المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب غزوة بدر العظمى - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٢

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام

- ‌إسلام الفاروق

- ‌دخول الشعب وخبر الصحيفة

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة

- ‌وفاة خديجة وأبي طالب:

- ‌خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:

- ‌ذكر الجن:

- ‌وقت الإسراء:

- ‌ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:

- ‌باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:

- ‌قصة سراقة:

- ‌ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر

- ‌ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

- ‌باب بدء الأذان

- ‌كتاب المغازي

- ‌مدخل

- ‌بعث حمزة رضي الله عنه:

- ‌سرية عبيدة المطلبي

- ‌سرية سعد بن ملك

- ‌أول المغازي: ودان

- ‌ غزوة بواط

- ‌غزوة بدر الأولى:

- ‌سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش:

- ‌تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر

- ‌باب غزوة بدر العظمى

- ‌قتل عمير عصماء

- ‌غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر

- ‌قتل أبي عفك اليهودي

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة

- ‌ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما

- ‌قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة

- ‌غزوة غطفان:

- ‌غزوة بحران

- ‌سرية زيد إلى القردة

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

- ‌سرية عبد الله بن أنيس

- ‌[بعث الرجيع] :

- ‌بئر معونة:

- ‌حديث بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌باب غزوة بدر العظمى

"‌

‌باب غزوة بدر العظمى

":

ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال.

وهي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التي بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها.

وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله،.................

باب غزوة بدر العظمى:

"ثم" بعد مجموع ما ذكر "غزوة بدر" أو في العطف تغليب أو الترتيب ذكرى، فلا يرد تأخر زكاة الفطر عن وقت بدر "الكبرى" نعت لغزوة لا لبدر، "وتسمى العظمى والثانية وبدر القتال" لوقوعه فيها دون الأولى والثالثة، وتسمى أيضا بدر الفرقان، "وهي قرية مشهورة" بين مكة والمدينة على نحو أربع مراحل من المدينة، قاله النووي، وفي معجم ما استعجم: على ثمانية وعشرين فرسخا من المدينة يذكر ولا يؤنث جعلوه اسم ماء، "نسبت إلى بدر بن يخلد" بفتح التحتية وإسكان الخاء المعجمة وضم اللام غير منصرف للعلمية ووزن الفعل هكذا في نسخة صحيحة، وهي المنقول فما في أكثر النسخ كبعض نسخ الفتح مخلد بالميم تحريف من النساخ "ابن النضر" بضاد معجمة جماع قريش، ولا يستعمل إلا باللام، فلا يلتبس بنصر بمهملة؛ لأنه بلا لام "ابن كنانة" لأنه "كان نزلها" وعلى هذا اقتصر اليعمري، وصدر به في الفتح.

"وقيل: بدر بن الحارث حافر بئرها" وبهذا صدر مغلطاي وأسقط الأول قائلا: وقيل بدر بن كلدة: "وقيل": نسبت القرية إلى "بدر" فهو مجرور منون، "اسم البئر التي بها سميت" البئر بدرا "لاستدارتها" كبدر السماء "أو" يعني، وقيل: كما في سيرة مغلطاي: سميت البئر بدرا "لصفائها" أي: صفاء مائها "ورؤية البدر فيها" وقال ابن قتيبة: كانت البئر لرجل يسمى بدرا من غفار، وقيل: بدر رجل من بني ضمرة. وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار: وإنما هي ماؤنا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. قال البغوي: وهذا قول الأكثر.

"قال ابن كثير: وهو" أي: يوم بدر، "يوم الفرقان" المذكور في قوله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَان} [الأنفال: 41] الآية؛ لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل، قاله ابن عباس رواه ابن جرير وابن المنذر وصححه الحاكم، "الذي أعز الله فيه الإسلام" قواه وأظهره، "و" قوى "أهله

ص: 255

ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، الخيل المسومة، والخيلاء الزائد، أعز الله به رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين:.........................

ودمغ" الله "في الشرك أخفاه وأذهب شوكته، يقال: دمغه كسر عظم دماغه، فشبه الشرك بالدماغ المكسورة استعارة بالكناية، وأثبت الدمغ له تخييلا أو الاستعارة في الفعل فهي تبعية، "وخرب محله" أي: أهله الذين كانوا يعظمونه، أو خرب الأماكن التي كان ظاهرا فيها، والأول أظهر؛ لأن تخريب أماكنه إنما كان بعد فتح مكة بهدم العزى وتكسير هبل وإزالة جميع الأصنام. "وهذا" المذكور من عز الإسلام ودمغ الشرك حاصل "مع قلة عدد المسلمين وكثرة العدو" فهو آية ظاهرة على عناية الله تعالى بالإسلام وأهله، "مع ما" أي: حال "كانوا" أي: العدو "فيه من" القوة الحاصلة لهم بلبس "سوابغ الحديد" أي: الدروع الحديد السوابغ، أي: الواسعة من إضافة الصفة للموصوف وتقدير القوة إلخ؛ لأن السوابغ ليست حالا حتى يبين بها ما كانوا عليه.

"والعدة" بضم العين "الكاملة" أي: الاستعداد والتأهب، والعدة ما أعددته من المال والسلاح أو غير ذلك، كما في المصباح، فعطفه على ما قبله عطف عام على خاص على الثاني ومسبب على سبب على الأول. "والخيل" جمع لا واحد له من لفظه "المسومة" الراعية أو من السمة وهي العلامة أو البارعة الجمال، وذكره بعد العدة من الخاص بعد العام، "والخيلاء" بضم الخاء وكسرها الكبر "الزائد" فذكر رعاية لمعناه، وفي نسخة الزائدة بالهاء رعاية للفظة؛ لأن فيه ألف التأنيث، "أعز الله به رسوله وأظهر وحيه وتنزيله" أي: القرآن عطف أخص على أعم أو تفسير إن أريد الأعم على أن الوحي بمعنى الموحى والتنزيل بمعنى المنزل أعم من أن يكون لفظا أو معنى، "وبيض وجه النبي" كناية عن ظهور بهجة السرور، فأطلق البياض وأريد لازمه نحو يوم تبيض وجوه، أي: أظهر سرور النبي صلى الله عليه وسلم، "وقبيله" أي: أتباعه بالنصب عطف على رسوله أو على وجه بتقدير مضاف، أي: وبيض وجه قبيلة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

"وأخزى الشيطان" إبليس وغيره من الشياطين "وجيله" أتباعه من أهل الضلال والزيغ نسبوا إليه لقبولهم ما وسوس به فضلوا عن الحق واتبعوه، أو المراد إبليس وأعوانه من الشياطين، والأول أولى لإفادته العموم في أنه أخرى شياطين الجن والأنس. "ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين" قال شيخنا: أضافهم إليه تشريفا، فالمراد الكاملون في الإيمان، فقوله:"وحزبه" أي: أنصار دينه "المتقين" مساوٍ لما قبله بالنظر للتحقيق والوجود، وهو ما صدق عليه المؤمن والمتقي له في المفهوم، فإن العبد معناه الذي لا يملك لنفسه شيئا مع سيده، فكأنه قال: على

ص: 256

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] أي قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد. انتهى.

فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار، وأعز الله من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار.

عباده الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، بل كانوا منقادين له بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} حال من الضمير، ولم يقل ذلائل، ليدل على قتلهم، "أي: قليل عددكم" فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب وإلا فأذلة جمع ذليل ضد عزيز، وقلة العدد سبب لذلك، أي: قليلون بالنسبة إلى من لقيتم من المشركين من جهة أنهم كانوا مشاة إلا قليلا وعارين من السلاح؛ لأنهم لم يأخذوا أهبة القتال كما ينبغي، وإنما خرجوا لتلقي الغير بخلاف المشركين، "لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله" كما قال تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} [آل عمران: 160] ، "لا بكثرة العدد" بفتح العين "والعدد" بضمها جمع عدة، كغرفة وغرف، "انتهى" كلام اب كثير.

"فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام" أي: أفضلها وأشرفها، قال في الاستيعاب: وليس في غزواته ما يصل لها في الفضل ويقرب منها غزوة الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان، انتهى. فليس المراد العظم من حيث كثرة الجند والشدة؛ لأن في غيرها ما هو أقوى منها في ذلك، ويدل لهذا قوله:"إذ منها كان ظهوره" أي: كمال انتشار الإسلام وكثرة الداخلين فيه، "وبعد وقوعها أشرق على الآفاق" جمع أفق بضمتين وبسكون الفاء أيضا، كما مر في: وضاءت بنورك الأفق. وفي القاموس: الأفق بضمة وبضمتين الناحية، انتهى. أي: من الأرض والسماء "نوره" عدله وإصلاحه بعد الشدة التي كان فيها من المشركين، سماه نورا؛ لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق "ومن حين" أي: وقت "وقوعها أذل الله الكفار" بقتل صناديدهم وأسرهم، "وأعز الله من حضرها من المسلمين" والملائكة "فهو عنده من الأبرار" الأتقياء المقربين، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لعل الله أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة "، أو:"فقد غفرت لكم".

وقال في حارثة بن سراقة الأنصاري: وقد أصيب يومئذ وأنه في جنة الفردوس وجاءه جبريل، فقال:"ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة"، رواها البخاري وهي بشارة عظيمة، وقد قال العلماء: الترجي في كلام الله ورسوله للوقوع، على أن أحمد وأبا داود وغيرهما، ورووه بلفظ:"إن الله أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار من شهد

ص: 257

وكان خروجهم يوم السبت لثنتي عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام.

واستخلف أبا لبابة.

وخرجت معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه.

وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة......................................

بدرا وا لحديبية"، رواه مسلم.

"وكان خروجهم يوم السبت" كما جزم به مغلطاي وعند ابن سعد: يوم الاثنين، وقالا: معا "لثنتي عشرة" ليلة "خلت من رمضان" وزاد مغلطاي: "على رأس تسعة عشر شهرا" لأن باقي سنة القدوم عشرة أشهر تقريبا والماضي من السنة الثانية ثمانية أشهر كاملة، وما مضى من رمضان في مقابله الماضي من ربيع الأول "ويقال: لثمان خلون منه، قاله" أي: هذا القول الثاني عبد الملك "بن هشام" تفسيرا لقول شيخ شيخه ابن إسحاق. خرج لليال مضت من رمضان، "واستخلف أبا لبابة" بشيرا، وقيل: رفاعة بن عبد المنذر الأوسي رده من الروحاء واليا على المدينة، كذا قاله ابن إسحاق.

قال الحاكم: لم يتابع على ذلك إنما كان أبو لبابة زميل النبي صلى الله عليه وسلم ورده مغلطاي بمتابعته له في المستدرك، قال: وبنحوه ذكره ابن سعد وابن عقبة وابن حبان، انتهى. فيكون زميل المصطفى حصل قبل رده إياه من الروحاء: قرية على ليلتين من المدينة والصلاة معا قبل رد أبي لبابة من الروحاء قبل رده إياه من الروحاء: قرية على ليلتين من المدينة، والصلاة معا قبل رد أبي لبابة من الروحاء، انتهى. أي: فبقي على الصلاة فقط. "وخرجت معه الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه" وما ظنوا أنه يقع قتال؛ لأن خروجهم إنما كان لتلقي العير "وكان عدة" البدريين ثلاثمائة عشر، كما رواه أحم والبزار والطبراني عن ابن عباس، وهو المشهور عند ابن إسحاق وجماعة من أهل المغازي وللطبراني والبيهقي عن أبي أيوب، قال: خرج صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقال لأصحابه:"تعادوا" فوجدهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، ثم قال لهم:"تعادوا" فتعادوا مرتين فأقبل رجل على بكر له ضعيف وهم يتعادون فتمت العدة ثلاثمائة وخمسة عشر، وللبيهقي أيضا بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: خرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومعه ثلاثمائة وخمسة عشر ولا تنافي، لاحتمال أن الأول لم يعد المصطفى ولا الرجل الآتي آخرا. وفي حديث عمر عند مسلم: ثلاثمائة وتسعة عشر، قال الحافظ: فيحمل على أنه ضم إليهم من استصغر ولم يؤذن له في القتال، كابن عمر والبراء وأنس وجابر وللبزار من حديث أبي موسى ثلاثمائة وسبعة عشر. وحكى السهيلي أنه حضر مع المسلمين سبعون نفسا من الجن كانوا أسلموا، وإذا تحرر هذا، فليعلم أن الجميع لم يشهدوا القتال، وإنما عدة "من خرج معه" واستمر حتى شهد القتال "ثلاثمائة

ص: 258

وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها.

وخمسة" قاله ابن سعد: ولابن جرير عن ابن عباس: وستة.

قال الحافظ: فكأن ابن سعد لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، قال ابن سعد: المهاجرون منهم أربعة وستون وسائرهم من الأنصار، وهو يفسر قول البراء عند البخاري: كان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين والأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وفي البخاري عن الزبير، قال: ضربت يوم بدر للمهاجرين بمائة سهم، وجمع الحافظ بأن حديث البراء فيمن شهدها حسا وحكما، أو المراد بالعدد الأول الأحرار، والثاني: بانضمام مواليهم وأتباعهم.

وسرد ابن إسحاق أسماء من شهدها من المهاجرين، وذكر معهم خلفاءهم مواليهم، فبلغوا ثلاثة وثمانين رجلا، وزاد عليه ابن هشام ثلاثة. وسردهم الواقدي خمسة وثمانين. ولأحمد والبزار والطبراني عن ابن عباس: أن المهاجرين ببدر كانوا سبعة وسبعين، فلعله لم يذكر من ضرب له بسهم ممن لم يشهدها حسا. وقال الداودي: كانوا على التحرير أربعة وثمانين ومعهم ثلاثة أفراس فأسهم لهم بسهمين وضرب لرجال أرسلهم في بعض أمره بسهامهم، فصح أنها كانت مائة بهذا الاعتبار.

قال الحافظ: ولا بأس بما قاله، لكن ظهر لي أن إطلاق المائة إنما هو باعتبار الخمس وذلك أنه عزله ثم قسم ما عداه على ثمانين سهما عدد من شهدها ومن ألحق بهم، فإذا أضيف له الخمس كان ذلك من حساب مائة سهم، انتهى. وقد ينازع فيما ظهر له بأن الخمس لا يكون نسبته للمهاجرين فقط، وسرد اليعمري: المهاجرين أربعة وتسعين، والخزرج مائة وخمسة وتسعين، والأوس أربعة وسبعين، فلذلك ثلاثمائة وثلاثون وستون، قال: وإنما ذلك من جهة الخلاف في بعضهم. وفي الكواكب: فائدة ذكرهم معرفة فضيلة السبق وترجيحهم على غيرهم والدعاء لهم بالرضوان على التعيين. وقال العلاة الدواني: سمنا من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم في البخاري مستجاب وقد جرب.

"وثمانية لم يحضروها" لكنهم "إنما" تخلفوا للضرورات ولذا "ضرب لهم بسهمهم" بأن أعطاهم ما يخصهم من الغنيمة، "وأجرهم" بأن أخبرهم أن لهم أجر من شهدها، "فكانوا كمن حضرها" فعدوا في أهلها، وهم: عثمان بن عفان تخلف على زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه وكانت مريضة مرض الموت، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في البخاري:"إن لك لأجر رجل ممن شهدها وسهمه"، وطلحة وسعيد بن زيد بعثهما يتجسسان عير قريش، ومن الأنصار: أبو لبابة استخلفه على المدينة، وعاصم بن عدي على أهل العالية، والحارث بن حاطب على بني عمرو بن عوف

ص: 259

وكان معهم ثلاثة أفراس: "بعزجة" فرس المقداد، وفرس الزبير وفرس لمرثد الغنوي، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا.

لشيء بلغن عنهم، والحارث بن الصمة وقع بالروحاء فكسر فرد هؤلاء من الروحاء وخوات بن جبير أصابه حجر في ساقه فرده من الصفراء هؤلاء الذين ذكرهم ابن سعد.

وذكر الواقدي عن سعد بن مالك الساعدي والد سهل، قال: تجهز ليخرج لبدر فمات فضرب له بسهمه وأجره، وممن اختلف فيه هل شهدها أو رد لحاجة سعد بن عبادة، وصبيح مولى أبي أحيحة رجع لمرضه، وفي المستدرك: أن جعفر بن أبي طالب ضرب له صلى الله عليه وسلم يومئذ بسهمه وأجره وهو بالحبشة، وأقره الذهبي، فهؤلاء اثنا عشر.

"وكان معهم ثلاثة أفراس بعزجة" بفتح الموحدة وإسكان المهملة فزاي فجيم مفتوحتين فتاء تأنيث، كما في النور. وحرف نساخ الشامية الزاي بالراء، فقد قال السهيلي: البعزجة شدة جري الفرس في مغالبة، كأنه منحوت من أصلين: من بعج إذا شق، وعز، أي غلب، انتهى. "فرس المقداد" بن عمرو الشهير بابن الأسود، كأنها سميت بذلك لشدة جريها، ويقال: اسمها سبحة، بفتح السين وإسكان الموحدة وبالحاء المهملتين وتاء تأنيث، وبه صدر الشامي، لكن صدر اليعمري بالأول، وجزم به في الروض، فلذا اقتصر المصنف عليه.

واليعسوب بفتح التحتية فعين فسين مضمومة مهملتين فواو ساكنة فموحدة "فرس الزبير" بن العوام، وقيل: اسمها السيل، وبه صدر الشامي وعلى الأول اقتصر اليعمري. "وفرس لمرثد" بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة ودال مهملة، ابن أبي مرثد كناز بن الحصين، "الغنوي" بفح المعجمة والنون نسبة إلى غنى بن يعصر، صحابي ابن صحابي، بدري ابن بدري، "لم يكن لهم يومئذ خيل غير هذه" الثلاثة وثبت ذكر فرس مرثد عند ابن سعد في روية، وجزم المصنف في المقصد الثامن بأنه لم يكن معهم غير فرسين للمقداد والزبير، وقال ابن عقبة: ويقال كان معه عليه السلام فرسان، واستشكل هذا بما رواه أحمد بإسناد صحيح عن علي، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وأجيب بحمل النفي على بعض الأحوال دون الباقي، لكن في التقريب للحافظ: لم يثبت أنه شهدها فارس غير المقداد.

"وكان معهم" كما قال ابن إسحاق: "سبعون بعيرا" فاعتقبوها، فكان صلى الله عليه وسلم وعلي وزيد بن حارثة، ويقال: مرثد يعتقبون بعيرا هكذا. وقد روى الحارث بن أبي أسامة وابن سعد عن ابن مسعود: كنا يوم بدر كل ثلاثة بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم، قالا: اركب حتى نمشي عنك، فيقول:"ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما" وعليه فجملة الذين يعتقبون مائتان وعشرة، فيحتمل أن الباقين لم

ص: 260

وكان المشركون ألفا ويقال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير.

يركبوا، أو أن الثلاثة تركب مدة يدفعونه إلى غيرهم ليركبه مدة أخرى، والعقبة النوبة، كما في المصباح. فالمراد: أن كل واحد يركب مدة وركوب أبي لبابة معهم كان قبل رده من الروحاء وبعده أعقب مرثدا، كما عند ابن إسحاق، أو زيدا، كما عند غيره.

وذكر ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم دفع اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، قال: وكان أمامه عليه السلام رايتان سوداوان بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ. قال اليعمري: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وأن لواء المهاجرين كان بيد علي ثم روى بسنده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عليا الراية يوم بدر، وهو ابن عشرين سنة. وأجيب عن الأول بأن هذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فيحتمل أن سعد لغيره أدفعه لغيره بإذنه صلى الله عليه وسلم ليحرسه في العريش، إذ هو ببدر.

"وكان المشركون ألفا" كما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن عمر، ورواه ابن سعد عن ابن مسعود، "ويقال" هم "تسعمائة وخمسون رجلا" مقاتلا "معهم مائة فرس وسبعمائة بعير" قال ابن عقبة وابن عائذ، والتقييد بمقاتلا لفظهما، فيمكن الجمع بأن باقي الألف الخمسين غير مقاتلين. وعند ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا والزبير وسعد بن مالك في نفر إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وغريض أبو يسار غلام بني العاصي فأتوا بهما، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فلما سلم، قال:"أخبراني عن قريش" قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي تراه بالعدوة القصوى، قال:"كم القوم"؟ قالا: كثير، قال:"ما عدتهم"؟ قال: ما ندري قال: "كم ينحرون كل يوم" قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، قال صلى الله عليه وسلم:"القوم ما بين التسعمائة والألف"، ثم قال:"فمن فيهم من أشرف قريش"، فسميا له خمسة عشر، فأقبل صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال:"هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" أي: قطع كبدها، شبه أشرافهم بفلذة الكبد بفاء ومعجمة المستور في الجوف وهو أفضل ما يشوى من البعير عند العرب، وأمرؤ.

قال ابن عقبة: وزعموا أن أول من نحر لهم عشر جزائر حين خرجوا من مكة أبو جهل، ثم صفوان تسعا بسعفان، ثم سهيل عشرا بقديد، ومالوا منه إلى نحو البحر فضلوا، فأقاموا يوما فنحر شيبة تسعا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر مقيس الجمحي تسعا، ونحر العباس عشرا، والحارث تسعا، وأبو البختري على ماء بدر عشرا، ومقيس عليه تسعا، ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم.

ص: 261

وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الاثنين وقيل غير ذلك.

وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى:{وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] .

وإنما قصد صلى الله عليه وسلم والمسلمون التعرض لعير قريش، وذلك أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصي،..................

"وكان قتالهم يوم الجمعة" عند الأكثرين، قال ابن عساكر: وهو المحفوظ، "لسبع عشرة خلت من رمضان" قاله ابن إسحاق، وتبعه في الاستيعاب والعيون والإشارة، ولا يوافق ما مر أن خروجهم يوم السبت لثنتي عشرة خلت من رمضان، إلا أن يكون وقع خلاف في هلاله، فالقائل بخروجهم ثاني عشرة بناء على أن أوله الثلاثاء، والقائل بأن القتال في سابع عشره بناء على أن أوله الأربعاء. "وقيل: يوم الاثنين" رواه ابن عساكر في تاريخه بإسناد ضعيف، قال أبو عمر: لا حجة فيه عند الجميع، "وقيل غير ذلك،" فقيل: لسبع عشرة بقيت من رمضان، وقيل: لثنتي حجة فيه عند الجميع، "وقيل غير ذلك" فقيل: لسبع عشرة بقيت من رمضان، وقيل: لثنتي عشرة خلت منه، ويقال: لثلاث خلون منه، حكاها كلها مغلطاي. وعلى الأخير فخروجهم قبل رمضان.

"وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ} أنتم وهم للقتال ثم علمتم حالهم وحالكم، {لَاخْتَلَفْتُم} ، أنتم وهم {فِي الْمِيعَاد} الآية، هيبة منه وبأسا من الظفر علهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنيعا من الله خارقا للعادة، فيزدادوا إيمانا وشكرا، {وَلَكِنْ} جمعكم بغير ميعاد {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] حقيقا بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه، "وإنما قصد صلى الله عليه وسلم والمسلمون التعرض لعير قريش" التي خرج عليه السلام في طلبها وهي ذاهبة. من مكة إلى الشام، حتى بلغ العشيرة فوجدها سبقته بأيام، فلم يزل مترقبا لرجوعها من الشام، "وذلك" كما أخرجه ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان عن عروة: "أن أبا سفيان" صخر بن حرب المسلم في الفتح رضي الله عنه، "كان بالشام في ثلاثين راكبا" كذا نقله الفتح عن ابن إسحاق والذي في ابن هشام عن البكائي عنه في ثلاثين أو أربعين، وتبعه اليعمري وغيره، فإما أنه اقتصار على المحقق، أو رواية أخرى عنه.

"منهم:" مخرمة بن نوفل و"عمرو بن العاصي" أسلما بعد ذلك وصحبا رضي الله عنهما،

ص: 262

فأقبلوا في قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، وقال:"هذه عير لقريش فيها أموال فأخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها".

فلما سمع أبو سفيان بسيره عليه السلام، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري أن يأتي قريشا بمكة، فيستغفرهم ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لعيرهم في أصحابه.

فنهضوا في قريب من ألف مقنع ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة.

وقال ابن عقبة: وابن عائذ في سبعين رجلا وكانت عيرهم ألف بعير، ولم يكن لحويطب بن عبد العزى شيء فلم يخرج معهم، "فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش" يقال: كان فيها خمسون ألف دينار، وكأن لم يبق قرشي ولا قرشية له مثقال إلا بعث به في العير، "حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبي صلى الله عليه ذلك" حذف الفاء أولى؛ لأن ما بعدها جواب إذا وهو ماض متصرف، فلا تقترن به الفاء "فندب أصحابه" أي: دعاهم "إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو" إذ غاية ما قيل: أنهم سبعون، "وقال:"هذه عير لقريش فيها أموال" كثيرة "فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها" مثله في العيون، وفي نسخة:"يغنمكموها" ومثله في السبل.

وكل عزى لابن إسحاق والخطب سهل، قال في الرواية: فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم؛ لأنهم ظنوا أنهم لم يلقوا حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان، "فلما سمع أبو سفيان بسيره عليه السلام" عن بعض الركبان أن محمدا قد استنفر لك ولعيرك، "استأج ضمضم" بفتح المعجمة بعد كل ميم أولاهما ساكنة، "ابن عمرو الغفاري" بكسر المعجمة وتخفيف الفاء، قال في النور: الظاهر هلاكه على كفره، "أن يأتي قريشا بمكة" بعشرين مثقالا وأمره أن يجدع بعيره، أي: يقطع أنفه ويحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، "فيستنفرهم" يحثهم على الخروج بسرعة، "ويخبرهم أن محمد قد عرض" أي: ظهر "لعيرهم في" مع "أصحابه" فلما بلغ مكة فعل ما أمر به، وهو يقولك يا معشر قريش!! اللطيمة اللطيمة، أموالك مع أبي سفيان عقد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، فقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك، "فنهضوا في قريب من ألف مقنع" وكانوا ما بين رجلين إما خارج وإما باعث مكثه رجلا، "ولم يتخلف أحد من أشراف قريش، إلا أبا لهب" وفي نسخة: إلا أبا لهب، وكلاهما صحيح. "وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة" أخا أبي

ص: 263

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في طلب العير، وحرب النفير، وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش..............................................

جهل كان له عليه أربعة آلاف درهم أفلس له بها فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه واشتد حذر أبي سفيان، فأخذ طريق الساحل وجد في السير حتى فات المسلمين، فلما أمن أرسل إلى قريش يأمرهم بالرجوع، فامتنع أبو جهل، "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال ابن إسحاق: وضرب عسكره ببئر أبي عنبة، كواحدة العنب المأكول على ميل من المدينة، فعرض "أصحابه" ورد من استصغر وسار "حتى بلغ الروحاء" بفتح الراء وسكون الواو وحاء مهملة ممدودة: قرية على نحو أربعين ميلا من المدينة. وفي مسلم: على ستة وثلاثين. وفي كتاب ابن أبي شيبة: على ثلاثين، ونزل صلى الله عليه وسلم سجسجا، يفتح السين المهملة وسكون الجيم بعدهما مثلهما، وهي بئر الروحاء سميت بذلك، قال السهيلي: لأنها بين جبلين، وكل شيء بين شيئين سجسج، انتهى.

وهو تفسير مراد، ففي اقاموس: السجسج: الأرض ليست بصلبة ولا سهلة، وما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، "فأتاه الخبر" بعد أن سار من الروحاء وقرب من الصفراء، كما عند ابن إسحاق. "فأتاه الخبر" بعد أن سار من الروحاء وقرب من الصفراء، كما عند ابن إسحاق. "عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم" من رسوليه اللذين بعثهما يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان، أحدهما: بسبس، بموحدتين مفتوحتين ومهملتين أولاهما ساكنة، ووقع لجميع رواة مسلم وبعض رواة أبي داود: بسبسة بضم الموحدة وفتح المهملة وإسكان التحتية وفتح السين وتاء تأنيث والمعروف، قال الذهبي وغيره: وهو الأصح الأول، وكذلك ذكره ابن إسحاق والدارقطني وابن عبد البر وابن ماكولا والسهيلي، قال في الإصابة: وهو الصواب، فقد قال ابن الكلبي: إنه الذي أراده الشاعر بقوله:

أقم لها صدورها يا بسبس

إن مطايا القوم لا تجسس

وهو ابن عمرو الجهني، كما نسبه ابن إسحاق: قال السهيلي: ونسبه غيره إلى ذبيان الأنصاري حليف الخزرج، والثاني: عدي بن أبي الزغباء سنان الجهني حليف بني النجار، الزغباء بفتح الزاي وسكون المعجمة وموحدة ممدودة، فمضي حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، وأخذا يستسقيان من الماء فسمعا جاريتين، تقول إحداهما لصاحبتها: إن أتاني الغير غدا أو بعد غد أعمل لهم ثم أقضك الذي لك، فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا، "فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس" أصحابه رضي الله عنهم "في طلب العير و" في "حرب النفير" القوم النافرين للحرب، يعني: خيرهم بين أن يذهبوا للعير أو إلى محاربة النافرين لقتالهم، وأخبرهم عن قريش بمسيرهم، "وقال:"إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريش"

ص: 264

وكانت العير أحب إليهم.

فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن.

ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا برك...........................

كما قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُم} [الأنفال: 7]، "وكانت العير أحب إليهم" كما قال تعالى:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم} [الأنفال: 7]، والمراد بذات الشوكة: الطائفة التي فيها السلاح. قال أبو عبيدة في المجاز: يقال ما أشد شوكة بني فلان، أي: حدهم، وكأنها استعارة من واحدة الشوك.

وروى الطبري وأبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس: أقبلت عير لأهل مكة من الشام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها فسبقت العير المسلمين، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخصر مغنما من أن يلقوا النفير، "فقام أبو بكر" وفي الشامية: استشار الناس فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم فقام أبو بكر "فقال فأحسن،" أي: جاء بكلام حسن، ولم أرَ من ذكره، "ثم قام عمر، فقال فأحسن" ذكر ابن عقبة وابن عائذ أنه قال: يا رسول الله! إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك فتأهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته، وأعزها بالنصب مفعول معه أو مبتدأ حذف خبره، أي: ثابت لم يتغير، "ثم قام المقداد بن عمرو" وعند النسائي: جاء المقداد يوم بدر على فرس، "فقال: يا رسول الله! امضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول" بنون الجميع، أي: معاشر المسلمين "لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى".

وفي رواية البخاري: كما قال قوم موسى " {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} [المائدة: 24] الآية،" قالوه استهانة وعدم مبالاة بالله ورسوله، وقيل: تقدير اذهب أنت وربك يعينك، فإنا لا نستطيع قتال الجبابرة، وقال السمرقندي: أنت وسيدك هارون؛ لأنه أكبر من موسى بسنتين أو ثلاثة، "ولكن" نقول:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون" هذه رواية ابن إسحاق. ورواية البخاري: ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، زاد ابن إسحاق:"فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا برك" بفتح الموحدة عند الأكثر. وفي رواية بكسرها، وصوبه بعض اللغويين لكن المشهور المعروف في الرواية الفتح والراء ساكنة، وحكى عياض عن الأصيلي فتحها، قال النووي: وهو غريب ضعيف آخره كاف.

ص: 265

الغماد -يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.

فقال له صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير........................................

"الغماد" بكسر المعجمة وتخفيف الميم، قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن، وقال البكري: هي أقاصي هجر. وقال الهمداني: هو في أقصى اليمن. قال الحافظ: والأول أولى. وحكى ابن فارس ضم الغين، والقزاز فتحها، وأفاد النووي أن المشهور في الرواية الكسر، وفي اللغة الضم وفي فتح الباري: قال ابن خالويه. حضرت مجلس المحاملي وفيه زهاء ألف، فأملى عليهم حديثا فيه: لو دعوتنا إلى برك الغماد، قالها بالكسر، فقلت للمستملي: هي بالضم، فذكر له ذلك، فقال لي: وما هو فقلت: سألت ابن دريد عنه، فقال: هو بقعة في جهنم، فقال المحاملي: وكذا في كتاب أبي علي الغين ضمت. قال ابن خالويه: وأنشد ابن دريم:

وإذا تنكرت البلا

فأولها كف البعاد

واجعل مقامك أو مقـ

ـرك جانبي بكر الغماد

لست ابن أم القاطنيـ

ـن ولا ابن عم للبلاد

وبعض المتأخرين قال القول بأنه موضع باليمن لا يثبت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلى جهنم وخفي عليه أن ذلك بطريق المبالغة، فلا يراد به الحقيقة على أنه لا يتنافي بين القولين، فيحمل قوله جهنم على مجاز المجاورة بناء على القول أن برهوت مأوى أرواح الكفار، وهم أهل النار، انتهى ملخصا.

وقد دلت رواية ابن عائذ في قصة سعد بن معاذ، بلظ: لو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن على أنها من جهة اليمن، وذكر السهيلي أنه رأى في بعض كتب السهيلي أنه رأى في بعض كتب التفسير أنه "يعني مدينة الحبشة" قال الحافظ: وكأنه أخذه من قصة الصديق مع ابن الدغنة، فإن فيها: أنه لقيه ذاهبا إلى الحبشة ببرك الغماد، كما مر ويجمع بأنها من جهة اليمن مقابل الحبشة وبينهما عرض البحر، انتهى. ونقل عياض عن إبراهيم الحربي: برك الغماد وشعفات هجر، يقال فيما تباعد، ولذا قال شيخنا: الأولى تفسيره هنا بأقصى معمور الأرض، كما هو أحد معانيه في القاموس؛ لأنه أتم في امتثال أمره واتباعه. "لجالدنا" أي: لضاربنا "معك من دونه" أي: برك الغماد، يعني: لو طلبتنا له وعارضك قبله أحد جالدناه ومنعناه، "حتى تبلغه، فقال له صلى الله عليه وسلم "خيرا"، ودعا "له بخير" هذا لفظ رواية ابن إسحق.

وروى البخاري عن ابن مسعود: شهدت من المقداد مشهد لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، الحديث، وفي آخره: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله.

ص: 266

ثم قال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس أشيروا عليَّ"، وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك عليه الصلاة والسلام:

قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك............................

وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم، عن أبي أيوب، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان، فهل لكم أن تخرجوا إليها لعل الله يغنمناها ويسلمنا"، قلنا: نعم، فخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين، قال:"قد أخبروا خبرنا فاستعدوا للقتال"، فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، فأعاد فقال المقداد: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى، ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون.

قال: فتمنينا معشر الأنصار، لو أنا قلنا كما قال المقداد، قال: فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] ، "ثم قال عليه الصلاة والسلام" ثالث مرة، "أيها الناس أشيروا عليَّ وإنما يريد الأنصار" كما ذكره سعد جوابا له، والمصنف تابع للفظ الرواية عند ابن إسحاق، فلذا لم يذكر جواب سعد، ثم يعلله بذلك وإن كان أولى على أنه ق يقال الأولى ما في الرواية للاهتمام بحكمة تكرير الاستشارة من سيد الحكماء مع حصول الجواب الكافي من المقداد بحضورهم وسكوتهم عليه وتمنيهم لو كانوا قالوا مثله، "لأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله! إنا برآء من ذمامك" بكسر الذال، فسره البرهان بالحرمة، ويطلق على الضمان أيضا.

قال شيخنا: ولعله المراد، أي: من ضمان مناصرتك، "حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمعنك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، وكان صلى الله عليه وسلم يتخوف" يخشى "أن لا تكون الأنصار ترى" تعتقد "عليها نصرته إلا ممن دهمه" بفتح الدال وكسر الهاء وفتحها، كما في المصباح. أي: نزل به وفحاه "بالمدينة من عدوه" وذكر ابن القوطية: أن اللغتين في دهمتهم الخيل، وأن دهمه الأمر بالكسر فقط، "وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك عليه الصلاة والسلام، قال له سعد بن معاذ" السيد الذي هو في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين، صرح به البرهان في غير هذا الموضع: "والله لكأنك

ص: 267

تريدنا يا رسول لله؟ قال: "أجل".

قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله ما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا، إن لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله تعالى.

فسر عليه السلام بقول سعد، ونشطه ذلك،........................................

تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل" أي: نعم، "قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيقا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت".

وفي رواية: لما أمرت به وعند ابن عائذ من مرسل عروة، وابن أبي شيبة من مرسل علقمة بن وقاص عن سعد: ولعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، ولعلك يا رسول الله خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فمرنا نتبع لأمرك، لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن، لفظ علمقة، ولفظ عروة: ولو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن، وغمد بضم المعجمة وسكون الميم ودال مهملة، لنسيرن معك.

وفي رواية ابن إسحاق: "فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت" أي: طلبت أن تقطع "بنا" عرض "هذا البحر" أي: الملح "فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا أنا لصبر" بضم الصاد والموحدة "عند الحرب صدق" بضم الصاد والدال، "عند اللقاء" هكذا ضبطه البرهان وتبعه الشامي، وهو جمع صبور وصديق بزنة فعيل وفعول بالفتح، بمعنى فاعل على فعل بضمتين قياسا مطردا، "ولعل الله أن يريك" منا "ما تقر به عينك" وقد فعل، فأراه ذلك منهم في هذا اليوم وفي غير رضي الله عنهم، "فسر على بركة الله تعالى، فسر عليه السلام بقول سعد ونشطه" أي: صيره "ذلك" مسرعا في طلب العدو، ووقع عن ابن مردويه عن علمقة أن سعدا قال: فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما

ص: 268

ثم قال: "سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم". قال ثابت عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: "هذا مصرع فلان"، ويضع يده على الأرض، ههنا وههنا

قال فما ماط أحدهم -أي ما تنحى- عن موضع يده عليه السلام.

تنبيه: قال ابن سيد الناس في "عيون الأثر": روينا من طريق مسلم أن الذي قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه

متبعون. قال الحافظ: والمحفوظ أن هذا الكلام للمقداد وإن سعدا إنما قال ما ذكر عنه.

"ثم قال: "سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا"، بفتح الهمزة وكسر الشين: أمر، "فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين" إما العير وإما النفير، وقد فاتت العير فلا بد من الطائفة الأخرى؛ لأن وعد الله لا يختلف وإلى هذا أرشد أيضا بقوله: "والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم" الذين سيقتلون ببدر وأقسامه على ذلك وهو الصادق المصدوق زيادة في تبشيرهم وطمأنينتهم.

"قال ثابت" البناني فيما رواه مسلم من طريقه، "عن أنس" بن مالك عن عمر، كما في مسلم: ففيه من لطائف الإسناد عن صحابي، "قال" عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم ليرينا مصارع أهل بدر، بقول النبي "عليه الصلاة والسلام:"هذا مصرع فلان" غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان، "ويضع يده على الأرض ههنا وههنا" يشير إلى مواضع قتلهم إشارة محسوسة، "قال: فما ماط أحدهم، أي: ما تنحى" وفي شرح النووي: أي تباعد، "عن موضع يده عليه السلام" فهو معجزة ظاهرة. قال الحافظ: وهذا وقع وهم ببدر في الليلة التي التقوا في صبيحتها، انتهى. فقد بين الحديث أنه سمى وعين جماعة. وفي رواية: أنه أخر بمصارعهم قبل الواقعة بيوم أو أكثر. وفي أخرى: أخبر بذلك يوم الواقعة، وجمع ابن كثير بأنه لا مانع من أنه يخبر به في الورقتين.

تنبيه:

"قال ابن سيد الناس" الحافظ أبو الفتح اليعمري "في عيون الأثر" في فنون المغازي والشمائل والسير: "روينا من طريق مسلم أن الذي قال ذلك" المذكور عن سعد بن معاذ "سعد بن عبادة سيد الخزرج" ولفظه عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادنا إلى برك الغماد لفعلنا

الحديث، "وإنما يعرف ذلك" القول "عن سعد بن معاذ، كذا رواه

ص: 269

ابن إسحاق وغيره.

واختلف في شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره الواقدي والمدائني وابن الكلبي منهم انتهى.

ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم قريبا من بدر، نزل قريش بالعدوة القصوى من الوادي، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء.............................................

ابن إسحاق وغيره" كابن أبي شيبة وابن عائذ وابن مردويه. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم استشارهم مرتين، الأولى بالمدينة أول ما بلغه خبر العير، وذلك بين من لفظ مسلم: أنه شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، كانت بعد أن خرج، كما في حديث الجماعة. ووقع عند الطبراني أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب، انتهى.

"واختلف في شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره" موسى "ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره الواقدي" محمد بن عمر بن واقد المدني أبو عبد الله الأسلمي الحافظ المتروك مع سعة علمه، "المدائني" أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الأخباري صاحب تصانيف، وثقه ابن معين. وقال ابن عدي: ليس بالقوي، مات سنة أربع وخمسين ومائتين عن ثلاث وتسعين سنة. "وابن الكلبي منهم، انتهى" كلام العيون. وفي فتح الباري إشارة إلى أنه ليس بخلاف حقيقي؛ لأنه قال: لم يشهد سعد بن عبادة بدرا وإن عد منهم، لكونه ممن ضرب له بسهمه وأجره. وفي العيون بعد ما نقله المصنف عنه، وروين عن ابن سعد أنه كان يتهيأ للخروج إلى بدر، ويأتي دور الأنصار يحضهم على الخروج، فنهش قبل أن يخرج فأقام، فقال صلى الله عليه وسلم:"لئن كان سعد لم يشهدها لقد كان عليها حريصا". قال وروى بعضهم أنه عليه السلام ضرب بسهمه وأجره، انتهى. وهو أيضا إيماء إلى أن الخلاف بالاعتبار لا حقيقي.

"ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم" من المكان الذي كان فيه وهو ذفران. بفتح المعجمة وكسر الفاء فراء فألف فنون: واد قرب الصفراء، وسار حتى نزل "قريبا من بدر ونزل قريش بالعدوة" بضم العين وكسرها وبهم قرئ في السبع، وقرئ شاذا بفتحها جانب الوادي وحافته. وقال أبو عمرو: المكان المرتفع، "القصوى" البعدي من المدينة تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الاسم، كالقعود، وهو أكثر استعمالا من القصيا، كما في الأنوار.

"من الوادي، ونزل المسلمون على كثيب" بمثلثة: رمل مجتمع، "أعفر" أحمر أو أبيض ليس بالشديد ولعله المراد، "تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء

ص: 270

بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم.

وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبي الله، وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاءوا.

فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوايد، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام. ووالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم،.........................

بدر، فأحرزوه وحفروا القلب" جمع قليب: البئر قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها، "لأنفسهم" ليجعلوا فيها الماء من الآبار المعينة فيشربوا منها ويسقوا دوابهم، ومع ذلك ألقى الله عليهم الخوف حتى ضربوا وجوه خيلهم إذا صهلوا من شدة الخوف، وألقى الله الأمنة والنوم على المسلمين بحيث لم يقدروا على منعه، "وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم الظمأ" العطش، "وهم لا يصلون إلى الماء" لسبق المشركين له، ثم نهض المسلمون إلى أعدائهم فغلبوهم على الماء وعاروا القلب التي كانت تلي العدو فعطش الكفار وجاء النصر، قاله السهيلي ويأتي قريبا في حديث الحباب.

"ووسوس الشيطان لبعضهم، وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش وتصلون محدثين" الحدث الأصغر، "مجنبين" محدثين الحدث الأكبر؛ لأنهم لما ناموا احتلم أكثرهم، كما في الأنوار، ولم تكن آية التيمم نزلت، فرأى إبليس لعنه الله تلك الغرة، "وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم" قطعا مجازيا، فلذا عطف عليه عطف تفسير، "ويذهب قواكم" إذ لو كان حقيقة ما استقام قوله:"فيتحكموا فيكم كيف شاءوا" من قتل من أرادوا وسبي من أرادوا، "فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المسلمون" واتخذوا الحياض على عدوة الوادي، "واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب" الإبل التي يسار عليها، الواحدة راحلة لا واحد لها من لفظها، كما في المختار.

"وملئوا الأسقية وأطفأ" المطر "الغبار ولبد الأرض" أيبسها "حتى ثبت عليه الأقدام" والحوافر "وزالت عنهم وسوسة الشيطان" ورد كيده في نحره، "وطابت أنفسهم" وضر ذلك

ص: 271

فذلك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي من الأحداث والجناية {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان} بالصبر {ويثبت به الأقدام} [الأنفال: 11] حتى لا تسوغ في الرمل، بتلبيد الأرض.

وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم..........................................................

بالمشركين لكون أرضهم كانت سهلة لينة وأصابهم ما لم يقدروا معه على الارتحال، "فذلك قوله تعالى:" {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] الآية، أي: من الإحداث والجنابة" وهو طهارة الظاهر، "ويذهب عنكم رجز الشيطان، أي: وسوسته" وتخويفه إياهم من العطش، وقيل: الجنابة؛ لأنها من تخييله وهو تطهير الباطن، "وليربط على قلوبكم بالصبر" والإقدام على مجالدة العدو وهو شجاعة الباطن، وفي الأنوار: بالوثوق على لطف الله بهم، "ويثبت به الأقدام" أي: بالمطر، حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض" وهو شجاعة الظاهر، وفي الأساس تلبد التراب والرمل ولبده المطر، ثم قال: ومن المجاز كذا فأفاد أنه هنا حقيقة، وقيل: ضمير به للربط على القلوب حتى تثبت في المعرفة، قال ابن إسحاق: فخرج صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به، فقال الحباب بن المنذر بن الجموع: يا رسول الله! هذا منزل أنزلكه الله لا تتقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، قال: فإن هذا ليس بمنزله فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزل ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا، فنملئه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وسلم: "أشرت بالرأي"، وعند ابن سعد: فنزل جبريل فقال: الرأي ما أشار به الحباب، فنهض صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فنزل حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآية، وقوله: نغور بالغين المعجمة وشد الواو، أي: ندفنها ونذهبها وبالعين المهملة بمعناه عند ابن الأثير، وقال أبو ذر: معنى المهملة نفسدها، انتهى.

والسهيلي ضبطه بضم المهملة وسكون الواو على لغة من يقول قول القوع وبوع المتاع، انتهى. "وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم" بإشارة سعد كما رواه ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن سعد بن معاذ، قال: يا رسول الله! ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا، فإن أغزنا الله وأظهرنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك

ص: 272

عريش فكان فيه.

ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء-................................................................................

تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير. "عريش" شبه الخيمة يستظل به. "فكان فيه" قال السمهودي: مكانه الآن عند مسجد بدر، وهو معروف عند النخيل والعين قريبة منه، قال: وبقربه في جهة القبلة مسجد آخر يسميه أهل بدر مسجد النظر، ولم أقف فيه على شيء.

"ثم" لما عدل صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه وأقبلت قريش ورآها عليه السلام، فقال:"اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم احنهم الغداة" كما رواه ابن إسحاق. "خرج عتبة بن ربيعة" بن عبد شمس بن عبد مناف وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في القوم على جمل أحمر، فقال: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر أن يطيعوه ويرشدوا، وذكر ابن إسحاق أنه قام خطيبا، فقال: يا معشر قريش! والله ما تصنعوا بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب فإن أصابه غيركم فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعدموا منه ما تريدون، وأرسل بذلك حكيم بن حزام إلى أبي جهل فأخبره، فقال: والله ما بعتبه ما قال، ولكنه رأى أن محمدًا وأصحابه آكلة جزور وفيهم ابنه فتخوفكم عليه ثم أفسد على الناس رأي عتبة وبعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد الرجوع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشده مقتل أخيك، فقام عامر فصرخ: واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب وتعبوا للقتال والشيطان معهم لا يفارقهم، فخرج الأسود المخزومي وكان شرسا سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهتد منه أو لأموتن دونه، فتبعه حمزة رضي الله عنه فضربه دون الحوض، ثم خرج بعده عتبة "بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة" حتى فصل من الصف، "ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار، وهم: عوف" بالفاء قال ابن عبد البر: وسماه بعضهم عوذا أي بالذال وعوف أصح "ومعاذ" كذا في النسخ والذي في الرواية: معوذ "ابن الحارث" الأنصاريان النجاريان، "وأمهما عفراء" جملة استئنافية لشهرتهما بها لا أنها خرجت معهم وهي بنت عبيد بن ثعلبة الأنصاري الجارية الصحابية، قال في

ص: 273

وعبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم حاجة.

ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال صلى الله عليه وسلم:"قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي".

فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ فتسموا لهم، قالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة.

فقتل علي الوليد. هكذا ذكره ابن إسحاق.

وعند موسى بن عقبة -كما نقله في فتح الباري- برز حمزة لعتبه، وعبيدة لشيبة وعلي للوليد.

الإصابة: لها خصوصية لا توجد لغيرها وهي أنها تزوجت بعد الحارث البكير بن ياليل الليثي فولدت له إياسا وعاقلا وخالدا وعامرا وأربعتهم شهدوا بدرا، وكذلك أخوتهم لأمهم بنو الحارث، يعني: عوفا ومعوذا ومعاذا، فانتظم من هذا أنها صحابية لها سبعة أولا شهدوا بدرا معه صلى الله عليه وسلم، "وعبد الله بن رواحة" النقيب البدري الأمير المستشهد بموتة، "فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم حاجة" وفي رواية لابن إسحاق: فقال عتبة: أكفاء كرام إنما نريد قومنا، "ثم نادى مناديهم" قال في النور: لا أعرف اسمه، والظاهر أنه أحد الثلاثة: "يا محمد أخرج" بقطع الهمزة "إلينا أكفاءنا من قومنا" وعند ابن عقبة وابن عائذ: أنه صلى الله عليه وسلم استحيا من خروج الأنصار؛ لأنه أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون وهو عليه السلام شاهد معهم، فأحب أن تكون الشوكة ببني عمه فنادهم أن ارجعوا إلى صافكم وليقم إليهم بنو عمهم، "فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي"، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ " لأنهم كانوا متلثمين لما خرجوا فلا يرد أنهم يعرفونهم لولادتهم بمكة ونشأتهم بينهن، "فتسموا لهم" اختصار لقول ابن إسحاق: فقال عبيدة عبيدة، وقال حمزة حمزة، وقال علي علي، "قالوا: نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم" المسلمين "عتبة بن ربيعة" وكان أسن الثلاثة المشركين "وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة فقتل علي الوليد"، وقتل حمزة شيبة واختلف عبيدة وعتبة بضربتين كلاهم أثبت صاحبه فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه، "وهكذا ذكره ابن إسحاق" محمد في السيرة.

"وعند موسى بن عقبة كما في فتح الباري: برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعلي للوليد ثم

ص: 274

ثم اتفقنا: فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة في ركبة عبيدة ومال علي وحمزة على الذي بارزه عبيدة فأعاناه على قتله.

وعند الحاكم، من طريق عبد خير عن علي: مثل قول موسى بن عقبة.

وعند أبي الأسود عن عروة مثله.

وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلماني: أن شيبة لحمزة، وعبيدة لعتبة، وعليا للوليد، ثم قال: الثبت أن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة.

وأخرج أبو داود عن علي قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارزه فانتدب له شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال:........................

اتفقا" معا على قولهما "فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه" وهو عتبة أو شيبة على الروايتين "بضربتين" بأن ضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة أثخنه بها، "فوقعت الضربة في ركبة عبيدة،" فمات منها لما رجعوا بالصفراء كما في الفتح قبل قوله:"ومال حمزة وعلي على الذي بارزه عبيدة فأعاناه على قتله" فهو قاتله بإعانتهما، وعلى رواية ابن إسحاق: هما اللذان قتلاه، أي: عجلا موته وإلا فعبيدة كان أثخنه. "وعند الحاكم من طريق عبد خير" بن يزيد الهمداني اللذان قتلاه أي قال في التقريب: مخضرم ثقة لم يصح له صحبة، "عن علي مثل قول موسى بن عقبة وعند أبي الأسود" محمد يتيم عروة "عن عروة" بن الزبير "مثله" فقويت رواية ابن عقبة على ابن إسحاق، "وأورد ابن سعد من طريق عبيدة" بفتح العين وكسر الموحدة ابن عمرو وقيل: ابن قيس بن عمرو "السلماني" الكوفي التابعي الكبير أحد الأعلام أسلم قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يلقه ومات سنة سبعين، وقيل: ثلاث وقيل أربع وسبعين "أن شيبة لحمزة وعبيدة لعتبة" مثل ما عند ابن إسحاق "وعليا للوليد، ثم قال" ابن سعد القول "الثبت" أي القوي: "أن عتبة لحمزة وشيبة لعبيدة" لوروده عن علي الذي هو أحد الثلاثة من طرق عدة ومن وجوه الترجيح حضورا لراوي القصة ثم اعتضد بمرسل عروة، وهو من كبار التابعين لا سيما أن كان حمله عن الترجيح حضور الراوي للقصة ثم اعتضد بمرسل عروة، وهو من كبار التابعين لا سيما أن كان حمله عن أبيه وهو من البدريين، وجزم به موسى بن عقب في مغازيه التي قال مالك والشافعي: إنها أصح المغازي.

قال في فتح الباري: قال بعض من لقيناه: اتفقت الروايات على أن عليا للوليد، وإنما اختلف في عتبة وشيبة أيهما لعبيدة وحمزة والأكثر أن شيبة لعبيدة، قلت:"و" في دعوى الاتفاق نظر فقد "أخرج أبو داود" من الحارث بن مضرب "عن علين قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يبارزه فانتدب له" أي: أجابه شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال:

ص: 275

لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال صلى الله عليه وسلم:"قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة"، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فاثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف علي والوليد فكانا شابين.

وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك. وهذا موافق لرواية أبي داود.

لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال صلى الله عليه وسلم:"قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة" فأقبل حمزة إلى عتبة" فهذا طريق ثان عن علي، أنه لا لشيبة، "وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه" فصرح بأن الوليد لعبيدة وشيبة لعلي بخلاف ما ادعى عليه ذلك البعض الاتفاق مع صحته، "ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخ ساقه يسيل، فقال: أشهيد أنا يا رسول الله، قال: "نعم"، قال: وددت والله أن أبا طالب كان حيا ليعلم إننا أحق منه، بقوله:

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ثم أنشأ يقول:

فإن يقطعوا رجلي فإني مسلم

أرجى به عيشا من الله عاليا

وألبسني الرحمن من فضل منه

لباسا من الإسلام غطى المساويا

هذا بقية رواية أبو داود.

"قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات" من جهة الإسناد؛ لأن إسناد أبي داود صحيح، "لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور، وهو اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة" مبارزة عند الأكثرين، "كانا شيخين" فإن سن عبيدة يومئذ ثلاث وستون سنة "كعتبة وحمزة" مبارزة على الأرجح، فإن سن حمزة حينئذ كان ثمانيا وخمسين سنة، "بخلاف علي والوليد فكانا شابين" إذ سن علي يومئذ عشرون سنة، "وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي، قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك،" ففيه جواز الإعانة لمن فرغ من قرنه، "وهذا موافق لرواية أبي داود" في

ص: 276

والله أعلم. انتهى.

قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش............................................

أن الوليد لعبيدة فكيف يقول ذلك البعض.

اتفقت الروايات على أن عليا للوليد "والله أعلم" بما كان من ذلك، "انتهى" كلام الحافظ، وفيه جواز المبارزة خلافا لمن أنكرها، كالحسن البصري وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق للجواز إذن أمير الجيش وفضيلة ظاهرة لعبيدة وحمزة وعلي رضي الله عنهم، وقد أقسم أبو ذر أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، نزلت في الذين برزوا يوم بدر فذكر هؤلا الستة، وقال علي: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] رواهما البخاري. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بمحمد وبنبيكم وبما أنزل الله من كتاب.

وعن مجاهد: أنها مثل المؤمن والكافر اختصما في البعث، وهذا يشمل جميع الأقوال وينتظم فيه قصة بدر وغيرهما، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل، واختار ابن جرير هذا واستحسن، ولذا قال: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار.

"قال ابن إسحاق و" لما قتل المبارزون وخرج صلى الله عليه وسلم من العريش لتعديل الصفوف ثم عاد إليه "تزاحف الناس" أي: مشى كل فريق جهة الآخر، "ودنا" قرب "بعضهم من بعض" وعند ابن إسحاق أيضا: أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوضه صلى الله عليه وسلم، فقال:"دعوهم" فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا حكيم بن حزام ثم أسلم وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمنه قال: لا والذي نجاني من يوم بدر، وأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وإن أكثبوكم فانضحوهم عنكم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم واستبقوا نبلكم، فقال أبو بكر: يا رسول الله! قد دنا القوم ونالوا منا، فاستيقظ وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر أصحابه فكان تثبيتا لهم.

وفي الصحيح عن أبي أسيد: قال لنا صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم" قال ابن السكيت: أكثب الصيد إذا أمكن من نفسه، فالمعنى: إذا قربوا منكم فأمكنوكم فارموهم واستبقوا نبلكم في الحالة التي إذا رميتم لا تصيب غالبا. "ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش

ص: 277

ومعه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، وهو عليه الصلاة والسلام يناشد ربه إنجاز ما وعده من النصر ويقول:"اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد في الأرض أبدا". وأبو بكر يقول: يا رسول الله، خل بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.

وعند سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،...............

ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره" وسعد بن معاذ متوشحا سيفه في نفر من الأنصار على باب العريش يحرسونه، "وهو عليه الصلاة والسلام يناشد" أي: يسأل "ربه إنجاز ما وعده من النصر" قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن} [الأنفال: 7] {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} [الروم: 47] الآية، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171، 172، 173] ، "يقول" مع سؤال ذلك: "اللهم إن تهلك هذه العصابة". قال النووي: ضبطوه بفتح التاء وضمها فعلى الفتح العصابة بالرفع فاعل، وعلى الضم بالنص مفعول، والعصابة: الجماعة، انتهى. وجوز نصبها مع فتح التاء على أنه متعد والثلاثة مع سر اللام، وفي لغة بني تميم بفتح اللام مع فتح التاء ورفع ما بعده، فهي أربعة لكن الرواية بالأوليين فقط، كما أفاده النووي بقوله ضبطوه بل اقتصر الحافظ على فتح التاء وكسر اللام ورفع العصابة ففيه إشارة إلى أنه أشهر الروايتين. "من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد في الأرض أبدا" لفظ ابن إسحاق الذي هو ناقل عنه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" وفي حديث ابن عباس عند البخاري: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد".

وفي حديث عمر عند مسلم: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض"، والاعتذار للمصنف بأنه نقله بالمعنى إشارة إلى أن المراد من الإيمان والإسلام واحد، إنما يصح لو عزاه المصنف لمسلم، وهو إنما نقله عن ابن إسحاق، ولم يقع ذلك عنده، وفيه إشعار بأن من أسباب سؤاله ربه إنجاز وعده بقاء عبادته في الأرض.

"وأبو بكر يقول" شفقة عليه ومحبة: "يا رسول الله! خل" أترك "بعض مناشدتك" مصدر مضاف لفاعله و"ربك" مفعوله، وعلله بقوله:"فإن الله منجز" قاض أو معجل "لك ما وعدك" من النصر والظفر عليهم وغير ذلك.

"وعند سعيد بن منصور" بن شعبة، أبي عثمان الخراساني الحافظ الثقة أحد الأعلام صاحب السنن، أخذ عن مالك والليث وخلق، وعنه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات بمكة سنة سبع وعشرين ومائتين، وهو في عشر التسعين، "من طريق عبيد الله" بضم العين "ابن عبد الله" بفتحها "ابن عتبة" بضم العين وإسكان الفوقية ابن مسعود الهذلي، أبي عبد الله المدني

ص: 278

قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، تكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال عليه السلام وهو في صلاته:"اللهم لا تخذلني، اللهم إني أنشدك ما وعدتني".

وروى النسائي والحاكم عن علي قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده:"يا حي، يا قيوم". فرجعت وقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك.

وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لماكان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم..................................

التابعي الوسط الثقة الثبت الفقيه كثير العلم والحديث، أحد الفقهاء السبعة المتوفى سنة أربع أو ثمان أو خمس أو تسع وتسعين، "قال: لما كان" تامة، أي: حضر "يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين" إلى "تكاثرهم" وفي نسخة: فتكاثرهم بفتح المثلثة والراء من التفاعل، وهي أنسب بقوله: "وإلى المسلمين فاستقلهم" من القلة "فركع ركعتين" أي: أحرم بهما لا فرغ منهما لما بعده، "وقام أبو بكر عن يمينه" يحرسه لا يصلي معه، ويؤيده قول علي: قام أبو بكر شاهر السيف على رأسه صلى الله عليه وسلم لا يهوى إليه أحد إلا أهوى إليه، "فقال عليه السلام، وهو في صلاته:" لعله في سجودها إذ هو الأليق بمقام الدعاء لخبر أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد "اللهم" أسقط من رواية من عزا له: "لا تودع مني، اللهم" "لا تخلني" بفتح التاء وضم المعجمة، أي: لا تترك عوني ونصري، "اللهم إني أنشدك" بفتح الهمزة وسكون النون وضم المعجمة والدال، أي: أطلب منك "ما وعدتني" وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود: ما سمعنا مناشدا ينشد ضالة أشد من مناشدة محمد لربه يوم بدر: "اللهم أنشدك ما وعدتني".

"وروى النسائي والحاكم عن علي: قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت" لاستكشاف حاله صلى الله عليه وسلم، "فإذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده:"يا حي يا قيوم"،" أي: لا يزيد على ذلك، كذا قاله الشامي ولا يعارضه الحديث قبله المحتمل أنه قال ما فيه من سجوده؛ لأنه قاله قبل إتيان علي، "فرجعت فقاتلت، ثم جئته فوجدته كذلك" فعل ذلك أربع مرات، وقال في الرابعة: ففتح عليه.

"وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم" فتور يتقدم النوم، يحتمل بعد فراغه من صلاته، ويحتمل فيها. وعند ابن إسحاق: أنه عليه السلام خفق في العريش خفقة، قال في النور: بفتح

ص: 279

ثم استيقظ متبسما، فقال:"أبشر يا أبا بكر، وهذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش وهو يتلو {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} .

المعجمة والقاف، أي: حرك رأسه وهو ناعس، انتهى. ففيه أنه لم يستغرق على أنه لو استغرق ما ضر؛ لأن نومه ليس بناقض. "ثم استيقظ متبسما، فقال: "أبشر" بقطع الهمزة "يا أبا بكر"، زاد ابن إسحاق: أتاك نصر الله، "هذا جبريل على ثناياه النقع" بفتح النون وسكون القاف وعين مهملة: الغبار إشارة للاهتمام بمناصرته صلى الله عليه وسلم ليدخل عليه وعلى أصحابه السرور.

وفي البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب". قال الحافظ: وأخرج سعيد بن منصور تتمة لهذا الحديث مفيدة من مرسل عطية بن قيس: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد عصب الغبار ثنيته عليه درعه، وقال:"يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، أفرضيت؟ قال: "نعم".

وروى البيهقي عن علي، قال: هبت ريح شديدة لم أر مثلها، ثم هبت شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبرائيل، والثانية ميكائيل، والثالثة إسرافيل، فكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره، وأنا فيها، انتهى. ورواه ابن سعد وذكر الثلاثة جزما، وقال: فكانت الأولى جبريل في ألف من الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية ميكائيل في ألف عن يمينه، والثالثة إسرافيل في ألف عن يساره. وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن علي، قال: قيل لي ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل، مالك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال. قال الحافظ: والجمع بينه وبين هبت ريح

إلخ، ممكن.

"ثم خرج من باب العريش، وهو يتلو: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] الآية،" قال الزجاج: يعني الإدبار؛ لأن اسم الواحد يقع على الجمع، أي: سيفرق شملهم ويغلبون، وقيل: أفرد لأن كل واحد يولي دبره. وقيل: إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة ولا يثبت أحد فيهم دبر أحد. وقيل: لأجل رءوس الآي، وفي هذا علم من أعلام النبوة؛ لأن هذه الآية نزلت بمكة وأخبرهم بأنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال. وأخرج الطبري وابن مردويه عن ابن عباس: لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] الآية، قال عمر: أن جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت في الدرع، وهو يقول:"سيهزم الجمع"، ولابن مردويه عن أبي هريرة عن عمر: لما نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول الله! أي جمع؟ فذكره. ولابن أبي حاتم: فعرفت تأويلها يوم بدر.

ص: 280

فإن قلت: كيف جعل أبو بكر يأمره عليه السلام بالكف عن الاجتهاد في الدعاء ويقوي رجاءه ويثبته، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقام الأحمد، ويقينه فوق يقين كل أحد؟

أجاب السهيلي نقلا عن شيخه: بأن الصديق في تلك الساعة كان في مقام الرجاء، والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف؛ لأن الله تعالى أن يفعل ما يشاء، فخاف أن لا يعبد الله في الأرض، فخوفه ذلك عبادة انتهى.

وقال الخطابي: لا يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعملون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أن استجيب له لما وجد أبا بكر في نفسه من القوة...............................

"فإن قلت: كيف جعل" أي: شرع "أبو بكر يأمره عليه السلام" يسأله أو يلتمس منه على التسوية بين الأمر والدعاء والالتماس "بالكف عن الاجتهاد في الدعاء، ويقوي رجاءه ويثبته، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقام الأحمد" الذي لا يصل إليه أحد، ومقام الصديق رضي الله عنه دونه بمراحل، فإنه بعد النبيين، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم فوق الجميع. "ويقينه فوق يقين كل أحد، أجاب السهيلي نقلا عن شيخه" القاضي أبي بكر بن العربي الحافظ: "بأن الصديق في تلك الساعة كان في مقام الرجاء" ثقة بوعد الله نبيه "والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف" قال القاضي أبو بكر: وكلا المقامين سواء في الفضل.

قال السهيلي: لا يريد: يعني شيخه، أن النبي صلى الله عليه وسلم والصديق سواء، ولكن الخوف والرجاء مقامان لا بد للإيمان منهما، فكان الصديق في مقام الرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف من الله، "لأن الله تعالى أن يفعل ما شاء فخاف أن لا يعبد الله في الأرض" بعدها "فخوفه ذلك عبادة، انتهى" ولا ريب أن خوفه أعلى من رجاء أبي بكر "وقال الخطابي: لا يتوهم" لفظه، لا يجوز أن يتوهم "أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، في تلك الحالة بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم باطنا، "والدعاء" الطلب باللسان "والابتهال" التضرع والإخلاص في الدعاء "لتسكن نفوسهم عند ذلك؛ لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك" الاجتهاد في الدعاء "وعلم أنه استجيب له لما" حين "وجد أبا بكر في نفسه من القوة

ص: 281

والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: سيهزم الجمع ويولون الدبر.

وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ، لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا هو الذي يظهر من بادئ الرأي.

وإنما قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد اليوم" لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان.

والطمأنينة" اللتين هما علامة بحسب العادة الربانية مع المصطفى وصحبه على عدم ضررهم وحصول مطلوبهم، "فلهذ أعقبه بقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْع} [القمر: 45]،" الذين قالوا: نحن جميع منتصر، {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ،" قال في الفتح: وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا، فلا يلتفت إليه، ولعل الخطابي أشار إليه.

"وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة" الدعاء أو الشرعية، فإن وقوعها في الخوف أعلى الأحوال والدرجات، "وجاز عنده" عليه السلام "أن لا يقع النصر يومئذ؛ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا" فبفرض تأخره مدة لا ينافي أنه أعطاه ما وعده به، "هذا هو الذي يظهر من بادئ الرأي" وهذا غير جواب السهيلي؛ لأن محلظه تجويز أن النصر لا يقع يومئذ ويتأخر مدة، وملحظ جواب السهيلي أنه خاف أن لا يعبد الله في الأرض، ويأتي ما قاله النووي عن العلماء.

وذهب قاسم بن ثابت في معنى الحديث إلى غير ذلك، فقال: إنما قال ذلك الصديق رة عليه صلى الله عليه وسلم لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه، فقال له بعض هذا: يا رسول الله! أي: لم تتعب نفسك هذا التعب والله قد وعدم بالنصر، وكان رقيق القلب شديد الإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم:"وإنما قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام" ساقه هنا بلفظ مسلم وفيما مر بمعناه "فلا تعبد بعد اليوم لأنه علم أنه خاتم النبيين فلو هلك هو ومن معه" أفاد أن العصابة هو وأصحابه لا هم فقط، لجواز أنه يدعو غيرهم أفيؤمنون ويعبدون، "لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان" وذلك مستلزم عادة لعدم الإيمان، وإن كان الله قادرا على أن الناس يعبدونه بغير واسطة رسول تتعلق إرادته بعبادتهم، كما قال:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء} [النحل: 40] الآية.

ص: 282

وأما شدة اجتهاده عليه الصلاة والسلام ونصبه في الدعاء، فإنه رأى الملائكة تنصب في القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون غمرات الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء، ومن سنة الإمام أن يكون وراء الجند لا يقاتل معه، فكان الكل في جد واجتهاد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين وأنصار الله وملائكته يجتهدون، ولا ليؤثر الدعة وحزب الله مع أعدائه يجتلدون. انتهى.

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال عمر بن الخطاب: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا دخل العريش فاستقبل القبلة ومد يديه، وجعل يهتف..............................

"وأما شدة اجتهاده عليه الصلاة والسلام ونصبه" بفتحتين: تعبه، "في الدعاء، فإنه" كما قال السهيلي " رأى الملائكة تنصب" بفتح الصاد، "في القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون" يقتحمون "غمرات الموت" شدائده "والجهاد على ضربين جهاد بالسيف، وجهاد بالدعاء. ومن سنة الإمام" عادته وطريقته "أن يكون وراء الجند" خلف الجيش، "لا يقاتل معه، فكان الكل في جد" بكسر الجيم "واجتهاد" عطف تفسير، "ولم يكن" مريدا "ليريح نفسه من أحد الجدين وأنصار الله وملائكته يجتهدون" جملة حالية، "ولا ليؤثر الدعة" الراحة، "وحزب الله" المؤمنون "مع أعدائه يجتلدون، انتهى" كلام السهيلي.

"وفي صحيح مسلم" وسنن أبي داود والترمذي "عن ابن عباس، قال": حدثني "عمر بن الخطاب،" قال: "لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف" هذ أولى بالصواب لصحته وكونه عن عمرو، وافقه عليه ابن مسعود وهما بدريان، ومر قول ابن عقبة وابن عائذ أنهم تسعمائة وخمسون مقاتلا وأنه يمكن الجمع بأنه الخمسين باقي الألف غير مقاتلين، وهذا خير من تأويل الحديث بأنه في نظر الرائي؛ لأن فيه رد الحديث لصحيح المسند عمن حضر الواقعة إلى كلام أهل السير بلا إسناد على أن الرائي إنما كان يراهم قليلا، كما في القرآن وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، "وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا" بفوقية فسين مهملة، ونسخة وبضعة عشر بموحدة فضاد تحريف من النساخ للعز، ولمسلم: فإن بضعة رواية البخاري عن البراء.

أما رواية مسلم عن عمر فتسعة بفوقية وسين، وكذا نقله عنه اليعمري والحافظ جامعا بأنه ضم إلى الثلاثمائة عشر من لم يؤذن له في القتال، "دخل العريش، فاستقبل القبلة ومد يديه وجعل يهتف" بفتح أوله وكسر الفوقية، قال النووي: أي يصيح ويستغيث بالدعاء، وفيه

ص: 283

بربه: "اللهم أنجر لي ما وعدتني"

فمازال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فانزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي....................

استحباب استقبال القبلة ورفع اليدين في الدعاء، وأنه لا بأس برفع الصوت فيه، "بربه" بقول: رافعا صوته، "اللهم أنجز" بفتح الهمزة "لي ما وعدتني" أسقط من رواية مسلم:"اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، "فما زال يهتف بربه مادا يديه" أسقط من الرواية مستقبل القبلة، "حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كذاك" بالذال المعجمة، بمعنى: كفاك. قال قاسم بن ثابت: كذا يراد بها الإغراء والأمر بالكف عن الفعل، وهو المراد هنا. ومنه قول جرير:

تقول وقد ترامحت المطايا

كذاك القول إن عليك عينا

أي: حسبك من القول، فاتركه. قال الحافظ: وخطأ من زعم أنه تصحيف وأن الأصل كفاك. ا. هـ.

وقال النووي: قوله كذاك بالذال. ولبعضهم، أي الرواة: كفاك بالفاء. وفي البخاري: حسبك، وكله بمعنى "مناشدتك" بالنصب على الأشهر بما فيه من معنى الفعل من الكف وبالرفع فاعل به، قاله عياض ثم النووي. "ربك" بالنصب، قال السهيلي: أتى بالمفاعلة والرب لا ينشد عبده؛ لأنها مناجاة للرب، ومحاولة لأمر يريده. وفي البخاري: فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك قد ألححت على ربك، "فإنه سينجز لك ما وعدك" من النصر، قال النووي: قال العلماء: إنما فعل صلى الله عليه وسلم هذه المناشدة ليراه أصحابه بتلك الحال يتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه مع أن الدعاء عبادة، وقد كان الله وعده إحدى الطائفتين إما العير وإما الجيش، والعير قد ذهبت فكان على ثقة من حصول الأخرى، ولكن سأل تعجيل ذلك من غير أذى يلحق المسلمين.

"فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تطلبون منه الغوث بالنصر عليهم بدل من إذ يعدكم أو متعلق بقوله: ليحق الحق، أو على إضمار اذكر، وجمع وإن كان الدعاء من المصطفى وحده للتعظيم، أو لأنه يعم الجميع فكأنهم مشاركون له، أو لأن الصحابة كانوا يستغيثون أيضا، كما روى أنهم لما علموا أن لا محيص من القتال، قالوا: أي رب، انصرنا على عدوك، أغثنا يا غياث المستغيثين، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي} [الأنفال: 9] الآية، قال البيضاوي: أي بأني فحذف الجار وسلط عليه الفعل، وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول، أو إجراء استيجاب

ص: 284

مُمِدُّكُمْ} مرسل إليكم مددا لكم {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} أي متتابعين بعضهم في أثر بعض. وعلى قراءة فتح الدال معناه: أردف الله عز وجل المسلمين وجاءهم بهم مددا.

وفي الآية الأخرى {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} [آل عمران: 124] فقيل معناه: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف. فكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف مردفين بمن وراءهم. والألف هم الذي قاتلوا مع المؤمنين، وهم الذين قال لهم:{فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وكانوا في صور الرجال،.............................

مجرى، قال: لأن الاستجابة من القول. {مُمِدُّكُم} [الأنفال: 9]، أي:"مرسل إليكم مددا لك {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} بكسر الدال اسم فاعل حال من الملائكة، "أي: متتابعين بعضهم في أثر" حكى تثليث الهمزة، كما في النور. "بعض" من أردفته إذا جئت بعده أو متبعين أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه، "وعلى قراءة فتح الدال" وهي قراءة نافع ويعقوب اسم مفعول "معناه: أردف الله عز وجل المسلمين" بألف من الملائكة "وجاءهم بهم مددا" وهو حال من مفعول من يمدكم أو من الملائكة، والمعنى: أنهم مردفون بملائكة تعقبهم وتنضم إليهم، قال النحاس ومكي وغيرهما: وقراءة كسر الدال أولى؛ لأن أهل التأويل عليها ولأن عليه أكثر القراء، ولأن فيها معنى الفتح، قال القرطبي.

"وفي الآية الأخرى" في آل عمران: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124]"، قرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري بألف بضم اللام جمع ألف، كفلس جمع فلس، فلا خلاف بين الآيتين، وعلى القراءة المشهور بالإفراد، "فقيل في معناه:" جمعا بينهما، "إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف، فكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف مردفين" بفتح الدال "بمن وراءهم" والمعنى أن الثلاثة آلاف قوت الألف وزادتهم، "والألف هم الذين قاتلوا مع المؤمنين" والباقون كانوا عددا ومددا، فاتفقت الآيتان.

وقيل في الجمع أيضا: أن الألف كانوا على المقدمة أو الساقة أو هم وجوههم وأعيانهم، "وهم الذين قال لهم:{فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] كالتفسير لقوله {إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12، هود: 93] ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا "وكانوا في صور الرجال" فكان الملك يمشي أمام الصف في صورة رجل، ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم عليهم، ويظن

ص: 285

ويقولون للمؤمنين: اثبتوا فإن عدوكم قليل وإن الله معكم.

وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف.

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف.

وعن عامر الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر الفهري يمد المشركين فشق عليهم، فأنزل الله:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} ..........................................

المسلمون أنه منهم، ذكره القرطبي.

"ويقولون للذين آمنوا اثبتوا"، وعللوا ذلك بقولهم:"فإن عدوكم قليل، باعتبار ما انضم إليهم من الملائكة، أو بخذلان الله لهم حتى قلوا في المعنى، وإن كثروا في العدد أو قليل في نظركم، كما قال: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، حتى قال ابن مسعود لمن بجنبه: أتراهم سبعين، فقال: أراهم مائة، "وإن الله معكم"، بالنصر والمعونة، وقد رأى المشركون الملائكة لتضعف قلوبهم وتنكسر، كما في عدة أخبار.

"وقال الربيع بن أنس" البكري أو الحنفي البصري نزيل خراسان، صدوق له أو هام ورمى بالتشيع مات سنة أربعين ومائة، وقيل: قبل الأربعين. "أمد الله المسلمين بألف" أو لا وهو الذي في الأنفال، "ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم" لما صبروا واتقوا "صاروا خمسة آلاف" كما قال تعالى:{إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ} [آل عمران: 125]، الآية قال في فتح الباري: كان الربيع جمع بذلك بين آيتي آل عمران والأنفال.

"وقال سعيد بن أبي عروبة" مهران اليشكري مولاهم البصري مما رواه ابن أبي حاتم عنه، "عن قتادة" بن دعامة الأكمه المفسر المشهور:"أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف" من الملائكة، وهذا موافق للربيع.

"و" روى ابن أبي حاتم بسد صحيح، "عن عامر الشعبي" التابعي:"أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز" بضم الكاف وسكون الراء وزاي، "ابن جابر الفهري" صحب بعد واستشهد في الفتح، كما مر "يمد" بضم الياء وكسر الميم من الإمداد، أي: يعين "المشركين فشق عليهم، فأنزل الله تعالى:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} [آل عمران: 124] الآية، إنكار أن لا يكفيهم ذلك، وإنما جيء بلن إشعارا بأنهم كانوا كالآيسين من

ص: 286

إلى قوله: {مُسَوِّمِين} [آل عمران: 125]، قال: فبلغت كرر الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم تمد المسلمون بالخمسة.

وعن ابن عباس: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما أقبل جبريل عليه السلام والملائكة كانت يده في يد رجل

النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم، كذا في الأنوار.

قال شيخنا: وكان وجه الإشعار أنه لما أدخل همزة الاستفهام الإنكاري على النفي للكفاية في المستقبل أفاد أنهم كانوا لا يرجونه ولا يأملونه، "إلى قوله: مسومين" معلمين من التسويم وهو إظهار سيماء الشيء، وقيل: مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو.

"قال" الشعبي: "فبلغت كرز الهزيمة" للمشركين "فلم يمد المشركين ولم تمد المسلمون بالخمسة" وإنما أمدوا بالألف ثم بالثلاثة، وما ذكره من أن هذه الآية في قصة بدر، قال الحافظ: هو قول الأكثر، فهي متعلقة بقوله:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْر} [آل عمران: 123] الآية، وبه جزم الداودي، وعليه عمل البخاري، وأنكره ابن التين فذهل. وقيل: متعلقة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} [آل عمران: 121] الآية، فهي في غزوة أحد، وهو قول عكرمة وطائفة. وقد لمح البخاري للاختلاف في النزول فذكر قوله تعالى:{وإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} [آل عمران: 121] الآية، فهي في غزوة أحد، وهو قول عكرمة وطائفة. وقد لمح البخاري للاختلاف في النزول قوله تعالى:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} ، وكذا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْء} [آل عمران: 128] الآية، في أحمد، وذكر له غدا ذلك في بدر، وهو المعتمد. انتهى.

"و" روى البيهقي وغيره "عن ابن عباس" قال: "جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين في صورة سراقة بن مالك بن جعشم" بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة على المشهور، وحكي فتحها، تقدم في الهجرة وكان جنده في صورة رجال من بني مدلج، وذلك كما عند ابن إسحاق أن قريشا لما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن نؤتى من خلفنا، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، "فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، "وإني جار" مجير "لكم". وفي رواية ابن إسحاق: وأنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، "فخرجوا سراعا، "فلما أقبل جبريل عليه السلام والملائكة" إلى إبليس، كما في رواية البيهقي، ورآه إبليس "كانت يده في يد رجل

ص: 287

من المشركين فانتزع يده ثم نكص على عقيبه، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.

وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال على خيل بلق، عليهم ثياب بيض، وعلى رءوسهم.....................................................

من المشركين" هو عمير بن وهب أو الحارث بن هشام، ذكرهما ابن إسحاق، وأسلم كل منهما بعد ذلك وصحب، "فانتزع يده ثم نكص على عقبيه" أي: رجع بلغة سليم، قال:

ليس النكوص على الإدبار مكرمة

إن المكارم إدبار على الأسل

وقال:

وما نفع المستأخرين نكوصهم

ولا ضر أهل السابقات التقدم

وليس هنا قهقرى بل هو فرار، كما قال إذا سمع الأذن أدبروا له ضراط، قاله القرطبي.

قال في رواية البيهقي: ثم ولى هاربا هو وشيعته، "فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار" وقد خذلتنا وانهزمت لتكون سببا في هزيمتنا، "فقال: إني أرى ما لا ترون" من مجيء الملائكة لنصر المسلمين ولا ينافيه أن المشركين رأوا الملائكة لأنهم رأوهم في صورة الرجال فظنوهم رجالا، وإبليس عرف أنهم ملائكة، أو رأى جملتهم والمشركون بعضهم أو غير ذلك، "إني أخاف الله" قال الحسن: خاف أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وقال قتادة: كذب ما به من خوف ولكن علم أنه لا قوة له، فأوردهم وأسلمهم، وهذه عادته لمطيعه، وقيل غير ذلك. "والله شديد العقاب" قال البيضاوي: ويجوز أنه من كلامه وأنه مستأنف، وفي ذلك يقول حسان:

سرنا وساروا إلى بدر لحينهم

لم يعلمون يقين العلم ما ساروا

دلاهمو بغرور ثم أسلمهم

إن الخبيث لمن والاه غرار

وحمل الآية على تصوره بصفة سراقة، هو مذهب الجمهور. وقيل: المراد الوسوسة، وقوله: إني جار لكم مقالة نفسانية، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما رأى الشيطان يوما هو أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة"، وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عز وجل عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: "أما إنه رأى جبريل والملائكة" رواه مالك في الموطأ.

"وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال،" لا ينافي هذا أن كلا نزل في ألف، كما رواه ابن سعد وغيره، كما مر، لجواز أنه أردف كل بخمسمائة أو الخمسمائة بقيد كونهم "على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رءوسهم

ص: 288

عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم.

وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين: عمائم خضر.

وعن علي: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكانت سيماهم أيضا في نواصي خيلهم. رواه ابن أبي حاتم.

وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه، في قوله تعالى:{مُسَوِّمِينَ} قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم خضر.

وروى ابن أبي حاتم عن الزبير: أن الملائكة نزلت وعليهم عمائم صفر.

عمائم بيض" من نور، كما في الرواية: "قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم" ففي كونها من نور إشارة إلى ذلك بالنظر لما تصوروا به إذ لم يكن عليهم شيء من العمائم المعروفة عليهم الصلاة والسلام، "وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سيما" خبر مقدم، أي: علامات "الملائكة يوم بدر عمائم" اسم كان "بيض" صفته "وعن علي: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض" أي: النور المرئي للناظر، مثل الصوف الأبيض إذ الملائكة أجسام نورانية لا يليق بها الملابس الجسمانية "وكانت سيماهم أيضا في نواصي خيلهم" وأذناها، كما هو بقية الرواية عند من عزا له، بقوله: "رواه ابن أبي حاتم" عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي الحافظ ابن الحافظ.

"وروى ابن مردويه" بسند فيه عبد القدوس بن حبيب وهو متروك، "عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه" لفظة استعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم "في" تفسير قوله تعالى {مُسَوِّمِينَ} قال:"معلمين"، بضم الميم وسكون العين اسم مفعول من أعلم الفارس جعل لنفسه علامة الشجعان، أو بفتح العين وشد اللام من علم، أو اللام مخففة من علم كنصر وضرب: وسم. "وكانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم سود" أي: بعضهم، فلا يخالف ما قبله لا ما بعده إشارة للمسلمين بالسؤدد والنصر، وأنهم يسودون عدوهم بالقتل والأسر، كما لبس صلى الله عليه وسلم العمامة السوداء يوم فتح مكة، "ويوم حنين عمائم خضر" موافق لما قبله.

"وروى ابن أبي حاتم، عن الزبير" بن العوام البدري الحواري "أن الملائكة نزلت" يوم بدر "وعليهم عمائم صفر" ورواه ابن جرير بإسناد حسن ع أبي أسيد الساعدي وهو بدري،

ص: 289

قيل: ولم تقاتل الملائكة غير يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا، وبذلك صرح العماد بن كثير في تفسيره فقال: المعروف من قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، ثم روى عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.

وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل في غيرها بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال عند بعضهم.

وفي نهاية البيان في تفسير التباين عند تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْن} وهل قاتلت............................................................................................

ولفظه: خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم، وذلك إظهار لإمارات السرور للمسلمين، وإن هذا الحرب الذي هم فيه إنما هو فرح ينالهم لا ترح، وفي الأصفر من التفريح والسرور ما يشهد به قوله تعالى {تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] الآية، ولذا قيل: من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، ورفعه كذب، كما قال أبو حاتم، فعلم من هذه الروايات أن عمائمهم اختلفت ألوانها. لكن قال السيوطي: الذي صح من الروايات في العمائم أنها صفر مرخاة بين الأكتاف ورواية البيض والسود ضعيفة، ثم هذا كله مع ما يأتي يرد قول عكرمة ومن وافقه أن نزول الملائكة في غزوة أحد، ويؤيد قول الأكثرين وهو المعتمد، كما مر عن الحافظ أنه في بدر. وقد قال البخاري في صحيحه باب شهود الملائكة بدرا، وقال مسلم في الصحيح باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر.

وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جبير بن مطعم: رأيت قبل هزيمة القوم ببدر مثل البجاد الأسود أقبل من السماء كالنمل، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم والأخبار طافحة بقتالهم يوم بدر، وو ظاهر القرآن.

حتى "قيل: ولم تقاتل الملائكة غير يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا" بضم العين جمع عدة كغرف وغرفة، "ومددا" لا يضربون "وبذلك" بل وبترجيحه "صرح العماد بن كثير في تفسيره، فقال: المعروف من قتال الملائكة" على العموم "إنما كان يوم بدر، ثم روى" بإسناده "عن ابن عباس: قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر،" وهذا حجة على من زعم أنهم لم يقاتلوا فيها. "وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل في غيرها، بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال" الثلاثة "عند بعضهم" التي هي قاتلت فيها دون غيرها قاتلت فيها، وفي غيرها لم تقاتل فيها ولا في غيرها، وإنما يكثرون السود ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك أهل الدنيا، وهذه شبهة يدفعها ما يأتي عن السبكي.

"وفي نهاية البيان في تفسير التباين عند تفسير قوله تعالى، {وَيَوْمَ حُنَيْن} وهل قاتلت

ص: 290

الملائكة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما -وهو قول الجمهور- إنها لم تقاتل، انتهى.

وهذا يرده حديث مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد -يعني جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام- يقاتلان كأشد القتال.

قال النووي: فيه بيان إكرامه صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر. قال: وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاصه، فهذا صريح في الرد عليه. قال وفيه أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يراهم الصحابة والأولياء. انتهى.

قال ابن الأنباري: وكانت الملائكة.............................................

الملائكة" يوم حنين "أم لا؟ فيه قولان، أحدهما، وهو قول الجمهور: إنها لم تقاتل" لأن الله إنما قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] الآية، ولا دلالة فيه على قتال، "انتهى، وهذا" أي: القول بأنها لم قتال إلا ببدر "يرده حديث مسلم في صحيحه" في المناقب لا المغازي، "عن سعبد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين" ملكين في صفة رجلين، "عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد،" وفي رواية الطيالسي: لم أرهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، "يعني جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام يقاتلان كأشد القتال" الكاف زائدة أو للتشبيه، أي: كأشد قتال بني آدم، وإنما عزاه لمسلم فقط مع أن البخاري أخرجه أيضا لزيادة مسلم: يعني جبريل وميكائيل.

"قال النووي: فيه" من الفوائد "بيان إكرامه صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر، قال:" النووي "وهذا هو الصواب خلاف لمن زعم اختصاصه" أي: يوم بدر بقتال الملائكة، "فهذا" الحديث "صريح في الرد عليه" ولا صراحة فيه، وقد أجاب عنه البيهقي وغيره، بما حاصله: إن قتال الملائكة ببدر كان عاما عن جميع القوم، وأما في أحد فإنهما ملكان وقتالهما عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، على أنه لا يلزم من ذلك قتالهما بل يجوز أنهما كانا يدفعان عنه ما يرمى به من نحو السهام، وعبر عن ذلك بالقتال مجازا. "قال" النووي:"وفيه" أيضا "أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يراهم الصحابة والأولياء" ولكن غير صورهم الأصلية، "انتهى". وقد يعلمون بأنهم ملائكة وقد لا يعلمون، كما في حديث: ولا يعرفه منا أحد، وقال صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم".

"قال ابن الأنباري:" بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى الأنبار بالعراق، "وكانت الملائكة

ص: 291

لا تعلم كيف يتقتل الآدميون، فعلمهم الله تعالى بقوله:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} أي الرءوس {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال ابن عطية: كل مفصل.

قال السهيلي: جاء في التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا في رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوه بآثار سود في الأعناق والبنان.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا على جبل يشرف على بدر -ونحن مشركان-

لا تعلم كيف تقتل" بالبناء للمفعول. "الآدميون فعلمهم الله تعالى بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} [الأنفال: 12] الآية، "أي: الرءوس" فالتعبير بالأعناق مجاز، فإنها الوصلة بين الرأس والجسد والضرب على الرأس أبلغ، لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ، وهذا قول عكرمة ويوافقه قول ابن عباس: كل هام وجمجمة. وقال الضحاك وعطية والأخفش: فوق زائدة، وخطأهم محمد بن يزيد؛ لأن فوق تفيد معنى، فلا تجوز زيادتها، ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} قال ابن عطية، أي: "كل مفصل" وهو قول الضحاك. قال الزجاج: وواحده بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء.

قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف، وقيل: المراد بالبنان في الآية أطراف الأصابع من اليدين والرجلين؛ لأن ضربهما يعطل المضروب عن القتال بخلاف سائر الأعضاء، ويؤيد الأول قوله:"قال السهيلي: جاء في التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا في رأس أو مفصل، وكانوا" كما رواه يونس بن بير في زيادات المغازي والبيهقي عن الربيع بن أنس، قال: كان الناس "يعرفون قتلى" جمع قتيل "الملائكة ممن قتلوه بآثار سود في الأعناق والبنان" مثل سمة النار قد احترق، كما هو بقية الرواية، ولعله الغالب عنه المصنف، قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة".

"وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني رجل من بني غفار" قال البرهان: لا أعرف اسمه وهو مذكور في الصحابة. قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا" أي: علونا، يقال: صعد وأصعد بمعنى، كما في المطالع، "على جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان"

ص: 292

ننظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينهب، فبينما نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه في الحال. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. رواه البيهقي وأبو نعيم.

والدبرة: بفتح الموحدة وفي نسخه -بسكون الموحدة- الهزيمة في القتال. وحيزوم: اسم فرس جبريل. قاله في القاموس.

أي: كافران، قال البرهان: ورأيت في نسخه من سيرة ابن هشام مشتركان بزيادة تا، وصحح عليها، انتهى.

فإن صحت فترد لما هنا، أي: مشتركان في الكفر وفي كوننا "ننظر الوقعة على من تكن الدبرة" بفتح الدال المهملة الهزيمة، "فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت سحابة فيها حمحمة" بحاءين مهملتين بعد كل ميم: صوت "الخيل" دون الصهيل "فسمعت قائلا يقول: أقدم" بهمزة قطع مفتوحة وكسر الدال من الإقدام، كما رجحه ابن الأثير وصوبه الجوهري، وقال النووي: إنه الصحيح المشهور، أو بهمزة وصل مضمومة وضم الدال المهملة من التقدم، وقدمه ابن قرقول وبكسر الهمزة وفتح الدال، واقتصر عليه في البارع، قال أبو ذر: كلمة يزرج بها الخيل، "حيزوم" بحذف حرف النداء، أي: يا حيزوم، بحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فزاي مضمومة فميم فيعول من الحزم، وتطلق أيضا على الصدر.

قال الشامي: فيجوز أنه سمي به لأنه صدر خيل الملائكة ومتقدم عليها، انتهى. ورواه العذري بالنون بدل الميم، قال عياض: والصواب الأول، وهو المعروف لسائر الرواة والمحفوظ. "فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه" بكسر القاف وتخفيف النون وعين مهملة: غشاؤه تشبيها بقناع المرأة، "فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت" مثله في العيون، وفي السبل: ثم انتعشت بعد ذلك، "رواه البيهقي وأبو نعيم" وابن إسحاق "والدبرة بفتح الموحدة وفي نسخة بسكون موحدة" وفي النور: بإسكان الموحدة ويجوز فتحها. وفي السبل بفتحتين وتسكن.

"الهزيمة في القتال" وفي تذكرة القرطبي: الدبرة ويروى الدابرة والمعنى متقارب. قال الأزهري: الدابرة الدولة تدول على الأعداء، والدبرة النصر والظفر، يقال لمن الدبرة، أي: الدولة. وعلي من الدبرة، أي: الهزيمة، انتهى.

"وحيزوم اسم فرس جبريل، قاله في القاموس" تبعا لجمع، ورده الشامي بما رواه البيهقي عن خارجه بن إبراهيم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "من القائل يوم بدر من الملائكة:

ص: 293

وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. رواه الحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم.

قال الشيخ تقي الدين السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.

أقدم حيزوم"؟ فقال جبريل: ما كل أهل السماء أعرف"، وجوابه أن قائله غير جبريل خاطب به فرس جبريل، فلا ينافيه قوله: ما كل

إلخ، على أن ذا الحديث دال لمن قال إنها فرس جبريل، لقوله:"من القائل"؟ ولم يقل: وما حيزوم. قال البرهان: ولجبريل فرس أخرى ويحتمل أن أحدهما اسم والآخر لقب الحياة، وهي التي قبض أثرها السامري فألقاها في العجل الذي صاغه، فكان له خوار.

"وروى أبو أمامة" أسعد، وقيل: سعد "بن سهل بن حنيف" الأنصاري المعروف بكنيته المعدود في الصحابة؛ لأن له رؤية ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ولد قبل وفاته بعامين، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه اسم باسم جده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة وكناه وبارك عليه، مات سنة مائة وله اثنتان وتسعون سنة، روى له الجميع، "عن أبيه" سهل بن حنيف بضم المهملة وفتح النون وسكون التحتية وبالفاء ابن واهب الأنصاري الأوسي شهد المشاهد كلها، وثبت يوم أحد وبايع يومئذ على الموت، استخلفه علي على البصرة بعد الجمل، ثم شهد معه صفين، ومات في خلافته سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه وصح أنه كبر عليه خمسا، وفي رواية: ستا، وقال: إنه شهد بدرا، "قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف" وما ذاك إلا من الملائكة ففيه حجة لى من أنكره.

"رواه الحاكم وصححه" تلميذه "البيهقي وأبو نعيم" أحمد بن عبد الله. وروى ابن إسحاق عن أبي واقد المازني، قال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذا وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قتله غيري، لكن قال ابن عساكر: في سنده من لا يعرف، وهذه القصة إنما كانت لأبي واقد يوم اليرموك والصحيح قول الزهري عن سنان الديلي أن أبا واقد إنما أسلم عام الفتح، وقال أبو عمر: لا يثبت أنه شهد بدرا، وكذا قال أبو نعيم.

"قال الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار" بأجمعهم "بريشة من جناحه" كما روي أنه رفع مدائن قوم لوط، وهي أربع مدائن في كل مدينة أربعمائة ألف

ص: 294

فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة الجيوش، رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله في عباده، والله فاعل الجميع انتهى.

ولما التقى الجمعان، تناول صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء، فرمى به في وجوههم وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه ومنخريه منها شيء فانهزموا

مقاتل من الأرض السفلى على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها ودجاجها وقبلها، "فقلت:" في الجواب فعل "ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله في عباده والله فاعل الجميع، انتهى" وذكر ابن هشام أن شعار الملائكة كان يوم بدر: أحد، "ولما التقى الجمعان" بعد ما مر من الصلاة والابتهال النبوي، وقتال علي ورجوعه يجد المصطفى ساجدا، وتزاحف الناس ونزول الملائكة، وقول أبي جهل، كما عند ابن إسحاق: اللهم إينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه.

"تناول صلى الله عليه وسلم كفا" أي: ملء كف بأمر جبريل، كما جاء عن ابن عباس "من الحصباء" بالمد صغار الحصى. وفي رواية: ثلاث حصيات، كما يأتي. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزم: سمعنا صوتا من السماء يوم بدر وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة فانهزمنا، فذلك قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْت} [الأنفال: 17] الآية، الآية. وعن جابر: سمعت صوت حصيات وقعت من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست.

وعن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "ناولني قبضة من الحصباء"، وعنه أيضا: أن جبريل قال له: خذ قبضة من تراب، والجمع بينها سهل بأن تكون الحصيات نزلت من المسلمين وبعض عبر عنها بحصاة، وبعض بحصيات بحسب ما تخيله، ثم تفتت فقال له جبريل: خذها، فقال لعلي:"ناولني قبضة من الحصباء"، فناوله "فرمى به" أي: بما تناوله فلذا ذكر الضمير؛ لأنه لو أراد الكف لأنثه لأنها مؤنثة، "في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه" أي: قبحت خبر بمعنى الدعاء، أي: اللهم تنح وجوههم، ويحتمل أنه خبر؛ لأن جبريل لما أمره برميهم بالحصباء تحقق ذلك، "فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه ومنخريه" وفمه كما في رواية: والمنخر بفتح الميم والخاء وكسرها وضمهما، وكمجلس وعصفور الأنف، كما في القاموس وغيره.

"منها شيء، فانهزموا" قال ابن عقبة وغيره: فكانت تلك الحصباء عظيما شأنها صار

ص: 295

وقتل الله من قتل من صناديد قريش،.............................................................

المشرك لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب ينزعه من عينيه، فصاروا يقتلونهم ويأسرونهم. "فقتل الله من قتل" أسند إليه تعالى لكونه الخالق له والمميت حقيقة، وإن نسب الضرب للعبد. "من صناديد قريش" أشرافهم وشجعانهم فمنهم أمية بن خلف أسره عبد الرحمن بن عوف، وأراد استبقائه لصداقة كانت بينهما فنظره بلال، فنادى: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فهبروه أسيافهم. وذكر الواقدي أن الذي تولى قتله خبيب، بمعجمة وموحدة مصغر، ابن أساف بكسر الهمزة وخفة المهملة وفاء، الأنصاري، وقال ابن إسحاق: رجل من بني مازن من الأنصار.

وفي المستدرك: أن رفاعة طعنه بالسيف. وقال ابن هشام: اشترك في تقله معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب بن أساف، ويقال: قتله بلال، والجمع: أن الكل اشتركوا فيه، وكان أمية قد عذب بلالا بمكة في المستضعفين فجعل الله قتله على يده وفجعه قبل قتله يومئذ بقتل ابنه علي بن أمية قتله عمار بن ياسر حتى صاح أمية صيحة لم يسمع مثلها، قيل: وهنأ الصديق بلالا بقوله:

هنيئا زادك الرحمن فضلا

فقد أدركت ثأرك يا بلال

ومنهم: عدو الله أبو جهل، قال ابن إسحاق: أقبل يرتجز، ويقول:

ما تنقم الحرب العوان مني

بازل عامين حديث سني

لمثل هذا ولدتني أمي

فأذاقه الله الهوان بأن قتله حفزا في زعمه وجعل ذلك حسرة عليه، حتى قال: لو غير أكار قتلني، بشدة الكاف، أي: زارع، يعني أن الأنصار أصحاب زرع فأشار إلى تنقيص من قتله منهم، والمعنى: لو كان الذي قتلني غير أكار لكان أحب إلي وأعظم لشأني، ولم يكن علي نقص في ذلك.

وروى البخاري وغيره عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه، يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أقتله أن أموت دونه، فقال لي الآخر سرا مثل صاحبه، فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء معاذ، ومعوذ في الصحيحين عن أنس، قال صلى الله عليه وسلم:"من ينظر ما فعل أبو جهل"؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برك فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبا جهل فقال: فهل فوق رجل قتله قومه، أو قال: قتلتموه والرواية: أنت أبا جهل بالنصب

ص: 296

.................................

ولها توجيهات معلومة، من غريبها أنه خاطبه باللحن قصدا لإهانته.

وعند ابن إسحاق والحاكم: قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عنقه، فقلت: أخزاك الله يا عدو الله، قال: ولم أخزاني هل أعمد رجل قتلتموه؟ أي: أشرف، أي: إنه ليس بعار، أخبرني لمن الدبرة اليوم؟ أي: النصر والظفر، قلت: لله ورسوله، قال: وزعم رجال من بني مخزوم أنه قال لابن مسعود: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، ثم احترزت رأسه. وعند ابن عقبة وأبي الأسود عن عروة، أنه أي بعد هذه المكالمة وجده لا يتحرك منه عضو، فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله ورفع بيضته عن قفاه فوقع رأسه بين يديه. وعند ابن إسحاق والحاكم في حديث ابن مسعود: فجئت برأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال:"الله الذي لا إله إلا هو" فحلفت له، ثم ألقيت رأسه بين يديه، فحمد الله.

وفي زيادات المغازي ليونس بن بكير: فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد ابن مسعود: ثم انطلق حتى أتاه، فقام عنده، ثم قال:"الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله" ثلاث مرات.

وروى ابن عائذ من مرسل قتادة رفعه: "إن لكل أمة فرعونا، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قتلة، قتله ابنا عفراء وقتلته الملائكة"، وتذافه ابن مسعود بفتح الفوقية والذال معجمة ومهملة وشد الفاء، أي: أجهز عليه. والحاصل: أن معاذا ومعوذا ابني عفراء وهي أمهما، كما مر، وأبوهما الحارث بلغا به بضربهما إياه بسيفهما منزلة المقتول حتى لم يبق به إلا مثل حركة المذبوح، وي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فكالمه ثم ضرب عنقه بسيف نفسه.

لكن في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في سيفيهما وقال:"كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.

قال ابن عبد البر وعياض: وأصح منه حديث الصحيحين عن أنس، أي: وعبد الرحمن أيضا، كما مر أن قاتله ابن عفراء، وجمع الحافظ باحتمال أن معاذ بن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو ضربه بعد ذلك معوذ بن عفراء حتى أثبته ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجتمع الأقوال كلها، انتهى. وسبقه إليه النووي، فقال: اشترك الثلاثة في قتله، لكن ابن الجموح أثخنه أولا، فاستحق السلب، وإنما قال:"كلاكما قتله"، تطييبا لقلب الآخر من حيث إن له مشاركا في قتله، وإن كان القتل الشرعي الذي يستحق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا إنما وجد من ابن الجموح، انتهى.

قال في النور: وهو صحيح لكن عطاء بن الجموح السلب يدل على أنه الذي أزال امتناعه.

ص: 297

وأسر من أسر من أشرافهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] قال: هذا يوم بدر، أخذ صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم وبحصاة في ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم، وقال: "شاهت

قلت: هذا حاصل الجمع، وبه صرح النووي كما ترى، فلا معنى لاستدراكه، وجاء أنه قال لابن مسعود: احتز من أصل العنق ليرى عظيما مهابا في عين محمد، وقل له: ما زلت عدوا لله إلى سائر الدهر واليوم أشدة عدواة، فلما أتاه برأسه وأخبره قال:"كما أني أكرم النبيين على الله، وأمتي أكرم الأمم على الله، كذلك فرعون هذه الأمة أشد وأغلظ من فراعنة سائر الأمم، إذ فرعون موسى حين أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وفرعون هذه الأمة ازداد عداوة وكفرا". وذكر عياض أن ابن مسعود إنما وضع رجله على عنقه ليصدق رؤياه. قال ابن قتيبة: ذكر أن أبا جهل قال لابن مسعود: لأقتلنك، فقال: والله لقد رأيت في النوم إني أخذت حدجة حنظل فوضعتها بين كتفيه ورأيتني أضرب كتفيك ولئن صدقت رؤياي لأطأن على رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاة الحدجة -بفتح المهملتين والجيم وتاء تأنيث- الحنظلة الشديدة ومنهم ومنهم وقد أطلت لتشوف النفس لقتل هذا الفرعون، مع أنه ما خلا من فائدة.

"وأسر من أسر" وهم سبعون "من أشرافهم" جمع شريف، ويجمع أيضا على شرفاء، ولعله خصهم بهذا. والقتلى بالصناديد تنبيها على أن القتلى هم المعروفون بالشجاعة بينهم وإن كانوا شرفاء. وعند ابن إسحاق: أنهم لما جعلوا يأسرون، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ على شرفاء. وعند ابن إسحاق: أنهم لما جعلوا يأسرون، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ على بابه متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسونه يخافون كرة العدو، فرأى عليه السلام في وجه سعد الكراهة، فقال له:"والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم"؟ قال: أجل والله يا رسول الله! كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكأن الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجل.

"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" العدوي مولاهم المدني "في" تفسير "قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] الآية، أتيت بصورة الرمي، "{وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] الآية" بإيصال ذلك إليهم؛ لأن كفا من الحصباء لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، وقيل: ما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا، ولكن أعانك الله وظفرك وصنع ذلك، حكاه أبو عبيدة في المجاز عن ثعلب. "قال" عبد الرحمن وأعاده للفصل بين كلام الله وتفسيره: "هذا يوم بدر أخذ صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات" نزلت من السماء وأمره جبريل بأخذها فناولها له علي، كما مر. "فرمى بحصاة في ميمنة القوم" جهة يمينهم "وبحصاة في مسيرة القوم" جهة شمالهم، "وبحصاة بين أظهرهم" أي: بينهم فأظهر زائدة، "وقال: "شاهت"

ص: 298

الوجوه" فانهزموا.

وقد روي عن غير واحد: أن هذ الآية نزلت في رميه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وإن كان فعل ذلك يوم حنين أيضا سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقد اعتقد جماعة: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده!!

وهذا غلط.........................................................................................................

قبحت "الوجوه" زاد في الرواية: "اللهم أرعب قلوبهم وزلزل أقدامهم"، "فانهزموا" لا يلوون على شيء، أي: لا يلتفتون وألقوا دروعهم.

"وقد روي عن غير واحد" كعمر عند الطبراني وحكيم بن حزام عنده، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عباس كلاهما عند أبي الشيخ، وقاله الجمهور، قال القرطبي: وهو الصحيح، والسيوطي هو المشهور. "أن هذه الآية نزلت في رميه صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك" أي: الرمي بالحصباء، "يوم حنين أيضا" ويوم أحد أيضا، كما عند الحاكم على شرط مسلم، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في غزوتيهما، وقيل: نزلت في طعنة طعنها عليه السلام لأبي بن خلف يوم أحد بحربته فوقع عن فرسه، ولم يخرج منه دم، فجعل يخور حتى مات، رواه الحاكم بسند صحيح.

قال السيوطي: لكنه غريب، وقيل: في سهم يوم خيبر فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه، رواه ابن جرير بإسناد مرسل جيد لكنه غريب، وقيل: في حصبه يوم خيبر. قال القرطبي، ما حاصله: وهذا كله ضعيف؛ لأن الآية نزلت عقب بدر، وأما قوله: فلم تقتلوهم، فروي أن الصحابة لما صدروا عن بدر، ذكر كل واحد منهم ما فعل: فعلت كذا فعلت كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحوه ذلك، فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المحيي المميت والمقدر لجميع الأشياء وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده، انتهى.

"وقد اعتقد جماعة" كما قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول" صلى الله عليه وسلم "عنه وإضافته إلى الرب تعالى" لغرضهم الفاسد المشار له بقوله: "وجعلوا ذلك أصلا في الجبر" بجيم وموحدة ساكنة، أي: مذهب الجبريين الزاعمين جبر العبد على الفعل لا ينسب له منه شيء، كما فسره بقوله: "وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده" تعالى عن ذلك علوا كبيرا، "وهذا" كما قال ابن القيم: "غلط

ص: 299

منهم في فهم القرءان، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال: ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت ولكن الله فعل ذلك، فإن طردوا لزمهم في أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو برميه وحده ناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.

ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي، وهو الحذف، ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته.

ونظير هذا في الآية نفسها قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ

منهم في فهم القرآن، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال: ما صليت إذ صليت ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت" بفتح التاء في الجميع خطابا على المتبادر أو بضمها للمتكلم، "ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في أفعال العباد" وبينها بقوله: طاعتهم معاصيهم إذ لا فرق" فلا ينسب لهم منها شيء فلا يكونون ممتثلين لفعل مأمور به ولا ترك منهي عنه، فلا يثابون على طاعة ولا يعاقبون على معصية، وهذا هدم للشريعة وإبطال للآيات والأحاديث.

"وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله" أي: بأفعال الرسول "جميعها أو" خصوه "برميه وحده" دون باقي أفعال، "ناقضوا" أنفسهم حيث نفوا جملة الأفعال عن العباد ونسبوا بعضها إلى بعضهم، "فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية و" إنما تأويلها مع الجواب أنه "معلوم أن تلك الرمية من البشر" وخصوصا من واحد "لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي وهو الحذف" بمهملة ومعجمة الرمي بالحصباء "ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه" من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: الرمي الذي هو الحذف وكذا يقال في "نفي عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته،" وذهب ثعلب في معنى الآية إلى أن المنفي الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم حتى انهزموا، كما مر، ولكنه يقتضي انهزامهم بمجرد الرعب، وهو خلاف الواقع من تسليط الملائكة والمسلمين بالقتل والأسر، فأثر ذلك انهزامهم لا بمجرد الرعب، فما عليه ابن القيم في فهم الآية كغيره أولى.

"ونظير هذا في الآية نفسها" باعتبار المآل إذ ليس فيها نفي قتل عنهم وإثباته لهم، "قوله تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال: 17] لم تزهقوا روحهم بقوتكم وضربكم، {وَلَكِنَّ اللَّهَ

ص: 300

قَتَلَهُمْ} ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فأخبر أنه تعالى وحده هو الذي انفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتال والنصر مضافا إليه وبه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين} .

قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن الأسدي يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا فقال له:"قاتل به"، فهزه فعاد في يده سيفا طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون،..................................................................

قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] ، إذ هو الذي أهلكهم وأماتهم، وقيل: قتلهم بتمكينكم منهم، وقيل: بالملائكة الذين أمدكم بهم، حكاهما القرطبي، ولم يقل إذ قتلتموهم، كما قال: إذ رميت لمشاركة الملائكة لهم في قتلهم بخلاف الرمي فلم يشاركه صلى الله عليه وسلم فيه أحد.

"ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، فأخبر أنه تعالى وحده هو الذي تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه وتعالى أقام أسبابا تظهر للنا، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصر مضافا إليه" صلوات الله وحاصلا بفعله، ولا يرجع الضمير للأسباب لتذكيره، وبه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] الآية، كما قال في الكتاب المبين.

"قال" محمد "بن إسحاق" بن يسار إمام المغازي: "وقاتل عكاشة" بضم العين وشد الكاف وتخفف "ابن محصن" بكسر الميم وفتح الصاد، ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء ومثلثة، "الأسدي" ممن يدخل الجنة بغير حساب، كما في الصحيحين.

"يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا" بكسر الجيم وفتحها وسكون الدال المعجمة واحد الأجذال وهي أصل الحطب، قال الشامي: والمراد هنا العرجون بضم المهملة أصل العذق بكسر العين الذي يفرج وينعطف ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخلة يابسا، "فقال له:"قاتل به" يا عكاشة، فأخذه منه "فهزه فعاد في يده سيفا طويل القامة شديد المتن" أي: الظهر من إضافة الوصف إلى فاعله، أي: شديدا متنه، أو المراد بالمتن هنا الذات تسمية للكل باسم جزئه، "أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون" بفتح المهملة وإسكان الواو وبالنون، قاله البرهان وتبعه الشامي.

ص: 301

ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل وهو عنده.

وجاءه عليه الصلاة والسلام يومئذ -فيما ذكره القاضي عياض عن ابن وهب- معاذ بن عمرو يحمل يده، ضربه عليها عكرمة، فبصق عليه الصلاة والسلام عليها فلصقت. قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.

"ثم لم يزل" السيف "عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل وهو عنده" في قتال أهل الردة زمن الصديق قتله طليحة بن خويلد الأسدي، وروى الواقدي: حدثني أسامة بن زيد الليثي عن داود بن الحصين عن رجال من بني عبد الأشهل، قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم بن الحريس يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب، فقال: اضرب به فإذا سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد، ورواه البيهقي أيضا الحريس بفتح المهملة وكسر الراء وسين مهملة، قاله البرهان محتجا بقول الزبير: ليس في الأنصار حريش بمعجمة غير الحريش بن حجبي، وما سواه بالمهملة وضبطه الشامي بالمعجمة، وأعزل بفتح الهمزة وسكون المهملة فزاي، وابن طاب بمهملة فألف فموحدة نوع من تمر المدينة نسب إلى ابن طاب رجل من أهلها، وجسر أبي عبيد كان سنة أربع عشرة.

"وجاءه عليه الصلاة والسلام يومئذ" أي: يوم بدر "فيما ذكره القاضي عياض عن" عبد الله "بن وهب" بن مسلم الفهري مولاهم المصر الحافظ الإمام الزاهد من أجله الناس وثقاتهم ورجال الجميع، مات في شعبان سنة سبع وتسعين ومائة، "معاذ بن عمرو" قلد في ذلك اليعمري وانتقده محشيه البرهان بأن الذي في الشفاء معوذ بن عفراء، "يحمل يده ضربه عليها عكرمة" ابن أبي جهل أسلم بعد الفتح وقلد في ذلك اليعمري أيضا، ورده محشيه بأن الذي في الشفاء أن القاطع لها أبو جهل، "فبصق عليه الصلاة والسلام" بالصاد والزاي، أي: أخرج ريقه ورمى به "عليها فلصقت" بكسر الصاد وفيه علم من علم من أعلام النبوة باهر، نعم روى ابن إسحاق، ومن طريقه الحاكم عن ابن عباس، قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة سمعتهم يقولون: وأبو جهل في مثل الحرجة أبو جهل يخلص إليه فجعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، قال: فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخه حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها.

"قال ابن إسحاق" في بقية ذا الحديث الذي ذكرته: "ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان"

ص: 302

وعن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: لما أمر صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، فطرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.

وإنما ألقوا في القليب ولم يدفنوا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن......................................................

رضي الله عنه ولم يذكر في حديثه هذا أنه أتى بها المصطفى فتوهم اليعمري وتبعه المصنف أن كلام القاضي فيه فوهما؛ لأنها قصة أخرى، كما علم. والحرجة بفتح المهملة والراء الجيم وتاء تأنيث: شجر ملتف، كالغيصة، قاله في النهاية، وفي حواشي أبي ذر: الشجرة الكبيرة الأغصان، وفي العين: الحرجة الغيضة أطنت قدمه أسرعت قطعها، مرضخه بضاد وخاء معجمتين، كما في النهاية وفي الصحاح أنه بحاء مهملة أيضا، وأجهضني بجيم وهاء معجمة: شغلني، واشتد علي.

"و" روى ابن إسحاق: حدثني يريد بن رومان "عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها" قالت: "لما أمر صلى الله عليه وسلم بالقتلى" أي: بعظمائهم "أن يطرحوا في القليب" ففي الصحيح عن أنس عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقدموا في طوى من إطواء بدر خبيث مخبث. وعند ابن عائذ: ببضعة وعشرين. قال الحافظ: ولا تنافي فالبضع يطلق على الأربع أيضا، قال: ولم أقف على تسمية الأربع والعشرين جميعهم بل تسمية بعضهم، ويمكن إكمالهم ممن سرده ابن إسحاق من قتلى الكفار ببدر بأن يقتصر على من كان يذكر بالرئاسة ولو تبعا لأبيه.

وفي حديث البراء في الصحيح أن قتلى بدر من الكفار سبعون، فكان المطروحين في القليب الرؤساء منهم، ثم من قريش وخصوا بالمخاطبة الآتية لما تقدم منهم من المعاندة وطرح باقي القتلى في أمكنة أخرى، وأفاد الواقدي أن هذا القليب كان حفره رجل من بني النار، فناسب أن يلقى فيه هؤلاء الكفار.

"فطرحوا فيه" بالفاء في جواب لما على رأي ابن مالك أو زائدة على رأي الجمال بن هشام، لكن الثابت عند ابن إسحاق بدون فاء فهي زائدة من قلم المصنف أو نساخه، "إلا ما كان من أمية بن خلف فإن انتفخ في درعه فملأها" أي: الدرع لأنها مؤنثة عند الأكثر، "فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة" قال السهيلي الله في الروض "وإنما ألقوا في القليب" لأنه كان من سنته عليه السلام في مغازيه إذ مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا، كذا وقع في السنن للدارقطني فإلقاؤهم في القليب من هذا الباب.

"ولم يدفنوا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن

ص: 303

يأمرهم بدفنهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم.

وفي الطبراني عن أنس بن مالك قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر، يقول:"هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله" قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إليهم...............................................................

يأمرهم بدفنهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم" قال: ووافق أن القليب حفره رجل من بني النار اسمه بدر، فكان فألا مقدما لهم وهذا على أحد القولين في بدر، انتهى كلامه السهيلي برمته، ولا يرد على قوله؛ لأنه كان من سنته أن بدرا أول مغازيه التي وقع فيها القتل، لجواز أن المراد أنها طريقته التي كان يحبها في نفسه ويميزها على غيرها، ففعل ما سهل عليه في بدر، ثم داوم على ما يحبه في بقية مغازيه.

"وفي الطبراني عن أنس بن مالك": روى أحمد بسند صحيح عنه أنه سئل: هل شهدت بدرا؟ فقال: وأين أغيب عن بدر. قال الحافظ في الفتح: وكأنه كان في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه أنه خدمه عشر سنين، وذلك يقتضي أن ابتداء خدمته له حين قدومه المدينة، فكأنه خرج معه إلى بدر أو مع عمه زوج أمه أبي طلحة، وقال في الإصابة: إنما لم يذكروه في البدريين؛ لأنه لم يكن في سن من يقاتل. "قال: أنشا" بفتح أوله وهمزة أخره، أي: أبتدأ "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه "يحدثنا عن أهل بدر، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرين مصارع أهل بدر بالأمس من بدر" وهذا ظاهر في أنه كان ليلا، وبه صرح الحافظ، فقال: وقع هذا في الليلة التي التقوا في صبيحتها، كما مر، وإن في رواية أخبر بذلك قبل الواقعة بيوم أو أكثر.

وفي أخرى: يوم الواقعة، وجمع ابن كثير بأنه لا مانع أن يخبر بذلك في الوقتين وعلى أنه أراهم ليلا فيمكن أنه مراد رواية يوم الواقعة بإطلاق اليوم على ما يقرب منه الليل، ولا ينافيه قوله:"يقول: "هذا مصرع فلان" لجواز أن قوله ذلك ليلا وحينئذ فقوله "غدا" مستعمل في حقيقته "إن شاء الله" ويقع في أكثر النسخ. وفي الطبراني عن أنس بن مالك، قال: أنشا، فظاهره أن الحديث من مسند أنس وإنه شهد تحديث المصطفى بذلك، والذي في الطبراني إنما هو عن أنس عن عمر، كما سقناه، وكذا أخرجه مسلم بنحوه عنه عن عمر وتلك النسخ، فيها سقط، ويدل عليه قوله: "قال عمر: فوالذي بعثه بالحق، ما أخطئوا الحدود التي حدها صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم" غاية لمحذوف، صرح به في حديث أبي طلحة عند البخاري عقب قوله الذي قدمته قريبا عنه: خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر

ص: 304

فقال: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟! فإني وجدت ما وعدني الله حقا".

وفي رواية فنادى: "يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل هشام"

براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، فقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، "فقال:"يا فلان بن فلان" جوز في النور ضم فلان وفتح ابن وفتحهما وضمهما، قال: وذكر الثالث في التسهيل، انتهى.

فضم الأول على الأصل وفتحه على الإتباع لفتحه ابن، واختاره البصريون والمبرد لخفته، وضمهما قال الدماميني على التسهيل: رواه الأخفش عن بعض العرب، قال: وكأن قائله راعى أن التابع ينبغي أن يتأخر عن المتبوع، ولم يراع أن الأصل الحامل على الإتباع قصد التخفيف.

وفي التصريح حكى الأخفش: أن بعض العرب يضم الابن إتباعا لضم المنادى نظير الحمد لله بضم اللام في تبديل حركة بأثقل منها للإتباع وفي كون ذلك من كلمتين وفي تبعية الثاني للأول لكنه مخالف في كونه إتباع معرب لمبني، والحمد لله بالعكس.

"ويا فلان بن فلان" كناية عن علم مذكر لعاقل، وأنثاه فلانة بزيادة تاء، وزادوا أل في علم ما لا يعقل فرقا بينه وبين العاقل، لكن في الهمع: إنه وقع في الحديث بغير لام فيما لا يعقل. أخرج ابن حبان والبيهقي وأبو يعلى عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة، فقالت: يا رسول الله فلانة تعني الشاة.

"هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا" وفي رواية عن أنس: إن وقوفه على شفة الركي ومناداته لهم بذلك كان ليلا، وشفة الركي طرف البئر. وللكشميهني: شفا بفتح المعجمة والفاء مقصور حرفه، والركي بفتح الراء وكسر الكاف وشد الياء: البئر أن تطوى والإطواء جمع طي، وهي البئر التي طويت وبنيت بالحجارة لتثبت ولا تنهار. قال الحافظ: ويجمع بأنها كانت مطوية فاستهدمت فعادت كالركي.

"وفي رواية" أخرجها ابن إسحاق وأحمد ومسلم وغيرهم، عن أنس:"فنادى: "يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام" فسمى أربعة من الأربعة والعشرين الذين ألقوا في القليب. قال الحافظ: ومن رؤساء قريش ممن يصح إلحاقه بمن سمي عبيدة والعاصي والدا أبي أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية، وحنظلة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي وهؤلاء من بني عبد مناف. ومن سائر قريش: نوفل بن عبد، وزمعة وعقيل ابنا الأسود، والعاصي بن هشام أخو أبي جهل، وأبو قيس بن الوليد أخو

ص: 305

وفي بعضه نظر؛ لأن أمية بن خلف لم يكن في القليب لأنه كان -كما تقدم- ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي لكونه كان من جملة رؤسائهم.

قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا أهل القليب: بئس العشيرة كنتم، كذبتموني وصدقني الناس".

فقال عمر بن الخطاب: كيف تكلم أجسادا لا أروح فيها،............................

خالد، ونبيه ابنا الحجاج السهمي، وعلي بن أمية بن خلف، وعمرو بن عثمان عم طلحة أحد العشرة، ومسعود بن أبي أمية أخو أم سلمة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة، والأسود بن عبد الأسد أخو أبي سلمة، وأبو العاصي بن قيس بن عدي السهمي، وأمية بن رفاعة، فهؤلاء عشرون تنضم إلى الأربعة فتكمل العدة، انتهى.

"وفي بعضه نظر؛ لأن أمية بن خلف لم يكن في القليب؛ لأنه كان كما تقدم ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه" وقد أخرج ذلك ابن إسحاق حديث عائشة، كما مر. "ولكن" قال الحافظ في الفتح:"يجمع بينهم بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي لكونه كان من جملة رؤسائهم،" وخصت الرؤساء بالمخاطبة لما تقدم منهم من المعاندة، كما مر عن الحافظ فتخصيصهم زيادة في إذلالهم.

"قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "يا أهل القليب! بئس العشيرة" أنتم، فالمخصوص بالذم محذوف "كنتم" ولفظ ابن إسحاق: بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، "كذبتموني وصدقني الناس" وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فجزاكم الله عني من عصابة شرا خونتموني أمينا وكذبتموني صادقا، إلى هنا رواية ابن إسحاق، وهو مرسل أو معضل.

وذكر ابن القيم في الهدي، أنه قال ذلك قبل أن يأمر بطرحهم في القليب، فإن كان مراده خصوص رواية ابن إسحاق هذه فمحتمل، ولا يرد قوله:"يا أهل القليب" لأنه سماهم أهله باعتبار الأول، وإلا فحديث أبي طلحة في الصحيح يرد عليه فإن صرح بأنه أمر بطرحهم فلما كان اليوم الثالث قام على شفا الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائه:"يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان 1 أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا" قال -أي أبو طلحة: فقال عمر: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، وفي بقية رواية الطبراني التي قدمها المصنف عن أنس، "فقال عمر بن الخطاب" مستفهما:"كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ " وفي رواية مسلم: فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله!

ص: 306

فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا".

وتأولت عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم الحق. ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية، فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، لقولها: إنهم الآن ليعلمون.

أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ ويقول الله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] الآية، "فقال" صلى الله عليه وسلم، زاد في رواية الصحيحين:"والذي نفسي بيده "، "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" بل هم أسمع منهم، قال الحافظ: بآذان رءوسهم على قول الأكثر، أو بآذان قلوبهم، انتهى.

وإن صدق النفي بالمساواة لغة، لكن خصه الاستعمال بأن المنفي عنه الحكم أقوى في ثبوت مدلوله ممن فضل عليه، ويؤيده رواية:"ما أنتم بأفهم لقولي منهم" ويؤيد المساواة قوله عند الطبراني بسند صحيح من حديث ابن مسعود: "يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون"، "غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا" هذه رواية الطبراني، ولفظ رواية مسلم:"لكن لا يستطيعون أن يجيبوا"، أي: لعدم الإذن لهم في إجابة أهل الدنيا، كقوله تعالى:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} هذا هو الأصل، فلا يقدح فيه ما اتفق من كلام بعض الموتى لبعض الأحياء لاحتمال الآذان لذلك البعض، "وتأولت عائشة رضي الله عنها ذلك، فقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم" من استعمال المضارع بمعنى الماضي، أي: ليعلمون أن ما قلت لهم فيما مضى من التوحيد والإيمان وغيرهما هو "الحق، ثم قرأت" مستدلة لما ذهب إليه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية،" وهذه عبارة اليعمري، والذي في الصحيح عن عروة عن ابن عمر، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم قال: "إنهم الآن ليسمعون ما أقول"، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق"، ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية "فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا" أي في حالة استقرارهم في النار وغيرها خلاف قول عروة في البخاري، تقول: أي عائشة حين تبوءوا مقاعدهم من النار، قال الحافظ: مراده أن يبين مراد عائشة فأشار إلى أن الإطلاق في إنك لا تسمع الموتى مقيد باستقرارهم في النار، وعلى هذا فلا معاوضة بين إنكار عائشة وإثبات ابن عمر لكن قولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، "لقولها" إن الحديث إنما هو بلفظ "إنهم الآن ليعلمون" وأن ابن عمر وهم في قوله: ليسمعون. ا. هـ.

فالمصنف أسقط من كلام الحافظ ما يبين الإطلاق فتحير شيخنا فيه، فقال: لعله في أهل القليب وغيرهم أولا بحالهم ولا بأحيائه في قبورهم وإنما يحيون بعد البعث، انتهى. قال

ص: 307

وقال قتادة: أحياهم الله تعالى توبيخا وتصغيرا، ونقمة وحسرة.

وفيه رد على من أنكر أنهم يسمعون، كما روي عن عائشة رضي الله عنها.

ومن الغريب، أن في المغازي -لابن إسحاق- من رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة حديثا وفيه:"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". وأخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة.

البيهقي: والعلم لا يمنع السماع والجواب عن الآية أنهم لا يسمعون وهم موتى، "و" لكن أحياهم حتى سمعوا كما "قال قتادة" بن دعامة فيما رواه البخاري عنه عقب حديث أبي طلحة السابق "أحياهم الله تعالى" زاد الإسماعيلي، بأعيانهم، وأسقط المصنف من قول قتادة: حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري قبل قوله: "توبيخا وتصغيرا" قال الحافظ: الصغار الذلة والهوان "ونقمة" بكسر النون وسكون القاف كما في الناصرية، وفي حاشية اليونينية بفتح النون وكسر القاف، قال المصنف.

"وحسرة" وندما كما هو بقية قول قتادة في البخاري: أي لأجل التوبيخ فالمنصوبات للتعليل، "وفيه" أي قول قتادة هذا "رد على من أنكر أنهم يسمعون" لأنه أثبت سماعهم غايته أنه بعد الإحياء "ما روي عن عائشة رضي الله عنها" إنكار ذلك، وفي التعبير بروي شيء لأنه في الضعيف وهذا ثابت عنها في الصحيح، ولذا عبر الحافظ بلفظ كما جاء عن عائشة، "ومن الغريب" أي خلاف المشهور عنها "أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد،" أي مقبول كما قال السيوطي وللقبول يطلقون جيدا "عن عائشة رضي الله عنها حديثا" مثل حديث أبي طلحة السابق كما في الفتح، "وفيه:"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".

"وأخرجه الإمام أحمد" عنها "بإسناد حسن فإن كان" ذلك "محفوظا" عن عائشة، "فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة" الذين رووا القصة وهم فصحاء عارفون بمواقع الكلام كيف وهم عمرو بن مسعود وعبد الله بن سيلان بكسر المهملة وسكون التحتية أخرج أحاديثهم الطبراني وأبو طلحة وابن عمر أخرجهما البخاري وغيره، "لكونها لم تشهد القصة" وهؤلاء شهدوها إلا ابن عمر وابن سيلان، فأما ابن عمر فاستصغر يوم بدر كما في الصحيح.

وأما ابن سيلان فلم يذكر فيمن شهدوها فأرسلا ذلك عن غيرهما ومرسل الصحابي حكمه الوصل وهو حج كما تقرر وهذا كما هو ظاهر إنما هو على رواية الصحيح عن عائشة أن

ص: 308

وقال الإسماعيلي: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؛ لأن قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون"؛ لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال:"إنهم ليعلمون"، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافي رواية "يسمعون" بل يؤيدها.

المصطفى إنما قال: "إنهم الآن ليعلمون" أما على ما قدمه المصنف أنها تأولت إنما أراد لنبي إلخ، فلا يتأتى هذا فإن نفي الإرادة لا ينافي أنه قاله بل التأويل فرع الثبوت، اللهم إلا أن يكون المراد أنها رجعت عن إنكارها بقاء اللفظ على ظاهره، وأن تأويله واجب وأبقته على ظاهره والمحوج لهذا التعسف عدول المصنف عن رواية الصحيح عنها إلى عبارة اليعمري كما مر، ثم أفتى بكلام الحافظ في شرح الصحيح.

"وقال الإسماعيلي: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء" سرعة الفطنة، كما في القاموس "وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه" أتى بذلك تأدبا وتمهيدا للاستدراك لئلا يتوهم غبي منه أنه لم يعرف مقامها، "لكن لا سبيل" طريق "إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله" في كونه رواية عن الثقة أيضا "يدل على نسخه أو تخصيصه" ويصار لهما بالواية "أو استحالته" عطف على بنص أو على نسخه والأول أقرب وتدرك بالعقل والثلاثة منتفي هنا، "فكيف" يصار إلى إنكارها مع انتفاء الثلاثة، "والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن" وذلك "لأن قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون" لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" ولم يسمعهم المصطفى فحصل التوفيق بين الآية والحديث.

"وأما جوابها بأنه إنما قال: "إنهم ليعلمون"، فإن كانت" بنته على فهمها الآية فقد علمت أن لا تنافي، وإن كانت "سمعت ذلك" من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أو غيره لأنا لم تشهد القصة، "فلا تنافي رواية:"يسمعون" إذ العلم لا يمنع السماع "بل تؤيدها" لأن علم المخاطب في العادة إنما يكون بما يسمعه.

ص: 309

وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فأجابهم بما أجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذان رءوسهم إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد، أو إلى بعضه عند المسألة، وهو قول أكثر أهل السنة، وإما بآذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال على الروح من غير رجوع إلى الجسد أو بعضه.

"وقال السهيلي ما محصله: أن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك" من الله "لنبيه صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له" كما رواه مسلم في حديث أنس عن عمر: "أتخاطب أقواما قد جيفوا" بفتح الجيم وشد الياء، أي صاروا جيفا منتنين كما تفيده النهاية وغيرها وضبطه شيخنا في النسخ الصحيحة خلاف ما في بعضها من ضبطه بالبناء للمجهول، فإنه أمر بالضرب عليه وأثبت فتح الجيم كما قلنا "فأجابهم بما أجابهم" أجمله ليأتي على كل الروايات فيما أجابهم به، وإلى هنا ما تصرف فيه على السهيلي، ولذا احتاج أن يقول ما محصله: ولفظه في الروض: عائشة لم تحضر وغيرها ممن أحضر أحفظ للفظة صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله! أتخاطب أقواما قد جيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، "وقال" السهيلي تلو هذا ما لفظه:"وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين" كما أثبتته عائشة "جاز أن يكونوا سامعين" كما أثبته عمر وابنه وأبو طلحة وغيرهم إذ لا فرق وأيضا فالعلم لا يمنع السماع كما قال البيهقي، "وذلك إما بآذان رءوسهم" على قول الأكثر، وأما بآذان قلوبهم هذا ما نقله الحافظ عن محصل كلام السهيلي وتبعه المصنف في الشر والشامي ولم ينقلوا ما زاده هنا عنه بقوله:"إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد" كله "أو إلى بعضه عند المسألة وهو قول أكثر أهل السنة. وأما بآذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال على الروح من غير رجوع إلى الجسد أو بعضه" ولعلهم حذفوه من كلامه لإشكاله لأنه إذا قيل: لا تعاد الروح لشيء من الجسد لزم أن لا يكون السماع بإذن القلب، فالمناسب أن يقول: أما بآذان رءوسهم أو قلوبهم إذا قلنا

إلخ، اللهم إلا أن يكون لم يرد بالقلوب الشكل الصنوبري بل الأحوال القائمة به فيحصل بها الإدراك كما قال غير واحد في معنى القلب.

وفي الفتح قال السهيلي: وقد تمسك بهذا الحديث من قال السؤال يتوجه على الروح والبدن ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط بأن الأسماع لأذن الرأس لا لأذن القلب، فلم يبق فيه حجة. قلت: إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا، انتهى.

ص: 310

قال: وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها احتجت بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22] وهذه الآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْي} [الزخرف: 40] أي إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا وصما على جهة التشبيه بالأموات وهم أحياء وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه ولا أحد، فإذًا لا تعلق بالآية من وجهين:

أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان.

والثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير.........................

"قال" السهيلي: "وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها احتجت بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} وفي الصحيح أنها احتجت أيضا بقوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، "و" لا حجة فيه؛ لأن "هذه الآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْي} ، أي أن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت" وإن أوصلتها إلى آذان الرءوس، "وجعل الكفار أمواتا" في {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} صريحا، و {أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} استلزاما "وصما" في {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} ، "على جهة التشبيه بالأموات وهم أحياء، وبالضم فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء لا نبيه ولا أحد، فإذًا لا تعلق بالآية من وجهين، أحدهما: أنها إنما نزلت" أي: وردت "في دعاء الكفار إلى الإيمان" فهو مجاز "والثاني" لو حملت على الحقيقة لم يكن فيها معارضة وذلك "أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير" إلى هنا انتهى كلام السهيلي، كما يعلم من رؤية روضه لا كما زعمه من قال الفصل بأي في قوله: أي إن الله..إلخ، مشعر بأنه ليس من كلامه بل هو كله كلامه، وأتى بأي ليفسر المراد بالآية، وهذا ظاهر جدا، يعني: فحمل الحديث على أنه أسمعهم كلام نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينافي الآية.

وفي فتح الباري اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى وبمن في القبور، فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل الحديث، وهذا قول الأكثر. وقيل: هو مجاز والمراد بالموتى وبمن في القبور: الكفار شبهوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى: من هم في حال

ص: 311

ولقد أحسن العلامة ابن جابر حيث قال:

بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله

كواكب في أفق الكواكب تنجلي

وجبريل في جند الملائك دونه

فلم تغن أعداد العدو المخذل

رمى بالحصى في أوجه القوم رمية

فشردهم مثل النعام بمجهل

الموتى أو في حال من سكنوا القبور، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة، والله أعلم.

"ولقد أحسن العلامة" أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي، "بن جابر" فنسهب لجد أبيه لاشتهاره به الأندلسي الأعمى صاحب شرح الألفية الشهير بالأعمى والبصير، "حيث قال: بدا" ظهر صلى الله عيه وسلم "يوم بدر، وهو كالبدر" الواو للحال "حوله، كواكب" رجال كالكواكب في الظهور والإشراق تشبيه بليغ بحذف الأداة أو استعارة "في أفق" بسكون الفاء على إحدى اللغتين للوزن، أي: في ناحية "الكواكب" أو فيما يظهر من نوحي الفلك التي هي مطلع الكواكب ومظهرها، أو في مهب الرياح. ففي القاموس: الأفق بضمة وبضمتين الناحية جمعه آفاق أو ما ظهر من نواحي الفلك، أو هي مهب الجنوب والشمال والدبور والصبا، انتهى.

وفي نسخ المواكب بميم، وكذا أنشده الشامي، وقال: جمع موكب، أي: بكسر الكاف وهو جماعة ركاب يسيرون برفق وهم أيضا القوم الركاب للزينة والتنزه، "تنجلي" تظهر وتتميز ع غيرها "وجبريل في جند" أعوان وأنصار "الملائك" من إضافة الأعم إلى الأخص: أي: جندهم الملائك جمع ملك ويجمع أيضا على ملائكة، "دونه" أي: أمامه صلى الله عليه وسلم، وفرع على ما أثبته له ولصحبه من كثرة الملائك المناصرين له قوله:"فلم تغن" بالفوقية "أعداد" بفتح الهمزة جمع عدد، أي: كثرة "العدو" أي: الأعداء.

ففي القاموس: العدو ضد الصديق للواحد والجمع، ويحتمل قراءة يغن بتحتية وكسر همزة إعداد مصدر أعد الشيء هيأه، أي: لم تعن تهيئة العدو والسلاح وغيره شيئا "المخذل" اسم مفعول من خذله تخذيلا إذا حمله على الفشل وترك القتال، كما في المصباح، يعني: إن شدة المسلمين وقوتهم في أعينهم حملتهم على ذلك حتى انهزموا وتمكن المسلمون من قتلهم وأسرهم، "رمى بالحصى في أوجه القوم رمية، فشردهم" طردهم وبدد جمعهم، وفي حديث عمر عند الطبراني: لما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف، يقول {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} [البقرة: 45] الآية، ورماهم فوسعتهم الرمية وملأت أعينهم حتى إن الرجل ليقتل وهو يقذى عينيه وفاه "مثل النعام" حال كونه "بمجهل" بفتح الميم والهاء بينهما جيم ساكنة، قال القاموس: أرض مجهل كمقعد لا يهتدى فيها ولا يثنى

ص: 312

وجاد لهم بالمشرفي فسلموا

فجاد له بالنفس كل مجندل

عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع

حديثهم في ذلك اليوم من علي

هم عتبوا بالسيف عتبة إذ غدا

فذاق الوليد الموت ليس له ولي

وشيبة لما شاب خوفا تبادرت

إليه العوالي بالخضاب المعجل

وجال أبو جهل.............

ولا يجمع، انتهى.

وأما قوله: إنا لنصفح عن مجاهل قومنا، فمعناه زلاتهم الحاملة لنا على الجهل وهو جمع مجهل ما يحمل على الجهل وزعم ابن سيدة أنه اسم للأرض ورد بأنه لا يصح إذ لا يتأتى الصفح عن الأراضي إلا بتعسف. وفي نسخة المجفل بشد الفاء، أي: المبالغ في طرده وله ما يهتدي إليه، وفي أخرى بمجفل بفاء ساكنة دون أل، أي: بمحل يطرد منه والأولى أبلغ في المقام، "وجادلهم" من المجادلة خاصمهم وضاربهم، أو من الجود تهكما، أي: سمح لهم "بالمشرفي" بفتح الميم والراء: السيف نسبة لمشارف بالفاء، وهي كما في الصحاح وغيره: قرية من أرض العرب تدنو من الريف "فسلموا، فجاد" سمح "له بالنفس" وسلم فيها قهرا عليه، "كل مجندل" مصروع مطروح على الأرض، ولم يقل متجدل للوزن. وفي نسخ: كل مجدل بشد الدال، وهي أولى.

ففي المصباح: جدته تجديلا ألقيته إلى الجدالة وطعنه فجدله، "عبيدة" بضم أوله ابن الحارث المطلبي، "سل عنهم و" سل "حمزة" الهاشمي "واستمع، حديثهم في ذلك اليوم من علي" بن أبي طالب، وخصهم لأنهم الذين برزوا لعتبة وشيبة والوليد الذين طلبوا المبارزة وأظهروا من أنفسهم الشدة، وخص عليا بالاستماع منه؛ لأنه عاش وروى الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف عبيدة، فاستشهد يومئذ، وحمزة ثاني عام، وزعم أنه على القدر، وهو المصطفى خلاف الظاهر المتبادر بل يأباه قوله:"هم عتبوا" بفوقية مخففا ومشددا للمبالغة، أي: ضربوا "بالسيف عتبة" بن ربيعة وهو مجاز عن اللوم أو مضمن معنى القطع، "إذ غدا" أتى مبادرا لطب البراز "فذاق" هو وابنه "الوليد الموت ليس له ولي" ناصر "وشيبه لما شاب" رأسه ولحيته "خوفا" من الخوف، كناية عن الحزن الذي أصابه بحيث حصل منه الشيب في غير أوان، "تباردت، إليه العوالي" جمع عالية، وهي السنن من القنا "بالخضاب المعجل" المنساق سريعا، والمعنى: أنهم أسالوا دمه بالرماح فشبهه بخضاب الحناء، واستعار له اسمه تهكما، "وجال" دار في مكن الحرب يظهر شدته، "أبو جهل"، فكان يقول في جولاته:

ما تنقم الحرب العوان مني

بازل عامين حديث سني

ص: 313

.........فحقق جهله

غدة تردى بالردى عن تذلل

وأضحى قليبا في القليب وقومه

يؤمونه فيه إلى شر منهل

وجاءهم خير الأنام موبخا

ففتح من أسماعهم كل مقفل

وأخبر ما أنتم بأسمع منهم

ولكنهم لا يهتدون لمقول

سلا عنهم يوم السلا إذا تضاحكوا

فعاد بكاء عاجلا لم يؤجل

ألم يعلموا علم اليقين بصدقه

ولكنهم لا يرجعون لمعقل

كما مر.

"فحقق جهله،" فعمل بمقتضاه فقتله الله شر قتلة، "غداة" حين "تردى بالردى" الهلاك شبهه بالرداء فأثبت له ما هو من لوازمه، فقال: تردى، أي: تسربل "عن تذلل" هوان وحقارة "وأضحى قليبا" أي: صار ملقى "في القليب" حين جر وطرح فيه "وقومه، يؤمونه" يقصدونه "فيه" ويسيرون به "إلى شر منهل" مورد وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي عبر به عن النار التي وردوها تهكما واستهزاء، "وجاءهم خير الأنام" صلى الله عليه وسلم "موبخا" لائما لهم حيث وقف ونادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقل:"يا أهل القليب! بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم"، إلى آخر ما مر. "ففتح من أسماعهم كل مقفل" مغلق من قولهم أقفلته إقفالا فهو مقفل، يعني: أنهم كانوا في غفلة وإعراض لما عليها من الختم المانع من حلول الحق فيها وأزيل بعد الموت، فعلموا الحق عيانا، كما أرشد لذلك صلى الله عليه وسلم قوله:"فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا" فوصل خطابه إلى أسماعهم على أكمل حالات السماع.

"وأخبر" عليه السلام من سأله مستفهما كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها، بقوله:"ما أنتم بأسمع" لما أقول "منهم"، بل هم أسمع أو مساوون، على ما مر، "ولكنهم لا يهتدون لمقول" كمنبر، أي: لقول الجواب إذ هو إشارة لقوله عليه السلام: "غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا"، "سلا عنهم"، فعل أمر لاثنين على عادة الشعراء من فرض اثنين يخاطبونهما "يوم" وضع "السلا" بفتح السين وعاء جنين البهيمة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في صلاته عند الكعبة بإشارة عدو الله أبي جهل "إذ تضاحكون" مال بعضهم على بعض من الضحك، وثبت عليه السلام ساجدا حتى ألقته عنه فاطمة الزهراء "فعاد" ضحكهم "بكاء عاجلا لم يؤجل" ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم:"اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات وغيره ذلك، وقد مر شرح القصة مبسوطا في أوائل المبعث، "ألم يعلموا" استفهام تقريري، أي: قد علموا الآن "علم اليقين" ما يتيقن "بصدقه، ولكنهم لا يرجعون" لا يتمكنون من الرجوع، "لمعقل" ملجأ يخلصهم مما أصابهم، والمعنى، قد علموا صدقه فيما مضى علم اليقين، بما شاهدوه من الآيات البينات الشاهدات

ص: 314

فيها خير خلق الله جاهك ملجئي

وحبك ذخري في الحساب وموئلي

عليك صلاة يشكل الآل عرفها

وأصحابك الأخيار أهل التفضل

وحكى العلامة ابن مرزوق أن ابن عمر رضي الله عنهما مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فلما اجتاز به ناداه: يا عبد الله، قال ابن عمر، فلا أدري أعرف اسمي أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله، فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر. ورواه الطبراني في الأوسط.

بصدقه، كما في شعر أبي طالب:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب

يقينا ولا يعزى لقول الأباطل

ولكنهم لم يرعووا وفعلوا ما فعلوا لعدم رجوعهم لملجأ يهتدون بما، وإنما اتبعوا الفخر والكبر. "فيا خير خلق الله جاهك ملجئي، وحبك ذخري" بضم الذال اعتمادي "في" يوم "الحساب وموئلي" مرجعي "عليك صلاة يشمل الآل عرفها" رائحتها الذكية، "و" يشمل "أصحابك الأخيار أهل التفضل" بالنفس والمال.

"وحكى العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق" التلمساني المتوفى في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة بمصر، ودفن بين ابن القاسم وأشهب مر بعض ترجمته أوائل الكتاب، "أن ابن عمر" عبد الله "رضي الله عنهما مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن" من وجع العذاب، "فلما اجتاز به ناده: يا عبد الله! قال ابن عمر: فلا أدري أعرف اسمي أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه عبد الله" على عادة العرب نظرا إلى المعنى الحقيقي؛ لأن الجميع عبيد الله، "فالتفت إليه، فقال: اسقني فأردت أن أفعل" أي: اسقيه، "فقال: الأسود" ولم يقل الملك "الموكل بتعذيبه" لاحتمال أنه لم يعلم بأنه ملك؛ لأنه إنما رأى شخصا فيجوز أنه عبد سلط عليه أو حيوان على صورته أو علم إنه ملك، ولكن عبر بالأسود تفظيعا له، "لا تفعل" لا تسقه "فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر" هو أبو جهل، فإن هذا الذي حكاه ابن مرزوق قد رواه الطبراني وابن أبي الدنيا وابن منده وغيرهم، عن ابن عمر قال: بينما أنا سائر بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة في عنقه سلسله فناداني: "يا عبد الله! اسقني" فلا أدري أعرف اسمي أو دعاني بدعية العرب، وخرج رجل من تلك الحرة في يده سوط، فناداني: يا عبد الله، لا تسقه فإنه كافر، ثم ضربه بالسوط فعاد إلى حفرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فأخبرته بذلك، فقال لي: "قد رأيته"؟ قلت: نعم، قال: "ذاك عدو الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة".

ص: 315

قال: ومن آيات بدر الباقية، ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون هيئة الطبل طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأنه الموضع لعله صلب فتستجيب فيه حوافر الدواب، وكان يقال لي: إنه دهس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفافها لا تصوت في الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟ قال ثم لما من الله عليه بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف، نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان،........................................

وروى ابن أبي الدنيا عن الشعبي: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك ففعل ذلك مرارا، فقال صلى الله عليه وسلم:"ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة"، كذلك والرجل الذي أبهمه الشعبي، الظاهر أنه ابن عمر ويحتمل أنه غيره فيكون الرائي لأبي جهل تعدد.

"قال" أي: ابن مرزوق في شرح البردة: "ومن آيات بدر" أضافها إليها لترتبها على غزوتها فهي لأدنى ملابسة "الباقية" على مدى الأزمان، وبه صرح الإمام المرجاني، فقال: وضربت طبل خانة النصر ببدر فهي تضرب إلى يوم القيامة، ونقله الشريف في تاريخيه وأقره، والشامي وأقره "ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع" أي: بدر، "يسمعون هيئة الطبل طبل ملوك الوقت ويرون" يعتقدون "أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك وربما تأولته بأن الموضع صلب" بضم فسكون، أي: شديد لا سهولة فيه "فتستجيب" تجيب "فيه حوافر الدواب" أي: تقابل بصوت يشبه تصويتها في الأرض وهو الصدى الذي يجيب بمثل الصوت في الجبال وغيرها، "وكان يقال لي: إنه دهس" بمهملتين: سهل ليس يرمل ولا ترا ولا طين، كما في الصحاح والقاموس.

زاد في نسخة: "رمل" أي: أنه للينه يشبه المكان الذي به الرمل أو استعمل دهس في مجرد كون الأرض لينة لا تقتضي سماع الصوت، فقال: رمل "غير صلب" صفة كاشقة، "وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفاقها لا تصوت في الأرض الصلبة فكيف بالرمال" فانتفى تأويلك "قال: ثم لما من الله علي بالوصول إلى ذلك الموضع المشرق" المضيء "نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان" بفتح المهملة، قال في القاموس: نبت من أفضل مراعي الإبل ومنه مرعى ولا كالسعدان وله شوك يشبه حلمه الثدي "المسمى بأم غيلان" بكسر المعجمة ولعله عند العوام فلا ينافي ما رأيت عن القاموس، وفيه أيضا: وأم غيلان من شجر

ص: 316

وقد نسب ذلك الخبر كنت أسمع، فما راعني وأنا أسير في الهاجرة إلا واحد من عبيد الأعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل، فأخذتني -لما سمعت كلامه- قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان في الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابني من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت، وقلت: لعل الريح سكنت في هذا العود الذي في يدي أوجدت مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدي، وجلست على الأرض، أو وثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا، أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا إلى بدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومي أجمع، المرة بعد المرة.

قال: ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس، انتهى.

السمر، "وقد نسيت ذلك الخبر الذي كنت أسمع فما راعني وأنا أسير في الهاجرة" شدة الحر "إلا واحد" فاعل راعني؛ لأن الاستثناء مفرغ "من عبيد الأعراب الجمالين" وفي نسخة: إلا وواحد، بواوين لكن الفاعل لا يقترن بالواو فإن صحت ففيه حذف، أي: إلا أمر عرض لي وواحد، بواوين لكن الفاعل لا يقترن بالواو فإن صحت ففيه حذف، أي: إلا أمر عرض لي وواحد، فاللعطف تفسيري أو خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو واحد أو مبتدأ أخبره "يقول: أتسمعون الطبل فأخذتني لما" حين "سمعت" أو اللام اللتعليل، أي: لسماعي "كلامه قشعريرية" بضم القاف وفتح الشين "بينة" قوية لا تلبس بغيرها "وتذكرت ما كنت أخبرت به وكان في الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل وأنا دهش" متحير "مما أصابني من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به" يعني حصل له حالة لم يتحقق ما هي حتى يعبر عنها، "فشككت وقلت لعل الريح سكنت في هذا العود الذي في يدي أوجدت مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه لآية العظيمة، فألقيت العود من يدي وجلست على الأرض، أو وثبت قائما أو فعلت جميع ذلك" شك فيما حصل له حين أخبر، "فسمعت صوت الطبل سماعا محققا أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل وذلك من ناحية اليمن ونحن سائرون إلى مكة المشرفة لم نزلنا بدر إلى فظللت" بكسر اللام الأولى وإسكان الثالثة، "أسمع ذلك الصوت يومي أجمع" بالنصب تأكيد ليومي، "المرة بعد المرة" بالنصب على الحال، أي: متتابعا جميع يومه من ابتداء سماعه من الهاجرة فاستعمل اليوم في بقيته مجازا، "قال: ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس، انتهى" كلام ابن مرزوق. قال صاحب الخميس: ولما نزلت بدرا سنة ست وثلاثين وتسعمائة وصليت الفجر يوم

ص: 317

وروى الطبراني من حديث أبي اليسر، أنه أسر العباس، وقيل للعباس -وكان جسيما- كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت لجعلته في كفك، فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر في عيني كالخندمة..................................

الأربعاء أوائل شعبان، وأقمنا يوما، ابتكرت نحوذ لك الصوت يجيء من كثيب ضخم طويل مرتفع كالجبل شمالي بدر، فطلعت أعلاه وتتابع الناس لسماعه، وكانوا زهاء مائة من رجال ونساء، فما سمعت شيئا، فنزلت أسلفه فسمعت من سفح الكثيب صوتاكهيئة الطبل الكبير سماعا محققا بلا شك مرارا متعددة وسمعه الناس كلهم، كما سمعت، وكان الصوت يجيء تارة من تحتنا ثم ينقطع، وتارة من خلفنا ثم ينقطع، وتارة قدامنا، وتارة من شمالنا، فسمعنا سماعا محققا وكان الوقت صحوا رائفا لا ريح فيه، انتهى.

ولما ذكر ما أراد من الغزوة، في ذكر الأساري، فقال:"وروى الطبراني" والبزار "من حديث أبي اليسر" بفتح التحتية والسين المهملة وبالراء كعب بن عمرو الأنصاري السلمي بفتحتين مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة وبدرا والمشاهد، ومات سنة خمس وخسمين بالمدينة. وقول ابن إسحاق كان آخر من مات من الصحابة كأنه يعني أهل بدر، كما في الإصابة. "أنه أسر العباس" بن عبد المطلب رضي الله عنه. أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني عرفت أن رجلا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما خرج مستكرها".

فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه السيف فبلغه صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر:"يا أبا حفص"، قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه بأبي حفص "أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله بالسيف"، فقال عمر: يا رسول الله! دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق فكان أبو حذيفة يقولك ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فاستشهد يوم اليمامة رضي الله عنه.

"وقيل للعباس وكان جسيما" جميلا وسيما أبيض له ضفيرتان معتدلا. وقيل: طويلا والقائل ابنه. ففي رواية الطبراني وأبي نعيم عن ابن عباس، قال: قلت لأبي "كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم" بدال مهملة قبيح المنظر صغير الجسم، "ولو شئت" أن تجعله في كفك، "لجعلته في كفك" فالمفعول محذوف دل عليه الجواب.

وفي رواية البزار: ولو أخذته بكفك لوسعته، "فقال:" زاد البزار: يا بني لا تقل ذلك، "ما هو إلا أن لقيته فظهر في عيني" بالتثنية أو الإفراد مرادا به الجنس، "كالخندمة" وفي رواية

ص: 318

وهي بالخاء المعجمة -جبل من جبال مكة، قاله في القاموس.

ولما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار فهموا رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه، وسألوه..................................

أبي نعيم: لقيني وهو في عيني أعظم من الخندمة، وهذا قاله جوابا لسائله: كيف أسرك مع صغره وضعفه عنك جدا، وفي السياق إشعار بأنه بعد معرفة أبي اليسر؛ لأن السائل له ابنه ولم يشهد بدرا فلا تعارض بينه وبين ما في مسند أحمد في حديث طويل عن علي، فجاء رجل من الأنصار بالعباس أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أره في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال صلى الله عليه سلم:"اسكت فقد أيدك الله بملك كريم"؛ لأن هذا قاله أول ما رأى أبا اليسر بصورة خلقته، فنفى أن يكون أسره لأنه إنما رأى وقت الأسر الصورة التي وصفها في الملك، وفي أبي اليسر كالخندمة، ولذا قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم:"اسكت" إلى آخره، إشارة إلى أنه لم يستقل بأسره، وقوله:"أنا أسرته رد لإنكار أسره من أصله، فلا يعارض ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأله: "كيف أسرته"؟ فقال: "قد أعانني الله عليه ملك كريم".

"وهي" أي: الخندمة "بالخاء المعجمة" المفتوحة والنون الساكنة والدال المهملة المفتوحة فميم فتاء تأنيث "جبل من جبال مكة" شرفها الله تعالى، "قاله في القاموس" والعيون وغيرهما، ويقع في نسخ من جبال تهامة بدل مكة وهو وإن صح في نفسه؛ لأن مكة بعض تهامة غير صحيح للعزو فالذي في القاموس مكة لا تهامة، "ولما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه" كما روى ابن عائذ في المغازي من طريق مرسل أن عمر لما ولي "وثاق" بالفتح والكسر: ما يوثق ويشد به، "الأسري شد وثاق العباس" رجاء إسلامه وإلا فقد علم تغيظ المصطفى ممن قال: لألجمنه السيف، "فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم فبلغ الأنصار" يحتمل من عمر "فأطلقوا العباس" كما جاء عن ابن عمر: لما كان يوم بدر جيء بالأسرى وفيهم العباس وعدته الأنصار أن يقتلوه فبلغ رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه"، قال عمر: أفآتيهم، قال:"نعم"، فأتاهم فقال: أرسلوا العباس، فقالوا: والله لا نرسله، فقال عمر: فإن كان لرسول الله رضا، قالوا: فإن كان لرسول الله رضا فخذه، فأخذه عمر فلما صار في يده، قال له: يا عباس، أسلم فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، "فكأن الأنصار فهموا" بقرائن أو من تصريح عمر "رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه" ففكوه، "وسألوه" أي: سأل بعض الأنصار

ص: 319

أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم.

وفي حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار عليه الصلاة والسلام الناس في الأسرى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم"، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم،...........................................................

المصطفى، والمذكور في الفتح عقب رواية ابن عائذ لفظه، فكان الأنصار لما فهموا رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه سألوه، "أن يترك له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم" كما أخرج البخاري من حديث ابن شهاب: حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، قال:"والله لا تذرون منه درهما"، قال الحافظ: وأم العباس ليست من الأنصار بل جدته أم عبد المطلب هي الأنصارية فسموها أختا لكونها منهم، وعلى العباس ابنها لأنها جدته وهي سلمى بنت عمر والخزرجية، قال: وإنما لم يجبهم؛ لأنه خشي أن يكون فيه محاباة لكونه عمه لا لكونه قريبهم من النساء، وفيه أيضا إشارة إلى أن القريب لا ينبغي له أن يتظاهر بما يؤذي قريبه، وإن كان في الباطن يكره ما يؤذيه، ففي ترك قبول ما تبرع له الأنصار به من الفداء تأديب لمن يقع منه مثل ذلك، انتهى. أو للتسوية بينهم حتى لا يبقى في نفوس أصحابه الذين لهم أقارب أسرى شيء بسبب مسامحته وأخذ الفداء منهم.

"وفي حديث أنس عند الإمام أحد استشار عليه الصلاة والسلام الناس في الأسرى يوم بدر" أي: زمنه "فقال: "إن الله قد أمكنكم" وفي نسخة: "مكنكم" وهما بمعنى "منهم" أسقط من رواية أحمد عن أنس: "وإنما هم إخوانكم بالأمس" "فقام عمر" ظاهره أنه تكلم قبل أبي بكر، وفي حديث عمر عند مسلم إن أبا بكر تكلم قبل عمر، ولفظه: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلي، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضدا، فقال: "ما ترى يا عمر"؟ قال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر.... الحديث مطولا.

وأخرجه بنحوه أحمد والترمذي وغيرهما، عن ابن مسعود وابن مردويه عن ابن عباس ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم استشار الناس عموما وخصوصا. فلما خص تكلم أبو بكر قبل عمر، ولما عم، بادر عمر في الجواب على عادته في الشدة في دين الله تعالى، "فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم" أمر أو مضارع ويؤيد الأول رواية مسلم والجماعة بلفظ: ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فاضرب عنه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين،

ص: 320

فأعرض عنه عليه السلام، ثم عاد صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم". فقال عمر: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه السلام، فعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا وقبل منهم الفداء...........................................................

هؤلاء أئمة الكفر وصناديد قريش وأئمتهم وقادتهم، فاضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى فإنما نحن راعون مؤلفون، "فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام" لما جبل عليه من الرأفة والرحمة في حالة إيذائهم له، فكيف في حال قدرته عليهم؟

"ثم عاد صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم" فيه ترقيقهم عليهم واستعطافهم؛ لأن العفو بعد القدرة من شيم الكرام، "فقال عمر: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام، ففعل ذلك ثلاثا" وما تغير عمر عن رأيه، "فقام أبو بكر الصديق" رضي الله عنه "فقال: يا رسول الله أرى أن تعفو عنهم" بفتح الهمزة والواو، أي: فلا تقتلهم، هكذا في نسخ صحيحة، "وأن تقبل منهم الفداء" بالفتح أيضا، أي: رأى عدم القتل استبقاء للقرابة ورجاء لإسلامهم مع أخذ الفداء مراعاة للجيش ليقووا على الكفار، وفي نسخة: أن تعف بحذف الواو فالهمزة فيهما مكسورة والجواب محذوف، أي: أن تعف مجانا فلا بأس إذ هم بنو العم والعشيرة، وإن تقبل مهم الفداء فلا بأس لأنا نستعين به، ودعوى أنها أليق بأدب الصديق مع المصطفى، فلا، ينسب لنفسه أمرا مردودة بأنه لكل مقام مقال، والمقام هنا بيان الرأي الذي طلبه المصطفى خصوصا مع مخالفة عمر وإعراضه عنه، وأيضا فالكسر يقتضي أنه خيره في العفو مجانا والأحاديث تأباه، كيف وقد صرح الصديق في رواية مسلم، بقوله: أرى أن تأخذ منهم الفدية. وفي رواية الترمذي وغيره: استبقهم وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم.

"فذهب من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان" ظهر "فيه من" التغير الدال على "الغم" من قول عمر وهوى ما قال أبو بكر "فعفا عنهم" فلم يقتلهم "وقبل منهم الفداء" فلم يسترقهم ولم يضرب عليهم جزية هذا، ولم يذكر عن علي جواب مع أنه أحد الثلاثة المستشارين، كما في مسلم؛ لأنه لما رأى تغير المصطفى حين اختلف الشيخان عليه لم يجب، أو لم تظهر له مصلحة حتى يذكرها، ولهذا لما ظهر لعبد الله بن رواحة الجواب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد تخصيص الثلاثة، قال -كما رواه الترمذي والجماعة: يا رسول الله! أنظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك.

وفي رواية: ثكلتك أمك، فدخل صلى الله عليه وسلم بيته فقال أناس: يأخذ بقول عمر، وأناس بقول أبو

ص: 321

بكر، وأناس بقول ابن رواحة، ثم خرج فقال:"إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين ن اللبن، وإن الله ليشدد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة كمثل ميكائيل ينزل بالرحمة ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيم} [إبراهيم: 36] الآية. ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية. ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله، ومثلك في الأنبياء مثل نوح، إذ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] الآية، ومثلك في الأنبياء مثل موسى، إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] الآية، لو اتفقتما ما خالفتكما أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق"، فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله! إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخاف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال صلى الله عليه وسلم:"إلا سهيل بن بيضاء""قال: وأنزل الله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَق} بإحلال الغنائم والأسرى لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 68، 69] "الآية" يريد: واتقوا الله إن الله غفور رحيم، وهذه رواية أحمد عن أنس، وفي روايته وهو الترمذي والحاكم عن ابن مسعود، فنزل القرآن بقول عمر:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلى آخهر الآيات.

وفي رواية مسلم عن عمر فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هوى أبو بكر ولم يهو، ما قلت: فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أبو بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، فقال صلى الله عليه وسلم:"أبكي للذي عرض على أصحابك من الفداء لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة" لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] الآية. وفي رواية: إن كاد ليسمنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن لخطاب، زاد في رواية: وسعد بن معاذ، أي: لأنه كره يوم الوقعة والأسر وأحب الإثخان، كما مر ولم يقل وابن رواحة لأنه أشار بإضرام النار وليس بشرع، وهذه من جملة موافقات عمر المنتهية إلى نحو الثلاثين، وتحدث عمر ببعضها من باب وأما بنعمة ربك فحدث، فقال كما في الصحيح: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، ومقام إبراهيم، وفي أسارى بدر، واستشكل هذا كله بأنه وافق رأي

ص: 322

ويأتي الكلام عليها في النوع العاشر في إزالة الشبهات من الآيات المشكلات من المقصد السادس إن شاء الله تعالى.

وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عباس، افد نفسك وابني أخيك، عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو". قال: إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني. قال: "الله أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا".

وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم.....................................................

المصطفى ولا أجل منه ولا أسد من رأيه.

"ويأتي الكلام عليها في النوع العاشر في إزالة الشبهات عن الآيات المشكلات من المقصد السادس إن شاء الله تعالى" في نحو ورقة بما يشفي ويكفي. وفي فتح الباري هنا اختلف السلف، في أي الرأيين كان أصوب، فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر؛ لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر ولدخول كثير منهم في الإسلام، إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الواقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى في حق من كتب له، الرحمة، وأما من رجح الرأي الآخر فتمسك بما وقع من العتاب على أخذ الفداء وهو ظاهر، لكن الجواب عنه أنه لا يدفع حجة الرجحان عن الأول بل ورد للإشارة إلى ذم من آثر شيئا من الدنيا على الآخرة، ولو قل قال.

وروى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خير أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلًا مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا، انتهى. ورواه، ابن سعد من مرسل عبيد، وفيه فقالوا: بل نفاديهم فنقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون ففادوهم.

"وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم، قال" هذا من مراسيل الصحابة،؛ لأن ابن عباس لم يشهد ذلك بل كان صغيرا مع أمه بمكة فكأنه حمله على أبيه أو غيره، "يا عباس افد" بفتح الهمزة وكسرها "نفسك وابني أخيك عقيل" بفتح العين وكسر القاف "ابن أبي طالب ونوفل بن الحارث" أكبر ولد عبد المطلب، "وحليفك عتبة بن عمر، وقال: إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني" بسين للتأكيد أو زائدة، "قال الله أعلم بما تقول إن يكن ما تقول حقا فإن الله يجزيك" الثواب الأخروي والدنيوي، "ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا" وشريعتنا العمل بالظاهر لا بما في نفس الأمر، وفيه رد على من قال: لو كان مسلما ما أسروه ولا أخذوا منه الفداء، "وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم" أي: الأسرى لا العباس ومن ذكر معه، فلا

ص: 323

كان أربعين أوقية ذهبا.

وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس أنه جعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ} [الأنفال: 70] فقال العباس: وددت لو كنت أخذت مني أضعافه لقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم} [الأنفال: 70] .

ينافي ما بعده، أي: كل واحد منهم "كان أربعين أوقية ذهبا" وقال قتادة: كان فداء كل أسير أربعة آلاف. وفي العيون: كان الفداء من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف درهم، وعارضه في النور بما في أبي داود والنسائي عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم جعل فداءهم يوم بدر أربعمائة، قال: فبينهما تفاوت كبير، انتهى.

وروى ابن سعد من مرسل الشعبي، قال: كان صلى الله عليه وسلم يفاديهم على قد أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه، وهذا يمكن أن يجمع به بين الأقوال، ومن ثم قال في الشامية: ومنهم من عليه؛ لأنه لا مال له.

"وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس، أنه" قال: كان فداء الرجل أربعين أوقية، هذا أسقطه المصنف من الدلائل. والأوقية أربعون درهما فمجموع ذلك ألف وستمائة درهم، قال: وجعل لى العباس مائة أوقية، وعلى عقيل ثمانين أوقية" وبما أسقطه من الدلائل، أو كأنه اكتفى بما قبله عن موسى وإن كان لا يليق لأنه دليله، أو عم يتضح قوله: "فقال له" صلى الله عليه وسلم "العباس: اللقرابة صنعت هذا؟ " يعاتبه، إذ مقضتى القرابة التخفيف، وقد شددت وأخذت منا أزيد مما أخذ من غيرنا، وإنما فعل النبي صل الله عليه وسلم ذلك لثروة العباس حتى لا يكون في الدين محاباة، وقد كان يفاديهم على قدر أموالهم. وقيل: جعل عليه أربعمائة أوقية. وقيل: أربعين أوقية من ذهب، "فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70]"الآية،" هذا يفيد أن سبب النزول خاص واللفظ عام، لكن في الشامية: قال جماعة له صلى الله عليه وسلم منهم العباس: إنا كنا مسلمين وإنما خرجنا كرها، فعلام يؤخذ منا الفداء فأنزل الله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 70]، أي: إيمانا وإخلاصا {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] من الفداء بأن يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة، زاد في رواية: فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد. وفي لفظ: أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب

ص: 324

وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين،.................................

به، أي: يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة، أي: لقوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] الآية. وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، قال: قال العباس: في والله نزلت حين أخبرت رسول اله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي وجدت معني، فأعطاني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي في يده مع ما أرجو من مغفرة الله.

وفي الصحيح عن أنس: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فقال:"انثروه في المسجد"، وكان أكثر مال أتى به، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جلس إليه فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه إذ جاءه العباس، فقال: أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، فقال له:"خذ" فحثا في ثوب ثم ذهب يقله فلم يستطيع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه إلي، قال:"لا"، قال: فارفعه أنت علي، قال:"لا"، فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز، فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرص، فما قام صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم.

وعند ابن أبي شيبة: أن المال كان مائة ألف، وهذا كله صريح في أنه لم يفد إلا نفسه وعقيلا، قيل وفدى نوفلا لقوله صلى الله عليه وسلم:"فادِ نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا"، ولما أسلم نوفل آخى بينه وبين العباس، ذكره ابن إسحاق. وقيل: بل فدى نوفل نفسه، فقد روى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال لنوفل:"أفد نفسك"، قال: ليس لي مال أفتدي به، فقال:"أفد نفسك بأرماحك التي بجدة"، قال: والله ما علم أحد أن لي بجدة رماحا غير الله، أشهد أنك رسول الله، وفدى نفسه بها وكانت ألف رمح. ويمكن الجمع بأنه أمر العباس قبل أن يعلم أن لنوفل مالا فلما أعلمه الله بذلك أمر نوفلا بفداء نفسه ويؤيد ذلك قول العباس في الصحيح: فاديت نفسي وعقيلا ولم يذكر نوفلا وصدر السهيلي بأن نوفلا أسلم عام الخندق، وهاجر ومات بالمدينة سنة خمس عشرة وصلى عليه عمر.

"وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا" قيل: وأسهم لهم صلى الله عليه وسلم "ستة من المهاجرين" عبيدة بن الحارث المطلبي قطعت رجله في المبارزة، فمات بالصفراء فدفنه صلى الله عليه وسلم بها، وقيل: مات بالروحاء. ومهجع بكسر الميم وإسكان الهاء وفتح الجيم وعين مهملة، مولى عمر. قال ابن إسحاق: وابن سعد كان أول قتيل من المسلمين وأول من جرح، قتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه، وقال صلى الله عليه وسلم يومئذ:"مهجع سيد الشهداء". وروى الحاكم عن واثله رفعه: "خير السودان لقمان وبلال ومهجع" قاله البرهان. ونقل بعض مشايخي أنه أول من يدعى

ص: 325

وثمانية من الأنصار، ستة من الخزرج،....................................................

من شهداء هذه الأمة. وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص الزهدي ذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم رده لأنه استصغره فبكى عمير، فلما رأى بكاءه أذن له في الخروج فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، قتله العاصي بن سعيد، قاله السهيلي.

وفي الإصابة: يقال قتله عمرو بن عبدود العامري، وعاقل -بعين وقاف- ابن البكير بالتصغير الليثيي. وجزم ابن حبان بأنه مات سنة ثلاثين، والواقدي وتبعه أبو أحمد والحاكم بأنه مات ثمان وثلاثين، وقيل: مات في طاعون عمواس، ذكره في الإصابة.

وذو الشمالين عمير، وقيل: الحارث، ويقال: عمرو بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي وكان أعسر، وقيل: اسمه خلف بن أمية وهو غير ذي اليدين، فإن اسمه الخرباق، كما في مسلم ابن عمرو السلمي. قال العلماء: وهم الإمام ابن شهاب على جلالته، وتبعه ابن السمعاني، فقال: إنهما واحد، وخالفه غيره وجعلوهما اثنين، فإن ذا اليدين عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى أبو هريرة أنه الذي نبه على السهو، وأبو هريرة إنما أسلم عام خيبر وذو الشمالين استشهد ببدر، نعم ذكر البرهان عن بعض الحفاظ أن ذا اليدين كان يقال له أيضا ذو الشمالين، وأنه ليس هذا المستشهد ببدر.

"وثمانية من الأنصار، ستة من الخزرج" عوف بن عفراء، ذكر ابن إسحاق أنه قال: يا رسول الله! ما يضحك الرب من عبده؟ قال: "غمسه يده في القوم حاسرا فنزع درعا عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل". وشقيقه معوذ، قال في الفتح: بشد الواو وبفتحها معاذا استشهد ببدر أيضا لم يوافق عليه.

وحارثة بن سراقة بحاء مهملة ومثلثة وكان في النظارة، أي: الذين لم يخرجوا لقتال فجاءه سهم غرب فوقع في نحره فقتله، فجاءت أمه الربيع -بضم الراء وفتح الموحدة وشد التحتية- فقالت: يا رسول الله! قد علمت مكان حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإلا فسترى ما أصنع!! فقال:"إنها ليست بجنة واحدة، ولكنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس"، كما في الصحيح، وقتله -كما في العيون: حبان بكسر المهملة وشد الموحدة، ابن العرقة بفتح المهملة وكسر الراء. ونقل الواقدي فتحها وفتح القاف فتاء تأنيث وهي أمة، وأبوه قيس. قال ابن إسحاق: وهو أول قتيل بعد مهجع، والروايات الصحيحة في البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم أن حارثة هذا قتل في بدر، ولم يختلف في ذلك أهل المغازي، وما في بعض

ص: 326

واثنان من الأوس.

الروايات أنه قتل في أحد وإن اعتمده ابن منده أنكره أبو نعيم، كما أوضح ذلك في الإصابة.

ويزيد بن الحارث بن قيس بن مالك، ورافع بن المعلى قتله عكرمة بن أبي جهل. وعمير بن الحمام، بضم المهملة وخفة الميم، ابن الجموح، ذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم خرج على الناس فحرضهم، فقال:"والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فقال عمير بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل، وهو يقول:

ركضا إلى الله بغير زاد

إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد

وكل زاد عرضة النفاد

غير التقى والبر والرشاد

وقتله خالد بن الأعلم العلقمي. وروى مسلم عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض"، فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "عم"، قال: بخ بخ، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما يحملك على قولك بخ بخ"؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال:"فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. قال ابن عقبة وهو أول قتيل قتل يومئذ، ومر قول ابن إسحاق وابن سعد: أولهم مهجع، وجمع في النور بأنه أول قتيل بسهم وعمير بغيره، أو من المهاجرين وعمير من الأنصار، ولا يعارضه ما حكاه ابن سعد: أول قتيل من الأنصار حارثة بن سراقة؛ لأنه أول قتيل من الفتيان، انتهى. وهو ظاهر لكن لا يعلم منه أول قتيل على الإطلاق.

"واثنان من الأوس" سعدبن خيثمة أحد النقباء بالعقبة الصحابي ابن الصحابي، الشهيد ابن الشهيد، قيل: قتله طعمية بن عدي، وقيل: عمرو بن عبدود، واستشهد أبوه يوم أحد، ومبشر بن عبد المنذر، وقيل: إنما قتل بأحد. قال السمهودي في الوفاء: يظهر من كلام أهل السير أنهم دفنوا ببدر ما عدا عبيدة لتأخر وفاته، فدفن بالصفراء أو الروحاء، انتهى. وروى الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود، قال: إن الذين قتلوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر تسرح في الجنة، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربهم اطلاعه، فقال: يا عبادي ماذا تشتهون؟ فقالوا: يا ربنا هل فوق هذا من شيء؟ قال: فيقول: ماذا تشتهون؟ فيقولون في الرابعة: ترد أرواحنا في أجسادنا فنقتل كما قتلنا، موقوف لفظا مرفوع حكما؛ لأنه لا مدخل

ص: 327

تنبيه: لا يقدح في وعد الله تعالى أن استشهد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وإنما هذا الوعد كقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فقد نجز الموعود وغلبوا كما وعدوا، فكان وعد الله مفعولا ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله.

وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون،............................................

للرأي فيه، والله أعلم.

تنبيه:

"لا يقدح في وعد الله تعالى" للمسلمين بالظفر بقوله سبحانه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن} [الأنفال: 7] الآية، "إن استشهد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم" لأنه وعدهم بالظفر بقريش وقد فعل ولم يعدهم أنه لا يقتل أحد منهم، فلا ينافي قتل هؤلاء، "إنما هذا الوعد، كقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية، إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] ،" حال، أي: منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] الآية، أذلاء منقدون لحكم الإسلام، ووجه التشبيه أن هذه الآية دلت على أمرهم بالقتال حتى يتمكنوا من عدوهم بإذلالهم وأخذ الجزية إن لم يؤمنوا، وآية {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 7] الآية، تلد على الظفر بالأعداء من غير دلالة على عدم قتل أحمد منهم، "فقد نجز الموعود" به "وغلبوا" بالبناء للفاعل "كما وعدوا" بالبناء للمفعول "فكان وعد الله مفعولا"، أي: موعوده، "ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون" كما في حديث البراء عند البخاري وابن عباس، وعمر عند مسلم ووافقهم آخرون وبه جزم ابن هشام ونقله عن أبي عمر، وقال ابن كثير: وهو المشهور.

قال الحافظ: وهو الحق وأن أطبق أهل السير على إن القتلى خمسون قتيلا يريدون قليلا أو ينقصون وأطلق كثير من أهل المغازي أنهم بضعة وأربعون، وسرد ابن إسحاق أسماؤهم فبلغوا خمسين.

وزاد الواقدي ثلاثة أو أربعة، وسردهم ابن هشام فزادوا على الستين لكن لا يلزم من معرفة أسماء من قتل على التعيين أن يكونوا جميع من قتل، وقد قال الله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] الآية. اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أحد، وإن المراد بإصابتهم مثليها يوم بدر، وبذلك جزم ابن هشام واستدل له بقول كعب بن مالك من قصيدة:

ص: 328

وكان من أفضلهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب،...............................

فأقام بالعطن المعطن منهم

سبعون عتبة منهم والأسود

يعني عتبة بن ربيعة ومر من قتله، والأسود بن عبد الاسد المخزومي قتله حمزة، انتهى.

وفي البخاري عن جبير بن مطعم: أنه صلى الله عليه وسلم قال في أساري بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، والنتنى بنون وفوقية كزمنى جمع نتن سماهم بذلك لكفرهم، كما في النهاية وغيرها، وبه جزم الحافظ. وقول المصنف: المراد قتلى بدر الذي صاروا جيف يرده قول الحديث في أسارى بدر، قال الحافظ: أي لتركتهم له بغير فداء. وبين ابن شاهين من وجه آخر أن سبب ذلك اليد التي كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من الطائف ودخل في جواره، وقيل: اليد أنه كان من أشد القائمين في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم والمسلمين لما حصروهم في الشعب.

وروى الطبراني عن جبير بن مطعم، قال: قال المطعم بن عدي لقريش: إنكم قد فعلتم بمحمد ما فعلتم فكونوا أكف الناس عنه، وذلك بعد الهجرة، ثم مات المطعم قبل وقعة بدر وله بضع وتسعون سنة. وذكر الفاكهي بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات مجازاة له على ما صنع مع النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. ونقل ابن إسحاق رثاء حسان، وهو:

عيني ألا أبكي سيد الناس واسفحي

بدمع وإن أنزفته فاسكبي الدما

وبكى عظيم المشعرين كليهما

على الناس معروفا له ما تكلما

فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا

من الناس أبقى مجده اليوم مطعما

أجرت رسول الله منهم فأصبحوا

عبيدك ما لبى مهل وأحرما

لو سئلت عنه معد بأسرها

وقحطان أو باقي بقية جرهما

لقالوا هو الموفي بخفرة جاره

وذمته يوما إذا ما تذمما

فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم

على مثله فيهم أعز وأعظما

وأنأى إذا يأبى وألين شيمة

وأنوم عن جار إذا الليل أظلما

ورثاء حسان رضي الله عنه له وهو كافر لأنه تعداد المحاسن بعد الموت، ولا ريب في أن فعله مع المصطفى من أقوى المحاسن، فلا ضير في ذكره، وقد كفن المصطفى عبد الله بن أبي المنافق بثوبه مجازاة له على إلباس العباس قميصه يوم بدر، لما كان في الأساري.

"وكان من أفضلهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب" أسره عبيد بن أوس

ص: 329

ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكل أسلم.

وكان العباس -فيما قاله أهل العلم بالتاريخ- قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من لقي العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها"،

الذي يقال له مقرن؛ لأنه قرن أربعة أسرى يوم بدر، قاله ابن هشام، وأسلم قبل الحديبية، ويقال: عام الحديبية "ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب" أسلم عام الخندق وهاجر، ويقال: بل أسلم حين أسر، قاله السهيلي. "وكل أسلم" رضي الله عنهم وهؤلاء من بني هاشم، وممن أسلم من الأسرى من سائر قريش: أبو العاصي بن الربيع زوج السيدة زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم قبيل الفتح وأثنى عليه المصطفى في مصاهرته ورد عليه زينب. وأبو عزيز بفتح العين وكسر الزاي الأولى وإسكان التحتية، واسمه زرارة بن عمير أخو مصعب أسلم يوم بدر وله صحبة وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وقول الزبير بن بكار: قتل كافرا يوم أحد، رده ابن عبد البر بأن ابن إسحاق عد من قتل من الكفار من بني عبد الدار أحد عشر رجلا ليس فيهم أبو عزيز، وإنما فيهم يزيد بن عمير.

وقال السهيلي: غلط الزبير فلا يصح هذا عند أحد من أهل الأخبار. وقد روى عنه نبيه بن وهب وغيره، ولعل المقتول بأحد كافرا أخ لهم غيره، انتهى. وقد علم من كلام أبي عمر أنه يزيد بن عمير فتوهم الزبير أنه اسم أبي عزيز فغلط، وإنما اسمه زرارة.

وقد رى الطبراني في الكبير عنه، قال: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال صلى الله عليه وسلم:"استوصوا بالأسارى خيرا" قال الحافظ الهيثمي: إسناده حسن، والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر بعد أن أسرى وفدى نفسه، نقله الذهبي عن أبي الطيب الطبري. وعدي بن الخيار، والسائب بن أبي حبيش، وأبو وداعة السهمي، وسهيب بن عمرو العامري أسلموا في فتح مكة، وخالد بن هشام المخزومي، وعبد الله بن السائب، والمطلب بن حنطب، وعبد الله بن أبي بن خلف أسلم يوم الفتح وقتل يوم الجمل، قاله أبو عمر، وعبد بن زمعة أخو سدوة، ووهيب بن عمير الجمحي، وقيس بن السائب المخزومي، ونسطائس مولى أمية بن خلف، ذكره السهيلي وقال: أسلم بعد أحد، والوليد بن الويد أسره عبد الله بن جحش فافتكوه وذهبوا به مكة فأسلم فحبسوه بها، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت فنجا وهاجر إلى المدينة فمات بها في الحياة النبوية.

"وكان العباس فيما قاله أهل العلم بالتاريخ قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه" قال ابن عبد البر: وذلك بين في حديث الحجاج بن علاط، أن العباس كان مسلما يسره ما يفتح الله على المسلمين، ثم أظهر إسلامه يوم الفتح. "وخرج مع المشركين يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها" ولا ينافيه قوله عليه السلام له: "ظاهر أمرك كنت

ص: 330

ففادى نفسه ورجع إلى مكة.

وقيل إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة.

وقيل أسلم يوم فتح خيبر.

وقيل كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه عليه الصلاة والسلام:"إن مقامك بمكة خير لك".

وقيل إن سبب إسلامه، أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: "أما شيء خرجت تستعين به

علينا"؛ لأن كونه عليهم في الظاهر لا ينافي أنه مكره في الباطن. "ففادى نفسه ورجع إلى مكة" فأقام بها على سقايته والمصطفى عنه راض "وقيل: أنه أسلم يوم بدر" ولكنه كتمه حتى تمكن من إظهاره، "فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بالأبواء" وأظهر إسلامه "وكان معه حين فتح مكة" فشهده وحنينا والطائف وثبت يوم حنين، "وبه ختمت الهجرة" كما قال عليه السلام. "وقيل: أسلم يوم خيبر" قبل فتحها، كما حكاه أبو عمر. "وقيل: كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة وكان إسلامه قبل بدر" وهذا حاصل القول الأول.

"وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤده لإسلامه باطنا وعدم تمكنه من إظهاره، قال مولاه أبو رافع: لأنه كان يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان ذا مال، رواه ابن إسحاق. "فكتب إليه عليه الصلاة والسلام: "إن مقامك بمكة خير لك" لما علمه من ضياع عياله وأمواله لو تركهم وهاجر، ولأنه كان عونا للمسلمين المستضعفين بمكة. "وقيل: إن سبب إسلامه أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين" لأنه كان من الأغنياء المشهورين بالكرم، وكانوا يذبحو لهم الجزائر فلو لم يفعل لعيب عليه ونسب للبخل، ولذا نحر لهم، كما مر، فلا ينافي هذا أن خروجه مكرها ولا يصح هنا أن يقال لا ينافي ذلك إسلامه باطنا؛ لأن صاحب هذا القول لا يقول به إذ هو قائل بأنه إنما أسلم بوم بدر، وأن ذلك سبب إسلامه. "فأخذت منه في الحرب فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب" بضم السين: يعد "العشرين أوقية من فدائه فأبى، وقال: "أما شيء خرجت تستعين به

ص: 331

علينا فلا نتركه لك"، فقال العباس: تركتني أتكفف قريشا، فقال له عليه السلام: "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة"، فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، فقال: "أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله".

ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من بدر في آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى، وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو

علينا" ظاهرا وإن كرهته باطنا، "فلا نتركه لك"، فقال العباس: تتركني أتكفف قريشا" أمد كفي إليهم بالمسألة أو أخذ الشيء منهم بكفي، كما في المصباح.

وفي رواية: تتركني فقير قريش ما بقيت، "فقال له عليه السلام:"فأين الذهب" استفهام إنكاري "الذي دفعته إلى أم الفضل" لبابة الكبرى زوجه رضي الله عنهما، "وقت خروجك من مكة"؟ فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي" فقال: أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله" وهذا القول كالشرح للقول الثاني في كلامه.

وفي رواية: فنزل في العباس: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 70] الآية، قال العباس: فأبدلني الله عشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها، أي: بدلها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.

"ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من" جميع أمر "بدر في آخر" يوم من "رمضان، وأول يوم من شوال" قاله ابن إسحاق: وقد كان القتال يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على أرجح الأقوال المتقدمة، وقول المقريزي في إمتاع الأسماع: أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان مبني على أن الخروج منها كان لثلاث مضين من رمضان، "بعث زيد بن حارثة" حبه ومولاه "بشيرا" بما فتح الله عليه إلى أهل المسافلة وبعث عبد الله بن رواحة بشرا إلى أهل العالية، قاله ابن إسحاق وغيره. "فوصل المدينة" يوم الأحد "ضحى وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية" بضم الراء وفتح القاف وشد التحتية "بنت النبي صلى الله عليه وسلم" بعد دفنها بالبقيع، وهي ابنة عشرين سنة. وروى ابن المبارك عن يونس عن الزهري: أنها كانت قد أصابها الحصبة، قال ابن إسحاق: ويقال إن ابنها عبد الله بن عثمان مات بعدها سنة أربع من الهجرة وله ست "وهذا هو

ص: 332

الصحيح في وفاة رقية.

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية، فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال:"أيكم لم يقارف الليلة" فقال أبو طلحة أنا، فأمره أن ينزلها قبرها.

وأنكر البخاري هذه الرواية، وخرج الحديث في الصحيح فقال فيه: عن أنس: شهدنا دفن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ولم يسم رقية ولا غيرها.

وذكر الطبري أنها أم كلثوم فحصل في حديث الطبري التبيين. ومن قال: كانت رقية فقد وهم.

الصحيح في وفاة رقية" كما قاله السهيلي وغيره.

"وقد روي" عند البخاري في التاريخ الأوسط، والحاكم في المستدرك من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال: "أيكم لم يقارف"، بقاف وفاء، يجامع "الليلة" أهله، كما صرح به في رواية وقول فليح بن سليمان يعني الذنب خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذا، قاله السهيلي "فقال أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "أنا فأمره أن ينزلها قبرها" زاد في رواية: فقبرها، ففيه إيثار بعيد العهد بالملاذ بمواراة المبيت ولو امرأة على الزوج، وعلل بأنه حينئذ يأمن أن يذكره الشيطان ما كان منه تلك الليلة، "وأنكر البخاري هذه الرواية" في تاريخه، فقال: ما أدري ما هذا فإن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر لم يشهدها، وهو وهم. قال الحافظ بن حماد في تسميتها فقط، "وخرج الحديث في الصحيح فقال فيه عن أنس: شهدنا دفن بنت النبي صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث" وهو: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وعيناه تدمعان، وقال: $"هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا، فقال: "أنزل قبرها" فنزل "ولم يسم رقية ولا غيرها. وذكر" أي: روى محمد بن جرير "الطبري" والطحاوي والواقدي وابن سعد والدولابي "أنها" أي: البنت التي شهد صلى الله عليه وسلم دفنها " أم كلثوم فحصل في حديث الطبري" والجماعة "التبيين و" إن "من قال كانت رقية فقد وهم،" بكسر الهاء غلط بلا شك، ووقع في مقدمة الفتح أن ابن بشكوال صحح أنها زينب، انتهى. لكنه لا يعادل رواية الجماعة.

وفي التاريخ والمستدرك: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة" فتنحى عثمان. حكى ابن حبيب أنه جامع بعض جواريه تلك الليلة، قال ابن بطال: أحرم صلى الله عليه وسلم عثمان إنزالها في قبرها وكان أحق الناس لأنه بعلها لأنه لم يشغله الحزن بالمصيبة التي فقد فيها ما لا عوض لها منه وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقورفة، ولم يقل له شيئا؛ لأنه فعل حلالا، غير

ص: 333

وكان عثمان رضي الله عنه قد تخلف لأجل رقية زوجته فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.

وأمر صلى الله عليه وسلم عند انصرافه عاصم بن ثابت -وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب- بقتل عقبة بن أبي معيط، فقتله........................................................................

أن المصيبة مع عظمها لم تبلغ عنده مبلغا يشغله، فحرم ما حرم بتعريض دون تصريح ولعله عليه السلام كان قد علم ذلك بالوحي، انتهى. وقال الحافظ: لعل مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع ولم يظن موتها تلك الليلة وليس في الحديث ما يقتضي أنه واقع بعد موتها ولا حين احتضارها، انتهى.

"وكان عثمان رضي الله عنه قد تخلف" عن بدر "لأجل" مرض "رقية زوجته" بأمره صلى الله عليه وسلم ففي المستدرك: خلف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وأسامة بن زيد على رقية في مرضها لما خرج إلى بدر، فماتت حين وصل زيد بالبشارة، "فضرب له" لعثمان "رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره" مع أحد عشر رجلا، كما مر، وجزم الخطابي وتبعه السيوطي بأن ذلك خاص بعثمان لما رواه أبو داود بإسناد صالح عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب لعثمان يوم بدر بسهم ولم يضرب لغائب غيره، والجواب: أن المراد غائب تخلف لأمر لا تعلق له بمصالح المسلمين ولم يمنعه العذر فلا يرد أولئك الذين ضرب لهم؛ لأن منهم من تخلف للعذر ومنهم للمصالح، كما مر بسطه.

"وأمر صلى الله عليه وسلم عند انصرافه" من بدر "عاصم بن ثابت" بن أبي الأقلح بفتح الهمزة واللام بينهما قاف ساكنة وحاء مهملة آخره، واسمه قيس بن عصمة بن النعمان من السابقين الأولين من الأنصار، وأصحاب العقبة وبدر والعلماء بالحرب، كما أنزلت بالنص النبوي "وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب" لأمه، قال في الفتح: هذا وهم من بعض رواية عاصم بن ثابت حال عاصم بن عمر أن أم عاصم جميلة بنت ثابت أخت عاصم كان اسمها عاصية فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم جميلة، انتهى.

وعاصم بن عمر هذا، قال ابن عبد البر: مات النبي صلى الله عليه وسلم وله سنتا، وكان طوالا جسيما جميلا شاعرا، قال أخوه عبد الله: أنا وأخي عاصم لا نغتاب الناس، زوجه أبوه في حياته وأنفق عليه شهرا، ثم قال: حسبك، ومات سنة سبعين أو ثلاث وسبعين، ثم هذا قول ابن إسحاق. وقال ابن هشام. أمر علي بن أبي طالب "بقتل عقبة بن أبي معيط" أسير عبد الله بن سلمة بكسر اللام العجلاني، قال ابن إسحاق: فقال عقبة: يا محمد من للصبية؟ قال: "النار"، "فقتله" بعرق الظبية بكسر العين وسكون الراء المهملتين وقاف وبضم الظاء المعجمة وسكون الموحدة وفتح التحتية

ص: 334

صبرا.

ثم أقبل عليه الصلاة والسلام قافلا إلى المدينة ومع الأساري من المشركين، واحتمل النفل، وجعل عليه عبد الله بن كعب من بني مازن. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين...........................................................

فتاء تأنيث، مكان على ثلاثة أميال من الروحاء مما يلي المدينة، وثَمَّ مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الصغاني. وقال السهيلي: الظبية شجرة يستظل بها "صبرا" هو كل ذي روح يوثق حتى يقتل، كما في المصباح. ويروى أنه قال: يا معشر قريش، ما لي أقتل من بينكم صبرا؟ فقال عليه السلام:"بكفرك وافترائك على الله"، وإنه قال له:"لست من قريش، هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية"، وذلك لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام فوقع على يهودية لها زوج من صفورية فولدت ذكوان المكنى أبا عمرو وهو والد أبي معيط على فراش اليهودي، فاستلحقه بحكم الجاهلية، قال الإسماعيلي: وهذا الطعن خاص بنسب عقبة من بني أمية، وفي نسب أمية نفسه مقالة أخرى، وهي أن أم أمية يقال لها الزرفاء، واسمها أرنب كانت في الجاهلية من ذوات الرايات لكن قد عفا الله عن أمر الجاهلية ونهى عن الطعن في الأنساب، ولو لم يجب الكف عن نسب أمية إلا لموضع عثمان لكفى، انتهى. وفي معجم البكري: صفورية بفتح أوله وثم ثانيه المشدد وكسر الراء المهملة وخفة الياء: موضع من ثغور الشام، وفي الميزان روى أبو الهيثم عن إبراهيم التيمي مرسلا أنه عليه السلام صلب عقبة إلى شجرة وأبو الهيثم لا يدري من هو.

"ثم أقبل عليه الصلاة والسلام قافلا" بقاف وفاء: "راجعا "إلى المدينة ومع الأساري من المشركين، واحتمل النفل" بفتح النون والفاء: الغنيمة والجمع الأنفال، "وجعل عليه عبد الله بن كعب" بن زيد بن عاصم "من بني مازن" بن النجار، كما قال ابن إسحاق. قال الواقدي: مات زمن عثمان سنة ثلاث وثلاين وكنيته أبو الحارث وتبع الواقدي المدائني وابن أبي خيثمة والعسكري وغيرهم، وأسقط ابن الكبي وابن سعد زيدا من نسبه وتبعهما البغوي وغيره، فجعلوا الكنية والوظيفة، أي: كونه على النفل والوفاة لعبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف من بني مازن بن النجار أيضا، كما في الإصابة والمصنف محتمل لهما؛ لأنه لم يسم جده فيحتمل أنه زيد وأنه عمرو.

"فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين" وقد كانوا اختلفوا فيه، كما رواه ابن إسحاق وغيره عن عبادة بن الصامت، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: لولا نحن ما أصبتموه نحن شغلنا عنكم العدو فهو لنا، وقال الذين كانوا يحرسونه صلى الله عليه وسلم لقد رأينا أن نقتل العدو حين منحنا الله أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين

ص: 335

على السواء.

وأمر عليا رضي الله عنه بالصفراء بقتل النضر بن الحارث.

لم يكن له من يمنعه ولكن خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو، فما أنتم بأحق به منا، فنزعه الله تعالى من أيديهم فجعله إلى رسوله وأنزل عليه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَال} [الأنفال: 1] الآية، فقسمه بينهم "على السواء" لفظ الرواية عن بواء بفتح الموحد وخفة والواو وبالمد، أي: على السواء، فأتى المصنف بمعناها؛ لأنه لم يتقيد بها، ورواه أبو عبيد عن فواق، وقال: معناه جعل بعضهم فوق بعض في القسم ممن رأى تفضيله أو يعني سرعة القسم من فواق الناقة. قال السهيلي: ورواية ابن إسحاق أشهر وأثبت عند أهل الحديث، انتهى.

ويرد على تفسيره الأول للفواق ما جاء أن سعد بن معاذ، قال: يا رسول الله! أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال صلى الله عليه وسلم: $"ثكلتك أمك وهل تنصرون إلا بضعفائك"، "وأمر" صلى الله عليه وسلم "عليا رضي الله عنه بالصفراء" كما ذكره ابن إسحاق ومن لا يحصى، وغلط من قال بعرق الظبية؛ لأن ذاك إنما هو عقبة "بقتل النضر" بضاد معجمة "ابن الحارث" بن علقمة بن كلدة بفتحتين بن عبد مناف بن عبد الدر بن قصي هذا هو الصواب في نسبه، كما ذكره ابن الكلبي والزبير بن بكار وخلق لا يحصون، وغلط ابن منده وأبو نعيم فيه غلطين فاحشين، فقالا: كلدة بن علقمة، وأن النضر شهد حنينا، وأعطاه صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل وكان مسلم من المؤلفة قلوبهم وعزيا ذلك لابن إسحاق، وهو غلط، فالذي قاله ابن إسحاق وأجمع عليه أهل المغازي والسير، أنه قتل كافرا بعد بدر صبرا، وقد أطنب الحافظ العز بن الأثير وغيره من الحفاظ في تغليظهما والرد عليهما، لكن تعقب كما في الإصابة باحتمال أن يكون له أخ سمي باسمه، فهو الذي ذكرها لا هذا المقتول كافرا، انتهى.

لكن إنما ينهض هذا الاحتمال لو وجد ما نسباه لابن إسحاق فيه، أما حيث لم يوجد فالمتبادر أنه غلط، كما قال الجماعة. نعم قال ابن عبد البر في كتاب المغازي: قد ذكر في المؤلفة النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا وذكر آخرون النضر بن الحارث فيمن هاجر إلى البحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة؛ لأنه ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، لا ممن يؤلف عليه.

وفي قتله تقول قتيلة بضم القاف وفتح الفوقية وسكون التحتية وهي أخته في قول ابن هشام، وتبعه جمع منهم النووي واليعمري وبنته في قول الزبير بن بكار، وتبعه ابن عبد البر والجوهري والذهبي وغيرهم، قال السهيلي: وهو الصحيح وهو كذلك في الدلائل، وذكر أبو

ص: 336

ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الأساري بيوم

عمر أنها أسلمت يوم الفتح وكانت شاعرة محسنة:

يا راكبا إن الأثيل مظنة

من صبغ خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية

ما أن تزال بها النجائب تخفق

مني إليك وعبرة مسفوحة

جادت بواكفها وأخرى تحنق

هل يسمعني النضر إن ناديته

أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير ضن كريمة

في قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما

من الفتى وهو المغيظ المحنق

أو كنت قابل فدية فلينفقن

بأعز ما يغلو به ما ينفق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة

وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقق

صبرا يقاد إلى المنية متعبا

رسف المقيد وهو عان موثق

فيقال إنه صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضلت لحيته، وقال:"لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه". وفي رواية الزبير بن بكار: فرق صلى الله عليه وسلم حتى دمعت عيناه، وقال:"يا أبا بكر، لو سمعت شعرها ما قتلت أباها"، قال الزبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات، ويقول: إنها مصنوعة. قال ابن المنير: وليس معنى كلامه صلى الله عليه وسلم الندم؛ لأنه لا يقول ولا يفعل إلا حقا والحق لا يندم على فعله، ولكن معناه: لو شفعت عندي بهذا القول لقلبت شفاعتها، ففيه تنبيه على حق الشافعة والضراعة ولا سيما الاستعطاف بالشعر، فإن مكارم الأخلاق تقتضي إجازة الشاعر وتبليغه قصده، انتهى.

والأثيل: بمثلثة مصغر أثل موضع. مظنة بفتح الميم وكسر المعجمة وفتح النون المشددة: تخفق تسرع، الواكف: السائل، تحنق بضم النون. والضن: الولد، معرى بفتح الراء وكسرها: العريق المغيظ بفتح الميم وكسر المعجمة وإسكان التحتية وظاء معجمة. وأقرب من أسرت، أي: من أقرب، وإلا فالعباس وغيره أقرب منه.

"ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الأسارى بيوم" فدخلها من ثنية الوداع، مؤيدا منصورا قد خافه كل عدو له بها وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، ودخل عبد الله بن أبي في الإسلام ظاهرا، وقالت اليهود تيقنا: إنها لنبي الذي نجد نعته في التوراة، ولكن من يضلل الله فلا هادي له.

ص: 337

فلما قدموا فرقهم بين أصحابه وقال: "استوصوا بهم خيرا".

وقد استقر الحكم في الأساري عند الجمهور أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل إياهم كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسارى بدر، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الشافعي وطائفة من العلماء وفي المسألة خلاف مقرر في كتب الفقه والله أعلم.

و.........................

"فلما قدموا فرقهم بين أصحابه، وقال: "استوصوا بهم خيرا" ذكره ابن إسحاق، وزاد: فكان أبو عزيز بن عمير شقيق مصعب بن عمير في الأساري، فقال: مر بي أخي ورجل من الأنصار يأسرني، فقال له: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، قال: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا.

"وقد استقر الحكم في الأسارى عند الجمهور أن الإمام مخير فيهم إن شاء قتل إياهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل ببعض أسرى بدر، كأبي العاصي بن الربيع زوج بنته زينب بعثت بقلادة لهاكانت خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى بها فلما رآها صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها فافعلوا"، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها، رواه أبو داود وغيره من حديث عائشة، وكذا من على المطلب بن حنطب وقد أسلم كأبي العاصي رضي الله عنهما، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبي عزة الجمحي وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدًا أبدا، فلم يفعل فقتله صلى الله عليه وسلم يوم أحد صبرا، "هذا مذهب الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف مقرر في كتب الفقه، والله أعلم" بالحق.

وذكر أبو عبيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يفد بعد بدر بمال إنما كان يمن أو يفادي أسيرا بأسير، قال السهيلي: وذلك والله أعلم، لقوله تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] الآية، يعني الفداء بالمال، وإن كان قد أحل ذلك وطيبه، ولكن ما فعله الرسول بعد ذلك أفضل من المن أو المفاداة بالرجال، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] الآية، كيف قدم المن على الفداء، فلذلك اختاره رسول الله وقدمه، انتهى.

ومما يتصل بغزوة بدر هلاك أبي لهب فذكره المصنف كغيره، فقال:"و" روى ابن إسحاق

ص: 338

لما قدم أبو سفيان بن الحارث، سأله أبو لهب عن خبر قريش. فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله -مع ذلك- ما لمت الناس. لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم

من حديث عكرمة عن أبي رافع، قال:"لما قدم أبو سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب أخو المصطفى من رضاع حليمة، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى غزوة الفتح بالأبواء أو غيرها، فأسلم وشهدها معه وحنينا، وثبت يوم حنين اسمه وكنيته وذكر إبراهيم بن المنذر والزبير بن بكار وجماعة أن اسمه المغيرة، لكن جزم ابن قتيبة وابن عبد البر والسهيلي بأن المغيرة أخوه مات سنة عشرين.

"سأله أبو لهب" عبد العزى "عن خبر قريش" فقال: هلم إلي فعندك الخبر، "قال: والله ما هو" شيء فهو مبتدأ وشيء خبره وما بعد إلا بدل منه، لكن لما حذف الخبر أعطى ما بعد إلا حكمه فصار هو الخبر لفظا، وإن كان بدلا في الأصل، وكذا كل ما حذف فيه المستثنى منه وسبق ما يخرجه عن الإيجاب من نفي نحو: وما محمد إلا رسول، أو نهي نحو: لا تقولوا على الله إلا الحق، أو استفهام إنكاري نحو: فهل يهلك إلا القوم الفاسقون، ولا فرق بين الجملة الاسمية كهذه الأمثلة والفعلية، نحو: ما قام إلا زيد أصله ما قام أحد، حذف الفاعل وأعرب ما بعد إلا بأعرابه.

"إلا أن لقينا" بإسكان الياء "القوم" نصب مفعول ويجوز فتح الياء ورفع القوم، قال البرهان: الأول أحسن، لقوله: فمنحناهم أكتافنا" لينتسق الكلام، يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا" بكسر السين "كيف شاءوا، وايم الله" بهمزة وصل أو قطع، أي: قسمي "مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض" هكذا رواية ابن إسحاق كما في العيون، وأوردها الشامي: رجالا بيضا، "على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء" والمصنف تصرف في الرواية وحذف منها كثيرا؛ لأنه لم يتقيد بها ولفظها هنا: والله لا تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، بضم الفوقية وكسر اللام وسكون التحتية وقاف، أي: ما تبقي، كما قال أبو ذر في الإملاء. "قال أبو رافع:" أسلم أو إبراهيم، أو صالح، أو هرمز، أو ثابت، أو سنان، أو يسار، أو عبد الرحمن، أو قزمان، أو يزيد، فتلك عشرة كاملة أشهرها الأول، كما قال أبو عمر "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسلم قبل بدر وشهد أحدًا وما بعدها، وفتح مصر وزوجه المصطفى مولاته سلمى فولدت له، ومات بالمدينة في أول خلافة علي، كما قال ابن حبان.

ص: 339

وكان غلاما للعباس بن عبد المطلب قال: وكان الإسلام قد دخلنا فقلت له: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به في رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده.

قال: فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله

قال في التقريب: وهو صحيح، وقال الواقدي: مات قبل عثمان أو بعده بيسير. "وكان غلاما" مملوكا "للعباس بن عبد المطلب" فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه لما بشره بإسلام العباس، ومن الموالي النبوية آخر يقال له أبو رافع والد البهي، قيل: اسمه رافع كان عبد السعيد بن العاصي فلما مات أعتق كل بنيه العشرة نصيبه منه إلا خالد بن سعيد، فوهب حصته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، فزعم جماعة أنه هو الأول. قال في الإصابة: وهو غلط بين، فالأول كان للعباس، فالصواب أنهما اثنان. "قال: وكان الإسلام قد دخلنا" أهل بيت فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال، هذا كله قول أبي رافع عند ابن إسحاق.

"فقلت له" وقد سرنا ما جاءنا من الخبر: "والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة" شديدة، قال: وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني "فقامت أم الفضل" لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية أخت ميمونة أم المؤمنين قديمة الإسلام، حتى قال ابن سعد: إنها أول امراة أسلمت بعد خديجة، لكن رده في الفتح بأنها وإن كانت قديمة الإسلام لكنها لا تذكر في السابقين، فقد سبقتهما سمية أم عمار وأم أيمن، انتهى. وجزم غيره بأن أول من أسلم بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، كما مر، أنجبت للعباس بنيه الستة النجباء: الفضل، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبدا، وأختهم أم حبيب ويقال أم حبيبة بالهاء. ذكر ابن إسحاق في رواية يونس: أنه صلى الله عليه وسلم رآها وهي طفلة تدب بين يديه، فقال:"إن بلغت وأنا حي تزوجتها" فقبض قبل أن تبلغ فتزوجها سفيان بن الأسود المخزومي.

"إلى عمود" من عمد الخيمة وكانت جالسة عند أبي رافع بحجرة زمزم "فضربت به في رأس أبي لهب" لفظ الرواية: فضربته به ضربة فلغت في رأسه شجه منكرة، وفلغت بفتح الفاء واللام والغين المعجمة: شدخت، "وقالت: استضعفته أن" بفتح الهمزة، أي: لأن "غاب عنه سيده" وفي نسخة: إذ وهي للتعليل بلا تقدير، "قال" أبو رافع: فقام موليا ذليلا "فوالله ما عاش" صحيحا سليما "إلا سبع ليال" واستمر على ما هو عليه "حتى" إلى أن "رماه الله" ابتلاه

ص: 340

بالعدسة، وهي قرحة كانت العرب تتشاءم بها. وقيل إنها تعدي أشد العدوى، فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله، وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.

"بالعدسة" بمهملات مفتوحات آخره تاء تأنيث، "وهي قرحة كان العرب تتشاءم بها، وقيل: إنها" كذا جعله قولا، والذي في تاريخ ابن جرير: كانت العرب تتشاءم بها ويرون أنها "تعدي" بضم أوله "أشد العدوى" أي: تجاوز صاحبها إلى من قاربه، وفي النور: العدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل صاحبها غالبا.

وفي حواشي أبي ذر: قرحة قاتلة كالطاعون، فتباعد عنه بنوه "عتبة ومعتب أسلما يوم الفتح وثبتا يوم حنين، وأختهما درة لها صحبة وهي من المهاجرات، وأما عتيبة المصغر فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الحاكم وصححه وكان ذلك في حياة أبي لهب، كما رواه أبو نعيم، فتردد البرهان في أنه هلك زمن أبيه أو بعده تقصير، "حتى قتله الله وبقي بخلاف ثأر بعد موته ثلاثا لا تقرب" بالبناء للمفعول ونائبه "جنازته" بكسر الجيم أفصح من فتحها، وهو من إضافة الأعم إلى الأخص، كشجر أراك، أي: لا يقرب هو فإطلاق الجنازة تجوز من تسمية المطلق باسم المقيد إذ هي الميت في النعش أو النعش وعليه الميت، وكلاهما لا يراد هنا؛ لأنه لم يكن على نعش "ولا يحاول دفنه" لا يفكر فيه ولا يشرع في أسبابه من الحيلة، "فلما خافوا السبة" بضم المهملة وشد الموحدة فتاء تأنيث، أي: العار الذي يلحقهم فيسبون به "في تركه" أي: بسببه، "حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته" وقيل: لم يحفروا له بل دفعوه إلى أن ألصقوه بالحائط، "وقذفوه بالحجار من بعيد حتى واروه" قال اليعمري: ويروى أن عائشة كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها، قال البرهان: الظاهر أن ذلك لنتنه، انتهى.

فكأنه كان يظهر من قبره إهانة له أبدا، ويحتمل أن فعلها ذلك لكونه محل عذاب، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر فغطى وجهه بثوبه واستحث راحلته إشارة إلى التباعد عنه، هذا والقبر الذي يرجم خارج باب شبيكة ليس بقبر أبي لهب، كما أفاده البرهان، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة في الدولة العباسية، فلما أصبح الناس ورأوها كمنوا لهما فأخذا ثم صلبا في هذا الموضع ودفنا واستمرا يرجمان إلى الآن، كما قاله المحب الطبري، وأنه لا أصل لما اشتهر عند المكيين أنه قبر أبي لهب، وقيل: إنه قبر أبي الطاهر القرمطي بكسر القاف والميم، عدو الله الذي قتل الحجيج في المسجد الحرام وطرح القتلى في زمزم واقتلع الحجر الأسود، فابتلي بالجدري فقطع جسده.

ص: 341