المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وعند مغلطاي: خمسة وعشرين ألف درهم. وذكرها محمد بن إسحاق قبل - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٢

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام

- ‌إسلام الفاروق

- ‌دخول الشعب وخبر الصحيفة

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة

- ‌وفاة خديجة وأبي طالب:

- ‌خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:

- ‌ذكر الجن:

- ‌وقت الإسراء:

- ‌ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:

- ‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

- ‌قصة سراقة:

- ‌ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر

- ‌ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

- ‌باب بدء الأذان

- ‌كتاب المغازي

- ‌مدخل

- ‌بعث حمزة رضي الله عنه:

- ‌سرية عبيدة المطلبي

- ‌سرية سعد بن ملك

- ‌أول المغازي: ودان

- ‌ غزوة بواط

- ‌غزوة بدر الأولى:

- ‌سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش:

- ‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر

- ‌باب غزوة بدر العظمى

- ‌قتل عمير عصماء

- ‌غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر

- ‌قتل أبي عفك اليهودي

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة

- ‌ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما

- ‌قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة

- ‌غزوة غطفان:

- ‌غزوة بحران

- ‌سرية زيد إلى القردة

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

- ‌سرية عبد الله بن أنيس

- ‌[بعث الرجيع] :

- ‌بئر معونة:

- ‌حديث بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌الفهرس:

الفصل: وعند مغلطاي: خمسة وعشرين ألف درهم. وذكرها محمد بن إسحاق قبل

وعند مغلطاي: خمسة وعشرين ألف درهم.

وذكرها محمد بن إسحاق قبل قتل كعب بن الأشرف.

له: "إن تسلم تترك"، فأسلم، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم من القتل وحسن إسلامه، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:"إن منكم رجالا نكلهم إلى إسلامهم منهم فرات بن حيان"، انتهى.

وهذا الحديث رواه أبو داود في الجهاد منفردا به، من حديث فرات المذكور، وهو بضم الفاء، وأبوه بفتح المهملة وشد التحتية، ابن ثعلبة بن عبد العزى الربعي البكري، حليف بني سهم. روى له أبو داود، وأحمد في المسند، وروى عنه حارثة بن مضرب، وقيس بن زهير، والحسن البصري، وعند الواقدي: وأسروا رجلين، أو ثلاثة فيهم فرات بن حيان، وكان أسر يوم بدر فأفلت على قدميه، فكان الناس عليه أحنق شيء، وكان الذي بينه وبين أبي بكر حسنا، فقال له: أما آن لك أن تقصر، أي بضم الفوقية، وكسر الصاد، من أقصر عن الشيء إذا أمسك عنه مع القدرة عليه، قال: إن أفلت من محمد هذه المرة لم أفلت أبدا، فقال له أبو بكر: فأسلم، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فتركه. قال في الروض: وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة بن أثال في شأن مسليمة وردته ومر به عليه السلام وهو مع أبي هريرة والرحال بن عنفوة، فقال:"ضرس أحدكم في النار مثل أحد"، فما زال فرات وأبو هريرة خائفين حتى بلغهما ردة الرحال وإيمانه بمسيلمة، فخرا ساجدين والرحال لقبه واسمه نهار، انتهى.

"وذكرها"، أي: هذ السرية "محمد بن إسحاق" في السيرة، "قبل قتل كعب بن الأشرف" ومر أن قتله لأربع عشرة ليلة من ربيع الأول، فهذه السرية قبل ذلك فيخالف قول ابن سعد، أنها لهلال جمادى الآخرة، لكنه تبع شيخه الواقدي، وجزم به الحافظ في سيرته، وقد التزم الاقتصار على الأصح والله أعلم.

ص: 386

"‌

‌غزوة أحد

":

ثم غزوة أحد وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها.

ثم غزوة أحد:

بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين: قال المصباح: مذكر مصروف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهم البقعة فيمنع، وليس بالقوي، "وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها" لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرا.

كما حرره الشريف السمهودي قائلا: تسمح النووي في قوله: على نحو ميلين، قلت: لكن عادتهم في مثل ذلك عدم الجزم بالتحديد للاختلاف في قدر الميل، فيقولون: على نحو،

ص: 386

وسمي بلك لتوحده وانقطاعه عن جبال آخر هناك، ويقال له: ذو عينين، قال في القاموس: بكسر العين وفتحها مثنى، جبل بأحد. انتهى.

وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "أحد جبل يحبنا ونحبه"

وشبهه "وسمي بذلك لتوحده وانقطاعه" تفسيري، "عن جبال آخر هناك" كما قاله السهيلي.

قال: أو لما وقع من أهله من نصر التوحيد، وقال ياقوت في معجم البلدان: هو اسم مرتجل لهذا الجبل، وهو أحمر "ويقال له: ذو،" أي: صاحب "عينين"، لمجاورته لجبل يسمى عينين.

"قال في القاموس" ما نصه: وعينين، "بكسر العين" المهملة "وفتحها مثنى" على كل منهما لا بفتح العين، وسكون الياء وكسر النون الأولى، كما قال المطرزي وعليه فليس مثنى "جبل بأحد" وقف عليه إبليس، فنادى: أن محمدًا قد قتل، "انتهى".

نص القاموس بقوله وقف إلى آخره، وفي البخاري ومسلم: وعينين، جبل بجبال أحد بينه وبينه واد. قال في الفتح: حيال بحاء مهملة مكسورة بعدها تحتية خفيفة، أي: مقابله، وهو تفسير من بعض الرواة، لقول وحشي خرج الناس عام عينين، والسبب في نسبه وحشي العام إليه دون أحد، أن قريشا نزلوا عنده.

قال ابن إسحاق: فنزلوا بعينين جبل ببطن السبخة على شفير الوادي، مقابل المدينة، انتهى. و"هو" أي: أحد، كما قال في الفتح والعيون والنور وغيرها لا عينين، كما زعم من وهم، "الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام" كما أخرجه الشيخان عن أنس والبخاري عن سهل بن سعد "أحد".

وفي رواية لهما أيضا عن أنس: أن أحدا، "جبل" خبر موطئ لقوله:"يحبنا،" حقيقة كما رجحه النووي وغيره، وقد خاطبه صلى الله عيه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب:"أسكن أحد.." الحديث، فوضع الله الحب فيه، كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، وكما وضع الخشية في الحجارة التي قال فيها:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} وكما حن الجذع لمفارقته صلى الله عليه وسلم، حتى سمع الناس حنينه فلا ينكر وصف الجماد بحب الأنبياء، وقد سلم عليه الحجر والشجر، وسبحت الحصاة في يده، وكلمه الذراع، وأمنت حوائط البيت وأسكفه الباب على دعائه، إشار إلى حب الله إياه صلى الله عليه وسلم، حتى أسكن حبه في الجماد، وغرس محبته في الحجر مع فضل يبسه وقوة صلابته، "ونحبه" حقيقة؛ لأن جزاء من يحب أن يحب، ولكونه كما قال الحافظ: من جبال الجنة، كما في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا:"أحد جبل يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة"، أخرجه أحمد، انتهى.

ص: 387

تنبيه:

وقيل: وفيه قبر هارون، أخي موسى، عليهما السلام.

وروى البزار والطبراني: "أحد هذا جبل يحبنا ونحبه، على باب من أبواب الجنة"، أي: من داخلها، كما في الروض، فلا ينافي رواية الطبراني أيضا:"أحد ركن من أركان الجنة"؛ لأنه ركن بجانب داخل الباب، بدليل رواية ابن سلام في تفسيره: أنه ركن باب الجنة، وقيل: هو على الحال، إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولقائهم، وذلك فعل المحب بمن يحب، وضعف بما للطبراني عن أنس، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه، بكسر المهملة وبالضاد معجمة، كل شجرة عظيمة ذات شوك، فحث على عدم إهمال الأكل حتى لو فرض أنه لا يوجد إلا ما لا يؤكل، كالعضاة يمضغ منه تبركا ولو بلا ابتلاع.

قال في الروض: ويقوى على الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"، مع أحاديث أنه في الجنة، فتناسبت هذه الآثار وشد بعضها بعضا، وقد كان عليه السلام يحب الاسم الحسن، ولا أحسن من اسم مشتق من الأحدية، وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم تقدمة لما أراده مشاكلة اسمه لمعناه، إذا هله وهم الأنصار نصروا التوحيد، والمبعوث بدين التوحيد، واستقر عنده حيا وميتا، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستعمل الوتر، ويحبه في شأنه كله استشعارا للأحدية، فقد وافق اسمه أغراضه ومقاصده عليه السلام قال: ومع أنه مشتق من الأحدية، فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب به منه صلى الله عليه وسلم اسما ومسمى، فخص من بين الجبال، بأن يكون معه في الجنة إذا بست الجبال بسا انتهى. وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال، وقيل: عرفة، وقيل: أبو قيس، وقيل: الذي كلم الله عليه موسى، وقيل: قاف.

"تنبيه:" علق الشارح بجد المؤلف، ما لم يقله أحد، فرجع ضمير قوله وهو الذي قال فيه لعينين لا لأحد؛ لأنه لو كان كذلك لحتج للبيان؛ لأن أحا نص فيه وهو عجب كيف يتوهم ذلك الصادق المصدوق، يقول أحد والمتعلق بالضمائر يقول عينين، مع أن جبل آخر مقابل له، كما علمت، ولذا لم يبال المصنف تبعا لمغلطاي بإيهام ذلك؛ لأنه غير متوهم، بل قصد كغيره من أصحاب المغازي وغيرهم، تشريف الجبل الذي أضيفت إليه هذه الغزوة بالحديث الصحيح.

"وقيل: وفيه قبر هارون،" بفتح القاف وسكون الباء اسما لا بضمها، وكسر الباء لقوله:"أخي موسى عليهما السلام" وفيه: قبض، وقد كانا مرا حاجين أو معتمرين. روي هذا المعنى في حديث أسنده الزبير بن بكار في كتاب فضل المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الروض.

قال في الفتح: وسند الزبير في ذلك ضعيف جدا، ومنقطع وليس بمرفوع انتهى. بل في

ص: 388

وكانت عنده الوقعة المشهورة، في شوال سنة ثلاث بالاتفاق، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه -وقيل لسبع ليال خلون منه، وقيل وفي نصفه.

وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة.

وكان سببها، كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود

النور عن ابن دحية أنه باطل بيقين، إنما مات بنص التوراة في موضع على ساعة من مدينة جبلة من مدن الشام، انتهى. وبه تعلم أنه لا يصح الجمع، بأنه يقول للمدينة شامية، وقيل: قبره بجبل مشرف قبلي بين المقدس، يقال له: طور هارون، حكاه ياقوت في المشترك، وفي الأنوار الأكثر أن موسى وهارون ماتا في التيه، وأن موسى مات بعد هارون بسنة انتهى. وفي النور: بنحو خمسة أشهر. وقال المصنف وغيره: مات هارون قبل موسى بنحو أربعين سنة، "وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث بالاتفاق" أي: باتفاق الجمهور، كما عبر به في الفتح قائلا، وشذ من قال سنة أربع، ولعله لشذوذه لم يعتد به فحكى الاتفاق "يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه،" عند ابن عائذ، كما في العيون وابن إسحاق، كما في الفتح، "وقيل: لسبع ليال خلون منه" قاله ابن سعد.

زاد في الفتح، وقيل: لثمان، "وقيل": لتسع، "وفي نصفه" جزم به إسحاق في رواية ابن هشام، عن زياد عنه قال: وكان يوم السبت.

"وعن مالك" الإمام كانت "بعد بدر بسنة" قال الحافظ: وفيه تجوز؛ لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق، فهي بعدها بسنة وشهر، ولم يكمل "و" لذا روى "عنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة" لكن قال شيخنا: قد مر أن انصرافه من بدر كان أول شوال، فمن لازمه أن أحدًا بعدها بسنة، كما قال مالك في شوال، وكذا قوله الآخر لا يخالف أن أحدًا في شوال؛ لأن دخول المدينة كان في ربيع الأول، الأحد وثلاثون، إذا كان ابتداؤها من دخوله عليه السلام المدينة، كان نهايتها آخر رمضان من السنة الثالثة، إذا ألغى كسر ربيع الأول، وإلا فنهايتها في أثناء شوال، فاتفقت الأقوال على أن أحدً في شوال، "وكان سببها كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه" الذين عين منهم أربعة، فقال: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ وغيرهم، "وموسى بن عقبة" بالقاف، "عن ابن شهاب" الزهري، "وأبو الأسود" المدني، يتيم عروة، ومحمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، الأسدي الثقة، المتوفى سنة بضع وثلاثين

ص: 389

عن عروة، وابن سعد، قالوا -أو من قال منهم- ما حاصله:

إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره، قال عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، في جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه -بعنون عير أبي سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك به ثأرنا

ومائة، "عن عروة" بن الزبير، "و" كما ذكره "ابن سعد، قالوا:" أرسله الجميع، "أو من قال منهم:" هذا لفظ ابن إسحاق، وهو بمعنى قول المحدثين: دخل حديث بعضهم في بعض، ومعناه: أن اللفظ لجميعهم، فعند كل ما ليس عند الآخر، وهو جائز، إن كان الجميع ثقات، كما هنا، وقد فعله الزهري في حديث الإفك، "ما حاصله" من كلام المصنف، إشارة إلى أنه لم يتقيد بلفظ واحد من الأربعة، "أن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب" خصهم لكونهم أشرافهم، وهم أربعة وعشرون، وجملة قتلى بدر سبعون، "ورجع أبو سفيان" المسلم في الفتح "بعيره".

"قال عبد الله بن أبي ربيعة" عمرو أو يقال حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، أسلم في فتح مكة، وصحب، "وعكرمة بن أبي جهل" أسلم بعد الفتح، وصحب، "في" أي:"مع "جماعة" منهم: الحارث بن هشام، وحويطب بن عب العزى، وصفوان بن أمية، وأسلموا كلهم بعد ذلك رضي الله عنهم، "ممن أصيب آباؤهم" كعرمة، وصفوان، "وإخوانهم" كالحارث، وأبي جهل، "وأبناؤهم"، كأبي سفيان أصيب ابنه حنظلة "يوم بدر".

والمراد من القوم الذين أصيبوا بمن ذكر سواء كانت بالبعض أو الكل، "يا معشر قريش" إضافة حقيقية، أي: يا هؤلاء الجماعة المنسوبون إلى قريش أو بيانية أطلق على الحاضرين لأنهم أشرافهم، فلا يخالفهم غيرهم ثم القول من الجميع أو بعضهم، ونسب لهم لسكوتهم عليه، "أن محمدا قد وتركم" بفتح الواو والفوقية، قال أبو ذر: قد ظلمكم، والموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك دمه.

قال الشامي كالبرهان ويطلق على النقص كقوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] ، تصح إرادته، أي: نقصكم بقتل أشرافكم، "وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال" أي: بربحه، "على حربه، يعنون عير أبي سفيان، ومن كانت له في ذلك تلك العير تجارة" وكانت موقوفة بدار الندوة، كما عند ابن سعد، "لعلنا أن ندرك منه ثأرنا" بمثلثة وهمزة، وتسهل الحقد،

ص: 390

فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار.

وفيهم -كما قال ابن إسحاق وغيره- أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36] .

واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر

أي: ما يذهب حقدنا على من قتل منا بأخذ جماعة في مقابلتهم، "فأجابوا لذلك".

وعند ابن سعد: مشت أشراف قريش إلى أبي سفيان، فقالوا: نحن طيبو أنفس إن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: فأنا أول من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف. قال البلاذري: ويقال بل مشى أبو سفيان إلى هؤلاء الذين سمعوا "فباعوها" قال ابن سعد: فصارت ذهبا، قال:"وكانت" أي: الإبل الحاملة للتجارة، "ألف بعير والمال خمسين ألف دينار" فسلموا إلى أهل العير رءوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجاراتهم لكل دينار دينارا، قاله ابن سعد، وهو ظاهر في أن الربح خمسون ألفا، لكن حمله النور وتبعه الشامي، على أنهم أخرجوا خمسة وعشرين ألفا لمسيرهم لحربه صلى الله عليه وسلم وعليه ففي قوله: وأخرجوا أرباحهم، تجوز، أي: نصف أرباحهم، وقوله: وكانوا

إلخ، مجرد أخبار.

"وفيهم كما قال اب إسحاق" عن بعض أهل العلم: قال في النور: لا أعرفه، ووقع في لباب النقول، وعن ابن إسحاق، ففيهم كما ذكر عن ابن عباس، ولعله في رواية غير البكائي عنه "وغيره أنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال: 36]، أي: يريدون إنفاقها في حرب النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا} بالفعل، {ثُمَّ تَكُونُ} في عاقبة الأمشر {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندامة أو غما، لفواتها وفوات ما قصدوه، جعل ذاتها حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} في الدنيا آخر الأمر، وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك.

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة، تصغير عتبة الباب، قال: نزلت في أبي سفيان: أنفق على المشركين أربعين أوقية من ذهب، وأخرج ابن جرير عن ابن أبزى، وسعيد بن جبير قالا: نزلت في أبي سفيان: استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش، ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في المطمعين يوم بدر، وهم اثنا عشر رجلا من قريش، أطعم كل واحد منهم كل يوم عشرة حزر. "واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال ابن إسحاق: بأحابيشها، ومن أطاعها من قبل كنانة، وأهل تهامة، وكان خروجهم من مكة لخمس مضين من شوال، "وكتب" كما قال ابن سعد "العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر

ص: 391

رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة.

وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر.

ورأى صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: "والله إني قد رأيت خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع

رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم" وبعثه مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها، فقدم عليه وهو بقباء، فقرأه عليه أبي بن كعب، واستكتم أبيا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع، فأخبره بكتاب العباس، فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا، فاستكتمه، "وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة.

قال ابن إسحاق: حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي، مقابله المدينة. وقال المطرزي: فنزلوا بدومة من وادي العقيق، يوم الجمعة، وقال ابن إسحاق والسدي: يوم الأربعاء ثاني عشر شوال، فأقاموا بها الأربعاء والخميس والجمعة، وقال ابن إسحاق والسدي: يوم الأربعاء ثاني عشر شوال، فأقاموا بها الأربعاء، والخميس والجمعة، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، هكذا نقله البغوي عنهما، ولعله في رواية غير البكائي، عن ابن إسحاق أو هو مما انفرد به السدي عنه، "وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر" لما سمعوه من أخباره صلى الله عليه وسلم، بفضل من شهدها وعظيم ثوابه، فودوا غزوة ينالون بها مثل ما ناله البدريون، وإن استشهدوا.

"ورأى" وفي نسخة: وأرى بالبناء للمفعول "صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة" كما عند ابن عقبة وابن عائذ، "رؤيا" بلا تنوين، "فلما أصبح، قال: "والله إني قد رأيت خيرا".

وفي الصحيح: "ورأيت فيها بقرا، والله خير". قال الحافظ: مبتدأ وخبر، بتقدير وصنع الله خير، وقال السهيلي: معناه والله عنده خير، وهو من جملة الرؤيا، كما جزم به عياض وغيره، انتهى. ولذا فسره صلى الله عليه وسلم، فقال:"وإذا الخير ما جاء الله به من الخير"، كما رواه البخاري.

وفي رواية ابن إسحاق: "رأيت والله خيرا"، "رأيت بقرا"، بفتح الموحدة والقاف، جمع بقرة، استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا رأيت؟، فقال: رأيت بقرا "تذبح ورأيت في ذباب" بمعجمة فموحدة، طرف "سيفي" الذي يضرب به، وفي مغازي أبي الأسود، عن عروة:"رأيت سيفي ذا الفقار قد انفصم صدره"، وكذا عند ابن سعد، وأخرجه البيهقي في الدلائل من حديث أنس قاله في الفتح، "ثلما" بمثلثة مفتوحة فلام ساكنة، أي: كسرا، "ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة" أنث الصفة؛ لأن الدرع مؤنثة، وبقي من الرؤيا شيء لم يذكر هنا، وهو ما رواه أحمد عن أنس رفعه:"طرأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا"، وكان ضبطة سيفي انكسرت، فأولت يأني

ص: 392

حصينة، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل".

وقال موسى بن عقبة، ويقول رجال: كان الذي بسيفه ما أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، يومئذ، وكسروا رباعيته، وجرحوا شفته.

أقتل صاحب الكتيبة، وكبش القوم سيدهم، فصدق الله رسوله الرؤيا، فقتل علي رضي الله عنه طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين يومئذ، "فأما البقر" جواب لقولهم، كما في رواية قالوا: ما أولتها؟ قال: البقر، "فناس من أصحابي يقتلون".

وفي الصحيح: "ورأيت فيها بقرا، خير"، فإذا هم المؤمنون يوم أحد. قال السهيلي: البقر في التعبير بمعنى رجال متسلحين يتناطحون. قال الحافظ: وفيه نظر، فقد رأى الملك بمصر البقر، وأولها يوسف بالسنين. وفي حديث ابن عباس ومرسل عروة: فأولت البقر الذي رأيت بقرا يكون فينا، قال: فكان أول من أصيب من المسلمين، وقوله: بقرا، بسكون القاف، وهو شق البطن، وهذا أحد وجوه التعبير أن يشتق من الاسم معنى يناسب، ويمكن أن يكون ذلك لوجه آخر من وجوه التأويل، وهو التصحيف، فإن لفظ: بقر، مثل لفظ: نفر، بالنون والفاء خطأ.

وعند أحمد والنسائي، وابن سعد من حديث جابر بسند صحيح في هذا الحديث، "ورأيت بقرا منحورة"، وقال فيه: فأولت الدرع المدينة والبقر نفر، هكذا فيه بنون وفاء، وهو يؤيد الاحتمال المذكور، انتهى. وخالفه المصنف، فضبط بقرا الثاني، بسكون القاف، فلا أدري لم خالفه، ثم لا تعارض بين الأحاديث في التأويل بالقتل أو البقر كما هو ظاهر.

"وأما الثلم"، الكسر، "الذي رأيت في" ذباب "سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل" فكان حمزة سيد الشهداء رضي الله عنه، هكذا قال ابن هشام عن بعض أهل العلم مرفوعا معضلا. "وقال موسى بن عقبة: ويقول رجال" منهم عروة "كان الذي بسيفه ما أصاب وجهه الشريف، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم يومئذ وكسروا رباعيته" بتخفيف الياء، أي: تثنيته اليمنى، "وجرحوا شفته" السفلى، ولعل هذا تفسير للكسر الذي أصاب صدر سيفه، وتفسيره صلى الله عليه وسلم للثلم الذي بطرفه فيكون في سيفه خلل في موضعين، فسر عليه السلام واحدًا منهما، وهؤلاء الرجال فسروا الموضع الآخر.

وفي الصحيح: "رأيت في رؤياي أني هززت سيفا فانقطع صدره"، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد. قال المهلب: لما كان صلى الله عليه وسلم يصول بأصحابه، عبر عن السيف بهم وبهزه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم.

ص: 393

وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: "وأولت الدرع الحصينة المدينة فامكثوا، فإن دخل القوم المدينة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت".

فقال أولئك القوم، يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم.

"وفي رواية" عند أحمد والنسائي وابن سعد بسند صحيح، عن جابر قال:"قال عليه الصلاة والسلام:""رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر""وأولت الدرع الحصينة المدينة" نصب بنزع الخافض، أي: بالمدينة، ووجه التأويل أنهم كانوا شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، وجعلوا فيها الآطام والحصون، فهي حصن، ولذا قال:"فامكثوا فإن دخل القوم المدينة".

وفي نسخة: الأزقة، أي: أزقة المدينة، "قاتلناهم ورموا"، بالبناء للمفعول، "من فوق البيوت" وعند ابن إسحاق:"فإن رأيت أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلو، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها"، وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأية صلى الله عليه وسلم، وكان عليه السلام يكره الخروج إليهم، "فقال أولئك القوم" أي: الرجال الذين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، وغالبهم أحداث، لم يشهدوا بدرا وأحبوا لقاء العدو، وطلبوا الشهادة، فأكرمهم الله يومئذ، "يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا" بفتح الجيم وضم الموحدة وشد النون، فعل ماض وفاعله "عنهم".

زاد ابن إسحاق: وضعفنا، فقال ابن أبي: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إل أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعواخائبين كما جاءوا، فلم يزل أولئك القوم به صلى الله عليه وسلم وعند غيره، فقال حمزة وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك، وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أن كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جراءة منهم علينا.

زاد حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، وقال النعمان: يا رسول الله، لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال صلى الله عليه وسلم:"لمه" فقال: لأني أحب الله ورسوله، وفي لفظ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ولا أفر يوم الزحف، فقال صلى الله عليه وسلم:"صدقت"، فاستشهد يومئذ فإن قيل لم عدل صلى الله عليه وسلم عن رأيه الذي

ص: 394

فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك.

ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل عليه الصلاة والسلام بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه وألبساه.

وصف الناس ينتظرون خروجه عليه الصلاة والسلام، فقال لهم سعد بن معاذ

لا أسد منه، وقد وافقه عليه أكابر المهاجرين والأنصار وابن أبي، وإن كان منافقا، لكنه من الكبار المجربين للأمور، ولذا أحضره عليه السلام واستشاره إلى رأي هؤلاء الأحداث، قلت: لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالجهاد خصوصا، وقد فاجأهم العدو، فلما رأى تصميم أولئك على الخروج، لا سيما وقد وافقهم بعض الأكابر من المهاجرين، كحمزة والأنصار، كابن عبادة، ترجح عنده موافقة رأيهم، وإن كرهه ابتداء ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وهذا ظهر لي ولم أره لأحد. "فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد" بكسر الجيم، وشد الدال، ضد الهزل "والاجتهاد" في التأهب للقتال وإعداد الجيش، "وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا" مدة صبرهم على أمره، بأن لا يبرحو من مكانهم، فلما تأولوا وفارقوه، استشهدوا ليتخذ الله منهم شهداء، "وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك" لأنهم لا غرض لهم في الدنيا وزهرتها لما وقر في قلوبهم، وارتاحت له نفوسهم من حب لقاء الله، والمسارعة إلى جنات النعيم.

وعند ابن إسحاق: وقد مات ذلك اليوم مالك بن عمرو النجاري، فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ويقال: بل هو محرر بمهملات، قال الأمير: بوزن محمد، وقال الدارقطني: آخره زاي معجمة، بوزن مقبل ابن عامر النجاري "ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا" بفتح المعجمة، ومضارعة بكسرها، أي: اجتمعوا، "وحضر أهل العوالي" جمع عالية، وهي القرى التي حل المدينة من جهة نجد على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وذلك أدناها وأبعدها ثمانية، وما دون ذلك من جهة تهامة، فالسافلة كما في النور، "ثم دخل عليه الصلاة والسلام بيته" الذي فيه عائشة، كما عند الواقدي وغيره، "ومعه صاحباه" دنيا وبرزخا وموقفا وحوضا وجنة، "أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه وألبساه".

قال شيخنا: الظاهر أن المراد عاوناه في لبس عمامته، ثيابه والتقليد بسيفه، غير ذلك مما تعاطاه عند إراد الخروج، "وصف" لازم بمعن اصطف "الناس" مرفوع فاعل، كما في النور ما بين حجرته إلى منبره، "ينتظرون خروجه عليه الصلاة وا لسلام، فقال لهم سعد بن معاذ" سيد

ص: 395

وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر عليه، فخرج صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته -وهي بالهمز وقد يترك تخفيفا: الدرع- وتقلد سيفه، فندموا جميعا على ما صنعوا،

الأوس وهو في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين، فهو أفضل الأنصار، قاله البرهان "وأسيد" بضم الهمزة وفتح السين المهملة، "ابن حضير" بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، ويقال: الحضير باللام.

روى البخاري في تاريخه، وأبو يعلى، وصححه الحاكم، عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعقد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل، سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر، "استكرهتم" بسين التأكيد، لا الطلب، أي: أكرهتم "رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج".

زاد في رواية: وقلتم له ما قلتم، والوحي ينزل عليه من السماء، "فردوا الأمر إليه" لأنه أعلم منكم بما فيه المصلحة ولا ينطق عن الهوى، ولا يفعل إلا بأمر الله، "فخرج" عطف على مقدر، أي: وانتظروه فخرج "صلى الله عليه وسلم، وقد لبس لامته وهي بالهمز، وقد يترك تخفيفا" وجمعها لام، كتمرة وتمر، ويجمع أيضا على لؤم بوزن نغر، على غير قياس؛ لأنه جمع لؤمة، قاله الجوهري، أي: بضم اللام. "الدرع" وقيل: السلاح ولامة الحرب أداته، كما في الصحاح.

وروى أبو يعلى والبزار بسند حسن، عن سعد وطلحة: أنه ظاهر بين درعين يوم أحد، قال البرهان: بالظاء المعجمة، أي: لبس درعا فوق درع، وقيل: طارق بينهما، أي: جعل ظهر إحداهما لظهر الأخرى، وقيل: عاون والظهير العوين، أي: قوي إحدى الدرعين بالأخرى في التوقي، ومنه تظاهرون ولم يظاهر بين درعين إلا في أحد وفي حنين. ذكر مغلطاي أنه ظاهر فيها بين درعين.

وفي سيرة عبد الغني روى عن محمد بن مسلمة، رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم نين درعين، درعه ذات الفضول، والسعدية، وكان سيفه ذو الفقار، تقلده يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، انتهى. "وتقلد سيفه" أي: جعل علاقته على كتفه الأيمن وهو تحت إبطه الأيسر.

وعند ابن سعد: أظهر الدرع وخرم وسطها بمنطقة من أدم، من حمائل سيفه، وتقلد السيف ألقى الترس في ظهره. وقول ابن تيمية: لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم شد على وسطه منطقة، يرد برواية ابن سعد فإنه ثقة حافظ، وقد أثبته وأقره عليه اليعمري، فهو حجة على من نفاه، لا سيما وإنما نفى أنه بلغه ولم يطلق النفي، "فندموا جميعا على ما صنعوا" الطالبون للخروج على فعله، ومن لم

ص: 396

فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت. فقال: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".

وفي حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم: نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة، ولبسه لأمته، وندامتهم على ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" وفيه: "إني رأيت أني في درع حصينة" الحديث.

وعقد عليه الصلاة والسلام ثلاثة ألوية:

يطلب على الموافقة، أو هو قاصر على الطالبين، "فقالوا: ما كان" ينبغي "لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت،" ولابن سعد: ما بدا لك، وعند ابن إسحاق: فإن شئت فاقعد، "فقال:"ما ينبغي" قال الشامي: "أي: ما يحسن، أو ما يستقيم "لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".

وعند ابن إسحاق حتى يقاتل، زاد في رواية:"أو يحكم الله بينه وبين أعدائه"، وروى البيهقي عن ابن عباس، والإمام أحمد عن جابر رفعاه:"لا ينبغي لنبي إذا أخذ لامة الحرب، وأذن في الناس بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل"، وعلقه البخاري قال البرهان: وظاهره أن ذلك حكم جميع الأنبياء عليهم السلام، ولم أر فيه نقلا، قال: وفيه دليل على حرمة ذلك، وهو المشهور خلافا لمن قال بكراهته.

"وفي حديث ابن عباس عند أحمد" بن حنبل، "والنسائي" أحمد بن شعيب، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "وصححه الحاكم" محمد بن عبد الله، "نحو حديث ابن إسحاق" هذا الذي سقناه مع من ذكرناه معه أولا.

ولما كان قوله نحو: قد يقتضي خروج بعض ما ذكره من غير تعيين نص على أن فيه ما ذكره بقوله، "وفيه إشارة الني صلى الله عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا" لا يخرجوا "من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة، ولبسه لأمته وندامتهم على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" إن وجد من يقاتله، "وفيه: "أني رأيت أني في درع حصينة"، الحديث" وغرضه من هذا تقوية رواية ابن إسحاق، ومن ذكر معه؛ لأنها مرسلة بالحديث الموصل حكما؛ لأن ابن عباس، ما شاهد ذلك، فهو مرسل صحابي، وحكمه الموصل إلى الصواب، وقد أخرج حديث الرؤيا بنحوه الشيخان وغيرهما. "وعقد عليه الصلاة والسلام ثلاثة ألوية، لواء" للأوس، "بيد أسيد بن الحضير" باللام، للمح الأصل المنقول عنه، "ولواء

ص: 397

- لواء بيد أسيد بن حضير.

- ولواء للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب وقيل بيد مصعب بن عمير.

- ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة.

وفي المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، دارعين.

واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة.

للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب، وقيل: بيد مصعب بن عمير" وليس بخلاف حقيقي، فإنه كان بيد علي، ثم بيد مصعب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "من يحمل لواء المشركين"؟، فقيل: طلحة بن أبي طلحة، فقال: "نحن أحق بالوفاء منهم" فأخذه من علي، ودفعه إلى مصعب بن عمير، أي: لأنه من بني عبد الدار بن قصي، وكان بكر قصي، فجعل إليه اللواء، والحجابة، والسقاية، والرفادة، وكان قصي مطاعا في قومه، لا يرد عليه شيء صنعه، فجرى ذلك في عبد الدار وبنيه حتى قام الإسلام. كما أسنده ابن إسحاق، عن علي فيما مر فإلى هذا أشار عليه السلام، أي: بوفاء عهد قصي؛ لأنه لم يخالف شرعه، "ولواء الخزرج بيد الحباب" بضم الحاء المهملة، وتخفيف الموحدة، فألف فموحدة، "ابن المنذر، وقيل: بيد سعد بن عبادة" سيدهم، "وفي المسلمين مائة دارع"، أي: لابس الدرع، وهو الزردية، وركب صلى الله عليه وسلم فرسه السكب على إحدى الروايتين، والأخرى أنه خرج من منزل عائشة على رجليه إلى أحد، "وخرج السعدان" القائل فيهما الهاتف بمكة، فإن يسلم السعد أن يصبح محمد بمكة، لا يخشى خلاف المخالف "أمامه يعدوان" بعين مهملة، أي: يمشيان مشيا مقارب الهرولة ودون الجري، "سعد بن معاذ وسعد بن عبادة" رضي الله عنهما، حال كونهما "دارعين" مثنى دارع بوزن فاعل، والناس عن يمينه وشماله، "واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم" أي: على الصلاة بالناس، كما قاله هشام وتبعه جمع، ومقتضاه أنه لم يول أحدا للقضاء بين الناس، وكأنه لقرب المسافة، أو لأنه لم يبق فيها إلا القليل، اذين لا يتخاصمون، "وعلى الحرس تلك الليلة" التي باتها بالشيخين، تثنية شيخ موضع بين المدينة وأحد على الطريق الشرقي إلى أحد مع الحرة، "محمد بن مسلمة" الأنصاري، أكبر من اسمه محمد في الصحابة، في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، وعين المشركون لحراستهم.

عكرمة بن أبي جهل في جماعة، وروى أنه عليه السلام بعدما صلى العشاء قال:"من يحرسنا الليلة"؟ فقال ذكوان بن عبد قيس: أنا، قال:"اجلس" ثم قال: "من يحرسنا"؟، فقال

ص: 398

وأدلج عليه الصلاة والسلام في السحر، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما عسكر رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم: أسامة، وابن عمر،

رجل: أنا، ثم قال:"من يحرسنا"، فقال رجل: أنا، قال:"اجلس" فأمر بقيام الثلاثة، فقام ذكوان وحده، فسأله عن صاحبيه، فقال: يا رسول الله، أنا كنت المجيب في كل مرة، قال:"اذهب حفظك الله"، فلبس لامته، وأخذ قوسه، وحمل سلاحه وترسه، فكان يطوف بالعسكر ويحرس خيمته صلى الله عليه وسلم.

"وأدلج عليه الصلاة والسلام" قال البرهان: اختلف اللغويون في أن أدلج مخففا ومثقلا لغتان، في سير الليل كله أو بينهما فرق، وهو قول الأكثر فأدلج بالتشديد، سار آخر الليل، وأدلج، بسكون الدال، سار الليل كله، وسار دلجة من الليل، أي: في ساعة، انتهى.

فإن قرئ المصنف بالتشديد، فقوله "في السحر" وهو قبيل الفجر، بيان للمراد من آخر الليل، وإن خفف كان بيانا لوقت السير، ويؤخذ من كلام ابن إسحاق، أنهم خرجوا من ثنية الوداع شامي المدينة.

وقد روى الطبراني في الكبير والأوسط، برجال ثقات، عن أبي حميد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد، حتى إذا جاوز ثنية الوداع، فإذ هو بكتيبة خشناء، فقال:"من هؤلاء"؟ قالوا: عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من اليهود، فقال:"وقد أسلموا"؟، قالوا: لا يا رسول الله، قال:"مروهم فليرجعوا" فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين". قال ابن إسحاق: وكان دليله صلى الله عليه وسلم أبو خيثمة الحرثي، بخاء معجمة، وياء ومثلثة، ووهمه اليعمري ومغلطاي بأن الذي ذكره الواقدي، وابن سعد، أنه أبو حتمة، والد سهل بن أبي حتمة، يعني بحاء مهملة ففوقية، زاد مغلطاي: وقول ابن أبي حاتم، كان الدليل سهل بن أبي حتمة غير صحيح، لصغر سنه عن ذلك، انتهى، "وقد كان صلى الله عليه وسلم لما عسكر" بالشيخين قال السمهودي: بلفظ تثنية شيخ اطمأن بجهة الوالج، سميا بشيخ وشيخة، كانا هناك هيأ مسجدا له صلى الله عليه وسلم صلى به في مسيره لأحد وعسكر هناك، "رد جماعة من المسلمين لصغرهم".

قال الإمام الشافعي: رد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر صحابيا، عرضوا عليه وهم أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لم يرهم بلغوا، وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة، فأجازهم. قال البرهان: يحتمل أن يريد ردهم في أحد، ويحتمل مجموع من رده في هذا السن في غزواته وكل منهما فائدة. وظاهر الشامي احتمال الأول فإنه عد من رده في أحد سبعة عشر، ثم أجاز اثنين منهم، "منهم: أسامة" بن زيد، "و" عبد الله "بن عمر" بن الخطاب، وما وقع في نسخة سقيمة من الشامية عمر، وبزيادة واو خطأ، لا يعول عليه، فإن ابن عمرو بن العاص لم يكن أسلم حينئذ، وكان مع أبيه.

ص: 399

وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري. والنعمان بن بشير. قال مغلطاي: وفيه نظر.

وكان المسلمون الخارجون ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل

والحديث عند أحمد، والبخاري، وأبي داود والنسائي، لابن عمر بن الخطاب، "وزيد بن ثابت" الأنصاري، "وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير. قال مغلطاي: وفيه نظر" لأنه ولد في السنة الثانية قبل أحد بسنة، زاد اليعمري وغيره، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وسعد بن عقيب، وسعد بن حبتة، وزيد بن جارية، بجيم وراء، الأنصاري، وجابر بن عبد الله: وليس بالذي يروي الحديث.

قال البرهان: وهو إما الراسبي البصري، وإما العبدي، وعمرو بن حزم ذكره مغلطاي، ورافع بن خديج ذكره الواقدي، وأوس بن ثابت الأنصاري، كذا رواه ابن فتحون، عن ابن عمر بن الخطاب، وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل له: إنه رام، فقال سمرة لزوج أمه: أجاز رافعا وردني وأنا أصرعه، فأعلمه صلى الله عليه فقال:"تصارعا"، فصرع سمرة رافعا فأجازه، وعقيب، بصم المهملة، وفتح القاف، وسكون التحتية، والموحدة، وحبتة، بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وفتح الفوقية، فتاء تأنيث، هي أمه، واسم أبيه بجير، بضم الموحدة، وفتح الجيم عند ابن سعد، وبفتحها، وكسر الحاء المهملة عند الدارقطني.

"وكان المسلمون الخارجون" معه حقيقة وظاهرا "ألف رجل"، كما عند ابن إسحاق وغيره. "ويقال: تسعمائة" حكاه مغلطاي وغيره، فلما انخذل ابن أبي بالمنافقين الثلاثمائة صاروا سبعمائة على الأول، وستمائة على الثاني، كما في النور، فغلط من زعم أن تسعمائة مصحف عن سبعمائة؛ إذ الكلام في الخارجين أولا هل ألف أو إلا مائة. قال ابن عقبة: وليس في المسلمين إلا فرس واحد، وقال الواقدي: لم يكن معهم من الخيل إلا فرسه صلى الله عليه وسلم، وفرس بي بردة.

وفي الاستيعاب، في ترجمة عباد بن الحارث بن عدي: أنه شهد أحدا، والمشاهد كلها معه عليه السلام على فرسه ذي الحزق. قال الحافظ في الفتح: وقع في الهدى، أنه كان معهم خمسون فرسا، وهو غلط بين، وقد جزم موسى بن عقبة، بأنه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل، ووقع عند الواقدي، كان معهم فرس له عليه السلام، وفرس لأبي بردة، انتهى بلفظه. "والمشركون ثلاثة آلاف رجل" كما جزم ابن إسحاق، وتبعه اليعمري. قال البرهان: وقال بعض الحفاظ: فجمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش، والحلفاء والأحابيش، انتهى.

وعطف الأحابيش على الحلفاء مساو هنا؛ لأن المراد بهم، كما في العيون وغيرها بنو

ص: 400

فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة.

ونزل عليه الصلاة والسلام بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق

المصطلق وبنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة، الذين حالفوا قريشا بذنبة حبشي، جبل بأسفل مكة، فسموا به، ويقال: هو واد بمكة، ويقال: سموا بذلك، لتجمعهم على أنهم يد واحدة على غيرهم أبدا. "فيهم سبعمائة دارع" لابس الدرع، وهكذا ذكره ابن سعد. "ومائتا فرس" قاله ابن إسحاق، "وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة" من أشرافهم. قال ابن إسحاق: خرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، بفتح الحاء المهملة، وكسر الفاء، فتحتية ساكنة، ثم ظاء معجمة مفتوحة، ثم تاء تأنيث.

قال السهيلي: أي الغضب للحرم، وقال أبو ذر: الأنفة والغضب، وسمي ابن إسحاق منهن هند بنت عتبة، خرجت مع أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة مع زوجها الحارث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع زوجها صفوان بن أمية، وريطة بنت منبه السهمية مع زوجها عمرو بن العاص، وهي أم ابنة عبد الله، وسلافة بنت سعد الأنصارية مع زوجها طلحة الحجبي، وخناس بنت مالك مع ابنها أبي عزيز بن عمير أخي مصعب شقيقه، وخرجت عميرة بنت علقمة، ولم يسم الباقين، ونقله عنه الفتح، ولم يزد عليه.

وكذا ذكر في النور الثمانية فقط، وقد أسلمن بعد ذلك وصحبن الأخناس، وعميرة بنت مالك، فلم أر لما ذكرا في الإصابة، وقد صرح في النور، بأنه لا يعلم لهما إسلاما، "ونزل عليه الصلاة والسلام بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي" بن سلول "في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق" وقال: كما عند ابن سعد عصاني، وأطاع الوالدان ومن لا رأي له ولإبن إسحق قال: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا، فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، وكان خزرجيا كابن أبي، فقال: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم بعدما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فلما أبوا، قال: أبعدكم الله فسيغني الله عنكم نبيه، واعتذاره لعبد الله، بما ذكر، وإن كان كاذبا فلا ينافي قوله أطاعهم وعصاني، كما توهم؛ لأنه خطاب لقومه الذين هم منافقون مثله. قال ابن عقبة: فلما انخزل ابن أبي بمن معه، سقط في أيدي طائفتين من المسلمين، وهما أن يقتتلا، وهما بنو حارثة من الخزرج، وبنو سلمة، بكسر اللام، من الأوس.

وفي الصحيح، عن جابر، نزلت هذه الآية فينا:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل

ص: 401

ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، ويقال بأحد.

عمران: 122] ، بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: والله وليهما. قال الحافظ: أي: أن الآية وإن كان في ظاهرها غض منهم، لكن في آخرها غاية الشرف لهم. قال ابن إسحاق: قوله والله وليهما، أي الدافع عنهما ما هموا به من الفشل؛ لأن ذلك كان من وسوسة الشيطان من غير وهن منهم في دينهم.

وفي الصحيح أيضا عن عبد الله بن زيد، لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم. فنزل:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الحديد، وهذا هو الأصح في سبب نزولها، وقوله: الذنوب، كذا رواه البخاري في المغازي، وفي الحج بلفظ: تنفي الرجال، وفي التفسير: تنفي الخبث، وهو المحفوظ قاله في الفتح:"ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم"، حكاه مغلطاي وغيره.

والتنظير فيه بأن الذين ردهم لكفرهم، حلفاء ابن أبي اليهود، وكان رجوعهم قبل الشوط لا يلتفت إليه، فنقل الحفاظ لا يدفع بالتوهمات العقلية، وأيضا فهؤلاء ثلاثمائة، واليهود ستمائة، كما مر. والجواب: بأن المعنى أمر بالكف عنهم ونهي عن طلب رجوعهم، فكأنه أمرهم "بمكان يقال له: الشوط" بشين معجمة مفتوحة، فواو ساكنة، فطاء مهملة، اسم حائط بالمدينة، كما في النور. وفي ابن إسحاق: بين المدينة وأحد.

"ويقال:" انخزلوا "بأحد"، وبالأول جزم ابن إسحاق، ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من يخر بنا على القوم من كثب" أي: "من قرب من طريق لا يمر بنا عليهم" فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة بوبين أمواله، حتى سلك في مال لمربع بن قيظي، وكان منافقا ضريرا، فلما سمع حس المصطفى والمسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله، فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي، وقد ذكر لي، أنه أخذ وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر"، وقد بدر إليه سعد بن زيد الأشهلي قبل النهي، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد.

وفي رواية: أنه لما وصل إلى أحد صلى به الصبح صفوفا عليهم سلاحهم وغلط من

ص: 402

ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة.

قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل.

وجعل صلى الله عليه وسلم على الرماة -وهم خمسون رجلا- عبد الله بن جبير، وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم

زعم أنه بات بأحد ومربع، بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الموحدة، وعين مهملة، وقيظي، بفتح القاف، وسكون التحتية، وظاء معجمة، وياء مشددة، ويحثي بالياء، على إحدى اللغتين. ففي القاموس: حثى التراب، يحثوه ويحثيه وحثيا، "ثم صف" أي: اصطف "المسلمون بأصل أحد" أي: سفحه، "وصف المشركون بالسبخة" بفتح السين المهملة، وفتح الموحدة، وسكونها، الأرض المالحة وجمعها سباخ، فإذا وصفت بها الأرض قلت: سبخة بالكسر، كما في النور.

"قال" موسى "بن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد" سيف الله الذي سله على المشركين بعد، "وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل" زاد غيره: وجعلوا على المشاة صفوان بن أمية، ويقال: عمرو بن العاص، وعلى الرماة وكانوا مائة عبد الله بن أبي ربيعة، وأسلموا كلهم.

"و" في البخاري "جعل الله على الرماة" بضم الراء بالنبل، "وهم خمسون رجلا" هذا هو المعتمد.

وفي الهدي: أن الخمسين عدد الفرسان، وهو غلط بين، كما في الفتح، وقد قدمته، وقيل: ما في الهدى انتقال حفظ من الرماة إلى الفرسان، قال البرهان: والظاهر أنه ليس بانتقال؛ لأنه ذكرهم فيما يليه، فقال: واستعمل على الرماة، وكانوا خمسين، انتهى، أي: فهو غلط محض.

"عبد الله بن جبير" بن النعمان، أخا بني عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي العقبي البدري، المستشهد يومئذ، وهو أخو خوات بن جبير "وقال:"إن رأيتمونا تخطفنا الطير" قال المصنف، بفتح الفوقية، وسكون الخاء المعجمة، وفتح المهملة مخففا، ولأبي ذر تخطفنا، بفتح الخاء وشد الطاء، وأصله تتخطفنا بتاءين إحداهما، أي: إن رأيتمونا قد زلنا من مكاننا وولينا، أو إن قتلنا، أو أكلت الطير لحومنا "فلا تبرحوا من مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم".

وعند ابن إسحاق: انضحوا الخيل عنا النبل، لا يأتوننا من خلفنا، "وإن رأيتمونا هزمنا القوم

ص: 403

وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". كذا في البخاري من حديث البراء.

وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم: أن صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا".

قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ هذا السيف بحقه"، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: "أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني"،

وأوطأناهم" بهمزة مفتوحة، فواو ساكنة، فطاء فهمزة ساكنة، أي: مشينا عليهم، وهم قتلى "فلا تبرحوا" أي: من مكانكم "حتى أرسل إليكم، كذا في البخاري" في الجهاد، بهذا اللفظ. وفي المغازي بتغيير قليل "من حديث البراء" بن عازب.

وفي حديث ابن عباس، عند أحمد والطبراني والحاكم، أنه صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال لهم:"احموا ظهورنا؛ لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" بفتح التاء والراء، أي: لا تكونوا مشاركين لنا.

زاد في رواية: "وارشقوهم بالنبل، فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم"، وكان أول من أنشب الحرب أبو عامر الفاسق كما يأتي. "قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ هذا السيف"؟ ذكر أبو الربيع في الاكتفاء، أنه كان مكتوبا في إحدى صفحتيه:

في الجبن عار وفي الأقدام مكرمة

والمرء بالجبن لا ينجو من القدر

وروى أحمد ومسلم عن أنس، والطبراني عن قتادة بن النعمان وابن راهويه، والبزار عن الزبير، قالوا: عرض صلى الله عليه وسلم سيفا يوم أحد، فأخذه رجال ينظرون إليه. وفي لفظ: فبسطوا أيديهم، كل إنسان يقول: أنأ، فقال:"من يأخذه بحقه" فأحجم القوم، "فقام إليه رجال" سمى منهم عمرو الزبير، كما عند ابن عقبة، وعلي كما في الطبراني، وأبو بكر كما في الينابيع، "فأمسكه عنهم".

ولابن راهويه، أن الزبير طلبه ثلاث مرات، كل ذلك يعرض عنه، "حتى قام إليه أبو دجانة" بضم الدال المهملة، وبالجيم والنون، "سماك" بسين مهملة، ابن خرشة وقيل: ابن أوس بن خرشة الأنصاري المتفق على شهود بداره، وعلى أنه استشهد باليمامة، "فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: "أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني".

ص: 404

قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه عليه الصلاة والسلام، يتبختر قال:"إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".

وروى الدولابي في الكنى عن الزبير، قال عليه السلام:"لا تقتل به مسلما، ولا تفر به من كافر". "قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله" أي: بما يقابله من الثمن، وهو الصفة التي ذكرتها، وجعل القتال به ثمنه مجازا.

وعند الطبراني قال: "لعلك إن أعطيتكه تقاتل به في الكيول"، قال: لا، "فأعطاه إليه،" ولعله علم بالوحي أنه لا يقوم به حق القيام إلا هو وهي مزية.

"وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب" قال في النور: الخيلاء والمخيلة والاختيال، كله التكبر، "فلما رآه عليه الصلاة والسلام يتبختر قال:"إنها لمشية يبغضها الله" بضم الياء وكشر الغين، من أبغض لا بفتحها، وضم الغين من بغض؛ لأنه لغة رديئة، كما في المصباح والقاموس، وقد وهم في ذلك بعضهم، "إلا في مثل هذا الموطن" لدلالتها على احتقار العدو، وعدم مبالاته بهم على حد قوله:

جاء شقيق عارضا رمحه

فينكسر قلب العدو، ويداخله مزيد الرعب. "قال الزبير بن العوام فيما قاله" عبد الملك "بن هشام" الحميري المعافري المصري، وأصله من البصرة، العلامة في النسب والنحو، المشهور بحمل العلم، مهذب سيرة ابن إسحاق التي رواها عن زيادة البكائي، عنه المتوفى بمصر سنة ثلاث عشرة ومائتين. ولفظه: حدثني غير واحد من أهل العلم، أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله، فأعطاه أبا دجانة وتركني "فقلت: والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة فاتبعته" لأشاهد الآية الباهرة في منع المصطفى لي ولغيري فيزداد يقيني.

وقوله: وجدت، أي غضبت، أو حزنت، كما في النور وغيره، أي: على نفسه، خوفا أن المنع بسبب فيه يقتضيه، "فأخذ" لفظ ابن هشام، فأخرج. وفي الينابيع ثم أهوى إلى ساق خفه، فأخرج منها "عصابة له حمراء" مكتوبا في أحد طرفيها نصر من الله وفتح قريب، وفي طرفها الآخر الجبانة في الحرب عار، ومن فر لم ينج من النار، انتهى. "فعصب" قال البرهان: مخفف

ص: 405

بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت فخرج وهو يقول:

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالسفح لدى النخيل

أن لا أقوم الدهر في الكيول

أضرب بسيف الله والرسول

فجعل لا يلقى أحدًا من المشركين إلا قتله.

ومشدد، "بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت" في ابن هشام، وهكذا كانت تقول له: إذا تعصب بها، "فخرج وهو يقول: أن الذي" وأنشده الجوهري بلفظ: إني امرؤ "عاهدني" أراد قوله: لعلك إن أعطيتكه تقاتل به في الكيول فقال: "لا "خليلي" قال: في الروض أنكره عليه بعض الصحابة، وقالوا له: متى كان خليلك؟ وإنما أنكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لأتخذت أبا بكر خليلا، ولكن إخوة الإسلام" قال: وليس في الحديث ما يدفع أن يقول الصحابي خليلي؛ لأنهم يريدون به معنى الحبيب، ومحبتهم له تقتضي هذا وأكثر منه، ما لم يكن غلوا وقولا مكروها، وإنما فيه أنه عليه السلام لم يكن يقولها لأحد، ولا خص بها أحدًا دون أن يمنع أصحابه أن يقولوها له، انتهى.

"ونحن بالسفح،" قال في النور: رأى جانب الجبل عند أصله، "لدى" بفتح اللام والمهملة، أي: عند "النخيل" اسم جنس نخلة، "أن لا أقوم الدهر في الكيول اضرب" بضم الموحدة، قال الجوهري: وإنما سكنه لكثرة الحركات، قال شيخنا: أو لإرادة الإدغام؛ لأن النظم لا يستقيم بدونه، "بسيف الله والرسول" وأنشده الجوهري، بدون الشطر الثاني، ولكن مثله لا يعترض به لأنه زيادة ثقة، "فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله".

وفي مسلم من حديث أنس: ففلق أبو دجانة بالسيف هام المشركين.

وعند ابن هشام عن الزبير، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا دفف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبو دجانة فأتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها.

قال ابن إسحاق، وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا، فصمدت إليه، فلما حملت عليه السيف ولول فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة، وعن الزبير خرج أبو دجانة بعدما أخذ السيف وأتبعته، فجعل لا يمر بشيء إلا أفراه وهتكه وفلق به المشركين، وكان إذا كل شحذه بالحجارة، ثم يضرب به العدو كأنه منجل، حتى أتى نسوة في سفح الجبل ومعهن هند، وهي تغني، تحرض المشركين فحمل عليها، فنادت: يا لصخر، فلم يجبها أحد، فانصرف عنها فقلت له: كل سيفك رأيته فأعجبني، غير أنك لم تقتل المرأة، قال: كرهت

ص: 406

وقوله: في الكيول -بفتح الكاف وتشديد المثناة التحتية- مؤخر الصفوف. وهو: فيعول من كال الزند يكيل كيلا إذا كبا ولم يخرج نارا، فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا في هذا الحديث.

أن أضرب بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لا ناصر لها.

ذفف، بالذال المعجمة وشد الفاء الأولى، مفتوحات أسرع قتله، ويحمس حمسا، بحاء مهملة، يروى بالسين المهملة، يشجعهم من الحماسة، وبالشين المعجمة، من أحمشت النار أوقدتها، قاله السهيلي وغيره.

وصمدت إليه قصدته، والمعروف صمدته، لكن ضمن معنى قصد فعداه بإلى؛ لأن قصد يتعدى بإلى وبنفسه، وولولت قالت: يا ويلها هذا قول أكثر اللغويين.

وقال ابن دريد: الولولة، رفع المرأة صوتها في فرح أو حزن، قاله أبو ذر في حواشيه. "وقوله في الكيول، بفتح الكاف وتشديد المثناذة التحتية" مضمومة ثم واو ساكنة ثم لام، "مؤخر الصفوف" كما قاله الجوهري، وأبو عبيد والهروي، وقالا: ما معناه: "وهو فيعول من كال الزند يكيلك يلا إذا كبا ولم يخرج نارا" وذلك شيء لا نفع فيه، "فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل" وقيل: الكيول الجبان، وقيل: ما أشرف من الأرض بريد تقوم فوقه فتنظر ما يصنع غيرك، كما في النهاية وغيرها، والأول أنسب بالمقام، ولذا اقتصر عليه المصنف تبعا للجماعة، وأما الجبان فلا معنى له هنا إلا بتكلف، وكذا الثالث بعيد من السياق، فإنه وإن كان له معنى لا يناسب قوله: تقاتل به في الكيول، وقال أبو ذر في حواشيه: الكيول، بالتشديد والتخفيف، آخر الصفوف في الحرب.

وقال ابن سراج: من رواه بالتخفيف، فهو من قولهم: كال الزند، إذا نقص، انتهى.

وفي الصحاح: كال الزند يكيل، إذا لم يخرج نارا. قال البرهان: وفي نسخة بهذه السير، يعني العيون في الهامش الكبول، بضم الكاف والموحدة بالقلم جمع كبل، وهو القيد الضخم. وهذا إن صح رواية فله معنى، وفي صحته نظر، انتهى.

"قال أبو عبيدة" معمر بن المثنى: ولد سنة اثنتي عشرة ومائة، ومات سنة تسع أو ثمان، أو عشر أو إحدى عشرة ومائتين، "ولم يسمع" لفظ الكيول، "إلا في هذا الحديث" قال شخنا: لعل المراد لم يسمع في حديث غيره، وإلا فهو منقول عن اللغة، كما يدل عليه الخلاف المتقدم في معناه.

وعند ابن سعد: وكان أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، وذكر ابن إسحاق عن

ص: 407

وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف.

والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان فضربه شداد بن أوس فقتله فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة"،

عاصم بن عمر قتادة أنه حين خرج إلى مكة مباعدا له صلى الله عليه وسلم معه خمسون غلاما من الأوس، وقيل: خمسة عشر، كان يعد قريشا لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلقيهم في الأحابيش، وعبدان أهل مكة فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق.

وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه صلى الله عليه وسلم الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالا شديدا.

قال ابن سعد: ثم تراموا بالحجارة حتى ولى أبو عامر وأصحابه، وجعل نساء المشركين يضربن بالدفوف والغرابيل، ويحرضن ويذكرنهم قتلى بدر، ويقلن شعرا.

قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أثخن في الناس كما مر، "وقاتل حمزة بن عبد المطلب،" فأثخن خصوصا في الرؤساء، "حتى قتل أرطأة بن شرحبيل" بضم الشين "ابن هاشم بن عبد مناف" بن عبد الدار بن قصي، كما في ابن إسحاق، ولو زادهما المصنف، كان أحسن لئلا يوهم أنهما اللذان في النسب الشريف، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ولذا خصه بالذكر وكونه قاتله، جزم به ابن إسحاق، وقال ابن سعد وغيره: قتله علي وصححه، "والتقى حنظلة الغسيل" بن أبي عامر الفاسق، واسمه عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي.

قال البرهان: ووقع في العيون عبد بن عمرو، والصواب حذف ابن، "وأبو سفيان" بن حرب، فعلاه حنظلة، "فضربه شداد بن أوس" ابن شعوب، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق والواقدي وغيرهما: شداد بن الأسود، وهو ابن شعوب الليثي، قال في الإصابة: قال المرزباني: شعوب أمه، والأسود أبوه أسلم بعد ذلك وصحب، انتهى. فقصر البرهان في قوله: لا أعلم لشداد إسلاما.

وفي تفسير الحميدي، كما قاله السهيلي: مكان شداد جعونة ابن شعوب الليثي، وهو مولى نافع القاري، وجعونة هو أخو شداد له إدراك، كما في الإصابة في قسم المخضرمين، "فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة".

وعند ابن سعد: "رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن، في صحافي الفضة بين السماء

ص: 408

فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبي فقالت: خرج وهو جنب فقال عليه الصلاة والسلام: "لذلك غسلته الملائكة".

وبذلك تمسك من قال من العلماء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا.

وقتل علي رضي الله عنه طلحة بن أبي طلحة لواء المشركين،

والأرض"، "فسألوا امرأته جميلة، أخت عبد الله بن أبي" ابن سلول المنافق، وكان ابتني بها تلك الليلة، وكان عرسوا عنده، فرأت في المنام تلك الليلة كأن بابا من السماء، قد فتح له، فدخله، ثم أغلق دونه، فعلمت أنه ميت من غده، فدعت رجالا حين أصبحت من قومها، فأشهدتهم على الدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، ذكره الواقدي، كما في الروض، "فقالت: خرج وهو جنب" حين سمع الهاتفة، "فقال عليه الصلاة والسلام: "لذلك غسلته الملائكة".

قال في الروض: وذكر أنه التمس في القتلى، فوجدوه يقطر رأسه ماء، وليس بقربة ماء تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم انتهى.

والهاتفة، بالتاء والفاء، عند ابن إسحاق أي: الذات الصائحة، قال ابن هشام: ويقال الهائعة، يعني بتحتية، فعين مهملة. قال: والهائعة الصيحة التي فيها فزع، قال: وفي الحديث: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها". قال الطرماح:

أنا ابن حماة المجد من آل هاشم

إذا جعلت خور الرجال تهيع

"وبذلك" أي: إخبار المصطفى أن الملائكة غسلته، "تمسك من قال من العلماء" كالحنابلة:"أن الشهيد يغسل إذا كان جنبا".

والجواب عن الجمهور: أن تغسيل الملائكة إكرام له، وهو من أمور الآخرة لا يقاس عليه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتغسيل أحد ممن استشهد جنبا، "وقتل علي رضي الله عنه طلحة بن أبي طلحة" عثمان، أخو شيبة بن عثمان، "صاحب لواء المشركين" أحد بني عبد الدار لما صاح: من يبارز؟ فبرز له علي، فقتله وهو كبش، أي: سيد الكتيبة، الذي رآه صلى الله عيه وسلم في رؤياه، هكذا ذكر ابن سعد وابن عائذ.

وعند ابن إسحاق: لما قتل مصعب بن عمير أعطى صلى الله عليه وسلم اللواء عليا.

قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني، قال: لما اشتد القتال يوم أحد، جلس صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدم الراية، فتقدم وقال: أنا أبو القصم بالقاف والفاء" فناداه أبو سعد بن أبي طلحة، صاحب لواء المشركين: أن هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟، قال: نعم، فبرز بين الصفين، فاختلقا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف عنه،

ص: 409

ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة رضي الله عنه فقطع يديه وكتفيه.

ثم أنزل الله نصره على المسلمين فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم. ووقعوا ينتهبون العسكر ويأخذون ما

ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: "أفلا أجهزت عليه؟ قال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قتله.

ويقال: إن أبا سعد بن أبي طلحة خرج بين الصفين فنادى: أين قاصم، من يبارز مرارا، فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار، كذبتم واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم، فخرج إليه علي فقتله.

وقال ابن إسحاق: قتله سعد بن أبي وقاص، "ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة" وهو يقول:

إن علي أهل اللواء حقا

أن يخضبوا الصعدة أو تندقا

"فحمل عليه حمزة رضي الله عنه، فقطع يديه وكتفيه" أي: ثم مات.

زاد ابن سعد: ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة، فقتله سعد بن أبي وقاص، أي: أو علي كما رأيت، ثم حمله مسافع بن طلحة فرماه عاصم فقتله، ثم حمله الحارث بن طلحة فقتله عاصم، ثم حمله كلاب بن طلحة فقتله الزبير، ثم حمله الجلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله، ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله علي، ثم حمله شريح بن قارظ فلا يدرى قاتله، ثم حمله صواب غلامهم، فقيل: قتله علي، وقيل: سعد، وقيل: قزمان، وهو أثبت الأقاويل، انتهى.

وجزم به ابن إسحاق كما جزم، بأن قاتل أرطأة حمزة كما مر، "ثم أنزل الله نصره على المسلمين" وصدقهم وعده، "فحسوا الكفار" بفتح الحاء وضم السين مشددة المهملتين، أي: لاستأصلوهم قتلا "بالسيوف، حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت" تامة، أي: وقعت "الهزيمة" لا شك فيها، "فولى الكفار لا يلوون"، يعرجون "على شيء ونساؤهم يدعون بالويل.

روى ابن إسحاق: عن الزبير قال: والل لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عقبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل، ولا كثير، وأصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد، "وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم،" بجيم وضاد معجمة.

قال البرهان: أي: نحوهم وأزالوهم، ووقعوا"، أي شرعا، "ينتهبون العسكر، ويأخذون ما

ص: 410

فيه من الغنائم.

وفي البخاري: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين.

فيه من الغنائم" واشتغلوا عن الحرب.

قال الزبير: فخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارح: ألا إن محمدًا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا قوم.

قال ابن إسحاق، وحدثني بعض أهل العلم: أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، بمثلثة، أي: استداروا حوله. قال البرهان: ولا أعلم لها إسلاما، والظاهر هلاكها على دينها.

"وفي البخاري:" عقب ما قدم المصنف عنه قريبا، "قال البراء:" فأنا والله رأيت النساء يشتددن، قد بدت خلاخلهن وأسواقهن رافعات ثيابهن، "فقال أصحاب عبد الله بن جبير" وهم الرجالة، الغنيمة، "أي: قوم" أي: يا قوم، "الغنيمة" نصب على الإغراء فيهما، قاله المصنف "ظهر،" أي: غلب "أصحابكم" المؤمنون الكافرين، "فما تنتظرون؟ " أي: فأي شيء تنتظرون بعد ظفر أصحابكم وهزمهم العدو؟، "فقال عبد الله بن جبير:" إنكارا عليهم، "أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وفي المغازي من البخاري، فقال عبد الله عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا. "قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة".

وعند ابن سعد: وثبت أميرهم عبد الله بن جبير، في نفر يسير دون العشرة مكانه، وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لم يرد هذا، قد انهزم المشركون فما مقامنا ههنا، فانطلقوا يتبعون العسكر، وينتهبون معهم، وخلو الخيل، "فلما أتوهم صرفت وجوههم".

قال المصنف: أي: قلبت وحولت إلى الموضع الذي جاءوا منه، قال شيخنا: ولعل سببه أن المشركين كروا عليهم، "فأقبلوا" حال كونهم "منهزمين" عقوبة لهم لمخالفتهم قوله صلى الله عليه وسلم "لا تبرحوا".

قال الحافظ: وفيه شؤم ارتكاب النهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وأن من آثر دنياه أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه.

ص: 411

وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولادهم فاجتلدت مع أخراهم.

وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض.

وفي رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من النفر الرماة

"وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري أيضا" أنها قالت: "لما كان يوم" وقعة "أحد، هزم المشركون هزيمة بينة" ظاهرة، "فصاح إبليس" وفي رواية: فصرخ إبليس، لعنة الله عليه، "أي: عباد الله" يعني المسلمين، "أخراكم".

قال الحافظ: أي: احترزوا من جهة أخراكم، وهي كلمة تقال لمن يخشى أن يؤتى عند القتال من ورائه. وكان ذلك لما ترك الرماة مكانهم، ودخلوا ينتهبون عسكر المشركين كما سبق، انتهى.

"فرجعت أولادهم فاجتلدت" بالجيم، اقتتلت، "مع أخراهم" هي رواية الكشميهني في المناقب ولغيره، فرجعت أخراهم على أولاهم فاجتلدت أخراهم. قال الدماميني: أي: وأولاهم، ففيه حذف عاطف ومعطوف، مثل سرابيل تقيكم الحر، أي: والبرد ومثله كثير.

وفي المغازي: فاجتلدت هي وأخراهم، أي: لظنهم أنهم من العدو، "وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لما رجعوا، اختلطوا بالمشركين والتبس" اختلط "العسكران فلم يتميزوا" لشدة ما دهشهم، صاروا لا يعرفون المسلم من الكافر، وتركوا شعارهم الذي يتميزون به، وهو أمت أمت. قال الشامي: أمر بالموت، والمراد التفاؤل بالنصر، يعني الأمر بالإماتة مع حصول الغرض للشعار، فإنهم جعلوا هذه الكلمة علامة بينهم يتعارفون بها، انتهى.

"فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض" فكان ممن قتلوه خطأ اليمان، والد حذيفة، فقال: غفر الله لكم وترك ديته لهم.

"وفي رواية غيرهما" يعني ابن سعد، "ونظر خالد بن الوليد" المخزومي، أسلم بعد الحديبية، وصحب وصار سيف الله صبه على المشركين، وسيأتي إن شاء الله تعالى في أمراء المصطفى، "إلى خلاء الجبل" بفتح الخاء والمد، "وقلة أهله" عطف سبب على مسبب، "فكر" رجع "بالخيل وتبعه عكمة بن أبي جهل، فحملوا على من بقي من النفر الرماة" الذين

ص: 412

فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير.

وفي البخاري: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فشد عليه فكان كأمس الدابر، وكان وحشي كامنا تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحريته حتى خرجت من بين

دون العشرة، "فقتلوهم، و" قتلوا "أميرهم عبد الله بن جبير" رضي الله عنهم.

"وفي البخاري" في حديث وحشي الطويل: "أنهم لما اصطفوا للقتال خرج سباع" بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة، ابن عبد العزى الخزاعي، الغبشاني بضم المعجمة، وسكون الموحدة، ثم معجمة، ذكر ابن إسحاق أن كنيته أبو نيار، بكسر النون وتخفيف التحتانية، وليس المراد أنه خرج في ابتداء الحرب؛ لأن حمزة قاتل قبله، وقتل عدة، وهذا آخر من قتله، بل المراد خرج في زمن اصطفاف القوم، "فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه".

وللطيالسي: فإذا حمزة جمل أو رق، ما وقع له أحد إلا قمعه بالسيف، ولابن إسحاق: فجعل يهد الناس بسيفه، ولابن عائذ: رأيت رجلا إذ حمل لا يرجع حتى يهزمنا، فقلت: من هذا؟، قالوا: حمزة، فقلت: هذا حاجتي.

وفي البخاري، فقال: يا سباع، يابن أم أنمار، مقطعة البظور اتحاد الله ورسوله، "فشد" حمزة "عليه" على سباع، "فكان كأمس الذاهب".

قال الحافظ: كناية عن قتله، أي: صيره عدما، وفي رواية ابن إسحاق: فكأنما أخطأ رأسه، وهذا يقال عند المبالغة في الإصابة. "وكان وحشي" بن حرب الحبشي مولى جبير بن مطعم "كامنا" مختفيا، وهذا نقل بالمعنى، ولفظ البخاري قال: أي: وحشي، وكمنت لحمزة "تحت صخرة" لأن مولاه جبير أو عده بالعتق إن قتله، فصدر هذا الحديث عند البخاري. قال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، فلما إن خرج الناس عام عينين، جبل بحيال أحد، بينه وبينه واد، خرجت مع الناس إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع، فذكر ما نقله المصنف.

وفي رواية الطيالسي: فانطلقت يوم أحد معي حربتي وأنا رجل من الحبشة ألعب لعبهم، قال: وخرجت ما أريد أن أقتل، ولا أقاتل إلا حمزة.

وعند ابن إسحاق: وكان وحشي يقذف بالحربة قذف الحبشة قلما يخطئ، "فلما دنا منه رماه بحربته"، لفظ البخاري: فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته، "حتى خرجت من بين

ص: 413

وركيه وكان آخر العهد به. انتهى.

وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح ابن قمئة أن محمدًا قد قتل. ويقال كان ذلك أزب العقبة،

وركيه" وعند ابن عائذ: أنه كمن عند شجرة، وعند ابن أبي شيبة من مرسل عمير بن إسحاق: أن حمزة عثر، فانكشف الدرع عن بطنه، فرماه في ثنته، بضم المثلثة، وشد النون، أي: عانته، وقيل: ما بين السرة والعانة.

وللطيالسي: فجعلت ألوذ من حمزة بشجرة، ومعي حربتي حتى إذا استمكنت منه هززت الحربة حتى رضيت منها، ثم أرسلتها فوقعت بين ثندوتيه، وذهب ليقوم فلم يستطع، والثندوة بفتح المثلثة، وسكون النون وضم المهملة بعدها واو خفيفة هي من الرجل، موضع الثدي من المرأة، والذي في الصحيح أن الحربة أصابت ثنته أصح، انتهى من الفتح.

"وكان" ذلك، أي: الرمي بالحربة، "آخر العهد به" كناية عن موته رضي الله عنه، "انتهى" ما نقله من حديث الباري عن وحشي، وذكر في بقيته ضيق مكة والطائف عليه، لما فشا الإسلام ثم قدومه على المصطفى وإسلامه، وقوله:"غيب وجهك عني"، ثم مشاركته في قتل مسيلمة بتلك الحربة. "وكان مصعب بن عمير" الذي أطلق عبد الرحمن بن عوف أنه خير منه، كما في الصحيح. "قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل".

قال ابن سعد: وكان حامل اللواء فأخذه ملك في صورته، وعند غيره فلما قتل أعطى صلى الله عليه وسلم الراية عليا، "وكان الذي قتله ابن قمئة" بفتح القاف وكسر الميم بعدها همزة، واسمه عبد الله كما قاله ابن هشام، "وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأنه كان إذ لبس لامته يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال بعضهم، "فصاح ابن قمئة" لظنه الخائب ولله الحمد "أن محمدًا قد قتل".

روى ابن سعد، عن محمد بن شرحبيل: أن مصعبا حمل اللوء يوم أحد، فقطعت يده اليمنى، فأذه بيده اليسرى وهو يقول:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآية، ثم قطعت يده اليسرى فحتى على اللواء، أي: أكب عليه، وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144] الآية.

قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية يومئذ حتى نزلت بعد، "ويقال" وبه جزم ابن هشام، "كان ذلك" الصارخ بأن محمدا، قد قتل، "أزب" أي: عامر، "العقبة" وجاء في حديث مرفوع أنه صلى الله عليه وسلم قال:"هذا إزب العقبة".

ص: 414

ويقال: إبليس لعنه الله تصور في صورة جعال.

وقال قائل: أي عباد الله أخراكم، أي: احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل.

قال السهيلي: قيد هنا بكسر الهمزة، وسكون الزاي، وابن ماكولا قيده بفتح الهمزة. وحديث ابن الزبير يشهد للأول إذا رأى رجلا طوله شبران على برذعة رحله، فقال: ما أنت؟ قال: إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى باض، أي: هرب.

وقال يعقوب بن السكيت في الألفاظ: الإزب القصير، فالله أعلم، أي الضبطين أصح هل الإزب والأزب شيطان واحد أو اثنان، انتهى. وظاهره سكون الزاي، وخفة الباء مع كسر الهمزة وفتحها، ومقتضى القاموس، أي: مفتوحها بفتح الزاي وشد الموحدة، وبعض المتأخرين جعلهما قولين.

"ويقال إبليس لعنه الله" كما جزم به ابن سعد، "تصور في صورة جعال"، ويقال له جعيل بن سراقة الضمري، أو الغفاري، أو الثعلبي. قال في الاستيعاب: وكان رجلا صالحا دميما أسلم قديما وشهد معه عليه السلام أحدًا، ويقال: إنه الذي تصور إبليس في صورته يوم أحد، انتهى. فصرخ ثلاث صرخات أن محمدا قد قتل ولم يشك فيه أنه حق، وكان جعال إلى جنب أبي بردة بن نيار، وخوات بن جبير يقاتل أشد القتال، ثم ليس هذا بخلاف محقق، فالثلاثة صاحوا ابن قمئة لظنه، والأزب وإبليس لمحاولة ما لم يصلا إليه.

"وقال قائل" هو إبليس لعنه الله، كما في البخاري، وقدمه المصنف قريبا، فنقله عن غيره عجب، "أي: عباد الله أخراكم، أي: احترزوا من جهة أخراكم".

قال المصنف: أي: احترزوا من الذين وراءكم متأخرين عنكم، وهي كلمة تقال لمن يخشى أن يؤتى عند القتال من ورائه، وغرض اللعين أن يغلطهم ليقتل المسلمون بعضهم بعضا، "فعطف" أي: رجع "المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون" من العجلة والدهش، "وانهزمت طائفة" قليلة "منهم"، واستمروا "إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل".

قال الحافظ: والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق، فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة، فما رجعوا حتى انفض القتال وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] ، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فصارت غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه، أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل وهم أكثر

ص: 415

وقال موسى بن عقبة: ولما فقد عليه الصلاة والسلام، قال رجل: منهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلو البيوت. وقال رجال منهم: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء. منهم أنس بن مالك بن النضر شهد له بها عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ.

قال في "عيون الأثر": كذا وقع في هذا الخبر: أنس بن مالك، وإنما هو

الصحابة، وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم تراجعت إليه الفرقة الثانية شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي، انتهى.

"وقال موسى بن عقبة: ولما فقد" بالبناء للمفعول، "عليه الصلاة والسلام"، أي: غاب عن أعينهم لشدة ما دهشهم، أو في ظنهم، أو بحسب الإشاعة فلا يرد أنه عليه السلام لم يفارق مكانه، ولم تزل قدمه شبرا واحدا. "قال رجل منهم"، قال في النور لا أعرف اسمه:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل".

وفي رواية الطبراني قال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ليستأمن لنا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدًا قد قتل، "فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم" الكفار "فيقتلوكم فإنهم داخلوا البيوت" مجرور بالإضافة، ولذا حذفت النون، ويجوز عربية نصب البيوت، وقد قرئ شاذا، والمقيمي الصلاة بنصب الصلاة كما في النور، أي تخفيفا بحذف النون كما يحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وهي قراءة الحسن وأبي عمر. وفي رواية كما في إعراب السمين. وفي رواية الطبراني فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمدا قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وأسقط من كلام ابن عقبة، وقال رجال منه: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وهؤلاء منافقون.

"وقال رجال منهم" مؤمنون، قد تمكن الإيمان من قلوبهم، وهم الذين غشاهم النعاس أمنة:"إن كا رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل" شكوا في الأخبار لما وقر في قلوبهم، واطمأنت عليه نفوسهم أنه صلى الله عليه وسلم لا بد وأن يظهره الله على أعدائه، ويفتح له الفتح المبين، وهم أهل الصدق واليقين، "أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء منهم أنس بن مالك بن النضر" بنون وضاد معجمة ساكنة، "شهد له بها" بهذه المقالة، "عند النبي صلى الله عليه وسلم" بعد قتله يومئذ "سعد بن معاذ" سيد الأوس.

"قال" الحافظ اليعمري "في عيون الأثر: كذا وقع في هذا الخبر أنس بن مالك، وإنما هو

ص: 416

أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى.

وثبت النبي صلى الله عليه وسلم...................................................................

أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر، انتهى" وهو تعقيب حسن كما في النور، والجمع بإمكان أن كلا قال ذلك فاسد لصغر أنس عن قول مثل ذلك في المشاهد، فقد صح أنه خدم النبي لما قدم المدينة وهو ابن عشر سنين، فيكون يوم أحد ابن ثلاث عشرة سنة، فإن كان حضر الوقعة، فإنما كان في خدمة المصطفى، أو مع عمه على نحو ما مر في بدر.

وقد روى ابن إسحاق أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك جاء إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل العدو فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك. فحدثني حميد الطويل، عن أنس قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته عرفته ببنانه.

وفي الصحيح عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون قال: اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.

قال الحافظ: وأو للتقسيم لا للشك، قال: وسياق الحديث يشعر بأن أنس بن مالك إنما سمع هذا الحديث من سعد بن معاذ؛ لأنه لم يحضر قتل عمه، انتهى. وهذا مما يرد الجمع المار، "وثبت النبي صلى الله عليه وسلم" بإجماع.

قال ابن سعد: ما يزول يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا، ويرمي بالحجر. وروى البيهقي عن المقداد: فوالذي بعثه بالحق ما زالت قدمه شبرا واحدا، وإنه لفي وجه العدو، وتفيء إليه طائفة من أصحابه مرة، وتفترق مرة، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر حتى انحازوا عنه.

وروى أبو يعلى بسند حسن عن علي لما انجلى الناس يوم أحد، نظرت في القتلى فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن أرى أن الله غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيه فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملت على

ص: 417

وانكشفوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسبعة من الأنصار.

وفي البخاري: لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا اثنا عشر رجلا

القوم فأفرجوا إلي، فإذا أنا برسول الله بينهم، أي: يقاتلهم صلى الله عليه وسلم.

وروى الحاكم في المستدرك بسند على شرط مسلم، عن سعد: لما جال الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الجولة يوم أحد، قلت: أذود عن نفسي فإما أن أستشهد، وإما أن ألحق حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذا رجل مخمر وجهه، ما أدري من هو، فأقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه، فملأ يده من الحصى، ثم رمى به في وجوههم فتنكبوا على أعقابهم القهقري حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا، ولا أدري من هو وبيني وبينه المقداد، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه، إذ قال المقداد: يا سعد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقلت: وأين هو، فأشار لي إليه، فقمت ولكأنه لم يصبني شيء من الأذى، وأجلسني أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك، فارم به عدوك، ورسول الله يقول:"اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته وأجب دعوته"، حتى إذا فرغت من كنانتي، نثر صلى الله عليه وسلم ما في كنانته، فنبلني سهما نضا. قال: وهو الذي قد ريش وكان أشد من غيره.

"وانكشفوا عنه" قال محمد بن سعد، "وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه" وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، "وسبعة من الأنصار" أبو دجانة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقيل: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة بدل الأخيرين، ذكره الواقدي كما في الفتح، وذكر غيره في المهاجرين علي بن أي طالب، وكان من لم يذكره لأنه كان حامل اللواء بعد مصعب، فلا يحتاج إلى أن يقال ثبت، قال في السبل، ويقال ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع.

"وفي البخاري" في حديث البراء الذي قدم المصنف منه قطعتين عقب قوله في الثانية: فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فـ" لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا اثنا عشر رجلا" ولفظه: فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا.

زاد ابن عائذ من مرسل عبد الله بن حنطب من الأنصار.

وفي مسلم عن أنس أفرد صلى الله عليه وسلم يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فقول

ص: 418

فأصابوا منا سبعين، وكان عليه الصلاة والسلام وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.

طلحة وسعد إنه لم يبق معه غيرهما رواه البخاري، أي من المهاجرين.

وعند الحاكم أن المقداد ممن ثبت، فيحتمل أنه حضر بعد تلك الجولة، وللنسائي والبيهقي بسند جيد عن جابر، تفرق الناس يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة، وهو كحديث أنس إلا أنه زاد ثلاثة، فلعلهم جاءوا بعد، ويجمع بينه وبين حديث غير طلحة وسعد، بأن سعدا جاءهم بعد ذلك كما مر عنه، وأن المذكورين من الأنصار استشهدوا كما في مسلم عن أنس، فقال صلى الله عليه وسلم:"من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة" فقام رجال من الأنصار فاستشهدوا كلهم، فلم يبق غير طلحة وسعد، ثم جاء بعدهم من جاء، وسمى ابن إسحاق بسنده ممن استشهد من الأنصار الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ زياد بن السكن، قال: وبعضهم يقول: عمارة بن زياد بن السكن في خمسة من الأنصار، واختلاف الأحاديث باعتبار اختلاف الأحوال، وأنهم تفرقوا في القتال، فلما ولى من ولى، وصاح الشيطان، اشتغل كل واحد بهمه والذب عن نفسه، كما في حديث سعد، ثم عرفوا عن قرب بقائه صلى الله عليه وسلم فتراجعوا إليه أولا فأولا، ثم بعد ذلك كان يقدمهم إلى القتال، فيشتغلون به، ذكره الحافظ ملخصا، وذكر بعض شراح البخاري أن الانثي عشر قيل هم العشرة، وجابر، وعمار، وابن مسعود.

قال الحافظ في مقدمة الفتح: هذا غلط من قائله إنما ذلك حال الانفضاض يوم الجمعة، وقد ثبت في الصحيح أن عثمان لم يبق معه.

وقال البرهان: وهؤلاء ثلاثة عشر، وكأنه انتقل حفظه من الانفضاض في الجمعة إلى هنا. "فأصابوا منا" أي: من المسلمين، وفي رواية منهم "سبعين" قتيلا، "وكان عليه الصلاة والسلام" وأصحابه أصابوا" هكذا رواه الكشميهني ولغيره أصاب فينبغي كما قال شيخنا قراءة، وأصحابه بالنصب مفعولا معه، أي: أصاب مع أصحابه "من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا" كما أشير إليه بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] .

قال الحافظ: وروى سعيد بن منصور من مرسل أبي الضحى: قتل يوم أحد سبعون، أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان وسائرهم من الأنصار، وبهذا جزم ابن إسحاق، وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي بين كعب قال: أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون من المهاجرين، ستة، وكان الخامس سعدا مولى حاطب بن أبي بلتعة، والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني شمس.

ص: 419

فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات،

وذكر المحب الطبري عن الشافعي أنهم اثنان وسبعون، وعن مالك خمسة وسبعون من الأنصار خاصة أحد وسبعين، وسرد أبو الفتح اليعمري أسماءهم فبلغوا ستة وتسعين من المهاجرين، أحد عشر وسائرهم من الأنصار منهم من ذكره ابن إسحاق، والزيادة من عند موسى بن عقبة، أو ابن سعد، أو هشام بن الكلبي، ثم ذكر عن ابن عبد البر، وعن الدمياطي أربعة، أو خمسة: قال: فزادوا على المائة.

قال اليعمري: قد ورد في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، فإن ثبت، فالزيادة ناشئة عن الخلاف في التفصيل، وليست زيادة في الجملة.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي يعول عليه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي عن علي: أن جبريل هبط فقال: خيرهم في أسارى بدر القتل، أو الفداء على أن يقتل منهم قابل مثلهم. قالوا: الفداء ويقتل منا.

قال اليعمري: ومن الناس من يجعل السبعين من الأنصار خاصة، وبه جزم ابن سعد.

قال الحافظ: فكان الخطاب بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ} [آل عمران: 165] ، للأنصار خاصة، ويؤيده قول أنس: أصيب منا يوم أحد سبعون وهو في الصحيح بمعناه، انتهى.

قال الحافظ برهان الدين الحلبي: ولم أر أحدا ذكر أسرى في أحد، وما وقع في بعض نسخ سيرة مغلطاي الصغرى، وتفسير الكواشي من أنه أسر سبعون، ويقال: خمسة وستون، فغلط وخطأ أو شاذ منكر لا التفات إليه.

"فقال أبو سفيان" لما انحاز الفريقان وأراد الانصراف إلى مكة: "أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فناههم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه" هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد، ولفظه في كتاب المغازي: وأشرف أبو سفيان، فقال: أفي القوم محمد؟، فقال:"لا تجيبوه"، وهي التي وقف عليها شيخنا، فاعترض على المصنف بها وهو معذور، "ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ " أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان، "ثلاث مرات" هكذا ثبت في الجهاد من البخاري، وفي المغازي قال: أي النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تجيبوه". "ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب" عمر، "ثلاث مرات".

قال المصنف: والهمزة في الثلاثة للاستفهام الاستخباري ونهيه عليه السلام عن إجابة

ص: 420

ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لكما يسوءك، قال: يوم بيوم، والحرب سجال.

أبي سفيان تصاونًا عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وعن خصام مثله. وكان ابن قمئة قال لهم: قتلته "ثم رجع" أبو سفيان عن السؤال "إلى" أخبار "أصحابه،" فلا ينافي ما قيل إنه ناداهم وهو على فرسه في مكانه، "فقال: أما،" بشد الميم، "هؤلاء فقد قتلوا".

وفي المغازي فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، "فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت" والله "يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم".

قال المصنف: إنما أجابه بعد النهي حماية للظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قتل وأن بأصحابه الوهن فليس فيه عصيان له في الحقيقة، انتهى، يعني على ظاهر حديث البخاري هذا في الجهاد والمغازي، وإلا ففي فتح الباري في حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم أن عمر قال: يا رسول الله ألا أجيبه؟ قال: "بلى"، فكأنه نهى عن إجابته في الأولى، وأذن فيها في الثالثة، انتهى. ولا منافاة بين الحديثين لأن عمر لم يتمكن من إدامة ترك الجواب، فاستأذنه صلى الله عليه وسلم فأذن له، فأجابه سريعًا "وقد بقي لك ما يسوءك".

قال المصنف: يعني يوم الفتح، وهذا لفظ البخاري في الجهاد، ولفظه في المغازي: أبقى الله عليك، وفي لفظ: لك ما يحزنك. قال المصنف: بالتحتية المضمومة، وسكون الحاء المهملة بعدها نون ساكنة أو بالمعجمة وبعدها تحتية ساكنة، انتهى.

"قال" أبو سفيان: "يوم بيوم بدر" أي: هذا اليوم في مقابلة يوم بدر، وفي حديث ابن عباس، فقال عمر: لا سواء قتلاا في الجنة وقتلاكم في النار. قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا، "والحرب سجال" قال الحافظ وغيره: بكسر المهملة وتخفيف الجيم، أي: دول مرة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء.

وفي حديث ابن عباس: الأيام دول والحرب سجال، واستمر أبو سفيان على اعتقاد ذلك حتى قاله لهرقل وقد أقر، بل نطق صلى الله عليه وسلم بقوله:"الحرب سجال"؛ كما في حديث أوس بن أوس عند ابن ماجه، ويؤيده قوله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، بعد قوله:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] ، فإنها نزلت في قصة أحد بالاتفاق، والقرح: الجراح، انتهى.

قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلي يا عمر، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر:"ائته فانظر ما شأنه"، فقال: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدًا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك

ص: 421

وتوجه صلى الله عليه وسلم أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، والذي جرح وجهه الشريف عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد هو الذي كسر رباعيته،

الآن، قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.

قال الحافظ: في الحديث منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤهم لا يعرفون غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما، ولم يسأل عن هؤلاء الثلاثة إلا لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. "وتوجه صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون، فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته" بفتح الراء وتخفيف الموحدة، والجمع رباعيات، وهي السن التي بين الثنية والناب، والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها، قاله في الفتح والنور، "والذي جرح وجهه الشريف عبد الله"، وسماه ابن القيم في الهدى عمرو "بن قمئة، لكن بالأول جاء حديث أبي أمامة الآتي، وبه جزم ابن هشام، "وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد،" أحد العشرة، "هو الذي كسر رباعيته" لأنه رماه بأربعة أحجار، فكسر حجر منها رباعيته.

روى ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله".

وروى عبد الرزاق في تفسيره من مرسل مقسم، وسعيد بن المسيب، أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة حين كسر رباعيته ودمى وجهه، فقال:"اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا" فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.

وروى الحاكم في المستدرك بإسناد فيه مجاهيل عن حاطب بن أبي بلتعة، أنه لما رأى ما فعل قال: يا رسول الله، من فعل بك هذا؟، قال:"عتبة" قلت: أين توجه؟ فأشار إلى حيث توجه، فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف، فطرحت رأسه، فنزل، فأخذت رأسه وفرسه وسيفه، وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى ذلك، ودعا لي، فقال:"رضي الله عنك" مرتين.

قال الحافظ: وهذا لا يصح لأنه لو قتل إذ ذاك كيف كان يوصي أخا سعدا، وقد يقال لعله ذكر له، قبل وقوع الحرب احتياطا، انتهى.

قال ابن إسحاق: وقال حسان لعتبة:

إذا الله جازى معشرا بفعالهم

ونصرهم الرحمن رب المشارق

فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك

ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق

بسطت يمينا للنبي تعمدا

فأدميت فاه قطعت بالبوارق

ص: 422

ومن ثم لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم -أي مكسور الثنايا من أصلها- يعرف ذلك في عقبه.

وقال ابن هشام: في حديث أبي سعيد الخدري: إن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب

فهلا ذكرت الله والمنزل الذي

تصير إليه عند إحدى البوائق

قال ابن هشام: تركت منها بيتين أقذع فيهما وفي هذا كله أنه مات كافرا.

قال في الإصابة في القسم الرابع فيمن ذكر في الصحابة غلطا لم أر من ذكره في الصحابة إلا ابن منده، واستند لقول سعد في ابن أمة زمعة: عهد إلى أخي عتبة أنه ولده، وليس فيه ما يدل على إسلامه، وقد شدد أبو نعيم في الإنكار على ابن منده، واحتج بما مر عن عبد الرزاق، وفي الجملة ليس من الآثار ما يدل على إسلامه بل فيها ما يصرح بموته على الكفر كما مضى، فلا معنى لإيراده في الصحابة، انتهى.

"ومن ثم" كما قال في الروض: "لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث" أي: أوانه، وهو الحلم كما عبر به السهيلي، "إلا وهو أبخر"، منتن الفم. وقال صاحب الخميس: أي: عطشان لا يروى. وفي القاموس: البخر العطش، فلا يروى من الماء، "أو اهتم، أي: مكسور الثنايا من أصلها يعرف ذلك في عقبه" هكذا لفظ الروض أبخر، أو أهتم بأو، كما رأيته فيه، وكما نقله في النور عنه، وهو يفيد أن الحاصل لهم أحد الأمرين لا هما معا، ووقع في نقل السبل عن الروض بحذف أو، فإن لم تكن سقطت أو من الكاتب فكان نسخ الروض اختلفت، فتجعل أو مانعة خلو، فلا ينافي الجمع في نسله بينهما، ولم يحصل مثل ذلك في نسل ابن شهاب، وابن قمئة؛ لأن أثر جراحتهما لم يدم بخلاف كسر الرباعية، فباق وإن لم يشنه صلى الله عليه وسلم لا سيما والزهري أسلم، فجب ما قبله هذا.

وروى ابن الجوزي والخطيب في تاريخه، عن محمد بن يوسف الحافظ الفريابي قال: بلغني أن الذي كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم لم يولد له صبي، فتنبت له رباعية، وجمع شيخنا بينهما بحمل الثنايا في المصنف على الرباعية لمجاورتها لها، والكسر على عدم نباتها من أصلها.

"وقال ابن هشام" عبد الملك في السيرة: من زيادته على ابن إسحاق، "في حديث أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى" هذا فائدة ذكره رواية ابن هشام؛ لأن فيها تعيين الرباعية المبهمة في الرواية السابقة، ولقوله: "جرح شفته السفلى" ولقوله: "وإن عبد الله بن شهاب" بن عبد الله بن الحارث بن زهرة

ص: 423

الزهري شجه في جبهته، وإن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين.

وفي رواية: وهشموا البيضة على وجهه -أي كسروا الخوذة- ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما،

ابن كلاب القرشي "الزهري" جد الإمام الفقيه من قبل أبيه، شهد أحدًا مع الكفار، ويقال: هو الذي شج وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعد ذلك، ومات بمكة.

قاله أبو عمر تبعا للزبير بن بكار، وذكر البلاذري أنه مات في أيام عثمان، وأما جده من قبل أمه وهو أخو هذا، واسمه أيضا عبد الله، فكان من السابقين، ذكره الزهري والزبير والطبري فيمن هاجر إلى الحبشة، ومات بمكة قبل هجرة المدينة. زاد ابن سعد: وليس له حديث ذكره في الإصابة.

وفي الروض: أن الأول أصغر من الثاني، واختلف من المهاجر منهما للحبشة، وقيل لابن شهاب: أكان جدك ممن شهد بدرا؟ فقال: نعم، ولكن من ذلك الجانب، يعني مع الكفار، انتهى.

"شجه في جبهته" ذكر البرهان عن بعض أشياخه أن هذا غريب، ولذا مرضه في الإصابة حيث قال: يقال: هو الذي شج وجهه كما رأيت، "وإن ابن قمئة جرح وجنته" مثلث الواو، والأشهر الفتح، أي: ما ارتفع من لحم خده، فحصل في رواية ابن هشام هذه بيان مبهم قوله في الأول جرح وجهه، "فخلت حلقتان من المغفر" بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، قاله المصنف في المقصد الثالث "في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق" كما سماه صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له الراهب، وهو عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي، مات كافرا سنة تسع، وقيل: سنة عشر، ذكرهما ابن عبد البر. وقال غيره: سنة سبع، وقد مر أنه أول من أنشب الحرب، "يكيد بها المسلمين" لفظ ابن هشام من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيه المسلمون وهم لا يعلمون.

"وفي رواية: وهشموا البيضة على وجهه" لفظ مسلم عن عمر: وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه، "أي: كصروا الخوذة ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه" أي: عليه، "في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذ علي بيده واحتضنه" ولفظ ابن هشام، ورفعه "طلحة بن عبيد الله" التيمي، أحد العشرة، "حتى استوى قائما".

وفي الصحيح عن قيس: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وفي

ص: 424

ونشبت حلقتان من المغفر في وجهه الشريف، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه الشريف.

الإكليل: أن طلحة جرح يوم أحد تسعا وثلاثين، أو خمسا وثلاثين، وشل أصبعاه، أي: السبابة والتي تليها. وللطيالسي عن عائشة: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: كان ذلك اليوم كله لطلحة.

وروى النسائي والبيهقي بسند جيد عن جابر: أدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من للقوم"؟ فقال طلحة: أنا، فذكر قتل الذين كانوا معهما من الأنصار، قال: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده، فقطعت أصابعه، فقال: حس، فقال صلى الله عليه وسلم:"لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء ثم رد الله المشركين""ونشبت" بكسر الشين المعجمة، أي: علقت، والمراد دخلت، "حلقتان" تثنية حلقة بسكون اللام، "من المغفر في وجهه الشريف" أي: في وجنته بسبب جراح ابن قمئة وجنته، كما بينه في رواية ابن هشام التي قبل هذه الرواية، "فانتزعهما أبو عبيدة" عامر بن عبد الله "بن الجراح" أحد العشرة، أمين هذه الأمة، "وعض عليهما حتى سقطت ثنتياه" في مرتين، "من شدة غوصهما في وجهه الشريف" كما روى ابن إسحاق عن أبي بكر بسند صحيح: أن با عبيدة نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين.

وفي الاستيعاب قيل: إن عقبة بن وهب بن كلدة هو الذي نزع الحلقتين، وقيل: أبو عبيدة.

قال الواقدي: قال عبد الرحمن بن أبي الزياد: نرى أنهما جميعا عالجاهما وأخرجاهما من وجنتي النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

وفي الرياض النضرة قيل: إن المنتزع أبو بكر، انتهى. فيجوز أن الثلاثة عالجوهما، وقول النور قوله يعني اليعمري في العيون: أن طلحة بن عبيد الله نزع إحدى الحلقتين وهم، فلم يقع ذلك في العيون ولا في غيرها.

وروى أبو حاتم عن الصديق: رمي صلى الله عليه وسلم ووجنته، فأهويت إلى السهم لأنزعه، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر ألا تركتني، فتركته، فأخذ أبو عبيدة الهم بشفته، فجعل يحركه ويكره أن يؤذيه صلى الله عليه وسلم ثم استله بفيه.

قال في الرياض النضرة: يجوز أن السهمين أثبتا حلقتي الدرع، فانتزع الجميع فسقطتا لذلك، انتهى.

ص: 425

وامتص مالك بن سنان -والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الدم من وجنته ثم ازدرده، فقال عليه الصلاة والسلام:"من مس دمي لم تصبه النار"، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه عليه الصلاة والسلام.

وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه:"أقماك الله"، فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.

وعند الواقدي عن أبي سعيد: أن الحلقتين لما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن بسين مهملة وضم الراء، أي: يجري، "وامتص" أي: مص، وبه عبر ابن هشام، "مالك بن سنان، والد أبي سعيد" سعد، "الخدري رضي الله عنهما الدم من وجنته، ثم ازدرده" كله على ظاهر رواية ابن هشام هذه، لكن في رواية: أنه جعل يأخذ الدم بفيه، ويمجه ويزدرد منه، فقال له:"أتشرب الدم"؟ فقال: نعم يا رسول الله، "فقال عليه الصلاة والسلام:"من مس دمي لم تصبه" وفي رواية: "لم تمسه""النار"، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه عليه الصلاة والسلام وهو الطهارة على الراجح، ومجموع من قيل: إنه شرب دمه لا في خصوص هذا اليوم مالك بن سنان هذا، وعلي، وابن الزبير، وأبو طيبة الحجام، وسالم بن أبي الحجاج وسفينة مولى المصطفى.

"وفي الطبراني من حديث أبي أمامة" صدى بصاد ودال مفتوحة مهملتين، ابن عجلان الباهلي، "قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فشج وجهه وكسر رباعيته" مر إن الذي كسرها عتبة بن أبي وقاص، وجعلهم صاحب المنتقى قولين، وجمع شيخنا بأن عتبة كسرها أولا، فلما شجه ابن قمئة، أثرت ضربته في رباعيته، فنسب كسرها له، "فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه:"أقمأك الله".

قال البرهان: بهمزة مفتوحة في أوله، وأخرى في آخره، أي: صغرك وذلك، "فسلط الله عليه تسيل جبل" وهو ذكر الظباء، فإن لم يضف للجبل فذكر المعز، "فلم يزل" أي: استمر، "ينطحه حتى قطعه" فعل، وفاعل ومفعول، "قطعة قطعة" أي: قطعة بعد قطعة.

وروى ابن عائذ عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر، قال: انصرف ابن قمئة عن ذلك اليوم إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذروة جبل، فأخذ فيها يعترضها، ويشد عليه تيسها، فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل، فتقطع وهو منقطع، كما قال الحافظ: فإن أردت الترجيح، فرواية الطبراني موصولة، فتقدم على المنقطع، ولذا اقتصر عليها المصنف، وإن أردت الجمع

ص: 426

وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسحه ويقول:"كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم"، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:

فيمكن أنه لما نطحه تيس غنمه، وقع من هاشق الجبل إلى أسفل، فسلط الله عليه تيس الجبل، فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله.

"وروى ابن إسحاق" محمد في السيرة، "عن حميد الطويل" الخزاعي البصري، ثقة تابعي صغير حافظ، توفي وهو قائم يصلي سنة أربعين ومائة، وقيل: سنة ثلاث، وقيل: اثنتين، وله خمس وسبعون سنة، واختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، قيل: كان طويل اليدين، فلقب بذلك.

وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن طويلا، لكن كان له جار يعرف بحميد القصير، فقيل له: الطويل، ليعرف من الآخر.

ولفظ ابن إسحاق: حدثني حميد، وكان الأولى للمصنف أن يأتي به؛ لأن ابن إسحاق وإن كان ثقة حافظا، لكنه يدلس فلا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث، كما هو الواقع هنا، ثم حميد يدلس أيضا، ولذا علقه البخاري، وقرنه بثابت، فقال: حميد وثابت، "عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسحه، ويقول:"كيف" استفهام تعجب، "يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم" وذلك مقتض لمزيد إكرامه، وإنزالهم إياه منزلة الروح من الجسد لا إيذائه، "فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم، وجهادهم وشيء اسمه ليس ولك خبر، ومن الأمر حال من شيء لأنها صفة مقدمة، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} إن أسلموا فنسر به، {أَوْ يُعَذِّبَهُم} إن أصروا فتشتفي منهم، وأو بمعنى إلا أن كما قطع به الجلال، وزاد البيضاوي: أو عطف على الأمر، أو شيء بإضمار أن، أي: أليس لك شيء من أمرهم، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم، {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} [آل عمران: 128] ، بالكفر، وأما جعله عطفا على قوله: ليقطع طرفا من الذين كفروا، كما جزم به المصنف في شرح الصحيح، أو على قوله: أو يكبتهم وليس لك من الأمر اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، كما هو أحد الوجوه في البيضاوي، فقيه وقفة؛ لأن عامل يكبتهم هو قوله: ليقطع، وهو متعلق بقوله: نصركم، فكيف يكون سبب لنزول قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ} الآية، المسوق لغير ما سيق له ما قبله، ثم قوله فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ

ص: 427

128] . ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طرق حميد به.

وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعي: بلغنا أنه لما جُرِحَ صلى الله عليه وسلم يوم أحد، أخذ شيئًا فجعل ينشف دمه ويقول: "لو وقع شيء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء،

شَيْءٌ} الآية. ليس قول المصنف، بل قول أنس، وحكمه الرفع، فإنه في ابن إسحاق، كما ذكر المصنف حرفًا بحرف لم يتصرَّف عليه إلّا في إبدال، حدَّثني حميد بقوله عن حميد، وقد رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس بلفظ: فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. "ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طرق، عن حميد" عن أنس، "به" إشارة إلى ابن إسحاق، لم ينفرد به عن حميد، والحديث صحيح.

وروى البخاري أيضًا، وأحمد، والنسائي والترمذي في سبب نزول الآية، عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر:"اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا، بعدما يقول سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد"، فأنز الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، وجمع الحافظ بأنه دعا على المذكورين في صلاته، بعدما وقع له يوم أحد، فنزلت الآية فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم.

قال: لكن يشكل ذلك بما في مسلم عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الفجر: "اللهم العن لحيان ورعلًا، وذكوان وعصية" حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ووجه الإشكال أنَّ الآية نزلت في قصة أحد، وقصة رعل وذكوان بعدها، ثم ظهرت لي علة الخبر، وأنَّ فيه إدراجًا، فإن قوله: حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمَّن بلغه، بَيِّنَ ذلك مسلم، وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته، ويحتمل أن قصتهم كانت عقب ذلك، وتأخَّر نزول الآية عن سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك، وقال في محل آخر فيه بعد: والصواب أنها نزلت بسبب قصة أحد، انتهى.

"وعند" الحافظ محمد "بن عائذ" -بتحتية وذال معجمة- الدمشقي الكاتب، صاحب المغازي وغيرها، وثَّقه ابن معين وغيره، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، "من طريق الأوزاعي،" عبد الرحمن بن عمرو، إمام أهل زمانه.

قال ابن سعد: ثقة مأمون صدوق، فاضل خيِّر، كثير الحديث والعلم والفقه، وُلِدَ سنة ثمان وثمانين، ومات في الحمام سنة سبع وخمسين ومائة.

قال: "بلغنا أنه لما جُرِحَ صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخذ شيئًا، فجعل ينشف دمه" فيه ليمنعه من النزول على الأرض، "ويقول:"لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء" لعل

ص: 428

ثم قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: ضُرِبَ وجه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها. قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها، أو المبالغة في الكثرة. انتهى.

وقاتلت أم عمارة نسيبة

حكمته أنَّ نزوله يحقق مرادهم من آذاه، ويدوم فيما أصابه من الأرض، وهي محلّ الامتهان، بخلاف إزالته بالمسح، فلم يبق له أثرظاهر، فكأنه لم ينزل، فلا امتهان، وهذا من كمال شفقته وحلمه وعظيم عفوه وكرمه، "ثم" لم يكتف بإزالة ما ينزل العذاب عليهم حتى "قال:" اللهم اغفر لقومي" ، فأظهر سبب الشفقة بإضافتهم إليه، فإن الطبع البشري يقتضي الحنوَّ على القرابة بأي حال، وليبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان، ثم اعتذر عنهم، فقال:"فإنهم لا يعلمون" ، فاعتذر عنهم بالجهل الحكمي، لعدم جريهم على مقتضى علمهم، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البينات عذرًا تضرعًا إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم، أو من ذريتهم مؤمن، وقد حقق الله رجاءه، ولم يقل: يجهلون تحشينًا للعبارة، ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، ثم استشكل هذا بنحو قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، وإن كان سببها خاصًّا فهي عامَّة في حق كل مشرك، وأجيب كما قال السهيلي في الروض: بأنَّ مراده الدعاء لهم بالتوبة من الشرك حتى يغفر لهم، بدليل رواية من روى:"اللهم اهد قومي"، وهي رواية عن ابن إسحاق، ذكرها بعض سيرته عنه بهذا اللفظ، وبأنه أراد مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من نحو خسف ومسخ، انتهى.

وفي الينابيع: كان صلى الله عليه وسلم يأخذ قطرات الدم، ويرمي بها إلى السماء، ويقول:"لو وقع منها شيء على الأرض لم ينبت عليها نبات".

"وروى عبد الرزاق" بن همام الحافظ الصنعاني، "عن معمر" بن راشد الأزدي البصري، نزيل اليمني، الحافظ المتقن، الفقيه الورع، المتوفَّى في رمضان سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة، "عن الزهري قال: ضُرِبَ وجه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ"، أي: يوم أحد، "بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها" فلم يحصل مرادهم بالضرب، ولله المنة.

"قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي" إسناده؛ لأنَّ رجاله من رواة الصحيح، "ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها" على أصل مدلول اللفظ، "أو المبالغة في الكثرة" على عادة العرب في ذلك، "وقاتلت أم عمارة" بضم العين وتخفيف الميم، "نسيبة" بفتح النون، وكسر السين المهملة فمهملة مفتوحة، فهاء كما ضبطها في الإكمال، والتبصير، والإصابة، والنور وغيرهم،

ص: 429

بنت كعب المازنية يوم أحد -فيما قاله ابن هشام، فخرجت أوَّل النهار حتى انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فقمت أباشر القتال وأذبّ عنه بالسيف وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراحة إلي، أصابني ابن قمئة -أقمأه الله تعالى- لما ولَّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت: فاعترضت له، فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته ثلاث ضربات على ذلك، ولكنَّ عدو الله عليه درعان.

قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحًا أجوف له غور.

وقول الشامي بالتصغير على المشهور، عن ابن معين والفربري ككريمة وهم، إنما هذا في نسيبة أم عطية، كما في الفتح الباري في الجنائز، فنقله في أمّ عمارة غلط، "بنت كعب المازنية" من بني مازن بن النجار الأنصارية النجارية.

قال أبو عمر: شهدت العقبة وأحدًا مع زوجها زيد بن عاصم، وولديها حبيب -بحاء مهملة، وكسر الموحدة، وعبد الله، وشهدت بيعة الرضوان، وخرجت يوم اليمامة اثنتي عشرة جراحة، وقطعت يدها، وقتل ولدها حبيب.

روت عن المصطفى، وعنها عكرمة وغيره، "يوم أحد فيما قاله" عبد الملك "بن هشام"، عن سعيد بن أبي يزيد الأنصاري، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عنها قالت:"فخرجت أوَّل النهار حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فقمت أباشر القتال وأذبّ عنه" صلى الله عليه وسلم، "بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت" أي: وصلت، "الجراحة" هذا، فاللام للحضور، "إليَّ" بالتشديد، من أجل أن "أصابني ابن قمئة -أقمأه الله" بهمزتين مفتوحتين أوّله وآخره، "لما ولَّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، قالت: فاعترضت" أي: تعرَّضت "له" لأمنعه عنه صلى الله عليه وسلم، أنا، ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت معه -صلى الله عليه وسل، كما قالته عند ابن هشام، "فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته على ذلك ضربات" وثبت لفظ ثلاث عند ابن هشام، وسقط من أكثر نسخ المصنف، "ولكن عدوَّ الله عليه درعان،" فلم تؤثر فيه ضرباتي.

"قالت" رواية هذا الحديث عنها "أم سعد" واسمها جميلة، كما قال ابن سعد، "بنت سعد بن الربيع" الصحابية بنت الصحابي، قُتِلَ أبوها يوم أحد، وكانت يتيمة في حجر الصديق، وقيل: إنها زوجة زيد بن ثابت، أخرج لها أبو داود، "فرأيت على عاتقها جرحًا أجوف له غور،" فبيَّنَت صفة الجراحة ومحلها، وأخرج الواقدي عن عمارة ابن غزية: إن أم عمارة قتلت يومئذ فارسًا من المشركين، وبسند آخر عن عمر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما التفت يوم أحد

ص: 430

وتترِّس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو ينحني عليه حتى كثر فيه النبل وهو لا يتحرك.

ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل ويقول: "ارم فداك أبي وأمي،

يمينًا، ولا شمالًا إلّا وأراها تقاتل دوني"، "وتترَّس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: جعل نفسه كالترس المانع من وصول سهام العدو إليه، "فيما قاله ابن إسحاق، أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره، وهو ينحني عليه حتى كثر فيه النبل، وهو لا يتحرك، ورمى سعد بن أبي وقاص" مالك الزهري، أحد العشرة، "دون رسول الله صلى الله عليه وسلم" بألف سهم، كما رواه الحاكم، وبعضها من سهام المصطفى حين فرغت سهام سعد.

"قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، ويقول: "ارم فداك أبي وأمي" بكسر الفاء وتفتح، أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل، لفديتك بأبوي اللذين هما عزيزان عندي، والمراد من التفدية لازمها، أي: ارم مرضيًا، قاله المصنف.

وقال النووي: والمراد بالتفدية الإجلال والتعظيم؛ لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظّمه، وكأنَّ مراده بذلت نفسي، أو مَنْ يعزّ علي في مرضاتك وطاعتك. انتهى.

وروى البخاري عن سعد: نثل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد، فقال:"ارم فداك أبي وأمي".

وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي وابن ماجه عن علي:"ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلّا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: "يا سعد، ارم فداك أبي وأمي".

وفي رواية أخرى عن علي: ما جمع صلى الله عليه وسلم أبويه إلّا لسعد.

قال السهيلي: والرواية الأولى أصح، والله أعلم؛ لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع. وقد قال الزبير ن العوام أنه جمع له أبويه، وقال له كما قال لسعد، رواه الزبير بن بكار. انتهى. أي: في هذا اليوم كما هو صريحه، وبه صرَّح في رواية أخرى.

وروى الشيخان عن الزبير قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم بني قريظة.

قال البرهان: ويحتمل أن عليًّا أراد تفدية خاصَّة؛ لأن الحاكم روى أن سعدًا رمى يوم أحد بألف سهم، وفي شرف المصطفى ما منها سهم إلّا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له:"ارم فداك أبي وأمي"، فلم يفد أحدًا ألف مرة على هذا إلّا سعد بن أبي وقاص، انتهى.

قال القاضي عياض: ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك، سواء كان المفدى به مسلمًا أو كافرًا.

قال النووي: وجاء من الأحاديث الصحيحة ما لا يحصى.

ص: 431

حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول: "ارم به".

وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وردَّها إلى موضعها وقال:"اللهم اكسه جمالًا"، فكانت أحسن عينيه وأحدُّهما نظرًا. ورواه الدارقطني بنحوه، ويأتي إن شاء الله تعالى لفظه

وقال السهيلي عن شيخه ابن العربي: فقه هذا الحديث جوازه إن كان أبواه غير مؤمنين وإلّا فلا؛ لأنه كان كالعقوق.

قال البرهان: وقد فدى الصديق النبي صلى الله عليه وسلم بأبويه حين كانا مسلمين، وقد لا يمنع ابن العربي هذه المسألة؛ لأنه يجب على الخلق تفديته، بالآباء والأمهات والأنفس، انتهى.

وصار صلى الله عليه وسلم يناول سعد السهام كيفما اتفق، "حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول:"ارم به" كما عند ابن إسحاق، "وأصيبت" بسهم، ويقال: برمح، "يومئذ" أي: يوم أحد، وقيل: يوم بدر، وقيل: يوم الخندق، والأول أصح، قاله في الاستيعاب.

"عين قتادة بن النعمان" بن زيد الأوسي المدني، شهد جميع المشاهد معه صلى الله عليه وسلم، سمعه عليه السلام يقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] يردِّدها، فقال:"وجبت"، وحديثه في الموطأ، توفي سنة ثلاث وعشرين عن خمس وستين سنة، وصلى عليه عمر، "حتى وقعت على وجنته"، وقيل: صارت في يده، "فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

زاد في الصفوة فقال له: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها، ودعوت الله لك فلم تفقد منها شيئًا"، فقال: يا رسول الله، إن الجنة لجزاء جميل وطاء جليل، ولكني رجل مبتلى بحب النساء، وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني، ولكن تردها وتسأل الله لي الجنة، فقال:"أفعل يا قتادة".

وفي الروض: وإن لي امرأة أحبها، وأخشى إن رأتني تقذرني، "فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وردَّها إلى موضعها، وقال: "اللهم اكسه جمالًَا".

وعند الطبراني وأبي نعيم، عن قتادة: كنت أتقي السهام بوجهي دون وجهه صلى الله عليه وسلم، فكان آخرها سهمًا ندرت منه حدقتي، فأخذتها بيدي، وسعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها في كفِّي دمعت عيناه فقال:"اللهم قِ قتادة، كما وقى وجه نبيك، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرًا"، "فكانت أحسن عينيه وأحدّهما" أقواهما "نظرًا".

زاد في رواية: وكان لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وفي رواية: إنها صارت لا تعرف، ولا يدري أيتهما التي سالت على خده، "ورواه الدارقطني بنحوه، ويأتي إن شاء الله تعالى لفظه"

ص: 432

في مقصد المعجزات.

ورمي أبو رهم الغفاري كلثوم بن الحصين بسهم فوقع في نحره، فبصق عليه صلى الله عليه وسلم فبرئ.

وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عرجونًا فعاد في

وهو: أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما، فعادتا تبرقان.

قال الدارقطني: تفرَّد به عن مالك عمارُ بن نصر، وهو ثقة، هكذا ساق لفظه "في مقصد المعجزات" هو الرابع، فلا يصح الجمع بأنَّ إحداهما وقعت على وجنته، والأخرى أصيبت، لكنها لم تصل إلى مثل ما وصلت إليه الأخرى؛ لأنه صرَّح في رواية العينين، كما ترى بأنهما معًا، فأسقطتا على وجنتيه. وقد قال النووي: وقال أبو نعيم: سالت عيناه، وغلطوه.

قال البرهان في النور، وروى الأصمعي عن أبي معشر قال: قدم على عمر بن عبد العزيز رجل من ولد قتادة بن النعمان، فقال: ممن الرجل؟ فقال:

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه

فردت بكف المصطفى أحسن الرد

فعادت كما كانت لأول أمرها

فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد

فقال عمر:

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا

انتهى.

وفي رواية: فقال عمر: بمثل هذا فليتوسّل المتوسِّلون، ووصله وأحسن جائزته، وقوله: ويا حسن ما خد، هكذا رواية الأصمعي، وبها استدرك البرهان إنشاده اليعمري، ويا حسن ما رَدَّ وعلى صحتها فلا إيطاء فيه؛ لأنَّ الأوّل معرف، والثاني منكر، هذا ووقع في مسند أبي يعلى الموصلي أنَّ أبا ذر أصيبت عينه يوم أحد، وفيه عبد العزيز بن عمران، متروك، وأبو ذر لم يحضر بدرًا، ولا أحدًا ولا الخندق، قاله في الاستيعاب.

"ورُمِيَ" بالبناء للمفعول، ونائبه "أبو رهم الغفاري، كلثوم بن الحصين" بن خالد، أحد من بايع تحت الشجرة، واستخلفه عليه السلام على المدينة في عمرة القضاء، وعام الفتح.

وروى الزهري عن ابن أخيه عنه: "بسهم، فوقع في نحره"، قال في النور: فسمي المنحور، "فبصق عليه صلى الله عليه وسلم فبرئ"، في هذا كسابقه معجزة باهرة، "وانقطع" كما ذكر الزبير بن بكار، "سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عرجونًا" لفظ الزبير: عرجون نخلة، "فعاد في

ص: 433

يده سيف، فقاتل به، وكان ذلك السيف يسمَّى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركي من أمراء المعتصم بالله في بغداد بمائتي دينار.

وهذا نحو حديث عكاشة السابق في غزوة بدر، إلّا أن سيف عكاشة كان يسمَّى العون، وهذا يسمَّى العرجون.

واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشراف أصحابه.

يده سيفًا، فقاتل به" حتى قُتِلَ رضي الله عنه، قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، ثم قتله علي بعده، ودُفِنَ هو وخاله حمزة في قبرٍ واحد كما يأتي. "وكان ذلك السيف يسمَّى العرجون" باسم أصله قبل الآية الباهرة، "ولم يزل يتوارث" هذا لفظ السهيلي عن الزبير. ولفظ أبي عمر عنه: يتناول، واليعمري عنه: يتناقل، والمعنى قريب، وإنما ذكرته لأنَّ البرهان استدرك على اليعمري بأبي عمر، "حتى بيع من بغا التركي من أمراء المعتصم بالله" الخليفة العباسي، إبراهيم بن هارون الرشيد، "في بغداد بمائتي دينار"، وهذا" كما قال السهيلي، "نحو حديث عكاشة -بضم العين وشد الكاف وتخفف- ابن مصحن "السابق في غزوة بدر، إلّا أن سيف عكاشة كان يسمَّى العون -بفتح العين، وسكون الواو بعدها نون، وهذا يسمَّى العرجون" -بضم العين وسكون الراء، وجيم، فواو فنون؛ لأنه عرجون نخلة، فافترقا، "واشتغل المشركون" ذكورًا وإناثًا، فهو تغليب.

وذكر النساء بعد من عطف الخاص على العام، لمبالغتهنَّ وإظهارهنَّ الفرح "بقتلى المسلمين يمثلون بهم" -بفتح الياء، وضم المثلثة مخففة، وبضم الياء وفتح الميم، وكسر المثلثة مشددة- أي: بجميعهم.

قال في العيون: إلّا حنظلة بن أبي عامر، فإن أباه كان معهم فلم يمثلوا به، ذكره ابن عقبة. انتهى، لكنه مختلف، فبالغوا في بعضهم دون بعض. "يقطعون الآذان" بدل من يمثلون، "والأنوف" جمع أنف، ويجمع أيضًا على آناف وآنف كما في القاموس، حتى اتخذت هند منهما خلاخل، "وقلائد، "والفروج ويبقرون" بفتح الياء، وضم القاف: يشقون "البطون، وهم يظنُّون أنهم أصابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصابوا "أشراف أصحابه" اعتمادًا على قول ابن قمئة، وما وقع بهامش: إنَّ التمثيل إنما وقع من النساء فقط لا يصح، فعند الواقدي، وتبعه الحافظ أبو الربيع بن سالم في مغازيه: أنَّ وحشيًّا بعدما رمى حمزة تركه حتى مات، ثم أتاه وأخذ حربته، وأخرج كبده، وذهب بها إلى هند، وقال لها: هذه كبد حمزة قاتل أبيك، فأخذتها ومضغتها، فلم تقدر

ص: 434

وكان أوَّل مَنْ عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو الشِّعْب، معه أبو بكر وعمر وعلي ورهط من المسلمين، فلمَّا أسند

أن تسيغها، فلفظتها وأعطته ثوبها وحليها، ووعدته عشرة دنانير بمكة، انتهى.

وعند ابن إسحاق: إن سيد الأحابيش الحليس مَرَّ بأبي سفيان وهو يضرب بزجّ الرمح في شدق حمزة ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحمًا، فقال: ويحك اكتمها عني، فإنها كانت زلة.

وفي العيون: كان خارجة بن زيد بن أبي زهير أخذته الرماح يوم أحد، فجُرِحَ بضعة عشر جرحًا، فمَرَّ به صفوان بن أمية فعرفه، فأجهز عليه، ومثَّلَ به، وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر.

"وكان أوَّل" بالفتح خبر مقدّم، والضم اسم، وهو أَوْلَى؛ لأن المبتدأ والخبر إذا عُرِفَا قُدِّمَ المبتدأ، ولأنَّ الذي يقصد بيانه وتعيينه هو الخبر، قرره شيخنا "مَنْ عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد التحدث بقتله وخفائه عن أعينهم، "كعب بن مالك" بن عمرو، الخزرجي السلمي العقبي، أحد الثلاثة الذي تيبَ عليهم في تخلفهم عن تبوك.

روى له الستة، وأحمد في المسند، "قال: عرفت عينيه تزهران،" أي: تضيئان، ومن رواه تزران، فمعناه تتوقدان، قاله أبو ذر في الإملاء. وفي الصحاح: زرت عينه تزر -بالكسر- زريرًا، وعيناه تزران إذا توقدتا، "من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين" أبشروا، كما في رواية ابن إسحاق، "هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، زاد في رواية ابن إسحاق: فأشار لي صلى الله عليه وسلم أن أنصت.

وروى الطبراني برجال ثقات عن كعب: كان يوم أحد، وصرنا إلى الشِّعب، كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هذا رسول الله، فأشار إلي بيده أن اسكت، ثم ألبسني لامته ولبس لامتي، فلقد ضربت حتَّى جرحت عشرين جراحة، أو قال: بضعًا وعشرين، كل من يضربني يحسبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فلمَّا" سمعوا ذلك، وأقبلوا عليه، و"عرفوه نهضوا" أي: أسرعوا إليه، حتى أتوه، "ونهض معهم نحو الشِّعْب"؛ لينظر حال الناس، "معه أبو بكر، وعمر وعلي ورهط من المسلمين".

قال ابن عقبة: بايعوه على الموت، انتهى. منهم طلحة، والزبير، والحارث بن الصمة، كما في ابن إسحاق وغيره.

قال شيخنا: وظاهره أنهم لم يكونوا ممن نهض إليه، ولا مانع منه لجواز أن كعبًا حين نادى سمعه طائفة لم يكونوا عنده فأقبلوا، وكان عند أبو بكر ومن معه فساروا معه، "فلمَّا أسند،"

ص: 435

رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعْب أدركه أُبَيّ بن خلف وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منَّا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"دعوه"، فلمَّا دنا تناول عليه الصلاة والسلام الحربة من الحارث بن الصمة، فلمَّا أخذها منه عليه الصلاة والسلام انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله عليه الصلاة والسلام، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طعنة

قال في النور: أي صعد "رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب"، وكأنَّ معناه: إنهم لما دخلوا به في الشعب صعدوا به في الصخرة، فاستندوا إلى جانب من الجبل، بدليل رواية ابن إسحاق: نهض صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان قد بدن وظاهر بين درعين، فلمَّا ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به، حتى استوى عليها، فقال كما حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير بن العوام، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ:"أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع".

قال ابن هشام: وبلغني عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الدرجة المبنية في الشِّعب.

قال البرهان: بدن -بفتح الدال المهملة المشددة أي: أسنّ، أو ثقل من السنّ، وأوجب طلحة.

قال اليعمري: يعني أحدث شيئًا يستوجب به الجنة.

"أدركه أُبَيّ بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله! "يعطف" فهو استفهام بتقدير الهمزة، وكأنها سقطت من قلم المصنف؛ إذ هي ثابتة في ابن إسحاق، "عليه رجل منا، فقال -صلى الله عليه سلم:"دعوه"، وعند ابن عقبة: عن سعيد بن المسيب، فاعترضه رجال من المؤمنين، فأمرهم صلى الله عليه وسلم، فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب، "فلمَّا دنا تناول عليه الصلاة والسلام الحربة من الحارث بن الصمة"، ويقال من الزبير، ويقال من طلحة، ويقال من سهل بن حنيف، "فلمَّا أخذها عليه الصلاة والسلام منه، انتفض بها انتفاضة تطايرنا،" وفي نسخة: تطايروا، أي: بعدنا، "عنه تطاير الشعراء" بشين معجمة، فعين مهملة ساكنة فراء، فألف تأنيث.

قال ابن هشام: ذباب صغير له لذع، "عن ظهر البعير إذا انتفض" البعير.

قال السهيلي: ورواه العتيبي: تطاير الشعر، أي: بضم الشين وسكون العين، وقال: هي جمع شعراء.

"ثم استقبله عليه الصلاة والسلام، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طعنة" في عنقه، وفي لفظ: في

ص: 436

وقع بها عن فرسه، ولم يخرج له دم، فكسر ضلعًا من أضلاعه.

فلمَّا رجع إلى قريش قال: قتلني والله محمد، أليس قد كان قال لي بمكة:

أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات عدو الله بسرف

ترقوته من فرجة، في سابغة البيضة والدرع.

وفي لفظ: فخدشه في عنقه خدشًا غير كبير، والترقوة في أصل العنق فلا خلف، "وقع بها عن فرسه" مرارًا، وجعل يخور كما يخور الثور، "ولم يخرج له دم،" بل احتبس، "فكسر ضلعًا" بكسر الضاد وفتح اللام، وتسكن "من أضلاعه"، ففيه آية باهرة، سواء كان كسره من الطعنة، أو من سقوطه عن فرسه؛ لأن سقوطه من الطعنة، "فلمَّا رجع إلى قريش" يركض فرسه حتى بلغهم وهو يخور كالثور، "قال: قتلني والله محمد"، فقالوا: ليس عليك بأس ما أجزعك، إنما هو خدش، لو كان بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز، وفي رواية: بربيعة ومضر لماتوا أجمعين، وفي رواية: بجميع الناس لقتلهم، "أليس قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك".

وروى ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: إن أبيًّا كان يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد، إن عندي فرسًا أعلفه كل يوم فرقًا من ذرة أقتلك عليه، فيقول صلى الله عليه وسلم:"بل أنا أقتلك عليه إن شاء الله تعالى"، فلمَّا رجع إلى قريش، وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، "فوالله لو بصق عليّ لقتلني".

وفي رواية: قال له أبو سفيان: ويلك ما بك إلّا خدشة، قال: ويلك يا ابن حرب، ما تعلم من ضربها، أما ضربها محمد، وإنه قال لي: سأقتلك، فعلمت أنه قاتلي، ولا أنجو منه ولو بزق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني، وأنا أجد من هذه الطعنة ألمًا لو قُسِّمَ على جميع أهل الحجاز لهلكوا، وكان يصرخ ويخور حتى مات، وإنما اقتصر أُبَيّ على قوله: قال لي بمكة، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بالمدينة أيضًا بعد بدر، لما بلغه قول أُبَيّ: إنه يقتله على فرسه كما في رواية؛ لأنه لم يبلغ أبيًّا، أو بلغه، واقتصر على ما شافهه به هذا.

وفي النور ما نصه: ذكر الذهبي ما لفظه، وأخبر، أي: النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتل أُبَيّ بن خلف الجمحي، فخدشه يوم بدر، أو أحد خدشًا فمات منه، وهو غريب، والمعروف أنه يوم أحد، انتهى. فلم يذكر أن الذهبي روى حديثًا يدل على ذلك كما زعم، "فمات عدو الله بسرف،" بفتح السين المهملة، وكسر الراء وبالفاء، على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، وتسعة واثني

ص: 437

وهم قافلون إلى مكة. رواه أبو نعيم والبيهقي ولم يذكر: فكسر ضلعًا من أضلاعه.

قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أُبَيّ بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذا نار تأجج فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أُبَيّ بن خلف، ورواه البيهقي.

عشر، ووجه هلاكه بها أنه مسرف، قاله البرهان، "وهم قافلون" أي: راجعون "إلى مكة، رواه أبو نعيم و" كذا "البيهقي، و" لكنه "لم يذكر: فكسر ضلعًا من أضلاعه"، وهي ثابتة عند ابن عقبة وغيره.

وقد روى الحاكم، عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: أقبل أُبَيّ بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاعترضه رجال من المؤمنين، فأمرهم صلى الله عليه وسلم، فخلوا سبيله، ورأى صلى الله عليه وسلم ترقوة أُبَيّ من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه بحربته، فسقط عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فكسر ضلعًا من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خور الثور، فقالوا له: ما أعجزك إنما هي خدش، فذكر لهم قوله صلى الله عليه وسلم:"بل أنا أقتل أبيًّا"، ثم قال: "والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، فمات أُبَيّ قبل أن يقدم مكة، فأنزل الله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] .

قال في اللباب: صحيح الإسناد لكنه غريب، والمشهور أنها نزلت في رميه يوم بدر بالقبضة من الحصباء. انتهى.

"قال الواقدي" محمد بن مر بن واقد، أبو عبد الله المدني:"وكان ابن عمر" عبد الله "يقول: مات أُبَيّ بن خلف ببطن رابغ" بكسر الموحدة وغين معجمة، بطن واد عند الجحفة، "فإني لأسير ببطن رابغ بعد هويّ" بفتح الهاء، وكسر الواو وشد التحتية، الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختص باليل، كما في الشامية، فقوله:"من الليل" صفة مقيدة على الأول، ولازمة على الثاني، "إذا نار تأجّج" بحذف إحدى التاءين، "تتوقد، "فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها" بذال معجمة يسحبها:"يصيح" بفتح الياء من صاح، "العطش" بالرفع والنصب، "وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أُبَيّ بن خلف، ورواه البيهقي".

وقد روى البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم اشتدَّ غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله.

ص: 438

ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى فم الشِّعب ملأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه درقته من المهراس -وهو صخرة منقورة تسع كثيرًا من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد-

وروى البرقاني عن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن أشدَّ الناس عذابًا من قتله نبي أو مصور".

قال المحب الطبري: وجه ذلك، والله أعلم، أن المصور ضاهى فعل الله عز وجل، ومن قتله نبي محمول على أنه قتله دفعًا عن نفسه، أو بارز لعناده، فإن الأنبياء مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، والرأفة، فما يحمله على قتله إلّا أمر عظيم، انتهى.

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك هذه الأبيات:

لقد ورث الضلالة عن أبيه

أُبَيّ حين بارزه الرسول

أتيت إليه تحمل رم عظم

وتوعده وأنت به جهول

وقد قتلت بنو النجار منكم

أمية إذ يغوث يا عقيل

وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا

أبا جهل وأمهما الهيول

وأفلت حارث لما اشتغلنا

بأسر القوم أسرته قليل

وقال حسان أيضًا:

ألا من مبلغ عني أُبَيًّا

فقد ألقيت في سحق السعير

تمنى بالضلالة من بعيد

وتقسم إن قدرت مع النذور

تمنيك الأماني من بعيد

وقول الكفر يرجع في غرور

فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ

كريم البيت ليس بذي فجور

له فضل على الأحياء طرًّا

إذا نابت ملمات الأمور

"ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى فم الشِّعب، ملأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه درقته من المهراس" بكسر الميم، وسكون الهاء، وبالراء وسين مهملة آخره، "وهي صخرة منقورة تسع كثيرًا من الماء" تجعل إلى جانب البئر، ويصبّ فيها الماء لينتفع به الناس، "وقيل: هو اسم ماء بأحد".

قال الشاعر: وقتيلًا بجانب المهراس، قاله المبرد، وحكاه عنه أبو ذر الهرويّ، وتبعه ابن الأثير، لكن غلط السهيلي المبرد، فقال: المهراس حجر منقور يمسك الماء فيتوضأ منه، شبه بالمهراس الذي هو الهاون، ووهم المبرد، فجعل المهراس اسمًا علمًا للمهراس الذي بأحد خاصة، وإنما اسم لكل حجر نقر، فأمسك الماء.

ورى ابن عبدوس عن مالك أنه سُئِلَ عن رجل مَرَّ بمهارس في أرض فلاة، كيف يغتسل

ص: 439

فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغسل عن وجهه الدم، وصبّ على رأسه وهو يقول:"اشتدَّ غضب الله على من دمى وجه نبيه".

وصلى النبي -صلى لله عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصلَّى المسلمون خلفه قعودًا.

قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثِّلن بالقتلى

منه، فقال مالك: هلَّا قلت بغدير، ومن يجعل له مهراسًا في أرض فلاة، وبهذا يتبين لك أن المهراس ليس مخصوصًا بالذي كان بأُحد، ولذا وقع في غريب الحديث أنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يتحارون مهراسًا أن يرفعوه. انتهى.

"فجاء به،" أي: بالماء الذي ملأ به درقته، وفي الشامية: فجاء بها، أي: بالدرقة، لكن الذي في ابن إسحاق، وتبعه اليعمري به، "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال ابن إسحاق: ليشرب منه، فوجد له ريحًا، فعافه فلم يشرب منه، "وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه"، وهذا وقع قبل انصراف الكفَّار من علي وحده، ثم لما انصرفوا، كما في رواية الطبراني: أتت فاطمة في النسوة، فجعلت تغسل وعلي يسكب كما يأتي، فلا يورد على هذا كما زعم، "وهو" صلى الله عليه وسلم "يقول" كما ذكره ابن إسحاق بلا إسناد:"اشتد غضب الله على من دمى".

قال البرهان: بفتح الميم المشددة، وهذا ظاهر، انتهى. أي: جرح، "وجه نبيه"، وأسنده البخاري وغيره عن ابن عباس بلفظ:"غضب الله على قوم دموا وجه نبي الله".

قال المصنف: بفتح الدال المهملة، والميم المشددة، أي: جرحوا. انتهى.

"وصلى النبي صلى الله عليه وسلم" فيما ذكره ابن هشام مرسلًا، "الظهر يومئذ قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصلَّى المسلمون خلفه قعودًا" من الجراح التي أصابتهم، أو لأنَّ موافقة الإمام كانت واجبة، ثم نسخت.

"قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة" بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة، وشهدت معه اليرموك.

روى الأزرقي وغيره: أنها لما أسلمت جعلت تضرب صنمها في بيتها بالقدوم فلذة فلذة وتقول: كفاني غرورًا.

روى عنها ابنها معاوية وعائشة، ماتت سنة أربع عشرة. "والنسوة اللاتي معها" تقدَّمت عدتهن، "يمثِّن بالقتلى" يقال: مَثَل به -بفتح الميم والثاء المخففة- يمثل، بضم الثاء، مثلًا، بفتح

ص: 440

من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدعن الآذان والآنف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.

الميم وإسكان الثاء، أي: نكَّل، والاسم المثلة بالضم، ومثَّل بالقتيل: جدعه، وكثير من الناس يشدد مثل، وكأنه إذا أريد التكثير يجوز ذلك، "من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن" بفتح الياء وإسكان الجيم وخفة الدال، وكأنه إذا أريد المبالغة يجوز التشديد، "أي: يقطعن "الآذان والآنف" بفتح الهمزة الممدودة وضم النون، قاله كله البرهان.

قال ابن إسحاق: حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنفهم خدمًا وقلائد، وأعطت خدمها، وقلائدها، وقرطها وحشيًّا الخدم -بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة: الخلاخيل، الواحدة خدمة، "وبقرت" بموحدة وقاف، أي: شقَّت، "عن كبد حمزة رضي الله عنه، فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها".

قال البرهان: يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغًا، أي: سهل مدخله في الحلق، وسغته أنا أسوغه وأسيغه يتعدَّى ولا يتعدَّى، والأجود أسغته إساغة، "فلفظتها" طرحتها، ولا ينافي هذا ما ذكره الواقدي وغيره أن وحشيًّا لما قتل حمزة شقَّ بطنه وأخرج كبده، فجاء بها إلى هند فقال: هذه كبد حمزة، فمضغتها ثم لفظتها، وقامت معه حتى أراها مصرع حمزة، فقطَّعت من كبده، وجدعت أنفه؛ لأن الذي أخذه وجاء به إليها بعض الكبد، ثم أخذت هي باقيه كما هو صريحه.

قال ابن إسحاق: ثم علت، أي: هند، على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت:

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

ولا أخي وعمه وبكر

شفيت نفسي وقضيت نذري

شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشي على عمري

حتى ترم أعظمي في قبري

فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب المطلبية، أخت مسطح:

خزيت في بدر وبعد بدر

يابنت وقاع عظيم الكفر

صبحك الله غداة الفجر

بالهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري

حمزة ليثي وعليّ صقري

إذا رام شيب وأبوك غدري

فخضبا منه ضواحي النحر

ونذرك السوء فشر نذر

قال الحافظ أبو الربيع في الاكتفاء: هذا قول هند، والكفر يحنقها، والوتر يقلقها، والحزن يحرقها، والشيطان ينطقها، ثم إن الله هداها للإسلام وعبادة الله وترك الأصنام، وأخذ بحجزتها

ص: 441

ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل.

وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أُحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أُحد، فلما قال: أعل هبل، أي: زد علوًّا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أجبه فقل: الله أعلى وأجل".

فقال أبو سفيان:

عن سوء النار، ودلها على دار السلام فصلحت حالها، وتبدَّلت أقوالها حتى قالت له صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله، ما كان على أهل الأرض خباء أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم أهل خباء أحبَّ إليَّ أن يعِزُّوا من أهل خبائك، فالحمد لله الذي هدانا برسوله أجمعين، انتهى.

"ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت" روي بفتح التاء خطابًا لنفسه وبسكونها، أي: الواقعة، أو الحرب، أو الأزلام، "فعال" بفتح الفاء وتخفيف المهملة، "إن الحرب سجال" بكسر المهملة وخفة الجيم، أي: مرَّة لنا ومرَّة علينا، من مساجلة المستقيين على البئر بالدلاء. وفي رواية: سمال جمع سملة، وهي الماء القليل، والمراد بها ما أريد بالأول؛ لأن الماء القليل يتناوبه وراده ولا يزدحمون عليه لقِلَّته، "يوم بيوم بدر".

وعند الطبراني حنظلة بحنظلة، ويوم أُحد بيوم بدر، "أعل" بضم الهمزة، وسكون العين المهملة وضم اللام، "هبل"، أي: أظهر دينك، قاله ابن إسحاق. وقال السهيلي: معناه: زد علوًّا، وقال الكرماني: فإن قلت ما معنى أعل ولا علوًّا في هبل، فالجواب هو بمعنى العلى، أو المراد: أعلى من كل شيء. انتهى من الفتح.

وعند البخاري في الجهاد، ثم جعل يرتجز: أعل هبل أعل هبل، "و" سبب قوله ذلك أنه "كان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد،" استقسم بالأزلام، "كتب على سهم نعم، "وعلى الآخر لا، وأجالهما" أي: أدارهما، "عنده" أي: هبل، "فخرج سهم نعم، فخرج إلى أُحد، "فلمَّا قال: أعل هبل" بضم الهاء، وفتح الموحَّدة ولام، اسم صنم كان في الكعبة، "أي: زد علوًّا" كما قال السهيلي، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت.

"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر" بن الخطاب: "أجبه، فقل: الله أعلى وأَجَلّ"، فقال أبو سفيان:

ص: 442

أنعمت فعال، أي: اترك ذكرها، فقد صدقت في فتواها وأنعمت، أي: أجابت بنعم.

فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.

فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم.

فقال له عليه الصلاة والسلام قولوا: "إن الله مولانا ولا مولى لكم".

أنعمت" بسكون التاء "فعال، أي: اترك ذكرها فقد صدقت في فتواها، وأنعمت" الأزلام، "أي: أجابت بنعم" التي يحبها، وهذا كله ظاهر في سكون التاء، وإن فاء فعال من بنية الكلمة لا حرف عطف، فهو معدول عن فاعلة كحذام عن حاذمة.

وقال أبو ذر في الإملاء: أنعمت يخاطب نفسه، ومن رواه: أنعمت عني الحرب، أو الواقعة وفعال.

قال اليعمري: اسم الفعل الحسن، وأنعم زاد.

وقال السهيلي: فعال أمر، أي: عالٍ عنها، وأقصر عن لومها، تقول العرب: أعل عني، وعالٍ بمنى ارتفع عني ودَعْني.

ويروى أن الزبير قال لأبي سفيان يوم الفتح: أين قولك أنعمت؟ فقال: قد صنع الله خيرًا، وذهب أمر الجاهلية.

وقال أبو ذر: عالٍ من فعال، ارتفع يقال: عالٍ وأعل عن الوسادة، أي: ارتفع. قال: وقد يجوز أن تكون الفاء من نفس الكلمة، ويكون معدولًا عن الفعلة كما عدلوا، فجار عن الفجرة، أي: بالغت هذه الفعلة، ويعني بها: الوقعة، انتهى.

"فقال عمر: لا سواء" قال السهيلي: أي: لا نحن سواء، ولا يجوز دخول لا على اسم مبتدأ معرفة إلّا مع التكرار نحو: لا زيد قائم، ولا عمرو خارج، ولكنه جاز في هذا الموضع؛ لأن القصد فيه إلى نفي الفعل، أي: وهو لا يجب تكرار لا معه، فكذا ما هو بمعناه، أي: لا نستوي، كما جاز لا لك، أي: لا ينبغي لك.

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر:"قل: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا، "فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم" تأنيث الأعزّ -بالزاي- اسم صنم لهم، "فقال عليه الصلاة والسلام: "أجيبوه"، قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: إن الله مولانا ولا مولى لكم" هكذا في رواية البخاري.

وفي رواية: فقال لعمر: "قل إن الله

إلخ ".

قال المصنف: أي: لا ناصر لكم، فالله تعالى مولى العباد جميعًا من جهة الاختراع، وملك التصرف، ومولى المؤمنين خاصَّة من جهة النصرة.

ص: 443

ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه:"قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد".

وذكر الطبراني: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنّهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلمَّا لقيت النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقته، وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلمَّا رأت ذلك أخذت شيئًا

"ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر" هكذا رواية ابن إسحاق وأتباعه.

وفي بعض الروايات: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول.

قال الشامي: بالإضافة، وبدر تقدمت، والصفراء -بفتح الصاد المهملة، وسكون الفاء- تأنيث الأصفر، قرية فوق ينبع، كثيرة النخل والزرع، والحول السنة، انتهى.

وفي رواية: يا محمد، موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت.

"فقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه" هو عمر بن الخطاب، كما عند الواقدي، وذكره الشامي في غزوة بدر الأخيرة، فقول البرهان لا أعرفه تقصير:"قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد" زاد في رواية: إن شاء الله.

قال ابن إسحاق: ثم بعث صلى الله عليه وسلم عليَّ بنِ أبي طالب، وقال ابن عائذ: سعد بن أبي وقاص، ويحتمل أنه بعثهما جميعًا، فقال:"اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرنَّ إليهم، ثم لأناجزنهم" ، قال علي، أو سعد: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، قال الله تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب} [آل عمران: 151] الآية.

قال في الكشاف: قذف الله في قلوبهم الخوف يوم أحد، فانهزموا إلى مكة من غير سبب.

"وذكر"، أي: روى "الطبراني" من طريق سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، "أنه لما" كان يوم أحد، "وانصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنَّهم، فكانت فاطمة" الزهراء سيدة النساء، "فيمن خرج، فلمَّا لقيت النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقته" فرحًا وشوقًا، "وجعلت تغسل جراحاته بالماء، فيزداد الدم، فلمَّا رأت ذلك".

وفي رواية البخاري: فلمَّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة، "أخذت شيئًا،" وفي

ص: 444

من حصير أحرقته بالنار وكمَّدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم.

ثم أرسل عليه الصلاة والسلام محمد بن سملة -كما ذكره الواقدي- فنادى في القتلى: "يا سعد

البخاري، قطعة "من حصير" زاد في رواية: بردى، هو نبات يعمل منه الحصر، "أحرقته"، وللبخاري في النكاح: عمدت إلى حصيرها فأحرقتها "بالنار"، وللطبراني من طريق آخر: حتى صار رمادًا، فأخذت من ذلك الرماد، "وكمَّدته" بشد الميم، أي: ألصقته "به"، وفعلت ذلك "حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم"، وللطبراني من الطريق الآخر: فوضعته فيه حتى رقا الدم، وقال في آخر الحديث: ثم قال يومئذ: "اشتدَّ غضب الله على قوم دموا وجه رسوله"، ثم مكث ساعة، ثم قال:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

قال الحافظ: وفي الحديث جواز التداوي، وأنَّ الأنبياء قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام ليعظم لهم بذلك الأجر، وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسَّى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره، والعاقبة للمتقين، انتهى.

قال غيره: وليتحقق الناس أنهم مخلوقون لله، فلا يفتتنون بما ظهر على أيديهم من المعجزات، كما افتتن النصارى بعيسى، وفيه أنه لا ينافي التوكُّل والاستعانة في المداواة، وأنَّ الدواء حصير فاطمة التي أحرقتها.

وروى الجوزجاني عن أبي أمامة بن سهل، أنه صلى الله عليه وسلم داوى جرحه يوم أحد بعظم بال، لكنه حديث غريب، كما قال ابن كثير، فلا يعادل ما في الصحيح، وعلى فرض الصحة، فقد يكون جمع بينهما، وإنما عزاه المصنف للطبراني، مع أنه في الصحيحين، والترمذي وابن ماجه؛ لأنه بَيِّنَ فيه سبب مجيء فاطمة إلى أُحد رضي الله عنها.

"ثم أرسل عليه الصلاة والسلام"؛ لينظر خبر سعد بن الربيع، فقال كما في رواية ابن إسحاق:"من ينظر إلى سعد بن الربيع، أفي الأحياء أم في الأموات، فإني رأيت اثني عشر رمحًا شرعا إليه" ، فقال رجل من الأنصار، يعني "محمد بن سلمة، كما ذكره" محمد بن عمر بن واقد "الواقدي".

وعند الحاكم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، قال: بعثني -صلى الل عليه وسلم- يوم أُحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي:"إن رأيته، فأقرأه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك"؟.

وقال ابن عبد البَرِّ واليعمري: أرسل أُبَيّ بن كعب.

قال البرهان: فلعله أرسل الثلاثة متعاقبين، أو دفعة واحدة. "فنادى في القتلى: يا سعد،"

ص: 445

ابن الربيع، مرة بعد أخرى، فلم يجبه، حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك، فأجابه بصوت ضعيف، فوجده جريحًا في القتلى وبه رمق، فقال: أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام، وقل له: يقول لك: جزاك الله عنَّا خير ما جزى به نبيًّا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: لا عُذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم مات رضي الله عنه.

وقتل أبو جابر،

بضم الدال وفتحها، "ابن" بالفتح "الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه"؛ لكونه في غمرات الموت، واستمرّ لا يجيبه، "حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك"، وعند ابن إسحاق: أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ "فأجابه بصوت ضعيف" قال: أنا في الأموات، "فوجده جريحًا في القتلى"، وفي حديث زبد بن ثابت: وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، "وبه رمق" بقية حياة، "فقال: أبلغ".

قال البرهان: بقطع الهمزة وكسر اللام رباعي، وهذا ظاهر جدًّا، "رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام، وقل له: يقول لك: جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبيًّا عن أمته" وقل له: إني أجد ريح الجنة، "وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص" -بضم أوله وفتح ثالثه- مبني للمفعول، كما في النور، والأصل: أن يخلص أحد "إلى نبيكم، وفيكم عين تطرف" بفتح أوله وكسر الراء، أي: تطبق أحد جفنيها على الآخر، والمراد كما قال البرهان وغيره: وفيكم حياة، "ثم مات رضي الله عنه".

وعند ابن إسحاق: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.

قال ابن هشام: وحدثني أبو بكر الزبيري: أن رجلًا دخل على أبي بكر، وبنت سعد بن الربيع جارية صغيرة على صدره يرشفها ويقبلها، فقال له الرجل، من هذه؟ قال: بنت رجل خير مني، سعد بن الربيع، كان من النقاباء يوم العقبة وشهد بدرًا، واستُشهد يوم أُحد.

وروى الطبراني عن أم سعد بنت سعد بن الربيع: إنها دخلت على الصديق فألقى لها ثوبه، حتى جلست عليه، فدخل عمر فسأله فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك، قال: ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل قبض على عهد رسول الله مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت.

"وقتل أبو جابر" عبد الله بن عمرو بن حرام -بمهملة وراء. قال المصنف: قتله أسامة أبو الأعور بن عبيد، أو سفيان بن عبد شمس، أبو أبي الأعور السلمي، وعن جابر: أنه أول قتيل من المسلمين، وأن أخته هندًا حملته هو وزوجها عمرو بن الجموح وابنها خلّاد على بعير، ورجعت بهم إلى المدينة، فلقيتها عائشة وقالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي وابني خلّاد وزوجي، قالت:

ص: 446

فما عرف إلّا ببنانه -أي أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها بنانة.

وخرج صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي، قد بُقِرَ بطنه عن كبده، ومُثِّل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر عليه الصلاة والسلام إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه، فقال: "رحمة الله عليك، لقد كنت فعولًا للخير، وصولًا للرحم، أما والله

فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم زجرت بعيرها فبرك، فقالت لها عائشة لما عليه قالت: ما ذاك به؟ فإنه لربما حمل ما يحمل بعيران، ولكن أراه لغير ذلك، وزجرته ثانيًا، فقام وبرك، فوجهته إلى أُحد فأسرع، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال:"إن الجمل مأسور، هل قال عمرو -يعني ابن الجموح، شيئًا"؟ قالت: إنه لما توجه إلى أُحد قال: اللهمَّ لا تردني إلى أهلي وارزقني الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم:"فلذلك الجمل لا يمضي، إن فيكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبَرَّه، منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته يطأ بعرجته في الجنة". وهذا يناكد من قال: لعل سرَّ عدم سير الجمل أنه ورد الأمر بدفن الشهداء في مضاجعهم.

"فما عرف"؛ لأنه مُثِّل به وجدع "إلّا ببنانه، أي: أصابعه،" قيل: سميت بنانًا؛ لأن بها صلاح الأحوال التي يستقر بها الإنسان، يقال: أبن بالمكان إذا استقرَّ به كما في المصباح، "وقيل: أطرافها واحدتها بنانة".

قال ابن إسحاق: "وخرج صلى الله عليه وسلم" فيما بلغني، "يلتمس حزة، فوجده ببطن الوادي قد بقر" بالبناء للمفعول، أي: شُقَّ "بطنه عن كبده"، وفاعل ذلك هند ووحشي كما مَرَّ، "ومثل به" بضم الميم وكسر المثلثة المخففة، وتشدد لإرادة التكثير كما مَرَّ، "فجدع" بالتخفيف والتشديد للمبالغة، أي: قطع "أنفه وأذناه" بالرفع نائب الفاعل.

قال ابن إسحاق: فحدَّثني محمد بن جعفر بن الزبير، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير". زاد ابن هشام وقال: "لن أصاب بمثلك أبدًا"، ونزل جبريل فقال: إن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع أسد الله وأسد رسوله.

وأخرج اليعمري من طريق أبي طالب في الغيلانيات بسنده عن أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد، "فنظر عليه الصلاة والسلام إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه، فقال: "رحمة الله عليك لقد كنت" ما علمتك كما في الرواية، أي: مدة علمي لك، "فعولًا للخير" أي: مكثرًا لفعله، "وصولًا للرحم"، مكثرًا لوصلهم يما يليق بكل منهم، وأسقط المؤلف من ذا الحديث ما لفظه: "ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواهٍ شتى" قبل قوله: "أما والله" بألف بعد ميم وبحذفها.

ص: 447

لأمثِّلنَّ بسبعين منهم مكانك"، قال: فنزلت عليه خواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه} [النحل: 126] الآية، فصبر وكفَّر عن يمينه وأمسك عمَّا أراد.

قال ابن الشجري في الأمالي: ما الزائدة للتوكيد، ركبوها مع همزة الاستفهام، واستعملوا مجموعهما على وجهين: أحدهما أن يراد به معنًى حقًّا في قولهم: أما والله لأفعلنَّ، والآخر: أن تكون افتتاحًا للكلام بمنزلة ألَّا، كقولك: أما إن زيدًا منطلق، وأكثر ما تحذف ألفًا إذا وقع بعدها القسم؛ ليدلَّ على شدة اتصال الثاني بالأول؛ لأنَّ الكلمة إذا بقيت على حرف لم تقم بنفسها، فعُلِم بحذف ألفها افتقارها إلى الاتصال بالهمزة، هكذا قاله النووي في شرح: أما والله لأستغفرنَّ لك، فنقله هنا البرهان وهو حسن، إلا أنه لم يعجبني نقله قول النووي: أم من غير ألف بعد الميم، وفي كثير من الأصول أو أكثرها: إما بالألف بعد الميم، وكلاهما صحيح؛ لأن هذا إنما قاله النووي في لفظ حديث مسلم، لا في هذا الحديث، فإنه ليس في مسلم، فلذا أسقطت صدر عبارة النووي. "لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك"، وفي رواية ابن إسحاق:"ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلنَّ بثلاثين رجلًا منهم".

قال البرهان: فيحتمل أنه قال مرتين، أو أنَّ مفهوم العدد ليس بحجة، ورواية الأقل داخلة في رواية الأكثر، "فنزلت عليه" لفظ الحديث: فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بـ "خواتيم سورة النحل، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] إلى آخر السورة، "فصبر" كما أمره ربه بقوله: فاصبر، "وكفَّر عن يمينه" لعزمه على الضد، "وأمسك عمَّا أراد، وهذا الحديث رواه الحاكم، والبيهقي، والبزار والطبراني، قال في الفتح بإسناد فيه ضعف، عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة قد مُثِّلَ به قال:"رحمة الله عليك، لقد كنت وصولًا للرحم، فعولًا للخير، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى"، ثم حلف وهو مكانه:"لأمثلنَّ بسبعين منهم"، فنزل القرآن:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلخ السورة.

وعند ابن مردويه، عن ابن عباس نحوه، وقال في آخره: بل نصبر يا رب.

وروى الترمذي، وحسَّنه، والحاكم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والطبراني عن أُبَيّ بن كعب، قال: لما كان يوم أحد مثَّل المشركون بقتلى المسلمين، فقال الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا من الدهر لنريين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل: لا قريش بعد اليوم، فأنزل الله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية، فقال صلى الله عليه وسلم:"كفّوا عن القوم".

قال في اللباب: وظاهر هذا تأخر نزولها إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد،

ص: 448

وممن مثِّل به كما بحمزة عبد الله بن جحش، ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدع في الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة في قبر واحد.

ولما أشرف عليه الصلاة والسلام على القتلى

وجمع ابن الحصار، بأنها نزلت أولًا بمكة، ثم ثانيًا بأحد، ثم ثالثًا بعد الفتح تذكيرًا من الله لعباده، انتهى.

وروى الحاكم عن ابن عباس قال: قتل حمزة جنبًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"غسَّلته الملائكة". وعند ابن سعد من مرسل الحسن: لقد رأيت الملائكة تغسّل حمزة.

وروى الطبراني برجال ثقات عن أبي أسيد، والحاكم عن أنس قالا: كفَّن صلى الله عليه وسلم حمزة في نمرة، فمدت على رأسه فانكشف رجلاه، فمدت على رجليه فانكشف رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم:"مدوها على رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الحرمل"، وفي لفظ: من الإذخر. "وممن مثِّل به كما مثِّل بحمزة عبد الله بن جحش" ابن رياب براء مكسورة وتحتية وموحدة. قال في العيون: غير أنه لم يبقر عن كبده، "ابن أخت حمزة" أميمة -بميمين مصغرًا- بنت عبد المطلب، شقيقة والده صلى الله عليه وسلم، اختُلِف في إسلامها، فنفاه ابن إسحاق، ولم يذكرها غير ابن سعد، "ولذا يعرف بالمجدع في الله"؛ لأنه سأل الله ذلك.

روى الطبراني وأبو نعيم بسند جيد عن سعد بن أبي وقاص: أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله، فخلوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فبلغني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده -بفتح المهملة والراء ودال مهملة- أي: غضبه، أقاتله فيك، ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّنَ عبد الله، ثم قال: "اللهم ارزقني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني فيقتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله، فيم جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فيقول الله: صدقت.

قال سعد: كانت دعوته خيرًا من دعوتي، لقد رأيته أخير النهار، وأنَّ أنفه وأنه معلقان في خيط، "وكان حين قتل" على يد أبي الحكم ابن الأخنس الثقفي، "ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع" خاله "حمزة في قبر واحد"، وهذا صريح في أنه قتل بأُحد.

قال البرهان: وهو الصحيح، ورأيت بعضهم حكى قولًا أنه قتل بمؤتة. انتهى، وكان قائله انتقل حفظه لعبد الله بن رواحة، "ولما أشرف" أي: اطَّلع "عليه الصلاة والسلام" كما قال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف "على القتلى"

ص: 449

قال: "أنا شهيد على هؤلاء، وما من جريح يجرح في الله إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك".

يوم أحد، "قال:"أنا شهيد على هؤلاء" راقب أحوالهم، وشفيع لهم بما فعلوه من بذل أجسامهم، وأرواحهم وأموالهم، وترك من له الأولاد كأبي جابر، ترك تسع بنات، طيبة بذلك قلوبهن، فرحين مستبشرين بوعد خالقهم، حتى إنه منهم من قال: إني لأجد ريح الجنة دون أُحد؛ كأنس بن النضر، وسعد بن الربيع، ومنهم من ألقى تمرات كنَّ في يده، وقاتل حتى قُتِل كما في الصحيح، ومنهم من قال: اللهمَّ لا تردَّني إلى أهلي؛ كعمرو بن الجموح، ومنهم من خلفه المصطفى لكبر سِنِّه، فخرج رجاء الشهادة، وهو اليمان وثابت بن وقش، فحذف المشهود به للعلم به.

قال السهيلي: شهيد من الشهادة، وهي ولاية وقيادة، فوصلت بحرف على؛ لأنه مشهود له وعليه.

وقال البيضاوي في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، وهذه الشهادة وإن كانت لهم، لكن لما كان صلى الله عليه وسلم كالرقيب المؤتمن على أمته عدّي بعلى، وظاهره أن مجرَّد كون اللفظ بمعنى لفظ آخر يعدَّى بما يعدَّى به ما هو بمعناه، وليس من التضمين.

قال شيخنا: والمراد لما اطَّلع عليهم بعد البحث عن حمزة وغيره، وعرف جملة من قتل قال ذلك، فلا يرد أنه يقتضي قوله بمجرد رؤيتهم، والسياق يدل على خلافه، وأنه إنما قال ذلك بعد الإحاطة بهم.

"وما من جريح يجرح في" القتال لمحبة، "الله" وإخلاصه في إعزاز دينه، ففيه حذف شيئين، أو هو استعارة تبعية، شبه تمّن المجروح في المحبَّة بتمكّن المظروف في الظرف، فاستعار له لفظ في بدل اللام كما في قوله:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل} [طه: 71] ، "إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه" بفتح الياء والميم، أي: يخرج منه الدم، "اللون" أي: لوم ما يخرج من جرحه، "لوم الدم" ، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل ما صفة دمائهم؟ هل هي على صفة دماء الدنيا أم لا؟ "والريح ريح المسك".

قال المصنف: أي كريحه، أي: ليس هو مسكًا حقيقة، بخلاف اللون لون الدم، فلا يقدر فيه ذلك؛ لأنه دم حقيقة، فليس له من أحكام الدنيا وصفاتها إلا اللون فقط. قال: وظاهر قوله في رواية مسلم: كل كلم يكلمه المسلم إنه لا فرق في ذلك بين أن يموت، أو تبرأ جراحه، لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة، وجرحه يجري دمًا من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما رواه ابن حبان في حديث معاذ: عليه طابع الشهداء، والحكمة في بعثته كذلك أن يكون معه

ص: 450

وفي رواية عبد الله بن ثعلبة: قال عليه الصلاة والسلام لقتلى أحد: "زمّلوهم بجراحهم".

شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله. ولأصحاب السنن، وصحّحه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ:"من جرح جرحًا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك".

قال الحافظ ابن حجر: وعرف بهذه الزيادة أنَّ الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد، كذا قال فليتأمل.

وقال النووي: قالوا: وهذا الفضل، وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفّار، فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة وقطّاع الطريق، وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، وكذا قال ابن عبد البر، واستشهد على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام:"من قتل دون ماله فهو شهيد".

لكن قال الولي بن العراقي: قد يتوقف في دخول المقاتل دون ماله في هذا الفضل؛ لإشاراته صلى الله عليه وسلم إلى اعتبار الإخلاص في ذلك في قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله"، والمقاتل دون ماله لا يقصد بذلك وجه الله، وإنما يقصد صون ماله وحفظه، فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع، ولا يلزم من كونه شهيدًا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك، وأي بذلٍ بذَلَ نفسه فيه لله حتى يستحق هذا الفضل، انتهى.

"وفي رواية" النسائي من طريق الزهري، عن "عبد الله بن ثعلبة" بن صعير بصادٍ وعين مهملتين مصغرًا، العذري، حليف بني زهرة، له رؤية ولم يثبت له سماع. مات سنة سبع أو تسع وثمانين، وقد قارب التسعين.

"قال عليه الصلاة والسلام لقتلى أحد" اللام للتعليل، أي: لأجلهم بيانًا لما يفعل في تكفينهم: "زمّلوهم بجراحهم"، أي: معها باقية على ما هي عليه، فلا تزيلوا ما عليها من الدم بغسل ولا غيره.

قال أبو عمر: اختُلِف في صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، ولم يختلف في أنه أمر بدفنهم بثيابهم ودمائهم ولم يغسّلوا. وقد ثبت في الصحيح عن جابر، أنه عليه الصلاة والسلام قال:"أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلّ عليهم، ولم يغسَّلوا.

قال العلماء: وأما حديث صلاته عليهم صلاته على الميت، فالمراد دعاؤه لهم كدعائه للميت جمعًا بين الأدلة.

ص: 451

وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر ألا أخبرك، ما كلم الله تعالى أحدًا قط إلّا من وراء حجاب، وإنه كلَّم أباك كفاحًا، فقال: سلني أعطك، فقال: أسألك أن أردَّ إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق مني أنهم لا يرجعون إلى الدنيا، قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} "[آل عمران: 169] الآية.

"وروى أبو بكر بن مردويه" وكذا الترمذي، وحسَّنه وابن ماجه، كلهم عن جابر:"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر ألا أخبرك".

وفي رواية الترمذي وابن ماجه: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك"، وللترمذي أيضًا: لقيني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لي أراك منكسرًا"، قلت: يا رسول الله! استشهد أبي يوم أُحد وترك دينًا وعيالًا، قال:"أفلا أبشرك"، وفي رواية: قلت: بلى، قال:"ماكلم الله أحدًا قط" غير من قام الدليل على تكليمهم بلا واسطة كالمصطفى ليلة الإسراء وموسى، قال:"إلّا من وراء حجاب" ، أو المراد من هؤلاء الشهداء، كما يرشد إليه السياق فلا يردّان؛ لأنه كلمهما في حياتهما، "وإنه كلم أباك" عبد الله بن عمر، المدفون هو وعمرو بن الجموح في قبر واحد بأمره صلى الله عليه وسلم، قال: لماكان بينهما من الصفاء، فحفر لهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه ويده عليه، فأميطت يده عن وجهه، فانبعث الدم فردت إلى مكانها، فسكن، ذكره ابن سعد. "كفاحًا" بكسر الكاف، مصدر كافح الشيء إذا باشره بنفسه، أي: بلا واسطة، "فقال: سلني أعطك" عطف مفصل على مجمل.

وفي رواية الترمذي وابن ماجه: "فقال: يا عبدي تمنَّ علي أعطك"، "قال: أسألك أن أردَّ إلى الدنيا".

وفي رواية الترمذي وابن ماجه قال: "يا رب تحييني فأقتل فيك" قتلة "ثانية، "فقال الرب عز وجل: إنه سبق مني" الوعد. وفي رواية: "قد قضيت"، "أنهم" بفتح الهمزة "لا يرجعون" أي: يعدم رجوعهم " إلى الدنيا، قال: يارب فأبلغ من ورائي" ما صنعت بي لئلَّا يزهدوا في الجهاد، "فأنزل الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} - بالتخفيف والتشديد- {فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية". وناهيك بها شرفًا حيث وصفهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهي عندية تخصيص وتشريف، والمراد حياة الأرواح في النعيم الأبدي لا حقيقة الدنيوية، بدليل أن الشهيد يورث وتتزوج زوجته.

قال بعضهم: ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام المشاهدة، بل يكون لها

ص: 452

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلَّا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا

حكم آخر، فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقية لهم، وأمَّا الإدركات فحاصلة لهم ولسائر الموتى، ثم المراد بالآية جنسها، فلا ينافي قوله الآتي، فأنزل الله على نبيه هذه الآيات، وهي كما في الشامية إلى قوله:{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 171] الآية، وأما قوله:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ} [آل عمران: 172] الآية إلخ، فليس في شأن الشهداء، بل في حمراء الأسد كما يأتي.

"وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب" بحسب الظاهر بالقتل، "إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم" مع اتصالها بأجسادهم، "في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها" كما قال: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169] الآية، "وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش"، أنكر هذا قوم، وقالوا: لا يكون روحان في جسد.

قال القاضي عياض: وليس للأقيسة والعقول في هذا حكم، فإذا أراد الله جعلها في قناديل أو أجواف طير وقع ذلك ولا إشكال، فإن الروح وإن وجدت في جوف الطير فليس فيه قيام روحين بجسد واحد، بل قيام الروح بجوف الطير، كقيام الجنين في بطن أمه، وروحه غير روحها.

وقال السهيلي والبيضاوي: خلق الله لأرواحهم بعد مفارقة أجسامهم صورة طيور تجعل فيها الأرواح خلفًا عن الأبدان، توسلًا لنيل اللذات الحسية إلى أن يعيده الله يوم القيامة.

وقال بعضهم: في بمعنى على، أي: أرواحهم على أجواف هي طيور، وسمي الطير جوفًا لإحطاته واشتماله عليه، فهو من تسمية الكل باسم المجزء، وفيه تعسّف.

وقال السهيلي: أي في صورة طير خضر، كما تقول: رأيت ملكًا في صورة إنسان، "فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم" من الأنهار، "وحسن مقيلهم" مكانهم الذي يأوون إليه للاسترواح والتمتع تجوّز به عن مكان القيلولة على التشبيه، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالبًا؛ إذ لا نوم في الجنة، كما قاله البيضاوي في قوله:{وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .

"قالوا: يا" للتنبيه أو النداء المحذوف، أي: يا هؤلاء "ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلّا يزهدوا في الجهاد"، أي: يتركوه ويعرضوا عنه، "ولاينكلوا" بضم الكاف وتفتح في لغة،

ص: 453

عن الحرب، "قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " رواه أحمد.

قال بعض من تكلّم على هذا الحديث: قوله: ثم تأوي إلى قناديل، يصدقه قوله تعالى:{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، وإنما تأوي إلى ذلك القناديل ليلًا وتسرح نهارًا قبل دخول الجنة، وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في البرزخ.

ومنعها الأصمعي، "عن الحرب" أي: ولئلَّا يجبنوا عنه ويتأخروا، "قال الله تعالى: أن أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل على نبيه هذه الآيات:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " [آل عمران: 169] مفعول ثانٍ، والأول الذين، والفاعل إمَّا ضمير كل مخاطب، أو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح في نزولها في شهداء أحد.

وحكى البيضاوي قولًا: إنها نزلت في شهداء بدر، فإن صحَّ أمكن أنها مما تكرر نزوله، وعليه فكأنهم تمنَّوا علم إخوانهم بما حصل لهم، مع أنَّ الآيات عندهم متلوّة؛ لأنه عَبَّر فيها بالماضي، في قوله: قُتِلُوا، ثم لا يعارض هذا ما قبله من نزولها في شأن أبي جابر؛ لأن كلامه تعالى له لا يمنع قول قية الشهداء ما ذكر، فنزلت إبلاغًا عن الجميع على مفاد الخبرين، ولا مانع من تعدد سبب النزول وهو أولى من تجويز أنها مم تعدَّد نزوله؛ لأن الأصل عدمه، "روه أحمد"، أخرجه مسلم عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات، قال: أمَّا إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: "لما أصيب إخوانكم" الحديث. ولم يعزه له المصنف لعدم صراحته برفع الحديث، فلذا عدل لحديث ابن عباس عند أحمد لكونه صريحًا في الرفع.

"قال بعض من تكلَّم على هذا الحديث" هو الإمام السهيلي في الروض، "قوله:"ثم تأوي إلى قناديل" يصدقه قوله على أحد الأقوال: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مبتدأ وخبر، أي: الذين استشهدوا {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} وقيل: المراد الأنبياء من قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وقيل: هو عطف على الخبر وهو الصديقون: أي: أولئك بمنزلة الصديقين والشهداء، أو المبالغون في الصدق لتصديقهم جميع أخبار الله ورسله، وقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة، حكاها كلها البيضاوي وغيره.

"وإنما تأوي إلى تلك القناديل ليلًا، وتسرح نهارًا قبل دخول الجنة"، فتعلم بذلك الليل من النهار، "وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في" مدة "البرزخ" هذا ما يدل عليه ظاهر الحديث.

ص: 454

وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها.

وقد ردَّ هذا القول، ويشهد له ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق، عند باب الجنة، في قباب خضر، يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيًّا".

قال الحافظ عماد الدين بن كثير: كأنَّ الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هناك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح.

"وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها، وقد ردَّ هذا القول" أنكره ابن عبد البر.

قال السهيلي: وليس بمنكر عندي، "ويشهد له" أي: لقول مجاهد ويبيّن مراده "ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره"؛ كالإمام أحمد والطبراني والحاكم، كلهم عن ابن عباس، "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الشهداء بنهر أو على نهر" شكَّ، "يقال له بارق" بالموحدة وبعد الألف راء مكسورة، ثم قاف في الحديث نهر، "عن باب الجنة، في قباب خضر، يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيًّا".

ولفظ أحمد ومن ذكر بعده: "الشهداء على بارق بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا".

قال البيضاوي: يعني تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض الناس على آل فرعون غدوًّا وعشيًّا فيصل إليهم الوجع، وفيه دلالة على أنَّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها، مغايرة لما يحس من البدن، باقية بعد الموت داركة، وعليه الجمهور، وبه نطقت الآية والسنن، فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الربّ، ومزيد البهجة والكرامة.

"قال الحافظ عماد الدين بن كثير" في الجمع بين مختلف الروايات، الدالّ بعضها على دخولهم الجنة، وبعضها على وقوفهم ببابها عند النهر، "كأنَّ الشهداء أقسام منهم من تسرح أرواحهم في الجنة" كما دلَّ عليه حديث ابن عباس الأول، "ومنهم من تكون على هذا النهر بباب الجنة" كما دل عليه حديثه الثاني، وعبَّر بكان؛ لأنه عل سبيل الاحتمال لا القطع؛ لأن حقيقة الحال غيب عنَّا، "وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هناك ويغدى" بالبناء للمفعول وضمّنه معنى يمر، فعدَّاه بعلى في قوله:"عليهم برزقهم هناك ويراح"

ص: 455

قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه بشرى لكل مؤمنٍ بأنه روحه تكون في الجنة أيضًا، وتسرح فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعدَّ الله لها من الكرامة.

قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتَّبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه يرفعه: "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة

مبنى للمفعول أيضًا، والغدوّ والرَّوَاح هنا بمعنى السير، أي: وقت كان، فالعطف تفسيري.

"قال" ابن كثير: "وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه بشرى لكل مؤمن" وإن لم يكن شهيدًا، "بأن روحه تكون في الجنة أيضًا، وتسرح فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة" بسكون الضاد- والرونق، "والسرور" عطف مسبب على سبب، فإن الحسن سبب السرور، والرؤية علمية لا بصرية؛ إذ البصر لا يتعلّق بالسرور، أو بصرية، بتقدير مضاف، أي: ترى ما فيها من أسباب السرور، أو استعمل السرور فيما يحصله مجازًا، "وتشاهد ما أعدَّ الله لها من الكرامة، قال: وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم" جمعها مبالغة في الثناء على إسناده، "اجتمع فيه ثلاث من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتَّبَعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي عن مالك بن أنس، عن الزهري" محمد بن مسلم، "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري السلمي، يكنَّى أبا الخطاب. وُلِدَ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره البغوي في الصحابة.

روى عن أبيه وأخيه عبد الله، وجابر وسلمة بن الأكوع، وأبي قتادة وعائشة، وعنه أبو أمامة بن سهل، وهو من أقرانه وأسنّ منه، والزهري وغيرهما. قال ابن سعد: ثقة، وهو أكثر حديثًا من أخيه، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك، "عن أبيه يرفعه" لفظة استعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم:"نسمة" أي: روح "المؤمن طائر يعلق" بفتح اللام في رواية الأكثر، كما قاله القرطبي، "في شجر الجنة" تسرح فيها لتأكل منها.

وقال الإمام السهيلي في الروض: ويعلق -بفتح اللام- يتشبث بها، ويرى مقعده منها، ومن رواه بضم اللام فمعناه: يصيب منها العلقة من الطعام، فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد، أي: العيش الواسع، فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى، وإن أراد بيعلق الأكل نفسه، فهو مخصوص بالشهيد، فتكون رواية من رواه بالضم للشهداء، ورواية الفتح لمن دونهم، والله تعالى أعلم بما أراد رسوله من ذلك، انتهى.

ص: 456

حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه".

وقوله: يعلق، أي: يأكل، وفي هذا الحديث أنَّ روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأمَّا أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل الله تعالى الكريم المنَّان أن يميتنا على الإسلام.

وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون -فيما ذكره مغلطاي وغيره، وقيل: خمسة وستون، أربعة من المهاجرين.

وروى ابن منده من حديث أُبَيّ بن كعب قال:

ووقع في بعض نسخ الشافية تصحيف، فقال: يعلق -بضم اللام: يتشبث، وبفتحها: يصيب منها العلقة، والصواب ما في الروض وهو المناسب لقوله العلقة؛ إذ هي بالضم، كلَّ ما يتبلّغ به من العيش كما في القاموس، "حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" يوم القيامة، "وقوله: يعلق" بالتحتية، صفة لطائر كتذكير الضمير في يرجعه، "أي: يأكل، وفي هذا الحديث:"إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة" ، لا أن روحه جعل في جوف طائر ليأكل ويشرب كالشهيد.

"وأمَّا أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها" على ما دلَّ عليه الحديثان، وقد تأوَّل بعضهم كما في الروض حديث "نسمة المؤمن" مخصوصًا بالشهيد، انتهى. ولكن المتبادر خلافه، ولذا جزم ابن كثير بالعموم، "فنسأل الله تعالى الكريم المنَّان أن يميتنا على الإسلام" بمنِّه وكرمه، "وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون فيما ذكره مغلطاي وغيره" اعتمادًا على ما صرَّح به حديث البراء وأنس في الصحيح، وأُبَيّ بن كعب، وقد صحَّحه ابن حِبَّان وهو المؤيَّد بقوله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] .

اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أُحد، وأنَّ المراد بإصابتهم مثليها يوم بدر بقتل سبعين، وأسر سبعين، وبه جزم ابن إسحاق، وقد مَرَّ له مزيد، وأنَّ الزيادة إن ثبتت إنما نشأت عن الخلاف في التفصيل، وليست زيادة في الجملة، قاله اليعمري والعسقلاني:"وقيل: خمسة وستون، أربعة من المهاجرين" حمزة، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان، ومصعب بن عمير كما عند ابن إسحاق.

"وروى ابن منده" والحاكم في الإكليل والمستدرك "من حديث أُبَيّ بن كعب، قال:

ص: 457

استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، وصحَّحه ابن حِبَّان من هذا الوجه.

وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلًا، وقتل عليه الصلاة والسلام بيده أُبَيّ بن خلف.

استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة.

قال الحافظ: وكان الخامس سعد مولى حاطب، ذكره موسى بن عقبة، والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس، فقد عدَّه الواقدي منهم، "وصحَّحه ابن حبان من هذا الوجه"، وكذا الحاكم وهو قول الأكثر، وعد ابن سعد من استشهد بأحد من غير الأنصار: الحارث بن عقبة بن قابوس المزني، وعمَّه وهب بن قابوس، وعبد الله وعبد الرحمن ابني الهبيب -بموحدتين- مصغَّر من بني سعد بن ليث، ومالكًا والنعمان ابني خلف بن عون الأسلميين، قال: إنهما كانا طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلا.

قال الحافظ: ولعلَّ هؤلاء كانوا من حلفاء الأنصار فعدوا فيهم، فإن كانوا من غير المعدودين أولًا، فحينئذ تكمل العدة سبعين من الأنصار، وتكون جملة من قتل أكثر من سبعين. ومن قال سبعون، ألغى الكسر، انتهى. "وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلًا" منهم حملة اللواء من بني عبد الدار بن قصي، عشرة بغلامهم قد سبق ذكرهم.

وقال ابن إسحاق: اثنان وعشرون رجلًا، فأسقط واحدًا، وهو شريح بن قارظ.

وفي سيرة مغلطاي ما لفظه: وقتل من المشركين ثلاثة، ويقال: اثنان وعشرون رجلًا، وهذه عبارة موهمة كما قاله البرهان.

"وقتل عليه الصلاة والسلام بيده أُبَيَّ بن خلف"، ولم يقتل بيده أحد سواه. ففي قول ابن إسحاق: ناول سيفه فاطمة فقال: "اغسلي عن هذا دمه" نظر، وكذا في قوله:"رمى عن قوسه حتى صارت شظايا"، كذا ذكر ابن تيمية، وقال: الشجاعة تكون شيئين: قوة القلب وثباته عند المخاوف، والثاني: شدة القتال بالبدن بأن يقتل كثيرًا، أو يقتل قتلًا عظيمًا، والأول هو الشجاعة، والثاني يدل على قوة البدن وعمله، وليس كل قوي البدن قوي القلب، ولا عكسه، والخصلة الأولى يحتاج إليها أمراء الجيوش والحروب وقوادها أكثرمن الثانية، فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتًا، أقدم وثبت ولم ينهزم، فقاتل معه أعوانه، وإذا كان جبانًا ضعيف القلب ذلَّ ولم يقدم ولم يثبت، ولو كان قوي البدن، وكان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب، ولم يقتل بيده إلّا أُبَيّ بن خلف.

قال البرهان: وفي المستدرك عن ابن عباس، لما رجع صلى الله عليه وسلم من أُحد أعطى فاطمة ابنته

ص: 458

وحضرت الملائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه: أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل يقاتلان عنه كأشد القتال.

وفيه -كما قدمناه في غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم لا يختص بيوم بدر، خلافًا لمن زعمه، كما نصَّ عليه النووي في شرح مسلم كما قدَّمته، والله أعلم.

سيفه، فقال:"بنية اغسلي عنه الدم" وأعطاها علي سيفه. وقال هذا: فاغسلي عنه دمه.. الحديث. ولم يتعقبه الذهبي ففيه ردّ على ابن تيمية.

"وحضرت الملائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه" في كتاب المناقب، لا المغازي، "أنه رأى"، ولفظه قال: رأيت، "عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم" وقعة "أُحد رجلين" أي: ملكين في صورة رجلين، "عليهما ثياب بيض، ما رأيتهما قبل ولا بعد".

وفي رواية الطيالسي: لم أرهما قبل ذلك اليوم ولا بعده.

"يعني: جبريل وميكائيل يقاتلان عنه" صلى الله عليه وسلم "كأشد القتال".

قال المصنف: الكاف زائدة، أو للتشبيه، أي: كأشد قتال بني آدم، وهذ الحديث أخرجه البخاري أيضًا، ولكنه لم يقع عنده التصريح باسم الملكين، فلذا اقتصر المصنّف على عزوه له، "وفيه كما قدمناه في غزوة بدر أن قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم لا يختص بيوم ببدر،" لتصريحه بأنهما قاتلا يوم أُحد. وأيضًا روى الطبراني وابن منده أنه صلى الله عليه وسلم سأل الحارث بن الصمَّة عن عبد الرحمن بن عوف، فقال: هو بجنب الجبل، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة تقاتل معه". قال الحارث: فذهبت إليه فوجدت بين يديه سبعة، فقلت له: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ فقال: أما هذا وهذا فأنا قتلتهما، وأمَّا هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقلت: صدق الله ورسوله.

وروى ابن سعد: أن مصعبًا لما قُتِلَ أخذ اللواء ملك في صورته، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول:"تقدَّم يا مصعب" فالتفت الملك إليه وقال: لست بمصعب، فعرف أنه ملك أُيّد به، "خلافًا لمن زعمه كما نصَّ عليه انووي في شرح مسلم كما قدمته، والله أعلم" وقد قدَّمنا ثمة الجواب عن البيهقي وغيره، بما حاصله أنَّ قتالهم ببدر كان عامًّا عن جميع القوم، وأمَّا في أُحد فإنهما ملكان، وقتالهما عن المصطفى فقط.

ص: 459

ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر بذلك المنافقون، وظهر غش اليهود.

ذكر القاضي عياض في الشفاء، عن القاضي أبي عبد الله بن المرابط من المالكية أنه قال: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلّا قُتِل؛ لأنه تنقص،؛ إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته؛ إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته،

قال شيخنا: على أنه لا يلزم من ذلك قتال، بل يجوز أنهما كانا يدفعان عنه ما يُرْمَى به من السهام، ونحوهما، وعبَّر عن ذلك بالقتال مجازًا، وأمَّا الذي حمل اللواء فليس فيه أنه قاتل، فيجوز أنه رفع اللوء ليراه المسلمون فلا ينكسروا، وكذا لا يرد مقاتلتهم مع ابن عوف؛ لأنه ليس عن عموم الجيش، فهو مخصوص بعبد الرحمن.

"ولما بكى المسلمون على قتلاهم سُرَّ بذلك المنافقون" باطنًا، ولذا عبَّر بسُرَّ لإسلامهم ظاهرًا، حتى بعد أُحد، وإن خذلوا وأمروا بالتفرق، وقالوا:{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} ، فرد الله عليهم:{فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} ، "وظهر غش اليهود" الذي كانوا يخفونه خوفًا من المسلمين؛ حيث تخيَّلوا وهنهم، فلذلك عبَّر بظهر لمخالفتهم في الظاهر والباطن، فقالوا: ما محمد إلّا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبيّ قط، أصيب في بدنه وفي أصحابه، وما هذا البهتان بأقوى من قتلهم الأنبياء بغير حق.

تتمة إيقاظ لئلَّا يغترَّ ناقص العلم بما قد وقع في سياق الحديث، فيسري إلى وهمه أنه يجوز اعتقاده أو التكلم به.

"ذكر القاضي عياض في الشفاء عن القاضي أبي عبد الله" محمد بن خلف بن سعيد، المعروف ب"ابن المرابط، من المالكية" الإفريقي، فقيه بلده، ومفتيه وقاضيه، كان من أهل الفضل والفقه والتفنن، سمع أبا القاسم المهلب، وأجازه أبو عمر الطلمنكي، وشرح البخاري شرحًا كبيرًا حسنًا، ورحل إليه الناس وسمعوا منه. توفِّي بعد الثمانين وأربعمائة، "أنه قال: من قال إنَّ النبي -صلى عليه وسلم- هزم"، وما في معناه من فَرَّ وهَرَب وتوارى واختفى؛ إذ العلة في ذلك تنقيصه، ولا توقف عندنا في ذلك، "يستتاب"" أي: يطلب منه الرجوع عمَّا قاله، "فإن تاب" قبلت توبته، "وإلّا قُتِلَ؛ لأنه تنقُّص" أي: ذم وتعييب، لكن في القاموس وغيره: انتقصه، فالمناسب أن يقول: لأنه انتقاص، والذي في الشفاء تنقيص بياء قبل الصاد، "إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصيته" أي: لا مرخصه الله به، حيث ثبَّت قلبه، وألقى الرعب في قلوب أعدائه؛ "إذ هو على بصيرة من أمره" يعرف بها أن أحدًا لا يقدر على إصابته بسوء، "ويقين من عصمته"، أي: عصمة الله له بحفظه، وأي يقين مثل ما وقع له يوم أُحد بحيث لم يبق معه غير طلحة وسعد في بعض الأوقات، وهو

ص: 460

انتهى.

وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال العلامة البساطي من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة، أعني: حكم السابّ، فله وجه، وإن وافق على أن السابّ لا تقبل توبته فمشكل، انتهى.

وقد كان في قصة أُحد، وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحِكَم الربانية أشياء عظيمة:

منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا منه.

ثابت، ما يزال يرمي عن قوسه ينادي إلي عباد الله، ولم يبال بأن تسمع الأعادي صوته. "انتهى" كلام ابن المرابط وهو ضعيف، وإن مشى عليه صاحب المختصر؛ لأنه خلاف قول مالك وأصحابه، ولذا عقَّب صاحب الشفاء كلامه بقول القروي مذهب مالك وأصحابه أنَّ من قال فيه ما فيه نقص قُتِلَ دون استتابة.

"و" لذا قال المصنف: "هذا موافق لمذهبنا" أي: الشافعية، أنَّ سبَّ الرسول رِدَّة، "لكن قال العلامة" شيخ الإسلام " البساطي" قاضي القضاة المالكية بمصر، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، وُلِدَ سنة ستين وسبعمائة، وبرز في الفنون ودرس بالشيخونية وغيرها، وصنَّف تصانيف، ومات في رمضان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة "من المالكية" في شرح المختصر، "هذا القائل إن كان يخالف" المالكية "في أصل المسألة، أعني: حكم السباب" بمعنى السبّ، أي: الشتم، من أنه يقتل حدًّا وإن تاب، ويقول بمذهب الشافعية من قبول توبته مطلقًا، "فله وجه"؛ لأنه خرج عن مذهبه لغيره، "وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته" بالنسبة إلى أحكام الدنيا، بمعنى أنها لا تفيده في نفي قتله؛ لأنه حدٌّ كالزنا والشرب، "فمشكل" لمخالفته، نص مالك وأصحابه، "انتهى. وقد كان في قصة أُحد" كما نقله في الفتح عن العلماء:"وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحِكَم الربانية أشياء عظيمة، منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي،" أي: المنهيّ عنه، "لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ايبرحوا منه"، وإلى هذا أشار سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] الآية، إلى قوله:{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 152] الآية.

أخرج الطبري عن السدي وغيره: إن المراد بالوعد قوله صلى الله عليه وسلم للرماة: "إنكم ستظهرون

ص: 461

ومنها: إن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، والحكمة في ذلك أن لو انتصروا دائمًا لدخل في المسلمين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميّز الصادق من الكاذب، وذلك أنَّ نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين، فلمَّا جرت هذه القصة وأَظْهرَ أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول، عاد التلويح تصريحًا، وعرف المسلمون أن لهم عدوًّا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم.

ومنها:

عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم" ، وعن قتادة ومجاهد: تحسونهم، أي: تقتلونهم. وقال البخاري وابن هشام: تستأصلونهم قتلًا، وهو من كلام أبي عبيدة.

قال جرير:

تحسهم السيوف كما تسامى

حريق النار في الأجمّ الحصيد

قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] الآية. رواه السدي، وقد يرد عليه قوله تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] الآية، فإنها نزلت في شأن بدر وهي قبل هذه.

"ومنها: أنّ عادة الرسل أن تبتلى، وتكون لهم العاقبة" كما قاله هرقل لأبي سفيان، "والحكمة في ذلك: أن لو انتصروا دائمًا، لدخل في المسلمين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره" كما قال تعالى:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] الآية، ذكره ليدل على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفى عليه ما في الصدور وغيرها؛ لأنه عالم بجميع المعلومات، وإنما ابتلاهم لمحض الإلهية، أي: للاستصلاح. "ولو انكسرو دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز الصادق من الكاذب" كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] الآية، أي: المنافقين من المؤمنين، "وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين" أي: مستورًا، اسم مفعول من خفاء لا من خفي، فإنه لازم ولا يأتي المفعول منه إلّا بالصلة، "فلمَّا جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول" كانخزالهم وقولهم: لو نعلم قتالًا لاتَّبعناكم، "عاد التلويح تصريحًا" أي: عاد ما كانوا يضمرونه ويتكلمون به فيما بينهم ويخفونه عن المسلمين مصرحًا

ص: 462

أنَّ في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس وكسرًا لشماختها، فلمَّا ابتلي المسلمون صبروا وجزع المنافقون.

ومنها: أنَّ الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيِّضَ لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها.

ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها.

ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحَّص ذنوب المؤمنين

به، "وعرف المسلمون أنَّ لهم عدوًّا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم، ومنها: أنَّ في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس، وكسرًا لشماختها" تكبرها وتعاظمها، تفسير لهمضها، "فلمَّا ابتلي المسلمون صبروا وجزع" بكسر الزاي "المنافقون" أي: لم يصبروا.

"ومنها: أنَّ الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته" الجنة، "لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمِحَن" جمع محنة، مساوٍ للابتلاء، "ليصلوا إليها" كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين} [آل عمران: 142] .

قال ابن إسحاق: أي: حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا من ثوابي الكرامة، ولم أخبركم بالشدة، وأبتليكم بالمكاره، حتى أعلم أصدق ذلك منكم الإيمان بي، والصبر على ما أصابكم فيّ.

"ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها،" إكرامًا لهم؛ حيث اتخذ منهم شهداء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لولا أنَّ رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عنِّي، ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلَّفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

"ومنها: أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك"؛ حيث اعتقدوا أنهم على شيء من ظفرهم الصوري بالمسلمين، فزادوا وعتوًّا وتجبرًا، وإلّا فقد ألقى في قلوبهم الرعب "من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحَّص ذنوب المؤمنين،" التمحيص التخليص من الشيء المعيب، وقيل: هو الابتلاء والاختيار. قال:

رأيت فصيلًا كأن شيئًا ملفقًا

فكشفه التمحيص حتى بداليا

ص: 463