المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٢

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام

- ‌إسلام الفاروق

- ‌دخول الشعب وخبر الصحيفة

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة

- ‌وفاة خديجة وأبي طالب:

- ‌خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:

- ‌ذكر الجن:

- ‌وقت الإسراء:

- ‌ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:

- ‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

- ‌قصة سراقة:

- ‌ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر

- ‌ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

- ‌باب بدء الأذان

- ‌كتاب المغازي

- ‌مدخل

- ‌بعث حمزة رضي الله عنه:

- ‌سرية عبيدة المطلبي

- ‌سرية سعد بن ملك

- ‌أول المغازي: ودان

- ‌ غزوة بواط

- ‌غزوة بدر الأولى:

- ‌سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش:

- ‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر

- ‌باب غزوة بدر العظمى

- ‌قتل عمير عصماء

- ‌غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر

- ‌قتل أبي عفك اليهودي

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة

- ‌ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما

- ‌قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة

- ‌غزوة غطفان:

- ‌غزوة بحران

- ‌سرية زيد إلى القردة

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

- ‌سرية عبد الله بن أنيس

- ‌[بعث الرجيع] :

- ‌بئر معونة:

- ‌حديث بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر

"‌

‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر

":

ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشرا شهرا.

وقيل سبعة عشر،...........................

تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر:

"ثم حولت القبلة" أي: الاستقبال لا ما يستقبله المصلي؛ إذ لا يتعلق به تحويل أو حول، أي: غير وجوب استقبال المقدس، "إلى الكعبة" الترتيب ذكري لا زماني، فلا يرد عليه جزمه أن السرية على رأس سبعة عشر شهرا في رجب، وحكايته الخلاف الآتي في التحويل. "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى" صخرة "بيت المقدس" التي كان موسى يصلي إليها بحذاء الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، نقله القرطبي عن بعضهم. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي، قال: ما خالف نبي نبيا في قبلة ولا سنة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس ثم تحول إلى الكعبة. وروى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن الحسن في قوله تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية، قال: أعلم قبلته فلم يبعث نبي إلا وقبلته البيت، وهذا قواه الحافظ العلائي، فقال في تذكرته: الراجح عند العلماء أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، كما دلت عليه الآثار. قال بعضهم: وهو الأصح، انتهى.

اختار ابن العربي وتلميذه السهيلي: أن قبلة الأنبياء بيت المقدس، قال بعض: وهو الصحيح المعروف. فعد صاحب الأنموذج من خصائص المصطفى وأمته استقبال الكعبة: إنما هو على أحد القولين المرجحين، نعم ذكر فيما اختص به على جميع الأنبياء والمرسلين أن الله جمع له بين القبلتين صلى الله عليه وسلم "بالمدينة" حال "ستة عشر شهرا" كما رواه مسلم عن أبي الأحوص، والنسائي عن زكريا بن أبي زائدة، وشريك وأبو عوانة عن عمار بن زريق بتقديم الراء مصغر، أربعتهم عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب جزما.

ورواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، ورجحه النووي في شرح مسلم، وفي رواية زهير عند البخاري وإسرائيل عنده، وعند الترمذي عن أبي إسحاق عن البراء ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا بالشك.

"وقيل: سبعة عشر" شهرا، رواه البزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف، والطبراي

ص: 242

وقيل ثمانية عشر شهرا.

وقال الحربي: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر. ثم حولت القبلة.

وقيل: كان تحويلها في جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء في نصف شعبان،

أيضا من حديث ابن عباس، وهو قول ابن المسيب ومالك وابن إسحاق. قال القرطبي: وهو الصحيح. قال الحافظ: والجمع بينها سهل بأن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الأيام الزائدة، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور. ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني ربيع الأول، انتهى. قال البرهان: ويمكن أن هذا مراد من قال سبعة عشر بإلغاء الكسر.

"وقيل: ثمانية عشر شهرا" رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء، قال الحافظ: وهو شاذ، وأبو بكر سيئ الحفظ وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر، وفي آخر: ستة عشر، قال: ومن الشذوذ أيضا ثلاثة عشر شهرا، ورواية تسعة أشهر أو عشرة، ورواية: شهرين، ورواية: سنتين، ويمكن حمل الأخيرة على الصواب وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على الثلاثة الأول، فجملة ما حكي تسع روايات، انتهى. وكأنه لم يعد رواية الشك، وإلا كانت عشرة، وكذا لم يعدها البرهان وعد الأقوال عشرة، فزاد القول بأنه بضعة عشر شهرا ولم يعده الحافظ؛ لأنه يمكن تفسيره بكل ما زاد على العشرة.

"وقال" إبراهيم "الحربي: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع الأول فصلى إلى بين المقدس تمام السنة، وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر، ثم حولت القبلة" وهذا محتمل، لكون المراد أن مدة الصلاة لبيت المقدس دون سة عشر، ولذا قال في النور: هذا كاد أن يكون قولا، انتهى. ومحتمل لأن يكون مراده ستة عشر بشهر القدوم. "وقيل: كان تحويلها في جمادى" الآخرة، وبه جزم ابن عقبة "وقيل: كان يوم الثلاثاء في نصف شعبان" قاله محمد بن حبيب، وجزم به في الروضة مع ترجيحه في شرح مسلم رواية ستة عشر شهرا للجزم بها في مسلم، كما مر.

قال الحافظ: ولا يستقيم أنه في شعبان إلا بإلغاء شهري القدوم والتحويل، انتهى. نعم هو يوافق سبعة عشر بتلفيق واحد من شهري القدوم والتحويل، والقول الشاذ بأنه ثمانية عشر بإلغاء

ص: 243

وقيل يوم الاثنين نصف رجب.

وظاهر حديث البراء في البخاري: أنها كانت صلاة العصر.

ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى: أنها الظهر.

وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، كما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت...................................

الكسر واعتبار شهري التحويل والقدوم.

"وقيل: يوم الاثنين نصف رجب" رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح. قال الواقدي: وهذا أثبت. قال الحافظ: وهو الصحيح، وبه جزم الجمهور، كما مر، وهو صالح لروايتي ستة عشر وسبعة عشر والشك، فالحاصل في الشهر ثلاثة أقوال، وفي اليوم قولان. "وظاهر حديث البراء" بتخفيف الراء والمد على الأشهر، ابن عازب الأنصاري الأوسي الصحابي ابن الصحابي "في البخاري أنها" أي: الصلاة التي وقع فيها التحويل، "كان صلاة العصر" لقوله وأنه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة صلاها صلاة العصر، أي: متوجها إلى الكعبة. "ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى" بضم الميم وفتح المهملة وشد اللام، صحابي جليل اسمه سعيد، وقيل: رافع ووهاه ابن عبد البر، وقوى الأول. "أنها الظهر" وكذا عند الطبراني والبزار من حديث أنس، وعند ابن سعد: حولت في صلاة الظهر أو العصر، وجمع الحافظ فقال في كتاب الإيمان: التحقيق: أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر الأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر.

"وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر" أي: الصبح، "من اليوم الثاني" وقال في كتاب الصلاة: لا منافاة بين الخبرين؛ لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة، ووصل وقت الصبح إلى من هو خارجها وهم أهل قباء، "كما في الصحيحين" البخاري في الصلاة والتفسير ومسلم في الصلاة، وكذا النسائي "عن ابن عمر" بن الخطاب "أنه قال: بينما الناس" المعهودون في الذهن "بقباء" بالمد والتذكير والصرف على الأشهر ويجوز القصر وعدم الصرف ويؤنث. موضع معروف ظاهر المدينة وفيه مجاز الحذف، أي: بمسجد قباء.

"في صلاة الصبح" ولمسلم في صلاة الغداة وهو أحد أسمائها ونقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك، "إذ جاءهم آت" قال الحافظ: ولم يسم وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه

ص: 244

فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.

وفي هذا أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم.

عباد بن بشر ففيه نظر؛ لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقلوه محفوظا فيحتمل أن عبادا أتى بني حارثة أولا وقت العصر ثم توجه إلى أهل قباء، فأعلمهم بذلك في الصبح، ومما يدل على تعددهما أن مسلما روى عن أنس: أن رجلا من بني سلمة مر وهم ركوع في صلاة الفجر، فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة انتهى.

وكون مخبر بني حارثة عباد بن بشر رواه ابن منده وابن أبي خيثمة، وقيل: عباد بن نهيك، بتفح النون وكسر الهاء، ورجح أبو عمر الأول. وقيل: عباد بن نصر الأنصاري. قال الحافظ: والمحفوظ عباد بن بشر، انتهى. وقيل: عباد بن وهب. قال البرهان: ولا أعرفه في الصحابة إلا أن يكون نسب إلى جده أو جد له أعلى إلى خلاف الظاهر، انتهى.

"فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسقط من الحديث ما ألفظه: قد أنزل عليه الليلة قرآن، قال الحافظ: فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازا والتنكير لإرادة البعضية، والمراد قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144] الآية. "قد أمر" بضم الهمزة مبنيا للمفعول "أن" أي: بأن "يستقبل" بكسر الموحدة، أي: باستقبال "الكعبة، فاستقبلوها" بفتح الموحدة عن أكثر رواة الصحيحين على أنه فعل ماض، أي: تحول أهل قباء إلى جهة الكعبة، "وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة" وضمير استقبلوها ووجوههم لأهل قباء، ويحتمل أنه للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه.

وفي رواية الأصيلي للبخاري، والعذري لمسلم: فاستقبلوها بكسر الموحدة بصيغة الأمر، قال الحافظ: وفي ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قباء أظهر. وترجح رواية الكسر رواية البخاري في التفسير، بلفظ: وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله، انتهى. وفي النور أن بعض الحفاظ، قال: الكسر أفصح وأشهر وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده.

"وفي هذا" الحديث من الفوائد "أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء" زاد الحافظ: واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام فالفرض غير لازم له، وفيه جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لما تمادوا في الصالة ولم يقطعوها، دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحول

ص: 245

وروى الطبري عن ابن عباس: لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية.

على القطع والاستئناف، ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد، كذا قيل وفيه نظر، لاحتمال أن عندهم في ذلك يقينا سابقا لأنه عليه السلام كان مترقبا للتحويل، فلا مانع من تعليمهم ما صنعوا من التمادي والتحول، وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع لمشاهدتهم صلاته صلى الله عليه وسلم إليه، وتحولوا إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد، وأجيب: بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدمات أفادت العلم عندهم بصدق المخبر، فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم. وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقا، وإنما منع بعده ويحتاج إلى دليل. انتهى.

"وروى الطبري" محمد بن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، "عن ابن عباس" قال:"لما هجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون" خبر ثان لليهود أو لمبتدأ محذوف، أي: وهم يستقبلون "بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس" ليجمع له بين القبلتين، كما عده السيوطي من خصائصه على الأنبياء والمرسلين وتأليفا لليهود، كما قال أبو العالية "ففرحت اليهود" لظنهم أنه استقبله اقتداء بهم مع أنه كان لأمر ربه "فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم" وعند الطبري أيضا من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال: إنما أحب أن يتحول إلى الكعبة؛ لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. وعند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل، وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة يهود"، فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله.

وعند السدي في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يصلي قبل الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل، فقال لجبريل:"وددت أنك سألت الله أن يصرفني إلى الكعبة"، فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدئ الله عز وجل بالمسألة ولكن إن سألني أخبرته. "فكان يدعو" دعاء محبة لذلك بالحال لا بالقال، ففي الفتح فيه بيان شرف المصطفى وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال، وعليه فالعطف تفسيري في قوله:"وينظر إلى السماء" ينظر جبريل ينزل عليه، كما عند السدي وغيره، ولأنها قبلة الداعي "فنزلت الآية" يعني قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] الآية، وبقية حديث ابن عباس هذا عند ابن جرير: فارتاب في ذلك

ص: 246

قال في فتح الباري وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصل بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس.

وأخرج الطبري أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاثة حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة.

اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] الآية.

"قال في فتح الباري" في كتاب الصلاة "وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس" قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصل بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه" فحصل تخالف بين حديثيه؛ إذ مقتضى الأول أنه إنما أمر به في المدينة، وهذا صريح في أنه كان بمكة. "قال" يعني في الفتح:"والجمع بينهما ممكن بأن يكون أمر" صلى الله عليه وسلم "لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس" فالأمر بابتداء استقباله كان بمكة، والذي بالمدينة باستمراره، ثم نسخ باستقبال الكعبة، فلم يقع نسخ بيت المقدس إلا مرة واحدة.

"وأخرج الطبري" محمد بن جرير "أيضا من طريق ابن جريج" بجيمين مصغر عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي الثقة الفقيه الحافظ أحد الأعلام، مات سنة خمسين ومائة، "قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاثة حجج" بكسر المهملة وفتح الجيم الأولى وكسر الثانية منون، أي: سنين بناء على أن الإسراء قبل الهجرة بخمس سنين. أما على أنه قبلها بسنة أو نحوها، فالمراد: ما كان يصليه قبل فرض الخمس، "ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة" فهذا الأثر صريح في الجمع المذكور، فلا بأس.

وقوله في حديث ابن عباس الثاني: والكعبة بين يديه يخالف قول البراء عند ابن ماجه صلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة، فإن ظاهره: أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا.

وحكى الزهري خلافا في أنه كان بمكة يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين

ص: 247

وقوله في حديث ابن عباس الأول: "أمره الله تعالى" يرد قول من قال: إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد.

وعن أبي العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفي أن يكون.................................................................

بيت المقدس. قال الحافظ: فعلى الأول: كان يجعل الميزان خلفه. وعلى الثاني: كان يصلي بين الركنين اليمانيين وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن عبد البر هذا على قول الثاني ويؤيده حمله على ظاهره إمامة جبريل ففي بعض طرقه: أن ذلك كان عند البيت.

وفي الفتح أيضا اختلفوا في الجهة التي كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه كان لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إليها بمكة. فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس. وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما هاجر استقبل المقدس. وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنه يجمع به بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، انتهى.

ولا يخالفه قول ابن العربي: نسخ الله القبلة ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية مرتين مرتين ولا أحفظ رابعا.. وقال أبو العباس العزفي -بفتح المهملة والزاي وبالفاء: رابعها الوضوء مما مست النار، ونظم ذلك السيوطي؛ لأن مراد الحافظ أن خصوص نسخ بيت المقدس لم يتكرر، وما أثبته ابن العربي النسخ للقبلة في الجملة، بمعنى: أنه أمر باستقبال الكعبة ثم نسخ باستقبال بيت المقدس، ثم نسخ بالكعبة، كما هو مدلول كلاميهما، ودل عليه أثر ابن جريج.

"وقوله في حديث ابن عباس الأول: أمره الله يرد قول من قال" وهو الحسن البصري، "أنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد" وكذا قول الطبري: كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختاره طمعا في إيمان اليهود، ويرده أيضا سؤاله لجبريل؛ إذ لو كان مخيرا لاختار الكعبة لما أحبها من غير سؤال.

قال شيخنا: إلا أن يقال بعد اختياره وجب عليه لكنه استبعد هذا بمجلسه؛ لأن فيه تضييقا عليه ولو خير كان كتخييره بين المسح على الخفين وغسل الرجلين، والذي عليه الجمهور، كما قال القرطبي: أنه إنما كان بأمر الله ووحيه.

"وعن أبي العالية" رفيع بضم الراء مصغر بن مهران بكسر الميم، الرماحي بكسر الراء وتحتية، مولاهم البصري التابعي الكبير، أخرج له الجميع. "أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب" وعن الزجاج امتحانا للمشركين؛ لأنهم ألقوا الكعبة "وهذا لا ينفي أن يكون

ص: 248

بتوقيف.

واختلفوا في المسجد الذي كان يصلي فيه:

فعند ابن سعد في الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون.

ويقال: إنه عليه السلام زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى عليه السلام بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستداروا إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمي مسجد القبلتين...................

بتوقيف" فقد يكون الأمر به لتأليفهم، "واختلفوا في المسجد الذي كان يصلي فيه" حين حولت القبلة، "فعند ابن سعد في الطبقات أنه" صلى الله عليه وسلم "صلى ركعتين من الظهر في مسجده" النبوي "بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام" أي: الكعبة وعبر به كالآية دون الكعبة؛ لأنه كما قال البيضاوي: كان عليه السلام بالمدينة والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها، أي: للبعيد، حرج عليه بخلاف القريب.

"فاستدار إليه ودار معه المسلمون" فصلى بهم ركعتين أخريين؛ لأن الظهر كانت يومئذ أربعا، فثنتان منها لبيت المقدس، وثنتان للكعبة، ووقع التحويل في ركوع الثالثة، كما في النور، فجعلت كلها ركعة للكعبة مع أن قيامها وقراءتها وابتداء ركوعها للقدس؛ لأنه اعتداد بالركعة إلا بعد الرفع من الركوع ولذا يدركها المسبوق قبله.

"ويقال: إنه عليه السلام زار أم بشر بن البراء بن معرور" بمهملات، يقال: اسمها خليدة، كما في التجريد. "في بني سلمة" بكسر اللام والنسبة إليها بفتحها على المشهور، وفي الألفية. والسلمي افتحه في الأنصاري. وفي اللب كسرها المحدثون في النسبة أيضا.

"فصنعت له طعاما، وكانت" أي: وجدت "الظهر" أي: دخل وقتها، فكان تامة، لكن المذكور في الفتح الذي هو ناقل عنه، وكذا العيون والسبل عن ابن سعد، بلفظ: وحانت الظهر بمهملة، أي دنا وقتها، "فصلى عليه السلام بأصحابه ركعتين ثم أمر" باستقبال الكعبة في ركوع الثالثة، "فاستدارواإلى الكعبة" بأن حول الإمام من مكانه الذي كان يصلي فيه إلى مؤخره، فتحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال، ولا يشكل بأنه عمل كثير، لاحتمال أنه قبل تحريمه فيها كالكلام، أو اغتفر هذا العمل للمصلحة، أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت متفرقة، "فسمي مسجد القبلتين" لنزول النسخ وتحويله عليه السلام

ص: 249

قال ابن سعد قال الواقدي: هذا عندنا أثبت.

ولما حول الله القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم في قوله:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} أي الحكم والتصرف، والأمر كله لله، فحيثما وجهنا توجهنا فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفي تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا.

ولله تعالى بنبينا عليه الصلاة والسلام وبأمته عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة خليله إبراهيم................................

فيه ابتداء فلا يرد أن التحويل وقع في مسجدي قباء وبني حارثة، ولم يسميا بذلك، وأيضا فحكمة التسمية لا يلزم اطرادها.

"قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا عندنا أثبت" من القول الأول أن التحويل وقع في المسجد النبوي "ولما حول الله القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار" المشركين من قريش، "واليهود ارتياب" شك "وزيغ" ميل "عن الهدى وشك" فيه، "وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" على استقبالها في الصلاة "أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا،" وصريحه أن هذا قول الطوائف الثلاث، وبه صرح البيضاوي وسيذكر المصنف مقابله أخيرا.

"فأنزل الله جوابهم في قوله:"{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]، أي: الجهات كلها؛ لأنهما ناحيتا الأرض، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، لا اعتراض عليه، كما في الجلال، فحمله على الحقيقة، وحمله المصنف على المجاز، فقال:"أي الحكم والتصرف والأمر كله لله" لا يسأل عما يفعل، "فحيما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده. وفي تصريفه و" ونحن "خدامه حيثما وجهنا توجهنا" وقد قال تعالى: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة: 142] ، فأينما تولوا فثم وجه الله، تقدم عن ابن عباس أن سبب نزولها إنكار اليهود.

قال السيوطي: وإسناده قوي فليعتمد. وفي سببها روايات أخر ضعيفة. "ولله تعالى بنبينا عليه الصلاة والسلام وبأمته عناية" أي: رعاية "عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة خليله إبرهيم" وألقى

ص: 250

قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد عن عائشة: "إن اليهود لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله إليها وضلوا عنها.....................

حبها في قلب حبيبه عليه السلام، ولم يفعل ذلك بغير أمته بل تركوا على ضلالهم الذي وقعوا فيه مع أنها قبلة الأنبياء كلهم على أحد القولين، كما مر.

وربما يؤيد الحديث الذي ذكره بقوله: "قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه أحمد عن عائشة: "إن اليهود لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها" قال الحافظ: يحتمل بأن نص لنا عليه، ويحتمل بالاجتهاد، ويشهد له أثر ابن سيرين في جمع أهل المدينة قبل قدوم المصطفى، فإنه يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها.

ثم قد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، انتهى ملخصا.

"وضلوا عنها" لأنه فرض عليهم يوم الجمعة وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أي الأيام هو ولم يهتدوا ليوم الجمعة، قاله ابن بطال، ومال إليه عياض قواه. وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحا، فاختلفوا هل يلزم بعينه أن يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا فأخطئوا، قال الحافظ: ويشهد له ما للطبري عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْت} [النحل: 124]، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه. وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، ولفظه:"إن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا"، وقالوا يا موسى: إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا فجعل عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] الآية، وغير ذلك، وكيف لا؟ وهم القائلون: سمعنا وعصينا، انتهى.

"وعلى القبلة التي هدانا الله إليها" بصريح البيان بالأمر المكرر، أولا لبيان تساوي حكم السفر وغيره، وثانيا للتأكيد، "وضلوا عنها" لأنهم لم يؤمروا باستقبال الصخرة، كما دل عليه هذا الحديث، وهو يؤيد ما رواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود في التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم.

وروى أبو داود أيضا: أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: كان موسى يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام، فكانت قبلته، وكانت الصخرة بين يديه، وقال

ص: 251

وعلى القبلة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين".

وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] .

اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة وفي مسجد ذي القرنين وقبلته إليها. وفي البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة} [يونس: 87] الآية، روى ابن جريج عن ابن عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، انتهى. وبه قطع الزمخشري والبيضاوي.

"وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" فإنها لم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا هارون فإنه كان يؤمن على دعاء موسى، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس عند ابن مردويه وغيره.

"و" روى ابن إسحاق وغيره عن البراء، قال:"قال بعض المؤمنين:" لما حولت القبلة "فكيف صلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا" من المسلمين؟ قال في الفتح: وهم عشرة، فبمكه من قريش: عبد الله بن شهاب: والمطلب بن أزهر الزهريان، وسكران بن عمر، والعامري. وبأرض الحبشة: حطاب بالمهملة ابن الحارث الجمحي، وعمرو بن أمية الأسدي، وعبد الله بن الحارث السهمي، وعروة بن عبد العزى، وعدي بن نضلة العدويان. ومن الأنصار بالمدينة: البراء بن معرور بمهملات، وأسعد بن زرارة، فهؤلاء العشرة متفق عليهم، ومات في المدة أيضا: إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه. "وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل اله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، صلاتكم إلى بيت المقدس، انتهى.

وبهذا جزم الجلال، فلا عليك ممن قال إيمانكم بالقبلة المنسوخة.

وروى البخاري من طريق زهير عن أبي إسحاق عن البراء: مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، قال الحافظ: وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم صحيحا عن ابن عباس، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدًا قتل من المسلمين قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة، فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير جهاد،

ص: 252

وقيل قال اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضي قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي ننتظر أن يأتي. فأنزل الله تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] يعني أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليه بما في كتبهم عن أنبيائهم.

ثم فرض صيام شهر رمضان...................................................

ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك، ثم وجدت في المغازي رجلا اختلف في إسلامه.

فقد ذكر ابن إسحاق: أن سويد بن الصامت لقي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإسلام، فقال: إن هذا القول حسن، وانصرف إلى المدينة فقتل به في وقعة بعاث، بضم الموحدة وإهمال العين ومثلثة، وكانت قبل الهجرة، قال: وكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم. وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسرار، انتهى.

"وقيل: قال اليهود" مقابل ما فهم من كلامه المتقدم أن ما ولاهم عن قبلتهم صدر عنهم وعن المنافقين والمشركين، "اشتاق إلى بلد أبيه،" مكة "وهو يريد أن يرضي قومه" قريشا "ولو ثبت عى قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي ننتظر أن يأتي" وهذا القول نقله في العيون عن السدي، وزاد عنه: وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وقال كفار قريش: تحير على محمد دينه، فاستقبل قبلتكم وعلم أنكم أهدى منه ويوشك أن يدخل في دينكم، "فأنزل الله تعالى" في اليهود:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 144]، أي: التوراة، {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] يعني أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم" قال السدي: وأنزل فيهم: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 145] الآيتين، قال: أي يعرفون أن قبلة النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل قبل الكعبة كذلك هو مكتوب عندهم في التوراة وهم يعرفونه بذلك، كما يعرفون أبناءهم وهم يكتمون ذلك وهم يعلمون أنه الحق، يقول الله تعالى:{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، أي الشاكين: وأنزل الله في المنافقين: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة: 142]، وفي المشركين:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} [البقرة: 150] الآية.

"ثم فرض صيام شهر رمضان" ذكر بعضهم حكمة كونه شهرا، فقال: لما تاب آدم من

ص: 253

بعدما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه عليه السلام.

وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال. وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة والله أعلم.

أكل الشجرة تأخر قبول توبته لما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوما، فلما صفا جسده منها تيب عليه ففرض على ذريته صيام شهر، انتهى.

روى الواقدي عن عائشة وابن عمر وأبي سعيد الخدري، قالوا: نزل فرض شهر رمضان "بعدما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان،" أي: في نصفه بناء على أن التحويل في نصف رجب، أو في أوله بناء على أنه في آخر جمادى الآخرة، ولا يأتي هنا القول بأنها حولت في نصف شعبان؛ لأنه يلزم أن فرض الصوم في نصف رمضان، "على رأس" أي: أول، "ثمانية عشر شهرا، من مقدمة عليه السلام" المدينة تقريبا، فلا بد من التجوز إما في شهر أو في ثمانية عشر، "و" فرضت "زكاة الفطر" في هذه السنة، كما في حديث الثلاثة، وزاد المؤلف: تبعا لما في أسد الغابة. "قبل العيد بيومين" وهي كما في حديثهم "أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من شعير" بفتح الشين وتكسر "أو صاع من زبيب، أو صاع من بر" أي: قمح، كذا في حديث الثلاثة، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أبي داود وأحمد والترمذي وحسنه. وذكر أبو داود: أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان هذه الأشياء.

وفي الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوم ذلك. وعند الدراقطني عن عمر: أمر صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم بنصف صاع من حنطة، ورواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس مرفوعا، وفيه: فقال علي: أما إذ وسع الله فأوسعوا، اجعلوه صاعا من بر وغيره، ويرى صاعا من دقيق، ولكنها وهم من سفيان بن عيينة نبه عليه أبو داد. "وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال" من جملة حديث عائشة وابن عمر وأبي سعيد، "وقيل: إن زكاة الأموال فرضت فيها" أي: السنة الثانية، وقيل: بعدها، وقيل: سنة تسع، "وقيل:" فرضت زكاة الأموال "قبل الهجرة" حكاه مغلطاي وغيره، واعترض بأنه لم يفرض بمكة بعد الإيمان إلا الصلاة كل الفروض بالمدينة، وإن قيل فرض الحج قبل الهجرة فالصحيح خلافه، والأكثر أن فرض الزكاة إنما كان بعد الهجرة "والله أعلم" بالصواب من ذلك، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.

ص: 254