المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة: - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٢

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام

- ‌إسلام الفاروق

- ‌دخول الشعب وخبر الصحيفة

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة

- ‌وفاة خديجة وأبي طالب:

- ‌خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:

- ‌ذكر الجن:

- ‌وقت الإسراء:

- ‌ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:

- ‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

- ‌قصة سراقة:

- ‌ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر

- ‌ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

- ‌باب بدء الأذان

- ‌كتاب المغازي

- ‌مدخل

- ‌بعث حمزة رضي الله عنه:

- ‌سرية عبيدة المطلبي

- ‌سرية سعد بن ملك

- ‌أول المغازي: ودان

- ‌ غزوة بواط

- ‌غزوة بدر الأولى:

- ‌سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش:

- ‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر

- ‌باب غزوة بدر العظمى

- ‌قتل عمير عصماء

- ‌غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر

- ‌قتل أبي عفك اليهودي

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة

- ‌ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما

- ‌قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة

- ‌غزوة غطفان:

- ‌غزوة بحران

- ‌سرية زيد إلى القردة

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

- ‌سرية عبد الله بن أنيس

- ‌[بعث الرجيع] :

- ‌بئر معونة:

- ‌حديث بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانت سرا عن كفار قريش، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة....

باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب"، رواه الشيخان. وروى البيهقي عن صهيب رفعه:"رأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب"، ولم يذكر اليمامة.

وأخرج الترمذي والحاكم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله أوحى إلي -أي هؤلاء الثلاثة- نزلت هي دار هجرتك المدينة أو الحرين أو قنسرين"، زاد الحكام: فاختار المدينة صححه الحاكم وأقره الذهبي في تلخيصه، لكنه قال في الميزان: ما في الصحيح من ذكر اليمامة؛ لأن قنسرين من الشام من جهة حلب واليمامة إلى جهة اليمن، إلا إن حمل على اختلاف المأخذ فالأول جرى على مقتضى الرؤية، والثاني خير بالوحي، فيحتمل أنه أُري أولا ثم خير ثانيا، فاختار المدينة.

وفي الصحيح مرفوعا: "أريت دار هجرتكم بين لابتين"، قال الزهري: وهما الحرتان. قال ابن التين: رأى صلى الله عليه وسلم دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرا ثم رأى الصفة المختصة بالمدينة فتعينت، انتهى.

"قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول لله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانت سرا" عن كفار قومهم و"عن كفار قريش" هكذا عند ابن إسحاق أنها كانت سرا عن الفريقين فكأنه سقط من قلم المصنف أو لم يتعلق به غرضه، أي كفار الأنصار الذين قدموا معهم حجاجا، قال الحاكم: وكانوا خمسمائة، ثم ظهرت لهم بعد، ففي حديث عائشة وأبي أمامة ابن سهل: لما صدر السبعون من عنده صلى الله عليه وسلم طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة أهل حرب ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلنون من الخروج فضيقوا على أصحابه وأتعبوهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"قد أريت دار هجرتكم سبخة"، ثم مكث أياما ثم خروج مسرورا، فقال:"قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد منكم أن يخرج فليخرج إليها"، فجعلوا يتجهزون ويترافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، وهذا معنى قوله:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة" بعد الأذى والشكوى، الرؤيا والإخبار بالوحي أنها يثرب، خلاف مقتضى جعله جواب لما من اتصاله بالبيعة، وأنهما في زمن واحد.

ص: 89

إلى المدينة.

فخرجوا أرسالا، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة أو سلمة بن عبد الأسد، قبل بيعة العقبة بسنة، قدم من الحبشة لمكة، فآذاه أهلها، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم.

"إلى المدينة" علم على النبوة بحيث إذا أطلق لا يتبادر إلى غيرها، سميت بذلك في القرآن، وبالدار ودار والإيمان في التوراة بطابة وطائب وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة، وفي مسلم:"إن الله سمى المدينة طابة". وفي الطبراني: "إن الله أمرني أن أسمي المدينة طيبة"، ومن أسمائها دار الأخيار والإسلام ودار الأبرار، وغير ذلك إلى نحو مائة اسم، وكثرة الأسماء آية شرف المسمى، وألف في ذلك المجد الشيرازي مؤلفا حافلا. "فخرجوا أرسالا" بفتح الهمزة، أي: أفواجا وفرقا متقطعة وأحدهم رسل بفتح الراء والسين؛ كما في النور.

قال شيخنا: وفيه تغليب فقد خرج كثير منهم منفردين مستخفين. "وأقام" صلى الله عليه وسلم "بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة" بنصب أول خبر كان واسمها "أبو سلمة" عبد الله "بن عبد الأسد" بسين ودال مهملتين؛ كما في السبل، ابن هلال المخزومي البدري أخو المصطفى من الرضاعة وابن عمته برة، وقال فيه: أول من يعطي كتابه بيمينه أبو سلمة بن عبد الأسد، رواه ابن أبي عاصم توفي سنة أربع عند الجمهور، وهو الراجح. وفي الاستيعاب سنة ثلاث. وفي التجريد تبعا لابن منده سنة اثنتين.

"قبل: بيعة العقبة بسنة" وذلك أنه "قدم من الحبشة لمكة فآذاه أهلها وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار" وهم الاثنا عشر أصحاب العقبة الثانية؛ كما قال ابن عقبة "فخرج إليهم" وكلام المصنف متناف؛ إذ أوله صريح في أن خروج أبي سلمة بعد العقبة الثالثة، وهذا صريح في أنه قبلها، إلا أن تكون الفاء بمنزلة الواو ليست مرتبة على أمره صلى الله عليه وسلم بل غرضه مجرد الإخبار عن أول من هاجر، وهذا قول ابن إسحاق وبه جزم ابن عقبة، وأنه أول من هاجر مطلقا. وفي الصحيح عن البراء: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم. قال الحافظ: فيجمع بينهم بحمل الأولية على صفة خاصة هي أن أبا سلمة خرج لا لقصد الإقامة بالمدينة، بل فرارا من المشركين بخلاف مصعب، فكان على نية الإقامة بها، وجمع شيخنا بأن خروج مصعب، لما كان لتعليم من أسلم بالمدينة لم يعده من الخارجين لأذى المشركين بخلاف أبي سلمة، انتهى.

وفي النور حاصل الأحاديث في أول من هاجر، هل هو مصعب وبعده ابن أم مكتوم، أو أبو سلمة، أو عبد الله بن جحش، وحاصلها في النسوة أم سلمة، أو ليلى بنت أبي حثمة، أو أم

ص: 90

ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش. ثم المسلمون أرسالا،

كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أو الفارعة بنت أبي سفيان.

"ثم عامر بن ربعية" المذحجي أو العنزي بسكون النون من عنز بن وائل أحد السابقين الأولين، هاجر إلى الحبشة بزوجته أيضا شهد بدرا وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما توفي سنة ثلاثا أو اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك. "و" معه "امرأته ليلى" بنت أبي حثمة بفتح المهملة وسكون المثلثة ابن غانم، قال أبو عمر: هي أول ظعينة قدمت المدينة، وقال موسى بن عقبة وغيره: أولهن أم سلمة، وجمع بأن ليلى أول ظعينة مع زوجها وأم سلمة وحدها.

فقد ذكر ابن إسحاق: أن أهلها بني المغيرة حبسوها عن زوجها سنة ثم أذنوا لها في اللحاق به، فهاجرت وحدها حتى إذا كانت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري، وكان يؤمئذ مشركا فشيعها حتى إذا أوفى على قباء، قال لها: زوجك في هذه القرية ثم رجع إلى مكة، فكانت تقول: ما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده بالشجر، ثم يضطجع تحت شجرة، فإذا دنا الرواح قام إلى البعير فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا استوت عليه أخذ بخطامه فقادني، قال البرهان: ويكفيه من مناقبه هذه التي يثاب عليها في الإسلام على الصحيح لحديث حكيم: "أسلمت على ما سلف لك من خير"، انتهى.

"ثم عبد الله بن جحش" بأهله وأخيه أبي أحمد عبد بلا إضافة، الصحيح؛ كما قاله السهيلي تبعا لابن عبد البر. وقيل: اسمه ثمامة ولا يصح، وقيل: عبد الله وليس وليس بشيء كان ضريرا يطوف أعلى مكة وأسفلها بلا قائد فصيحا شاعرا، وعنده الفارعة بمهملة بنت أبي سفيان، ومات بعد العشرين وكان منزلهما ومنزل أبي سلمة على مبشر بن عبد المنذر بقباء في بني عمرو بن عوف، قال أبو عمر: هاجر جميع بني جحش بنسائهم فعدا أبو سفيان على دارهم فتملكها، زاد غيره فباعها من عمرو بن علقمة العامري، فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها"؟ قال: بلى، قال:"فذلك لك"، فلما فتح مكة كلمة أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا أبا أحمد، إنه صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوه في شيء أصيب منكم في الله، فأمسك أبو أحمد عن كلام رسول الله، هكذا في العيون. وسقط في الشامية فاعل أمسك فأوهم أنه أمر وإنما هو فعل مات.

"ثم المسلمون أرسالا" ومنهم عمار بن ياسر وبلال وسعد بن أبي وقاص؛ كما في

ص: 91

ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا، فقدموا المدينة فنزلوا في العوالي.

الصحيح أنهم هاجروا قبل عمر.

"ثم عمرو بن الحطاب" أمير المؤمنين تقدم قول ابن مسعود: كان إسلام عمر عزا وهجرته نصرا وأمارته رحمة، وأخرج ابن عساكر وابن السمان في الموافقة عن علي، قال: ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا، إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وأنفض بدنة، أي: أخرج أسهما من كنانته وجعلها في يديه معدة للرمي بها، واختصر عترته، أي: حملها مضمومة إلى خاصرته، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المغاطس، من أراد أن تثلكه أمه أو يؤتم ولده أو ترمل زوجته فيلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم إليه، ثم مضى لوجهه.

"وأخوه زيد" بن الخطاب أسن من عمر وأسلم قبله وشهد بدرا والمشاهد، واستشهد باليمامة وراية المسلمين بيده سنة اثنتي عشرة، وحزن عليه عمر شديدا، وقال: سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي واستشهد قبلي.

"وعياش" بفتح المهملة وشد التحتية وشين معجمة "ابن أبي ربيعة" واسمه عمرو، ويلقب ذا الرمحين بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن محزوم القرشي المخزومي من السابقين الأولين وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل إلى أن رجع من المدينة إلى مكة فحبسوه، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت؛ كما في الصحيحين. وقول العسكري: شهد بدرا غلطوه، مات بالشام سنة خمس عشرة، وقيل: استشهد باليمامة، وقيل: باليرموك "في عشرين راكبا" كما في الصحيح عن البراء، وسمى ابن إسحاق منهم زيا وعياشا المذكورين وعمرا وعبد الله ابني سراقة بن المعتمر العدوي، وخنيس بن حذافة السهمي، وسعيد بن زيد، وواقد بن عبد الله، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي، واسم أبي خولي عمرو بن زهير وبنو البكير أربعتهم إياس وعاقل وعامر وخالد، وزاد ابن عائذ في مغازيه: الزبير، قال في الفتح: فلعل بقية العشرين كانوا من أتباعهم.

"فقدموا المدينة فنزلوا" على رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر بقباء؛ كما قاله ابن إسحاق وهو بيان قوله تبعا لأبي عمر، "في العوالي" جمع عالية، قال السمهودي: وهي ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها على ميل فأكثر لما قالوه في السنح بضم المهملة وسكون النون وتضم وحاء مهملة أنه بالعوالي على ميل من المسجد النبوي، وهو أدناه وأقصاها عمارة ثلاثة أميال أو

ص: 92

ثم خرج عثمان بن عفان، حتى لم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر. كذا قال ابن إسحاق، قال مغلطاي وفيه نظر لما يأتي بعده.

وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكون هو.

أربعة وأقصاها مطلقا ثمانية أميال أو ستة.

"ثم خرج عثمان بن عفان" ذو النورين أمير المؤمنين وتتابع الناس بعده، "حتى لم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر" الصديق؛ "كذا قال ابن إسحاق" وغيره "قال مغلطاي: وفيه نظر، لما يأتي بعده" في كلام ملغطاي من أنه لما رأى ذلك، أي: هجرة الجماعة من كان بمكة يطيق الخروج خرجوا، فطلبهم أبو سفيان وغيره فردوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس، ولما ذكر ابن هشام وغيره أن صهيبا لما أراد الهجرة، قال له الكفار: أتينا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك!! والله لا يكون ذلك، فقال صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي، فتركوه فسار حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ربح بيعك ثلاثا"، والجواب: أن المعنى لم يبق ممن قدر على الخروج، وقد عبر اليعمري وغيره بلفظ: لم يتخلف معه أحد من المهاجرين إلا من حبس بمكة أو افتتن إلا علي وأبو بكر، قال البرهان الحلبي: هذا صحيح لا اعتراض عليه.

"وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة" إلى المدينة بعد أن رد على ابن الدغنة جواره؛ كما في حديث عائشة في البخاري، قالت: وتجهز أبو بكر قبل المدينة، ولابن حبان عنها: استأذن أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة، "فيقول:"لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبا"، فيطمع أبو بكر أن يكون هو" وعند البخاري: فقال: له صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك؟ بأبي أنت وأمي، قال:"نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر، ورسلك بكسر الراء والرسل السير الرفيق.

وفي رواية ابن حبان: فقال: "اصبر"، ولفظ أنت مبتدأ خبره بأبي، ويحتمل أنه تأكيد لفاعل ترجو، وبأبي قسم، وحبس نفسه منعها. وفي رواية ابن حبان: فانتظره أبو بكر؛ والسمر بفتح المهملة وضم الميم، وقوله: وهو الخبط مدرج من تفسير الزهري، وفي قوله: أربعة أشهر بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية، وبين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 93

ثم اجتمع قريش ومعهم إبليس، في صورة شيخ نجدي، في دار الندوة، دار قصي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام..................،

ومر أن بين العقبة الثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين وبعض شهر على التحرير، انتهى من فتح الباري.

"ثم اجتمع قريش" قال ابن إسحاق: لما رأوا هجرة الصحابة وعرفوا أنه صار له أصحاب من غيرهم فحذروا خروجه وعرفوا أنه أجمع لحربهم، فاجتمعوا "ومعهم إبليس في صورة شيخ نجدي" وذلك أنه وقف على باب الدار في هيئة شيخ جليل عليه بت، بفتح الموحدة وشد الفوقية، قيل: كساء غليظ أو طيلسان من خز، قال في النور: والظاهر أنه فعل ذلك تعظيما لنفسه، فقالوا: من الشيخ؟ قال: من نجد، سمع بالذي اتعدتم له فحضر ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم رأيا ونصحا، قالوا: ادخل، فدخل "في دار الندوة" بفتح النون والواو بينهما مهملة ساكنة ثم تاء تأنيث "دار قصي بن كلاب" قال ابن الكلبي: وهي أول دار بنيت بمكة. وحكى الأزرقي: أنها سميت بذلك لاجتماع الندى فيها يتشاورون، والندى الجماعة ينتدون، أي: يتحدثون، فلما حج معاوية اشتراها من الزبير العبدري بمائة ألف درهم ثم صارت كلها بالمسجد الحرام، وهي في جانبه الشمالي.

وقال الماوردي: صارت بعد قصي لولده عبد الدار فاشتراها معاوية عن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وجعلها دار الإمارة. وقال السهيلي: صارت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم زمن معاوية فلامه، وقال: أبعت مكرمة آبائك وشرفهم، فقال حكيم: ذهبت والله المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون، ذكر ذلك الدارقطني في رجال الموطأ، انتهى.

"وكان قريش لا تقضي أمرا إلا فيها" قيل: وكانوا لا يدخلون فيها غير قرشي إلا إن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي، وقد أدخلوا أبا جهل ولم تتكامل لحيته واجتمعوا يوم السبت ولذا ورد يوم السبت يوم مكر وخديعة، "يتشاورون فيما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام" وكانوا مائة رجل كما في المولد لابن دحية، وزعم بن دريد في الوشاح أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، فقال أبو البختري بفتح الموحد وسكون المعجمة وفتح الفوقية فراء فياء كياء النسب، ابن هشام المقتول كافرا ببدر: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء قبله، فقال النجدي: ما هذا برأي، والله لو حبستموه ليخرجن أمره من وراء

ص: 94

فأجمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك.

فإن قيل: لم تمثل الشيطان في صورة نجدي؟

فالجواب: لأنهم قالوا -كما ذكره بعض أهل السير- لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل في صورة نجدي. انتهى.

ثم أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:............

الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم تكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي، فانظروا في غيره، فقال أبو الأسود: ربيعة بن عمرو العامري، قال في النور: لا أعلم ماذا جرى له، نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فلا نبالي أين ذهب، فقال النجدي لعنه الله: والله ما هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب بذلك عليهم من قوله حتى يتابعوه عليكم، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا، فقال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه، أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمد إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ويتفرق دمه في القبائل، فلا تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فنعقله لهم، فقال النجدي لعنه الله: القول ما قال، لا أرى غيره.

"فأجمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك" هكذا رواه ابن إسحاق، وفي خلاصة الوفاء: وصوب إبليس قول أبي جهل: أرى أن يعطى خمسة رجال من خمس قبائل سيفا فيضربوه ضربة رجل واحد، انتهى. فلعلهم استبعدوا عليه قوله: من كل قبيلة؛ إذ لا يمكن عشرون مثلا أن يضربوا شخصا ضربة واحدة، فقال لهم: خمسة رجال.

"فإن قيل: لم تمثل الشيطان في صورة نجدي؟ فالجواب": كما قال السهيلي في الروض "لأنهم قالوا، كما ذكره بعض أهل السير: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم" أي: ميلهم، "مع محمد، فلذلك تمثل في صورة نجدي، انتهى". ووقع له ذلك أيضا يوم وضع الحجر الأسود قبل النبوة، فصاح: يا معشر قريش! أقد رضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، فإن صح فلمعنى آخر "ثم أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

ص: 95

لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر عليه السلام عليا فنام مكانه، وغطى ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه في الله ووفى بها رسول الله وفي ذلك يقول علي.

وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله خاف أن يمكروا به

فنجاه ذو الطول الإله من المكر

لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه"، بضم الصاد: يرقبونه، "حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر عليه السلام عليا فنام مكانه وغطي ببرد" له صلى الله عليه وسلم بأمره بقوله كما رواه ابن إسحاق:"وتسج بردي هذا الحضري الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم"، وكان صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام "أخضر" قيل: كان يشهد به الجمعة العيدين بعد ذلك عند فعلهما وعورض بقول جابر: كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة، وجمع باحتمال أن الخضرة لم تكن شديدة فتجوز من قا أحمر.

"فكان" علي "أول من شرى" باع "نفسه في الله، ووفى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم" واستشكل هذا بقوله عليه السلام: "أن يخلص إليك شيء تكرهه"؛ لأن بعد خبر الصادق تحقق أن لا يصيبه ضرر وأجيب بجواز أنه أخبره بذلك بعد أمره بالنوم وامتثاله فصدق أنه بالامتثال باع نفسه قبل بلوغ الخبر، ويحمل أنه فهم أنه لن يخلص إليك ما دام البرد عليك لجعله ذلك علة لأمره بتغطيه به والبرد لا يؤمن زواله عنه بريح أو انقلاب في نوم، فصدق مع هذا أنه باع نفسه.

وأما معارضة رواية ابن إسحاق: "لن يخلص إليك"، بأنه لم يذكرها المقريزي في الأمتاع، وإنما فيه أنه أمره ينام مكانه لأمر جبريل له بذلك، ففاسدة، إذ الترك لا يقضي على الذاكر مع أن روايته لا علة لها إلا إرسال الصحابي وليس بعلة وهب إن ما في الأمتاع رواية لا علة فيها، فزيادة الثقة مقبولة، ولكن القوس في يد غير باريها. "وفي ذلك يقول علي:

"وقيت بنفسي خير من طئ الثرى

ومن طاف وبالبيت العتيق وبالحجر"

"رسول إله خاف أن يمكروا به

فنجاه ذو الطول الإله من المكر"

وبعدهما في الشامية وغيرها:

وبات رسول الله في الغار آمنا

موقى وفي حفظ الإله وفي ستر

وبت أراعيهم وما يتهمونني

وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

يتهمونني بضم التحتية من اتهمه بكذا إتهاما أدخل عليه التهمة؛ كما في القاموس. ومر

ص: 96

ثم خرج صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد منهم، ونثر على رءوسهم كلهم ترابا كان في يده، وهو يتلو قوله تعالى:{يس} إلى قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ...............

ما صوبه الزمخشري أنه لم يقل إلا بيتين مرا في أول من أسلم، لكن في مسلم: فقال علي، أي: مجيبا لمرحب اليهودي يوم خيبر:

أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره

إلا أن يقال لم يقل في غير الافتخار الجائز في الحرب، هذا وما في الإحياء أن الله أوحى إلى جبريل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياة، فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، ينادي: بخ بخ، من مثلك يابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، وفيه نزل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] الآية. فقال الحافظ ابن تيمية: إنه كذب، باتفاق علماء الحديث والسير.

وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه أحمد مختصرا عن ابن عباس شرى علي نفسه فلبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه.. الحديث، وليس فيه ذكر جبريل وميكائيل ولم أقف لهذه الزيادة على أصل، والحديث منكر، انتهى. ورد أيضا بأن الآية في البقرة وهي مدنية اتفاقا، وقد صحح الحاكم نزولها في صهيب.

"ثم خرج صلى الله عليه وسلم" من الباب عليهم "وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يره أحد منهم" وروى ابن منده وغيره عن مارية خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين، قال البرهان: والأولى أولى؛ لأن ابن إسحاق أسنده وما فيه إلا الإرسال، أي: إرسال الصحابي، وهو ابن عباس وحديث مارية فيه مجاهيل فإن صحا وفق بينهما، انتهى. بأن يكون صعد الحائط ليراهم ثم رجع وخرج من الباب أو يكون أراد ذلك أولا كراهة رؤيتهم، ثم ترك ذلك ثقة بالله تعالى، وخرج من الباب. "ونثر على رءوسهم كلهم ترابا كان في يده، وهو يتلو قوله تعالى:{يس} [يس: 1]، إلى قوله:{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] .

قال الإمام السهيلي: يؤخذ منه أن الشخص إذا أراد النجاة من ظالم أو من يريد به سوءا وأراد الدخول عليه يتلو هذه الآيات، وقد روى ابن أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في فضل

ص: 97

ثم انصرف حيث أراد.

فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب.

يس إن قرأها خائف أمن، أو جائع أشبع، أو عار كسي أو عاطش سقي، أو سقم شفي، حتى ذكر خلالا كثيرة. "ثم انصرف حيث أراد" روى أحمد بإسناد حسن تشاورت قريش

الحديث.

وفيه: فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراشه، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، أي: غار ثور؛ كما في رواية ابن هشام وغيره، فأفاد أنه توارى فيه حتى أتى أبا بكر منه في نحر الظهيرة، ثم خرج إليه هو وأبو بكر ثانيا، وبهذا علم الجواب عن قوله في النور: لم أقف على ما صنع من حين خروجه إلى أن جاء إلى أبي بكر في نحو الظهيرة، ووقع في البيضاوي، فبيت عليا على مضجعه وخرج مع أبي بكر إلى الغار.

وفي سيرة الدمياطي: أنه ذهب تلك الليلة إلى بيت أبي بكر، فكان فيه إلى الليلة، أي: المقبلة، ثم خرج هو وأبو بكر إلى جبل ثور، انتهى. وفيه أن الثابت في الصحيح أنه عليه السلام أتى أبا بكر في نحر الظهيرة. وفي رواية أحمد: جعل انتهاء خروجه بعد أن بيت عليا على فرشه لحوقه بالغار، فيفيد ما قلنا، والله أعلم.

"فأتاهم آت" قال في النور: لا أعرفه، "ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ههنا، قالوا: محمدا!! قال: قد خيبكم الله قد والله خرج محمد عليكم ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا" قال البرهان: وحكمة وضع التراب دون غيره الإشارة لهم بأنهم الأرذون الأصغرون الذين أرغموا وألصقوا بالرغام وهو التراب، أو أنه سيلصقهم بالتراب بعد هذا.

"وانطلق لحاجته فما ترون ما بمكم فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب" بقية رواية ابن إسحاق: ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده، فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش، فقالوا: لقد صدقنا الذي كان حدثنا وعند أحمد، فبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، وعند ابن عقبة عن الزهري: وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي.

ص: 98

وفي رواية ابن أبي حاتم، مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا.

وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الآية.

ثم أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الهجرة. قال ابن عباس: بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ...............

قال السهيلي: ذكر بعض أهل السير أنهم هموا بالولوج عليه فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا، فهذا الذي أقامهم بالباب حتى أصبحوا.

"وفي رواية ابن أبي حاتم مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا" لا يشكل على القول بأنهم كانوا مائة، وقتلى بدر سبعون لجواز أن التراب الذي كان بيده فيه حصى فمن أصابه الحصى قتل، ومن أصابه التراب لم يقتل "وفي هذا نزل" بعد ذلك بالمدينة يذكره الله نعمته عليه؛ كما في نفس رواية ابن أبي حاتم هذه قوله تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، وقد اجتمعوا للمشاورة في شأنك بدار الندوة "ليثبتوك" يوثقوك ويحبسوك إشارة لرأي أبي البختري فيه "أو يقتلوك" كلهم قتلة رجل واحد إشارة لرأي أبي جهل فيه الذي صوبه صديقه إبليس لعنهما الله، "أو يخرجوك" من مكة منفيا إشارة لرأي أبي الأسود:{اتْلُ} [النعكبوت: 45]، الآية أي: بقيتها وهي ويمكرون ويمكر الله، أي: بهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه وأمرك بالخروج والله خير الماكرين أعلمهم به، زاد ابن إسحاق: ونزل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30، 31] .

هذا وروى ابن جرير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال: "يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني"، قال: من حدثك بهذا؟ قال: "ربي"، قال: نعم الرب ربك، فاستوص به خيرا، قال:"أنا أستوصي به هو يستوصي بي" فنزلت: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، قال الحافظ ابن كثير: ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر؛ لأن القصة ليلة الهجرة وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين.

"ثم أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الهجرة، قال ابن عباس بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} [الإسراء: 80] ، المدينة {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] " إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره، {وَأَخْرِجْنِي} [الإسراء: 80] من مكة {مُخْرَجَ صِدْقٍ} إخراجا لا ألتفت إليها

ص: 99

وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] أخرجه الترمذي وصححه الحاكم.

فإن قيل ما الحكمة في هجرته عليه السلام إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل؟

أجيب: بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه عليه السلام تتشرف به الأشياء، لا أنه يتشرف بها، فلو بقي عليه السلام في مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بها، إذ إن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل، فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه عليه السلام فأمره بالهجرة إلى المدينة، فلما هاجر إليها تشرفت به، حتى وقع الإجماع على أن أفضل البقاع الموضع الذي ضم أعضاءه الكريمة صلوات الله وسلامه عليه.

يقلبي {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] "، قوة تنصرني بها على أعدائك.

"أخرجه الترمذي وصححه" هو و"الحاكم" في المستدرك "فإن قيل: ما الحكمة في هجرته عليه السلام" من مكة "إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل" وهلا أقام بها إذ هي دار أبيه إسماعيل التي نشأ ومات بها وفي حديث: "قبر إسماعيل في الحجر"، رواه الديلمي عن عائشة مرفوعا بسند ضعيف.

"أجيب بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه عليه السلام تتشرف به الأشياء" حتى الأزمنة والأمكنة "لا أنه يتشرف بها، فلو بقي عليه السلام في مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بها إذ إن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل، فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه عليه السلام فأمره بالهجرة إلى المدينة"، ولذا لم تكن إلى الأرض المقدسة مع أنها أرض المحشر والمنشر وموضع أكثر الأنبياء، لئلا يتوهم ما ذكر أيضا "فلما هاجر إليها تشرفت به" لحلوله فيها وقبره بها، "حتى وقع الإجماع" كما حكاه عياض والباجي وابن عساكر "على أن أفضل البقاع الموضع الذي ضم أعضاءه الكريمة صلوات الله وسلامه عليه" حتى من الكعبة لحلوله فيه، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنه أفضل من العرض، وصرح الفاكهاني بتفضيله على السماوات، بل قال البرماوي: الحق أن مواضع أجساد الأنبياء وأرواحهم أشرف م كل ما سواها من الأرض والسماء.

ومحل الخلاف في أن السماء أفضل أو الأرض غير ذلك، كما كان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يقرره، انتهى.

ص: 100

وذكر الحاكم أن خروجه عليه السلام كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها.

وجزم ابن إسحاق: بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول. فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم الأموي....

يعني: وأفضل تلك المواضع القبر الشريف بالإجماع، واستشكله العز بن عبد السلام بأن معنى التفضيل أن ثواب العمل في أحدهما أكثر من الآخر، وكذا التفضيل في الأزمان وموضع القبر الشريف لا يمكن العمل فيه؛ لأن العمل فيه يحرم فيه عقاب شديد، ورد عليه تلميذه العلامة الشهاب القرافي بأن التفضيل للمجاورة والحلول كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، فلا يمسه محدث ولا يلابس بقذر، لا لكثرة الثواب وإلا لزمه أن لا يكون جلد المصحف بل ولا المصحف نفسه أفضل من غيره لتعذر العمل فيه، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة وأسباب التفضيل أعم من الثواب، فإنها منتهية إلى عشرين قاعدة وبينها في كتابه الفروق، ثم قال: بل إنها أكثر وإنه لا يقدر على إحصائها خشية الإسهاب.

وقال التقي السبكي: قد يكون التفضيل بكثرة الثواب، وقد يكون لأمر آخر وإن لم يكن عمل فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عنه، فكيف لا يكون أفضل الأمكنة؛ وأيضا فباعتبار ما قيل كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه وقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعبتار حياته صلى الله عليه وسلم به، وإن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد، قال السمهودي: والرحمات النازلات بذلك المحل يعم فيضها الأمة وهي غير متناهية لدوام ترقياته صلى الله عليه وسلم، فهو منبع الخيرات، انتهى.

"وذكر الحاكم أن خروجه عليه السلام" من مكة "كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وجزم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول فعلى هذا يكون بعد البيعة لشهرين وبضعة عشر يوما"؛ لأن البيعة كما مر في ذي الحجة ليلة ثاني أيام التشريق، فالباقي من الشهر ثمانية عشر يوما إن كان تاما وإلا فسبعة عشر، "وكذا جزم الأموي" بفتح الهمزة وضمها كما ضبطه في النور في أول من أسلم نسبة لبني أمية، قال الحافظ في تقريره يحيى بن سعيد بن إبان بن سعيد العاصي الأموي أبو أيوب الكوفي نزيل بغداد لقبه الجمل، صدوق يضطرب من كبار التاسعة مات سنة أربع وتسعين ومائتين، روى له الستة، انتهى.

فنسبه أمويا فليس هو الحافظ محمد بن خير الأموي بفتح الهمزة والميم بلا مد نسبة إلى أمة جبل بالمغرب كما ترجى من مجرد قول التبصير له برنامج حافل، فإنه فاسد نقلا كما علم وعقلا لأن التبصير، قال: إنه خال السهيلي، أي: أخو أمه وزمنه متأخر عن هذا بكثير فقد أرخوا

ص: 101

-في المغازي- عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. وخرج لهلال ربيع الأول وقادم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.

قال في فتح الباري: وعلى هذا خرج يوم الخميس. وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. ويجمع بينهما: بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأن أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين.

وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة.

وفاة ابن خير في ربيع الأول سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد قال المصنف "في المغازي" وهو يروي فيها عن أبيه وغيره "عن ابن إسحاق" وهو قد توفي سنة خمسين ومائة فلا يدرك ابن خير اتباعه، وفي الألقاب للحافظ في حرف الجيم جمل يحيى بن سعيد الأموي صاحب المغازي من الثقات، "فقال كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال" أتى بنصه لفائدة فيه لم تستفد مما قبله، "وخرج" صلى الله عليه وسلم من مكة "لهلال ربيع الأول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول" على الراجح، قيل: لثمان خلت منه كما في الاستيعاب، وقيل: خرج في صفر وقدم في ربيع، حكاه في الصفوة.

"قال في فتح الباري: وعلى هذا خرج يوم الخميس، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال إنه خرج من مكة يوم الخميس"، وهذا يوافق نقل الأموي ويخالف ما تواترت به الأخبار، قال الحافظ:"ويجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال ليلة الجمعة، وليلة السبت، وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين" فقول الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه يوم الاثنين مجاز أطلق اليوم مريدا به الليلة لقربه منها، والمراد الخروج من الغار لا مكة.

وفي الاستيعاب عن الكلبي: قدم المدينة يوم الجمعة، والله أعلم. "وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة" ثلاث عشرة سنة؛ كما رواه البخاري عن ابن عباس. وروى مسلم عنه خمس عشرة، قال الحافظ: والأول أصح، انتهى، وهو قول الجمهور.

ص: 102

ويدل عليه قول صرمة:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقيل غير ذلك.

وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر.

وأخبر عليه السلام عليا بمخرجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس.

قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة:.............

"ويدل عليه قول صرمة" بكسر الصاد ابن أنس، ويقال: ابن قيس، ويقال: ابن أبي أنس بن مالك بن عدي أبي قيس الأنصاري النجاري صحابي له أشعار حسان فيها حكم ووصايا وكان قوالا بالحق ولا يدخل بيتا فيه جنب ولا حائض، معظما في قومه إلى أن أدرك الإسلام شيخا كبيرا وعاش عشرين ومائة سنة. "ثوى" بمثلثة أقام صلى الله عليه وسلم "في قريش بضع" بكسر الباء وتفتح "عشرة حجة" بكسر الحاء على الراجح وتفتح "يذكر" الناس بما جاء به عند الله فيدعوهم إليه وحده ويتحمل مشاقه، ويود "لو يلقى صديقا مواتيا" موافقا ومطيعا، فلو للتمني فلا جواب لها، أو جوابها محذوف نحو لسهل عليه أمرهم وهذا البيت ثبت في بعض نسخ مسلم وهو من قصيدة لصرمة عند ابن إسحاق.

"وقيل غير ذلك" فعن عروة أنها عشرة سنين، ورواه أحمد عن ابن عباس والبخاري في باب الوفاة عنه وعن عائشة، لكن أول بأنهما لم يحسبا مدة الفترة بناء على قول الشعبي أنها ثلاث سنين لقولهما أقام عشرا ينزل عليه القرآن والأنافي ما رواه البخاري عقبه عن عائشة أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين، "وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر" روى الحاكم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل:"من يهاجر معي"، قال أبو بكر الصديق، قال الحاكم: صحيح غريب.

"وأخبر عليه السلام عليا بمخرجه" بفتح فسكون مصدر ميمي بمعنى الخروج، أي: بإرادة خروجه "وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس" قاله ابن إسحاق وزاد: وليس بمكة أحد عنده شيء يخلف عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته.

"قال ابن شهاب" الزهري فيما رواه عنه البخاري في الحديث الطويل المتقدم بعضه في إرادة أبي بكر الهجرة للحبشة ورجوعه في جوار ابن الدغنة ثم قال: قال ابن شهاب: قال الحافظ: هو بالإسناد المذكور أولا، "قال عروة" بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء "قالت عائشة:

ص: 103

فبينما نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:"أخرج من عندك"، فقال أبو بكر: إنما هم

فبينما" بالميم "نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر" بفتح النون وسكون المهملة "الظهيرة" بفتح المعجمة وكسر الهاء، قال الحافظ: أي أول الزوال وهو أشد ما يكون من حرارة النهار والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبان: فأتاه ذات يوم ظهرا.

وفي حديث أسماء عند الطبراني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت: يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، "قال قائل": قال الحافظ في مقدمة الفتح: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة.

وفي الطبراني: أن قائل ذلك أسماء بنت أبي بكر، انتهى. أي: وهو لا يمنع الاحتما المذكور لجواز أنهما معا قالا "لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا" أي: مغطيا رأسه، قاله المصنف. وقال الحافظ: أي متطيلسا "في ساعة لم يكن يأتينا فيها". وفي رواية موسى بن عقبة، قال ابن شهاب: قالت عائشة: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء، قيل فيه جواز لبس الطيلسان وجزم ابن القيم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلبسه ولا أحد من الصحابة وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس، قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع.

وفي طبقات ابن سعد مرسلا: وذكر الطيلسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا ثوب لا يؤدي شكره، انتهى. ويأتي بسط ذلك في اللباس، إن شاء الله تعالى.

"قال أبو بكر: فداء" بكسر الفاء والقصر، وللحموي والمستملي: فداء بالمد والهمز، "له أبي وأمي" في حجة لا لأصح القولين بجواز التفدية بهما، قال البرهان: وما أظن الخلاف إلا في غير النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كل الناس يجب عليهم بذل أنفسهم دون نفسه، "والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر" وفي رواية يعقوب بن سفيان: إن جاء به بأن النافية بمعنى ما، وابن عقبة: فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما جاء بك إلا أمر حدث، "قالت" عائشة:"فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له" أبو بكر "فدخل" زاد في رواية: فتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله "فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "أخرج" بهمزة قطع مفتوحة "من عندك" هكذا في البخاري في الهجرة وله في محل آخر ما عندك بما مرادا بها من يعلم نحو: لما خلقت بيدي {وَالسَّمَاءِ} [الشمس: 5] ، و {وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3، 5] "فقال أبو بكر: إنما هم

ص: 104

أهلك بأبي أنت وأمي.

قال السهيلي: وذلك أن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك.

فقال صلى الله عليه وسلم: "فإنه قد أذن لي في الخروج".

فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وسلم: "نعم".

فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل بالثمن".

أهلك" يعني عائشة وأسماء، ففي رواية ابن عقبة، فقال: لا عين عليك إنما هما ابنتاي، وكذا في رواية هشام.

"بأبي أنت وأمي، قال السهيلي: وذلك" أي: وجه قوله هم أهلك "إن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك" وأسماء صارت بمنزلة أهله لنكاحه أختها فلا يخشى عليه منهما؛ كما يرشد إليه قوله: لا عين عليك، وقيل كما في النور: أطلق عليهما أهله، كقول الإنسان حريمي حريمك وأهلي أهلك، يعني: أنا وأنت كالشيء الواحد، وقول من قال كانت أمهما عنده وتركها سترا يرده قول عائشة: وليس عنده إلا أنا وأسماء وأيضا فأم عائشة غير أم أسماء، "فقال صلى الله عليه وسلم:"فإنه" كذا رواه الكشميهني وللأكثر فإني "قد أذن" بالبناء للمفعول "لي في الخروج" من مكة إلى المدينة "فقال أبو بكر" أريد "الصحبة" ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: مطلوبي، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم:"نعم"، زاد ابن إسحاق: قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح، وفي رواية هشام: قال الصحبة: يا رسول الله! قال: "الصحبة"، "فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إحدى راحلتي هاتين" إشارة للتين كان علفهما أربعة أسهر، لما قال المصطفى إنه يرجو الهجرة، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": لا أخذها مجانا "بل بالثمن"، وعند ابن إسحاق، قال: "لا أركب بعيرا ليس هو لي"، قال: هو لك، قال: "لا ولكن بالثمن بالذي ابتعتها به"، قال: "أخذتها بكذا وكذا"، قال: هي لك.

وفي حديث أسماء عند الطبراني، فقال:"بثمنها يا أبا بكر"، فقال: بثمنها إن شئت، وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائية درهم، وأن التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم هي القصواء وكانت من نعم بني

ص: 105

فإن قلت: لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقيل؟

أجيب: بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكماله فضل الهجرة إلى الله تعالى، وأن تكون على أتم الأحوال، انتهى.

قشير وعاشت بعده عليه السلام قليلا، وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع، وذكر ابن إسحاق: إنها الجدعاء وكانت من إبل بني الحريش.

وكذا في رواية ابن حبان عن هشام عن أبيه عن عائشة: أنها الجدعاء، ذكره في فتح الباري وعجب إبعاده النجعة بالعز. ولابن حبان فقد رواه البخاري في غزوة الرجيع من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بلفظ: فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما وهي الجدعاء والحريش بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وسكون التحتية وشين معجمة.

وفي سيرة عبد الغني وغيره: أن الثمن كان أربعمائة درهم؛ كما في المقدمة، فصدق حفظ البرهان إذ قال في النور: في حفظي أنه أربعمائة، انتهى. وكأنه مستند من قال الثمانمائة ثمن الراحلتين.

"فإن قلت: لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقبل"، بموحدة وحذف المفعول، أي: فقبله. فقد روى ابن حبان عن عائشة، قال: أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم. وروى الزبير بن بكار عنها أن أبا بكر لما مات ما ترك دينارا ولا درهما. وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من الناس أمن على نفسه وماله من أبي بكر". وروى الترمذي مرفوعا: "ما لأحد عندنا يدا إلا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة".

"أجيب" كما ذكره السهيلي: حدثني بعض أصحابنا، قال ابن دحية، يعني ابن قرقول عن الفقيه الزاهد أبي الحسن بن اللوان "بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكماله فض الهجرة إلى الله تعالى وأن تكون على أتم الأحوال"، قال السهيلي: وهو قول حسن. انتهى.

وهذا الحديث الصحيح يعارض ما رواه ابن عساكر عن أنس رفعه: "إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر زوجني ابنته وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالا أبو بكر أعتق منه بلال وحملني إلى دار الهجرة"، والمنكر منه آخره فقط، وهو حمله إلى الهجرة فإن كان محفوظا فالحمل مجاز عن المعاونة والخدمة في السفر وعلف الدابة أربعة أشهر حتى باعها للمصطفى بحيث لم يحتج

ص: 106

قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين.

قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار ثور -جبل بمكة.

لتطلب شراء دابة فلا معارضة.

"قالت عائشة" عند البخاري بإسناد: "فجهزناهما احث" بمهملة ومثلثة: أسرع، وفي رواية: بموحدة، والأولى أصح "الجهاز" قال الحافظ: بفتح الجيم وتكسر ومنهم من أنكره وهو ما يحتاج إليه في السفر، وقال في النور: بكسر الجيم أفصح من فتحها، بل لحن من فتح والذي في الصحاح وأما جهاز العروس والسفر فيفتح ويكسر، انتهى.

"وصنعنا لهما سفرة من" كذا في النسخ، والذي في البخاري في "جراب" قال الحافظ سفرة، أي: زادا في جراب؛ لأن أصل السفرة لغة الزاد الذي يصنع للمسافر ثم استعمل في وعاء الزاد ومثله المزادة للماء وكذا الرواية فاستعملت هنا على أصل اللغة، وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة، انتهى. "فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها" بكسر النون "فربطت بها على فم الجراب" بكسر الجيم وفتحها لغتان الكسر أفصح وأشهر وهو وعاء من جلد، قاله النووي تبعا لعياض، وفي القاموس: الجراب ولا يفتح أو هو لغة فيما ذكره عياض وغيره المزود أو الوعاء "فبذلك سميت بذات النطاقين" بالتثنية رواية الكشميهني، ورواية غيره النطاق بالإفراد، قال الحافظ: النطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: ثوب تلبسه المرأة، ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل، قاله أبو عبيد الهروي. قال: وسميت ذات النطاقين لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس إحداهما وتحمل في الآخر الزاد، قال الحافظ والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث، أي: في البخاري أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين بالثنية والإفراد بهذين الاعتبارين.

وعند ابن سعد في حديث الباب: شقت نطاقها فأوكت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين، انتهى. "قالت" عائشة "ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار ثور" بمثلثة ولفظ البخاري: بغار في جبل ثور، فكمنا ثلاث ليال "جبل بمكة" بجره على البدلية ورفعه على الخبرية وهو أولى؛ لأنه من كلام المصنف لا من الحديث، قال في الأنوار: الغار ثقب في أعلى ثور في يمني مكة على مسيرة ساعة، وقيل: إنه من مكة على ثلاثة أميال.

ص: 107

وكان من قوله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، لما وقف على الحزورة، ونظر إلى البيت:"والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".

وهذا من أصح ما يحتج به في تفضيل مكة على المدينة.

وفي معجم: ما استعجم أنه منها على ميلين وارتفاعه نحو ميل وفي أعلى الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهو المذكور في القرآن، والبحر يرى من أعلى هذا الجبل وفيه من كل نبات الحجاز وشجره، وفيه شجر البان. وفي القاموس: ثور جبل بمكة فيه الغار المذكور في التنزيل، ويقال له ثور أطحل واسم الجبل أطحل نزله ثور بن عبد مناف فنسب له، انتهى.

فقول النور: إنه كالثور الذي يحرث عليه، أي: في النطق ولم أر فيه أنه سمي به لأنه على صورة الثور كما تصرف عليه من زعمه، ثم فصل المؤلف بين أجزاء حديث الصحيح بجمل وسيعود إلى بقية منه، أولها: وكان يبيت عندهما عبد الله.. إلخ، فقال:"وكان من قوله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة لما وقف على الحزورة" بفتح المهملة فزاي ساكنة فواو فراء، سوق كان بمكة أدخلت في المسجد، وعن الشافعي: الناس يشددونها وهي مخففة، "ونظر إلى البيت "والله إنك" بكسر الكاف خطاب لمكة "لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله" من خطف العلة على المعلول، "ولولا أن أهلك أخرجوني" تسببوا في إخراجي، "ما خرجت منك" أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن عبد الله بن عدي، بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة، فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".

وروى الترمذي أيضا، وقال: حسن صحيح عن ابن عباس رفعه: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"، و"وهذا من أصح ما يحتج به في تفضيل مكة على المدينة" وجوابه أن التفضيل إنما يكون بين شيئين يأتي بينهما تفضيل وفضل المدينة لم يكن حصل حتى يكون هذا حجة، ولو سلم ففي الحجج البينة هو مؤول بأنه قبل أن يعلم تفضيل المدينة أو بأنها خير الأرض ما عدا المدينة؛ كما قاله ابن العربي، وهو أحد التأويلين في قوله عليه السلام لمن قال له:"يا خير البرية، ذاك إبراهيم"، ومعارض بما في البخاري عن عائشة رفعته:"اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"، ونحن نقطع بإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم فقد كانت أحب إليه من مكة.

وفي الصحيحين مرفوعا: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"، انتهى.

ص: 108

..........................................................................................................

وقال غيره: قد استجاب الله دعوة المصطفى للمدينة فصار يجبى إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كل شيء، وكذا مكة ببركة دعاء الخليل، وزادت المدينة عليها لقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه"، أخرجه الترمذي عن أبي هريرة شيئان أحدهما في ابتداء الأمر وهو كنوز كسرى وقيصر وغيرهما وإنفاقها في سبيل الله على أهلها، وثانيهما في آخر الأمر وهو أن الإيمان يأرز إليها من الأقطار، انتهى.

وقد اختلف السلف، أي: البلدين أفضل فذهب الأكثر إلى تفضيل مكة، وبه قال الشافعي وابن وهب ومطرف وابن حبيب واختاره من متأخري المالكية ابن رشد وابن عرفة؛ كما قاله الأبي وذهب عمر بن الخطاب في طائفة وأكثر المدنين إلى تفضيل المدينة على مكة وهو مذهب مالك، ومال إليه من متأخري الشافعية السمهودي والسيوطي والمصنف في المقصد الأخير واعتذر عن مخالفة مذهبه بأن هوى كل نفس حيث حل حبيبها والأدلة الكثيرة من الجانبين، حتى قال الإمام ابن أبي جمرة بتساوي البلدين، والسيوطي: المختار الوقف عن التفضيل لتعارض الأدلة بل الذي تميل إليه النفس تفضيل المدينة، ثم قال: وإذا تأمل ذو البصيرة لم يجد فضلا أعطيته مكة إلا وأعطيت المدينة نظيره وأعلى منه، هكذا قال في الحجج البينة وجزم في أنموذجه بأن المختار تفضيل المدينة.

وأما التشبث بأن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض والمدينة حرمها المصطفى وما حرمه الله أعظم، فشبهة فاسدة؛ لأن الأشياء كلها حرامها وحلالها حرم وأحل من القدم بخطابه تعالى القديم النفسي. وفي البخاري حرمت المدينة على لساني، فهذا صريح في أن الله حرمها، قال في الحجج: وأما كون مكة بها المشاعر والمناسك فقد عوض الله تعالى المدينة عن الحج والعمرة بأمرين وعد الثواب عليهما. وأما العمرة ففي الصحيح "صلاة في مسجد قباء كعمرة". وأما الحج، فعن أبي أمامة مرفوعا:"من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة"، انتهى.

ومحل الخلاف كما مر، فيما عدا البقعة التي ضمت أعضاءه صلى الله عليه وسلم، فإنها أفضل إجماعا ويليها الكعبة فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا، كما قال الشريف السمهودي. وذكر الدماميني: أن الروضة تنضم لموضع القبر في الإجماع على تفضيله بالدليل الواضح إذ لم يثبت لبقعة أنها من الجنة بخصوصها إلا هي، فلذا أورد البخاري حديث:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، تعريفا بفضل المدينة؛ إذ لا شك في تفضيل الجنة على الدنيا، كذلك، قال: ولا يخلو

ص: 109

ولم يعلم بخروجه عليه السلام إلا علي وآل أبي بكر.

وروي أنهما خرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ليلا إلى الغار.

ولما فقدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافلة أثره في كل وجه، فوجد الذي ذهب قبل ثورا أثره..............

من نظر لما فيه من الاحتجاج بالاحتمال؛ لأن في معنى روضة احتمالات كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة وكون الموضع نفسه روضة من رياض الجنة الآن ويعود روضة كما كان، وإن كان لا مانع من الجمع بين الثلاثة؛ كما هو معلوم في محله هذا.

وكان من قوله صلى الله عليه وسلم أيضا لما خرج مهاجرا: "الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام، اللهم أصحبني في سفري واخلفني في أهلي وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض وكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن يحل بي غضبك أو ينزل علي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك وفجأة نقمتك وتحول عافيتك وجميع سخطك، لك العتبى عندي حيثما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك"، رواه عن ابن إسحاق بلاغا.

"ولم يعلم بخروجه عليه السلام إلا علي" لكونه خلفه مكانه "وآل أبي بكر" لأن ذهب إليه فعلم به من عنده وآل الرجل لغة أهله وعياله، فشمل عامر بن فهيرة؛ لأنه مولاه. "وروى" عند الواقدي "أنهما خرجا من خوخة" بفتح المعجمتين بينهما واو ساكنة: باب صغير "لأبي بكر في ظهر بيته" بعد دخول عليه في نحر الظهيرة؛ كما مر، فخرجا "ليلا" ومضيا "إلى الغار" وروى أن أبا جهل لقيهما فأعمى الله بصره عنهما حتى مضيا، قالت أسماء: وخرج بو بكر بماله خمسة آلاف درهم.

قال البلاذري: وكان ماله يوم أسلم أربعين ألف درهم، فخرج إلى المدينة للهجرة وماله خمسة آلاف أو أربعة، فبعث ابنه عبد الله فحملها إلى الغار، "ولما فقدت" بفتح القاف "قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة" جمع قائف وهو الذي يعرف الأثر "أثره" بفتحتين وبكسر فسكون، أي: عقب خروجه "في كل وجه" وذكر الواقدي أنهم بعثوا في أثرهما قاصدين أحدهما كرز بن علقمة ولم يسم الآخر، وسماه أبو نعيم في الدلائل من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم، كما في الفتح. "فوجد الذي ذهب قبل" بكسر ففتح جهة، "ثورا

ص: 110

هنالك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور.

وشق على قريش خروجه وجزعوا لذلك، وجعلوا مائة ناقة لمن رده.

ولله در الشيخ شرف الدين الأبوصيري...............

أثر هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انهى إلى ثور" ويروى أنه قعد وبال في أصل الشجرة، ثم قال: ههنا انقطع الأثر، ولا أدري أخذ يمينا أم شمالا أم صعد الجبل.

وفي رواية: فقال لهم القائف: هذا القدم قدم ابن أبي قحافة، وهذا الآخر لا أعرفه إلا أنه يشبه القدم الذي في المقام -يعني مقام إبراهيم- فقالت قريش: ما وراء هذا شيء ولا يشكل هذا بما روي أنه عليه السلام كان يمشي على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثرهما على الأرض، ويقول لأبي بكر:"ضع قدمك موضع قدمي، فإن الرمل لا يتم"، بفتح أوله وضم النون وكسرها، أي: لا يظهر أثر القدم حتى تضع قدمك موضع قدمي لجواز أنهما لما قربا من الغار مشيا ووضع المصطفى جميع قدمه فلما وصل القائف وجد أثر القدمين فأخبر بما رأى.

"وشق على قريش خروجه وجزعوا" بكسر الزاي لم يصبروا، "لذلك وجعلوا مائة ناقة لمن رده" عن سيره ذلك بقتل أو أسر، فلا ينافي ما في الصحيح: جعلوا الدية لمن قتله أو أسره.

"ولله در الشيخ شرف الدين" محمد بن سعيد بن حماد الدلاصي المولد المغربي الأصل البوصيري المنشأ ولد بناحية دلاص يوم الثلاثاء أول شوال سنة ثمان وستمائة، وبرع في النظم، قال فيه الحافظ ابن سيد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق مات سنة خمس وتسعين وستمائة، ذكره السيوطي وقوله:"الأبوصيري" فيه نظر؛ لأن اسم القرى وهي أربعة بمصر بوصير بضم الموحدة وإسكان الواو وكسر الصاد المهملة وإسكان التحتية وراء والنسبة إليها بوصيري؛ كما في المراصد واللباب وإنه في باب الموحدة ولم يذكر واشيا في الهمزة.

قال ابن ججر الهيثمي: كان أحد أبوي المذكور من بوصير الصعيد والآخر من دلاص، أي: بفتح الدال المهملة قرية بالبهنسي، أي: كفر مصري كما في المراصد والقاموس، فركبت النسبة نهما، فقيل الدلاصيري: ثم اشتهر بالبوصيري، قيل: ولعلها بلد أبيه فغلبت عليه، انتهى. أو لنشأته بها كما مر عن السيوطي، ولو سلم أن القرية بلفظ الكنية فإنما يقال في النسبة صيري بحذف الجزء الأول كما يقال بكري في النسبة إلى أبي بكر؛ إذ لا ينسب إلى الاسمين معا المضاف والمضاف إليه؛ لأن إعراب أولهما بحسب العوامل، والثاني مخفوض بالإضافة كما بينه الشاطبي والرضي وغيرهما.

ص: 111

حيث قال:

ويح قوم جفوا نبيا بأرض

ألفته ضبابها والظباء

وسلوه وحن جذع إليه

وقلوه ووده الغرباء

أخرجوه منها وآواه غار

وحمته حمامة ورقاء

وكفته بنسجها عنكبوت

ما كفته الحمامة الحصداء

يقال شجرة حصداء: أي كثيرة الورق، فكأنه استعاره للحمامة لكثرة ريشها.

"حيث قال: ويح" نصب بفعل محذوف لا بالنداء كلمة ترحم لمن وقع في مهلكة لا يستحقها، فالترحم من حيث قرابتهم له عليه السلام وإنهم من عمود نسبه وجلدته ولا محظور فيه؛ لا لأن كثيرا منهم أسلم بعد، فالترحم باعتبار المآل إذ لم يقعوا في هلكة أصلا، فلا يقال فيهم ويح، "قوم جفوا نبيا" أبغضوه وآذوه أشد الأذى بل قصدوا قتله، "بأرض ألفته ضبابها" جمع ضب "والظباء" جمع ظبي ويأتي حديثهما في المعجزات، "وسلوه" أي: نفرت قلوبهم عنه حتى هجروه مع نشأته فيهم وعلمهم بغاية نزاهته وكماله، "و" الحال أنه قد "حن جذع إليه" كان يخطب عليه بالمدينة قبل أن يصنع له المنبر فصار يخور كما يخور الثور حتى نزل وضمه، كما يأتي إن شاء الله تعالى في المعجزات.

"وقلوه" أبغضوه "و" الحال أنه قد "وده الغرباء" كالأنصار الذين ليسوا من عشيرته ولا عرفوا في ابتداء ودادهم له ما عرفه قومه من كماله الظاهر، وفضله الباهر "أخرجوه" بدل من جفوه، أي: كانوا السبب في خروجه "منها"، من تلك الأرض التي هي وطنه ووطن آبائه "وآواه غار" بجبل ثور "وحمته" منهم "حمامة ورقاء" لونها أبيض يخالطه سواد فباضت عليه، "وكفته بنسجها عنكبوت" دويبة تنسج في الهواء يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى، والجمع العناكب "ما" أي: الأعداء الذين "كفته" إياهم "الحمامة الحصداء، يقال" لغة "شجرة حصداء أي: كثيرة الورق فكأنه استعارة للحمامة لكثرة ريشها"، أي: استعارة مصرحة حيث شبه كثيرة الريش بكثرة الورق، واستعار له اسمها ووصفها بورقاء وحصداء لاجتماعهما فيها، ومنع تعدد الوصف إنما هو إذا كان بمتضادين أو متماثلين، وزعم أن البيت حرفه شراحه والمصنف وإنما هو ما كفته الجنانة بجيم ونونين؛ لأنها تجن البدن، أي: تستره والحصداء المحكمة النسج كما في اللغة. رده شيخنا بأن المناسب للسياق والقصة ما ذكروه وهم ثقات وتلقوه بسندهم إلى الناظم، وأدري بكلامه، فلا وجه للعدول عنه إلى غيره وإن صح في نفسه لغة.

ص: 112

وفي حديث مروي في الهجرة، أنه عليه السلام ناداه ثبير: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه حراء: إلي يا رسول الله.

وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار وأبو بكر معه، أنبت الله على بابه الراءة. قال قاسم: وهي شجرة معروفة،................

"وفي حديث مروي في الهجرة" وذكره عياض في الشفاء "أنه عليه السلام ناداه ثبير" لما صعده "اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري، فأعذب" بالنصب عطفا على تقتل، وإنما خاف العذاب؛ لأنه لو لم يذكر له ذلك مع علمه بأنه لا مكان فيه يستره كان غشا منه يستحق به العذاب، أو لأنه لو قتل على ظهره غضب الله على المكان الذي يقع فيه مثل هذا الأمر العظيم كما غضب على أرض ثمود، فلا يرد كيف يعذب بذنب غيره ولا تزر وازرة وزر أخرى، ويوجه بأن خوفه بمعنى حزنه وتأسف عليه، ونحو ذلك مما لا وجه له.

"فناداه حراء: إلي يا رسول الله! " وهو مقابل ثبير مما يلي شمال الشمس وبينهما الوادي وهما على يسار السالك إلى منى، ولم يذهب له لسبق عبده فيه فخشي طلبهم فيه لما عهدوه من ذهابه إليه، فذهب إلو ثور دون غيره لحبه الفال الحسن، فقد قيل: الأرض مستقرة على قرن الثور فناسب استقراره فيه تفاؤلا بالطمأنينة والاستقرار فيما قصده هو وصاحبه. قال السهيلي: وأحسب في الحديث أن ثورا ناداه أيضا لما قال له ثبير: اهبط عني، انتهى.

وذكر بعضهم: أنه ذهب إلى حنين فناداه: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه ثور إلي: يا سول الله فإن صح ذلك كله فيحتمل أنه ذهب له أولا فلما قال ذلك وناداه حراء لم يذهب له لما ذكر فناداه ثور إن صح أو ذهب إليه دون نداء لكن الذي في الحديث الصحيح أنهما وعدا الدليل غار ثور بعد ثلاث ليال يقتضي أنهما ما خرجا إلا قاصدين إليه.

"وذكر قاسم بن ثابت" بن حزم أبو محمد العوفي السرقسطي الأندلسي المالكي الفقيه المحدث المقدم في المعرفة بالغريب والنحو والشعر المشارك لأبيه في رحلته وشيوخه، الورع الناسك مجاب الدعوة، سأله الأمير أن يلي القضاء فامتنع فأراد أبوه إكراهه فقال: أمهلني ثلاثة أيام فمات فيها سنة ستين وثلاثمائة، فكانوا يرون أنه دعا نفسه بالموت.

"في الدلائل" في شرح ما أغفل أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث: مات قاسم ولم يكمله فأتمه أبوه ثابت الحافظ المشهور، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة" بالراء المهملة والمد والهمز والجمع الراء بلا هاء؛ كما في القاموس.

"قال" قاسم المذكور: "وهي شجرة معروفة" فحجبت عن الغار أعين الكفار، إلى هنا كلام

ص: 113

وهي أم غيلان. وعن أبي حنيفة: تكون مثل قامة الإنسان لها خطيان وزهر أبيض يحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن، فحجبت عن الغار أعين الكفار.

وفي مسند البزار: أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين.

ثم.................

قاسم؛ كما في النور. قال المصنف تبعا لابن هشام "وهي أم غيلان" بفتح المعجمة ضرب من العضاه، كما في المصباح. "وعن أبي حنيفة" الدينوري، كما في الشامية لا الإمام الراءة من أعلاث الشجر، و"تكون مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر أبيض يحشى به المخاد" بفتح الميم جمع مخدة بكسرها، "فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن فحجبت عن الغار أعين الكفار" من كلام قاسم، كما علم. قال في النور: هذه الشجرة التي وصفها أبو حنيفة غالب ظني أنها العشار كذا رأيتها بأرض البركة خارج القاهرة وهي تنفق عن مثل قطن يشبه الريش في الخفة، ورأيت من يجعله في اللحف في القاهرة، انتهى.

"وفي مسند البزار" من حديث أبي مصعب المكي، قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تعالى شجرة فنبتت في وجه الغار، فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم و"إن الله عز وجل" أمر العنكبوت" "فنسجت على وجه الغار" هكذا أوله عند البزار ولو ساقه المصنف من أوله كان أولى؛ لأن فيه تقوية ما ذكره قاسم وما كان يزيد به الكتاب، وقد رواه أحمد عن ابن عباس، وفيه: ونسج العنكبوت على بابه، أي: فالشجرة لما نبتت على وجه الغار انتشرت أغصانها فغطت فمه، ونسج العنكبوت عليه فصار نسجها بين أغصانها وفتحه الغار، وقول بعض نسجت ما بين فروع الشجرة كنسج أربع سنين مخالف لرواية البزار، ولرواية أحمد أشد مخالفة، اللهم إلا أن يراد أنها نسجت على مقابل وجه فيصدق بالملتصق بفهمه وبما بين أغصان الشجرة المقابلة لفم الغار، كن فيه رد الروايات المسند إلى كلام لا يعلم حاله.

"وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار" فعششتا على بابه "وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين" جزاء وفاقا لما حصل بهما الحماية جوز بابا لنسل وحمايته في الحرم فلا يتعرض له، وفي المثل: آمن من حمام الحرم، "ثم

ص: 114

أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر في الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه فقالوا له: ما لك؟ فقال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد.

وقد روي أن الحمامتين باضتا في أسفل النقب ونسج العنكبوت، فقالوا لو دخلا لكسر البيض................

أقبل فتيان من كل بطن بعصيهم وهراويهم" بفتح الهاء الأولى جمع هراوة، وهي العصا الضخمة فهو عطف خاص على عام، قال البرهان: وكان ينبغي أن يكتب بالألف وينطق بها، فيقال: هراواهم، أو أنه يقال هراوي وهراوى كصحاري وصحارى.

"وسيوفهم فجعل بعضهم ينظر في الغار، فرأى حمامتين وحشيتين بفم الغار" هذا ظاهر في قربه منه جدا، وفي الشامية: حتى إذا كانوا من الغار على أربعين ذراعا جعل بعضهم ينظر فيه والمنافاة. ففي الاكتفاء: حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر أربعين ذراعا تقدم أحدهم فنظر فرأى الحمامتين، "فرجع إلى أصحابه، فقالوا له: ما لك؟ فقال حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد" زاد في رواية: فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله، فعرف أن الله قد درأ عنه. "وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف": الكافر المقتول ببدر "وما أربكم؟ " بفتحتين وبكسر فسكون، أي: حاجتكم، "إلى الغار إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد" تتمة الحديث: ثم جاء فبال.

وفي حديث أسماء عند الطبراني: وخرجت من قريش حين فقدوهما وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن هذا الرجل ليرانا وكان ماجهه، فقال:"كلا إن ثلاثة من الملائكة تسترنا بأجنحتها"، فجلس ذلك الرجل يبول مواجه الغار، فقال صلى الله عليه وسلم:"لو كان يرانا ما فعل هذا"، ومر أن القائف قعد وبال، فيحتمل أنه هو أو أمية أو غيرهما.

"وقد روي أن الحمامتين باضتا في أصل النقب ونسج" بالجيم "العنكبوت" والنسج في الأصل الحياكة استعمل في فعل العنكبوت مجازا لما بينهما من المشابهة، وفي حياة الحيوان: العنكبوت دويبة تنسج في الهواء، ومنه نوع من حكمته أنه يمد السدى ثم يعمل اللحمة ويبتدئ من الوسط ونسجها ليس من جوفها بل من خارج جلدها، وفمها مشقوق بالطول، وهذا النوع ينسج بيته دائما مثلت الشكل وسعته بحيث يغيب فيه شخصها. "فقالوا: لو دخل لكسر البيض

ص: 115

وتفسخ العنكبوت. وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود.

فتأمل كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت العنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان فحاكت ثوب نسجها، فحاكت سرا حتى عمي على القائف الطلب "ولله در القائل":

والعنكبوت أجادت حوك حلتها

فما تخال خلال النسج من خلل

ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك، وما أحسن قول ابن النقيب:

وتفسخ" بمعجمة: تقطع، "العنكبوت وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود" لأنها معتادة ونبات الشجرة وبيض الحكام ونسج العنكبوت في زمن يسير مع حصول الوقاية به خارق للعادة، "فتأمل" انظر بعين البصيرة، "كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت" حيرت "الطالب وجاءت عنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان" أي: نزلت فيه وثبتت من قولهم حاك في صدري كذا إذا رسخ، "فحاكت ثوب نسجها" أي: أوجدت الثوب الذي نسجته وهو ما على فم الغار من نسجها، "فحاكت" أي: آثرت، "سترا" بما نسجته "حتى عمي على القائف الطالب" من قولهم: حاك الشيء إذا أثر، وأنشد لغيره بيتا هو:"والعنكبوت أجادت" أحكمت "حوك" نسج "حلتها" أي: ما نسجته والحلة لغة زار ورداء، فاستعار له اسمها، وأطلقه على ما نسجته "فما تخال" تظن "خلال النسج من خلل"، أي: فبسبب ذلك الإحكام لا ترى خللا فيما نسجته، وعبر عن الرؤية بالظن مجازا، "ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك" وروي أن حمام مكة أظلته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فدعا لها بالبركة ونهى عن قتل العنكبوت، وقال:"هي جند من جنود الله". وقد روى الديلمي في مسند الفردوس مسلسلا بمحبة العنكبوت حديا، فقال: أخبرنا والدي، قال: وأنا أحبها، أخبرنا فلان: وأنا أحبها، حتى قال عن أبي بكر: لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أحبها، ويقول:"جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت علي وعليك يا أبا بكر في الغار حتى لم يرنا المشركون ولم يصلوا إلينا"، وكذا رواه أبو سعد السمان البصري في مسلسلاته، قال في العمدة: إلا أن البيوت تظهر من نسجها، انتهى. وأسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي، قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيت يورث الفقر. وأخرج ابن عدي عن ابن عمر رفعه:"العنكبوت شيطان مسخه الله، فاقتلوه"، وهو حديث ضعيف ورواه أبو داود مرسلا بدون مسخه الله.

"وما أحسن قول ابن النقيب" محمد بن الحسن الكناني من مشاهير الشعراء مات سنة سع وثمانين وستمائة عن تسع وسبعين سنة:

ص: 116

ودود القز إن نسجت حريرا

يجمل لبسه في كل شيء

فإن العنكبوت أجل منها

بما نسجت على رأس النبي

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعم أبصارهم"، فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وهذا يشير إليه قول صاحب البردة:

أقسمت بالقمر المنشق إن له

من قلبه نسبة مبرورة القسم

وما حوى الغار من خير ومن كرم

وكل طرف من الكفار عنه عم

فالصدق...........

"ودود القز إن نسجت حريرا

يجمل لبسه في كل شيء"

أي: في كل حال ن الأحوال للملابس، فليست أشرف من غيرها مطلقا.

"فإن العنكبوت أجل منها

بما نسجت على رأس النبي

فهو علة لجواب الشرط المحذوف، وما مصدرية، أي: بنسجها.

"وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعم" بهمزة قطع "أبصارهم" اجعلها كالعمياء الإدراك ولم يرد الدعاء عليهم بالعمى الحقيقي إذ لو أراده لعمو؛ لأنه مجاب الدعوة ولم يعموا، كما أفاده قوله: "فعميت عن دخوله" ويصرح به قوله: "وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار وهذا يشير إليه قول صاحب البردة، أقسمت" حلفت "بالقمر المنشق" آية للنبي صلى الله عليه وسلم وجواب القسم "إن له" أي: للقمر المنشق، "من قلبه نسبة" شبها بقلب المصطفى في انشقاق كل منهما وما أحلى قوله في الهمزية:

شق عن قلبه وشق له البدر

"مبرورة القسم" صفة يمينا دل عليه أقسمت، قيل: والقسم جائز بالقمر، ويحتمل تقدير مضاف، أي: برب القمر. "وما" منصوب بتقدير اذكر أو مجرور عطفا على القمر وجوابه مقدر بما قبله، أي: أن له من قلبه نسبة، أي: واذكر من أو وأقسمت بمن "حوى" جمعه "الغار من خير ومن كرم" يعني المصطفى والصديق وصفهما بما هو من شأنهما وجوز بقاء ما على معناها، وحمل الخير والكرم على صفاتهما، أي: ما جمعه الغار من الخير والكرم الصادرين من النبي صلى الله عليه وسلم والصديق، وقال المصنف من خير بكسر الخاء، وقيل: بفتحها، فالكرم عطف خاص على عام، وقال غيره بفتح الخاء، وقيل: بكسرها والخطب سهل.

"وكل طرف" بصر "من الكفار عنه" عن المحوى "عمى" والجملة حال من ما وعمى يحتمل الفعل والاسم، ويمكن الياء على الأول للوقف، وردها على الثاني له أيضا على لغة. "فالصدق"

ص: 117

في الغار والصديق لم ير ما

وهم يقولون ما بالغار من أرم

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على

خير البرية لم تنسج ولم تحم

وقاية الله أغنت عن مضاعفة

من الدروع وعم عال من الأطم

أي عموا عما في الغار مع خلق الله ذلك فيهم؛ لأنهم ظنوا أن الحمام لا يحوم حوله صلى الله عليه وسلم وأن العنكبوت لا تنسج عليه إسلام لما جرت العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا، فمهم أحسا بالإنسان فرا منه، وما علموا أن الله يسخر ما شاء عن خلقه لمن شاء من خلقه، وأن وقاية عبده بما شاء تغني

أي: النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة أوفذ والصدق وهو "في الغار الصديق" وهو فيه "لم ير ما" بكسر الراء: لم يبرحا، يقال: لا أريم مكانه، أي: لا أبرح وأصله يريما بياء قبل الميم حذفت تبعا لحذفها في إسناده إلى المفرد لالتقاء الساكنين، والمعروف في مثله إثبات الياء، نحو: استقيما.

"وهم" أي: الكفار، "يقولون ما بالغار من أرم" بفتح الهمزة وكسر الراء، أي: أحد نظرا إلى حوم الحمام حول الغار ونسج العنكبوت على فمه، كما أشار إليه قوله:"ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية" الخلق "لم تنسج" بفتح التاء وكسر السين وضمها: العنكبوت، "ولم تحم" لم تدر الحمام حوله ففيه لف ونشر مقلوب، "وقاية الله" حفظه بهذين الضعيفين جدا من عدوه مع شدة بأسه، "أغنت" كفت "عن مضاعفة من الدروع" بمهملة، أي: من الدروع المضاعفة وهي المنسوجة حلقتين حلقتين تلبس للحفظ من العدو "وعن وعال من الأطم" بضم الهمزة والطاء: الحصون التي يتحصن فيها، "أي: عموا عما في الغار مع خلق الله ذلك" العمى المفهوم من قوله قبل فعميت عن دخوله، "فيهم" والمراد إن الله خلق في أعينهم هيئة منعتهم الرؤية مع سلامة أبصارهم، "لأنهم ظنوا أن الحمام لا تحوم حوله عليه السلام" لأن عادته النفرة "وأن العنكبوت لا تنسج عليه السلام لما جرت" به" العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا فهم أحسا بالإنسان فرا منه" وقد روي أن المشركين لما مروا على باب الغار طارت الحمامتان فنظروا بيضهما ونسج العنكبوت، فقالوا: لو كان هنا أحد لما كان هنا حمام، فلما سمع صلى الله عليه وسلم حديثهم علم أن الله حماهما بالحمام وصرف كيدهم بالعنكبوت، "وما علموا أن الله يسخر ما شاء من خلقه لمن شاء من خلقه" وقد سخر الأسد ولبوته ولدانيال في الجب حتى صارا يلحسانه، وسخر العصا ثعبانا لموسى وهارون إذا ناما تدور حولهما وتحميهما، ولكن ما هنا أبلغ في إذلال المشركين لما نالهم من شدة الحسرة لما علموا بعد ذلك وأنهم منعوا بشيء لا يضرهم لو أزالوه بزعمهم بخلاف الأسد والحية، "وأن وقاية الله عبده بما شاء تغني

ص: 118

عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع، وعن التحصن بالعالي من الأطم، وهي الحصون، فلله در الأبوصيري شاعرا، وما أحسن قوله في قصيدته اللامية حيث قال:

وأغيرتا حين أضحى الغار وهو به

كمثل قلبي معمور ومأهول

كأنما المصطفى فيه وصاحبه الـ

ـصديق ليثان قد آواهما غيل

وجلل الغار نسج العنكبوت على

وهن فيا حبذا نسج وتجليل

عناية ضل كيد المشركين بها

وما مكائدهم إلا الأضاليل

إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما

كأن أبصارهم من زيغها حول

وفي الصحيح عن أنس قال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا،

عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع وعن التحصن بالعالي من الأطم وهي الحصون، فلله در الأبوصيري من شاعر، وما أحسن قوله في قصيدته اللامية" التي أولها:

لى متى أنت باللذات مشغول

وأنت عن كل ما قدمت مسئول

"حيث قال" في الجمع بين هذا وما قبله تسامح، "واغيرتا حين أضحى الغار وهو به" عبر بالندبة أسفا على ما فعله قومه معه حتى ألجئوه إلى دخول الغار، "مثل قلبي" صفة مصدر محذوف، أي: تعمير وتأهيل قلبي، "معمور ومأهول" والجملة خبر أضحى "كأنما المصطفى فيه وصاحبه الصديق ليثان" أسدان "قد آواهما غيل" بكسر المعجمة: أجمة أو شجر كثير ملتف فلا يستطاع الوصول إليهما، "وجلل" بجيم غطى "الغار نسج العنكبوت على وهن" ضعف "فيا حبذا نسج وتجليل" تغطية "عناية" بكسر العين وفتحاها مصدر عناه يعنيه ويعنوه، "ضل" من الضلالة ضد الرشاد، "كيد المشركين" مكرهم وخديعتهم "بها وما مكائدهم إلا الأضاليل" جمع أضليلة من الضلال، "إذ ينظرون" للحمام وبيضه ونسج العنكبوت "وهم لا يبصرونهما" أي: النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، "كأن أبصارهم من زيغها حول" وهذا من بقاء بصرهم أبلغ من عماهم.

"وفي" الحديث "الصحيح" الذي أخرجه البخاري في المناقب والهجرة والتفسير ومسلم في الفضائل، والترمذي في التفسير، والإمام أحمد كلهم "عن أنس" قال:"قال أبو بكر" وفي التفسير من البخاري: حدثنا أنس، قال: حدثني أبو بكر، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار، وزاد: في الهجرة فرفعت رأسي فرأيت أقدام القوم "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه" بالتثنية "لرآنا" لأبصرنا، قال الحافظ: وفيه مجيء لو الشرطة للاستقبال خلافا للأكثر، واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها؛ كقوله تعالى:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ، وعلى هذا فيكون قاله حاله وقوفهم على الغار، وعلى قول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكرا

ص: 119

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

وروي أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطرتا دما فاستبكيت وعلمت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن تعود الحفا والجفوة.

لله تعالى على صيانتهما، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ظن" استفهام تعظيم، أي: أي ظن تظنه، أي: لا تظن إلا أعظم ظن "باثنين الله ثالثهما"، أي: جاعلهما ثلاثة بضم ذاته تعالى إليهما في المعية المعنوية المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وهو من قوله ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومن لازم ذلك الظن أنه لا يصل إليهما سوء وذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال له صلى الله عليه وسلم:"لو جاءونا من ههنا لذهبنا من ههنا"، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه.

قال ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا.

"وروي أن أبا بكر، قال: نظرت إلى قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطرتا دما" أي: سال دمهما، فدما تمييز محول عن الفاعل، أي: أثر حفاة في قدميه حتى أسال دمهما، "فاستبكيت" اسين زائدة للتأكيد لا للطلب لما علم من رقة قلبه وشدة حبه للمصطفى المقتضي لغلبة البكاء بلا استجلاب له، "وعلمت أنه" بحذف مفعول علمت، أي: أن ما أصابه إنما هو لما ناله من المشقة؛ لأنه "لم يكن تعود الحفى" بفتح المهملة مقصور المشي بلا خف ولا نعل، "والجفوة" بفتح الجيم وتكسر، أي: الجفاء، أي: لم يتعود كونه مجفوا أو لم يتعود أن قومه جفوة له، قال في الرياض النضرة: ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وكان حافيا وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة، ويدل عليه رواية: فمشى رسول الله ولا يحتمل ذلك مشي ليلة إلا بتقدير ذلك أو سلوك غير الطريق تعمية على الطالب، انتهى.

ويروى أنه عليه السلام خلع نعليه في الطريق، وعند ابن حبان أنهما ركبا حتى أتيا الغار فتواريا، ولا ينافي ذلك ما روي من تعب المصطفى وحمل أبي بكر إياه على كاهله؛ لاحتمال أن يكون ذلك في بعض الطريق، قال في الوفا: ولا ينافي ركوبهما مواعدتهما الدليل بأن يأتي بالراحلتين بعد ثلاث؛ لاحتمال أنهما ركبا غير الراحلتين أو هما، ثم ذهب بهما ابن فهيرة إلى الدليل ليأتي بعد ثلاث. وفي دلائل النبوة من مرسل ابن سيرين، وهو عند أبي القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة وابن هشام عن الحسن بلاغا: أن أبا بكر ليلة انطلق معه صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك،

ص: 120

وروي أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرا فيه، فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات والأفاعي تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر. وفي رواية: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما لك يا أبا بكر"؟ قال لدغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده. رواه ابن رزين.

وأذكر الرصد فأمشي أمامك، فقال:"لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني"، قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فاستبرأه.

"وروي أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيه بنفسه، وإنه رأى جحرا" بضم الجيم وإسكان المهملة، "فيه فألقمه عقبه" بعد أن سد غيره بثوبه، فيروي أنه قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخله فجعل يلتمس بيده فكلما رأى جحرا قطع من ثوبه وألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع فبقي جحر فوضع عقبه عليه. وروي أن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي بكر: أنهما لما انتهيا إلى الغار إذا جحر فألقمه أبو بكر رجليه، وقال: يا رسول الله! إن كانت لدغة أو لسعة كانت بي، وهو صريح في إلقامه رجليه جميعا فتحمل رواية عقبة على الجنس فتصدق بهما، وهي مبينة للمراد من رجليه؛ "لئلا يرج منه ما يؤذي رسول اله صلى الله عليه وسلم" لاشتهاره بكونه مسكن الهوام، فدخل فرأى غارا مظلما فجلس وجعل يلتمس بيده كلما وجد جحرا أدخل فيه أصبعه حتى انتهى إلى جحر كبير فأدخل رجله إلى فخذه، كذا في البغوي. "فجعلت الحيات والأفاعي تضربنه وتلسعنه" عطف تفسير "فجعلت دموعه تنحدر" من ألم لسعها.

"وفي رواية" عن عمر بن الخطاب، ثم قال -أي بعد استبرائه الغار لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فإني سويت لك مكانا، "فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر" بكسر الحاء وسكون الجيم، "ونام فلدغ" بمهملة فمعجمة لذوات السموم وعكسه للذع النار "أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك" لئلا يوقظ المصطفى "فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: $"ما لك يا أبا بكر"؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل" بالفوقية "عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده، رواه ابن رزين" بفتح الراء وكسر الزاي ابن معاوية أبو الحسن العبدري السرقسطي الأندلسي المالكي مؤلف تجريد الصحاح جمع فيه الموطأ والصحيحين

ص: 121

وروي أيضا: أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن قتلت أنا رجل............

وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، قال ابن بشكوال: كان صالحا فاضلا عالما بالحديث وغيره، جاور بمكة أعواما وبها مات سنة خمس وعشرين، وقيل: خمس وثلاثين وخمسمائة.

وفي الرياض النضرة: فلما أصبحا رأى على أبي بكر أثر الورم فسأله، فقال: من لدغة الحية، فقال:"هلا أخبرتني"، قال: كرهت أن أوقظك، فمسحه فذهب ما به من الورم. ولأبي نعيم عن أنس: فلما أصبح قال لأبي بكر: "أين ثوبك"، فأخبره بالذي صنع فرفع صلى الله عليه وسلم يديه، وقال:"اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة"، فأوحى الله إليه قد استجبنا لك. وعن ابن عباس، فقاله صلى الله عليه وسلم:"رحمك الله صدقتني حين كذبني الناس، ونصرتني حين خذلني الناس، وآمنت بي حين كفر بي الناس، وآنستني في وحشتي"، والظاهر كما قال شيخنا أنه كان عليه غير ثوبه مما يستر جميع البدن إذ لم ينقل طلبه لغيره ممن كان يأتي لهما بالغار كابنه وابن فهيرة. وروي ابن مردويه عن جندب بن سفيان، قال: لما انطلق أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، قال: يا رسول الله! لا تدخل الغار حتى أستبرئه لقطع الشبهة عني، فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعيه، ويقول:

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

وذكر الواقدي وابن هشام: إن ذا البيت للوليد بن المغيرة الصحابي لما رجع في صلح الحديبية إلى المدينة وعثر بحرتها، فانقطعت أصبعه. وروى ابن أبي الدنيا: إن جعفرا لما قتل بمؤتة دعا الناس بعبد الله بن رواحة فأقبل فأصيب أصبعه، فارتجز يقول:

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

يا نفس ألا تقلتي تموتي

هذا حياض الموت قد صليت

وما تمنيه فقد لقيت

أن تفعلي فعلهما هديت

وروى الشيخان وغيرهما عن جندب: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت.. البيت والذي يظهر أنه من إنشاء الصديق وأن كلا من المصطفى والوليد تمثل به والممتنع على النبي عليه السلام إنشاء الشعر لا إنشاده وضمنه ابن رواحة شعره المذكور.

"وروي أيضا أن أبا بكر لما رأى القافة" أتوا على ثور وطلعوا فوقه، كما في رواية "اشتد حزنه" وبكى وأقبل عليه الهم والخوف والحزن، "على رسول الله -صلى الله علي وسلم، وقال: إن قتلت أنا رجل

ص: 122

واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحزن إن الله معنا"، يعني بالمعونة والنصر، فأنزل الله سكينته -وهي أمنة تكن عندها القلوب- على أبي بكر لأنه كان منزعجا، وايده -يعني النبي صلى الله عليه وسلم بجنود لم تروها يعني الملائكة ليحرسوه في الغار، وليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته.

انظر، لما رأى الرسول حزن الصديق قد اشتد لكن لا على نفسه، قوي قلبه ببشارة "لا تحزن إن الله معنا" وكان تحفة "ثاني اثنين" مدخرة له دون الجميع، فهو

واجد" لا تهلك الأمة بقتلي فلا تفوتهم نفع ولا يلحقهم ضرر، "وإن قتلت أنت هلكت الأمة" بهلاك الدين "فعندها" وبعد فراغه من الصلاة "قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" فروى عن الحسن البصري: جاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال: هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال:"لا تحزن إن الله معنا".

"يعني بالمعونة والنصر" فالمراد المعنوية لاستحالة الحسية في حقه تعالى لا بالعلم فقط؛ إذ لا يختص بهما وهو معكم أينما كنتم، "فأنزل الله سكينته" عليه "وهي" أي السكينة، "أمنة" بفتحتين، أي: حالة للنفس، "تكن عندها القلوب" لا منها مما تكرهه "على أبي بكر" فالضمير في الآية عائد على صاحبه في قول الأكثر، قال البيضاوي: وهو الأظهر "لأنه كان منزعجا" لا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم تزل السكينة معه، قال ابن عباس كما رواه ابن مردويه والبيهقي وغيرهما. "وأيده -يعني النبي صلى الله عليه وسلم بجنود لم تروها -يعني الملائكة- ليحرسوه في الغار، وليصروا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته" عطف سبب على مسبب، أي: ليحرسوه بصرف وجوههم عنه. وفي نسخ بأو يعني أن القصد أحد الأمرين وإن لزم أولهما للثاني، وقيل: معناه لقوا العرب في قلوب الكفار حتى رجعوا، حكاهما البغوي مصدرا بما اقتصر عليه المصنف.

"انظر" تأمل بعين البصيرة في أمر المصطفى وشفقته على الصديق "لما رأى" علم "الرسول حزن الصديق" مفعول رأي الأول والثاني، "قد اشتد" ويجوز أنها بصرية مجازا؛ لأنه لما رأى ما علاه من الكآبة نزل الحزن القائم به منزلة المبصر حتى جعله مرئيا عليه، فالجملة حال. "لكن لا على نفسه قوي" الرسول عليه السلام "قلبه ببشارة لا تحزن إن الله معنا، وكانت تحفة" بفتح الحاء وتسكن، ما أتحفت به غيرك؛ كما في المصباح بمعنى الإتحاف، أي: كان

ص: 123

الثاني في الإسلام والثاني في بذل النفس والعمر وسبب الموت لما وقى الرسول صلى الله عليه وسلم بماله ونفسه جوزي بمواراته معه في رمسه، وقام مؤذن التشريف ينادي على منائر الأمصار "ثاني اثنين إذ هما في الغار" ولقد أحسن حسان حيث قال:

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد

طاف العدو به إذ صاعد الجبلا

وكان حب رسول الله قد علموا

من الخلائق لم يعدل به بدلا

وتأمل قول موسى لبني إسرائيل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وقول نبينا صلى الله عليه وسلم للصديق: "إن الله معنا".....

إتحاف المصطفى لأبي بكر بكونه "ثاني اثنين مدخرة له دون الجميع" أي: جميع الصحابة، "فهو الثاني" من الرجال "في الإسلام والثاني في بذل النفس والعمر وسبب الموت" عطف تفسير، والمراد أنه لما جعل نفسه وقاية له كأنه بذل نفسه وعمره حفظا عليه السلام، "لما وقى الرسول صلى الله عليه وسلم بماله ونفسه" مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: ما كان جزاؤه فيما فعل؟ فقيل: "جوزي بمواراته معه في رمسه وقام مؤذن التشريف ينادي على منائر الأمصار" جمع منارة بفتح الميم، والقياس كسرها لأنها آلة، "ثاني اثنين إذ هما في الغار، ولقد أحسن حسان، حيث قال": يمدحه "وثاني اثنين في الغار المنيف" الزائد في الشرف على غيره بدخول أفضل الخلق فيه وإقامته به هو وصاحبه، "وقد طاف العدو به إذ" لمجرد الوقت "صاعد" بالألف لعله بمعنى صعد بالتشديد، لكن لم يذكر الجوهري والمجد ولا المصباح صاعد "الجبلا" نصب بنزع الخافض والألف للإطاق، والمعنى: إذ ارتقى العدو على الجبل، "وكان" الصديق "حب" بكسر الحاء محبوب "رسول الله قد علموا" أي عامة الناس العارفين بحال المصطفى والصديق مسلما أو غيره، "من الخلائق" متعلق بيعدل من قوله:"لم يعدل به بدلا" وأنشد الشامي رجلا، والتقدير: علم كل أحد أنه عليه السلام لم يعدل بأبي بكر أحد، أي: لم ينزل أحدا منزلته بحيث يجعله قائما مقامه.

وروى ابن عدي وابن عساكر عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "هل قلت في أبي بكر شيئا"؟ قال: نعم، قال:"قل، وأنا أسمع"، فقال: وثاني اثنين.. إلخ، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال:"صدقت يا حسان، هو كما قلت". فصريح هذا أنه قالهما في حياته. وفي ينبوع الحياة الذي أعرف أنهما من أبيات رثى بها حسان أبا بكر، فهذا يخالف ذاك إذ الرثاء تعداد المحاسن بعد الموت وجمع باحتمال أنه مدحه بهما في حياته، ثم أدخلهما في مرئيته بعد وفاته.

"وتأمل" عطف على انظر "قول موسى لبني إسرائيل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم للصديق: "إن الله معنا"، قدم المسند إليه للإشارة إلى أنه

ص: 124

فموسى خص بشهود المعية ولم يتعد إلى أتباعه، ونبينا تعدى منه إلى الصديق، ولم يقل "معي" لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة إلى أبي بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلي والشهود، وأين معية الربوبية في قصة موسى عليه السلام من معية الإلهية في قصة نبينا صلى الله عليه وسلم، قاله العارف شمس الدين بن اللبان.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود حين كان طالوت يطلبه،......

لا يزول عن الخاطر لشدة التعلق به أو لأنه يستلذ به لكونه محبوبا للعباد إذ لا انفكاك لأحد عن الاحتياج إليه أو لتعظيمه بوصفه بالألوهية لأن سائر صفات الكمال تتفرع عليه، "فموسى خص" من ربه "بشهود المعية" له وحده "ولم يتعد" ذلك الشهود "إلى أتباعه ونبينا تعدى منه" شهوده" إلى الصديق" ولهذا "لم يقل معي لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة إلى أبي بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلي والشهود" إذ ليس في طوق البشر إلا بذلك الإمداد "وأين" استفهام تعجب وتعظيم للفرق بين المقامين، "معية الربوبية في قصة موسى عليه السلام" حيث قال: إن معي ربي والرب من التربية وهي التنمية والإصلاح، "من معية الإلاهية في قصة نبينا صلى الله عليه وسلم" حيث عبر بالاسم الجامع لصفات الكمال، "قاله العارف شمس الدين بن اللبان" محمد بن أحمد الدمشقي، ثم المصري الشافعي الفقيه الأصولي النحوي الأديب الشاعر قدم مصر من دمشق، فأكرمه ابن الرفعة إكراما كثيرا، اختصر الروضة ورتب الأم، مات بالطاعون في شوال سنة تسع وأربعين وسبعمائة، هذا وما نقله الشارح عن شرح الهمزية هو معنى ما نقله المصنف عن ابن اللبان.

"وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة" الخراساني صدوق يهم ويرسل كثيرا روى له مسلم والأربعة ولم يصح أن البخاري أخرج له كما زعم المزي، مات سنة خمس وثلاثين ومائة. "قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود" عليه السلام "حين كان طالوت" بن قيس من ذرية بنيامين شقيق يوسف عليه السلام، يقال إنه كان سقاء، ويقال: كان دباغا، "يطلبه" لأن داود لما قتل جالوت رأس الجبارين وكان طالوت وعد من قتله أن يزوجه ابنته ويقاسمه الملك، فوفى طالوت لداود قتله، وعظم قدر داود في بني إسرائيل حتى استقل بالمملكة فتغيرت نية طالوت لداود وهم بقتله، فلم يتفق له ذلك، ثم رآه في برية، فقال: اليوم أقتله، ففر منه ووجد مغرة فتوارى بها، فنسجت العنكبوت عليه فمر به طالوت فلم يره فتاب وانخلع من الملك وخرج مجاهدا هو ومن معه من ولده حتى ماتوا كلهم شهداء، وكانت مدة ملك طالوت أربعين سنة، وانتقل ملكه إلى داود واجتمعت عليه بنو إسرائيل ولم تجتمع على ملك واحد إلا

ص: 125

ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.

وكذا نسجت على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن نبيح الهذلي بعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل في غار فنسجت عليه العنكبوت، فجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين.

وفي تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما صلب عريانا في سنة إحدى وعشرين ومائة.

عليه ومدة ملكه سبع سنين في قصة طويلة مذكورة في المبتدأ لابن إسحاق، كما في فتح الباري.

"ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار" لأن كل كرامة ومعجزة أوتيها نبي لا بد وأن يكون للمصطفى مثلا أو نظيرها أو أجل، فنسج عليه العنكبوت كداود وتعدى إلى بعض أصحابه وذريته، كما قال:"وكذا نسجت على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس" بن أسعد الجهني الأنصاري السلمي "لما بعثه صلى الله عليه وسلم لقتل خالد" بن سفيان "بن نبيح" بضم النون وفتح الموحدة وإسكان التحتية وحاء مهملة، "الهذلي" فنسبه المصنف لجده بناء على قول ابن إسحاق: أن البعث لخالد بن سفيان بن نبيح، وذكر ابن سعد نه سفيان بن خالد بن نبيح، وتبعه المصنف فيما يأتي واليعمري وغيرهما؛ لأنه كان يجمع الجموع للنبي صلى الله عليه وسلم.

"بعرنة" بالنون وادي عرفة "فقتله ثم حمل رأسه ودخل في غار، فنسجت عليه العنكبوت فجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين" ثم سار بالرأس فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: "أفلح الوجه"، قال: وجهك يا رسول الله، ووضع الرأس بين يديه وأخبره الخبر فدفع صلى الله عليه وسلم إليه عصا كانت بيده، وقال:"تحضر بهذه في الجنة"، فلما حضره الموت أوصى أهله أن يجعلوها في كفنه، ففعلوا "وفي تاريخ ابن عساكر أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" رضي الله عنهم أبي الحسين المدني الثقة، ولد سنة ثمانين وروى عن أبيه وجماعة، وأخرج له أصحاب السنن.

"لما صلب عريانا" أربع سنين كما في تاريخ ابن عساكر وبه جزم غير واحد، وقيل: خمس سنين، وكان قد بايعه خلق كثير من أهل الكوفة، وقالوا: تتبرأ من أبي بكر وعمر فأبى، فقالوا: نرفضك فسموا الرافضة، وقالت طائفة: نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما فسموا الزيدية فخرجوا معه وحارب متولي العراق لهشام بن عبد الملك وهو يوسف بن عمر ابن عم الحجاج الثقفي فظفر به يوسف فقتله وصلبه ووجهوه لغير القبلة، فاستدارت خشبته إلى القبلة، ثم أحرقوا جسده وخشبته وذري رماده في الرياح على شاطئ الفرات وكان قتله وصلبه "في" صفر "سنة إحدى وعشرين ومائة" فيما قاله سعيد بن عفير وأبو بكر بن أبي شيبة وخليفة وآخرون قائلين:

ص: 126

وكان مكثه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاث ليال، وقيل بضعة عشر يوما. والأول هو المشهور.

وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت معهم، فلا يسمع بأمر يكادان به.........

وبقي مصلوبا إلى سنة ست وعشرين، وقال ابن سعد: ومصعب في ثاني صفر سنة عشرين، وقال الليث بن سعد وهشام الكلبي والهيثم بن عدي والزبير بن بكار وآخرون، قتل يوم الاثنين ليومين مضيا من صفر سنة اثنين وعشرين ومائة، وقال ابن عساكر: صلب في سنة ست وعشرين، قال البرهان: وعليه يكون في خلافة الوليد بن يزيد؛ لأن هشاما مات سنة خمس وعشرين ومائة.

"وكان مكثه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاث ليال" كما في الصحيح: فكمنا فيه ثلاث ليال، "وقيل: بضعة عشر يوما" رواه أحمد والحاكم عن طلحة البصري مرسلا، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لبثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا طعام البرير". "والأول هو المشهور" كما قال ابن عبد البر وغيره، وجمع الحاكم بأنهما كمنا في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، لكن قال الحافظ: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حال الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، انتهى.

"وكان يبيت عندهما" في الغار "عبد الله بن أبي بكر" الصديق أصابه سهم في غزوة الطائف فاندمل جرحه ثم نقض بعد ذلك فمات في خلافة أبيه، قال الحافظ: وفي نسخة من البخاري عبد الرحمن وهو وهم. "وهو غلام شاب ثقف" بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز سكانها وفتحها، كما قال الحافظ، وتبعه المصنف وجوز البرهان ضمها وأسقطه الفتح، وبعدها فاء" أي" حاذق "ثابت المعرفة بما يحتاج إليه" تفسير من المصنف زائد على الحديث وهو من الفتح، وما ألطف قوله في مقدمته، أي: فطن وزنا ومعنى "لقن" بفتح اللام وكسر القاف وتسكن؛ كما في النور: فنون، أي: سريع الفهم، "فيدلج" بضم الياء وسكون الدال، ولأبي ذر بشد الدال بعدها جيم؛ كما قال المصنف، واقتصر الحافظ وتبعه الشامي على رواية أبي ذر، أي: يخرج "من عندهما بسحر" إلى مكة "فيصبح مع قريش بمكة كبائت" لشدة رجوعه بغلس يظنه من لا يعرف حقيقة أمره مثل البائت، "فلا يسمع بأمر يكادان به" بضم التحتية فكاف فألف، رواية

ص: 127

إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام.

ويرعى عليهما عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.

واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، عبد الله بن أريقط............

الكشميهني ولغيره: يكتاد أنه بفتح أوله وفوقيه بعد الكاف، أي: يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد، "إلا وعاه" حفظه "حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة" بضم الفاء مصغر "مولى أبي بكر" من السابقين الأولين، ذكر ابن عقبة عن ابن شهاب: أن أبا بكر اشتراه من الطفيل بن سخبرة فأسلم فأعتقه وهو مخالف لما رواه الطبراني عن عروة أنه كان ممن يعذب في الله فاشتراه أبو بكر فأعتقه، اشتهد ببئر معونة.

"منحة" بكسر الميم وسكون النون وفتح المهملة: شاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشي، قال الحافظ: وتطلق أيضا على كل شاة، "من غنم" ذكر ابن عقبة عن الزهري أنها كانت لأبي بكر فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان ثم يسرح بكرة، فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له. "فيريحها" بضم أوله، أي: يردها. قال المصنف: أي الشاة أو الغنم، "عليهما حين تذهب ساعة من العشاء" فيحلبان ويشربان "فيبيتان في رسل" بكسر الراء وسكون المهملة: لبن طري، "وهو لبن منحتهما" أسقط من الرواية: ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس.

رضيف بفتح الراء وكسر المعجمة بزنة رغيف لبن فيه حجارة محماة بالشمس أو النار، لينعقد وتزول رخاوته وهو بالرفع ويجوز الجر. وينعق بكسر المهملة يصيح بغنمة ويزجرها. وفي رواية بهما بالتثنية، أي: يسمع المصطفى والصديق صوته إذا زجر غنمه. "يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث" ولابن عقبة عن ابن شهاب: وكان عامر أمينا مؤتمنا حسن الإسلام وفي رواية: وكانت أسماء تأتيهما من مكة إذا أمست بما يصلحهما من الطعام. وعند ابن إسحاق: فإذا أمسى عامر أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفي أثره وخرج معهما حتى قدم المدينة، ولا ينافي بيات ابن الصديق عندهما وتردد عامر وأسماء نسج العنكبوت على فم الغار؛ لأنه خارق فيجوز عدم نسج العنكبوت أو تكرّر النسج كل يوم أو غير ذلك.

"واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر" قبل خروجهما من مكة، بدليل: وغداة الغار، قال في الصحيح: رجلا من بني الدبل وبينه ابن عقبة وابن سعد، فقالا: استأجر "عبد الله بن أريقط"

ص: 128

دليلا -وهو على دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام- فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال.

فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل،...........

بالقاف والطاء مصغر وسماه ابن إسحاق في رواية ابن هشام: عبد الله بن أرقد، وفي رواية الأموي عنه: أريقد، بالدال بدل الطاء وبالطاء أشهر، وقال مالك في العيبة: اسمه رقيط، والديل بكسر الدال وسكون التحتية، وقيل: بضم أوله وكسر ثانيه مهموز، ذكره في الفتح.

"دليلا" حال منتظرة أو ليكون دليلا "وهو" أي: الرجل الذي استأجره، "على دين كفار قريش" من عبدة الأوثان لا من أهل الكتاب ومع ذلك سخره الله ليقضي أمره، وهذا من جملة الرواية. "ولم يعرف له إسلام" هكذا جزم به الحافظ عبد الغني المقدسي في سيرته وتبعه النووي، وقال السهيلي: لم يكن إذ ذاك مسلما ولا وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ولا يعترض بأن الواقدي ذكر أنه أسلم؛ لأنه قيد بصحيح وضعّف الواقدي معلوم خصوصا مع الانفراد وكأنه سلف الذهبي في عده صحابيا، وقد قال في الإصابة: لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد ووصفه في الرواية بأنه كان هاديا ضريتا، أي: ساديا للطريق، قال: والخريت، أي: بكسر الخاء المعجمة والراء الثقيلة وتحتية ساكنة ففوقية: الماهر بالهداية، أي: هداية الطريق، وهذا التفسير مدرج من كلام الزهري، كما بينه ابن سعد. قال الأصمعي: سمي خريتا لأنه يهتدي بمثل خرت الإبرة، أي: ثقبها. وقال غيره: لاهتدائه لآخرات المفازة وهي طرقها الخفية، قال في الرواية: فأمناه، بفتح الهمزة مقصورة كسر الميم، أي: ائتمناه، "فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه" بمعنى التواعد، وهو الذي في البخاري بلفظ: ووعداه، "غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث" وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيريهما، "وانطلق معهما عامر بن فهيرة" زاد ابن عقبة: يخدمهما ويعينهما يردفه أبو بكر ويعقبه ليس معهما غيره، "والدليل: فأخذ بهم طريق السواحل" بسين وحاء مهملتين، أسفل عسفان.

وفي رواية ابن عقبة: فأجازهما أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان، ثم أجارهما حتى عارض الطريق، وقد بين الزبير بن بكار من حديث عائشة، وابن عائذ من حديث ابن عباس سيرهما منزلة منزلة إلى قبا، ثم فصل المصنف حديث الصحيح بذكره قصة أم معبد، وسنذكر منه بقية في خبر سراقة، وقد مروا قبل ذلك كما في الصحيح بصخرة فنام المصطفى في ظلها، ورأى أبو بكر راعيا معه غنم فاستحلبه فحلب له منها فبرده أبو بكر حتى

ص: 129

فمروا بقديد علي أم معبد -عاتكة بنت خالد الخزاعية- وكانت برزة جلدة، تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم.

وكان القوم مرملين مسنتين، فطلبوا لبنا أو لحما يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل بها لبن"؟ فقال: هي أجهد من ذلك،..........

قام صلى الله عليه وسلم فسقاه ثم ارتحلوا، "فمروا" كما رواه الحاكم وصححه البيهقي وصاحب الغيلانيات ومن طريقه اليعمري عن أبي سليط الأنصاري البدري، وابن عبد البر وابن شاهين وابن السكن والطبراني وغيرهم، عن أخي أم معبد حبيش صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: لما خرج صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر وابن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق مروا "بقديد" بضم القاف وفتح الدال الأولى إسكان التحتية: موضع معروف، "على أم معبد" بفتح الميم وسكون المهملة وفتح الموحدة ودال مهملة "عاتكة" بكسر الفوقية وبالكاف "بنت خالد" ابن خليد مصغر آخره دال مهملة كما صدر به ابن الأثير في الجامع، وقيل: ابن خليف، بفاء بدل الدال مصغر وقيل: ابن منقذ بضم الميم وسكون النون وكسر القاف وذال معجمة وقال الطبراني: عاتكة بنت خليف، وقال: بنت خالد بن منقذ. وفي ثقات ابن حبان: أم معبد بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس.

وفي الإكمال: عاتكة بنت خليفة بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حزام بن حبشية، زاد السهيلي: ابن كعب بن عمرو الكعبية.

"الخزاعية" بضم الخاء والزاي المنقوطتين ومهملة، صحابية خرج لها أبو يعلى الموصلي وروى ابن السكن حديث نزول النبي صلى الله عليه وسلم عليها من حديثها نفسها من رواية أخيها حبيش عنها. "وكانت برزة" كضخمة عفيفة جليلة مسنة أو غيرها، وقيل: هي المسنة التي برزت فلم تنخدر لسنها وخرجت عن حد المحجوبات، حكاهما ابن المنير وغيره.

"جلدة" قوية أو عانية "تحتبي" تجلس "بفناء القبة" الخيمة والفناء سعة أمام البيت أو ما امتد من جوانبه، "ثم تسقي وتطعم" من يمر بها "وكان القوم مرملين مسنتين" بكسر النون والمثناة الفوقية، أي: أصابتهم السنة، "فطلبوا بنا أو لحما" وعند أبي عمر: سألوها لحما وتمرا فكأنهم طلبوا ما تيسر من الثلاثة، "يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئا" وقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناكم القرى؛ كما في الرواية، أي: أحوجناكم، "فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة خلفها" بشد اللام "الجهد" بفتح الجيم، وضمها، أي: الهزال، "عن الغنم فسألها صلى الله عليه وسلم:"هل بها من لبن"؟ فقالت: هي أجهد من ذلك" تريد أنها لضعفها وعدم طروق الفحل لها دون من

ص: 130

فقال: "أتأذنين لي أن حلها"؟ فقالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، وسمى الله، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط -أي يشبع الجماعة حتى يربضوا- فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى علا بعد نهل، ثم غادره عندما وذهبوا.

فلما لبث أن جاء أبو معبد زوجها...........

لهما لبن، فكأنها قالت: هي على صفة دون المسئول عنه، "فقال:"أتأذنين لي أن أحلبها"؟ بضم اللام وكسرها؛ كما في القاموس.

"فقالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا" بفتح اللام وسكونها، أي: لبنا في الضرع، "فاحلبها، فدعا بالشاة" طلبها أن تأتي إليه، فالباء زائدة فيكون معجزة، لكن في رواية: فبعث معبدا وكان صغيرا، فقال:"ادع هذه الشاة"، ثم قال:"يا غلام هات" فأحضرها إليه "فاعتقلها" أي: وضع رجلها بين ساقه وفخذه ليحلبها، "ومسح ضرعها" زاد في رواية: وظهرها "وسمى الله" زاد في رواية: ودعا لها في شاتها، "فتفاجت ودرت ودعا بإناء يربض الرهط" أي: طلب إناء موصوفا بذلك، كما يفيده العيون، لا أنه طلب مطلق إناء فأحضر بتلك الصفة، وفسره فقال:"أي: يشبع الجماعة حتى يربضوا" بكسر الموحدة "فحلب فيه ثجا" بمثلثة وجيم حلبا قويا "وسقى القوم" بعد أن سقى أم معبد حتى رويت؛ كما في رواية.

"حتى رووا ثم شرب آخرهم" وقال: "ساقي القوم آخرهم شربا"، "ثم حلب فيه مرة أخرى" فشربوا "علا" بفتح المهملة واللام والأولى "بعد نهل" بفتح النون والهاء وتسكن ولام، أي: شربا ثانيا بعد الأول، "ثم" حلب فيه آخر و"غادره" بغين معجمة: تركه، "عندها" زاد في رواية: قال لها: "ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك"، ثم ركبوا "وذهبوا، فلما لبث" أي: ما لبث إلا قليلا "أن جاء أبو معبد زوجها" وهذا كله صريح في أنها لم تذبح لهم. ووقع في بعض الروايات عن أم معبد، قالت: طلع علينا أربعة على راحلتين فنزلوا بي، فجئت رسول الله بشاة أريد ذبحها فإذا هي ذات در، فأدنيتها منه فلمس ضرعها، وقال:"لا تذبحها"، وجئت بأخرى وذبحتها وطبختها فأكل هو وأصحابه وملأت سفرتهم منها، ما وسعت، وبقي عندنا لحمها أو أكثر، وبقيت الشاة التي مس ضرعها إلى زمن عمر، فإن صحت مع أنه لم يكن عندها إلا شاة واحدة، فيحتمل أنها لما أتته بها وشاهدت فيها الآية البينة تسلفت من جيرانها التي ذبحت إكراما

ص: 131

قال السهيلي: ولا يعرف اسمه، وقال العسكري: اسمه أكثر بن أبي الجون، ويقال: ابن الجون يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزلا، مخهن قليل.

فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب حيال، ولا حلوب بالبيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. فقال: صفيه يا أم معبد.

فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة. مبلج الوجه حسن الخلق،...........

للمعجزة الظاهرة فشاهدت فيها آية أخرى، والله أعلم.

"قال السهيلي: ولا يعرف اسمه، وقال العسكري": الحافظ الإمام أبو الحسن علي بن سعيد بن عبد الله نزيل الري صنف وجمع، ومات سنة خمس وثلاثمائة، "اسمه أكثر" بفتح الهمزة والمثلثة "ابن أبي الجون" بفتح الجيم وبالنون، قال السهيلي: له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي في حياته، وقال الذهبي: قيل اسمه حبيش. وقيل: أكثم، قديم الوفاة. "ويقال: ابن الجون" بإسقاط أبي حبيش بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالمعجمة على الأصح.

وقيل: بمعجمة مضمومة ونون مفتوحة وسين مهملة، وفي الإصابة أبو معبد الخزاعي ذكره ابن الأثير، وقال: تقدم في حبيش، والمتقدم إنما وصف بأنه أخو أم معبد، وأما زوجها فلم يسم وترجم ابن منده لمعبد بن أبي معبد ولم يسم أباه، وأخرج البخاري في التاريخ وابن خزيمة والبغوي قصة أم معبد من طريق الحر بن الصباح النخفي عن أبي معبد الخزاعي، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر وأبو بكر وعمر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمة أم معبد.. الحديث، وفي آخره عند البغوي، قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت. قال البخاري: هذا مرسل، فأبو معبد مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم.

"يسوق أعنزا عجافا" بكسر المهملة جمع عجفاء، وهي المهزولة. "يتساوكن هزلا" بضم الهاء وسكون الزاي "مخهن قليل" بخاء معجمة، أي: الودك الذي في العظم. وسقط في نسخ لأنه مساو لعجاف، "فلما رأى اللبن أبو معبد عجب، وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب" بمهملة فألف فزاي فموحدة "حيال" بكسر المهملة وتحتية "ولا حلوب بالبيت" أي: ليس فيه ذات لبن تحلب؛ كما في المصباح.

فليس للمبالغة، "فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا" أي: رأى الشاة ودعا لها، فحكت له القصة، فهي مركبة من كاف التشبيه وذا الأشاربة كنى بها عن غير عدد على أحد أوجهها، "فقال: صفية" يا أم معبد! فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة" بفتح الواو وضاد معجمة ومد: الحسن والبهجة، "مبلج الوجه" مشرقة "حسن الخلق" بضم الخاء واللام

ص: 132

لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل، أزج أرقن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم طوال تحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد،..........

عرفت ذلك من حاله مع رفقته، أو بفتح فسكون تأكيدا لما علم من أوصافها، والظاهر الأول. "لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة" لعدم وجودهما فيه، وهو "وسيم قسيم" عطف مرادف إذ معناهما الحسن كما يجيء، "في عينيه دعج" بفتح الدال والعين المهملتين وجيم، "وفي أشفاره وطف" بفتح الواو والطاء المهملة وبالفاء، ويروي غطف بغين معجمة بدل الواو، ورجحها الحافظ عبد الغني المقدسي والقطب الحلبي ومعناهما طول، ويروي بعين مهملة، ويأتي بيانه.

"وفي صوته صحل" بفتح المهملتين ولام "أحور، أكحل، أزج" بفتح الهمزة والزاي وشد الجيم بصوف به الرجل والحاجب في المدح، "أقرن" مثله في حديث علي، وهو مخالف لما في حديث هند بن أبي هالة: أزج الحواجب سوابغ من غير قرن. قال ابن الأثير: وهو الصحيح، وقال غيره: إنه المشهور وإن قول راويه وكان هند وصافا رد لما خالفه، وأجيب بأن بينهما شعرا خفيفا جدا يظهر إذا وقع عليه الغبار في نحو سفر، وحديث أم معبد سفري، وبغير ذلك.

"شديد سواد الشعر، في عنقه سطع" طول "وفي لحيته كثاثة" بمثلثتين، "إذا صمت" بفتح الميم "فعلية الوقار" بفتح الواو: الحلم والرزانة، "وإذا تكلم سما وعلاه البهاء وكأنه منطقه خرزات نظم طوال يتحدرن" لعل وجه التشبيه التناسق بين كلماته وشدة اتصال بعضها ببعض، فأشبهت في تناسقها الكلمات، وفي تواليها الخرزات إذا تتابعت، "حلو المنطق" الحلو في المطعوم مستلذ، فاستعير لما يعجب السامع ويستلذ بماعه، "فصل" بفاء فصاد ساكنة بين الحق والباطل أو بين قاطع للشك لا لبس فيه، أو ذو فصل بين أجزائه؛ كقول عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا.

"لا نزر ولا هذر، أجهر الناس" أرفعهم صوتا إذا تكلم من بعد "وأجمله" أحسنه، "من بعيد" يعني أن علو صوته لا ينقصه بل يزيد معه حسنا وكمالا، وهذا على ما في نسخ المصنف والذي في الشفاء: أجمل الناس من بعيد، ولغيره: أجمل الناس وأبهاه من الجمال الذي هو الحسن وجعل الجمال من بعيد؛ لأنه يحقق للناظر النظر فيه لمهابته بحيث لا يطيل القريب منه النظر له إلا الصغير أو المحرم أو الأعراب، فإذا فعل ذلك أدرك فوق الجمال مرتبة أخرى؛ كما قيل:

ص: 133

وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذ أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.

فقال: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتبعته.

قالت أسماء بنت أبي بكر: لما خفي علينا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدري أين............

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا

وإليه أشار قولها: "وأحلاه" من حلا بعينه وقلبه إذا أعجبه واستحسنه، فالعطف تفسيري في قولها:"وأحسنه من قريب" بإفراد الضمير فيها حملا على لفظ الناس، أو على الجنس، كأنها قالت: أحلى وأحسن هذا الجنس أو لسد واحد مسدهم، كما في التسهيل. ومثله في شرحه بقوله تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [المؤمنون: 21] ؛ لأن النعم تسد مسد الأنعام. "ربعة لا تشنؤه" بمعجمة ونون وهمزة مضمومة فهاء الضمير، "من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن" أي: كغصن "بين غصنين" تعني الصديق ومولاه؛ لأنهما المقصودان له بالصحبة، والدليل كان على دينه فلم تعنه، "فهو أنضر" بضاد معجمة "الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون" بضم الحاء: يطوفون "به" ويستدبرون حوله "إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، محفود" أي: مخدوم، "محشود" أي: عنده قوم، "لا عابس ولا مفند" بكسر النون: كثير اللوم، كما يأتي.

"فقال" أبو معبد: "هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتبعته" ولأجتهدن أن أفعل. وفي رواية: ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. وفي الوفاء: فهاجرت هي وزوجها وأسلما. وفي خلاصة الوفاء: فخرج أبو معبد في أثرهم ليسلم، فيقال: أدركهم بطن ريم فبايعه وانصرف. وفي شرح السنة للبغوي: هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها حبيش واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك.

"قالت أسماء بنت أبي بكر" فيما رواه في الغيلانيات من طريق ابن إسحاق، قال: حدثت عن أسماء فهو منقطع، لكن رواه الحافظ أبو الفتح اليعمري متصلا، من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء، قالت:"لما خفي علينا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم فقال: أين أبوك؟ " يابنة أبي بكر "فقلت: والله لا أدري أين

ص: 134

أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة خرج منها قرطي، ثم انصرفوا.

ولما لم ندر أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات:

جزى الله رب الناس خير جزائه

رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر ثم ترحلا

فأفلح من أمسى رفيق محمد

فيما لقصي ما زوى.........

أبي قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة" واحدة "خرج منها" أي: بسبب اللطمة. وفي رواية: خرم. وفي أخرى: طرح منها "قرطي" بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة: نوع من حلي الأذن معروف، "ثم انصرفوا" قالت: "ولما لم ندر أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجل" بعد ثلاث ليال، كما في رواية الغيلانيات. وفي رواية اليعمري: فلبثنا أياما ثلاثة أو أربعة أو خمسة ليال لا ندري أين وجه، ولا يأتينا عنه خبر، حتى أقبل رجل "من الجن" من مؤمنيهم ولا أعرف اسمه، قال في النور. وفي رواية عن أسماء: إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة تغنى بأبيات غنى بها العرب، وإن الناس يتبعونه "يسمعون صوته ولا يرونه" وفي رواية الغيلانيات عن أبي سليط: حتى سمعوا هاتفا على أبي قبيس. واليعمري ذكر الروايتين. وعذر شيخنا أنه لم يقرأ له الرواية الأولى التي عن أبي سليط. "وهو ينشد هذه الأبيات: جزى الله رب الناس خير جزائه" هكذا رواية أسماء.

ورواية أبي سليط: جزى الله خيرا والجزاء يكفه، "رفيقين" مفعول جزى، "حلا" من الحلول، كما في نسخة صحيحة من الاستيعاب بالهامش. ورواه اليعمري، قال: من القيلولة، وضبب عليها في الاستيعاب كما في النور. "خيمتي أم معبد" تثنية خيمة بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر، قال ابن الأنباري: لا تكون عندهم من ثياب بل من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام. وفي معجم: ما استعجم من قديد إلى المشلل ثلاثة أميال بينهما خيمتا أم معبد، "هما نزلا بالبر" ضد الإثم، "ثم ترحلا" وفي رواية: هما نزلا بالهدى واغتدوا به، "فأفلح" وفي رواية: هما رحلا بالحق وانتزلا به.

وفي أخرى: هما نزلاها بالهدى فاهتدت به فقد فاز "من أمسى رفيق محمد" فعيل يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، فيدخل في قوله: رفيقين عامر بن فهيرة، وقد ينافيه حلا إلا أن يكون ثنى نظرا للفظ. "فيالقصي" بضم القاف وفتح المهملة وشد التحتية، "ما زوى" بفتح

ص: 135

................الله عنكم

به من فعال لا تجارى وسؤدد

ليهن بني كعب مكان فتاتهم

ومقعدهما للمؤمنين بمرصد

سلو أختكم عن شاتها وإنائها

فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت

له بصريح ضرة الشاة مزيد

فغادرها رهنا لديها لحالب

يرددها في مصدر ثم مورد

فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه صلى الله عليه وسلم.

الزاي والواو أي: جمع وقبض، "الله عنكم به من فعال" قال البرهان وتبعه الشامي: الظاهر أنه بفتح الفاء وخفة العين وهو الكرم، ويجوز أن يكون بكسر الفاء جمعا، "لا تجاري" بالراء وفي رواية: بالزاي، "وسؤدد" بضم السين وإسكان الواو مصدر ساد "ليهنا" بفتح الياء وتثليث النون، أي: ليسر "بني كعب" هو ابن عمر وأبو خزاعة، "مكان" فاعل يهنأ. وفي نسخة: مقام بفتح الميم "فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد" بفتح الميم والصاد، أي: مقعدها بمكان ترصد، أي: ترقب المؤمنين فيه لتواسيهم "سلو أختكم" أم معبد "عن" المعجزة التي شاهدتها في "شاتها" التي حلبها المصطفى ولم يطرقها فحل ولم تستطع الرعي من الهزال، و"إنائها" الذي حلب فيها منها مرارا، فإنها معجزة باهرة لا تنكر، "فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل" لا حمل بها "فتحلبت له" مطاوع احتلبها وضمنه معنى سمحت، فعداه بالياء في "بصريح" بصاد وحاء مهملتين: لبن خالص لم يخلط "ضرة" بفتح الضاد وشد الراء الفوقية: أصل الضرع؛ كما في النهاية مرفوع فاعل تحلبت، "الشاة مزبد" بضم الميم وإسكان الزاي وكسر الموحدة فدال مهملة: علاه الزبد، "فغادرها" تركها "رهنا لديها لحالب يرددها" الحالب" في مصدر ثم مورد" أي: يحلبها مرة ثم أخرى، والمعنى: ترك الشاة عندها ذات لبن مستمر، "يردد الحالب الحلب" عليها مرة بعد مرة لكثرة لبنها، "فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية: فلما سمع حسان الأبيات، قال يجاوب الهاتف، قال في النور: والظاهر أنه إنما قاله بعد إسلامه:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم

وقدس من يسري إليه ويغتدي

ترحل عن قوم فضلت عقولهم

وحل على قوم بنور مجدد

هداهم به بعد الضلالة ربهم

وأرشدهم من يتبع الحق يرشد

وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا

عمى وهداة يهتدون بمهتدي

وقد نزلت منه على أهل يثرب

ركاب هدى حلت عليهم بأسعد

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله

ويتلو كتا الله في كل مشهد

وإن قال في يوم مقالة غائب

فتصديقها في اليوم أو في ضحى غد

ص: 136

وقوله: مرملين: أي نفدت أزوادهم.

ومسنتين: أي مجدبين، ويروى: مشتين: أي دخلوا الشتاء.

وكسر الخيمة: بكسر الكاف وفتحها، وسكون السين، جانبها.

وتفاجت: -بتشديد الجيم- فتحت ما بين رجليها.

ويربط الهرط: -بضم المثناة التحتية، وكسر الموحدة- أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. من ربض بالمكان يربض: إذا لصق به وأقام.

والثج: السيلان. وفي رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال -بضم المثلثة- الرغوة واحده: ثمالة. .............

ليهنأ أبا بكر سعادة جده

بصحبته من يسعد الله يسعد

"وقوله: مرملين، أي: نفدت" بالمهملة "أزوادهم ومسنتين، أي: مجدبين" بالمهملة، أي: أصابتهم سنة جدبة، "ويروى مشتين" بشين معجمة اسم فاعل من أشتى القوم، "أي: دخلوا في الشتاء" وحينئذ يقل طعامهم، "وكسر الخيمة بكسر الكاف وفتحها وسكون السين" المهملة "جانبها" وهذه رواية ابن عبد البر الحاكم والبيهقي، وفسرها ابن المنير وغيرها بما ذكر. ورواه اليعمري بلفظ، قال: ما هذه الشاة التي أرى لشاة رآها في كفاء البيت. قال البرهان: بكسر الكاف وبالفاء المخففة ممدود. قال المؤلف، يعني اليعمري، في الفوائد: كفاء البيت ستره من أعلاه إلى أسفله، من مؤخره، وقيل الكفاء: الشقة التي تكون في مؤخر الخباء، وقيل: كساء يلقى على الخبار كالآزرار حتى يبلغ الأرض، وقد أكفأ البيت، ذكره ابن سيده، انتهى. والجمع بين الروايتين سهل بأن تكون الشاة في جانب الخيمة تحت كفائها، فالمعبر بهذا أو ذاك صادق.

"وتفاجت بتشديد الجيم: فتحت ما بين رجليها، ويربط الرهط بضم المثناة التحتية وكسر الموحدة، أي: يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض من ربض بالمكان يربض إذا لصق به وأقام" ملازما له يقال: أربضت الشمس إذ اشتد حرها حتى تربض الوحوش في كياسها، أي: تجعلها تربض. ويروى بتحتية بدل الموحدة، أي: يرويهم بعض الري من أراض الحوض إذا صب فيه من الماء ما يواري أرضه، والمشهور الرواية الأولى بالموحدة، كما في النور، ولذا اقتصر عليها المصنف.

"والثج" بمثلثة وجيم "السيلان، وفي رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال بضم المثلثة الرغوة" مثلث الراء: لبن الزبد "واحده ثمالة" لكن في تفيره الجمع بالمفرد نظر، والأظهر لو قال: الثمال واحدة ثمالة وهي الرغوة إلا أن يراد جنس الرغوة وإن كل جزء مما على وجه اللبن

ص: 137

والبهاء أي بها اللبن: وهو وبيص رغوته.

وتساوكن هزالا: أي تمايلن، ويروي: تشاركن من المشاركة، أي في الهزال.

وغادره: -بالغين المعجمة- أي: أبقاه والشاة عازب، أي بعيدة المرعى.

والأبلح: -بالجيم- المشرق الوجه المضيئة.

والثجلة: -بفتح المثلثة، وسكون الجيم- عظم البطن، ويروى بالنون والحاء: أي نحول ودقة.

والصعلة: -بفتح الصاد- صغر الرأس، وهي أيضا الدقة والنحول في البدن.

رغوة، "والبهاء بها اللبن وهو وبيص" بمهملة، أي: لمعان، "رغوته وتساوكن هزلا، أي: تمايلين" من الهزال "ويروى: تشاركن بمعجمة بدل المهملة والراء بدل الواو، "من المشاركة، أي: في الهزال، وغادره بالغين المعجمة، "أي: أبقاه" تفسر باللازم إذ هو الترك "والشاة عازب، أي: بعيدة المرعى" والحيال بكسر الحاء المهملة جمع حائل، وهي التي ليس بها حمل "والأبلج" بالموحدة و"الجيم المشرق الوجه المضيئة" وفي النور: مبلج الوجه مشرقه مسفره، ومنه تبلج الصبح وابتلج، فأما الأبلج فهو الذي وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا، والاسم البلج بفتح اللام ولم ترده أم معبد؛ لأنها وصفته بالقرن. "والثجلة بفتح المثلثة": كذا في النسخ، والذي في النور: والسبل بضم المثلثة، "وسكون الجيم" وفتح اللام آخره تاء، "عظم البطن" وسعته، يقال: رجل أثجل بين الثجل وامرأة ثجلاء، قال أبو ذر في حواشيه: فالثجلة عظم البطن، يقال: بطن أثجل، إذا كان عظيما. و"يروى بالنون والحاء" المهملة، "أي: نحول ودقة من الجسم الناحل وهو القليل اللحم، قاله أبو ذر. "والصعلة بفتح الصاد" وإسكان العين المهملتين، "صغر الرأس وهي أيضا الدقة والنحول في البدن"، كما قال ابن الأثير.

وفي رواية: سقلة بقاف وبسين معها على الإبدال من الصاد، وذكره ابن الأثير بالصاد السين مع القاف وبالعين المهملة، وكذا الهروي في الغربيين، لكن لم يذكر السين ومعناه نحل ودقة قال شمر: من صقلت الناقة ضمرتها وصقلها السير أضمرها، والسقل الخاصرة. وقال غيره: أرادت أنه لم يكن منتفخ الخاصرة جدا ولا ناحلا جدا، انتهى. وفي حاشي أبي ذر: لم تزر، أي: لم تقصر، والصقل والصقلة جلدة الخاصرة، تريد: أنه ناعم الخاصرة، وهذا من الأوصاف الحسنة انتهى. وعلا كلام غيره وهو نفي للأوصاف الغير الحسنة. وقال ابن المنير: الصعلة انتفاخ الأضلاع، وقيل: الرقة، وقيل: صغر الرأس واختير في هذه الكلمة فتح العين، ذكر الهروي.

ص: 138

والوسيم: الحسن، وكذلك: القسيم.

وفي عينيه دعج: أي سواد.

والوطف: قال في القاموس: محركة كثرة شعر الحاجبين والعينين.

وفي صوته صحل: -بالتحريك- هو كالبحة -بضم الموحدة وأن لا يكون حاد الصوت.

وأحور: قال في القاموس: الحور -بالتحريك- أن يشتد بياض العين، وسواد سوادها.

والكحل: -بفتحتين- سواد في أجفان العين خلقة، والرجل: أكحل وكحيل.

والأزج: الدقيق طرف الحاجبين وفي القاموس: والزجج -محركة...........

انتهى. ولم أر ذلك في الغربيين.

"والوسيم الحسن وكذلك القسيم وفي عينيه دعج، أي: سواد" شديد "والوطف، قال في القاموس: محركة" أي: مفتوح الطاء، "كثرة شعر الحاجبين والعينين" وفي الغربيين: في أشفاره وطف، أي: طول قد ووطف يوطف، انتهى. وفي حواشي أبي ذر: في أشفاره غطف أو عطف، ويروى وطف الوطف طول أشفار العين، وفي كتاب العين: الغطف بالغين المعجمة مثل الوطف، وإما بالمهملة فلا معنى له هنا، وفسره بعضهم بأن تطول أشفار العين حتى تنعطف، انتهى. واقتصر ابن المنير على المعجمة، وقال: لم يعرفه الرياشي بغيرها. "وفي صوته صحل" بالتحريك، أي: فتح الحاء وكذا الصاد المهملتين فلام، "هو كالبحة بضم الموحدة وأن لا يكون حاد الصوت" يقال: منه صحل الرجل، بالكسر يصحل صحلا بفتحها إذا صار أبح فهو صحل وصاحل، "وأحور، قال في القاموس: الحور بالتحريك" أي: فتح الواو، "أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها"، وهو المحمود المحبوب، ولذا كان أغزل ما قالت العرب، قول جرير:

إن العيون التي في طرفها حور

قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله إنسانا

"والحكل بفتحتين سواد في أجفان العين خلقة، والرجل أكحل وكحيل" والمرأة كحلاء وكثر تغزل المولدين بذلك؛ كقول ابن النبيه:

كحلاء نجلاء لها ناظر

منزه عن لوثة المرود

"والأزج الدقيق طرف الحاجبين، وفي القاموس: والزج محركة" أي: مفتوحة الجيم

ص: 139

دقة الحاجبين في طول.

والأقرن: المقرون الحاجبين.

وفي عنقه سطع: -بفتحتين- أي ارتفاع وطول.

وفي لحيته كثاثة: بمثلثتين الكثاثة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية -بالفتح- وقوم كث -بالضم..

وإذا تكلم سما وعلاه البهاء: أي ارتفع وعلا على جلسائه.

وفصل -بالصاد المهملة- لا نزر -بسكون المعجمة- ولا هذر -بفتحها: أي: بين ظاهر، يفصل بين الحق والباطل.

ولا تشنؤه من طول: كذا جاء في رواية، أي لا يبغض لفرط طوله، ويروى: لا يشنى من طول: أبدل من الهمزة ياء، يقال: شنئته أشنؤه، شنا........

الأولى، "دقة الحاجبين في طول" أي: امتداد إلى مؤخر العين، والزجج خلقة والتزجيج ما كان يصنع كما قال: وزججن الحواجب والعيونا، أي: صنعن ذلك وهو ما تسميه العوام تخفيفا بمهملة، "والأقرن المقرون" الحاجبين" قال ثابت في كتاب خلق الإنسان: رجل أقرن وامرأة قرناء فإذا نسب إلى الحاجبين، قالوا: مقرون الحاجبين ولا يقال: أقرن الحاجبين، انتهى.

"وفي عنقه سطح بفتحتين، أي: ارتفاع وطول" كما قال الهروي، وزاد: يقال عنق سطعاء وهي المنتصبة الطويلة، ورجل أسطع، ومن هذا قيل للصبح أول ما ينشق مستطيلا قد سطع يسطع. "وفي لحيته كثاثة بمثلثتين الكثاثة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية بالفتح"، للكاف "وقوم كث بالضم"، لها "وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، أي: ارتفع وعلا على جلسائه، وفصل بالصاد المهملة، لا نزر بسكون المعجمة" التي هي الزاي، أي: قليل "ولا هذر بفتحها" أي المعجمة التي هي الذال، أي: كثير بل وسط، هكذا ضبطه الحافظ العلائي وغيره بالفتح وضبطه بعض شراح الشفاء بسكون الذال مصدر قال بفتحها الاسم وفي غريبي الهروي في وصف كلامه عليه السلام لا نزر ولا هذر، أي: لا قليل ولا كثير ورجل هذر وهذار مهذار وهذريان كثير الكلام، وقوله:"أي: بين ظاهر يفصل بين الحق والباطل"، تفسير لقولها فصل، وقال العلائي: يفسره قولها: لا نزر ولا هذر، "ولا تشنؤه من طول، كذا جاء في رواية، أي: لا يبغض لفرطه طوله، ويروى: لا يشنى من طول أبدل من الهمزة ياء" ثم قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، "يقال: شنئته أشنؤه شنا" بوزن فلس، كما في المصباح.

ص: 140

وشنأنا، قاله ابن الأثير.

ولا تقتحمه عين من قصر: أي لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له وكل شيء

ازدريته فقد اقتحمته.

ومحفود: أي مخدوم.

والمحشود: الذي عنده حشد وهم الجماعة.

ولا عابس: من عبوس الوجه.

والمنفد: الذي يكثر اللوم وهو التفنيد.

والضرة: لحمة الضرع.

وغادرها أي خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر، انتهى.

وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدي: حدثني حزام ابن هشام عن أبيه..............

"وشنأنا، قاله ابن الأثير" في النهاية "ولا تقتحمه عين من قصر، أي: لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له وكل شيء ازدريته فقد اقتحمته" قال أبو بكر بن الأنباري: كما في الغربيين، "ومحفود، أي: مخدوم والمحشود الذي عنده حشد" بفتح المهملة وسكون المعجمة وتفتح فدال مهملة، "وهم الجماعة ولا عابس من عبوس الوجه، والمنفذ الذي يكثر اللوم" فهو اسم فاعل، "وهو التنفيد والضرة لحمة الضرع"، وقال الهروي: أصل الضرع، "وغادرها، أي: خلف الشاة عندها مرتهنه بأن تدر" بضم الدال، "انتهى" ما أراده من شرح غريبه.

قال ابن المنير: وفي الحديث من الفقه أنه لا يسوغ التصرف في ملك الغير ولا إصلاحه وتنميته إلا بإذنه، ولهذا استأذنها في إصلاح شاتها وفيه لطيفة عجيبة، وهو أن اللبن المحتلب من الشاة لا بد أن يفرض مملوكا، والملك ههنا دائر بين صاحب الشاة وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأشبه شيء بذلك المساقاة؛ فإنها تكرمة الأصل وإصلاحه بجزء من الثمرة، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الشاة وأصلحها بجزء من اللبن، ويحتمل أن يقال: إن اللبن مملوك للنبي صلى الله عليه وسلم وسقاها تفضلا منه لأنه ببركته كان وعن دعائه وجد والفقه الأول أدق وألطف، انتهى.

"وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، أبي عبد الله المدني، قال:"حدثني حزام بن هشام" بكسر الحاء المهملة وبالزاي كما ضبطه الأمير وغيره، "عن أبيه" هشام بن خنيس بمعجمة ونون ومهملة مصغر عند إبراهيم بن سعد وسلمة بن

ص: 141

عن أم معبد قالت: بقيت الشاة التي لمس عليه السلام ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمن عمر بن الخطاب، وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما في الأرض لبن قليل ولا كثير.

الفضل عن ابن إسحاق ولغيرهما عنه حبيش بضم المهملة وفتح الموحدة فياء فشين معجمة، قال في الإصابة: وهو الصواب ابن خالد الخزاعي، "عن" عمته "أم معبد، قالت: بقيت الشاة التي لمس عليه السلام ضرعها عندنا حتى كان زمن الرمادة" سنة ثمان أو سبع عشرة من الهجرة، قيل لها ذلك لأن الريح كانت إذا هبت ألقت ترابا كالرماد وأجدبت الأرض إلى الغابة حتى أوت الوحوش إلى الإنس، "زمن عمر بن الخطاب" رضي الله عنه وآلى أن لا يذوق لحما ولا سمنا ولا لبنا، حتى حيى الناس، أي: يأتي إليهم الحيا بالقصر ويمد: المطر، وقال: كيف لا يعنين شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم حتى استسقى بالعباس بإشارة كعب فسقوا، وفي ذلك يقول عقيل:

بعمي سقى الله البلاد وأهلها

عشية يستسقي بشيبته عمر

توجه بالعباس في الجدب داعيا

فما حار حتى جاد بالديمة المطر

"وكنا نحلبها" بضم اللام وكسرها، كما في القاموس وما بالعهد من قدم، "صبوحا" بفتح المهملة وضم الموحدة: ما شرب بالغداة مما دون النائلة، "وغبوقا" بفتح الغين المعجمة الشرب بالعشي، "وما في الأرضي لبن قليل ولا كثير" في بقية حديث هشام هذا: وكانت أم معبد يوم نزل عليها النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة. قال الواقدي: وقال غير هشام: قدمت بعد ذلك وأسلمت وبايعت؛ كما في الإصابة.

وذكر السهيلي عن هشام المذكور، قال: أنا رأيتها وإنها لتأدم أم معبد وجميع صرمها، أي: أهل ذلك الماء. وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار عن هند بنت الجون، قالت: نزل صلى الله عليه وسلم خيمة خالتي أم معبد، فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومج في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت كأعظم دوحة، وجاءت بتمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا در لبنها، فكنا نسميها المباركة حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها واصفر ورقها، ففزعنا فما راعنا إلا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك وذهبت صفرتها، فما شعرنا إلا بقتل أمير المؤمنين علي، فما أثمرت بعد ذلك، وكنا ننتفع بورقها، ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من أسفلها دم عبيط، وقد ذبل ورقها، فبينما نحن فزعون مهمومون إذ أتانا خبر قتل الحسين ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت، والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كالشاة، كذا ذكره وعهدته عليه، والله أعلم.

ص: 142