الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة سراقة:
ثم تعرض لهما بقديد سراقة من مالك بن جعشم المدلجي، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله أتينا، قال:"كلا"، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوات،.........
قصة سراقة:
"ثم" بعد رواحهم من عند أم معبد، كما عند مغلطاي، "تعرض" أي: تصدى، "لهما" يريد منعهما وردهما إلى قومهما. وذكر ابن سعد أن سراقة عارضهم يوم الثلاثاء، "بقديد" ولا يخالفه قول مغلطاي: فلما راحوا من قديد؛ لأن معناه: لما ساروا وإن لم ينفصلوا عنه تعرض لهما "سراقة بن مالك بن جعشم" بضم الجيم والشين المعجمة بينهما مهملة ساكنة ثم ميم، وحكى الجوهري فتح الجيم والشين، نقله النووي في التهذيب، والبرهان في النور، وإن انتقد بعدم وجوده في نسخ الصحاح؛ لأنهما حجة، أي: حجة "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة وكسر اللام ثم جيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، الكنان الحجازي أسلم سراقة عنده صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفة من حنين والطائف، وروى عنه ابن عباس وجابر وابن أخيه عبد الرحمن بن مالك بن جعشم وابن المسيب وطاوس، ومات سنة أربع وعشرين في أول خلافة عثمان، وقيل: مات بعده. والصحيح الأول، أخرج له البخاري والأربعة وأحمد، وسبب تعرضه لهما ما رواه البخاري عنه، قال: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إن قد رأيت آنفا أسودة بالسواحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: أنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت..الحديث، وفيه: أنه لما دنا منهم سقط عن فرسه، واستقسم بالأزلام فخرج ما يكره لا يضرهم ثم ركبها ثانيا، وقرب حتى سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسه في الأرض إلى الركبتين فسقط عنها، ثم خلصها واستقسم بالأزلام فخرج الذي يكره فناداهم بالأمان. وفي رواية ابن عقبة: وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة.
وفي رواية عن أبي بكر: تبعنا سراقة ونحن في جلد من الأرض، فقلت هذا الطلب لقد لحقنا، فقال:"لا تحزن إن الله معنا"، فلما دنا منا وكان بيننا وبينه رمحان أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب لقد لحقنا وبكيت، قال صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك"؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي ولكن عليك، "فبكى أبو بكر، وقال: يا رسول الله! أتينا، قال: "كلا" ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوات"
فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان، فقال: أعلم أن قد دعوتهما علي، فادعوا لي ولكما أن أرد الناس عنكما ولا أضركما. قال: فوقفا لي، فركبت فرسي حتى جئتهما، قال: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهما أخبار ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآني.
وعند الإسماعيلي وغيره، فقال:"اللهم اكفناه بما شئت". وفي حديث أنس عند البخاري، فقال:"اللهم اصرعه"، فصرعه فرسه، "فساخت" بسين مهملة وخاء معجمة، أي: غاصت، "قوائم فرسه" حتى بلغت الركبتين، كما في حديث عائشة. في حديث أسماء عند الطبراني: فوقعت لمنخريها. وللبزار: فارتطمت به فرسه إلى بطنها.
وللإسماعيلي: فساخت في الأرض إلى بطنها. "وطلب الأمان، فقال": زاد ابن إسحاق: أنا سراقة، انظروني أكلمكم، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه، "أعلم أن قد دعوتما علي، فادعوا لي" وللإسماعيلي: قد علمت يا محمد، أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيها، و"لكما" خبر مقدم "أن أرد الناس" في تأويل المصدر مبتدأ، أي: لكما علي رد الناس "عنكما"، وفي رواية: فالله لكما مبتدأ وخبر، أي: ناصر وعلي أن أرد، وبالجر على القسم والنصب بإسقاط حرف القسم كله، قال: أقسم بالله، فحذف فنصب "ولا أضركما" وفي حديث ابن عباس: وأنا لكم نافع غير ضار، ولا أدري لعل الحي يغني قومه فزعوا لركوبي وأنا راجع ورادهم عنكم، "قال: فوقفا لي" وفي حديث البراء، قال: ادع لي ولا أضرك، فدعا له صلى الله عليه وسلم، "فركبت فرسي حتى جئتهما، قال: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت" من الحبس عنهم؛ كما في حديث عائشة. "أن سيظهر" مرفوع وأن مخففة، أي: أنه سيظهر، "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن إسحاق: أنه قد منع مني، قال: "فأخبرتهما خبر ما يريد بهما الناس" من الحرص على الظفر بهما وبذلك المال لمن يحصلهما.
وفي حديث ابن عباس: وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم وأن يكتم عنهم ثلاث ليال، "وعرضت عليهما الزاد والمتاع، فلم يرزآني" بفتح أوله وسكون الراء فزاي فهمزة، أي: لم ينقصاني مما معي شيئا. وللإسماعيلي: وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال: لا حاجة لنا في إبلك ودعا له.
وفي حديث عائشة: ولم يسألاني شيئا إلا أن قال: أخف عنا، بفتح الهمزة وسكون المعجمة بعدها فاء: أمر من الإخفاء فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم.
واجتاز صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك بعبد يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقي.........
وفي حديث أنس، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركن أحد يلحق بنا، فكان أول النهار جاهدا على نبي الله، وكان آخر النهار مسلحة له، رواهما البخاري، أي: حارسا له بسلاحه. وذكر ابن سعد: أنه لما رجع قال لقريش: قد عرفتم نظري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأ لكم، لم أر شيئا، فرجعوا. وفي رواية ابن إسحاق وابن عقبة: فسألته كتابا يكون بيني وبينك آية، فأمر أبا بكر فكتب لي في عظم أو رقعة أو خرقة، ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي، ثم رجعت وجمع في النور بأن عامرا لما كتب طلب سراقة كتابة الصديق لشهرته وعظمته. وعند ابن عقبة وابن إسحاق: فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت لألقاه ومعي الكتاب لقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب، فقلت: يا رسول الله! هذا كتابك، قال:"يوم وفاء وبردان"، فدنوت منه وأسلمت. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن الحسن عن سراقة: فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومه فأتيته، فقلت: أحب أن توادع قومي أسلموا، وإلا آمنت منهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد خالد، فقال:"اذهب معه، فافعل ما يريد"، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله -صلى الله عليهوسلم- وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فأنزل الله:{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90]، فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. قال ابن إسحاق: ولما بلغ أبا جهل ما لقي سراقة ولامه في تركهم، أنشده:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا
…
لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا
…
نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
زاد بعضهم:
عليك بكف القوم عنه فإنني
…
أرى أمره يوما ستبدو معالمه
وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى". وذكر ابن المنير عليه السلام قال له، ذلك يوم لحقهما في الهجرة:"تعجب من ذلك"، فلما أتى بهما عمر وبتاجه ومنطقته دعا سراقة فألبسه السوارين، وقال:"ارفع يديك، وقل: الله أكبر الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك أعرابيا من بني مدلج"، ورفع عمر صوته ثم قسم ذلك بين المسلمين.
"واجتاز -صلى الله عليه سلم- في وجهه" أي: طريقه، "ذلك" الذي هو مار به "بعيد" قال في النور: أسود، ولا أعرفه ولم أر من ذكره في الصحابة، "يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقي
بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت عام أول، وما بقي لها لبن، فقال:"ادع بها"، فاعتقلها صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك. فقال:"أوتراك تكتم عليَّ حتى أخبرك"؟ قال: نعم، قال:"فإني رسول الله"، فقال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: "إنهم ليقولون ذلك" قال: فأشهد أنك نبي، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك، قال: "إنك لن تستطيع
بسنده عن قيس بن النعمان" السكوني أحد وفد عبد القيس الكوفي، يقال: قرأ القرآن على عهد المصطفى وأحصاه على عهد عمر، له حديث في سنن أبي داود.
"قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر" حال كونهما "مستخفين مرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب" بالبناء للمفعول، "غير أن ههنا عناقا" بفتح العين: الأنثى من ولد المعز قبل استكمال الحول، كذا في المصباح. فلعله عبر بالعناق جازا من تسمية الشيء بما يقرب منه، والأنا في قوله:"حملت عام أول وما بقي لها لبن"، فإنه ظاهر في أنه سبق لها حمل وولادة، لكن رواية البيهقي كما في العيون: حلمت أول بإسقاط عام، وزيادة: وقد أخدجت وما بقي لها لبن، وأخدجت بفتح الهمزة وإسكان المعجمة فمهملة فجيم مفتوحتين فتاء تأنيث، أي: ألقت ولدها ناقص الخلق وإن تم حملها، أو ألقته وقد استبان حمله، كما في أفعال ابن القطاع، ورواه أبو الوليد الطيالسي، بلفظ: حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها حمل، "فقال:"ادع بها"، فدعا بها، كما في رواية البيهقي فكأنه سقط من قلم المصنف "فاعتقلها صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا" ربه "حتى أنزلت" اللبن "وجاء أبو بكر بمجن" بكسر الميم وفتح الجيم وشد النون: ترس سمي مجنا لأنه يواري حامله، أي: يستره، والميم زائدة. "فحلب سقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك، قال: "أوتراك" الهمزة داخلة على محذوف، أي: أأخبرك وتراك "تكتم عليَّ حتى أخبرك"؟ قال: نعم، قال: "فإني محمد رسول الله"، قال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ" بالهمز: خارج من دين إلى دين، سموه بذلك زعما منهم أنه خرج من دينهم إلى الإسلام مع أنه ما دخل دينهم قط إجماعا، ولذا "قال" صلى الله عليه وسلم:"إنهم ليقولون ذلك" أي: وهم فيه كاذبون، "قال: فأشهد أنك نبي وإن ما جئت به حق، وإنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك" أي: ذاهب معك إلى ما تريد على المتبادر، لا أنه أتبعه في الدين، "قال: "إنك لن تستطيع
ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا".
قال الحافظ مغلطاي -بعد ذكره لقصة أم معبد: وفي الإكليل قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد. قال الحاكم: فلا أدري أهي هي، أم غيرها. خاتمة.
ذلك يومك" لعلمه أنه إذا ذهب معه تبعه قومه ومنعوه من ذهابه معه وعاقبوه، والمراد باليوم مطلق الزمن، لا خصوص اليوم الذي هو فيه، بدليل قوله: "فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا"، وهو يرد احتمال: أنا متبعك فأظهر إيماني وإن نهيه خوفا عليه من الإيذاء، ثم هذا الحديث قطعا غير قصة الراعي الذي أتى يريد ظل الصخرة التي نام تحتها صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: إن في غنمه لبنا وحلب هو لأبي بكر وبرّد أبو بكر اللبن حتى استيقظ المصطفى كراهة أن يوقظه ثم سقاه، وأما هذا العبد فذكر أنه لا لبن معه وإنما أتى اللبن معجزة، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي حلب وسقاه بعد أبي بكر ثم شرب هو آخرهم، ففي ظن صاحب الخميس اتحادهما، فإنه ذكر قطعة من حديث الراعي وعقبها بخبر العبد، ثم قال: أورد في المواهب قصة العبد الراعي بعد قصة أم معبد نظر ظاهر، وقصة الراعي كانت قبل قصة سراقة، وهي بعد قصة أم معبد؛ كا أفاده في فتح الباري. فقال: قبل حديث سراقة في قوله: فأخذ بهم طريق الساحل تقدم في علامات النبوة، وفي مناقب أبي بكر ما اتفق لهما حين خرجا من الغار من لقى راعي الغنم وشربهما من اللبن، انتهى.
"قال الحافظ مغلطاي بعد ذكره لقصة أم معبد، وفي الإكليل" للحاكم أبي عبد الله "قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد، قال الحاكم: فلا أدري أهي هي أم غيرها"، وفي قوله: أخرى، وقوله شبيهة رد لتردد الحاكم فيها، وقد رواه تلميذه البيهقي بسند حسنه ابن كثير عن أبي بكر، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنزلنا على بيت منه لم يكن فيه إلا امرأة وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز يسوقها فقالت له أمة: انطلق بهذه الشفرة والشاة لهذين الرجلين، وقل لهما: اذبحاها وكلا منها وأطعمانا، فرد النبي صلى الله عليه وسلم الشفرة، وقال له:"ائتني بقدح"، فقال له: إنها عزبة، أي: لم يطرقها الفحل، قال:"انطلق"، فانطلق فجاء بقدح، فمسح صلى الله عليه وسلم ضرعها ثم حلب ملء القدح وأرسلها لأم الغلام معه فشربت حتى رويت، ثم دعا صلى الله عليه وسلم بأخرى ففعل بها كذلك، ثم سقى أبا بكر، ثم دعا بأخرى ففعل بها كذلك وشرب صلى الله عليه وسلم، فلبثنا ليلتين ثم انطلقنا، فكانت تسميه المبارك وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر عليها فعرفه ابنها، وقال لها: هذا الذي كان مع المبارك فسألته عنه، فقال لها: هو نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: "أسلمت ".
قال البيهقي في الدلائل: وهذه القصة قريبة من قصة أم معبد ويشبه أن تكونا واحدة. وذكر ابن إسحاق ما يدل على أنهما واحدة، فيحتمل أنه رأى التي في كسر الخيمة أولا، ثم رجع
ولما بلغ المسلمين بالمدينة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غادة إلى الحرة ينتظرونه حتى............
ابنها بأعنز ففعل بها ما مر، ثم لما أتى زوجها وصفته له، والله أعلم. انتهى.
والذي يظهر أنها غيرها كما أشار إليه مغلطاي، كيف وفي قصة أم معبد أن الشاة التي حلب، إنما هي التي في كسر الخيمة وسقى الجميع منها ثم شرب، وإن الآتي بالأعنز إنما هو زوجها بعدما ذهبوا، وأيضا فقد قال في هذه: فلبثنا ليلتين إذ لو لبثا هما لأدركهما زوجها على المبتادر ولا مانع من التعدد، إلى هذا جنح في فتح الباري فقال: أخرج البيهقي في الدلائل شبيها بأصل قصة أم معبد في لبن الشاة المهزولة دون ما فيها من صفته صلى الله عليه وسلم لكنه لم يسمها في هذه الرواية ولا نسبها، فاحتمل التعدد. والله أعلم.
خاتمة:
ومما وقع لهم في الطريق أنه صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابا بيضاء، رواه البخاري عن عروة مرسلا، ووصله الحاكم عن عروة عن أبيه الزبير، وكذا لقيهما طلحة بن عبيد الله وكساهما، رواه ابن أبي شيبة وغيره، وأخرج البيهقي عن بريدة بن الحصين، قال: لما جعلت قريش مائة من الإبل لمن يرد النبي صلى الله عليه وسلم حملني الطمع فركبت في سبعين من بني سهم فلقيته، فقال:"من أنت"؟ قلت: بريدة، فالتقت صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، وقال:"بردًا مرنًا وصلح"، ثم قال:"ممن أنت"؟ قلت: من أسلم، قال:"سلمنا"، ثم قال:"ممن"؟ قلت: من بني سهم، قال:"خرج سهمك يا أبا بكر"، فقال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قال: "أنا محمد بن عبد الله رسول الله"، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا، قال بريدة: الحمد لله الذي أسلم بنو سهم طائعين غير مكرهين، فلما أصبح قال بريدة: يا رسول الله! لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه حتى دخلوا المدينة.
"ولما بلغ المسلمين" حال كونهم "بالمدينة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة" ولعله بلغهم لما سمع أهل مكة الهاتف أو نحو ذلك، فلا ينافي أنه لم يعلم بخروجه من مكة إلا علي وآل أبي بكر، "فكانوا" جواب لما دخلته الفاء على قلة "يغدون" بسكون المعجمة: يخرجون غدوة، وأتى بقوله:"كل غادة" أي: بكرة النهار مع قوله يغدون إشارة إلى تكرر ذلك منهم وهو أقوى من كان من المضارع؛ لأن منهم من صحح أنها لا تفيد التكرار أو لأنه لما استعمل الغدوة في الذهاب، أي: وقت كان، كان ذكره الأزهري أتى به ليعين المراد منه "إلى الحرة" بفتح المهملة وشد الراء: أرض ذات حجارة سود كانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد، "ينتظرونه حتى
يردهم حر الظهيرة، فانقبلوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي نفسه فصاح فأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم -أي حظكم ومطلوبكم- قد أقبل، فخرج إليه بنو قيلة -وهم الأوس والخزرج- سراعا بسلاحهم، فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف.. الحديث رواه البخاري.
وفيه: أن أبا بكر قام للناس، وجلس.........
يردهم حر الظهيرة" كما في حديث عائشة في البخاري، وعند ابن سعد: فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا إلى منازلهم، وللحاكم عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجل من قومه: كنا نخرج فنلجأ بظاهر الحرة نلجأ إلى ظل المدر حتى تغلبنا عليه الشمس، ثم نرجع إلى رحالنا، ولم أر عدة الأيام التي فعلوا ذلك فيها، ويحتمل أنها الثلاثة التي مكثها في الغار واليومان اللذان لبثهما عند المرأة، "فانقلبوا يوما بعدما طال انتظارهم" له عليه السلام، "فلما أووا إلى بيوتهم أوفى" بفتح الهمزة والفاء طلع، "رجل من يهود" قال الحافظ: لم أقف على اسمه "على أطم" بضم الهمزة والطاء، "من آطامهم" وهو الحصن، ويقال: إنه كان بناء من حجارة كالقصر، كما في الفتح.
"فبصر" بفتح الموحدة وضم المهملة، أي: علم "برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه" كأبي بكر ومولاه، والدليل: وبريدة حال كونهم "مبيضين" أي: عليهم الثياب البيض التي كساها إياهم الزبير وطلحة، وقال ابن التين: يحتمل أن معناه مستعجلين، قال ابن فارس: يقال بائض، أي: مستعجلين ويدل عليه "يزول بهم" أي: يرفعهم ويظهرهم، "السراب" المرئي نصف النهار في شدة الحر كأنه ماء، وفي الفتح: أي يزول بسبب عروضهم له، وقيل: معناه ظهرت حركتهم فيه للعين، "فلم يملك اليهودي نفسه فصاح بأعلى صوته: يا بني قيلة" بفتح القاف وسكون التحتية: الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخرزج وهي بنت كاهل بن عذرة، "هذا جدكم" بفتح الجيم وشد المهملة، "أي: حظكم ومطلوبكم" وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه، وفي رواية: هذا صاحبكم، "قد أقبل فخرج إليه بنو قيلة وهم الأوس والخزرج سراعا بسلاحهم" إظهارا للقوة والشجاعة لتطمئن نفسه صلى الله عليه وسلم بقدومه عليهم ويظهر صدقهم له في مبايعتهم إياه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبنائهم وأنفسهم، "فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف" بن مالك من الأوس بن حارثة على فرسخ من المسجد النبوي، وكان نزوله على كلثوم بن الهدم، قيل: كان يومئذ مشركا، وجزم به محمد بن زبالة.
"الحديث رواه البخاري" من حديث عائشة "وفيه: أن أبا بكر قام للناس" يتلقاهم "وجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
وظاهر هذا أنه عليه الصلاة والسلام كانت الشمس تصيبه، وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثه، كما هو صريح في موضعه.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه عليه السلام لهلال ربيع الأول، أي أول يوم منه.
وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبي معشر،........
رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق" بكسر الفاء وفتحها: جعل، "من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر" أي: يسلم عليه يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية ابن عقبة عن ابن شهاب، وهو ظاهر السياق خلافا لقول ابن اللتين لمعرفتهم أبا بكر لكثرة تردده لهم في التجارة إلى الشام، بخلاف المصطفى فلم يأتها بعد أن كبر، قاله الحافظ ملخصا، أي: وأما من رآه كاهل العقبات فإنهم يحيونه لمعرفتهم به، لكن لو وقع لعلمه غيرهم ممن لم يره بتحية الرأس، فلعلهم تأخروا ذلك الوقت لعذر، "حتى أصابت الشمس رسول صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله عند ذلك"، وعن ابن عقبة عن الزهري: فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه إياه، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به، وعند ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن عويم: أناخ إلى الظل هو وأبو بكر، والله ما أدري أيهما هو حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفناه بذلك.
"وظاهر هذا أنه عليه الصلاة والسلام كانت الشمس تصيبه وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثته كما هو صريح في موضعه" فلا ينافي ما هنا "ال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه عليه السلام لهلال ربيع الأول، أي أول يوم منه" فليس دخوله مقارنا لطلوع الهلال، كما قد يتوهم من قوله لهلال إذ اللام بمعنى عند.
"وفي رواية جرير بن حازم" بن زيد بن عبد الله الأزدي البصري الثقة المتوفى سنة سبعين ومائة، "عن ابن إسحاق قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول"، وهذا يجمع بينه وبين ما قبله بالاختلاف في رؤية الهلال كما يأتي قريبا، "ونحوه عند أبي معشر" نجيح بن عبد الرحمن الهاشمي مولاهم السندي بكسر المهملة وسكون النون فيه مقال، لكن قال مغلطاي: هو من
لكنه قال: ليلة الاثنين.
وعن ابن سعد: قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وفي "شرف المصطفى" من طريق أبي بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول.
وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.
وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وبه جزم النووي في كتاب السير من الروضة.
وقال ابن الكلبي: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم ربيع الأول............
المعتمدين في السير مر بعض ترجمته، "لكنه قال ليلة الاثنين" ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر مسلم، قال مغلطاي: وفيه نظر، والدمياطي: هو غير محفوظ ويأتي جمع الحافظ، "وعن ابن سعد" ليس هو محمد بن سعد كانت الواقدي كما هو المتبادر عند الإطلاق، وإنما هو هنا كما في فتح الباري إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، "قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول" وإبراهيم هذا آخر من روى المغازي عن ابن إسحاق، كما في الروض.
"وفي" كتاب "شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري "من طريق أبي بكر" بن محمد بن عمرو "بن حزم" بمهملة وزاي الأنصاري النجاري قاضي المدينة ثم أميرها، مات سنة عشرين ومائة عن أربع وثمانين سنة. "قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول".
قال الحافظ في الفتح: "وهذا" أي: المذكور، "يجمع بينه وبين الذي قبله" من القولين الأولين وهما لهلال ولليلتين والأخيرين وهما لاثنتي عشرة ولثلاث عشرة، "بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال" زاد في الفتح: وعند أبي سعد في الشرف من حديث عمر: ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول، كذا فيه ولعله كان خلتا ليوافق رواية جرير بن حازم. "وقيل: كان حين اشتد الضحاء" بالفتح والمد كما في النور، أي: قوي وكمل ببلوغه آخر وقته، فلا ينافي ما مر أن اليهود رآهم يزول بهم السراب. وأما الضحى بالضم والقص فالشمس، كما في القاموس "يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وبه جزم النووي في كتاب السير من الروضة"، وثنى به في الإشارة.
"وقال ابن الكلبي" هشام بن محمد "خرج من الغار يوم" الذي في الفتح عن ابن الكلبي: ليلة "الاثنين أول ربيع الأول"، قال الحافظ: ويوافقه جزم ابن حزم بأنه خرج من مكة ثلاث ليال بقين من صفر، فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، انتهى.
ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة خلت منه، وقيل ليلتين خلتا منه.
وعند البيهقي: لاثنتين وعشرين ليلة.
وقال ابن حزم: خرجا من مكة وبقي من صفر ثلاث ليال.
وأقام علي بمكة بعد مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع -وقيل: ثامن- عشر ربيع الأول، وكان مدة مقامه مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أو ليلتين.
وأمر صلى الله عليه وسلم بالتاريخ...........
وهذا الذي ترجاه صدر به مغلطاي في الإشارة، قال الحافظ: وإن ضم إلى قول أنس أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكنه قال:"ودخل المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه"، فعلى هذا تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبان فإنه قال: أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس، يعني: وخرج يوم الجمعة فلم يعد يوم الخروج، وكذا قال ابن عقبة: أنه أقام فيهم ثلاث ليال، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج ولا الدخول، انتهى.
"وقيل: ليلتين خلتا منه" قاله ابن الجوزي. قال مغلطاي: وفيه نظر، وعند ابن الزبير عن الزهري: قدم في نصف ربيع الأول، وقيل: في سابعه، والأكثر أنه قدم نهارا. وفي مسلم: ليلا، وجمع الحافظ بأن القدوم كان آخر الليل فدخل فيه نهارا.
"وعند البيهقي: لاثنتين وعشرين ليلة" فيوافق قول أنس: أقام بقباء أربع عشرة ليلة، مع ضمه لقوله:"وقال ابن حزم: خرجا من مكة، وبقي من صفر ثلاث ليال" فيكون خروجهما يوم الخميس والإقامة بالغار ليلة الجمعة والسبت والأحد والخروج منه ليلة الاثنين، وهذا يوافق الجمع السابق. "وأقام علي بمكة بعد مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام" حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند المصطفى وخلفه لردها، "ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع، وقيل: ثامن عشر ربيع الأول، وكانت مدة مقامه مع النبي صلى الله عليه وسلم" بقباء "ليلة أو ليلتين" وفي روضة الأحباب: وكان علي يسير بالليل ويختفي بالنهار، وقد نقبت قدماه فمسحهما النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بالشفاء، فبرئتا في الحال، وما اشتكاهما بعد اليوم قط.
"وأمر صلى الله عليه وسلم" وهو بقباء "بالتاريخ" قال الجوهري: هو تعريف الوقت والتوريخ مثله، يقال: أرخت وورخت، وقيل: اشتقاقه من الأخ، وهو الأنثى من بقر الوحش، كأنه شيء حدث كما يحدث الولد، وقيل: هو معرب، ويقال: أول ما أحدث التاريخ من الطوفان، قاله في الفتح.
فكتب من حين الهجرة.
وقيل: إن عمر أول من أرخ وجعله من المحرم.
واصطلاحا، قيل: توقيت الفعل بالزمان ليعلم ما بين مقدار ابتدائه وبين أي غاية وضعت له فإذا قلت: كتبت كذا في يوم كذا من شهر كذا، ثم قرئ بعد سنة مثلا علم أن ما بين القراءة والكتابة سنة، وقيل: هو أول مدة من شهر ليعلم به مقدار ما مضى، واختصت العرب بإنها تؤرخ بالسنة القمرية لا الشمسية، فلذا قدمت الليالي؛ لأن الهلال إنما يظهر ليلا.
"فكتب من حين الهجرة" رواه الحاكم في الإكليل عن الزهري وهو معضل والمشهور خلافه، وأن ذلك زمن عمر، كما قال الحافظ. "وقيل: إن عمر أول من أرخ" أخرج أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه، ومن طريقه الحاكم عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم أرخ بالمبعث وبعضهم بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها وبالمحرم؛ لأنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه وذلك سنة سبع عشرة.
ورواه ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين بنحوه، قال: ولك في سنة سبع عشرة، وقيل: ست عشرة في ربيع الأول، فلذا قال:"وجعله من المحرم"؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، إذا البيعة وقعت أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة وأول هلال استهل بعدها، والعزم على الهجرة الهلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ؛ والمتحصل من مجموع آثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي، وذكر السهيلي: أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ؛ لأن من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام وعبد النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمنا وابتدأ فيه بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ، أنه أول التاريخ الإسلامي، قال في الفتح: كذا قال والمتبادر أن معنى قوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، أي: دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، انتهى.
وقد قال ابن المنير: كلام السهيلي تكلف وتسعف وخروج عن تقدير الأقدمين فإنهم قدروه من تأسيس أول يوم، فكأنه قيل: من أول يوم وقع فيه التأسيس، وهذا تقدير تقتضيه العربية وتشهد له الآية، وقيل: أول من أرخ يعلى بن أبية حين كان باليمن، حكاه مغلطاي. ورواه أحمد بإسناد صحيح عن يعلى. قال الحافظ: لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى، ولم يؤرخوا بالمولد ولا بالمبعث؛ لأن وقتهما لا يخلو من نزاع من حيث الاختلاف فيهما، ولا بالوفاة النبوية
وأقام عليه السلام بقباء في بني عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة.
وفي صحيح مسلم: أقام فيهم أربع عشرة ليلة.
ويقال: إنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.
وأسس مسجد قباء، الذي أسس على التقوى، على الصحيح،............
لما يقع في تذكره من الأسف والتألم على فراقه، وقيل: بل أرخ بوفاته عليه السلام، حكاه مغلطاي.
"و" اختلف في قدر إقامته في قباء، فذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب عن مجمع بن جارية: أنه "أقام عليه السلام بقباء في بني عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة" وحكاه الزبير بن بكر عن قوم بن بني عمرو. "وفي صحيح مسلم" لا وجه لاقتصار عليه بل والبخاري كلاهما عن أنس، "أقام فيهم أربع عشرة ليلة" وبه يفسر قول عائشة: بضع عشرة ليلة، "ويقال: أنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس"، قاله ابن إسحاق، وجزم به ابن حبان.
قال اليعمري: وهو المشهور عند أصحاب المغازي، قيل: أقام ثلاثا فقط، رواه ابن عائذ عن ابن عباس وابن عقبة عن الزهري، وقال إسحاق: أقام فيهم خمسا وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قال الحافظ: أنس ليس من بني عمرو فإنهم من الأوس وأنس من الخزرج، وقد جزم بما ذكر فهو أولى بالقبول من غيره انتهى. لا سيما مع صحة الطريق إليه لاتفاق الشيخين عليه، وفي ذخائر العقبى: أقام ليلة أو ليلتين.
"وأسس" صلى الله عليه وسلم "مسجد قباء" وصلى فيه، روى ابن زبالة: أنه كان لكلثوم بن الهدم مربد فأخذه صلى الله عليه وسلم فأسسه وبناه مسجدا. وأخرج عبد الرزاق والبخاري عن عروة وابن عائد عن ابن عباس: الذي بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف. وروى يونس في زيادات المغازي عن الحكم بن عتيبة: لما نزل صلى الله عليه وسلم قباء، قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله بد من أن نجعل له مكانا يستظل فيه ذا استيقظ، ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء، فهو أول مسجد بني، يعني في الإسلام.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر، قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة، ولذا أقبل المتقدمون في الهجرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم وورد بقباء صلى فيه إلى بيت المقدس ولم يحدث فيه شيئا، وجمع بينها بما حاصله: أنه لم يحدث فيه شيئا في أول بنائه لكن لما قدم وصلى فيه غير بناءه وقدم القبلة موضعها اليوم، كما في حديث عند ابن أبي شيبة أيضا.
"الذي أسس على التقوى على الصحيح" في تفسير الآية، وهو ظاهرها وقول الجمهور،
وهو أول مسجد بني في الإسلام وأول مسجد صلى فيه عليه السلام بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه.
وبه جزم عروة بن الزبير عند البخاري وغيره، كما علم وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعا نصا. أخرج مسلم عن أبي سعيد: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال:"وهو مسجدكم هذا". وروى أحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك، فقال:"هو هذا، وفي ذلك خير كثير"، وأخرجه أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
وأخرجه من وجه آخر عن سهل عن أبي كعب مرفوعا، ولهذه الأحاديث وصحتها جزم الإمام مالك في العتيبة بأن الذي أسس على التقوى مسجد المدينة. وقال ابن رشد في شرحها: أنه الصحيح، قال الحافظ: والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ، الآية يؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: نزلت رجال يحبون أن يتطهروا في أهل قباء، وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء، قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافا؛ لأن كلامهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد غيره: أن قوله من أول يوم يقتضي مسجد قباء؛ لأن تأسيسه في أول يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة، انتهى.
"وهو" في التحقيق، كما قال الحافظ:"أول مسجد بني في الإسلام وأول مسجد صلى فيه عليه السلام بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد" كبناء أبي بكر بفناء داره، "لكن لخصوص الذي بناه" فلا يعادل هذا، وقد روى الترمذي عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة في مسجد قباء ركعتين أحب إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل". وأخرج الشيخان عن ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء أو يأتي قباء راكبا أو ماشيا، وأخرجا عنه أيضا رفعه:"من صلى فيه كان كعدل عمرة". روى ابن ماجه عن سهل بن حنيف رفعه: "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة، كان كأجر عمرة". وأخرج مالك وأحمد والبخاري والنسائي والحاكم عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا أو
ثم خرج عليه السلام من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، في بطن وادي رانوناء -براء مهملة ونونين ممدودا، كعاشوراء وتاسوعاء- واسم المسجد "غبيب"، بضم الغين المعجمة، بتصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة،
ماشيا وكان عبد الله يفعله. "ثم خرج عليه السلام من قباء يوم الجمعة" كما عند ابن عائذ وابن إسحاق، وإنما يأتي على أنه أقام بقباء أربعة أيام، كما قال زين الحافظ:
أقام أربعا لديه وطلع
…
في يوم جمعة فصلى وجمع
في مسجد الجمعة وهو أول
…
ما جمع النبي فيما نقلوا
وقيل بل أقام أربع عشرة
…
فيهم وهم ينتحلون ذكره
وهو الذي أخرجه الشيخان
…
لكن ما مر من الإتيان
لمسجد الجمعة يوم جمعة
…
لا يستقيم مع هذي المدة
إلا على القول بكون القدمة
…
إلى قبا كانت بيوم الجمعة
"حين ارتفع النهار فأدركته الجمعة" أي: صلاتها وتعبيره بيوم الجمعة مشعر بقدم تسميتها بذلك، وهو أحد الأقوال لجمع الخلائق فيه يوم القيامة، أو لأن خلق آدم جمع فيه، وقيل: أول من سماه بذلك كعب بن لؤي، وقيل: قصي، كما مر في النسب الكريم. وقيل: التسمية به إسلامية لاجتماع الناس للصلاة فيه، لما جمع أسعد بن زرارة بالناس قبل الهجرة النبوية.
"في" أرض أو مساكن "بني سالم بن عوف فصلاها" بمسجدهم "بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة" وقيل: أربعون، ولا ينافيهما رواية: أنه حين قدم عليه السلام استقبله زهاء خمسمائة بقباء لجوا أنهم رجعوا بعد إلى المدينة، فلم يبق معه لما دخل بني سالم إلا هؤلاء. "في بطن وادي رانوناء، براء مهملة ونونين ممدودا كعاشوراء وتاسوعاء، واسم المسجد غبيب بضم الغين المعجمة" وفتح الموحدة وسكون التحتية فموحدة، "بتصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة" في فضائل طابة، وهو المجد الشيرازي صاحب القاموس، ويقع في بعض النسخ السقيمة زيادة.
وفي القاموس: الغبغب كجندب وكان أصله طرة معارضة لضبط المصنف؛ لأن تصغيره على هذا: غبيب، بشد الياء فألحقها من لا يميز وهي خطأ شنيع؛ لأن القاموس إنما ذكره في العين
والودي: ذي صلب، ولذا سمي مسجد الجمعة، وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء.
وركب صلى الله عليه وسلم على راحلته بعد الجمعة متوجها إلى المدينة.
وروى أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر،.........
المهملة، فقال: العب شرب الماء، إلى أن قال: والعيعب كجندب كثرة الماء وواد، وصرح في الغين المعجمة بمثل ما هنا، فقال: وكزبير موضع بالمدينة.
"الوادي" اسمه "ذي صلب" كذا في نسخ بالياء، وكان اسمه بالياء، فقصد حكايته. وفي نسخة: ذو صلب، وأخرى: والوادي صلب، وهما ظاهرتان.
وفي القاموس: الصلب بالضم وعسكر وأسير. "ولذا" أي: لصلاته عليه السلام فيه "سمي مسجد الجمعة" وهي أول جمعة صلاها، وأول خطبة خطبها في الإسلام؛ كما قال ابن إسحاق، وجزم به اليعمري، وقيل: كان يصلي الجمعة في مسجد قباء مدة إقامته. "وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء" أي: وكان مختصا بني سالم، لما مر أن أول مسجد بني لعامة المسلمين مسجد قباء، وبكونه للعامة لا ينافيه قول جابر: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم سنتن نعمر المساجد، ولا يرد أن التحرير أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين الهجرة النبوية شهرين؛ وبعض شهر؛ لأن ابتداء الهجرة كان بعد العقبة الثالثة هجرة الصحابة وبين الهجرة النبوية شهرين؛ وبعض شهر؛ لأن ابتداء الهجرة كان بعد العقبة الثالثة بتلك المدة، وعمارة المساجد بعد الأولى، ودفع اتشكاله بزيادة المدة على سنتين بأنهم لم يعمروا بمجرد رجوع الستة الأولين إلى المدينة، بل بعد ظهور الإسلام بها.
"وركب صلى الله عليه وسلم على راحلته بعد" صلاة "الجمعة متوجها إلى المدينة. وروى أنس بن مالك: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر" خلفه على الراحلة التي هو عليها إكراما له، وإلا فقد كان له راحلة، كما مر. وفي فتح الباري، قال الداودي: يحتمل أنه مرتدف خلفه على راحلته، ويحتمل أن يكون على راحلة أخرى. قال الله تعالى:{بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، أي: يتلو بعضهم بعضا. ورجح ابن التين الأول، وقال: لا يصح الثاني لأنه يلزم منه أن يمشي أبو بكر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: إنما يلزم ذلك لو كان الخبر جاء بالعكس، كأن يقول: والنبي مرتدف خلف أبي بكر، فأما ولفظه: وهو مردف أبا بكر فلا، وسيأتي في الباب بعده، يعني في البخاري من وجه آخر عن أنس: فكأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، انتهى. وذكر ابن هشام: أنهم لما وصلوا إلى العرج أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أوس بن حجر
وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الذي بين يديك، فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير، الحديث رواه البخاري.
وقد روى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أله عني الناس"، فكان إذا سئل من أنت؟ قال: باغي فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهديني السبيل.
وفي حديث الطبراني، من رواية أسماء: وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس، فإذا لقيه لاق يقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هذا يهديني الطريق يريد الهداية في الدين، ويحسبه الآخر دليلا.
الأسلمي على جمل له إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة، وأخرجه الطبراني وغيره عن أوس وفيه: أنه أعطاهما فحل إبله وأرسل معهما غلامه مسعودا، وأمره أن لا يفارقهما حتى يصلا المدينة.
"وأبو بكر شيخ" قد أسرع إليه الشيب "يعرف" لأنه كان يمر على أهل المدينة في سفر التجارة، كما في الفتح، "والنبي صلى الله عليه وسلم شاب" لا شيب فيه، "لا يعرف" لعدم تردده إليهم، فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة. "قال" أنس:"فيلقى الرجل أبا بكر: فيقول: يا أبا بكر! من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب" بفتح السين في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة فكسروها في المضارع والماضي على غير قياس، "الحاسب أنه إنما يعني الطريق" الحسية، "وإنما يعني" أبو بكر "سبيل الخير
…
الحديث" ذكر في بقيته تعرض سراقة وتلقي الأنصار ثم ركوبه إلى أن وصل دار أبي أيوب، "رواه البخاري" في الهجرة.
"وقد روى" محمد "بن سعد" ما يبين سبب هذه التورية، وهو "أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر:"أله" بفتح الهمزة وإسكان اللام "عني الناس، فكان إذا سئل من أنت، قال: باغي حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ " حذف الموصول الاسمي وأبقى صلته، أي: الذي معك، وهو جائز عند الكوفيين، أو هو حال من ذا، "قال: هذا يهدين السبيل،" وهذا من معاريض الكلام المغنية عن الكذب جمعا بين المصلحتين:"وفي حديث الطبراني من رواية أسماء" بنت الصديق: "وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس، فإذا لقيه لاق، يقول لأبي بكر: من هذا" حال كونه "معك؟ " أو الذي معك، "فيقول: هذا يهديني الطريق، يريد الهداية في الدين" المتجددة المتكررة لتعبيره بالمضارع دون الماضي، "ويحسبه الآخر" الذي سأله، "دليلا" للطريق الحقيقي، وإلى هنا انتهى
وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه مر عليهم في سفره للتجارة، وكان صلى الله عليه وسلم لم يشب، وكان صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر. وفي حديث: لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر.
ما نقله من رواية الطبراني.
وبين المصنف سبب قول أنس: يعرف ولا يعرف، فقال:"وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه مر عليهم في سفره للتجارة" إلى الشام مرور تردد ومخالطة حتى عرفوه لا مجرد السير؛ إذ لا يستدعي المعرفة. وفي الفتح: لأنه كان يمر على المدينة في سفر التجارة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم في الأمرين، فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة، أي: لأنه سافر مع عمه وهو صغير، كما مر.
"وكان صلى الله عليه وسلم لم يشب" حينئذ ثم شاب بعض شعرات في راسه ولحيته، كما يأتي في شمائله، "و" إلا ففي نفس الأمر، "كان صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر" فإنه استكمل بمدة خلافته سن المصطفى، على الصحيح خلاف ما يتوهم من قوله شاب وأبو بكر شيخ. وقد ذكر أبو عمر من رواية حبيب بن الشهيد عن ميمون مهران عن يزيد بن الأصم: أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أيما أسن أنا أو أنت"؟ قال: أنت أكرم يا رسول الله مني وأكبر، وأنا أسن منك، قال أبو عمر: هذا مرسل، ولا أظنه إلا وهما. قال الحافظ: وهو كما ظن وإنما يعرف هذا الناس. وأما أبو بكر ففي مسلم عن معاوية أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وعاش بعد المصطفى سنتين وأشهرا، فيلزم على الصحيح في سنة صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر أصغر منه بأكثر من سنتين، انتهى. ولا يرد عليه قول أنس شيخ؛ لأنه من جاوز الأربعين كان في المصباح.
"وفي حديث أنس" عند البخاري "لم يكن في الذين هاجروا أشمط" بفتح الهمزة والميم بينهما معجمة ساكنة ثم طاء مهملة، أي: خالط سواد شعره بياضه، "غير أبي بكر" فغلفها بالحناء والكتم حتى قنأ لونها غلف، بفتح الغين المعجمة واللام الثقيلة، كما قال عياض: إنه الرواية وبالفاء قال الحافظ: أي خضبها، والمراد اللحية وإن يقع لها ذكر حتى قنأ بفتح القاف والنون والهمزة، أي: اشتدت حمرتها. ا. هـ. أي: حتى ضربت إلى السواد وإطلاق الشمط على شيب غير الرأس نقله في المغرب عن الليث وخصه غيره بشيب الرأس، والحديث شاهد للأول. والكتم فتح الكاف والمثناة الخفيفة، وحكي تثقيلها: ورق يخضب به كالآس ينبت في أصغر الصخور فيتدلى حيطانا لطافا ومجتناه صعب، ولذا قال. وقيل: إنه يخلط بالوسمة، وقيل: إنه الوسمة، وقيل: هو النيل، وقيل: حناء قريش وصبغه أصفر.
وكان عليه الصلاة والسلام كلما مر على دار من دور الأنصار يدعوه إلى المقام عندهم: يا رسول الله، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيله -يعني ناقته- فإنها مأمورة. وقد أرخى زمامها، وما يحركها، وهي تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار ابن مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد
"وكان عليه الصلاة والسلام كلما مر على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام" بضم الميم، أي: الإقامة، "عندهم" بقولهم:"يا رسول الله! هلم إلى القوة والمنعة" العز والجماعة الذي يمنعونك ويحمونك بحيث لا يقدر عليك، من استعمال المشترك في معنييه، فالمنعة بفتحتين: مشترك بين العز والجماعة الذين يحمونك وإن سكنت النون فبمعنى العز فقط، قال الحافظ: وسمي ممن سأله الزول عندهم: عنبان بن مالك في بني سالم، وفروة بن عمرو في بني بياضة، والمنذر بن عمرو وسعد بن عبادة وغيرهما في بني ساعدة، وأبو سليط وغيره في بني عدي. "فيقول:" لكل منهم: "خلو سبيلها"، يعني ناقته" القصواء أو الجدعاء، وفي إنهما ثنتان أو واحدة لها لقبان خلاف، وفي الألفية: عضباء جدعاء هما القصواء، لكن روى البزار عن أنس: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم على العضباء وليست الجدعاء. قال السهيلي: فهذا من قول أنس أنها غير الجدعاء، وهو الصحيح، "فإنها مأمورة" قال ابن المنير: الحكمة البالغة في إحالة الأمر على الناقة أن يكون تخصيصه عليه السلام لمن خصه الله بنزوله عند آية معجزة تطيب بها النفوس، وتذهب معها المنافسة، ولا يحيك ذلك في صدر أحد منهم شيئا. "وقد أرخى زمامها وما يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا حتى إذا أتت دار ابن مالك بن النجار بركت" بفتح الراء "على باب المسجد" كذا عند ابن إسحاق، ولابن عائذ وسعيد بن منصور مرسلا: عند موضع المنبر من المسجد. وفي الصحيح عن عائشة: عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو فيه يومئذ رجال من المسلمين.
وفي حديث البراء عن ابن بكر: فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال:"إني أنزل على أخوال عبد المطلب"، أكرمهم بذلك. وقد قيل: يشبه أن يكون هذا أول قدومه من مكة قبل نزوله قباء لا في قدومه باطن المدينة، فلا يخالف قوله:"إنها مأمورة". "وهو يومئذ مربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. وقال الأصمعي: المربد كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم، وبه سمي مربد البصرة؛ لأنه كان موضع سوق الإبل، قاله الحافظ. وفي النور: أصله من ربد بالمكان إذا أقام فيه، وربده: حبسه، والمربد أيضا الذي يجعل فيه التمر لينشف كالبيدر للحنطة، انتهى. والمراد هنا التمر. ففي البخاري عن عائشة: وكان مربدا للتمر.
لسهل وسهيل ابني رافع بن عمرو، وهما يتيمان في حجر معاذ بن عفراء -وقال أسعد بن زرارة وهو الراجح- ثم ثارت، وهو صلى الله عليه وسلم عليها حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول،..........................
"لسهل" مكبرا ذكره اليعمري في البدريين، وقال أبو عمر: لم يشهدها. وقال ابن منده: يقال: شهد أحدًا ومات في خلافة عمر، "وسهيل" مصغرا بدرا وما بعدها، وتوفي في خلافة عمر، قاله ابن عبد البر. قال في الإصابة: وزعم ابن الكلبي أنه قتل مع علي بصفين. "ابني رافع بن عمرو" كما عند ابن الكلبي، وتبعه الزبير بن بكار وابن عبد البر والذهبي وغيرهم، وقال الزهري وابن إسحاق: هما ابنا عمرو. وقال اليعمري: وهو الأشهر. والحافظ في الإصابة: هو الأرجح. وحاول السهيلي التوفيق، فقال: هما ابنا رافع بن عمرو، يعني كما صرح به الجماعة فنسبهما الزهري وابن إسحاق إلى جدهما، وهذا حسن. وابن عقبة في الإصابة بأن أرجح قول الزهري وتلميذه؛ لأنه ذكر في الفتح ما جمع به السهيلي عن نص الزبير بن بكار وهو ابن الكلبي إماما أهل النسب، فتعين جمع السهيلي.
"وهما يتيمان في حجر معاذ بن عفراء" كما عند ابن إسحاق وأبي عبيد في التقريب، "وقال: أسعد" بالألف "ابن زرارة" أبو أمامة من سباق الأنصار إلى الإسلام، ذكر ابن سعد أن أسعد كان يصلي فيه قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم "وهو الراجح" إذ هو الثابت في البخاري وغيره. قال في الإصابة: ويمكن الجمع بأنهما كانا تحت حجرهما معا، ولذا وقع في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "يا بني النجار، ثامنوني". ووقع في رواية أبي ذر وحده للبخاري سعد بلا ألف، والصواب كما في الفتح والنور: أسعد، بالألف وهو الذي في رواية الباقين. قال الحافظ: وسعد تأخر إسلامه، انتهى. وذكره غير واحد في الصحابة، قال عياض: لم يذكره كثيرو؛ لأنه ذكر في المنافقين. وحكى الزبير أنهما كانا في حجر أبو أيوب.
قال في فتح الباري: وأسعد أثبت وقد يجمع باشتراكهم أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكروا واحدا بعد واحدا. "ثم ثارت وهو صلى الله عليه وسلم عليها" ومشت "حتى بركت على باب أبي أيوب" خالد بن زيد بن كليب "الأنصاري" من بني مالك بن النجار من كبار الصحابة، شهد بدرا والمشاهد ومات غازيا الروم سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: اثنتين وخمسين، وهو الأكثر. "ثم ثارت" بمثلثة وفوقية: قامت "منه وبركت في مبركها الأول" عند المسجد إشارة إلى أن بروكها في الأول بطريق القصد لا الاتفاق، قاله الحافظ. أو إلى أنه منزله حي وميتا، وقد يكون مشيها قليلا ثم رجوعها إشارة إلى الاختلاف اليسير الذي وقع في دفنه، ثم الموافقة لرأي أبي بكر في أنه يخط له تحت الفرش الذي توفي عليه، قاله البرهان البقاعي.
وألقت جرانها بالأرض -يعني باطن عنقها أو مقدمه من المذبح- وأرزمت -يعني صوتت من غير أن تفتح فاها- ونزل عنها صلى الله عليه وسلم وقال: "وهذا المنزل إن شاء الله".
واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله في بيته، ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب، جده عليه السلام.
وفي حديث أبي أيوب الأنصاري، عند أبي يوسف يعقوب...........................
"وألقت جرانها" بكسر الجيم "بالأرض، يعني باطن عنقها" كما قاله السهيلي "أو مقدمه من المذبح" إلى المنحر، وبه جزم المجد، وذكر السهيلي عن بعض السير: أنها لما ألقت جرانها في دار بني النجار جعل جبار بن صخر السلمي ينخسها بحديدة رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة، فلم تفعل. "وأرزمت" بهمزة فراء ساكنة فزاي مفتوحة "يعني: صوتت من غير أن تفتح فاها" قاله أبو زيد، قال: وذلك على ولدها حين ترأمه، وقال صاحب العين: أرزمت بالألف معناه رغت ورجعت في رغائها، ويقال منه أرزم الرعد وأرزمت الريح، ويروى: رزمت بلا ألف، أي: نامت من الإعياء والهزال ولم تتحرك.
"ونزل عنها صلى الله عليه وسلم، وقال: "وهذا المنزل إن شاء الله" واحتمل أبو أيوب رحله" بإذنه صلى الله عليه وسلم "وأدخله بيته ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها،" عطف تفسير لأوسط، كما في الصحيح مرفوعا:"خير دور الأنصار بنو النجار"، "وهم أخول عبد المطلب جده عليه السلام" ولذا أكرمهم بنزوله عليهم، كما مر. وروى ابن عائذ وسعيد بن منصور عن عطاف بن خالد: استناخت به أولا فجاءه ناس، فقالوا: المنزل يا رسول الله؟ فقال: "دعوها"، فانبعثت حتى أناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب، فقال: إن منزلي أقرب المنازل، فائذن لي أن أنقل رحلك، قال:"نعم"، فنقله وأناخ الناقة في منزله. وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحله، قال صلى الله عليه وسلم:"المرء مع رحله"، وأن أسعد بن زرارة جاء فأخذ ناقته فكانت عنده، قال: وهذا أثبت.
"وفي حديث أبي أيوب الأنصاري" النجاري "عند أبي يوسف يعقوب" ابن إبراهيم الأنصاري الإمام العلامة الحافظ فقيه العراق الكوفي، صاحب أبي حنيفة، وروى عن هشام بن عروة وأبي إسحاق الشيباني وعطاء بن السائب وطبقتهم، وعنه محمد بن الحسن وابن حنبل وابن معاوية وخلق: نشأ في طلب العلم وكان أبوه فقيرا، فكان أبو حنيفة يتعاهد أبو يوسف بمائة بعد مائة، قال ابن معين: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثا ولا أثبت من أبي يوسف وهو
في كتاب الذكر والدعاء له قال: لما نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب قلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله، ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال:"لِمَ يا أبا أيوب"؟ قال: قلت: كنت أحق بالعلو منا تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحي، لا والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا. الحديث.....................
صاحب حديث وسنة، مات في ربيع الآخر سنة وثمانين ومائة عن تسع وستين سنة. "في كتاب الذكر والدعاء له، قال" أبو أيوب: "لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو" وفي رواية ابن إسحاق: لما نزل صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وكنت أنا وأم أيوب في العلو، فقلت: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فأظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن ونكون في السفل، فقال:"يا أبا أيوب، إن الأرفق بنا ومن يغشانا أن نكون في سفل البيت"، قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن. "فلما خلوت إلى أم يوب" زوجته بنت خالة قيس بن سعد الأنصارية النجارية الصحابية، لم يذكر لها اسما في الإصابة. "قلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب" بحالة هنية بل بشر ليلة لتلك الفكرة، أو استعمل المبيت في النوم، كأنه قال: ما نمنا من اشتغال الفكر بذلك. وفي رواية: أن أبا بكر أيوب انتبه ليلا فقال: نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول، فباتوا في جانب.
وفي رواية ابن إسحاق: فلقد انكسر لنا حب فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب لقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها تخوفا أن يقطر على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء، فيؤذيه، "فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله! ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب. قال: "لِمَ يا أبا أيوب"؟ قال: قلت: كنت" أنت "أحق بالعلو منا، تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحي،" زاد في رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: "الأسفل أرفق بنا"، فقلت:"لا،" يكون ذلك فهي داخلة على محذوف، فقوله:"والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا،" تأكيد لاشتماله على القسم.
زاد في رواية: فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى تحول إلى العلو وأبو أيوب في السفل
…
"الحديث" تمامه: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا إليه بعشائه، وقد جلنا فيه بصلا أو ثوما، فرده ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا، قال:"إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه" فأكلنا ولن نصنع له تلك الشجرة بعد، أخرجه بتمامه ابن إسحاق في السيرة.
رواه الحاكم أيضا.
وقد ذكر أن هذا البيت الذي لأبي أيوب، بناه له عليه الصلاة والسلام تبع الأول لما مر بالمدينة وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبي صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى كبيرهم، وسألهم أن يدفعه للنبي صلى الله عليه وسلم فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب، وهو من ولد ذلك العالم..........................................................
"وراه الحاكم أيضا" وغيرهم "وقد ذكر" في المبتدأ لابن إسحاق وقصص الأنبياء: "إن هذا البيت لأبي أيوب بناه عليه الصلاة والسلام، تبع الأول" ابن حسان الحميري، الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه:"لا تسبوا تبعا، فإنه قد أسلم"، أخرجه الطبراني. وذكر ابن إسحاق في السيرة. أن اسمه تباب، بضم الفوقية وخفة الموحدة فألف فموحدة: ابن سعد، وفي مغاص الجوهري في أنساب حمير أنه كان تدين بالزبور.
"لما مر بالمدينة" في رجوعه من مكة، "وترك فيها أربعمائة عالم" روى ابن عساكر في ترجمته: أنه قدم مكة، وكسا الكعبة وخرج إلى يثرب، وكان في مائة ألف وثلاثين ألفا من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، ولما نزلها أجمع أربعمائة رجل من الحكماء والعلماء وتبايعوا أن لا يخرجوا منها، فسألهم عن الحكمة في مقامهم، فقالوا: إن شرف البيت وشرف هذه البلدة بهذا الرجل الذي يخرج يقال له محمد صلى الله عليه وسلم، فأراد تبع أن يقيم وأمر ببناء أربعمائة دار لكل رجل دار، واشترى لكل منهم جارية وأعتقها وزوجها منه وأعطاهم عطاء جزيلا وأمرهم بالإقامة إلى وقت خروجه، "وكتب كتابا للنبي صلى الله عليه وسلم" فيه إسلامه، ومنه:
شهدت على أحمد أنه
…
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
…
لكنت وزيرا له وابن عم
وختمه بالذهب، "ودفعه إلى كبيرهم وسألهم أن يدفعه للنبي صلى الله عليه وسلم" وعند ابن عساكر: ودفع الكتاب إلى عالم عظيم فصيح كان معه يدبره، وأمره أن يدفع الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا من أدركه من ولده وولد ولده أبدا إلى حين خروجه، وكان في الكتاب: أنه آمن به وعلى دينه. وخرج تبع من يثرب، فمات بالهند، ومن موته إلى مولده صلى الله عليه وسلم ألف سنة سواء. "فتداول الدار" التي بناها تبع للنبي صلى الله عليه وسلم لينزلها إذا قدم المدينة كما في المبتدأ والقصص:"الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب وهو من ولد ذلك العالم،" الذي دفع إليه الكتاب، ولما خرج صلى الله عليه وسلم أرسلوا إليه كتاب تبع مع أبي ليلى، فلما رآه صلى الله عليه وسلم، قال له:"أنت أبو ليلى ومعه كتاب تبع الأول" فبقي أبو ليلى متفكرا ولم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أنت؟ فإني لم أرَ في وجهك أثر السحر، وتوهم أنه ساحر، فقال:"أنا محمد، هات الكتاب"، فلما قرأه قال: "مرحبا
قال: وأهل المدينة الذين نصروه عليه الصلاة والسلام من ولد أولئك العلماء. فعلى هذا: إنما نزل في منزل نفسه، لا في منزل غيره، كذا حكاه في تحقيق النصرة.
وفرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير عند قدومه يقلن:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
بتبع الأخ الصالح"، ثلاث مرات.
"قال: وأهل المدينة الذين نصروه عليه الصلاة والسلام من ولد أولئك العلماء" الأربعمائة، وفي رواية: أنهم كانوا الأوس والخزرج، "فعلى هذا" المذكور من أن تبعا بنى للمصطفى دارا "إنما نزل في منزل نفسه لا في منزل غيره، كذا حكاه في تحقيق النصرة،" في تاريخ دار الهجرة لقاضيها الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي من مراغة الصعيد من فضلاء طلبة الجمال الإسنوي، "وفرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم." روى البخاري عن البراء بن عازب: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود عن أنس: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه، "وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضاء منها كل شيء" فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أكرنا قلوبنا، أخرج الترمذي في المناقب، وقال: صحيح غريب، وابن ماجه في الجنائز، واقتصر المصنف على حاجته منه هنا. وروى ابن أبي خيثمة والدارمي عن أنس أيضا: شهدت يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه صلى الله عليه وسلم المدينة، "وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير" بجيمين جمع أجار، وفي لغة: الأناجير بالنون، أي: الأسطحة، "عند قدومه يقلن" تهنئة له حال دخوله:
"طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع"
"وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع"
زاد رزين:
قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه عليه السلام المدينة رواه البيهقي في الدلائل، وأبو بكر المقرئ في كتاب الشمائل له عن ابن عائشة، وذكره الطبري في الرياض عن ابن الفضل الجمحي قال: سمعت ابن عائشة يقول: أراه عن أبيه فذكره. وقال خرجه الحلواني على شرط الشيخين. انتهى.
وسميت ثنية الوداع لأنه عليه السلام ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره.
وقيل: لأنه عليه السلام شيع إليها بعض سراياه، فودعه عندها.
وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما.
أيها المبعوث فينا
…
جئت بالأمر المطاع
"قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه عليه السلام المدينة، رواه البيهقي في الدلائل" النبوية "وأبو بكر المقرئ" بضم الميم وسكون القاف الحافظ محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني، صاحب المعجم الكبير وغيره، سمع أبا يعلى وعبدان، وعنه ابن مردويه، وأبو نعيم وأبو الشيخ، مات سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، "في كتاب الشمائل له، عن ابن عائشة" عبيد الله بضم العين، ابن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي، ثقة مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، قال الحافظ: ورمي بالقدر ولا يثبت، ويقال له: ابن عائشة، والعائشي والعيشي نسبة إلى عائشة بن طلحة؛ لأنه من ذريتها.
وذكر ابن أبي شيبة أنه أنفق على إخوانه أربعمائة ألف دينار، حتى التجأ إلى أن باع سقف بيته. "وذكره الطبري في الرياض" النضرة" عن ابن الفضل الجمحي، قال: سمعت ابن عائشة يقول: أراه" أظنه "عن أبيه" محمد بن حفص التيمي "فذكره، وقال" المحب الطبري: "خرجه الحلواني" بضم المهملة وسكون اللام نسبة إلى حلوان آخر العراق، الحسن بن علي بن محمد الهذلي، أبو علي الخلال نسبة إلى الخل نزيل مكة، ثقة حافظ له تصانيف شيخ الجماعة، خلا النسائي مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، "على شرط الشيخين، انتهى" كلام الطبري. وفيه معمر، فالشيخان لم يخرجا لابن عائشة، فلا يكون على شرطهما ولو صح الإسناد عليه، "وسميت ثنية الوداع؛ لأنه عليه السلام ودعه به بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره" هو غزوة تبوك، "وقيل: لأنه عليه السلام شيع إليها بعض سراياه،" هي سرية مؤتة "فودعه عندها" وهذان يعطيان أن التسمية حادثة، "وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما،
وصحح القاضي عياض الأخير، واستدل عليه بقول نساء الأنصار حين قدومه عليه السلام:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
فدل على أنه اسم قديم.
وقال ابن بطال: إنما سميت ثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقي. انتهى.
قال شيخ الإسلام الولي بن العراقي: وهذا كله مردود، ففي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع. قال: وهذا صريح في أنها من جهة الشام، ولهذا لما نقل والدي رحمه الله في شرح الترمذي كلام ابن.................................
وصحح القاضي عياض الأخير: واستدل عليه بقول نساء الأنصار حين قدومه عليه السلام:
"طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع"
"فدل على أنه اسم قديم"، وهي في الأصل: ما ارتفع من الأرض، وقيل: الطريق في الجبل، "وقال ابن بطال: إنما سميت بثنية الوداع؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقي. انتهى.
"قال شيخ الإسلام الولي بن العراقي: وهذا كله مردود، ففي صحيح البخاري" في الجهاد والمغازي "وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد" بن سعيد بن ثمامة الكندي، وقيل في نسبه غير ذلك، صحابي صغير له أحاديث قليلة ولاه عمر سوق المدينة، وهو آخر من مات بها سنة إحدى وتسعين أو قبلها، "قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس" كلهم رجالا ونساء وصبيانا وولائد فرحا به وسرورا بضد ما أرجف به المنافقون إذ كانوا يخبرون عنه أخبار السوء في غيبته، ولأنهن ألفنه صلى الله عليه وسلم بخلاف الهجرة، صعدت المخدرات على الأسطحة؛ لأنهن لم يكن رأينه وإن فشا فيهم الإسلام، "يتلقونه من ثنية الوداع، قال" ابن العراقي:"وهذا صريح في أنها من جهة الشام" لا مكة، فظهر منه رد كلام ابن بطال، وأثر ابن عائشة ولم يظهر منه رد كلام عياض؛ لأنه لم يقل حين قدومه من مكة، فيحمل على أنه حين قدومه من تبوك، وكذا القولان قبله في سبب التسمية؛ لأن بعض أسفاره وسراياه مبهم، فيحمل على تبوك ومؤتة، ففي قوله: وهذا كله مردود، نظر بل بعضه.
"ولهذا لما نقل والدي" الحافظ عبد الرحيم "رحمه الله في شرح الترمذي كلام ابن
بطال قال: إنه وهم، قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة. انتهى.
وسبقه إلى ذلك ابن القيم في الهدي النبوي فقال: هذا وهم من بعض الرواة؛ لأن ثنية الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك.
لكن قال ابن العراقي أيضا: ويحتمل أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها بثنية الوداع.
بطال، قال: إنه وهم" بفتحتين: غلط، "قال: وكلام ابن عائشة، معضل لا تقوم به حجة، انتهى" ونحوه قول الفتح هنا بعد أثر ابن عائشة، وعزوه لتخريج أبي سعد في الشرف، والخلعي في فوائد هذا سنده معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك، انتهى. وأما قوله في الفتح: في تبوك، في شرح حديث السائب أنكر الداودي هذا، وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة. قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر من جهتها وهذا واضح، كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة، وقد روينا بسند منقطع في الخليعات قول النسوة لما قدم المدينة:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
فقيل ذلك عند قدومه من غزوة تبوك، انتهى. فهو مع ما فيه من المخالفة لكلام شيخه العراقي وابنه، وكلامه نفسه هنا آخره مخالف لأوله، ونقله عن ابن القيم مخالف لقول المصنف.
"وسبقه إلى ذلك ابن القيم في الهدي النبوي،" أي: كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد، "فقال: هذا وهم من بعض الرواة؛ لأن ثنية الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك" وأجاب الشريف السمهودي: بأن كونها شامي المدينة لا يمنع كون هذه الأبيات أنشدت عند الهجرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ركب ناقته وأرخى زمامها، وقال:" دعوها فإنها مأمورة" ومر بدور الأنصار من بني ساعدة، ودارهم شامي المدينة وقرب ثنية الوداع، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية، فلا وهم وهو جواب حسن، وإن كان شيخنا البابلي رحمه الله يستبعده بأنه يلزم عليه أن يرجع ويمر على قباء ثانيا، فلا يعد فيه ولو لزم ذلك لإرخائه زمام الناقة، وكونها مأمورة.
"لكن قال ابن العراقي أيضا: ويحتمل" في دفع الوهم "أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها بثنية الوداع" قال الخميس: يشبه أن هذا هو الحق ويؤيده جمع
وفي "شرف المصطفى" وأخرجه البيهقي عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار من بني النجار بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار
…
يا حبذا محمد من جار
فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحببنني"، قلن: نعم يا رسول الله. وفي رواية الطبراني في الصغير فقال عليه السلام: "الله يعلم أن قلبي يحبكم".
وقال الطبري: وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون جاء محمد، جاء رسول الله.
ووعك أبو بكر وبلال،....................................................................
الثنيات؛ إذ لو كان المراد التي من جهة الشام لم تجمع، قال: ولا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر مرة عند الهجرة، ومرة عند قدومه من تبوك، فلا ينافي ما في البخاري وغيره، ولا ما قاله ابن القيم، انتهى.
"وفي شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري، "وأخرج البيهقي" وشيخه الحاكم "عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار" في الطرقات "من بني النجار" زاد الحاكم: يضربن "بالدفوف" جمع دف بضم الدال وفتحها. لغة، "ويقلن" عطف على يضربن، "نحن جوار" جمع جارية وهي الشابة أمة أو حرة، وهو المراد: لقولهن "من بني النجار" دون لبني النجار "يا" قومنا "حبذا" فدخل حرف النداء على مقدر؛ لأنه لا يدخل على الأفعال، وحب فعل ماض "محمد بن جار" تمييز، "فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحبنني"؟ بضم التاء من أحب، وبفتحها وكسر الموحدة من حب، "قلن: نعم يا رسول الله. وفي رواية الطبراني في الصغير" زيادة "فقال عليه السلام: "الله يعلم إن قلبي يحبكم"، بالميم: يا معشر الأنصار أنتن منهم أو الميم للتعظيم، كقوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وفي رواية: فقال: "والله وأنا أحبكن"، قالها ثلاث مرات، فلعله قال الجميع، أو ذا لبعض وذا لبعض.
"وقال الطبري: وتفرق الغلمان" جمع غلام وهو الابن الصغير، "والخدم" جمع خادم ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا، "في الطريق ينادون" فرحا "جاء محمد جاء رسول الله" وهذا أخرجه الحاكم في الإكليل عن البراء، ولفظه: فخرج الناس حين قدم المدينة في الطرق والغلمان والخدم، يقولون: جاء محمد رسول الله، الله أكبر جاء محمد رسول الله، "و" لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة "وعك" بضم الواو وكسر العين، أي: حم "أبو بكر وبلال" قالت عائشة:
وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله
…
والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل..........................
فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت، كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ كما في رواية للبخاري.
وأخرج ابن إسحاق والنسائي عنهما: لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله، أصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه، وأصابت أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحدة، قالت:"وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى، يقول:" وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال: "كل امرئ مصبح" بضم الميم وفتح المهملة والموحدة الثقيلة، أي: مصاب الموت صباحا، وقيل: يقال هـ: صبحك الله بالخير وهو منعم "في أهله والموت أدنى" أقرب إليه "من شراك" بكسر المعجمة وخفة الراء: سير، "نعله" الذي على ظهر القدم، والمعنى: أن الموت أقرب إلى الشخص من قرب شراك نعله إلى رجله، وذكر عمر بن شيبة في أخبار المدينة: أن هذا الرجز لحنظلة بن سيار قاله يوم ذي قار، وتمثل به الصديق رضي الله عنه. وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي وما يدري ما يقول: ثم دنوت إلى عامر فقلت: كيف تجدك يا عامر، فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
…
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه
…
كالثور يحمي أنفه بروقه
فقلت: هذا والله ما يدري ما يقول، أي: لأنها سألتهم عن حالهم فأجابوها بما لا يتعلق به. والطوق: الطاقة. والروق: القرن يضرب مثلا في الحث على حفظ الحريم، قال السهيلي: ويذكر أن هذا الشعر لعمرو بن مامة.
"وكان بلال إذا أقلعت" بفتح الهمزة واللام، ولأبي ذر بضم الهمزة وكسر اللام، "عنه الحمى" أي: تركته، كما في رواية ابن إ سحاق والنسائي، وزادا: اضطجع بفناء البيت، ثم "يرفع عقيرته" بفتح المهملة وكسر القاف وسكون التحتية وفتح الراء وفوقية، أي: صوته بالبكاء، "ويقول: ألا" بخفة اللام أداة استفتاح "ليت شعري" أي: مشعوري، أي: ليتني علمت بجواب ما تضمنه قولي "هل أبيتن ليلة بواد" هو وادي مكة، "وحولي إذخر" بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين: حشيش مكة ذو الرائحة الطيبة، "وجليل" بجيم: نبت ضعيف، "وهل
…
أردن يوما مياه مجنة
…
وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وصححه لنا..........................................
أردن" بنون التوكيد الخفيفة "يوما مياه" بالهاء "مجنة" بفتح الميم والنون المشددة وتكسر الميم: موضع على أميال من مكة كان به سوق في الجاهلية، "وهل يبدون" بنون التأكيد الخفيفة: يظهرن، "لي شامة" بمعجمة وميم خفيفة على المعروف، "وطفيل" بفتح المهملة وكسر الفاء وسكون التحتية، قيل: وهذان البيتان ليسا لبلال بل لبكر بن غالب الجرهمي أنشدهما لما بعثهم خزاعة من مكة، فتمثل بهما بلالا "اللهم العن" عتبة بن ربيعة و"شيبة بن ربيعة ،وأمية بن خلف،" هكذا ثبت لعنه للثلاثة في البخاري، آخر كتاب الحج وسقط الأول من قلم المصنف سهوا، وبه يستقيم الجمع في "كما أخرجونا" فلا حاجة للاعتذار بأن المراد: ومن كان على طريقهما في الإيذاء ولذا جمع والكاف للتعليل وما مصدرية، أي: أخرجهم من رحمتك لإخراجهم إيانا "من أرضنا" التي توطناها، ولا يشكل بأن لعن المعين لا يجوز لإمكان أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون، وقد قيل في آية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] ، أنها نزلت في معينين، كأبي جهل وأضرابه "إلى أرض الوباء" بالقصر والمد: المرض العام، وهو أعم من الطاعون. وقال المصنف في مقصد الطب: الدليل على مغايرة الطاعون للوباء أن الطاعون لم يدخل المدينة.
وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، انتهى. فلا يعارض قدومه إليها وهي وبئة نهيه عن القدوم على الطاعون، لاختصاص النهي به وبنحوه من الموت السريع لا المرض، ولو عم "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد أن أخبرته عائشة بشأنهما. ففي رواية البخاري هنا: قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فذكرت ذلك لرسول الله، فقلت: يا رسول الله! إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى، فنظر إلى السماء، وقال:"اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد" فاستجاب الله له وكانت أحب إليه من مكة، كما جزم به السيوطي.
"اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وصححها لنا"، فاستجاب الله له فطيب هواءها وترابها وساكنها والعيش بها، قال ابن طبال وغيره: من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها. قال العلامة الشامي: وقد تكرر دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتحبيب
وانقل حماها إلى الجحفة".
قالت -يعني عائشة: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله،...................................
المدينة والبركة في ثمارها، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول، والتكرير لطلب المزيد فيها من الدين والدنيا، وقد ظهر ذلك في نفس الكيل بحيث يكفي المد بها ما لا يكفيه بغيرها، وهذا أمر محسوس لمن سكنها.
"وأنقل حماها إلى الجحفة" بضم الجيم وسكون المهملة وفتح الفاء: قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة نحو خمس مراحل وثمانية من المدينة، وكانت تسمى مهيعة، وبه عبر هنا في رواية ابن إسحاق والنسائي بفتح الميم وسكون الياء على وزن جميلة، وكانت يومئذ مسكن اليهود، وهي الآن ميقات مصر والشام والمغرب، ففيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وللمسلمين بالصحة وإظهار معجزة عجيبة فإنها من يومئذ وبئة لا يشرب أحد من مائها إلا حم، ولا يمر بها طائر إلا حم وسقط.
وروى البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رفعه: "رأيت في المنام، كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إليها".
وفي رواية: قدم إنسان من طريق مكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"هل لقيت أحدًا"؟ قال: يا رسول الله، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس فقال صلى الله عليه وسلم:"تلك الحمى، ولن تعود بعد اليوم"، ولا مانع من تجسم الأعراض خرقا للعادة، لتحصل الطمأنينة لهم بإخراجها. قال السمهودي: والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس من حمى الوباء بل رحمة ربنا، ودعوة نبينا للتكفير، قال: وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة، والعريض"، وهو يؤذن ببقاء شيء منها به، وأن الذي نقل عنها أصلا ورأسا سلطانها وشدتها ووباؤها وكثرتها بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليها شيئا، قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر، ويدل له ما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني عن جابر: استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"من هذه"؟ فقالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، فبلغوا ما لا يعلمه إلا الله فشكو ذلك إليه، فقال:"ما شئتم" إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم، وإن شئتم تكون لكم طهورا؟ " قالوا: أوتفعل؟ قال: "نعم"، قالوا: فدعها، انتهى.
"قالت: يعني عائشة: وقدمنا المدينة" بعد ذلك والمسجد يبنى، كما يأتي "وهي أوبأ أرض الله" أي: أكثر وباء وأشد من غيرها، زاد ابن إسحاق: قال هشام بن عروة: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها، قيل: انهق، فينهق كما
فكان بطحان يجري نجلا. تعني: ماء آجنا.
وقال عمر: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك. رواه البخاري.
ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمري لئن غنيت من خيفة الردى
…
نهيق حمار إنني لمروع
وفي حديث البراء عند البخاري: أن عائشة وعكت أيضا وكان أبو بكر يدخل عليها. وأخرج ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: أصابت الحمى الصحابة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه حتى ما كانوا يصلون إلا وهم قعود، فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك، فقال:"اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا القيام" أي: تكلفوه على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل، "فكان بطحان" بضم الموحدة وحكى فتحها وسكون الطاء المهملة: معهما، وقيل: بفتح أوله وكسر الطاء، وعزا عياض الأول للمحدثين، والثالث للغويين وبين واد بالمدينة.
روى البزار وابن أبي شيبة عن عائشة مرفوعا: "بطحان على ترعة من الجنة" بضم الفوقية، أي: باب أو درجة "يجري نجلا" بفتح النون وسكون الجيم، أي: ينزنز، أي: ماء قليلا، وقيل: هو الماء حين يسيل، وقيل: الغدير الذي لا يزال فيه الماء. وقال البخاري: "تعني" عائشة "ماء آجنا" أي: متغير الطعم واللون، وخطأه عياض ورده الحافظ: بأنها قالته كالتعليل لكون المدينة وبئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بالماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير، وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة، انتهى.
"و" استجاب الله لرسوله فسكن محبة المدينة في قلوب صحبه، حتى "قال عمر: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك" لما في كل منهما من الفضل العظيم، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"، أي: أخصه بشفاعة غير العامة زيادة في إكرامه. قال السمهودي: فيه بشرى لساكنها بالموت على الإسلام، لاختصاص الشفاعة بالمسلمين وكفى به مزية، فكل من مات بها مبشر بذلك، وقال ابن الحاج: فيه دليل على فضلها على مكة لإفراده إياها بالذكر، انتهى. واستجاب الله دعاء الفاروق فرزقه الشهادة بها على يد فيروز النصراني عبد المغيرة ودفن عند حبيبه.
"رواه" أي: هذا الحديث الذي أوله: ووعك أبو بكر "البخاري" عن عائشة في كتاب
وقوله: يرفع عقيرته: أي صوته؛ لأن العقيرة الساق، وكان الذي قطعت رجله رفعها وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك، حكاه الجوهري.
وشامة وطفيل: عينان بقرب مكة، والمراد بالوادي وادي مكة.
وجليل: نبت ضعيف.
الحج وغيره، ورواه أيضا مسلم وأحمد وابن إسحاق والنسائي، "وقوله: يرفع عقيرته، أي: صوته؛ لأن العقيرة السابق" المقطوعة كما في القاموس فغيرها لا يسمى به. "وكان" فعل ماض "الذي قطعت رجله فرفعها" كما قال الأصمعي، أصله أن رجلا انعقرت رجله فرفعها "وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك" وإن لم يرفع رجله، "حكاه الجوهري" قال ثعلب: وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها، انتهى. فجعله مأخوذا من العقيرة بمعنى الساق، إشارة إلى أنه الأصل لا أنه لا يمكن غيره، فإنه يمكن تفسيره بالصوت الكائن من ألم الحمى التي أصابته. ففي القاموس إطلاق العقيرة على صوت الباكي، "وشامة وطفيل عينان بقرب مكة" كما ارتضاه الخطابي، فقال: كنت أحسبهما جبلين حتى مررت بهما، ووقفت عليهما فإذا هما عينان من ماء، وقواه السهيلي بقول كثير:
وما أنس مشيا ولا أنس موقفا
…
لنا ولها بالخب خب طفيل
والخب: منخفض الأرض، انتهى. وقيل: هما جبلان على نحو ثلاثين ميلا من مكة. وقال البكري: مشرفان على مجنة على بريد من مكة، وجمع باحتمال أن العينين بقرب الجبلين أو فيهما، إلا أن كلام الخطابي يبعد الثاني. وزعم القاموس أن شامة بالميم تصحيف من المتقدمين، والصواب: شابة، بالباء، قال: وبالميم وقع في كتب الحديث جميعها، كذا قال وأشار الحافظ لرده. فقال: زعم بعضهم أن الصواب بالموحدة، بدل الميم، والمعروف بالميم، انتهى. "والمراد بالوادي" في قول بلال: بواد "وادي مكة" وقد رواه النسائي وغيره بفج، وهو أيضا واد خارج مكة، يقول فيه الشاعر:
ماذا بفج من الأسواق والطيب
…
ومن جوار نقيات عرابيب
"وجليل: نبت ضعيف" له خواص أو شيء يشبه الخوص يحشى به البيوت وغيرها، وهو الثمام بضم المثلثة. قال السهيلي رحمه الله: وفي هذا الخبر وما ذكر فيهم من حنينهم إلى مكة ما جلبت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه، وقد جاء في حديث أصيل الغفاري، ويقال فيه الهذلي: أنه قدم من مكة فسألته عائشة: كيف تركت مكة يا أصيل؟ فقال: تركتها حين ابيضت أباطحها، وأحجن ثمامها، وأغدق إذخرها، وأبشر سلمها، فاغروقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"تشوقنا يا أصيل". ويروى أنه قال: "دع القلوب تقر" وقد قال الأول: