فارتفع، وليس الجواب الفاء إذا كان مرفوعا مثل ما انتصب/ بين المجزومين،

ص: 161

لأن ما انتصب بين المجزومين مصدر معطوف على مصدر فعل الشرط.

ولو قلت: إن يكن إتيان فحديث، وسكت، فليس ذلك بمعطوف على مصدر فعل الشرط، بل هو مرفوع على تقدير مبتدأ بعد الفاء، تقديره: فأمري حديث، أو نحو هذا.

هذا تعليل السيرافي، وهو معنى ما في الكتاب من قول سيبويه: وإنما منعه أن يكون مثل ما انتصب بين المجزومين أن هذا منقطع من الأول- يعني قولك: فأحدثك- ألا ترى أنك إذا قلت: إن يكن إتيان فحديث أحدثك، فالحديث متصل بالأول، شريك له، وإذا قلت: إن يكن إتيان فحديث، ثم سكت، وجعلته جوابا لم يشرك الأول، وكان موتفعا بالابتداء. فعلى هذا بنى الناظم.

وقد تقرر من هذا أن كلا الوجهين لا يجوز في جملة الجواب، فلا يجوز الجزم، لأنه مقرون بالفاء، وليس بمعطوف، ولا يجوز النصب، لأنك لم تقصده، فلا بد من الرفع، فلهذا شرط الناظم شرط "الاكتناف" وظهر منه أن ما أجازه ابن طاهر (من النص مع الفاء لم يرتضه، وإنما أجازه ابن طاهر) في الشعر حملا على المعنى؛ لأنك إذا قلت: إن تأتني فأحدثك ف"أحدثك" هنا يتقدر بالمصدر كالجواب، وهو أيضا واقع، فوقع الشرط مثله، فجعل كالمنقطع لذلك، ولا يلتفت فيه إلى تقدير الاتصال إذا مثلته بالمصدر، لأنه تمثيل لا ينطق به، ويكون معنى الكلام: إن يكن إتيان يكن حديث، لأنك لو أزلت الفاء لجزمت،

ص: 162

فروعي ذلك.

وأجاز ذلك ابن خروف، وعلى هذا التأويل الذي بسطه عن شيخه، وهو ضعيف جدا، ولذلك لم يجزه إلا في الشعر.

الشرط يغني عن جواب قد علم

والعكس قد يأتي إن المعنى فيهم.

هذا الفصل يذكر فيه ما يعرض من الحذف للجملة الجوابية، أو للجملة الشرطية، وذلك أنه قد تقرر قبل في مواضع أن الحذف إنما يكون إذا علم المحذوف، وكانت عليه دلالة تعرف به، وأما إذا لم يكن ثم دليل فلا سبيل إلى الحذف.

والحذف ها هنا على ثلاثة أوجه:

حذف جملة الجواب، وهو الأكثر، وحذف جملة الشرط، وهو دون ذلك، وحذفها معا، وهذا الثالث نادر، ولذلك لم يعرج عليه الناظم، ومنه قول النمر بن تولب:

فإن المنية من يخشها

فسوف/ تصادفه أينما.

أي: أينما يذهب تصادفه، وكذلك قول الآخر:

ص: 163

قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن

أي وإن كان كذلك فأنا أتمناه وأرضاه، تعني البعل

وابتدأ الناظم بذكر حذف الجواب فقال: " واشرط يعني عن جواب قد علم".

يعني أن جملة الشرط يغني ذكرها عن ذكر جملة الجزاء، فتحذف جملة الجزاء لعلم المخاطب بالمحذوف، ولا يعني بإغناء الشرط عن الجواب كون الشرط هو الدال بنفسه فقط، بل المقصود أنه يذكر دونه فيستقل الكلام، اتكالا على ما عند المخاطب من العلم.

والعلم الحاصل عند المخاطب قد يكون لتقدم ذكر معنى الجواب بعينه، ويكون لتقدم ما يدل عليه وليس به، وقد يكون لغير ذلك.

فمن الأول قولك: أكرمك إن أكرمتني، وآتيك إن أتيتني.

فالجواب المحذوف هنا هو عين ما تقدم، والتقدير: إن أكرمتني أكرمك، وإن أتيتني آتك، ولكن حذف لدلالة الأول عليه، وهذا مذهب البصريين، وقد تقدم ذلك، وتنبيه الناظم عليه، ومنه قوله:

*إنك إن يصرع أخوك تصرع*

وقوله:

*والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب*

ص: 164

وهو كثير.

ومن الثاني قوله تعالى: } قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} فليس المعنى: إن كنت تقيا فإني أعوذ بالرحمن منك، وإنما المعنى: إن كنت تقيا فلا تقربني، (وقولك: فلا تقربني) دلت عليه الاستعاذة، لأن الاستعاذة هي طلب العوذ والبعد من كل ضار.

ومنه أيضا قوله تعالى: } إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا} الآية هو محذوف الجواب، تقديره: إن كنتم آمنتم فاقبلوا ما أمرتم به، لأن قوله: } واعلموا أنما غنمتم من شيء} حكم ألزمه المكلف، فدل على طلب القبول.

وكذلك يجري الحكم في جواب (لو) لأنها شرط، ومنه قوله تعالى: } ولو أن قرأنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} الآية، أي لكان هذا القرآن.

ومنه قول امرئ القيس:

فلو أنها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسا

ص: 165

أي لكان ذلك أهون، او نحو ذلك، ومنه ما يذكره إثر هذا في اجتماع الشرط والقسم.

ويعترض على الناظم هنا بأنه أطلق القول في فعل الشرط مع حذف الجواب والحق إذا كان محذوفا أن يكون فعل الشرط ماضيا، كما مضى في الأمثلة المتقدمة من نحو ذلك: أكرمك إن أكرمتني/ ولا يجوز: أكرمك إن تكرمني إلا في الشعر، وذلك لأن العرب تكره أن يظهر الجزم في الشرط، ثم لا ينجزم الجواب في اللفظ. وقد مر ذلك، ومن هناك قل أن يأتي الجواب مرفوعا والشرط مجزوم، وكثر رفعه إذا كان فعل الشرط ماضيا كما تقدم، فكان من حق الناظم أن يبين هذا، ويقيد كلامه، فإنه يقتضي أن الجواب يحذف إذا علم مطلقا، سواء كان فعل الشرط ماضيا أو مضارعا، وهذا لا يصح، ولا أجد الآن له جوابا، إلا أنه لم يتعرض لذكر ذلك.

ثم ذكر حذف جملة الشرط فقال: "والعكس قد يأتي إن المعنى فهم".

يعني أن الشرط قد يحذف أيضا، ويبقى الجواب مذكورا، لكن إن كان المعنى مفهوما، أي معنى المحذوف وهو الشرط.

وكرر ذكر شرط "العلم" تأكيدا، وتذكيرا بان هذا لا يكون إلا عند المعرفة بالمحذوف كائنا ما كان، ولأمر آخر يذكر إثر هذا بحول الله.

وتحقيق "العكس" أن معنى ما تقدم أن الجواب يحذف دون الشرط، فإذا حولت هذه القضية قلت: إن الشرط يحذف دون الجواب، وقلل الحذف هنا بقد في قوله:"قد يأتي" يريد أنه ليس حذفه بكثير، كما كان

ص: 166

كثيًرا في الجواب.

ومثاله أن تقول: افعل كذا وإلا ضربتك تقديره: وإلا تفعل ضربتك.

ومنه قوله عليه السلام: "إما لا فأعني على نفسك بكثرة السجود".

التقدير: إن كنت لا تفعل غير هذا، أو لا تقول غير هذا فأعني، وفي حديث الغامدية قوله عليه السلام:"إما لا فاذهبي حتى تلدي" الحديث. وكذا تقول العرب: إما لا فافعل كذا، أي أن كنت لا تفعل غير هذا فافعل كذا. ومن ذلك قول الشاعر:

فطلقها فلست لها بكفء

وإلا يعل مفرقك الحسام.

وقال الآخر:

ص: 167

فإما أن تكون أخي بحق

فأعرف منك غثى من سميني.

وإلا فاطرحني واتخذني

عدوا أتقيك وتتقيني.

وقال الآخر:

أقيموا بني النعمان عنا صدوركم

وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا.

وعلى الناظم هنا إشكال، وهو أنه أطلق القول بالحذف، ولم يقيده، وحذف جملة الشرط لا يجوز على ما ذكر في "التسهيل" إلا بشرطين:

أحدهما: أن يكون الجازم (إن) دون غيرها من الأدوات، ومنه ما تقدم من الأمثلة، فإن كان غير (إن) فلا يجوز، لا يقال: من يأتني أكرمه ومن لا فلا أكرمه، وكذا لا يقال: متى تمدح زيدا يعطك، ومتى لا فلا يعطك، ونحو ذلك، لأن السماع/ غنما جاء في (إن) وحدها، وهو فيها قليل، كما أشار إليه فلا يتعدى.

والثاني: أن يقع بعد (إن) لا النافية كما تقدم تمثيله، فإن لم يقع بعدها (لا) فلا يجوز الحذف، فلا تقول: إن جئتني فانا آتيك وإن فلا آتيك، أو تقول: إن أحسنت إلي أكرمتك وإن فلا أكرمك، تريد: وإن أبغضتني فلا آتيك، وإن أسأت إلي فلا أكرمك، ومثل هذا لا تقوله العرب.

ص: 168

وكلام الناظم ينتظم بإطلاقه هذا كله، ولأجل ذلك قال في "التسهيل" ويحذف الجواب كثيرا لقرينة، وكذا الشرط المتلو ب (لا) تالية (إن).

والجواب عن الشرط الأول أنه يمكن أن يكون لم يراع شرط وجود (إن) بل يجوز عنده قياسا أن يقال: من يأتني أكرمه، ومن لا فلا أكرمه، وكذا في سائر الأدوات، ولا مانع من هذا في القياس، وإن كان السماع إنما ورد ب (إن) فليس في ذلك ما ينفي القياس في غيرها، وعلى أن ابن الأنباري قد حكى في كتاب "الإنصاف" له عن العرب: من سلم عليك فسلم عليه، ومن لا فلا تعبأ به. وهذا نص في الجواز.

وعن الثاني أن وجود (لا) مع الأداة قد أعطاه قوة كلامه لأنه اشترط فهم المعنى بقوله: "إن المعنى فهم" وذلك أن (لا) إذا جاءت مع (إن) يظهر أنها نفي لما تقدم إثباته، وإذا كانت كذلك فقد لزم العلم بما نفت، وذلك هو الواقع بعدها بلا بد، فقد صارت (لا) هي الدالة على المحذوف من هذه الجهة، وبها يفهم معنى الفعل المحذوف.

أما إذا لم يؤت بلا، كما إذا قلت: إن أحسنت إلي أكرمتك، وإن فلا أكرمك، فلا يفهم معنى المحذوف، لاحتمال أن يكون المعنى: وإن لم يحسن إلي، أو يكون: وإن أسأت إلي، أو غير ذلك، وإذا لم يفهم معناه لم يجز حذفه، فلهذا كرر قلوه:"إن المعنى فهم" مع أنه تقدم له ذلك المعنى بقوله: "قد علم" وكثيرا ما تجد في كلامه ما ظاهره الحشو أو التكرار، وهو منظو على فائدة أو فوائد.

وأيضا لا يمتنع ذلك دون (لا) إذا فهم المعنى، مثل أن يقال لك: أتكرم

ص: 169

زيدًا وإن أساء إليك؟ فتقول: أكرمه وإن، وقد جاء نحو هذا عن العرب، ولكن في الشعر كقوله:

قالت بنات العم يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما قالت وإن.

ولكن مثل هذا قليل، وإنما يكثر مع (لا) ثم قال:

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم.

وإن تواليا وقبل ذو خبر

فالشرط رجع مطلقا بلا حذر.

/ وربما رجح بعد قسم

شرط بلا ذي خبر مقدم.

هذه المسألة جزء مما قبلها، لكنها اجتمعت مع ما يجوز حذف جوابه، وهو القسم، فأخذ يتكلم فيما يحذف جوابه منهما لدلالة جواب الآخر عليه.

وأراد بهذا الكلام أن القسم والشرط إذا اجتمعا في كلام واحد فإن جواب المتأخر منهما يحذف مطلقا، استغناء عنه بجواب المتقدم، فإن تقدم الشرط استغنى بجوابه عن جواب القسم، وإن تقدم القسم استغنى بجوابه عن جواب الشرط، في الأمر العام، وربما كان الأمر بالعكس وإن تقدم القسم.

ص: 170

هذا إذا لم يتقدم ذو خبر، فإنه إن تقدم استغنى بجواب الشرط مطلقا، سواء تقدم عل القسم أم تأخر عنه، هذا جملة ما أراد ذكره.

والحاصل منها قسمان: قسم يستغني فيه بجواب الشرط مطلقا، وقسم يستغني فيه بجواب ما تقدم، ولا بد من بسطها فتقول:

أما قوله: "واحذف" فإن مقتضاه وجوب الحذف، إذ لو أراد الجواز لقال: وجوز الحذف، أو واحذف إن شئت، وقد صرح بهذا المراد بقوله:"فهو ملتزم" وضمير "فهو" عائد على "الحذف" المفهوم من "احذف" كقوله تعالى: } وإن تشكروا يرضه لكم} أي فالحذف ملتزم، ولزوم الحذف صحيح، إذ لا يجوز أن يظهرا معا كما سيأتي، فلا تقول: لئن قام زيد لأكرمنه أكرمه، أو بالعكس.

وتضمن هذا الكلام معنى آخر، وهو أنه لا يكون ذلك إلا إذا كان جوابهما معا أمرا واحدا، فإنه كان كذلك استغنى بجواب أحدهما عن الآخر للعلم بما حذف، فلو لم يتحدا في المعنى لم يجز حذف واحد منهما، إذ لا يبقى دليل على ما حذف.

وقد تبين هذا في قوله: "والشرط يغني عن جواب قد علم" فشرط العلم.

وهذه المسألة داخلة تحت ذلك الشرط، ولأجل هذا صح أن يجتمع الشرط والقسم في كلام واحد، وهو قوله:"لدي اجتماع شرط وقسم" يعني اجتماعهما في كلام واحد، ولا يجتمعان كذلك إلا إذا كان بينهما جامع، وذلك إذا كان الجواب هو المقسم عليه، نحو: والله لئن قام زيد لأكرمته، ونحو ذلك، وعلى هذا ف"التأخير" في كلامه المراد به إذا تصدر الشرط والقسم معا قبل مجئ جواب واحد منهما، لا أنه يريد: إذا تصدر واحد مع جوابه، ثم تأخر الآخر مع

ص: 171

جوابه/ لأنهما إذ ذاك غير مجتمعين، وقد قال:"لدي اجتماع كذا".

فإذا تقرر هذا فالذي ذكر في هذه المسألة قسمان":

أحدهما: أن يجتمعا من غير أن يتقدم عليهما ذو خبر، فالحكم ها هنا كما قال، أن يحذف جواب الآخر منهما لدلالة جواب الأول عليه، فتقول إذا تقدم الشرط: إن جائني زيد والله أكرمه، ولا تقول: لأكرمنه.

وتقول إذا تقدم القسم: والله لئن أتيتني لأكرمنك، ولا يجوز أكرمك، إلا نادرا كما سيأتي. ومن ذلك قوله تعالى: } وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن} الآية. ومنه قول كثير.

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذا لا أقيلها

أنشد سيبويه وقال الآخر:

لئن نائبات الدهر يوما أدلن لي

على أم عمرو دولة لا أقيلها

ص: 172

وهو كثير.

ووجه هذا أن الشرط إذا تقدم، مثلا، فالاعتماد في الكلام إنما هو عليه، والقسم جئ به بعد ذلك للتوكيد، فصار كالملغي إذ لم يعتن به فيقدم، فصار الجواب إذن لما اعتمد هو الشرط فاستحق الجزم، صار على حكم ما لو لم يكن قسم.

وكذلك إذا عكست الأمر فقدمت القسم صار هو المعتنى به المقدم، فاستحق الجواب، فلم يصح الجزم، ودخل الشرط بعد ذلك من حيث كان جواب القسم معلقا عليه، كما دخل الظرف في قولك والله لأضربنك يوم الجمعة، حيث كان الجواب معلقا عليه، ومطلب الوقوع فيه، وهذا ظاهر.

والقسم الثاني: أن يجتمع الشرط والقسم مع تقدم ذي خبر، وهو قوله:(وإن تواليا وقبل ذو خبر).

أي إن تولي الشرط والقسم وقبلهما ذو خبر، فالحكم كذا، وذو الخبر هنا المبتدأ، يريد أنه تقدم عليها المبتدأ، فإن الراجح إذ ذاك الشرط، فهو الذي يؤتى له بالجواب، ويبقى القسم دون جواب استغناء بجواب الشرط، وأراد بقوله:(مطلقا) أي سواء أكان المتقدم الشرط أم القسم، فالمعتبر معتبر بتقديم القسم، بل الحكم للشرط دون حذر.

ويعني بقوله: بلا حذر) أنه لا مانع يلقي في ذلك، كما كان يلقى إذا لم، يتقدم ذو خبر، فتقول هنا: أنا أن تأتني والله أكرمك، وأنا والله إن تأتني آتك، فيستوي الأمران.

وعلل المؤلف ترجيح الشرط في إغناء جوابه هنا مطلقا/ بأن تقدير سقوطه مخل بالجملة التي هو منها، وتقدير سقوط القسم غير مخل، لأنه

ص: 173

مسوق لمجرد التوكيد، والاستغناء عن التوكيد سائغ، ففضل الشرط بلزوم الاستغناء بجوابه مطلقا إذا تقدم عليه وعلى القسم ذو خبر. هذا ما قاله في هذه المسألة.

ثم قال: (وربما رجح بعد قسم شرط) إلى آخره.

يعني أنه قد يجئ نادرا ترجيح الشرط على القسم وإن تقدم القسم، فيأتي الجواب للشرط، ويستغني به عن جواب القسم، وذلك مع عدم تقدم ذي خبر، وهو قولك (بلاذي خبر مقدم) لأنه إذا كان ذو الخبر موجودا مقدما فقد تقدم أنه مطلقا فيقال والله إن قام زيد أكرمه، وبابه الشعر، ولذلك قال:"وربما" قآتي بأداة التقليل. ومنه ما أنشده الفراء من قول الشاعر:

حلفت له إن تدلج الليل لا يزل

أمامك بيت من بيوتي سائر.

وأنشد أيضا:

ص: 174

لئن كان ما حدثته اليوم صادقا

اصم في نهار القيظ للشمس باديا

وقال ذو الرمه:

لئت كانت الدنيا على كما أرى

تباريح من مي فللموت أروح

ومن أبيات الحماسه:

لئن كنت لا أرمي وترمي كنانتي

تصب جانحات النبل كشحي ومنكبي

وفيه كثرة ما، ولذلك قال:(وربما) ولم يقل وشذ.

وفي هذا الفصل نظر من وجهين:

أحدهما: أن ترجيح المتقدم من الشرط والقسم ليس مطلقا، بل ذلك عند المؤلف ما لم يكن الشرط امتناعيا، وهو الشرط بلو أو لولا فإنه إذا كان بأحدهما فالحكم للشرط وحده، تقدم على القسم أو القسم عليه، ولذلك قال في "التسهيل" وإذا توالى قسم وأداة شرط غير امتناعي: وذكر في "الشرح":

ص: 175

أنه تحرز من "لو""ولولا" فإنك تقول: لو قام زيد والله لقام عمرو، وكذلك في (لولا) وإذا كان كذلك دخل على الناظم في نظمه أن يقال في الشرط الامتناعي: والله لو قام زيد لاكر منه، وذلك لا يقال.

والجواب عن هذا أنه إنما تكلم في هذا الباب في الشرط غير الامتناعي، لأنه أفرد للامتناعي فصلا يذكر إثر هذا، فالظاهر أنه لم يتعرض له.

والثاني: أنه ذكر فيها إذا سبق ذو الخبر وجها واحدا، وهو ترجيح الشرط خاصة وهذا مما ينازع فيه، لا يخلو أن يستند غي ذلك إلى قياس أو سماع.

أما القياس فعلى خلاف ما قال، بل مقتضاه أن يكون الشرط والقسم معا، بعد ذي الخبر، إما على حدهما قبل دخوله، فيقال: أنا إن أتيتني والله آتك، أو يقال أنا والله إن أتيتني لآتينك. وبيان تسويغ هذا قياسيا أن الجملة إذا وقعت خبرا للمبتدأ فهي على حكم الاستقلال، كما لو لم تكن خبرا، إلا ما يلزم من إعاده الضمير، ألا ترى أنها تقع شرطية واستفهامية وغير ذلك، ولا يكون مؤثرا فيها.

وإما أن يكون التقدير غير مراعي فيهما على الإطلاق لما نسخ بالنسبة إليهما معا فيجوز الوجهان مطلقا بعد ذي الخبر، كان المتقدم الشرط أو القسم، وعلى هذا يدل كلام سيبويه في "مسألة": أنا والله إن تأتني لا آتك، إذ حسن الجزم في (لا آتك) على أن يكون الشرط

ص: 176

وجوابه خبر "أنا" والقسم ملغي.

وأجاز ابن خروف أن يرفع على جواب القسم وجوابه خبر "أنا" والشرط ملغي، وهو كلام صحيح متمكن في القياس وما ذكره المؤلف من الاعتلال لترجيح الشرط فضعيف، فإن سقوط الشرط إذا كان مخلا فكذلك يخل سقوط القسم بحسب القصد، فإن قصد التوكيد بنا في حذف المؤكد، كما أن سقوط الشرط ينافي قصد التقييد به.

وأيضا فهو لازم له بعينه إذا لم يتقدم ذو خبر، وإلا فما الفارق بين تقدير سقوطه بعد ذي الخبر وسقوطه دونه، لا فرق بينهما في القياس أصلا.

وأيضا فالترجيح بتقدير السقوط ضعيف من جهة أخرى، وهي أن تقدير السقوط جملة إذا سلمنا أنه مخل في الشرط دون القسم لا يؤثر فيما نحن بسبيله، لأن سقوط أحد الجوابين إنما هو للدلالة عليه، فكأنه موجود لفظا، فلا يعود حذف جواب الشرط عليه بنقص ولا أخلال، فالظاهر خلاف ما قال.

وأما السماع فليس له ما يدل على لزوم ما التزم ويمكن أن يقال في الجواب: إنه تعلق بكلام الإمام سيبويه في "المسألة" وهو قوله: وتقول: أنا والله إن تأتني لا آتك، لأن هذا الكلام مبني على "أنا" ألا ترى أنه حسن أن تقول: أنا والله إن تأتني آتك، فالقسم هنا لغو، فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه.

فهذا الكلام بظاهره يعطي أن القسم مع تقدم ذي الخبر لغو، وأن المعتبر هو الشرط وعليه أخذ السيرافي كلام سيبويه، فلا اعتراض عليه بهذا المعنى

ص: 177