المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بئر معونة: سرية المنذر بن عمرو -بفتح العين المهملة- إلى بئر - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٢

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام

- ‌إسلام الفاروق

- ‌دخول الشعب وخبر الصحيفة

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة

- ‌وفاة خديجة وأبي طالب:

- ‌خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:

- ‌ذكر الجن:

- ‌وقت الإسراء:

- ‌ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:

- ‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

- ‌قصة سراقة:

- ‌ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر

- ‌ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

- ‌باب بدء الأذان

- ‌كتاب المغازي

- ‌مدخل

- ‌بعث حمزة رضي الله عنه:

- ‌سرية عبيدة المطلبي

- ‌سرية سعد بن ملك

- ‌أول المغازي: ودان

- ‌ غزوة بواط

- ‌غزوة بدر الأولى:

- ‌سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش:

- ‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر

- ‌باب غزوة بدر العظمى

- ‌قتل عمير عصماء

- ‌غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر

- ‌قتل أبي عفك اليهودي

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة

- ‌ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما

- ‌قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة

- ‌غزوة غطفان:

- ‌غزوة بحران

- ‌سرية زيد إلى القردة

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

- ‌سرية عبد الله بن أنيس

- ‌[بعث الرجيع] :

- ‌بئر معونة:

- ‌حديث بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌بئر معونة: سرية المنذر بن عمرو -بفتح العين المهملة- إلى بئر

‌بئر معونة:

سرية المنذر بن عمرو -بفتح العين المهملة- إلى بئر معونة -بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون: موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان. في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أُحد.

بعث معه المطلب السلمي ليدلهم على الطريق.

وكانت مع رعل -بكسر الراء وسكون العين المهملة: بطن من بني سليم، ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك، وذكوان بطن من بني سليم أيضًا، ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة. فنسبت الغزوة إليها.

بئر معونة:

"سرية المنذر" بضم فسكون، وكسر الذال المعجمة وراء "ابن عمرو -بفتح العين المهملة" الخزرجي العقبي، البدري، النقيب، من أكابر الصحابة، له حديث رواه عنه سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو قبل التسليم. أخرجه الدارقطني وغيره. "إلى" أهل "بئر معونة" ليدعوهم إلى الإسلام، أو مددًا لهم على عدو لهم، ويجيء بسطه "بفتح الميم، وضم المهملة، وسكون الواو بعدها نون: موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان" هذا لفظ الفتح تبعًا للمطالع، وفي ابن إسحاق، وتبعه اليعمري، وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب.

قال شيخنا: والظاهر أنه لا تنافي؛ لجواز أن يكون ذلك الموضع المنسوب لهذيل بين مكة وعسفان، وبجواره أرض بني عامرة وحرة بني سليم. "في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أُحد" عند ابن إسحاق، وجعلها بعضهم في المحرّم، وقدمها على بعث الرجيع، "وبعث" صلى الله عليه وسلم "معه" أي: المنذر، خصَّ بالذكر لأنه الأمير، وفي نسخة معهم، أي: السرية "المطلب السلمي" بضم السين وفتح اللام، نسبة لبني سليم، صحابي له ذكر في هذه الغزوة، "ليدلهم على الطريق، وكانت مع رعل -بكسر الراء وسكون المهملة: بطن من بني سليم" بلفظ التصغير "ينسبو إلى رعل بن عوف" بالفاء "بن مالك" بن امرئ القيس بن نهية بن سليم، "و" مع "ذكوان" بفتح المعجمة وسكو الكاف، وواو وألف ونون "بطن من بني سليم" أيضًا ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة" بن نهية بن سليم "فنُسِبَت الغزوة إليها،" أي: بئر معونة لنزولهم بها.

ص: 496

وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكان من أمرها -كما قاله ابن إسحاق: أنه قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، المعروف بملاعب الأسنّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

"وهذه الوقعة" كما تعرف بسرية المنذر وبئر معونة "تعرف بسرية القرّاء" جمع قارئ؛ لكثرة قراءة السبعين الذين ذهبوا فيها، "وكان من أمرها كما قاله ابن إسحاق" عن شيوخه:"أنه قدم أبو براء" بفتح الموحدة وبالراء والمد "عامر بن مالك بن جعفر" العامري. اختُلِفَ في إسلامه، فذكره جماعة في الصحابة.

وقال الذهبي: الصحيح أنه لم يسلم.

وقال في الإصابة: ليس في شيء من الأخبار ما يدل على إسلامه، وعمدة من ذكره في الصحابة ما عند ابن الأعرابي وغير عنه، أنه قال: بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألتمس منه دواء، فبعث إليّ بعكة عسل، وليس ذلك بصريح في إسلامه، بل ذكر أبو حاتم السجستاني عن هشام الكلبي، أن عامر بن الطفيل، لما أخفر ذمّة عمه عامر بن مالك، عمد إلى الخمر فشربها صرفًا حتى مات.

نعم، ذكر عمرو بن شبة، عن مشيخة من بني عامر، قالوا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون رجلًا من بني جعفر، ومن بني بكر، فيهم عامر بن مالك، فنظر صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال:"قد استعملت عليكم هذا" ، وأشار إلى الضحاك بن سفيان الكلابي، وقال لعامر بن مالك:"أنت على بني جعفر"، وقال للضحاك:"استوص به خيرًا"، فهذا يدل على أنه وفد بعد ذلك مسلمًا، انتهى. "المعروف بملاعب الأسنة،" جمع سنان، وهو نصل الرمح، كما في القاموس، عبَّر به لكونه المقصود من الرمح.

قال في الرض: سمي بذلك في يوم سوبان، وهو يوم كان بين قيس وتميم، وجبلة اسم لهضبة عالية؛ لأن أخاه طفيلًا الذي يقال له فارس قرزل، أسلمه ذلك اليوم وفرّ، فقال الشاعر:

فررت وأسلمت ابن أمك عامرًا

يلاعب أطراف الوشيج المزعزع

فسمِّي ملاعب الرماح، وملاعب الأسنة، وهم عم لبيد بن ربيعة. انتهى. "على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وفي رواية: أنه أهدى إليه فرسين وراحتلين، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا أقبل هدية مشرك".

وفي رواية: "إني نهيت عن زبد المشركين" بفتح الزاي، وسكون الموحدة وبالدال المهملة: الرفد والعطاء.

قال السهيلي في غزوة تبوك: ولم يقل من هديتهم؛ لأنه إنما كره ملاينتهم ومداهنتهم إذا كانوا حراب له؛ لأن الزبد مشتق من الزبد، كما أن المداهنة مشتقة من الدهن، فعاد المعنى إلى معنى اللين ووجود الجد في حربهم والمخاشنة، وقد ردَّ هدية أبي براء، وكان أهدى إليه فرسًا،

ص: 497

فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال عليه الصلاة والسلام:"إني أخشى أهل نجد عليهم". قال أبو براء: أنا لهم جاء فابعثهم.

فبعث عليه الصلاة والسلام المنذر بن عمرو، ومعه القراء وهم سبعون -وقيل: أربعون، وقيل: ثلاثون.

وقد بَيِّنَ قتادة في روايته أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل

وأرسل إليه أنني قد أصابني وجع، أحسبه قال: يقال له الدبلة، فابعث إلي شيء أتداوى به، فأرسل إليه بعكة عسل، وأمره أن يستشفي به، وردَّ عليه هديته، وقال:"إني نهيت عن زبد المشركين" انتهى. وهذا قبل ما تقدَّم بلا ريب لا بعده؛ لموته أسفًا على ما صنع عامر سريعًا. "فعرض عليه الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد" بفتح أوله وضم العين، بل قال: يا محمد، إني أرى أمرك هذا حسنًا شريفًا، وقومي خلفي، فلو أنك بعث معي نفرًا من أصحابك؛ لرجوت أن يتبعوا أمرك، فإنهم إن اتبعوك فما أعز أمرك، "وقال: يا محمد، لو بعثت رجال من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم" بفتح التاء خطابًا، أي: بواسطة من ترسله إليهم، "إلى أمرك لرجوت" بضم التاء على التكلم "أن يستجيبوا لك، فقال عليه الصلاة والسلام:"إني أخشى أهل نجد عليهم" هو في الأصل ما أشرف من الأرض.

"قال أبو براء: أنا لهم جار" أي: هم في ذمامي وعهدي وجواري، "فابعثهم، فعث عليه الصلاة والسلام المنذر بن عمرو، ومعه القراء" وانفصل المصنف عن رواية ابن إسحاق التي هو فيها دون بيان، فقال:"وهم سبعون" كما في البخاري ومسلم من طرق عن أنس.

قال السهيلي: وهو الصحيح، "وقيل: أربعون،" كما في رواية ابن إسحاق وموسى بن عقبة.

قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنّ الأربعين كانوا رؤساء، وبقية العدة أتباعًا "وقيل: ثلاثون".

قال الحافظ: هو وهم، لكن قال في الغرر: إن رواية القليل لا تنافي رواية الكثير، وهو من باب مفهوم العدد، وكذا قول من قال ثلاثين، انتهى.

"وقد بَيِّنَ قتادة" بن دعامة "في روايته"، عن أنس في الصحيح "أنهم كانوا يحتطبون،" يجمعون الحطب "بالنهار، ويصلون بالليل"، ولفظه: استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمدَّهم بسبعين من الأنصار، كنَّا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، وادَّعى الدمياطي أن هذه الرواية وهم، فإنهم لم يستمدوه صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي استمدَّهم عامر بن الطفيل على الصحابة.

قال الحافظ: ولامانع أن يستمدوه صلى الله عليه وسلم في الظاهر، وقصدهم الغدر بهم، ويحتمل أن

ص: 498

وفي رواية ثابت: ويشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل.

فساروا حتى وصلوا إلى بئر معونة، بعثوا حرام بن ملحان بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل العامري، ومات كافرًا -وليس هو عامر بن

الذي استمدوه غير الذين استمدهم عامر، والكل من بني سليم.

وفي رواية عاصم عن أنس عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم بعث أقوامًا إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم لقتال عدو، وإنما هو للدعاء للإسلام، وقد أوضح ذلك ابن إسحاق، فذكر ما نقله المصنف عنه، وقيل في تأويله أيضًا، أي: طلبوا منه مدة يمهلهم فيها، أي: للتروي في الإسلام؛ لأنهم لم يسلموا ولم يظهروا إسلامًا.

"وفي رواية ثابت" البناني، عن أنس في الصحيح:"ويشترون به،" أي: الحطب، "الطعام لأهل الصفة" وللفقراء.

وفي رواية: ويأتون به إلى حجر أزواجه صلى الله عليه وسلم، "ويتدارسون القرآن بالليل"، ويصلون كما هو بقية رواية ثابت، والجمع بين هذه الروايات سهل، بأنهم كانوا يصلون بعض الليل، ويدرسون بعضه، ويحتطبون ويبيعون بعضه، يشترون به طعامًا لأهل الصُّفَّة والفقراء، وبعضه يأتون به الحجر الشريفة، أو بعضهم يفعل كذا، والآخر كذا، أو يفعلون ذا مرة وذا مرة، وقوله: لأهل الصفة، لا يفهم أنهم ليسوا من أهلها.

وقد نصَّ المصنف في بناء المسجد على أنهم من أهل الصفة، فبعض أهل المحل يشتري لبعض، كما هو مشاهد في كثير من الزوايا والربط، فلا حاجة لحمله على النفي والإثبات وتعسف الجمع، بأن من عدهم من أهلها نظر إلى إعراضهم عن نحو: التجارة والزراعة ومخالطة أهلها إلّا وقت الحاجة، ومن لم يعد بناه على أن أهلها هم الملازمون للمسجد الذين لم يتعلقوا بشيء غير العبادة، أو أمر ضروري يخرجون له ويعودون سريعًا.

"فساروا حتى وصلوا إلى بئر معونة، بعثوا حرام" بمهملة وراء "ابن ملحان" بكسر الميم أشهر من فتحها، أخو أم سليم، خال أنس بن مالك "بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل" ابن مالك بن جعفر الكلابي "العامري"، وهو ابن أخي أبي براء، "ومات كافرًا" بإجماع أهل النقل، وعدَّه المستغفري صحابيًّا غلط، قاله البرهان.

وقال الحافظ: هو خطأ صريح، فإن عامرًا مات كافرًا، وقصته معروفة -يريد في الصحيح وغيره، من قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بألف أشقر وألف شقراء، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم اكفني عامرًا"، فطعن في بيت امرأة فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، "وليس هو عامر بن

ص: 499

الطفيل الأسلمي الصحابي -فلمَّا أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجبيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية

الطفيل الأسلمي الصحابي.

قال الحافظ: وسبب وهم المستغفري: أنه أخرج عن أبي أمامة عن عامر بن الطفيل، أنه قال: يا رسول الله، زودني كلمات، قال:"يا عامر، أفش السلام، وأطعم الطعام، واستحي من الله، وإذا أسأت فأحسن" في ترجمة العامري، والحديث إنما هو للأسلمي، كما أخرجه البغوي عن عبد الله بن بريدة الأسلمي قال: حدثني عمّي عامر بن الطفيل فذكره.

وفي رواية الطبري: فخرج حرام، فقال: يا أهل بئر معونة، إني رسولُ رسولِ الله إليكم، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل برمح، فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر.

وفي الصحيح: فجعل يحدثهم فأومئوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه بالرمح، قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، قال الحافظ: لم أعرف اسم الرجل الذي طعنه.

وفي سيرة ابن إسحاق ما ظاهره، أنه عامر بن الطفيل؛ لأنه قال:"فلما أتاه لم ينظر في كتابه،" بل أعرض عنه، واستمرّ في طغيانه، "حتى عدا على الرجل فقتله".

لكن في الطبراني من طريق ثابت عن أنس، قاتل حرام بن ملحان أسلم، وعامر بن الطفيل مات كافرًا كما تقدَّم، انتهى من الفتح. فكان نسبة ذلك إليه على سبيل التجوّز؛ لكونه رأس القوم، كما قاله نفس الحافظ بعد في ابن فهيرة.

وفي الصحيحين، عن أنس: لما طُعِنَ حرام بن ملحان قال: فزت ورب الكعبة.

واتفق أهل المغازي على أنه استشهد يوم بئر معونة المذكور.

وحكى أبو عمر عن بعض أهل الأخبار أنه ارتثّ يومئذ.

فقال الضحاك ابن سفيان الكلابي، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، لامرأة من قومه: هل لك من رجل إن صح كان نعم الراعي، فضمته إليها، فعاجته، فسمعته يقول:

أيا عامر ترجو المودة بيننا

وهل عامر إلا عدو مداهن

إذا ما رجعنا لم يك وقعة

بأسيافنا في عامر أو تطاعن

فوثبوا عليه فقتلوه. "ثم استصرخ" استغاث "عليهم من بني عامر" قومه، "فلم يجيبوه، وقالوا: لن نخفر" بضم أوله وكسر الفاء، "أبا براء" أي: لن ننقض عهده وذمامه. "و" الحال أنه "قد عقد لهم عقدًا وجوارًا" بكسر الجيم وضمها، فالأجانب راعوه، وابن أخيه نقض عقده، "فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية،" بدل من قبائل بضم العين، وفتح الصاد

ص: 500

ورعلًا، فأجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلّا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قُتِلَ يوم الخندق شهيدًا.

وأسرَّ عمرو بن أمية الضميري، فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل

المهملتين، وشد التحتية وتأنيث، "ورعلًا" بكسر فسكون، وذكوان هكذا هو ثابت في سيرة ابن إسحاق، وكأنه سقط من قلم المصنف كابن سيد الناس، وبه يستقيم ضمير الجمع في قوله، "فأجابوه إلى ذلك"، ولا حاجة إلى أنه نظرًا لإفراد القبيلتين، أو الضمير للقبائل "ثم خرجوا" وساروا "حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم" حين أتوهم "في رحالهم،" أي: في منازلهم التي نزلوا بها، "فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، وقاتلوهم حتى قتلوا،" مبتدئًا القتل من أولهم، منتهيًا "إلى آخرهم" يعني استأصلوهم.

ولفظ ابن إسحاق: من عند آخرهم "إلّا كعب بن زيد" بن قيس بن مالك بن كعب بن حارثة ابن دينار بن النجاري الأنصاري البدري، "فإنهم تركوه" لظنّهم موته، "وبه رمق" بفتح الراء والميم وبالقاف: بقية الحياة، فارتثّ من بين القتلى، "فعاش حتى قُتِلَ يوم الخندق" قتله ضرار بن الخطاب، قاله الواقدي.

وقال ابن إسحاق: أصابه سهم غرب، فقتله "شهيدًا" رضي الله عنهم، ناس اتخذ الله منهم شهداء بكثرة.

قال قتادة: ما نعلم حيًّا من أحياء العرب أكثر شهيدًا، أعز يوم القيامة من الأنصار، قال: وحدثنا أنس أنه قتل منهم يوم أُحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر سبعون يوم قتال مسيلمة الكذاب. رواه البخاري.

"وأسرَّ عمرو" استثناء في المعنى، كأنه قال: قتلوا إلّا كعبًا وعمرو "بن أمية الضميري" بفتح فسكون.

قال ابن إسحاق: كان في سرح القوم هو ورجل من الأنصار.

قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلّا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنًا، فاقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم والخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو: ما ترى، قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ماكنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل حتى قُتِلَ وأخذ عمرو أسيرًا، "فلمَّا أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل".

ص: 501

وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.

فلمَّا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، قال: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا، فبلغ ذلك أبا براء، فمات أسفًا على ما صنع عامر بن الطفيل.

وقُتِل عامر بن فهيرة يومئذ، فلم يوجد جسده رضي الله عنه، دفنته الملائكة.

قال ابن إسحاق: وجزّ ناصيته، أي: الشعر المجاور لها مجازًا، "وأعتقه عن رقبة، زعم أنها كانت على أمه، فلمَّا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم" قال الحافظ: قد ظهر من حديث أنس أن الله أخبره بذلك على لسان جبريل.

وفي رواية عروة: فجاء خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، "قال: هذا" سببه "عمل أبي براء"؛ حيث أخذهم في جواره، "قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا، فبلغ أبا براء فمات" عقب ذلك كما في الفتح، "أسفًا على ما صنع" ابن أخيه "عامر بن الطفيل"، ومات عامر بعد ذلك كافرًا بدعائه عليه السلام كما مَرَّ، وذكر أبو سعيد السكريّ في ديوان حسان، روايته عن أبي جعفر بن حبيب.

قال حسان لربيعة بن عامر: ملاعب الأسنة يحرضه بعامر بن الطفيل بإخفاء ذمة أبي براء:

ألا من مبلغ عني ربيعًا

فما أحدثت في الحدثان بعدي

أبوك أبو الفعال أبو براء

وخالك ماجد حكم بن سعد

بني أم البنين ألم يرعكم

وأنتم من ذوائب أهل نجد

تحكم عامر بأبي براء

ليخفره وما خطا كعمد

فلما بلغ ربيعة هذا الشعر، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيغسل عن أبي هذه الغدرة أن أضرب عامًا ضربة أو طعنة، قال: نعم، فرجع، فضرب عامرًا ضربة أشواه بها، فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر: اقتصّ، فقال: قد عفوت.

قال في الإصابة: لم أر من ذكر ربيعة في الصحابة إلّا ما تفيده هذه القصة، ورأيت له رواية عن أبي الدرداء، فكأنه عمَّر في الإسلام.

"وقتل عامر بن فهيرة" بضم الفاء وفتح الهاء، وسكون التحتية، وراء وتاء تأنيث- أحد السابقين، مولى أبي بكر "يومئذ"، وهو ابن أربعين سنة، "فلم يوجد جسده رضي الله عنه، دفنته الملائكة، كما رواه ابن المبارك عن عروة.

وفي الصحيح عنه: لما قتلوا وأُسر عمر، وقال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فقال: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع، وفي هذا تعظيم لعامر، وترهيب للكفّار وتخويف، ومن ثَمَّ تكرَّرَ سؤال

ص: 502

قال ابن سعد عن أنس بن مالك ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة.

وفي صحيح مسلم عن أنس أيضًا: دعا صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحب بئر معونة ثلاثين صباحًا،

ابن الطفيل عن ذلك.

روى يونس عن ابن إسحاق عن هشام، عن أبيه، لما قدم عامر بن الطفيل عليه صلى الله عليه وسلم قال له: من الرجل الذي لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض، حتى رأيت السماء دونه ثم وضع، فقال: هو عامر بن فهيرة.

وفي رواية ابن المبارك عن عروة: وكان الذي قتله رجلًا من بني كلاب جبار بن سلمى، ذكر أنه لما طعنه، قال: فزت والله، قال: فقلت في نفسي: ما قوله فزت، فأتيت الضحاك بن سفيان، فسألته فقال، بالجنة، قال: فأسلمت، ودعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فهيرة من رفعه إلى السماء علوًّا.

قال البيهقي: يحتمل أنه رفع، ثم وضع، ثم فقد بعد ذلك، ثم روي عن عائشة موصولًا بلفظ: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ولم يذكر فيها ثم وضع، ورواه بنحوه ابن سعد وعنده مرفوعًا: أن الملائكة وارت جثته، وأنزل في عليين.

قال السيوطي: فقويت الطرق وتعدّدت بمواراته في السماء، وجبار -بالجيم والموحدة: مثقل بن سلمى بضم المهملة، وقيل: بفتحها وسكون اللام والقصر، صحابي كما في الإصابة. ووقع في الاستيعاب أن عامر بن الطفيل قتل عامر بن فهيرة.

قال الحافظ: وكأنّ نسبة ذلك له على سبيل التجوّز لكونه كان رأس القوم.

"قال" أي: روى "ابن سعد" بسند صحيح "عن أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد" بجيم، أي: حزن، "على أحدٍ ما وجد على أهل بئر معونة"؛ لعل حكمته أنه لم يرسلهم لقتال، إنما هم مبلغون رسالته، وقد جرت عادة العرب قديمًا بأن الرسل لا تقتل.

"وفي صحيح مسلم" لا وجه لقصر عزوه له، كابن سيد الناس، فإنه في صحيح البخاري أيضًا كلاهما، "عن أنس أيضًا، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحًا.

وفي البخاري أيضًا: فدعا صلى الله عليه وسلم شهرًا في صلاة الغداة بعد القراءة، وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت.

ص: 503

يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنًا قرأناه ثم نسخ بعد -أي: نسخت تلاوته- بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه.

وفي البخاري في الجهاد: فدعا عليهم أربعين صباحًا، والأخبار بالأقل لا ينفي الزائد.

"يدعو على رعل، ولحيان وعصية" بيان لتعيين المدعو عليهم، فلا يتكرر مع قوله أولًا دعا، "عصت الله ورسوله" ليس حكمة التسمية، بل بيان لما هم عليه من الفعل القبيح.

"قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنًا ثم نسخ بعد،" بالبناء على الضم.

وفي رواية: ثم رفع، ذلك ولا حمد.

ثم نسخ ذلك، "أي: نسخت تلاوته" وبقي معناه.

قال في الروض: فإن قيل هو خبر، والخبر لا ينسخ، قلنا: لم ينسخ منه الخبر، وإنما نسخ الحكم، فإن حكم القرآن أن يتلى في الصلاة، ولا يمسّه إلا طاهر، ويكتب بين اللوحين، وتعلمه فرض كفاية، فما نسخ رفعت منه هذه الأحكام، وإن بقي محفوظًا فهو منسوخ، فإن تضمن حكمًا جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولًا به، وإن تضمَّن خبرًا بقي ذلك الخبر مصدقًا به، وأحكام التلاوة منسخوة عنه، كما نزل: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف بن آدم إلّا التراب، ويتوب الله على من تاب. ويروى: ولا يملأ عيني ابن آدم وفم ابن آدم، وكلها في الصحاح.

وكذا روي من مال، فهذا خبر حق، والخبر لا ينسخ، وإنما نسخت أحكام تلاوته، قال: وكانت هذه الآية في سورة يونس بعد قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] الآية. كما قال ابن سلام، انتهى.

وفي رواية البخاري في الجهاد: فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، فكنا نقرأ:"بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه".

وفي رواية: فرضي عنا وأرضانا.

وسبب نزوله أنهم قالوا: اللهمَّ بلغ عنا نبينا، وفي لفظ: إخواننا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، فأخبره جبريل، فحمد الله وأثنى عليه فقال:"إن إخوانكم" إلخ.

قال الإمام السهيلي: ثبت هذا في الصحيح وليس عليه رونق الإعجاز، فيقال: إنه لم ينزل بهذا النظم، ولكن بنظم معجم كنظم القرآن، انتهى.

ص: 504