الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد السادس
تابع المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية
…
بسم الله الرحمن الرحيم
تابع المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية
اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها.
قال الراغب: الخلق والخُلق -بالفتح وبالضم- في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخُصَّ الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى.
وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟
وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث....
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية
"الفصل الثاني": من المقصد الثالث "فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية" الصالحة النامية، وجمع الأخلاق باعتبار الثمرات الناشئة عن الخلق من الأوصاف الحميدة، كبشاشة واحتمال أذى وعدم المجازاة بالسيئة، فلا يرد أن كونه جبلة في الإنسان يقتضي اتحاده أو بناء على تعدده؛ كما صار إليه كثير "وشرفه به من الأوصاف المرضية،" بمعنى الأخلاق الزكية على أن المراد بها الثمرات.
"اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها" تخفيفًا، فالضم الأصل، لكن سوَّى بينهما في النهاية "قال الراغب: الخلق والخلق بالفتح" للأول، "وبالضم" للثاني "في الأصل، بمعنى واحد كالشرب" بالفتح "والشرب" بالضم"، "لكن خصَّ" في الاستعمال وإن أطلق بالاشتراك على كلٍّ منهما؛ "الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدرجة بالبصيرة انتهى".
وفي النهاية: الخلق -بضم اللام وسكونها- الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافه ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها؛ ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة، أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، "وقد اختلف هل حسن الخلق غريزة" بمعجمة فراء فتحتية فزاي منقوطة. أي: طبيعة؛ "، أو مكتسب، وتمسَّك من قال بأنه غريزة بحديث
ابن مسعود: إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم. الحديث رواه البخاري.
وقال القرطبي: الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها كان محمودًا، وإلّا فهو المأموم بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودًا، وكذلك إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتى يقوى.
وقد وقع في حديث الأشجّ..................
ابن مسعود" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم" فأعطى بعضًا خلقًا حسنًا، وبعضًا خلقًا سيئًا، وفاوت في مراتبهما؛ "كما قسم" بينكم "أرزاقكم" فوسَّع على بعض، وضيِّقَ على بعض "الحديث رواه البخاري في الأدب المفرد كما عزاه له جمع، منهم المصنف على البخاري، خلافًا لما يوهمه إطلاقه هنا، أنه رواه في الصحيح، "وقال القرطبي: الخلق جبله" -بكسر الجيم والباء وشد اللام. طبيعة، وخلقة وغريزة وسجية، بمعنى واحد كما في المصباح، "في نوع الإنسان" أي أفراد النوع، " وهم في ذلك متفاوتون" إذ النوع حقيقة واحدة لا تكثر فيها ولا تعدد، واختلافهم فيها باعتبار أن منهم من جبلت طبيعته على محبَّة الأفعال الحسنة، ومنهم من طبيعته على خلاف ذلك.
وإليه أشار بقوله: "فمن غلب عليه شيء" حسن لاختلافها حسنًا وغيره؛ "منها" أي: من الصفات التي هي ثمرات الجبلة الموصوفة، بالحسن "كان محمودًا"، ولا يرد عليه أن الجبلة شيء واحد فلا يتَّصف بغلبة ولا دونها، لما قلنا المراد بها الصفات لا نفس الطبيعة، "وإلّا" يغلب عليه شيء بأن غلبت عليه صفات الذم، أو استوى فيها الأمران، "فهو المأمور" بالأحاديث الدالة على طلب تحسين الخلق، وذلك "بالمجاهدة فيه، حتى يصير محمودًا" فيمكن اكتساب حسن الخلق، "وكذلك إن كان" الخلق "ضعيفًا فيرتاض صاحبه" أي: يسعى في تذليله؛ بتعويده الصفات الحميدة شيئً فشيئًا "حتى يقوى" يعني: أن الحسن مقول بالتشكيك، فمن غلب عليه الحسن الكامل لا يحتاج إلى علاج، ومن غلب عليه صفات الذم احتاج إلى علاج قوي؛ ومن كان فيه أصل الحسن احتاج إلى رياضة ليحصل له قوة في الصفة التي تلبس بها، هكذا أملاني شيخنا رحمه الله، "وقد وقع في حديث الأشج" بمعجمة وجيم. سمي به لأثر كان في وجهه، واسمه المنذر بن عائذ -بمعجمة فتحتية فمعجمة. على الصحيح المشهور؛ الذي قاله ابن عبد البر: والأكثر وقيل اسمه المنذر بن الحرث بن زياد بن عصر -بفتح العين والصاد المهملتين ثم راء. ابن عوف، وقيل المنذر بن عامر، وقيل: ابن عبيد، وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن
أنه صلى الله عليه وسلم قال له: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: "الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله قديمًا كان فيَّ أو حديثًا؟ قال: "قديمًا"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خِلَّتين يحبهما الله. رواه أحمد والنسائي وصحَّحَه ابن حبان.
فترديد السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم كما حسَّنت خَلْقِي فحَسِّن خُلُقِي".......
عوف. "أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "إن فيك خصلتين" تثنية خصلة، وفي رواية لخلِّتين وهما بمعنى "يحبهما الله".
زاد في رواية ورسوله "الحلم" العقل أو تأخير مكافأة الظالم أو العفو عنه، أو غير ذلك "والأناة" بالقصر بزنة فتاة: التثبت وعدم العجلة، وذلك إن وفد عبد القيس بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب سفرهم، وأقام الأشج في رحالهم، فجمعها وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي، فقر به صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، وقال:"تبايعون على أنفسكم وقومكم"؟ فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله! إنك لن تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ون أبَى قاتلناه. قال:"صدقت، إن فيك" إلخ.
قال عياض: فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب، "قال: يا رسول الله، قديمًا كان" المذكور من الخصلتين، هكذا في نسخ بالأفراد، ومثلها بخط الشامي، وفي بعضها كانا بالتثنية، لكن المناسب كانتا "فِيَّ، أو حديثًا، قال: قديمًا. قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين" تثنية خلة، وهي الخصلة، كما في النسخ الصحيحة، وخط الشامي، وهو موافق لقول المصطفى، خلتين لفظًا ومعنًى، وعلى رواية الخصلتين، يكون عدل عن لفظه إلى معناه قرارًا من توارد الألفاظ، وأن بين مخاطبين، فما في نسخ على خلقين لا يناسب قوله خصلتين، إلّا بحملهما على غير معنى الخلق. "يحبهما الله" زاد في رواية ورسوله "رواه أحمد، والنسائي، وصححه ابن حبان"، وهو في مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس، وتقدَّمت القصة مبسوطة في الوفود. "فترديد السؤال، وتقريره عليه" بقوله: قديمًا، "يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقرَّه على سؤاله، وأجابه بقوله: قديمًا. قال ابن حجر وغيره: وهذا هو الحق، قال شيخنا: وهو جميع بين القولين لا ثالث، "وقد كان صلى الله عليه وسلم" إذا نظر في المرآة "يقول:"اللهم كما حسَّنت" وفي رواية أحسنت، "خَلْقِي" بالفتح "فحسِّن خُلُقِي" بالضم، لأقوى على أثقال الخلق، وأتحقق بتحقق العبودية، والرضا بالعدل ومشاهدة الربوبية، قال الطيبي: يحتمل أن
أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم في حديث دعاه الافتتاح: واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
ولما اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا يحصره عد، أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، وكلمة "على" للاستعلاء، فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستولٍ عليها.
والخلق: ملكة نفسانية يسهل على المتَّصِف بها الإتيان بالأفعال الجميلة
يريد طلب الكمال، وإتمام النعمة عليه، بإكمال دينه، وأن يكون طلب المزيد والثبات على ما كان "أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان" من حديث عبد الله بن مسعود، ورواته ثقات.
قال شيخنا: ففيه دليل على أن حسن الخلق قد يتجدَّد ويحصل، بعد أن لم يكن، وقال غيره: تمسك به من قال: حسن الخلق غريزي لا مكتسب. والمختار أن أصول الأخلاق غرائز، والتفاوت في الثمرات، وهو الذي به التكليف، "وعند مسلم في حديث: دعاء الافتتاح، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت" وهو يدل أيضًا على أنها قد تكتسب، "ولما اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا، يحصره عدَّ أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم، فقال مقسمًا:{نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية" لتحمُّلك من قومك ما لا يتحمَّله أمثالك، وقالت عائشة: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه، ولا من أهل بيته إلّا قال: "لبيك"، فلذلك، أنزل الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم/ 4] الآية، رواه ابن مردويه، وأبو نعيم بسند واهٍ، "وكلمة على للاستعلاء، فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستول عليها" أي: متمكِّن من الجري على مقتضاها، ببذل المعروف، واحتمال الأذى، وعدم الانتقام، فأشبه في تمكُّنه من ذلك المستعلي على الشيء المستقر عليه، فهو استعارة تبعية لجريانها في الحرف، "والخلق ملكة نفسانية، يسهل على المتَّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة" كأنَّ هذا تعريف للخلق الحسن، المرضي شرعًا وعرفًا، فلا يشكل بأن الخلق قد يكون حسنًا، وقد يكون قبيحًا، ولذا جاء ذم الخلق في أحاديث كثيرة، ولذا اعترض عليه بأن هذا التعريف ليس بصواب؛ إذ الناشئ عن الجبلَّة يكون جميلًا تارة، وقبيحًا أخرى، وما ذكره إنما هو تعريف للخلق الحسن لا لمطلق الخلق، فكأنه لم يقف على قول الراغب حد الخلق حال للإنسان، داعية إلى الفعل من غير فكر ولا روية، ولا قول
وقد وصف الله تعالى نبيه بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم، فقال:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدةكمالها من جنس أرواح الملائكة.
قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنَّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه صلى الله عليه وسلم مقصورًا على ذلك، بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبًا.........................
الغزالي: هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير احتياج إلى فكر ورويِّة، فإن صدر عن الهيئة أفعال جميلة محمودة عقلًا وشرعًا سُمِّيَت خلقًا حسنًا، وإن صدر عنها أفعال قبيحة سُمِّيَت خلقًا سيئًا، وأجيب بأنه لم يدع حصر ما ينشأ عنها في الجميل، ورده شيخنا بأن حق التعريف أن يكون جامعًا مانعًا، والاعترا بالنظر، لهذا قال: والأحسن في الجواب؛ أنه قد يراد بالتعاريف تعريف بعض الأنواع، لتميزه عن غيره بصفة، حتى صار كأنه حقيقة في ذلك الشيء، وتنزيل غيره منزلة العدم، وهو هنا الخلق الحسن؛ إذ غيره لا اعتبار به.
"وقد وصف الله تعالى نبيه بما" أي: بكمال "يرجع إلى قوته العلمية، بأنه" أي: ذلك الكمال "عظيم" والمعنى وصفه بكمال عظيم يرجع إلى قوته العلمية، "فقال:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] الآية" من الأحكام والغيب، "وكان فضل الله" بذلك وبغيره "عليك عظيمًا"؛ إذ لا فضل أعظم من النبوة، "ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية، فدلَّ مجموع هاتين الآيتين على أنَّ روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها من جنس أرواح الملائكة"؛ إذ أعطاهم الله قوة في العمل لا تصل إليها البشر، وفي العلم ما يصلون به إلى معرفة حقائق الأمور في اللوح المحفوظ، أو الإلهام والعلم الضروري بمعرفة الأمور على ما هي به في الواقع، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم. "قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة" -بدال مهملة مفتوحة، ومثلثة- السهولة واللين، كما في النهاية وغيرها، وهو عطف مباين؛ إذ السماحة كثرة العطاء، والدماثة أعمّ، "ولم يكن خلقه صلى الله عليه وسلم مقصورًا على ذلك" المذكور من السماحة والدماثة، "بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا قويًّا على الكفار، غليظًا عليهم مهيبًا" بزنة مبيع، اسم مفعول
في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصفه بالعِظَم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.
وقال الجنيد: وإنما كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى.
وقيل: لأنه عليه الصلاة والسلام عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه.
وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن عبد الله: إن.......
من هاب "في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم" حال من الأعداء "على مسيرة شهر"، كما ورد في الحديث، لأنه لم يكن بينه وبين أعدائه حينئذ أكثر من شهر من كل جهة، "فكان وصفه بالعِظَم" دون الكرم "أولى؛ ليشمل الإنعام والانتقام".
"وقال الجنيد"، أبو القاسم بن محمد، النهاوندي الأصل، البغدادي المنشأ، القواريري الزجاج، نسبة لحرفة أبيه، سيد الطائفة، مرجع أهل السلوك، تفقه على أبي ثور، وكان يفتي بحضرته وهو ابن عشرين سنة، ورزق من القبول وصواب القول ما لم يقع لغيره، كان إذا مرَّ ببغدد وقف الناس له صفوفًا، وكانت الكتبة تحضر مجلسه لألفاظه، والفقهاء لتقريره، والفلاسفة لدقة نظره، والمتكلمون لتحقيقه، والصوفية لإشارته وحقائقه، مات ببغداد سنة تسع أو ثمان وتسعين ومائتين، وحزر من صلى عليه، فكانوا نحو ستين ألفًا. "وإنما كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى" أي: سوى الاشتغال بامتثال أمره ونهيه، وتعظيمه، بالإقبال بجملته على عبادته، فلا يقبل على غيره طرفة عين. "وقيل: لأنه عليه الصلاة والسلام عاشر الخَلْقَ بخُلُقه" فكان يتكلم معهم في أمور دنياهم، من مزيد تلطفه بهم، وإن اقتضى الحال المزاح مازحهم، ولا يقول إلّا حقًّا كما قال زيد بن ثابت: كنت جار النبي صلى الله عليه وسلم، وكنا إذ ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا. رواه البيهقي.
"وباينهم بقلبه"؛ إذ هو مقبل على الله، منزه عمَّا يشغل سرّه عنه، متبتل إليه بشراشره، "وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني في الأوسط" على الصواب، وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ، وما رأيته فيه، إنما فيه حديث أبي هريرة الآتي، أفاده السخاوي "بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن
الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال. وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.
قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، أي: أقررناه في نصابه،..............................................
عبد الله "إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال" ولكنَّه، وإن كان ضعيفا رواية، فله شواهد، كما أفاده بقوله:"وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا" أي: أنه قال: بلغني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" والبلاغ، وإن كان من أقسام الضعيف، إلّا أن بلاغات الإمام ليست منه؛ لأنها تتبعت كلها، فوجدت صحيحة أو حسنة، ولذا قال ابن عبد البر: على الموطأ: هو متَّصل من وجوه صحاحٍ عن أبي هريرة وغيره، منها ما أخرجه أحمد والخرائطي، برجال الصحيح عن أبي هريرة، رفعه بلفظ صالح، وأخرجه البزار من هذا الوجه، بلفظ الموطأ، وفي رواية "لأتمم حسن الأخلاق"، وحسن الخلق: اختيار الفضائل وترك الرذائل.
"فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه مسلم وغيره: "كان خلقه القرآن" يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ابن الأثير: أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن. وقال البيضاوي: أي جميع ما حصل في القرآن، فإن كل ما استحصنه، وأثنى عليه، ودعا إليه قد تحلَّى به، وكل ما استهجنه، ونهى عنه، تجنبه وتخلَّى عنه، فكان القرآن بيان خلقه، وفي الديباج معناه العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدُّب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره وحسن تلاوته. انتهى.
وهي متقاربة، ثم هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عنها بهذا اللفظ، وزيادة يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ورواه ابن أبي شيبة وغيره، أن عائشة سُئِلَت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان أحسن الناس خلقًا، كان خلقه القرآن؛ يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] الآية، إلى العشر، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم. "قال بعض العارفين: وقد عُلِمَ أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، والراسخون في العلم" مبتدأ خبره، "يقولون آمنَّا به، أي: أقررناه في نصابه" أي: أصله،
وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه:
وما كونه مما تحصل مقلة
…
ولا حده مما تحس الأنامل
وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. فيه رمز غامض، وإيماء إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى، فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن استحياءً من سبحات الجلال وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها، انتهى.
بحيث لا نتكلم فيه بشيء، "وأقررنا:" اعترفنا "به من خلف حجابه" لعدم قدرتنا على كشفه، والمراد بالحجاب: ما يمنع حمل المتشابه على ظاهره، كاستحالة إطلاقه على الله، يعني: آمنا به مع اعترافنا بإشكاله علينا، "وتلقدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه" أي: احتججنا به مع عدم العلم بالمراد منه:
وما كونه مما تحصل مقلة
…
ولا حده مما تحس الأنامل
يعني: إنه لا يُدْرَكُ معناه لشدة خفائه؛ بحيث أشبه من الموجودات ما لا يدرَك بالبصر، لدقته وخفائه، ولا تدرك صفته بمس الأنامل لذلك أيضًا. "وقال صاحب عوارف المعارف" العارف، العلامة عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السهروردي -بضم المهملة، وسكون الهاء، وضم الراء، وفتح الواو، وسكون الراء الثانية، ودل مهملة- نسبةً إلى سهرورد بلد عند زنجان. الإمام الورع، الزهد الفقيه الشافعي، ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف، ثم لازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلَّم على الناس لما أسنَّ، ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثير من العصاة، وكُفَّ، وأقعدَ، وما أخلَّ بذكر ولا حضور، جمع ولازم الحج، فكانت محفَّته تحمل على الأعناق من العراق إلى البيت الحرام، ومات ببغداد مستهَلّ محرم، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، "ولا يبعد أن قول عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن، فيه رمز غامض" خفي "وإيماء" إشارة إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت" استحيت "الحضرة الإلهية، أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى، فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن، استحياء من سبحات" بضم السين "الجلال" إضافة بيانية، قال المصباح: السبحات التي في الحديث جلال الله وعظمته ونوره وبهائه، "وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها، وكمال أدبها، انتهى".
فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدَّد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذًا التعرُّض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته.
قال الحرالي -وهو كما في القاموس -بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه: علي بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة: ولما كان عرفان قلبه عليه الصلاة والسلام بربه عز وجل-كما قال: بربي عرفت كل شيء، كانت أخلاقه أعظم خلق، فكذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمَّت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمَّت جميع العالمين. فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أنَّ الربوبية نعم العالمين، فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين. انتهى.
فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة، الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم" جمع شيمة -مثل سدرة وسِدَر- الغريزة، والطبيعة، والجبلة، وهي التي خلق الإنسان عليها، قاله المصباح، "وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فأذن التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة، تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته، قال الحرالي، وهو كما في القاموس" في فصل الحاء المهملة من باب اللام، "بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه على" لفظ القامّوس حر، آلة مشددة اللام، بلد بالمغرب، أو قبيلة بالبربر، منه الحسن بن علي، "بن أحمد بن الحسن" الحر، إلى "ذو التصانيف المشهورة، ولما كان عرفان قلبه -عليه الصلاة والسلا- بربه عز وجل كما قال:"بربي عرفت كل شيء"، كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الأنس، حتى عمت الجن" إجماعًا، "ولم يقصرها على الثقلين" الإنس والجن، "حتى عمَّت جميع العالمين" على ظاهر قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وبعثت إلى الخلق كافَّة" رواه مسلم.
"فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أن الربوبية تعم العالمين، فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين، انتهى".
وهذا مصير منه إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى الملائكة أيضًا، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى -إن شاء الله تعالى وهو المستعان.
وكان صلى الله عليه وسلم مجبولًا على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهي، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف في قلبه حتى وصل إلى الغاية القصوى والمقام الأسنى.
وأصل هذه الخصال الحميدة والمواهب المجيدة كمالُ العقل؛ لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل،.............................................
وهذا مصير منه إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى الملائكة أيضًا" كما اختاره كثيرون، بل قوله، فكل من كان الله إلخ
…
" يفيد أنه مرسل لسائر الحيوانات والجمادات، فإن الكل مربوب له تعالى، ويصدق عليه قوله: فمحمد رسوله؛ إذ معناه مرسل إليه، "وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى" في الخصائص، "وهو المستعان"، ولما قدم أن الخلق غريزي ومكتسب، استشعر سؤال سائل عن خلق المصطفى، من أيهما، فاستأنف قاصدًا زيادة الإيضاح، وإن قدَّم ما يفيده قوله: "وكان صلى الله عليه وسلم مجبولًا" مطبوعًا "على الأخلاق الكريمة" الحميدة، صفة مخصصة لما عُلِمَ أنها حميدة، وضدها، ووصفها بالكريمة؛ لأنه الغالب، ولذا احتيج للجواب عن الآية، كما مرَّ "في أصل خلقته الزكية النقية"، فلا يحتاج إلى الاكتسابات المتكلفة لتحسين الخلق، ولا ينافيه طلبه تحسين خلقه؛ لأن القصد به إظهار العبودية، وتعليم الأمة، وطلب الزيادة؛ لأن الكمال يقبل الكمال "لم يحصل له ذلك برياضة" أي: تذليل وتعويد "نفس" ما فيه ليت وسهولة.
وهذه صفة كاشفة لقوله مجبولًا، "بل بجود إلهي، ولهذا" أي: كونها لم تحصل برياضة، "لم تزل تشرق" تضيء، أي: تزداد كمال "أنوار المعارف" أي: العلوم والإضافة حقيقة بحمل المعارف على العلوم، والأنوار على مآثرها، أو بيانية، أي: أنوار هي المعارف أي: العلوم، "في قلبه حتى وصل إلى الغاية" أي: المرتبة، وتكون عليا وسفلى، فلذا وصفها بقوله:"القصوى" فلا يرد أن الغاية النهاية، ولا تنقسم، فلا يصح الوصف، "والمقام الأسنى" الأرفع من كل مقام، عطف تفسير للإشارة إلى بلوغه في ذا الكمال أعلى رتبة، "وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب" جمع موهبة -بكسر الهاء: العطية بلا عوض، وكان المراد من عطفها على الخصال؛ أنها حصلت بلا كسب ولا تعب، "المجيدة" أي: العزيزة الشريفة، "كمال العقل؛ لأن به" لا بغيره "تقتبس" تؤخذ، أي: تكتسب "الفضائل" فقدم به على العامل ليفيد الاختصاص،
فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. قال بعضهم: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.
وأما ما روي: إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي. قال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق. انتهى.
وفي زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على..........................................
"و" كذلك به "تجتنب الرذائل"، الأمور الردية، جمع رذيلة ضد الفضيلة، "فالعقل لسان الروح"، أي: إنه لها بمنزلة اللسان للإنسان، والروح عند أهل السنة: النفس الناطقة المستعدة للبيان وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، فكما أنَّ الإنسان الذي لا لسان له أصلًا لا يمكنه التكلُّم بشيء، فكذلك من لا عقل له لا يحسن شيئًا من أنواع التصرُّفات التي يريد فعلها أو تركها، ومن له عقل تمكَّن من بيان مراده، وأمكنه التأمُّل فيما يريد فعله، فيختار الحسن، ويدع القبيح.
"وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب" فصلاح الروح بصلاح البصيرة، كما أن صلاح الجسد بصلاح القلب، كما في الحديث، "والعقل بمثابة اللسان" للروح، وصلاحها وفسادها بصلاح البصيرة، التي هي لها كالقلب، فاللسان مترجم في الحقيقة عمَّا في القلب؛ لأن إصلاح الروح وفسادها تابع للبصيرة، "قال بعضهم: لكل شيء جوهر" أي: أصل جُبِلَ عليه، "وجوهر الإنسان" الذي طُبِعَ عليه "العقل، وجوهر" أصل، "العل" الذي يتمكَّن معه من امتثال الأمر واجتناب النهي، "الصبر" على المكاره، فيخالف نفسه لما فيه صلاح يوافق الشرع، بفعل الأمر، وترك النهي، كما أشير إليه بحديث "حُفَّت الجنة بالمكاره"، ولما استدلَّ على كمال العقل بأمور عقلية، استشعر قول سائل لم لا تستدل بالحديث، فأجابه بالإشارة إلى أنه لا حجة فيه، فقال: "وأما ما روي أنَّ الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك" أي: بسببك "آخذ" من جنى، "وبك أعطي" من اتَّقى؛ لأنَّك سبب للطاعة والعصيان، وإنك أشرف ما يكتسب بك الخير والشر، "فقال ابن تيمية" العلامة، الإمام، الحافظ، الناقد، الفقيه الحنبلي، أحمد أبو العباس، تقي الدين بن عبد الحليم بن مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحراني، أحد الأعلام الأذكياء الزهَّاد، ألَّف ثلثمائة مجلد، مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ووُلِدَ سنة إحدى وستين وستمائة، "وتبعه غيره" كالزركشي، "أنه كذب موضوع باتفاق. انتهى".
ولكن فيه نظر؛ لأن له أصلًا صالحًا، "في زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على" كتاب
"الزهد" لأبيه، عن علي بن مسلم، عن سيار بن حاتم -وهو ممن ضعَّفه غير واحد، وكان جمَّاعًا للرقائق، وقال القواريري: إنه لم يكن له عقل. قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصري، مرسلًا: لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك، بل آخذ وبك أعطي.
وأخرجه داود بن......................................................
"الزهد، لأبيه، عن" شيخه "علي بن مسلم، بن سعيد الطوسي، نزيل بغداد، ثقة، روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، "عن سيار" بفتح السين المهملة، والتحتانية المثقلة، "ابن حاتم" العنزي، بفتح المهملة، والنون، ثم زاي، أبي سلمة البصري مات سنة مائتين، أو قبلها بسنة، "وهو ممن ضعَّفه غير واحد" كالقواريري والأزدي، ولكن احتج به الترمذي والنسائي على تفنُّنه في الرجال، وابن ماجه، ووثَّقه ابن حبان.
وقال الذهبي: صالح الحديث، والحافظ، صدوق له أوهام، وقال الحاكم: كان سيار عابد عصره، وقد أكثر عند أحمد بن حنبل، "وكان جمَّاعًا" كثير الجمع "للرقائق" صحيحة أم لا، "وقال القواريري" بفتح القاف، والواو، فألف، فراءين بينهما تحتية، نسبة إلى عمل القوارير، أو بيعها عبيد الله بن عمر بن ميسرة البصري، نزيل بغداد، الحافظ، الثقة، الثبت، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين على الأصح، وله خمس وثمانون سنة؛ "إنه لم يكن له عقل" كان معي في الدكان، قيل للقواريري: أتتهمه، قال: لا. وقال الأزدي: عنده مناكير لفظ الزوائد لابن أحمد، حدثنا علي ب مسلم، حدثنا سيار بن حاتم:"قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي" بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، أبو سليمان البصري، صدوق زاهد، لكنه كان يتشيع، روى له مسلم وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمان وسبعين ومائة "قال: حدثنا مالك بن دينار" البصري، الزاهد، أبو يحيى، صدوق، عابد، روى له الأربعة، وعلق له البخاري، مات سنة ثلاثين ومائة أو نحوها: "عن الحسن البصري" يرفعه "مرسلًا، لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أحبَّ إلي منك، بك آخذ وبك أعطي" قال السيوطي: هذا مرسل جيد الإسناد، وهو في معجم الطبراني الأوسط، موصول من حديث أبي أمامة، ومن حديث أبي هريرة بإسنادين ضعيفين. انتهى.
وهو كلام محقَّق في الفن؛ إذ سيار مختلف في توثيقه وتضعيفه، فحديثه جيد، ومنهم من يقول: حسن، فلا عبرة بقول الشامي: هذا من الأحاديث الواهية لا الضعيفة، "وأخرجه داود بن
المحبر في كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب.
فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل.
ولأبي الشيخ عن قرة بن إياس المزني رفعه: الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم.
وقد اختلف في ماهية العقل......................................................
المحبر" بمهملة، وموحَّدة مشددة مفتوحة. ابن قَحذم -بفتح القاف، وسكون المهملة، وفتح المعجمة، الثقفي، البكراوي أبو سليمان البصري، نزيل بغداد، متروك، وأكثر كتاب العقل الذي صنفه موضوعات من التاسعة، مات سنة ست وخمسين ومائتين، روى له ابن ماجه، ذكره الحافظ في التقريب، "في كتاب العقل له" فقال: حدثنا صالح المري، عن الحسن به بزيادة، ولا أكرم علي منك، لأني بك أعرف، وبك أعبد، والباقي مثله، "وابن المحبر كذاب" ولذا تركوه، ومن العجب إيماء الشارح للاعتراض على المصنف، بأن الذي في اللب واللباب المحبري، نسبة إلى كتاب المحبر الذي جمعه محمد بن حبيب، فيقال لمصنفه المحبر. انتهى.
إذ كتاب العقل غير كتاب المحبر، والمحبر هنا علم على أبي داود، وذاك لقب لمحمد، وهما شخصان وكتابان، "فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر، والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل"، وهذا أيضًا يؤذن بثبوت حديث العقل، فأين الاتفاق على وضعه؟، "ولأبي الشيخ" عبد الله، بن محمد الحفظ، "عن قرة، بن إياس"، بن هلال "المزني"، أبي معاوية الصحابي، نزيل البصرة، له أحاديث في السنن وغيرها، مات سنة أربع وستين، "رفعه: الناس يعملون الخير، وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم"، فقد يجتهد الإنسان في الخير، ويداخله رياء أو نحوه، فينفي ثوابه، أو ينقص، وذلك ناشئ من فساد العقل، فكامله يحترز عن ذلك، ويسعى في تحصيله على أتم حال، ولو بمشقة، "وقد اختلف في ماهية العقل" من عقل البعير: منعه بالعقال عن القيام، أو من الحجر المنع؛ لأنه يعقل صاحبه ويمنعه عن الخطأ {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، وقد تظرَّف في التلميح لأصله القائل:
قد عقلنا والعقل أي وثاق
…
وصبرنا والصبر مر المذاق
ومحله القلب عند جمهور أهل الشرع، كالأئمة الثلاثة، لقوله تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي
اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه. وفي القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وبشرِّ الشرين، أو يطلق لأمور لقوّة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعانٍ مجتمعة في الذهن تكون بمقدِّمات تثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته، والحق أنه روحاني به تدرك النفوس العلومَ الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم من كمال العقل في الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا............................................................
القلب والدماغ"، له تابع؛ إذ هو من جملة الجسد، وقال علي: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة، رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي، بسند جيد، وذهب الحنفية، وابن الماجشون، وأكثر الفلاسفة إلى أنه في الدماغ؛ لأنه إذا فسد فسد العقل، وأجيب، بأن الله أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ مع أنه ليس فيه، ولا امتناع في هذا، "اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه" بدليله، وتعليله، "وفي القاموس، ومن خط مؤلفه" المجد الشيرازي، "نقلت العقل العلم" مطلقًا أي: مطلق الإدراك، بلا اعتبار تعلُّقه بمعلوم دون آخر، "أو" هو العلم، "بصفات الأشياء من حسنها، وقبحها، وكمالها، ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين، وبشرّ الشرين، أو يطلق لأمور" أو إشارة للخلاف، فكأنه قال: اختلف في العقل هل هو العلم، أو غيره، وعلى أنه العلم، فقيل مطلقًا، وقيل بصفات إلخ.....................
وعلى أنه غير العلم، فهو مشترك يطلق لأمور "لقوة بها، يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة في الذهن، تكون بمقدمات تثبت بها الأغراض، والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته، والحق أنه نور "روحاني" بضم الراء، ما فيه روح، وكذلك النسبة إلى الملك والجن، والجمع روحانيون، كما في القاموس، "به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد" أي: كونه جنينًا في بطن أمه، "ثمَّ لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ، انتهى" كلام القاموس. وليس فيه بيان أيّ وقت يخلق العقل فيه، فإنه قال في باب النون: الجنين الولد في البطن، جمعه أجنة، وفي المصباح: وصف له ما دام في بطن أمه، ومفادهما وصفه به من أول خلقه، "وقد كان صلى الله عليه وسلم من كمال العقل في الغاية" أي: المرتبة "القصوى" التي لا مرتبة فوقها، فلا يردان الغاية النهاية، فلا توصف بالقصوى؛ إذ لا تتصف النهاية بالبعد تارة، والقرب تارة، والقرب أخرى، "التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه" علومه
كانت معارفة عظيمة، وخصائصه جسيمة، حارت العقول في بعض فيض ما أفاضه من غيبة لديه، وكلَّت الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته.
قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابًا، فوجدت في جميعها أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبَّة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وأن محمد صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.
وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين، ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشارد،....................................................
بالأشياء، "عظيمة" لمطابقتها للواقع دائمًا، بلا خلل فيها، ولا ميل عن الحق، "وخصائصه جسيمة" أي: عظيمة، فغاير كراهية لتكرر اللفظ "حارت العقول" لم تدر وجه الصواب "في بعض فيض ما أفاضه، من غيبه لديه، وكلَّت" تَعِبَت "الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك، وقد امتلأ قلبه وباطنه إيمانًا وحكمة حين شُقَّ صدره، فأعطي ما لم يعط غيره، فالمفعول محذوف، "وفاض على جسده المكرَّم ما وهبه" مفعول لفاض لا لامتلأ، لأنه إنما يتعدَّى بحرف الجر، فمفعوله محذوف، كما قدرت، وفي نسخ، لما بلام التعليل، لامتلأ، وفاض، أي: وفاض آثار ذلك على جسده، لم وهبه الله، "من أسرار إلهيته، ومعرفة ربوبيته، وتحقق عبوديته".
"قال وهب بن منبه" -بضم الميم، وفتح النون، وكسر الموحدة- ابن كامل اليماني، التابعي، الثقة، روى له الشيخان وغيرهما:"قرأت في أحد وسبعين كتابا" من الكتب القديمة، وكان خبرها، "فوجدت في جميعها، أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل، في جنب عقله صلى الله عليه وسلم، إلّا كحبة رمل بين رمل" كائن، أو الذي هو "من جميع رمال الدنيا" فالبينية تكون بين يسيرين، والمنسوب إليه جميع الرمال، "وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلًا، وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية، وابن عساكر" وقال ابن عباس: أفضل الناس، أعقل الناس، وذلك نبيكم صلى الله عليه وسلم، رواه داود بن المحبر، وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين" من أمته وغيرهم، "ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب، الذين هم كالوحش الشارد" النافر
والطبع المتنافر المتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله عليه الصلاة والسلام أوسع العقول، لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعًا لا يضيق على شيء.
فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم في الحلم والعفو مع القدرة، وصبره عليه الصلاة والسلام على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه على الكافرين المقاتلين المحاربين له في أشد ما نالوه به من الجراح والجهد بحيث كُسِرت رباعيته، وشُجَّ وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شَقَّ ذلك على أصحابه شديدًا،.........................................................
الناد "والطبع المتنافر المتباعد، و" تأمل "كيف ساسهم" ملكهم بحسن تصرفه فيهم، واستجلاب قلوبهم، "واحتمل جفاهم" غلظتهم، وفظاظتهم، "وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم، وآباءهم، وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطائهم" جمع وطن مكانهم ومقرّهم، "وأحباءهم من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين" جواب قوله: ومن تأمل إلخ
…
"ولما كان عقله عليه الصلاة والسلام أوسع العقول، لا جرم" أي: حقًّا "اتسعت أخلاق نفسه الكريمة، اتساعًا لا يضيق عن شيء"، ولا جرم في الأصل بمعنى لا بُدَّ ولا محالة، ثم كثرت، فحولت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى حقًّا، ولذا تجاب باللام نحو لا جرم، ولا فعلنَّ، قاله الفراء، كما في المصباح، "فمن ذلك اتساع خلقه العظيم، في الحلم والعفو مع القدرة، وصبره عليه الصلاة والسلام على ما يكره، وحسبك" أي: يكفيك في الدلالة على كماله في ذلك، "صبره وعفوه على الكافرين، المقاتلين، المحاربين له في أشد ما نالوه به" متعلق بقوله: صبره وعفوه، "من الجراح والجهد، بحيث كسرت رباعيته" اليمني السفلى -بفتح الراء، وخفة الموحدة- السن التي تلي التثنية، من كل جانب وللإنسان، أربع رباعيات، وكان الذي كسرها عتبة بن أبي وقاص، وجرح شفته السفلى، "وشج وجهه" شجه عبد الله بن قميئة "يوم أحد" حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، فصار ينشفه، ويقول:"لو وقع شيء منه على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء"، "حتَّى شق ذلك على أصحابه شديدًا" غاية لقوله
وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال:"إني لم أبعث لعانًا، ولكني بعثت داعيًا ورحمة، فقال: اللهم اغفر لقومي، أو اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
قال ابن حبان: أي: اللهم اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقًا؛ إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم. كذا قال رحمه الله.
وقد روي عن عمر أنه قال في بعض كلامه:........................
يسيل، "وقالوا: لو دعوت عليهم" لأجبت، أو للتمني، "فقال: إني لم أبعث لعانًا" مبالغًا في اللعن، أي: الإبعاد عن الرحمة، والمراد نفي أصل الفعل، نحو {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} ، يعني: لو دعوت عليهم لبعدوا عن رحمة الله، ولصرت قاطعًا عن الخبر، مع إني لم أبعث بهذا "ولكني بعثت داعيًا ورحمة" لمن أراد الله إخراجه من الكفر إلى الإيمان، أو لأقرِّب الناس إلى الله وإلى رحمته، لا لأُبعدهم عنها، فاللعن منافٍ لحالي، فكيف ألعن، ثم لم يكتف بذلك حتى سأل الله لهم الغفران، أو الهداية، "فقال: "اللهم اغفر لقومي" بإضافتهم إليه إظهارًا، لسبب شفقته عليهم، فإن الطبع البشري يقتضي الحنوَّ على القرابة بأي حال، ولأجل أن يبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان، "أو أهد قومي" ليست أو للشك، بل إشارة لتنويع الرواية، أي: إن في رواية اغفر، وأخرى اهد، ثم اعتذر عنهم بالجهل، بقوله:"فإنهم لا يعلمون" أنَّ ما جئت به هو الحق، ولم يقل: يجهلون تحسينًا للعبارة، ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، مع أنه إنما هو جهل حكمي، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البينات عذر، لكنّه تضرع إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم، أو من ذريتهم مؤمنون، وقد حقق الله رجاءه واستشكلت رواية اغفر بقوله:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، فإنها وإن كانت خاصة السبب، فهي عامَّة في حق كل مشرك، وأجيب بأنه أراد الدعاء لهم بالتوبة من الشرك، حتى يغفر لهم بدليل رواية اهد، وأراد مغفرةً تصرف عنهم عقوبة الدنيا من نحو: خسف ومسخ، قاله السهيلي، واستشكلت الروايتان معًا بأن دعاءه مقبول، ولم يسلم جميعهم، وجوابه قوله:"قال ابن حبان: أي: "اللهم اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي"، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقًا؛ إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم، كذا قال رحمه الله" تبرأ منه، لاحتمال حمل دعائه لهم على المجموع، لا كل فرد، أي: اغفر لجنس، أو لبعض قومي، أو أراد غير الشرك، أو صرف عقوبة الدنيا، فنفيه، وتعليله مع هذه الاحتمالات لا ينهض، "وقد روي عن عمر" مما ساقه في الشفاء، وقال السيوطي: لا نعرف عن عمر في شيء في كتب الحديث "أنه قال في بعض كلامه" الذي بكى به النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وهو دليل على ظهور حلمه بين صحبه
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: 26] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وُطِئَ ظهرك وأُدْمِيَ وجهك وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلّا خيرًا فقلت:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وههنا دقيقة وهي أنه عليه الصلاة والسلام لما شجَّ وجهه عفا وقال: اللهم اهد قومي، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال:"اللهم املأ بطونهم نارًا"، فتَحَمَّل الشجَّة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمَّل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه.
واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على
حتى عرفوه ووصفوه به، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} وإنما قال: هذا لأنه مشربه مشرب نوح، كما شبهه النبي صلى الله عليه وسلم به في أسارى بدر، "ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا" أي: من أولنا إلى آخرنا، أي: جميعًا، وعند زائدة: ومن بمعنى إلى، أو كناية عن هلاك الجميع؛ إذ لا يكون الهلاك عند آخرهم إلّا إذا شملهم جميعًا، ولو دعوتها ما لمت، "فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكُسِرَت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" إن ما جئت به هو الحق، وهم عُبَّاد أوثان، فلا يرد الذين آتيناهم الكتاب، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، على أن المراد علماء أهل اكتاب، كما في البيضاوي.
"وههنا دقيقة هي" أنَّ حلمه وعفوه، إنما هو فيما يتعلَّق بنفسه الشريف، وذلك "أنه عليه الصلاة والسلام، لما شج وجهه عفا، وقال: "اللهم اهد قومي"، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق، قال: "اللهم املأ بطونهم نارًا" لفظ الصحيحين "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس"، "فتحمل الشجة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجهه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه" كما هو عادته، "واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس" حصر المبتدأ في الخبر، فأفاد الحصر، في نسخة للنفس بلام، وحذفها أبلغ في الحصر، والمراد به المبالغة، كأنه جعل جهادها، إنما هو الصبر على الأذى، فغيره ليس جهادًا لها، فلا يرد عليه أنهم عدوا من جهادها أشياء كثيرة، غير الصبر، "وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها" والتألم سبب
التألم بما يفعل بها، ولهذا شقَّ عليه صلى الله عليه وسلم نسبته إلى الجور في القسمة، لكنه عليه الصلاة والسلام حلم على القائل وصبر لِمَا علم من جزيل ثواب الصابر، وأن الله يأجره بغير حساب.
وصبره عليه الصلاة والسلام على الأذى إنما هو فيما كان في حق نفسه، وأما إذا كان لله فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة، كما قال له تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] .....................................
للانتقام من المؤلم، ومع ذلك، فهو صلى الله عليه وسلم لكمال حلمه تحمَّله من فاعله فلم ينتقم منه، "ولهذا شقَّ عليه صلى الله عليه وسلم نسبته إلى الجور في القسمة" يوم حنين آثر ناسًا فيها ليؤلفهم، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فأخبره ابن مسعود، فتغيِّر وجهه، ثم قال:"فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله"، ثم قال:"يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
رواه مسلم والبخاري، عن ابن مسعو، وسمَّى الواقدي، الرجل القائل: معتب بن قشير المنافق، وعند أبي الشيخ وغيره، عن جابر، أنه صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا نبي الله، أعدل، فقال:"ويحك، من يعدل إذ أنا لم أعدل؟ قد خبت، وخسرت إن كنت لا أعدل"، فقال عمر: ألا أضرب عنقه؟، فإنه منافق، فقال:"معاذ الله أن تتحدث الناس أني أقتل أصحابي"، "لكنه عليه الصلاة والسلام حَلُم" -بفتح فضم- صفح وستر "على القائل، وصبر" عطف جزء على كل صرح به؛ لأنه مقصودة هنا بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الشامية الحلم حالة توقير، وثبات في الأمور، وتصبّر على الأذى، لا يستَفز صاحبه الغضب عند الأسباب المحركة له، ولا يحمله على الانتقام، وهو شعار العقلاء، "لما علم من جزيل ثواب الصابر" من إضافة الصفة للموصوف، أي: ثواب جزيل معَدٌّ للصابر، "وإن الله يأجره" بضم الجيم، وكسرها، "بغير حساب" تفسير لثواب الصابر الجزيل؛ إذ الثواب العطاء بلا حساب، "وصبره عليه الصلاة والسلام" استئناف في جواب سؤال، أكان صبره في سائر الأحوال، أم يختلف باختلافها؟، فأجاب بأنه يختلف، فصبره "على الأذى، إنما هو فيما كان في حق نفسه، وأما إذا كان لله، فإنه يمتثل فيه أمر الله" لم يقل، فإنه لا يصبر عليه، إشارة إلى أن انتهاك حرماته تارة، كانت تفعل على وجه، لا يفيد معه الشدة، وتارة بخلاف ذلك "من الشدة" بالكسر، اسم من الاشتداد، أي: يفعل ما أمر به، وإن كان فيه تشديد على مستحقه، لكن بعد المبالغة في الرفق، كما في البيضاوي، "كما قال تعالى" مثال للأمر بالشدة، لا لنفسها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف، "والمنافقين" باللسان والحجة، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} بالانتهار
وقد وقع له عليه الصلاة والسلام أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر، فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي عن زيد بن سعنة -بالمهملة والنون المفتوحتين- كما قيده به عبد الغني وذكره الداقطني، وبالمثناة التحتية، ثبت في الشفاء وصحح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذي ذكره ابن إسحاق، وهو كما قاله النووي: أجلّ أحبار اليهود الذين أسلموا -أنه قال:
لم يبق من علامات النبوة شيء إلّا وقد عرفته........
والمقت، وفي البيضاوي واستعمل الخشونة فيما تجاهدهم، إذا بلغ الرفق مداة، أي: غايته، "وقد وقع له عليه الصلاة والسلام أنه غضب لأسباب مختلفة، مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها؛ ليكون أوكد في الزجر، فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم" أتى بهذا مع أنه قدَّمه لزيادة، وعفوه؛ إذ الصبر لا يستلزم العفو "وقد روى الطبراني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وأبو الشيخ في كتاب الأخلاق النبوية وغيرهم، برجال ثقات، عن عبد الله بن سلام "عن زيد بن سعنة، بالمهملة" أي: السين، "والنون المفتوحتين" والعين ساكنة، كما في التبصير وغيره، وصرَّح النووي بأن، السين مفتوحة، وأن بعضهم ضمها، وهو غريب، ووقع في الشامية ضبطه، بفتح العين، "كما قيَّده به عبد الغني" الحافظ، "وذكره الدارقطني، وبالمثناة التحتية" بدل النون، "ثبت في الشفاء، وصحَّح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذي ذكره ابن إسحاق" وحكى ابن عبد البر وغيره الوجهين، قال ابن عبد البر: والنون أكثر، واقتصر الجمهور على النون، قال الذهي: وهو أصح، "وهو كما قاله النووي أجلّ" بجيم ولام، كذا في النسخ، والذي في تهذيب النووي أحد -بحاء ودال مهملتين، "أحبار اليهود الذين أسلموا" وأكثرهم علمًا، ومالًا، أسلم وحسن إسلامه، وشهد معه صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة، وتوفي في غزوة تبوك، مقبلًا إلى المدينة. انتهى.
فكأنَّ المصنف غَيِّرَ أحدّ بأجلّ؛ لأن قوله: أكثرهم علمًا ومالًا، يفيد أنه أجلهم، ثم يرد على هذا ابن سلام؛ إذ ظاهر الأحاديث أنه أجلّ المسلمين من اليهود، إلّا أن تكون الجلالة باعتبار مجموع العلم والمال، "أنه قال: لم يبق من علامات النبوة شيء" وفي رواية عند ابن سعد: ما بقي شيء من نعت محمد في التوراة إلّا وقد عرفته" أي: شاهدته، ويروى: عرفْتُها، باعتبار أن
في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرًا إلى أجلٍ، فأعطيته الثمن، فلمَّا كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته، فأخذت بمجامع قميصه وردائه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال عمر: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر
الشيء بمعنى العلامة، "في وجه محمد حين نظرت إليه إلّا اثنتين" في رواية: إلّا خصلتين، "لم أخبرهما" -بفتح الهمزة، وإسكان الخاء، وضم الباء- أي: لم أعلمهما "منه" على حقيقتهما؛ إذ علمهما لا يكون بالمشاهدة، بل بالاختيار، "يسبق حلمه جهله" مقابل الحلم من الغضب والانتقام، من آذاه، قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالمراد أن حلمه يغلب حِدَّته، كقوله: سبقت رحمتي غبي، فليس الجهل هنا مقابل العلم، وهو عدم إدراك الشيء، أو إدراكه على خلاف ما هو عليه، كما توهَّمه من لم يعرف لغة العرب؛ حيث قال: لو كان له جهل نحو: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} الآية، وهذه إحدى الخصلتين، "و" الثانية "لا تزيده شدة الجهل"، أي: جهل غيره، أي: سفاهته "عليه" وأذيته "إلا حلمًا"، فكلما زادت واشتدت، زاد حلمه صلى الله عليه وسلم، "فكنت أتلطف" أتخشَّع، وأترفَّق "له" توصلًا "لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله، فابتعت" أي: اشتريت "منه تمرًا إلى أَجَلْ" وفي رواية أبي نعيم: وأعطاه زيد بن سعنة قبل إسلامه ثمانين مثقالًا ذهبًا، في تمر معلوم إلى أجل معلوم، "فأعطيته الثمن، فلمَّا كان قبل مجيء الأجل بيومين، أو ثلاثة" وفي رواية أبي نعيم بيوم، أو يومين، "أتيته، فأخذت بمجامع" جمع مجمع، كمقعد ومنزل، موضع الاجتماع، كما في القاموس وغيره، أي: بما اجتمع من "قميصه وردائه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ" أي: عابس مقطب، "ثم قلت: ألَا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله أنكم يابني عبد المطلب مطل" بضم الميم، والطاء جمع ماطل، أي: تمتنعون من أداء الحق، وتسوفون بالوعد مرة بعد أخرى، "فقال عمر" في رواية أبي نعيم: فنظر إليه عمر وعيناه تدوران في وجهه، كالفلك المستدير، فقال: "أي عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ " زاد أبو نعيم، وتفعل به ما أرى، "فوالله لولا ما أحاذر" بمعنى أحذر، أي: شيء أخاف "فوته" من بقاء الصلح بين المسلمين وبين قومه.
وفي رواية أبي نعيم: لولا ما أحاذر قومك لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر
إلى عمر بسكون وتؤدة وتبسم ثم قال: "أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته"، ففعل، فقلت يا عمر: كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلّا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما، فأشهد أني قد رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا.
وعن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ثم قام، فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجذبه بردائه........................................................
إلى عمر، بسكون" ضد الحركة، "وتؤدة" التأنِّي فتغايرا مفهومًا لا ما صدقا، "وتبسم" من مقالهما لشدة حلمه، ولعله كوشف بمراد ابن سعنة، وأن عمر لو كشف له لم يصعب عليه ذلك، "ثم قال: "أنا وهو" أي: صاحب الحق "كنا أحوج إلى غير هذا" الذي قلته "منك يا عمر"، وأبدل منه قوله:"أن تأمرني بحسن الأداء" أي: وفاء ما علي، "وتأمره بحسن التباعة" -بالكسر- المطالبة بالحق، وفي الشفاء تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث أهـ.
فتكرَّم صلى الله عليه وسلم فعجَّلها قبل الأجل وزيادة، فقال:"اذهب به يا عمر، فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته؟ " فزعته، وما مصدريته، أي: في مقابلة روعك له، "ففعل" ذلك عمر، قال زيد:"فقلت يا عمر، كل علامات النبوة، قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما" أي: لم أعلمهما، "يسبق حلمه" ثباته، وصفحه وصبره "جهله" حدته، فلا ينتقم، "ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما" أي: صاحبهما؛ إذ الاختبار الامتحان، وهو لم يختبر الخصلتين، والمذكور بخط الشامي خبرتهما، بلا ألف، أي: علمتهما منه بما رأيت من فعله صلى الله عليه وسلم، "فاشهد" يا عمر "أني، قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا".
وفي رواية: وما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلّا أني كنت رأيت صفاته التي في التوراة كلها، إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم، فوجدته على ما وصف في التوراة، وإني أشهدك أنَّ هذا التمر، وشطر مالي في فقراء المسلمين، وأسلم أهل بيته كلهم، إلّا شيخًا غلبت عليه الشقوة، "وعن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ثم قام، فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي" لم يسم، "قد أدركه، فجذبه" وفي رواية، فجبذه، وهما لغتان صحيحتان "بردائه"
فحمر رقبته، وكان رداء خشنًا، فالتفتّ إليه، فقال له الأعرابي: احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك ولا مال أبيك، فقال له صلى الله عليه وسلم:"لا، وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني"، كل ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أقيدها، فذكر الحديث، قال: ثم دعا رجلًا فقال له: احمل له على بعيريه هذين، على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا. رواه أبو داود.
ورواه البخاري من حديث أنس بلفظ: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد
زاد في رواية: جبذة شديدة، "فحمَّر رقبته" براء بعد الميم، من التحمير، وفي نسخ فحمّ، بلا راء، أي: أثر فيها أثرًا غير لونها، كتأثير الحمى، وهو بالبناء للفاعل والمفعول، كما يفيده القاموس؛ وهذا إن ثبت رواية بلا راء، وإلّا فالذي في خط الشامي بالراء، "وكان رداءً خشنًا" بيان لسبب تحميره لرقبته، "فالتفت" صلى الله عليه وسلم "إليه" إلى الأعرابي، "فقال له الأعرابي: احملني" نسب الجمل إليه تنزيلًا لحمل ما يصل إليه، منزلة حمله لعود نفعه إليه، "على بعيري هذين" أي: حمّلهما إليّ طعامًا، زاد في رواية البيهقي: من مال الله الذي عندك، "فإنك لا تحملني من مالك، ولا من مال أبيك، فقال له صلى الله عليه وسلم:"لا" أحملك من مالي، ولا مال أبي، وفي رواية البيهقي، فسكت، ثم قال:"المال مال الله، وأنا عبده"، أي: أتصرف فيه بإذنه، وأعطي من يأمرني بإعطائه، فردَّ عليه بألطف رد، "وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله" ثلاث مرات، "لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني" أي: تمكنني من القود من نفسك، فأفعل معك مثل ما فعلت معي من جذب ردائي، أطلق القود، وهو القصاص مجازًا، على مطلق المجازاة، أي: حتى تجازي على ترك أدبك، أو تعزر بما يليق بك، وفي رواية البيهقي: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي، فعبَّر بإعرابي إشارة إلى عذره، لما فيه من غلظ الأعراب وجفائهم، "كل ذلك يقول له الأعرابي: والله، لا أقيدها، فذكر الحديث" وهو قال: لم قال، لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم أي: سرورًا بما رآه من حسن ظنه به، وأنه لم يفعل ذلك، تنقيصًا له، وتطمينًا لقلبه، إذا بدأ المسرة بمقالته، وهذا يقتضي أنه كان مسلمًا، غير أنه فيه جفاء البادية، "قال: ثم دعا رجلا" هو عمر، كما في رواية، "فقال له: "احمل له على بعيريه هذين، على بعير تمرًا، وعلى الآخر شعيرًا"، "رواه أبو داود" في سننه، "ورواه البخاري" في الخمس، واللباس، والأدب، ومسلم، كلاهما "من حديث أنس" بن مالك "بلفظ: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد" -بضم الموحدة، وسكون الراء- نوع من الثياب، وفي
نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتقه وقد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
وفي هذا بيان حلمه عليه الصلاة والسلام، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام.
وعن عائشة وقد سُئِلَت عن خلقه صلى الله عليه وسلم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا..............................................................
رواية مسلم، عليه رداء "نجراني" بنون مفتوحة، فجيم ساكنة، فراء مفتوحة، فألف، فنون، نسبة إلى بلدة بين الحجاز واليمن، وهي إليه أقرب، فلذا يقال: بلدة باليمن "غليظ الحاشية" أي: الجانب، فأدركه أعرابي" قال الحافظ: لم أقف على تسميته، "فجبذ" بتقديم الباء على الذال المعجمة "بردائه".
قال الزركشي: صوابه ببرده لقوله أولًا: عليه برد، وهو لا يسمَّى رداء، وردَّه الدماميني بأنه لا مانع أنه ارتدى بالبرد، فأطلق عليه رداء بهذا الاعتبار، وفي رواية مسلم رداءه، "جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة" جانب "عاتقه" ما بين العنق والكتف، أو موضع الرداء من المنكب، "وقد أثرت فيه حاشية البرد، من شدة جبذته" وفي رواية مسلم، وانشق البرد، وذهبت حاشيته في عنقه، "ثم قال: يا محمد" قبل تحريم ندائه باسمه، أو لقرب عهد الأعرابي بالإسلام، فلم يتفقَّه في الدين، وفي طبعه الغلظة والجفاء، وإلا فطلبه العطاء من مال الله، يدل على أنه مسلم "مر لي"، ولمسلم: أعطني "من مال الله، الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء" هو تحميل بعيريه، كما في حديث أبي هريرة الذي قبله، "وفي هذا بيان حلمه عليه الصلاة والسلام، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء" بالمد خلاف البر، "من يريد تألفه على الإسلام" وسياق الحديث كما قيل يقتضي أنه من المسلمين المؤلفة قلوبهم.
"وعن عائشة، وقد سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم" قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا" إذا فحش في أقواله وأفعاله وصفاته، "ولا متفحشًا" متكلف الفحش في ذلك، أي: لم يقم به فحش طبعًا، ولا تكلفًا فهمًا، غير أن من هذه الجهة، إذا الصفة القائمة بالموصوف طبعًا غير القائمة به تطبعًا، ولذا سلّط النفي على كل منهما، فهو من بديع الكلام، وإن صدق أن كل متفحش فاحش، فلا يرد أن نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخص، وأسقط من الرواية، ولا سخَّابًا في الأسواق، روي
ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه الترمذي، أي: لم يكن الفحش له خلقًا ولا مكتسبًا.
وفي البخاري من حديث ابن عمرو: لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وفي رواية له من حديث أنس بن مالك قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبَّابًا ولا فاحشًا ولا لعّانًا.
بسين مهملة، أي: مرتفع الصوت، وروي -بصاد- وهو الضجر واضطراب الصوت للخصام، وإذا لم يكن في الأسواق كذلك، فغيرها أَوْلى، ثم لا يرد أن سخابًا، للتكثير، وهو للمبالغة، فلا يلزم منه نفي أصل الفعل، لأن هذا من المفهوم، ولا يكفي هنا لوروده في سياق المدح، ولا يكفي فيه مثل ذلك، "ولا يجزي" بزنة يرمي "بالسيئة" السيئة؛ لأن خلقه القرآن، وفيه جزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، "ولكن" استدراك على ما قد يتوهَّم أن ترك الجزاء عجز، فصرَّحت بأنه مع القدرة، فقالت:"يعفو" عن الجاني، فلا يذكر له شيئًا من جنايته، "ويصفح" يظهر له أنه لم يطَّلع عليها، أو يعفو باطنًا، ويصفح يعرض ظاهرًا، وذلك منه طبقًا وامتثالًا لقوله تعالى {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] الآية.
"رواه الترمذي" في جامعه وشمائله برجال ثقات، "أي: لم يكن الفحش له خلقًا" طبعًا، تفسير لقولها: فاحشًا، "ولا مكتسبًا" بيان لقولها متفحشًا، "وفي البخاري" في الصفة النبوية؛ والأدب، ومسلم في الأدب، ومسلم في الفضائل، والترمذي في البر، "من حديث ابن عمرو" -بفتح العين- ابن العاص.
وفي رواية مسلم عن مسروق: دخلنا على عبد الله بن عمرو، حين قدم مع معاوية الكوفة، فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا، ولا متفحشًا" فتوارد عبد الله مع عائشة على نفي الصفتين، دليل ظاهر على أن ذلك جبلته مع الأهل والأجانب؛ وبقية حديث عبد الله، وكان يقول:"إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"، لفظ البخاري، ولفظ مسلم، قال مسلم، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"، "وفي رواية له" للبخاري أيضًا في الأدب، "من حديث أنس بن مالك، قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابًا" بشد الموحَّدة، "ولا فاحشًا" رواية أبي ذر، ورواه غيره فحاشًا بالتثقيل، "ولا لعّانًا" بشد العين.
قال الكرماني: يحتمل تعلق السب بالنسب، كالقذف والفحش، بالحسب واللعن بالآخرة؛ لأنها البعد عن رحمة الله، ثم إن المراد نفي الثلاثة من أصلها؛ لأن فعالًا قد لا يراد به التكثير، بل أصل الفعل، أو المراد لم يكن بذي سب، ولا فحش، ولا لعن، ويؤيده رواية فاحشًا، فهو
والفحش: كل ما خرج من مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول والفعل والصفة، لكن استعماله في القول أكثر. والمتفحّش -بالتشديد: الذي يتعمَّد ذلك ويكثر منه ويتكلفه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلمَّا جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلمَّا انطلق الرجل قالت له عائشة:
كقول امرئ القيس:
وليس بذي رمح فيطعنني به
…
وليس بذي سيف وليس بنبال
فلا يرد أن المصطفى ليس فيه قليل ولا كثير مما ذكر، وبقية الحديث في البخاري، كان يقول: لأجدنا عند المعتبة ماله تربت جبينه -فتح الميم، وسكون المهملة، وفتح الفوقية، وكسرها، فموحدة- مصدر عتب، وهو خطاب الإدلال، ومذاكرة الموجدة، وتربت جبينه: كلمة جرت على لسان العرب، لا يريدون حقيقتها، أو دعاء له بالطاعة، أي: يصلي، فيتترب جبينه، أو عليه بأن تسقط رأسه على الأرض من جهة جبينه، "والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل فيه القول" وهو الزيادة على الحد في الكلام السيء، "والفعل والصفة" كذلك، "لكن استعماله في القول أكثر، والمتفحش -بالتشديد: الذي يتعمَّد ذلك، ويكثر منه، ويتكلفه"، فالمراد قريبًا: لم يكن الفحش خلقًا له، ولا مكتسبًا.
"وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية: وأنا عنده، "فلما رآه" علمه بأن أخبر أنه فلان، أو بصر به، أي: فأذن له، فلمَّا رآه حين فتح الباب، "قال": بئس أخو العشيرة" أي: الواحد منها، يقال: هو أخو تميم، أي: واحد منهم، "وبئس ابن العشيرة" بمعنى ما قبله جاء به زيادة في ذمّه، هكذا رواه البخاري، بالواو، وكذا مسلم، لكنه عبَّر بالقوم، فقال: أخو القوم، وبئس ابن القوم، قال الحافظ: وهي بالمعنى، ورواه الترمذي، والبخاري في موضع آخر: بئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة بالشكّ، "فلمَّا جلس تطلَّق" -بفوقية، فطاء مهملة، فلا ثقيلة، فقاف مفتوحات- قال في الفتح: أي: أبدى له طلاقة وجهه، وفي رواية: بشَّ "النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه" أظهر البشر والسرور بحضوره، وهذه صفة تقوم بالذات، لا دلالة لها لغة على أنه خاطبه، لكن في رواية للبخاري في محل ثان: فلما دخل أَلَانَ له الكلام، وفي رواية الترمذي، ثم أذن له، فأَلَانَ له القول، فهو قد فعل معه الأمرين، وهما عرفًا متلازمان.
"فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة" مستفهمة، وفيه التفات، وفي رواية الترمذي،
يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة، متى عهدتيني فحاشًا، إن شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" رواه البخاري.
قال ابن بطال: هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع. ..............
والبخاري أيضًا، فلما خرج، قلت:"يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له" أي: لأجله، وفي شأنه لا أنه خاطبه لفساد المعنى "كذا وكذا ثم تطلقت" سهلت، وانبسطت "في وجهه" يقال: وجه طلق وطليق، أي: مسترسل منبسط غير عبوس، فقوله:"وانبسطت إليه" عطف تفسير، أو معناه: ملت إليه، فهل تاب وصلح حاله بين ما قلت، وبين حضوره عندك، أو لمخالفتك بين الغيبة والحضور؟ حكمة، فهو استفهام، أو تعجب من عدم التسوية، لتقف على الحكمة، "فقال صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة متى عهدتيني؟ " كذا في النسخ بزيادة الياء للإشباع، فإن التاء فاعل، والياء الأخيرة مفعول، فزيادة الياء بين التاء والنون، لا معنى لها سوى الإشباع، والذي في البخاري عهدتني -بفوقية مكسورة، فنون، وكذا نقله عنه في جامع الأصول وغيره، فلعل زيادتها من النسَّاخ؛ إذ لم ينبه المصنف في شرحه، مع استيعابه لجميع الروايات التي روى البخاري بها غالبًا على أنه روي بثبوت الياء، وكذا الكرماني، والحافظ، وغيرهم "فحاشًا" بالتشديد، أي: ذا فحش، وما ربك بظلام، كما سبق.
الكشميهني فاحشًا، "إن شر الناس" استئنافًا، كالتعليل لترك مواجهته، بما ذكر في غيبته، وبيان لوجه الحكمة التي سألتها عائشة، قال العلائي وغيره: ويحتمل أنه علل به مداراته لعموم الناس، وهذا وغيره؛ وأنه ليس فحاشًا، بل شأنه إكرام وإحسان العشرة، وتحمُّل الأذى لما يترتب على ذلك من جموم الفوائد، وعموم العوائد، ثم المعنى على من، ففي رواية الترمذي:"إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، من تركه الناس اتِّقاء شره" أي: قبيح كلامه، وفي رواية للبخاري وغيره "اتقاء فحشه"، أي لأجل اتقاء قبيح قوله وفعله، أو لأجل اتقاء مجاوزته الحد الشرعي، قولًا، أو فعلًا" "رواه البخاري" ومسلم، وأبو داود، ثلاثتهم في الأدب، والترمذي في البر، في جامعه وفي شمائله، "قال ابن بطال، هذا الرجل هو عيينة بن حصن" بكسر، فسكون، "ابن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق" فاسد العقل، "المطاع" لأنه كان يتبعه من قومه عشرة آلاف قناة، لا يسألونه أين يريد؟ ومن حمقه أن دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة عنده قبل نزول الحجاب، فقال: من هذه؟ قال: "عائشة"، قال: ألا أنزل لك عن أم البنين؟ فغضبت عائشة، وقالت: من هذا؟ ، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا الأحمق المطاع، يعني في قومه،
وكذا فسره به القاضي عياض والقرطبي والنووي.
وأخرج عبد الغني من طريق أبي عامر الخزاعي، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال:"بئس أخو العشيرة". الحديث.
والمراد بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، وإنما تطلق صلى الله عليه وسلم في وجهه تألفًا ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم.
رواه سعيد بن منصور.
وروى الحارث ابن أبي أسامة هذا الحديث مرسلًا، وفيه:"أنه منافق أداريه نفاقه، وأخشى أن يفسد على غيره"، "وكذا فسَّره به القاضي عياض والقرطبي، والنووي" جازمين بذلك؛ ونقله ابن التين عن الداودي، لكن احتمالًا جزمًا، وأخرجه عبد الغني بن سعيد في المبهمات، عن مالك بلاغًا، وابن بشكوال من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير؛ أن عيينة استأذن، فذكره مرسلًا، "وأخرج عبد الغني بن سعيد "من طريق أبي عامر الخزاعي" كذا في النسخ، وصوابه الخزاز. قال في التقريب: صالح بن رستم المزني، مولاهم أبو عامر الخزاز، بمعجمات البصري، صدوق، كثير الخطأ، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة، "عن عائشة، قالت: جاء مخرمة بن نوفل" القرشي، الزهري، صحابي شهير من مسلمة الفتح، وكان له سن عالية، وعلم بالنسب، فكان يؤخذ عنه، وعلم بأنصاب الحرم، فبعثه عمر فيمن بعثه لتحديدها، ومات سنة أربع، أو خمس وخمسين، عن مائة وخمس عشرة سنة، "يستأذن، فلما سمع النبي (ص) صوته، قال:"بئس أخو العشيرة" الحديث" السابق.
قال الحافظ: فيحمل على التعدد، وقد حكى المنذري القولين، فقال: هو عيينة، وقيل مخرمة، وهو الراجح انتهى.
وتُعقِّب بأن حديث تسميته عيينة صحيح، وإن كان مرسلًا، وخبر تسميته مخرمة، فيه أبو يزيد المدني، وفيه كلام، وأبو عامر صالح بن رستم؛ ضعَّفه ابن معين، وأبو حاتم، ولذا قال الخطيب، وعياض وغيرهما: الصحيح أنه عيينة، قالوا: ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال؛ لأنه كان من خيار الصحابة، "والمراد العشيرة: الجماعة" من الناس، لا واحد لها من لفظها، كما في المصباح، "أو القبيلة" قاله عياض، وقال غيره: العشيرة؛ الأدنى إلى الرجل من أهله، وهم ولد أبيه وجده، انتهى.
لإطلاق العشيرة لغة على القبيلة، وعلى بني الأب الأقربين، كما في القاموس، فلها ثلاث إطلاقات، "وإنما تطلّق صلى الله عليه وسلم في وجهه، تألفًا ليسلم قومه؛ لأنه كان رئيسهم" فهو أصل في
وقد جمع هذا الحديث كما قاله الخطابي علمًا وأدبًا، وليس قوله عليه الصلاة والسلام في أمته بالأمور التي يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبيِّن ذلك ويفصح به، وأن يعرِّف الناس أمرهم، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنَّه لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مدارته ليسلموا من شره وغائلته.
طلب المداراة، إذا ترتَّب عليها جلب نفع، أو دفع ضرر، وإلّا ذمَّت، فما كل جانٍ يعزر، ولا كل ذنب يغفر، قال:
ووضع الندى في موضع السيف في العدا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى
"وقد جمع هذا الحديث، كما قاله الخطابي علمًا" ومنه الإخبار بأن من ترك لاتقاء شره من شر الناس، ولذا أخذ منه؛ أن ملازمة الشخص الشر والفحش، حتى يخشاه الناس لشره من الكبائر، "وأدبًا" وهو عدم المواجهة بالذم، وإن كان حقًّا، والداراة وغير ذلك، "وليس قوله عليه الصلاة والسلام في أمته بالأمور التي يسمهم" بفتح، فكشَّر، أي: يصفهم "بها" سماه وسما، وهو العلامة، باعتبار أنه يصير كالعلامة التي تميزهم عن غيرهم، "ويضيفها" ينسبها "إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك" غيبة "من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبيِّن ذلك، ويفصح به، وأن يعرف الناس أمرهم، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة"، وليس ذا خاصًّا به، بل ذلك على أمته أيضًا؛ إذ هو إحدى المسائل المذكورة في قوله:
تظلم واستغث واستفت حذر
…
وعرف بدعة فسق المجاهر
"ولكنه، لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة، ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله" وذلك عذر مسقط للوجوب عن الأمة لا عنه صلى الله عليه وسلم، فلا يسقط وجوب أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، خشية العاقبة لقوله:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] الآية، فلعلَّ حكمة تركه هنا ما علمه أنَّ طلاقة الوجه مع هذا ونحوه سبب لإيمانه وإيمان قومه، فترك التشديد عليهم إنما هو للمصلحة العامة التي اقتضت ذلك؛ "وفي مداراته ليسلموا من شره وعائلته" عطف مرادف، فالغائلة لغةً الشر، واعترض بأن ظاهر كلامه أن هذا من الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطّلع من حال شخص على شيء، وخشي أن غيره يغتر؛ بجميل ظاهره، فيقع في محذورٍ ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدًا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكشف له
وقال القرطبي: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك، مع جواز مداراتهم اتقاءً لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله.
ثم قال تبعًا للقاضي حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أنَّ المداراة بدل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا، وهي مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال ولله الحمد.
عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطَّلع المغتر على حاله، فيذم الشخص بحضرته ليجتنبه المغتر، ليكون نصيحة بخلاف غيره صلى الله عليه وسلم، فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه.
"وقال القرطبي: فيه جواز غيبة المعلق بالفسق، أو الفحش، ونحو ذلك" من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة، "مع جواز مداراتهم اتقاءً لشرهم، ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله"، وهي معاشرة المعلن بالفسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه باللسان، ولا بالقلب، "ثم قال" القرطبي:"تبعًا للقاضي حسين، والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معا" ومن البذل لين الكلام، وترك الإغلاظ في القول، والرفق بالجاهل في التعليم، والفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لم يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف حتى يرتدع عما هو مرتكبه، "وهي مباحة، وربما استحسنت" فكانت مستحبة، أو واجبة للديلمي في الفردوس، عن عائشة مرفوعًا:"إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض"، ولابن عدي، والطبراني، عن جابر رفعه:"مداراة الناس صدقة"، وفي حديث أبي هريرة: "رأس العقل بعد الإيمان بالله؛ مداراة الناس، أخرجه البيهقي، بسند ضعيف، وعزاه في فتح الباري للبزار وتعقبه السخاوي؛ بأن لفظ البزار التودد إلى الناس.
"والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا؛ والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته، والرفق في مكالمته"، وليس ذلك من بذل الدين في شيء، "ومع ذلك، فلم يمدحه بقولٍ، فلم يناقض قوله فعله؛ فإن قوله فيه" بئس ابن العشيرة، "حق وفعله معه حسن، عشرة فيزول مع هذا التقرير الإشكال" الذي هو أن النصيحة فرض، وطلاقه الوجه، والأنة القول يستلزمان الترك، وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض، "ولله الحمد" على فهم ما ظاهره يشكل علينا، ففهمه
وقال القاضي عياض: لم يكن عيينة -والله أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلَّا يغترَّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به عليه الصلاة والسلام من علامات النبوة، وأما الأنة القول بعد أن دخل، فعلى سبيل الاستئلاف، وفي فتح الباري: إن عيينة ارتدَّ في زمن الصديق وحارب، ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر. انتهى.
من النعم، "وقال القاضي عياض: لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم"؛ لأنه أسلم قبل فتح مكة، وشهدها وحنينًا والطائف، وكان من المؤلَّفة، ولم يصح له رواية، قال ابن السكن: وأخرج في ترجمته هو وقاسم بن ثابت في الدلائل، عن عيينة بن حصن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى أجَّر نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه" الحديث.
"فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم، ولم يكن إسلامه ناصحًا" بل كان من المؤلَّفة الذين أعطوا من غنائم حنين، "فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيِّنَ ذلك؛ لئلَّا يغترَّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه" كدخوله على المصطفى بلا إذن، فقال له:"اخرج فاستأذن"، فقال: إنها يمين عليَّ أن لا أستأذن على مضري، وقوله: لعمر في خلافته ما تعطي الجزل، ولا تقسم بالعدل، فغضب، فقال له الجد بن قيس: إن الله يقول: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] الآية، فتركه، ودخل على عثمان، فأغلظ له، فقال عثمان: لو كان عمر ما قدمت عليه، "فيكون ما وصفه به عليه الصلاة والسلام من علامات النبوة، وأمَّا الأنة، القول بعد أن دخل" على المصطفى، في المحل الذي كان فيه؛ "فعلى سبيل الاستئلاف، وفي فتح الباري أن عيينة ارتدَّ في زمن الصديق، وحارب" وبايع طلحة، قال بعضهم: فجيء به إلى الصديق أسيرًا، فكان الصبيان يصيحون به في أزقَّة المدينة، هذ الذي خرج من الدين، فيقول: عمكم لم يدخل حتى خرج، "ثم رجع، وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر أ. هـ".
وفي الإصابة: قرأت في كتاب الأم للشافعي، في كتاب الزكاة، أنَّ عمر قتل عيينة على الردة، ولم أر من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظًا، فلا يذكر عيينة في الصحابة؛ لكن يحتمل أن يكون أمر بقتله، فبادر إلى الإسلام، فعاش إلى خلافة عثمان، وفيها أيضًا ترجمة طليحة نقلًا عن الأم، أنَّ عمر قتلهما على الردة، فراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني، فاستغربه،
وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه. رواه البخاري.
فإن قلت: قد صح أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه صلى الله عليه وسلم، وهذا ينافي قوله: وما انتقم لنفسه.
فالجواب: إنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله.
وقيل: أراد أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه، وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه.
وحمل الداودي عدم الانتقام على ما يخص بالمال، وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه.
وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن..................................
وقال: لعله قبلهما، بالباء الموحدة.
وقال القرطبي: في هذا الحديث إشارة، إلى أن عيينة خُتِمَ له بسوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذمَّه، وأخبر بأنَّ من كان كذلك كان شر الناس، وردَّه الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم، وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك، وقد ارتدَّ عيينة، ثم أسلم كما مرَّ. انتهى.
"وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه" خاصة، "رواه البخاري" ومسلم، وأبو داود في حديث عن عائشة، قالت: ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله فينقتم لله، "فإن قلت: قد صح أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عقبة" بالقاف، "ابن أبي معيط" بعد أسره يوم بدر، "وعبد الله بن خطل" بمعجمه، فمهملة مفتوحتين، يوم فتح مكة "وغيرهما، ممن كان يؤذيه صلى الله عليه وسلم، وهذا ينافي قوله" أي: الراوي، وهو عائشة، "وما انتقم لنفسه، فالجواب أنهم، كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله" فقتلهم لذلك لا لنفسه، "وقيل: أراد" الشخص الراوي عائشة، "أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه؛ وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه" ومرَّ حديثه قريبًا، "وحمل الداودي" أحمد بن نصر، شارح البخاري، "عدم الانتقام على ما يختص بالمال، قال: وأما العرض، فقد اقتص ممن نال منه" قال: واقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك، بأن أمر بلدهم، مع أنهم كانوا في ذلك، تأولوا أنه إنما نهاهم على عادة البشرية من كراهة النفس للدواء.
قال في الفتح: كذا قال: "وقد أخرج الحاكم هذا الحديث، من طريق معمر عن
الزهري مطولًا، وأوَّله: ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر -أي: بصريح اسمه- وما ضرب بيده شيئًا قط إلّا أن يضرب في سبيل الله، ولا سُئِلَ شيئًا قط فمنعه إلّا أن يسئل مأثمًا، ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تُنْتَهَكَ حرمات الله فيكون لله ينتقم. الحديث.
ومما روي من اتساع خلقه وحلمه صلى الله عليه وسلم، اتساع خلقه للطائفة المنافقين الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملَّقون له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية حتى تؤيدها العناية الربانية.
وكان صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا أذن له في التشديد عليهم فتح لهم بابًا من الرحمة، فكان يستغفر لهم ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال عليه الصلاة والسلام: "خيَّرَنِي ربي فاخترت أن أستغفر لهم"،..............................
الزهري" بهذا الإسناد، كما في الفتح، أي: بإسناد الزهري، وهو عروة عن عائشة مرسل، كما يوهمه تصرف المصنف، "مطولًا، وأوَّله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا يذكر، أي: بصريح تفسير لذكر "اسمه، وما ضرب بيده شيئًا قط" آدميًّا، ولا غيره، كما يأتي "إلّا أن يضرب في سبيل الله" فيضرب أن احتاج، "ولا سُئِلَ شيئًا قط فمنعه" بل يعطيه إن كان عنده وإلّا وعد، "إلّا أن يسأل مأثمًا" مصدر ميمي، بمعنى إثما، أي: ما فيه إثم من قول، أو فعل، "ولا انتقم لنفسه من شيء إلَّا أن تنتهك" -بضم الفوقية، وسكون النون، وفتح الفوقية- والهاء، أي: لكن إذا انتهكت "حرمات الله، فيكون لله ينتقم" لا لنفسه، ممن ارتكب تلك الحرمة، "الحديث" زاد في الفتح، وهذا السياق.
سوى صدر الحديث عند مسلم، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، وفيه:"ما انتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله، فإن انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله، "ومما روي من اتساع خلقه وحلمه صلى الله عليه وسلم، اتساع خلقه لطائفة المنافقين" قال ابن عباس: كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة، ومن النساء مائة وسبعين، "الذين كانوا يؤذونه، إذا غاب يتملقون" ويتوددون "له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية، حتى تؤيدها العناية الربانية؛ وكان صلى الله عليه وسلم كلما أذن له في التشديد عليهم، فتح لهم بابًا من الرحمة" لأنه رحمة، "فكان يستغفر لهم، ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: "خَيَّرَني ربي" بين الاستغفار وتركه، "فاخترت أن أستغفر لهم" واستشكل فهم التخيير في الآية؛ لأن المراد بهذا العدد، أن
ولما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين".
وأمر ولد الذي تولى كبر النفاق والأذى منهم ببر أبيه، ولما مات كفَّنه في ثوب خلعه عن بدنه وصلّى عليه،..........
الاستغفار ولو كثر لا يفيد حتى أقدم جماعة؛ كالغزالي، وإمام الحرمين، والباقلاني، والداودي، فطعنوا في صحته؛ مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين، وسائر الذين خرَّجوا الصحيح على صحته، وذلك ينادي على الجماعة بعدم معرفة الحديث، وقلة الاطلاع على طرقه، وأجيب بأجوبة، أجودها: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا، لا يستلزم النهي عنه لمن مات مظهرًا للإسلام، لاحتمال كونه صحيحًا، ولا ينافيه بقية الآية؛ لجواز أن الذي نزل أولًا إلى قوله:{فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، بدليل تمسكه صلى الله عليه وسلم به، وقوله:"إنما خَيَّرَنِي الله" تمسكًا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام، حتى يقوم الدليل الصارف عن ذلك، فكشف الله الغطاء بعد ذلك، وقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الآية، وبهذا يرتفع الإشكال، وتقدم بسط هذا في المقصد الأول.
"ولما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية. فقال" جواب، لما دخلت عليه الفاء على قوله صلى الله عليه وسلم:"لأزيدنَّ على السبعين" وفي رواية: "فوالله لأزيدنَّ"، وأخرى "فأنا أستغفر سبعين سبعين"، وهي وإن كانت مراسيل يقوي بعضها بعضًا، ووعده صدق، لا سيما، وقد حلف، وأتى بصيغة المبالغة في التأكيد؛ وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، لما نزلت:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية. قال صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين"، فأنزل الله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون] الآية. ورجاله ثقات، أي: فترك الاستغفار بعد نزول آية سورة المنافقين؛ إذ لا يتأتَّى فيها تخيير؛ إذ المعنى استغفارك وعدمه سواء، "وأمر ولد" وهو عبد الله الصحابيّ الصالح؛ "الذي تولَّى كبر النفاق" تحمل معظمه، وهو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، "والأذى منهم" أي: المنافقين "ببر أبيه" حين جاءه يستأذنه في قتله، لما بلغه بعض مقالاته في النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"بل أحسن صحبته".
رواه ابن مندة بإسناد حسن، "ولما مات كفَّنه في ثوب خلعه عن بدنه" بطلب منه، لذلك روى الطبراني عن ابن عباس: لما مرض ابن أُبَيّ جاءه صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال: قد فهمت ما تقول، فأمنَنَّ علي، وكفِّني في قميصك، وصلّ عليّ، ففعل "وصلى عليه" بطلبه وطلب ابنه، لذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر، لما مات ابن أُبَيّ، جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله
هذا وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- عنه يجذبه بثوبه ويقول: يا رسول الله، أتصلي على رأس المنافقين؟ فنتر ثوبه من عمر وقال:"إليك عنِّي يا عمر". فخالف مؤمنًا وليًّا في حق منافق عدو، وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحراني.
وقال النووي: قيل: إنما أعطاه قميصه وكفَّنه فيه تطييبًا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيًّا صالحًا. وقد سأل ذلك فأجابه إليه، وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت؛ لأنه كان ألبس العباس حين أُسِرَ يوم بدر قميصًا.
وفي ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فقد علم ما كان......
أن يعطيه قميصه يكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه. الحديث. وفيه: فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 84] الآية. فلا عبرة بتصدير البيضاوي بأنَّه لم يصلِّ عليه، وللطبراني وغيره، عن قتادة، فذكر لنا أنه، لما نزلت الآية، قال صلى الله عليه وسلم:"وما يغني عنه قميصي، وإني لأرجو أن يسلِم بذلك ألف من قومه"، وروي أن ألفًا من الخزرج أسلموا، لما رأوه يستشفع بثوبه، ويتوقَّع اندفاع العذاب عنه، "هذا وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يجذبه" بكسر الذال، "بثوبه، ويقول: يا رسول الله! أتصلي على رأس المنافقين، فنتر ثوبه من عمر" بالمثناة الفوقية جذبه بقوة، "وقال:"إليك عني يا عمر" وفي الصحيحين.
فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله، فقال: أتصلي عليه، إنه منافق، فصلى عليه "فخالف مؤمنًا وليًّا في حق منافق عدو" إجراء على الظاهر، "وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحراني" بالفتح والتشديد إلى حران مدينة بالجزيرة، قال الخطابي وابن بطال: إنما فعل ذلك لكمال شفقته على من تعلَّق بطرف من الدين، وليطيّب قلب ولده الصحابي الصالح، ولتألّف الخزرج لرياسته فيهم؛ فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه، قبل ورود النهي الصريح، لكان سبَّة على ابنه وعارًا على قومه، فاستعمل صلى الله عليه وسلم أحسن الأمرين في السياسة؛ حتى كشف الله الغطاء، فأنزل:{وَلا تُصَلِّ} [التوبة: 84] الآية. فما صلّي على منافق بعد، ولا قام على قبره.
"وقال النووي: قيل: إنما أعطاه قميصه وكفَّنه فيه تطيبًا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيًّا صالحًا" شهد بدرًا، وما بعدها، فاستشهد يوم اليمامة؛ في خلافة أبي بكر، "وقد سأل ذلك، فأجابه إليه" لأنه لا يرد سائلًا، والضنة بالقميص ليست من شأن الكرام، "وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت؛ لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصًا" فكافأة قميصه حتى لا يكون له على عَمِّه مِنَّة، "وفي ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فقد علم ما كان من هذا
من هذا المنافق من الإيذاء له، وقابله بالحسنى، فألبسه قميصه كفنًا، وصلَّى عليه واستغفر له.
من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره.
وعفا عن اليهودية التي سمَّته في الشاة على الصحيح من الرواية. والله يرحم القائل:
وما الفضل إلا خاتم..............
المنافق من الإيذاء له" كقوله: ليخرجن الأعز منها الأذل، لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وتولّيه كبر الإفك، "وقابله بالحسنى، فألبسه قميصه كفنًا، وصلى عليه، واستغفر له.
ذكر الواقدي: إن مجمع بن جارية، قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال الصلاة على جنازةٍ قط ما أطال على جنازة ابن أُبَيّ من الوقوف، ولابن إسحاق عن عمر: ومشى معه حتى قام على قبره؛ حتى فرغ منه، وفي رواية للبخاري، عن عمر: فصلينا معه، قال أبو نعيم: ففيه أن عمر ترك رأي نفسه وتابعه صلى الله عليه وسلم "ومن ذلك؛ أنه عليه الصلاة والسلام لم يؤاخذ لبيد" -بفتح اللام، وكسر الموحدة، وإسكان التحتية، ومهملة- "ابن الأعصم" بمهملتين، بوزن أحمر، ويقال: أعصم بلا ألف يهودي، كما في الصحيحين، عن عائشة، من بني زريق -بضم الزاي وفتح الراء- بطن من الأنصار، ذكر الواقدي؛ أنه كان حليفًا فيهم، ووقع لعياض أنه أسلم، ورده البرهان؛ بأنه لا يعلم له إسلامًا، ولا ذكرًا في الصحابة، وقيل: كان منافقًا، ولعل المراد العرفي؛ إذ النفاق إخفاء الكفر، وإظهار الإسلام، ولبيد لم يكن كذلك، فهو على حد قوله صلى الله عليه وسلم:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب؛ وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". رواه الشيخان. ويطلق النفاق على الكفر أيضًا، "إذ سحره" تعليلية بنفسه على ظاهر حديث الصحيحين، وعند ابن سعد: إنما سحره بنات لبيد، ولبيد هو الذي ذهب به، فإن صحَّ، فنُسِبَ إليه مجازًا لأخذه من بناته، وذهابه إلى البئر به، ومكث صلى الله عليه وسلم في السحر أربعين يومًا، رواه الإسماعيلي، ولأحمد ستة أشهر، وجمع بأنها من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين من استحكامه، قال في الشفاء: وقد أعلم به، وأوحي إليه بشرح أمره، ولا عتب عليه فضلًا عن معاقبته، "وعفا عن اليهودية التي سمته في الشاة على الصحيح من الرواية" قال عياض: أي في حق نفسه، فلا ينافي أنه قتلها بعد ذلك، لما مات بشر بن البراء قصاصًا، ومرَّت القصة في خيبر، وأنها أسلمت رضي الله عنها، "والله يرحم القائل، وما الفضل" الزيادة في مراتب القرب "إلّا خاتم" أي: زيادة
................... أنت فصه
وعفوك نقش الفص فاختم به عذري
ومن ذلك إشفاقه صلى الله عليه وسلم على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، فقال:"من بلي بهذه القاذورات -يعني المحرمات- فليستتر".
وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحَّموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، فقال:"قولوا: اللهم اغفر له، اللهمَّ ارحمه".
خاتم "أنت فصه" المتميز عنه بزيادة الفضل والقرب، وكأنه أراد بالخاتم جميع الأنبياء، ففضلُهم وقربهم عند الله، لا يساويهم فيه غيرهم، وجعلهم خاتمًا؛ لأنَّ بواسطتهم تصان الملل عن الفساد؛ وتتزين بهم، فأشبهوا ما يطبع به على الكتاب، مثلًا: فيصان به ما في بطنه عن الفساد بالعلم به، وتزينت بهم الملل حيث أظهروا أحكامها ونشروها، فأشبهوا الحلي الذي يتزين به؛ "وعفوك نقش الفص" أي: كنقشه، لكونه زينة وشرفًا لأفعالك ومعاملتك مع الناس، كما أنَّ النقش زينة الخاتم، وهي ظهور آثاره، بحيث يقتدي بك فيها، كتأثير الفصل المنقوش، إذا طبع به أثرًا ظاهرًا ينتفع به، "فاختم به عذري" كأنه أظهر له عذرًا في تقصيره في حقه، وسأله قبوله منه، وجعل عفوه، كخاتم لا يتطرق للطبع، به خلل، "ومن ذلك إشفاقه صلى الله عليه وسلم" مصدر أشفق، قال المجد: شفق وأشفق: حاذر، ولا يقال: ألا أشفق، أي: لا يستعمل إلا مزيدًا، وهجروا المجرد، وإن جاء في أصل اللغة مجردًا ومزيدًا، فلا يرد أن فيه إثباتًا ونفيًا، وهو تناقض "على أهل الكبائر من أمته؛ وأمره إياهم بالستر، فقال: "من بلي بهذه القاذورات" جمع قاذورة، وهي كل قول، أو فعل يستقبح، ولذا قال: "يعني المحرمات" سميت بذلك؛ لأن حقها أن تذر، فوصفت بما يوصف به صاحبها، "فليستتر" وجوبًا مع التوبة، ولا يخبر أحدًا، فإن خالف واعترف عند الحاكم؛ حدَّه، أو عزَّره، وهذا الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي في السنن عن ابن عمر، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجم ماعز الأسلمي، فقال: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن أَلَمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صحتته نقم عليه كتاب الله"، صححه الحاكم وابن السكن، وقال الذهبي في المهذب: إسناده جيد، ولا ينافيه قوله في اختصارٍ له المستدرك: غريب جدًّا؛ لأن الغرابة تجامع الصحة، وقول إمام الحرمين: صحيح متفق على صحته، قال ابن الصلاح: عجيب أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم، "وأمر أمته" أتباعه الحاضرين عنده، "أن يستغفروا للمحدود، ويترحموا عليه، لما حنقوا" -بفتح المهملة، وكسر النون، اغتاظوا "عليه، فسبوه" شتموه بذكر مساويه "ولعنوه" بأن دعوا عليه باللعن، ولعلهم لم يريدوا به الطرد عن رحمة الله، "فقال: "قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه".
وقال لهم في رجل كان كثيرًا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة فقال:"لا تلعنوه فإنه يحب الله رسوله". فأظهر لهم مكتوم قلبه لما رفضوه بظاهر فعله، وإنما ينظر الله إلى القلوب -طهَّر الله قلوبنا وغفر عظيم ذنوبنا.
ومن ذلك ما رواه الدارقطني من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصغي إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها.
ومن ذلك اتساع خلقه..................................................
"وقال لهم في رجل" اسمه عبد الله، ولقبه حمار بلفظ الحيوان، "كان كثيرًا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة، فقال: "لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله".
روى البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، قال: كان رجل يسمَّى عبد الله ويلقَّب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤتى به في الشراب، فجيء به يومًا، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله"، وذكر الواقدي: أنَّ القصة وقعت له في غزاة خيبر، ولأبي يعلى أنه كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم العكة من السمن، أو العسل، ثم يجيء بصاحبها، فيقول: أعطه الثمن، ووقع نحو ذلك لنعيمان فيما ذكر الزبير بن بكار في كتاب المزاح، وروى أبو بكر المروزي أنَّ عبد الله المعروف بحمار شرب في عهد عمر، فأمر الزبير وعثمان فجلداه، "فأظهر لهم مكتوم قلبه" أي: ما كتمه قلبه وأخفاه من حب الله ورسوله؛ بحيث لم يعلم حقيقته سواه صلى الله عليه وسلم، "لما رفضوه" حين تركوه "بظاهر فعله" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بسبب فعله الظاهر، تركوه ظنًّا أنه مبعد عن الله، "وإنما ينظر الله إلى القلوب" أي: إلى ما فيها، فيجازي عليه بأحسن الجزاء، وإن كان ظاهر فعله يقتضي خلافه، "طهر الله قلوبنا" بحبه وحب رسوله، "وغفر عظيم ذنوبنا" بفضله وكرمه.
"ومن ذلك ما رواه الدارقطني" وحسَّنه، والحاكم، وصحَّحه، وأبو نعيم، والطبراني برجال ثقات، "من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يصغي" بمهملة فمعجمة، يميل "إلى الهرة الإناء حتى تشرب" منه بسهولة، "ثم يتوضأ بفضلها" أي: بما فضل من شربها، وفيه طهارة الهرة وسؤرها، وبه قال عامَّة العلماء، إلّا أن أبا حنيفة كره الوضوء بفضلها، وخالفه أصحابه، وندب سقي الماء والإحسان إلى خلق الله، وأن في كل كبد حرى أجرًا، وأنه ينبغي للعالم فعل المباح إذا تقرَّر عند بعض الناس كراهة، ليبين جوازه، "ومن ذلك اتساع خلقه" إن قيل اسم الإشارة عائد على اتساع خلقه، فما فائدة ذكره" فالجواب: لعل فائدته التنبيه على أن هذا من أحسن أخلاقه، كأنه قال: اتساع خلقه الحسن المتميز عن بقية أحواله، اتساع خلقه، مع أصحابه
في شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه.
قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلّا عند لمعان نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتَلِينُ وتنطبع للحق والخلق بِمَحْوِ آثارها وسكون وهَجِهَا وغُبَارِها.
وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا صلى الله عليه وسلم في أوطان القرب، وحسبك من تواضعه عليه الصلاة والسلام أن خَيَّره ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا،.......................................
كذا أملاني شيخنا "في شريف تواضعه" أي: تواضعه الشريف، "وآدابه، وحسن عشرته" فهو من إضافة الصفة للموصوف؛ إذ حسنها "مع أهله، وخدمه، وأصحابه" ليس من أشرف تواضعه؛ إذ الحظ الأوفر من تواضعه في أوطان القرب، كما "قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان" إضاءة النور، الحاصل بسبب "المشاهدة في قلبه" وإنما يحصل برياضة النفس ومجاهدتها في الإقبال على الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ "فعند ذلك تذوب النفس" تفني قواها عن ميلها إلى الشهوات المائلة إليها بالطَّبع، فتنهم بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات؛ فإذا جاهدها بمنعها من شهواتها، وتذكيرها ما آل ذلك من الذل والهوان، أهلكها؛ بحيث تغيرت طباعها، حتى كأنها ذابت فلم يبق لها أثر، "وفي ذوبانها" سيلانها، "صفاؤها" خلوصها، "من غش الكب والعجب" من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: غش النفوس الذي هو الكبر والعجب، فشبَّه النفس باعتبار ما طبعت عليه، أصالة من نحو كبر وحسد، بتبر اشتمل على أوساخ منعت نفعه؛ وجعل معالجة النفس في خلوصها مما ألفته من الميل إلى القبيح، كتصفية التبر مما يمنع نفعه، فحينئذٍ تطمئن بذكر الله؛ لترقيها في معرفة الأسباب والمسببات؛ وعملها بمقتضاها، وعرفت الحق، وأقبلت عليه بجملتها، فلم يبق لها تعلق بشيء من مألوفها، "فتلين وتنطبع للحق والخلق، بمحو آثارها" التي طبعت عليها من فخر وسرعة غضب وحرارة عند غليان دم القلب، إذا أصابها ما تكرهه، وغير ذلك من كل ما يشين؛ "وسكون وهجها" بالواو، والهاء المفتوحين اتقادها "وغبارها" عطف مغاير، وفي نسخة وهجها -بالراء المفتوحة، والهاء الساكنة، وتفتح الغبار، وعليها، فعطف الغبار تفسير، "وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا صلى الله عليه وسلم في أوطان القرب" فكلما زاد قربًا زاد تواضعًا، "وحسبك" يكفيك "من تواضعه عليه الصلاة والسلام، أن" مصدرية، أو مخففة، أي: إنه "خَيَّرَه ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا" تواضعًا لربه، مع أنَّه لو كان نبيًّا ملكًا ما ضره،
فأعطاه الله بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفَّع، فلم يأكل متكئًا بعد ذلك حتى فارق الدنيا، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" رواه الترمذي.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنَّه كان لا ينهر خادمًا، روينا في كتاب الترمذي عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين،..............
فالنبوة معطاة له في الوجهين، "فأعطاه الله بتواضعه، أن جعله أول من تنشق عنه الأرض" يوم القيامة "وأول شافع، وأول مشَفَّع" مقبول الشفاعة، كما يأتي بسط ذلك من الخصائص إن شاء الله تعالى، كقوله:"فلم يأكل متكئًا" مائلًا على أحد الجانبين، كما عزاه عياض في شرح مسلم للأكثر، وجزم به ابن الجوزي، أو معتمدًا على وطاء تحته، جزم به الخطابي، وعزاه في الشفاء للمحققين، أو معتمدًا على شيء، أو على يده اليسرى، من الأرض. أقوال بسطها المصنف في الأكل من ذا المقصد "بعد ذلك حتى فارق الدنيا"؛ لأنه لما اختار العبودية فعل فعل العبد، ولذا قال:"آكل، كما يأكل العبد، وأجلس، كما يجلس العبد".
وروى ابن عدي، والديلمي، وغيرهما بإسناد ضعيف عن أنس: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل متكئًا، فقال: التكأة من النقمة، فاستوى بعد ذلك قاعدًا، فما رؤي بعد ذلك متكئًا، وقال:"إنما أنا بد أكل، كما يأكل العبد، وأشرب، كما يشرب العبد" والتكأة، بوزن الهمزة ما يتكأ عليه، ورجل تكأة: كثير الاتكاء، والتاء بدل من الواو، كما في النهاية، "وقد قال عليه الصلاة والسلام:"لا تطروني" بضم أوله، وسكون الطاء، والإطراء: المدح بالباطل، أي لا تتجاوز الحد في مدحي، بأن تقولوا ما لا يليق بي، "كما أطرت النصارى ابن مريم"، وفي رواية:"عيسى ابن مريم"، حيث كذبوا، وقالوا: إله وابن الله، وأحد ثلاثة، وغير ذلك من إفكهم، "إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" ولا تقولوا ما قالته النصارى، فأثبت لنفسه ما هو ثابت له من العبودية والرسالة، وأسلم لله ما هو له، لا لسواه "رواه الترمذي" كذا في النسخ، وقد رواه البخاري من حديث عمر، وعزاه المصنف نفسه له في الأسماء النبوية.
"ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا ينهر خادمًا، روينا في كتاب الترمذي" ومسلم، والبخاري، "عن أنس، قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية أحمد في السفر والحضر "عشر سنين" الرواية، بسكون الشين، ويجوز فتحها، وفي مسلم تسع سنين، وحملت على التحديد، والأولى، وهي أكثر الروايات على التقريب، إلغاء للكسر، فخدمته؛ إنما كانت أثناء
فما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لشيء صنعته: لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحد قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربَّانية.
وفي رواية مسلم: ما رأيت أحد أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط، ولا ضرب امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله،.............................
السنة الأولى من الهجرة، "فما قال لي أف" بضم الهمزة، وسكون الفاء مشددة، ولأبي ذر أف، بفتحها: صوت يدل على التضجر، "قط" تأكيد لنفي الماضي بمعنى الدهر والأَبَد، مع أنه قد يتفق له فعل شيء ليس على الوجه الذي أراده منه المصطفى، ففي رواية أبي نعيم، فمَا سبَّني قط، وما ضربني من ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر، فتوانيت فيه، فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد، قال: دعوه، ولو قدر شيء كان، "ولا قال لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته" زاد في رواية، ولكن يقول:"قدَّر الله، وما شاء الله فعل، ولو قدر الله كان، ولو قضى لكان"، "وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحد قط، وهذا أمر لا تتسع له" لا تطيقه، ولا تقدر عليه "الطباع البشرية، لولا التأييدات الربانية"، وما ذاك إلّا لكمال معرفته صلى الله عليه وسلم أنه لا فاعل، ولا معطي، ولا مانع إلا الله، وأن الخلق آلات وسائط، فالغضب على المخلوق في شيء فعله، كالإشراك المنافي للتوحيد، وقيل: سبب ذلك أنه كان يشهد تصريف محبوبه فيه، وتصريف المحبوب في المحب، لا يعلل، بل يسلم ليستلذ، فكل ما يفعله الحبيب محبوب، "وفي رواية مسلم" عن أنس في حديث:"ما رأيت أحد أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت عائشة: ما ضرب صلى الله عليه وسلم. زاد في رواية: بيده، وهو لتأكيد النوعية نحو يطير بجناحيه؛ إذ الضرب عادة لا يكون إلّا باليد، "شيئًا قط" آدميًّا، أو غيره، أي: ضربًا مؤذيًا، وضربه لمركوبه لم يكن مؤذيًا، ووكْزَه بعير جابر، حتى سبق القافلة بعدما كان عنها بعيدًا، معجزة، وكذا ضربه لفرس طفيل الأشجعي لما رآه متخلفًا عن الناس، وقال: "اللهم بارك فيها" وقد كان هزيلًا ضعيفًا، قال طفيل: فلقد رأيتني ما أملك رأسها، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفًا.
رواه النسائي، "ولا ضرب امرأة، ولا خادمًا" خاص على عام، مبالغة في نفي الضرب، لكثرة وجود سبب ضربهما، للابتلاء بمخاطبتهما ومخالفتهما غالبًا، فقد يتوهّم عدم إرادتهما من قولها شيئًا، "إلّا أن يجاهد في سبيل الله" فيضرب إن احتاج إليه، وقد قتل بأُحُد أُبَيّ بن خلف،
وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلّا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله. رواه مسلم.
وسئلت عائشة: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته؟ قالت: كان ألين الناس، بسَّامًا ضحَّاكًا، لم ير قط مادًّا رجليه بين أصحابه.
وعنها: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه إلّا قال: لبيك. رواه.
وعند أحمد وابن سعد وصحَّحَه ابن حبان عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه ويخصف -بكسر- نعله، وفي رواية لأحمد: ويرفع دلوه، وعنده أيضا: يغلي
وما قتل بيده أحد غيره، بل قال ابن تيمية: لا نعلمه ضرب بيده أحدًا غيره، "وما نيل منه شيء، فينتقم من صاحبه"؛ إذ طبعه لا ينتقم لنفسه "إلا أن ينتهك" -بضم، فسكون، ففتح- أي: لكن إذا انتهك "شيء من محارم الله، فينتقم لله" لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة، "رواه مسلم" وبعضه رواه البخاري، "وسئلت" كما رواه ابن سعد وغيره "عائشة: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته؟، قالت: كان" إذا خلا بنسائه "ألين الناس، بسَّامًا" كثير التبسم، "ضحَّاكًا" بمعنى ضاحكًا زيادة عن التبسم قليلًا، في بعض الأحيان "لم ير قط مادًّا رجليه بين أصحابه" زاد في رواية حتى يضيق بهما على أحد، "وعنها: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" وبيَّنت بعض ذلك؛ بأنه "ما دعاه" أي ناداه "أحد من أصحابه إلا، قال:"لبيك" ظاهره أنه جوابه دائمًا، ويحتمل أنه كناية عن سرعة الجواب مع التعظيم، "رواه" كذا في نسخ وبعدها بياض، وفي أخرى بدون رواه، وفي بعضها رواه البخاري، وهي خطأ، فقد قال السيوطي في تخريج أحاديث الشفاء:
رواه أبو نعيم في الدلائل بسند واهٍ، وروى أبو داود، والترمذي عن أنس، والبزار عن أبي هريرة: ما التقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحَّى رأسه عنه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحِّي رأسه، وما أخذ أحد بيده، فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ، "وعند أحمد، وابن سعد، وصححه ابن حبان، عنها" أي: عائشة، "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيط" -بفتح الياء، وكسر الخاء- "ثوبه ويخصف -بكسر" المهملة، "فعله" أي: خرز طاقًا على طاق، بقية هذه الرواية عند أحمد، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، أي: من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاد للتواضع، وترك التكبر، لكنه مشرف بالوحي والنبوة، مكرَّم بالرسالة والآيات، "وفي رواية لأحمد، ويرفع" بفتح، فسكون، ففتح، "دلوه" أي: يصلحه، "وعنده أيضًا يفلي" بفتح، فسكون مضارع فلي ثلاثيًّا،
ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه.
وهذا يتعيِّن حمله على أوقات، فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة.
وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، وركب يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف. رواه الترمذي.
وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الانصراف قرَّب له سعد حمارًا وطأ عليه بقطيفة، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال سعد: يا قيس، اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم،.......................................
كما ضبطه غير واحد، يجوز ضم أوله، وسكون ثانيه مخففًا، أو فتحه مثقلًا "ثوبه" أي: يزيل قمله، وظاهره إن العمل يؤذيه، لكن قال ابن سبع: لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ولأن أكثره من العفونة، ولا عفونة فيه، ومن العرق، وعرقه طيب، ولا يلزم من التفلية وجود القمل، فقد يكون للتعليم، أو لتفتيش نحو: خرق فيه ليرقعه، أما لما علق به من نحو شوك ووسخ، وقيل: كان في ثوبه قمل، ولا يؤذيه، وإنما كان يفليه استقذارًا له، "ويحلب"، بضم اللام، "شاته، ويخدم" بضم الدال، "نفسه"، عطف عام على خاص، ونكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عمومًا وخصوصًا، "وهذا يتعيِّن حمله على" أنه كان يفعل ذلك في بعض "أوقات" لا دائمًا، "فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه، وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة" وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه، وأنه لا يخل بمنصبه وإن جلَّ.
"وكان يركب الحمار" زاد ابن سعد في روايته عريًا ليس عليه شيء، وذلك مع ما فيه من غاية التواضع، إرشاد للعباد، وبيان أن ركوبه لا يخل بمروءة، ولا رفعة، بل ف غاية التواضع، وكسر النفس، "ويردف" بضم التحتية "خلفه" الذكر والأنثى، الصغار والكبار، "وركب يوم بني قريظة" وفي رواية لأبي الشيخ يوم خيبر، ويوم قريظة، والنضير "على حمار مخطوم" في أنفه "بحبل من ليف" زاد في رواية الشمائل: عليه أكاف من ليف، وهو برزعه لذوات الحوافر، بمنزلة السرج للفرس، وهذا نهاية التواضع، وأي تواضع، وقد ظهر له صلى الله عليه وسلم من النصرة عليهم، والضفر بأموالهم، ما هو معروف، "رواه الترمذي" من حديث أنس، "وعن قيس بن سعد" بن عبادة، "قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" على عادته في تفقد أصحابه، قيل: كان سعد دعاه رجل ليلًا، فخرج له، فضربه بسيفه، فعاده صلى الله عليه وسلم، "فلما أراد الانصراف، قرَّب له سعد حمارا" ليركبه "وطأ" بشد المهملة، وهمزة، "عليه بقطيفة" كساء له خمل ووبر، وضعه على ظهر الحمار، "وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال سعد" لابنه:"يا قيس، اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: كن معه في خدمته،
قال قيس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فأبيت، فقال:"إما أن تركب وإما أن تنصرف". وفي رواية أخرى: "اركب أمامي فصاحب الدابَّة أَوْلَى بمقدمها"، رواه أبو داود وغيره.
وفي البخاري من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وإني لرديف أبي طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنها أمكم"، فشددت الرحل، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث.
والمرأة: صفية، والردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه.
وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة
وفي ذا الحديث؛ أنه صلى الله عليه وسلم جاء على حمار، مردفًا أسامة خلفه، فسَعْدُ وهبه الحمار ليركبه وحده، ويبقى أسامة على الحمار الذي جاء به، "قال قيس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فأبيت" أن أركب، تأدبًا معه لا مخالفة لأمره، "فقال: "أما أن تركب، وإما أن تنصرف" أي: ترجع ولا تمشي معي، أي: فوافقه على الركوب "وفي رواية أخرى: "اركب أمامي فصاحب الدابة أَوْلَى بمقدمها"؛ إذ هو أدرى بسيرها، وسماه صاحبًا، باعتبار ما كان، لأنَّه ابن مالكها سعد بن عبادة، لا ابن أبي وقاص، كما غلط من قاله، وعند ابن مندة: فأرسل ابنه معه ليرد الحمار، فقال: "احمله بين يدي"، قال: سبحان الله، أتحمله بين يديك؟، قال: "نعم، هو أحق بصدر حماره"، قال: هو لك يا رسول الله، قال: "أحمله إذن خلفي"، "رواه أبو داود وغيره" وفيه قصة طويلة.
"وفي البخاري من حديث أنس بن مالك، أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر" بمعجمة، فتحتية، فموحدة، فراء آخره، ونسخة من حنين، تصحيف من الجهال، فالثابت في البخاري خيبر، "وإني لرديف أبي طلحة" زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم أنس، "وهو يسير وبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ عثرت الناقة، فقلت" وقعت "المرأة" فنزلت، هذا أسقطه من الرواية، وفي رواية، نصب المرأة، أي: أوقعت الدابة المرأة، وفي أخرى، فقلت: بالفاء من الفلى، وهو الإخراج والفصل، ونزلت بلفظ المتكلم، "فقال صلى الله عليه وسلم:"إنها أمكم" تذكيرًا لهم بوجوب تعظيمها، "فشددت الرحل، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث" بقيته، فلما دنا ورأى المدينة، قال:"آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون"، "والمرأة صفية" بنت حيي أم المؤمنين، "والردف، والرديف، الراكب خلف الراكب بإذنه" قيد به، لأنه المتبادر؛ إذ من ركب بلا إذن، غاصب شرعًا، وإن كانت اللغة لا فرق بين الإذن وعدمه.
"وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني، وبينه إلا آخرة" بفتح
الرحل. وقد ركب صلى الله عليه وسلم على حمار على إكاف، عليه قطيفة فذكيه، أردف أسامة وراءه.
ولما قدم عليه الصلاة والسلام مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه. وقال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه، أو قثم والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه. رواه البخاري.
وذكر المحب الطبريّ في مختصر السيرة النبوية له، أنه صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عريًا إلى قبا وأبو هريرة معه، قال:"يا أبا هريرة أأحملك؟ " قال: ما شئت يا رسول الله، فقال:"اركب" ، فلم يقدر، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعًا. ثم ركب صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"يا أبا هريرة، أأحملك؟ " قال: ما
الهمزة، والمد، وكسر الخاء، "الرجل"، قال المصباح: خشبة يستند إليها الراكب "وقد ركب صلى الله عليه وسلم على حمر، على إكاف" بالكسر، البرذعة، "عليه قطيفة فَدَكية" بفتحتين، موضع بخيبر، "أردف أسامة وراءه" ففيه جواز الإرداف، وإن كانوا ثلاثة إذا لم تكن الدابة ضعيفة لا تطبيق ذلك، وقيل: يكره ما فوق الاثنين، "ولما قدم عليه الصلاة والسلام مكة، استقبله أغيلمة" تصغير الغلمة، جمع الغلام، وهو شاذ، والقياس غليمة، قال الكرماني، "بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه" رواه البخاري، عن عبد الله بن عباس، "وقال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد حمل قُثَم" بضم القاف، وخفة المثلثة المفتوحة، ابن العباس الهاشمي، كان آخر الناس عهدًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولي مكة من قِبَلِ عليّ، ثم سار أيام معاوية إلى سمرقند، فاستشهد وقُبِرَ بها "بين يديه، والفضل" بسكون الضاد، أخوة ثبت يوم حنين، ومات سنة ثمان عشرة على الأصح، "خلفه، أو قثم خلفه، والفضل بين يديه" شكَّ الراوي "رواه البخاري"، ففي هذه الرواية الثانية، بيان البهمين في الأولى، "وذكر المحب الطبري في مختصر السيرة النبوية له أنه صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عريًا" بضم العين، وإسكان الراء، أي: ما عليه إكاف، ولا يقال ذلك في الآدمي، إنما يقال عريان، "إلى قبا" بالضم: موضع بالمدينة، وفيه لغات، جمعها القائل:
حرًا وقبا ذكر وأنثهما معًا
…
ومد، أو اقصر واصرفنَّ وامنع الصرفا
"وأبو هريرة معه، قال: "يا أبا هريرة أأحملك؟ "، قال: ما شئت" افعله "يا رسول الله، فقال: "اركب"، فوثب أبو هريرة ليركب، فلم يقدر، فاستمسك" تمسك وتعلَّق "برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعًا، ثم ركب صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "يا أبا هريرة أأحملك"؟، قال" افعل "ما شئت يا رسول الله، فقال: "اركب"، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلَّق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعًا،
شئت يا...................................................................................................................................
رسول الله، فقال:"اركب"، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلَّق برسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعًا، فقال:"يا أبا هريرة أأحملك؟ " فقال: لا والذي بعثك بالحق لأرميتك ثالثًا.
وذكر المحب الطبري أيضًا: أنه عليه الصلاة والسلام كان في سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله، عليَّ سلخها، وقال آخر: يا رسول الله، علي طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"علي جمع الحطب"، فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال:"فقد علمت أنكم تكفوني ولكن أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى.
ولم أر هذا لغير الطبري بعد التتبُّع، نعم رأيت في جزء تمثال النعل الشريف
فقال: "يا أبا هريرة أأحملك"؟، فقال: لا والذي بعثك بالحق لأرميتك" أي: لا أرميك "ثالثًا" فاستعمل الماضي موضع المضارع، لأنه قوي عنده؛ أنه إذا ركب وقعا جميعًا أيضًا، "وذكر المحب الطبري أيضًا" في الكتاب المذكور "أنه عليه الصلاة والسلام في سفر، وأمر أصحابه" أي: جنس "بإصلاح شاة" أي: تهيئتها للأكل، "فقال رجل: يا رسول الله عليَّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله علي سلخها، وقال آخر: يا رسول الله عليّ طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليّ جمع الحطب" من الوادي"، "فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال:"قد علمت أنكم تكفوني" بحذف إحدى النونين تخففًا، والأصل تكفونني، "ولكن أكره أن أتميِّزَ عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه"، أي: لا يثني عليه إذا رآه متميزًا، والمكروه له تعالى في الحقيقة هو تميز العبد، لا رؤيته تعالى لذلك.
"ولم أر هذا لغير الطبري بعد التتبع" وقد أنكره شيخه السخاوي، فقال: لا أعرفه، "نعم رأيت في جزء تمثال" أي: صورة "النعل الشريف"، وهو نحو كراسة والأولى الشريفة؛ إذ النعل مؤنثة "لأبي اليمين بن عساكر، بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر، بن ربيعة" العنزي -بسكون النون، حليف بني عدي، وُلِدَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وثَّقه العجلي، وروى له الستة، ومات سنة بضع وثمانين "عن أبيه" عامر، بن ربيعة، بن كعب، بن مالك العنزي، حليف الخطاب، صحابي مشهور؛ أسلم قديمًا، وهاجر وشهد بدرًا، وله أحاديث في الكتب الستة، ومات ليالي قتل عثمان،
لأبي اليمن بن عساكر بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه....... قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف، فانقطعت شسعه، فقلت: يا رسول الله، ناولني أصلحه، فقال:"هذه أثرة ولا أحب الأثرة".
والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر إذا أعطى، والأثرة: والاستئثار وهو الانفراد بالشيء. قال: وكأنه كره صلى الله عليه وسلم أن ينفرد أحد عنه بإصلاح نعله، فيحوز فضيلة الخدم، فيكون له بمثابة الخادم، ويكون له صلى الله عليه وسلم ترفع المخدوم على خادمه، كره ذلك صلى الله عليه وسلم لتواضعه وعدم ترفعه على من يصحبه.
ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يمتهن نفسه في شيء، فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال:"قد علمت أنكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى.
ثم رأيت شيخنا في الأحاديث المشهورة حكى ذلك.
"قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف فانقطعت شِسْعه" بكسر المعجمة، وسكون المهملة: قبال نعله، "فقلت: يا رسول الله ناولني" بحذف المفعول الثاني، أي: ناولنيها "أصلحه" بضم الهمزة أي: الشسع، "فقال: "هذه" الحالة التي تفعلها عني "أثرة، ولا أحب الأثرة" والأثرة، بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر، إذا أعطي" وفي المصباح آثرته بالمد فضَّلته؛ واستأثر بالشيء استبدَّ به، والاسم الأثرة، مثال قصبة، "والأثرة والاستئثار، وهو الانفراد بالشيء، قال" أبو اليمن:"وكأنه كره صلى الله عليه وسلم أن ينفرد أحد عنه بإصلاح نعله، فيجوز" أن يحصل "فضيلة الخدم، فيكون له بمثابة الخادم، ويكون له صلى الله عليه وسلم ترفع المخدوم على خادمه"، واستأنف مجيبًا لم كره هذا، فقال:"كره ذلك صلى الله عليه وسلم لتواضعه، وعدم ترفعه على من يصحبه، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يمتهن" يستعمل "نفسه في شيء" يباشره بنفسه، "فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال:"قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى كلام أبي اليمن.
"ثم رأيت شيخنا" السخاوي في المقاصد الحسنة، "في الأحاديث المشهورة" على الألسنة، "حكى ذلك" فقال: حديث إن الله يكره العبد المتميز على أخيه لا أعرفه، ثم رأيت في جزء تمثال النعل الشريف، لأبي اليمن بن عساكر، في الكلام على الأثرة ما نصه، ويؤيده ما روي أنه أراد أن يمتهن، فذكره، فلا يعود اسم الإشارة على جميع ما نقله المصنف؛ إذ السخاوي إنما
وعن أبي قتادة: وَفَدَ وَفْدُ النجاشي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم، فقال له أصحابه: نحن نكفيك، قال:"إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم"، ذكره في الشفاء.
وفي البخاري عن أنس: كان الرجل يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كانوا أعطوه أو بعضه، وكان قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي تقول: كلّا والذي لا إله غيره لا نعطيكم وقد أعطانيها -أو كما قال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لك كذا"، وتقول كلا................
نقل أخره، كما رأيت، "وعن أبي قتادة" الأنصاري السلمي -بفتحتين- الحارث، ويقال: عمرو أو النعمان بن ربيع -بكسر الراء، وسكون الموحدة، بعدها مهملة- شهد أحد وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين، وقيل: ثمان وثلاثين، والأول أصح، وأشهر، قال:"وفد" أي قدم: "وَفْد" بسكون الفاء، اسم جمع بمعنى وافدين "النجاشي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم" بنفسه، تواضعًا منه وإرشادًا لغيره، "فقال له أصحابه: نحن نكفيك" خدمتهم، أي: نقوم عنك بذلك، فأبى، و"قال: "أنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم" أي: أجازيهم على إكرامهم لأصحابنا، ولا إكرام أعظم من تعاطيه أمورهم بنفسه؛ "ذكره" عياض "في الشفاء" وأخرجه ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل، عن أبي قتادة المذكور.
"وفي البخاري عن أنس: كان الرجل" من الأنصار؛ "يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات، حتى افتتح" أي: إلى أن افتتح "قريظة والنضير"، وفي رواية الكشميهني حين بدل حتى، والأول أوجه، قال الحافظ: حاصله أن الأنصار كانوا واسوا المهاجرين بنخيلهم لينتفعوا بتمرها، فلما فتح الله النضير، ثم قريظة؛ قسم في المهاجرين من غنائمهم، فأكثر، وأمرهم برد ما كان للأنصار لاستغنائهم عنه، ولأنهم لم يكونوا ملكوهم رقاب ذلك، كما قال:"وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله" بهمزة قطع مفتوحة، منصوب عطفًا على المنصوب السابق النخل، "الذي" رواية أبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر، ولغيرهم الذين "كانوا أعطوه، أو بعضه؛ وكان قد أعطاه أم أيمن، فجاءت" فيه حذف يوضحه رواية مسلم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيه، فجاءت "أم أيمن"، "فجعلت الثوب في عنقي، تقول: كلا والذي لا إله غيره، لا نعطيكم" أي: لا نمكنكم مما بيدي، وفي نسخة، لا أعطيكم، "وقد أعطانيها" الواو للحال، "أو كما قال" أنس: إشارة إلى شك وقع في اللفظ مع حصول المعنى، قال المصنف:"والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لك كذا"، وتقول: كلا،
والله، حتى أعطاها -حسبت أنه قال- عشر أمثاله. أو كما قال.
وإنما فعلت هذا أم أيمن لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤيدة وتمليكًا لأصل الرقبة، وأراد صلى الله عليه وسلم استطابة قلبها في استرداد ذلك، فلاطفها، وما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه صلى الله عليه وسلم وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ولا يخفى ما في هذا من فرط جوده وكثرة حلمه وبره صلى الله عليه وسلم.
وجاءته صلى الله عليه وسلم امرأة في عقلها شيء، فقالت: إن لي إليك حاجة، فقال:"اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك"، وفي رواية سلم: "حتى أقضي حاجتك،.............
والله حتى أعطاها".
قال سليمان بن طرخان: الراوي عن أنس "حسبت أنه" أي: أنسًا "قال: عشر أمثاله، أو كما قال" أنس. وفي مسلم حتى أعطاها عشرة أمثاله، أو قريبًا من عشرة أمثاله، قال الحافظ: وعرف بهذا أن معنى قوله: ولك كذا وكذا، أي: مثل الذي لك مرة، ثم شرع يزيدها مرتين ثلاثًا، إلى أن بلغ عشرة، "وإنما فعلت هذا أم أيمن؛ لأنها ظنَّت أنها كانت هبة مؤيدة؛ وتمليكًا لأصل الرقبة"، والواقع: إنها هبة للمنفعة فقط، ففيه مشروعية هبة المنفعة، دون الرقبة، فلم يكن لها امتناع، ولا أخذ بدل، "و" لكن "أراد صلى الله عليه وسلم استطابة قلبها، في استرداد ذلك، فلاطفها، وما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه صلى الله عليه وسلم وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ففيه منزلة أم أيمن، وهي أم أسامة بن زيد، وابنها أيمن، صحابيّ أسنّ من أسامة، استشهد بحنين، وعاشت أم أيمن بعده صلى الله عليه وسلم قليلًا، ولا يخفى ما في هذا من فرط جوده، وكثره حلم وبره صلى الله عليه وسلم".
"وجاءته صلى الله عليه وسلم إمرأة"، قال الحافظ: لم أقف على اسمها، وفي بعض الحواشي: إنها أم زفر ماشطة خديجة، ونزع فيه، وتردد البرهان في المقتفى، في أنها هي، أو غيرها؛ وجزم غيره بأنها هي، لكن نوزع، "كان في عقلها شيء" من الجنون، ولم يصرح به إشارة لخفته، وأنها لم تستغرق فيه، فإن لفظ شيء يشعر بالقلة، "فقالت: إن لي إليك حاجة" أي: لي حاجة أريد أن أنهيها إليك، وأعلمك بها، "فقال: "اجلسي" بصيغة المخاطبة من أمر الحاضر، "في أي سكك" طرق "المدينة شئت أجلس" بالجزم جواب الأمر "إليك"، أي: معك، فإلى بمعنى عند، وهذا الحديث في الصحيحين، "و" زاد في "في رواية مسلم "حتى أقضي حاجتك" ، قيل: ولعلها كانت تعقد بالطريق، لما في عقلها، فعبَّر عن إجابتها بذلك، أو أظهر كمال الاهتمام والاستعجال بقضاء حاجتها بهذا البيان، "فخلا معها في بعض الطريق، حتى فرغت من حاجتها" لأنه كان
فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها.
ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن أبي الحمساء -بالحاء المهملة المفتوحة والميم الساكنة وبالسين المهملة في آخره وهمزة ممدودة: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، فذكرته بعد ثلاث، فإذا هو في مكانه، فقال:"لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" رواه أبو داود.
وقال عبد الله بن أبي أوفى: كان عليه الصلاة والسلام لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة. رواه النسائي.
محرمًا لجميع النساء، قال بعض: وفيه إيماء وإرشاد إلى أنه لا يخلو أجنبي مع أجنبية، بل إذا عرضت حاجة يكون معها بموضع لا يتطرق فيه تهمة، ولا يظن به ريبة؛ لكونه بطريق المارة، وفيه حل الجلوس في الطريق لحاجة، وموضع النهي من يؤذي، أو يتأذَّى بقعوده فيها، وأنه ينبغي للحاكم المبادرة إلى تحصيل غرض أولي الحاجات، ولا يتساهل في ذلك "ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه صلى الله عليه وسلم" لبروزه للناس، وقربه، وصبره على المشاق لأجل غيره خصوصًا، امرأة في عقلها شيء.
"وقال عبد الله بن أبي الحمساء -بالحاء المهملة المفتوحة، والميم الساكنة، وبالسين المهملة في آخره، وهمزة ممدودة- العامري، سكن البصرة، وقيل: إنه ابن أبي الجدعاء، قال في الإصابة: والراجح أنه غيره، "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم" أي: بعت له شيئًا "قبل أن يبعث، وبقيت له" أي: لذلك المبيع "بقية" لم تسلم له، "فوعدته أن آتيه بها في مكانه" أي: في مكان وقع فيه البيع؛ "فنسيت" الوعد، فذكرته بعد ثلاث" أي: أيام، ولم يقل ثلاثة لحذف المعدود، فيجوز تذكيره مع المذكور، وتأنيثه مع المؤنث، فجئته "فإذا هو" مستقر "في مكانه" لم يفارقه، "فقال:" "يا فتى، لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" ففيه وفاؤه بعهده، ووعد من قبل البعثة، "رواه أبو داود" منفردًا به عن الكتب الستة؛ وأخرجه البزار من طريق عبد الكريم بن عبد الله بن سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي الحمساء، "وقال عبد الله بن أوفى" -بفتح الهمزة، والفاء، بينهما واو ساكنة- واسمه علقمة، صحابي، ابن صحابي، "كان عليه الصلاة والسلام لا يأنف" لا يستكبر، "أن يمشي مع الأرملة" المرأة التي لا زوج لها؛ "والمسكين" بكسر الميم، لغة جميع العرب، إلّا بني أسد، فبفتحها من السكون؛ لسكونه إلى الناس، "فيضي له الحاجة، رواه النسائي".
وفي رواية البخاري: إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، وفي رواية أحمد: فتنطلق به في حاجتها، وعند أيضا: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.
والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الانقياد.
وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة؛ وحيث عمَّم بلفظ الإماء، أي: أي أمة كانت، أي: كانت، وبقوله: حيث شاءت، أي: من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرُّف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست مساعدتها في تلك الحالة لساعدها على ذلك، وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم.
ودخل الحسن وهو يصلي قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ في...............................................
"وفي رواية البخاري" في باب الكبر من كتاب الأب، عن أنس قال:"إن" أي: أنه "كانت" رواية أبي ذر عن الكشميهني ولغيره، بحذف إن، كما بينه المصنف، "الأَمَة" أيّ أَمَة كانت، وأسقط البخاري من إماء المدينة، "لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت"، وبقية هذه الرواية: ويجيب إذا دعي، "والمقصود من الأخذ باليد لازمه، هو الانقياد، وقد اشتمل" الحديث الذي رواه البخاري، وأحمد معًا، وقصره على الثاني لا وجه له؛ إذ لا ريب أن سياق البخاري اشتمل "على أنواع من المبالغة، في التواضع لذكره، والمرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة" بقوله: إن كانت الأمة، "وحيث عمَّم بلفظ الإماء، أي: أي أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أي: من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست مساعدتها في تلك الحالة، لساعدها على ذلك" بالخروج معها، "وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم" ومن ثَمَّ أورده البخاري في باب الكبر، إشارة إلى براءته منه، "ودخل الحسن" السبط، "وهو" صلى الله عليه وسلم "يصلي، قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ ف سجوده حتى نزل الحسن، فلمَّا فرغ، قال له بعض أصحابه: يا رسول الله، قد أطلت
سجوده حتى نزل الحسن، فلمَّا فرغ، قال له بعض أصحابه: يا رسول الله، قد أطلت سجودك. قال:"إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله". أيّ جعلني كالراحلة فركب على ظهري.
وكان عليه الصلاة والسلام يعود المرضى، ويشهد الجنازة. أخرجه الترمذي في الشمائل.
وحجَّ عليه الصلاة والسلام على رحل رثٍّ وعليه قطيفة لا يساوي أربعة دراهم.........
سجودك! قال: "إن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله"، أي: جعلني كالراحلة، فركب على ظهري".
"وكان عليه الصلاة والسلام يعود المرضى" الشريف، والوضيع، والحر، والعبد، حتى عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه، فقعد عند رأسه، فقال له:"أسلم" فنظر إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول:"الحمد لله الذي أنقذه من النار" رواه البخاري عن أنس، وعاد عمَّه أبا طالب، وهو مشرك، وعرض عليه الإسلام، وقصته في الصحيحين، وعدت العيادة تواضعًا مع أن فيها رضا الله، وحيازة الثواب، ففي الترمذي، وحسَّنه مرفوعًا، "من عاد مريضًا ناداه مناد، طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا"، ولأبي داود:"من توضأ، فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبًا، بُوعِدَ من جهنم سبعين خريفًا" إلى غير ذلك، لما فيها من خروج الإنسان عن مقتضى جاهه، وتنزهه عن مرتبته إلى ما دون ذلك، "ويشهد الجنازة" أي: يحضرها للصلاة عليها، هبها لشريف أو وضيع، فيتأكد التأسي به، وآثر قوم العزلة، ففاتهم خير كثير، "أخرجه الترمذي في الشمائل" من حديث أنس، "وحجَّ عليه الصلاة والسلام كما رواه ابن ماجه، والترمذي في الشمائل، والبيهقي عن أنس، قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم "على رحل" بالفتح، أي: راكبًا عليه، وهو للجمل، كالسرج للفرس، "رث" بمثلثة، بالٍ خَلِق، "وعليه" أي: على الرحل، كما هو أنسب بالسياق، ويؤيده قوله في رواية أخرى، على رحل وقطيفة، فأفادت أن ضمير عليه ليس للمصطفى، "قطيفة" كساء خمل، "لا يساوي" أي: لا يسع ثمنها "أربعة دراهم"، وفي رواية: كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، قال المصنف: وفيه مسامحة، والتحقيق أنها لا تساويها، كما في هذه الرواية، وزعم تعدد القصة ممنوع؛ إذ لم يحج إلا مرة واحدة، انتهى.
وذلك لأنه في أعظم مواطن التواضع؛ إذ الحج حالة تجرد وإقلاع، وخروج من الموطن
فقال: "اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة".
وكان إذا صلَّى الغداة جاءه خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلَّا غمس يده فيه، فربما جاءه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. رواه مسلم والترمذي.
وكان عليه الصلاة والسلام حسن العشرة مع أزواجه، وكان عليه الصلاة والسلام ينام مع أزواجه.
سفر إلى الله، ألا ترى ما فيه من الإحرام؟ ومعناه: إحرام النفس من الملابس، تشبيهًا بالفارين إلى الله، والتذكير بالموقف الحقيقي، "فقال:"اللهم اجعله حجًّا" بفتح الحاء، وكسرها، "لا رياء فيه" لا عمل لغرض مذموم، كان يعمل ليراه الناس، "ولا سمعة" لا عمل ليسمع الناس، ويصير مشهورًا به، فيكرم، ويعظم جاهه في قلوبهم، فتضرع صلى الله عليه وسلم إلى الله، وسأله عدم الرياء والسمعة، مع كمال بعده عنهما، تخشعًا، وتذللًا، وعدًّا لنفسه كواحد من الآحاد من عظيم تواضعه؛ إذ لا يتطرق ذلك إلا لمن حجَّ على مراكب نفيسة، وملابس فاخرة، وأغشية محبرة، وأكوار مفضَّضة، هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم أهدى في هذه الحجة مائة بدنة، وأهدى أصحابه ما لا يسمح به أحد، ومنهم عمر، أهدى فيما أهدى بعيرًا، أعطى فيه ثلثمائة دينار، فأبى قبولها، "وكان إذا صلَّى الغداة" أي: الصبح، "جاءه خدم" أهل "المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيه" للتبرك بيده الشريفة، "فربما جاءه في الغداة الباردة، فينغمس يده فيها"، ولا يمتنع لأجل البرد، من مزيد لطفه، وتواضعه، "رواه مسلم، والترمذي" وأحمد من حديث أنس، وفيه بروه للناس، وقربه منهم؛ ليصل كل ذي حق لحقه، وليعلم الجاهل ويقتدي بأفعاله، وكذا ينبغي للأئمة بعده، والحديث رواه أيضًا أبو نعيم في الدلائل، عن أبي أنس كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس لطفًا، والله ما كان يمتنع في غداة باردة، من عبد ولا أمة تأتيه بالماء، فيغسل وجهه وذراعيه، وما سائل قط إلّا أصغى إليه، فلا ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد يده قط إلا ناوله إياها، فلا ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه.
"وكان عليه الصلاة والسلام حسن العشرة مع أزواجه" جمع زوج، أي: امرأة؛ لأن اللغة الفصحة زوج، بلا هاء، وبها جاء القرءان في نحو {وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} حتى بالغ الأصمعي، فقال: لا تكاد العرب تقول زوجه بالهاء، وهذا تفصيل، لما قدمه إجمالًا، لأنه إذا كان حسن العشرة مع غيرهن، فمعهن أولى، "وكان عليه الصلاة والسلام ينام مع أزواجه" في فراش واحد،
قال النووي: وهو ظاهر فعله الذي واظب عليه مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فينام مع إحداهن، فإذا أراد القيام لوظيفته قام فتركها، فيجمع بين وظيفته وأداء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف.
وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته في فراش واحد أفضل، لا سيما إن عرف من حالها حرصها على هذا، ولا يلزم من نومه معها الجماع والله أعلم.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها. رواه الشيخان.
وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب. رواه مسلم.
وإذا تعرقت عرقًا -وهو العظم الذي عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها.................
والمراد مع الواحدة منهن، ولو كانت حائضًا، كما في حديث ميمونة عن البخاري، "قال النووي: وهو ظاهر فعله الذي واظب عليه" فيه إشعار؛ بأنَّه قد يعرض له غير هذه الحالة لعذر، "مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فينام مع إحداهن" التي هي صاحبة النوبة، "فإذا أراد القيام لوظيفته، قام فتركها" راقدة في الفراش، "فيجمع بين وظيفته" من قيام الليل، "وأداء حقها المندوب، وعشرتها بالمعروف" إذ هو خير من امتثل:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] الآية، "وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته في فراش واحد أفضل" من النوم كل في فراش، فتركه مكروه، لا حرام؛ إذ القصد الإنس، لا الجماع ونحوه، "لا سيما إن عرف من حالها، حرصها على هذا" فيتأكد الاستحباب، "ولا يلزم من نومه معها الجماع" فلا يؤخذ منه ندبه كل ليلة، "والله أعلم".
"وقد كان عليه الصلاة والسلام يسرّب" من التسريب، بالمهملة، وهو الإرسال والتسريح، أي: يرسل "إلى عائشة بنات الأنصار" واحدة بعد أخرى، "يلعبن معها"؛ لأنها كانت صغيرة، "رواه الشيخان، وإذا شربت" عائشة "من الإناء، أخذه، فوضع فمه على موضع فمها وشرب" إشارة إلى مزيد حبه لها، "رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقًا" بفتح العين المهملة، وإسكان الراء، "وهو العظم الذي عليه اللحم، أخذه، فوضع فمه على موضع فمها" قال في النهاية: العرق، بالفتح، والسكون: العظم إذ أخذ عنه معظم اللحم، وعرقت اللحم وأعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك، وفي المصباح: عرقت العظم عرقًا من باب قتل، أكلت ما عليه من اللحم، فجعله
رواه مسلم أيضًا.
وكان يتكئ في حجرها، ويقبّلها وهو صائم. رواه الشيخان.
وكان يريها الحبشة وهم يلعبون في المسجد وهي متكئة على منكبة، رواه البخاري. ورواه الترمذي، بلفظ: قام صلى الله عليه وسلم، فإذا حبشة تزفن والصبين حولها، فقال: يا عائشة تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت، فجعلت أقول: لا، لا. وقال: حسن صحيح غريب.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته، ثم سابقها فسبقها، فقال:"هذه بتلك".........
مصدرًا، والمصنف اسما، وعليه، فهو مجاز؛ إذ المصدر، لا يتصور وضع الفم عليه، فيكون المعنى أخذ المعروق، فالضمير راجع إليه، بمعنى اسم المفعول، لكن في القاموس: العرق العظم بلحمه، فإذا أكل لحمه، فعراق كغراب، وعليه فإطلاق العرق حقيقي، "رواه مسلم أيضًا" من حديثها:"وكان يتكئ في حجرها، ويقبلها، وهو صائم. رواه الشيخان" عنها، وروى الأئمة الستة عنها، كان يُقَبِّلُ النساء وهو صائم، وبه تعلق الظاهرية، فجعلوا القبلة سنَّة للصائم، وقربة من القرب، وكرهها الجمهور، وردوا على أولئك؛ بأنه كان يملك إربه، كما صرَّحت به عائشة عند الشيخين بلفظ، وكان أملكهم لإربه، وأيما كان لا يفطر إلا بإنزال، "وكان يريها الحبشة، وهم يلعبون" بحرابهم، للتدريب على مواقع الحرب، والاستعداد، ولذا جاز "في المسجد"؛ لأنه من منافع الدين "وهي متكئة على منكبه" ولعله أراها لعبهم لتضبطه، وتعلمه، فتنقله بعد الناس، "رواه البخاري" من حديثها.
"ورواه الترمذي بلفظ: قام صلى الله عليه وسلم فإذا حبشة" أي: جماعة من الحبشة "تزفن" بفتح الفوقية، وسكون الزاي، وكسر الفاء، وبالنون، ترقص، "والصبيان حولها" ينظرون إليها "فقال:"يا عائشة تعالى فانظري"، فجئت، فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر إليها" أي: الحبشة: "ما بين المنكب إلى رأسه" أي: ورأسه، فإلى بمعنى الواو، أي: حالة كون لحيي موضوعًا عليه، ما بين منكبه ورأسه، "فقال لي:"أما شبعت أما شبعت؟ " من رؤيتهم، "فجعلت أقول: لا لا" بالتكرار، "وقال" الترمذي "حسن صحيح غريب" بمعنى: تفرَّد به الراوي، وهو ثقة، فيجامع الصحة والحسن، "وروي أنه صلى الله عليه وسلم سابقها" في سفر، "فسبقته" لخفة جسمها بقلة اللحم، "ثم سابقها" بعد ذلك في سفر آخر، وقد سمنت، "فسبقها، فقال" مطيبًا
رواه أبو داود بلفظ: سبقتها في سفر فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني قال:"هذه بتلك السبقة".
وعن أنس بن مالك: أنهم كانوا يومًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، ثم أتي بصحفة من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضعوا أيديكم، فوضع نبي الله صلى الله عليه وسلم يده ووضعنا أيدينا فأكلنا، وعائشة تصنع طعامًا عجَّلته قد رأت الصحفة التي أتي بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته ورفعت صفحة أم سلمة فكسرتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلوا بسم الله، غارت أمكم"، ثم أعطى صحفتها أم سلمة، فقال:"طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء". رواه الطبراني في الصغير.
لخاطرها "هذه بتلك" روى الإمام أحمد عنها: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية، لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس:"تقدَّموا" فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته، فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم، وبدنت وسمنت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس:"تقدموا"، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"أسابقك"، فسبقني، فجعل يضحك، ويقول:"هذه بتلك"، "رواه أبو داود بلفظ: سابقته في سفر، فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم" صرت سمينة، كما قالت في الرواية الأخرى: وبدنت، بضم الدال، وفتحها، وسنت، "سابقته" في سفر آخر، "فسبقني، قال:"هذه بتلك السبقة" من مزيد لطفه حتى لا تتشوش.
"وعن أنس بن مالك: إنهم كانوا يومًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، ثم أتي بصحفة" إناء، كالقصعة المبسوطة، ونحوها، جمعها صحاف، "من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ضعوا أيديكم" للأكل، فوضع نبي الله صلى الله عليه وسلم يده، ووضعنا أيدينا، فأكلنا، وعائشة تصنع طعامًا عجَّلته" أسرعت به، والحال أنها "قد رأت الصحفة التي أتي بها" من بيت أم سلمة، "فلمَّا فرغت من طعامها، جاءت به فوضعته، ورفعت صفحة أم سلمة، فكسرتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحفة عائشة: "غارت أمكم" هي، كأسرة الصحفة عائشة أم المؤمنين، وأبعد الداودي، فقال: هي سارة زوج الخليل، وأنه أراد، لا تعجبوا مما وقع من هذه من الغيرة، فقد غارت تلك قبلها، ورد مع بعده؛ بأن المخاطبين ليسوا من أولاد سارة؛ إذ ليسوا من بني إسرائيل، "ثم أعطى صحفتها أم سلمة، فقال:"طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء". "رواه الطبراني في الصغير" وعزاه في الفتح، والمقدمة له في الأوسط.
وهو عند البخاري بلفظ: كان صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول:"غارت أمكم" ، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت.
وعند أحمد وأبو داود والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعامًا مثل
"وهو" أي: حديث أنس "عند البخاري" في المظالم، والأطعمة، "بلفظ كان صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه" هي عائشة، كما في الترمذي وغيره، ولا خلاف في ذلك، "فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين" صفية، رواه أبو داود والنسائي، من حديث عائشة، أو حفصة، رواه الدارقطني من حديث أنس، وابن ماجه عن عائشة، أو أم سلمة.
رواه الطبراني في الأوسط عن أنس، وإسناده أصح من إسناد الدارقطني، وساقه بسند صحيح، وهو أصح ما ورد في ذلك، ويحتمل التعدد، وحكى ابن حزم في المحلَّى أن المرسلة زينب بنت جحش، ذكره الحافظ، وتبعه المصنف في جزم السيوطي بالأخير، شيء "بصحفة" لفظ البخاري في الأطعمة، ولفظه في المظالم بقصعة، بفتح القاف "فيها طعام" أي: حيس، كما في المحلَّى لابن حزم، وتأتي رواية يلتقط اللحم، فيحتمل أن اتحدت القصة، أنه كان فوق الحيس، قال الشاعر:
التمر والسمن جميعًا والأقط
…
الحيس إلّا أنه لم يختلط
مع خادم، "فضربت التي النبي" صلى الله عليه وسلم "في بيتها" هي عائشة على جميع الأقوال، "يد الخادم" لم يسم، قاله الحافظ، "فسقطت الصحفة، فانفلقت، جمع صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام، الذي كان في الصحفة، ويقول" مبديا لعذرها: "غارت أمكم" عائشة، "ثم حبس الخادم" منعه من العود إلى سيدته التي أرسلته، "حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة" التي، لا كسر فيها "إلى" الخادم ليوصلها إلى "التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت" عقابًا لها، فإن قيل: القصعة متقوّمة، فكيف ضمنها بالمثل، لا بالقيمة، أجاب البيهقي؛ بأن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت زوجيته. فعاقب الكاسرة بجعل المكسورة في بيتها، وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها، ولم يكن هناك تضمين.
"وعند أحمد، وأبي داود، والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعامًا" حسنًا، "مثل
صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء من طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: "إناء كإناء وطعام كطعام". وعند غيرهم: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتقط اللحم والطعام وهو يقول:"غارت أمكم"، فلم يثرب عليها.
فوسع خلقه الشريف آثار طفحات آثار غيرتها، ولم يتأثر، وقضى عليها بحكم الله في التقاصّ. وهكذا كانت أحواله عليه الصلاة والسلام مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس العدل إقامة من غير قلق ولا غضب، بل رءوف رحيم، حريص عليهن وعلى غيرهن، عزيز عليه ما يعنتهم.
قيل: وفي هذا الحديث إشارة إلى عدم مؤاخذة.....
صفية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وهو في بيتي "إناء من طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته" أي: الإناء، ثم رجعت إلى نفسي، وندمت، "فقلت: يا رسول الله ما كفارته، قال:"إناء كإناء، وطعام كطعام" ، ففي هذه الرواية أن المرسِلَة صفية، فيخالف رواية الطبراني أنها أم سلمة، إن لم تحمل على التعدد، "وعند غيرهم، فأخذت القصعة" بفتح القاف، "من بين يديه، فضربت بها، وكسرتها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتقط اللحم والطعام، وهو يقول: "غارت أمكم" عائشة، فلا تلوموها، "فلم يثرب" بضم التحتية، وفتح المثلثة، وكسر الراء ثقيلة، أو بفتح، فسكون، فكسر، "عليها" أي: لم يلمها، ولم يعبها، "فوسع خلقه الشريف" وفي نسخة: الكريم، "آثار" أي: شدائد، "طفحات آثار" حرارة "غيرتها" بفتح الغين المعجمة، فأطلق الطفح لذي هو امتلاء الإناء حتى يفيض على شدة الغيرة مجازًا، "ولم يتأثر" من فعلها ذلك بحضوره، وحضور أصحابه، لمزيد حلمه، وعلمه بما تؤدي إليه الغيرة، "وقضى عليها بحكم الله في التقاص" أي: العقاب، بجعل المكسورة عندها، ودفع الصحيحة لضرتها، فكأنه قاصصها، فأطلق التقاص مجازًا عن ذلك، وإلا فكلاهما له، كما مرَّ عن البيهي.
"وهكذا كانت أحواله عليه الصلاة والسلام مع أزواجه، لا يأخذ عليهنَّ، ويعذرهن" بكسر الذال، برفع عنهن اللوم،، "وإن اقام عليهن قسطاس" ميزان "العدل" مبالغة، أي: يفعل ذلك مع العدل بينهن، "إقامة" مصدر مؤكَّد "من غير قلق، ولا غضب" كما هو الواقع من غيره كثيرًا، وهذا أولى من جعل أن شرطًا جوابها إقامة، لما لا يخفى، "بل" هو "رءوف" شديد الرحم "رحيم" يريد الخير، "حريص عليهن، وعلى غيرهن" أن يهتدوا، "عزيز" شديد "عليه ما يعنتهم" بكسر النون، أي: عنتهم، أي: مشقتهم، ولقاؤهم المكروه، "قيل: وفي هذا الحديث
الغَيْرَى فيما يصدر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعًا: إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه. انتهى.
وعن عائشة رضي الله عنها: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة -والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت لها؛ كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطِّخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع فخذه لها وقال لسودة: لطِّخي وجهها، فلطَّخت بها وجهي، فضحك صلى الله عليه وسلم. الحديث رواه ابن غيرن من حديث الهاشمي، وأخرجه الملاء في سيرته.
إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى، فيما يصدر" يقع "منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا، بشدة الغضب الذي أثارته" حركته، "الغيرة" -بفتح المعجمة وسكون التحتية وراء- مصدر غار، مشتقة من تغيِّر القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون بين الزوجين، "وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به، عن عائشة مرفوعًا أن" المرأة "الغيرى" يقال: امرأة غيور، وغيرى، "لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه" فقد تهلك بسبب ذلك، وقد كتب الله ذلك عليهن. روى البزار، والطبراني عن ابن مسعود: كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه؛ إذ أقبلت امرأة عريانة، فقام إليا رجل، فألقى عليها ثوبًا، وضمَّها إليه، فتغيِّر وجهه صلى الله عليه وسلم، فقال بعض جلسائه: حسبها امرأته، فقال صلى الله عليه وسلم:"أحسبها غيرى، إن الله كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمن صبر منهن كان له أجر شهيد" انتهى.
"وعن عائشة رضي الله عنها: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخزيرة" بخاء، وزاي معجمتين، فياء، فراء، فتاء تأنيث "طبختها له، وقلت لسودة" أم المؤمنين، "والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين، أو لألطخنَّ بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة، فلطخت بها وجهها" بالتخفيف، وتشديد مبالغة، "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع فخذه لها، وقال لسودة: لطِّخي وجهها" قصاصًا، "فلطَّخت بها وجهي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث، رواه ابن غيلان من حديث الهاشمي، وأخرجه الملاء" بفتح الميم، وشد اللام، والإمام الزاهد عمر الموصلي "في سيرته" كان إمامًا عظيمًا ناسكًا، يملأ من بئر بجامع الموصل احتسابًا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يعتمد قوله، ويقبل شهادته، ذكره الشامي في فضائل آل البيت من سيرته، "والخزيرة: اللحم يقطع صغارًا، ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر
والخزيرة: اللحم يقطع صغارًا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق.
وبالجملة؛ فمن تأمَّل سيرته عليه الصلاة والسلام مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والأضياف والمساكين، علم أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه الغاية التي لا مرمى وراءها لمخلوق. وإن كان يشتد في حدود الله وحقوقه ودينه، حتى قطع يد السارق، إلى غير ذلك.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يباسط أصحابه بما يولج حبه في القلوب، كان له رجل من البادية يسمى زهيرًا، وكان يهادي النبي صلى الله عليه وسلم بموجود البادية، بما يستطرف منها، وكان صلى الله عليه وسلم يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها،..................................
عليه الدقيق،" ويأتي فيه للمصنف كلام طويل في الأكل النبوي، "وبالجملة، فمن تأمَّل سيرته عليه الصلاة والسلام مع أهله، وأصحابه، وغيرهم من الفقراء، والأيتام، والأرامل والأضياف، والمساكين، عَلِمَ أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه، الغاية التي لا مرمى وراءها لمخلوق" أي: لا يصل أحد بعده إليها، "وإن كان يشتد في حدود الله، وحقوقه، ودينه، حتى قطع يد السارق إلى غير ذلك" كحد الزاني، "وقد" للتحقيق، "كان صلى الله عليه وسلم يباسط" يلاطف "أصحابه" بالقول والفعل، "بما يولج" يدخل "حبه في القلوب" تطمينًا لهم، وتقوية لإيمانهم، وتعليمًا لهم أن يباسطوا بعضهم بعضًا؛ لأنهم إذا رأوا ذلك من أكمل الخلق، وأفضلهم، وقد علموا قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، اطمأنَّت قلوبهم على فعل ذلك مع بعضهم.
"كان له رجل من البادية يسمى زهيرًا" الذي في الشمائل، وغيرها زاهرًا، وكذا بخط ابن الجوزي، والشامي، وفي الإصابة زاهر بن حرام الأشجعي، قال ابن عبد البر: شهد بدرًا، ولم يوافق عليه، وقيل: إنه تصحف عليه؛ لأنه وصف بكونه بدويًّا حرام والده، يقال: بالفتح، والراء، ويقال: بالكسر والزاي، ووقع في رواية عبد الرزاق بالشك، انتهى.
فإن صحَّت رواية بتصغيره، أمكن أنه خوطب تحببًا، وملاطفة، واسمه الأصلي زاهر، وفي رواية أحمد، وغيره، وتصغيره على أزيهر، "وكان يهادي النبي صلى الله عليه وسلم" أي: يهدي، فالمفاعلة مستعملة في أصل الفعل، لأنه علق مهاداته "بموجود البادية"، أي: ما يوجد حسنًا، من ثمارها، وزهورها، "بما يستطرف" بالطاء المهملة، يستملح "منها" بدل مما قبله؛ لأن موجودها حسن، وغيره، "وكان صلى الله عليه وسلم يهاديه، ويكافئه" عطف علة على معلول، أي: يهاديه مكافأة له على هديته، "بموجود الحاضرة، وبما يستطرف منها" كذا في نسخ، بواو عطف التفسير، وفي نسخة بلا واو
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "زهير باديتنا، ونحن حاضرته"، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فمشى صلى الله عليه وسلم يومًا إلى السوق فوجده قائمًا، فجاء من قبل ظهره وضمَّه بيده إلى صدره، فأحس زهير بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجعلت أمسح ظهري في صدره رجاء بركته.
وفي رواية الترمذي في الشمائل: فاحتضنه من خلفه ولا يبصره، فقال أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يشتري..............
على البدل، "وكان صلى الله عليه وسلم يقول:"زهير باديتنا" أي: ساكنها، وإذا تذكرناها سكن قلبنا برؤيته، أو نستفيد منه ما يستفيده الرجل من باديته من أنواع الثمار، وصنوف النبات، فكأنه صار باديتنا، وإذا احتجنا متاع البادية جاء به لنا، فأغنانا عن السفر إليها، فالتاء على هذه الوجوه للتأنيث؛ لأنه الأصل، ويحتمل أن التاء للمبالغة، أي: بادينا، كما ورد، كذلك، قيل، وهو أظهر، أو المراد حقيقتها التي هي خلاف الحاضرة، ويحتمل أنه من إطلاق اسم المحل، وهو البادية على الحال، وهو ساكنها، "ونحن حاضرته" أي: يصل إليه منا ما يحتاج إليه، مما في الحاضرة، أو لا يقصد بمجيئه إلى الحضر إلا مخالطتنا، وتوقّف بعض في الأول؛ بأن المنعم لا يليق به ذكر إنعامه، منع؛ بأنه ليس من ذكر المنّ بالأنعام في شيء، بل إرشاد إلى مقابلة الهدية بمثلها، أو أفضل.
"وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فمشى صلى الله عليه وسلم يومًا إلى السوق" لحاجته، لا لمحبته، فهو توطئة لقوله:"فوجده قائمًا" يبيع متاعه، "فجاءه من قِبَل" بكسر ففتح، جهة "ظهره" تفريع على قوله يحبه، "وضمَّه بيده إلى صدره، فأحسَّ زهير بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: أدرك ذلك بطريق من الطرق، "قال: فجعلت أمسح ظهري في صدره رجاء"، حصول "بركته، وفي رواية الترمذي في الشمائل" من طريق ثابت عن أنس؛ أن رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه"؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يبيع متاعه، "فاحتضنه" أي: أدخله في حضنه، وهو ما دون الإبط إلى الكشح بزنة فِلس، ما بين الحاضرة إلى الضلع "من خلفه" أي: جاء من ورائه، وأدخل يده تحت إبطي زاهر، فاعتنقه، "ولا يبصره" جملة حالية، "فقال: أرسلني من هذا" أي: خلني، وأطلقني، "فالتفتّ" سقط من بعض نسخ الشمائل، "فعرف النبي" القياس، فعرف أنه النبي "صلى الله عليه وسلم، فجعل، لا يألوا" لا يترك، ولا يقصر، "ما" مصدرية، "ألصق ظهره" أي: لا يقصر في إلصاق ظهره، "بصدر النبي صلى الله عليه وسلم" تبركًا، وتلذذًا، وتحصيلًا لثمرات ذلك الإلصاق، من الكمالات الناشئة عنه "حين عرفه" كرره اهتمامًا بشأنه، وإيماء إلى أن منشأ هذا الإلصاق ليس إلا معرفته، "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
العبد"، فقال له زهير: يا رسول الله، إذن تجدني كاسدًا، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أنت عند الله غالٍ"، وفي رواية الترمذي أيضًا: "لكن عند الله لست بكاسد، أو قال: أنت عند الله غال".
وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم أن رجلًا كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتبسم، ويأمر به فيعطى.
ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم: وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا...........
"من يشتري العبد" أي: من يشتري مثله في الدمامة، أو يستبدله مني؛ بأن يأتي بمثله، فلما فعل ذلك معه ملاطفة، نزله منزلة العبد، أو من يقابل هذا العبد، الذي هو عبد الله بالإكرام، والتعظيم، أو أراد التعريض له؛ بأنه ينبغي أن يشتري نفسه من الله، ببذلها فيما يرضيه، وفيها تكلف.
"فقال له زهير: يا رسول الله إذن" أي: إذا بعتني "تجدني كاسدًا" رخيصًا، لا يرغب فيَّ أحد لدمامتي، وقبح منظري، فأذن جواب شرط محذوف، ويجوز أن أذن للظرفية، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة، أي: إذا كنت عبدًا تبيعني، لكن هذا قليل، فلذا اقتصر الشراح على ما قبله، "فقال له صلى الله عليه وسلم:"أنت عند الله غال" بغين معجمة، رفيع القدر عنده، وإن كسد في الدنيا لقبح منظره، ومن أول قوله، فقال له زهير: أتى به من الرواية الأولى التي لم يعزها، ثم عاد لرواية الشمائل، فقال:"وفي رواية الترمذي أيضًا" بقية الرواية السابقة، فقال: يا رسول الله إذن، والله تجدني كاسدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لكن عند الله لست بكاسد، أو" شك من الراوي، "قال:"أنت عند الله غال" ببركة محبته صلى الله عليه وسلم، فالصورة، لا يلتفت إليها؛ "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم""وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم" العدوي، مولى عمر المدني، ثقة، عالم، من رجال الجميع، كان يرسل "أن رجلًا" هو عبد الله، الملقَّب بحمار، بلفظ الحيوان المعروف، كما في الإصابة عن أبي يعلى نفسه، "كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم العكة من السمن" تارة، "والعسل" أخرى، ويحتمل أنهما مخلوطين، كما هو شأن العرب كثيرًا، "فإذا جاء صاحبه يتقاضاه" أي: يطلبه، "جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أعط هذا متاعه" أي: ثمنه، كما في الرواية اللاحقة، "فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتبسم" تعجبًا، "ويأمر به، فيعطى" لثمن.
"ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم" الأنصاري، المدني له رؤية، وليس له سماع إلّا من الصحابة، قتل يوم الحرة، سنة ثلاث وستين، "وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا
اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول:"ألم تهده لي"، فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح..........
اشترى منها" فليست هديته قاصرة على السمن والعسل، "ثم جاء، فقال: يا رسول الله هذا أهديته لك" أي: حملته لك، كما تحمل الهدية، فلا يرد كيف يطلب ثمنه بعد قوله ذلك، "فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به، فيقول: أعط هذا الثمن، فيقول" صلى الله عليه وسلم:"ألم تهده لي؟ " استفهام تقرير، "فيقول: ليس عندي" ما أهديه، وإنما أتيت به، أريد ثمنه لمالكه، "فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه" هكذا مشاه شيخنا، وهو خلاف الظاهر، ولذا قال بعض المحققين من شراح الشمايل: كان هذا الصحابي رضي الله عنه، من كمال محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، كلما رأى طرف أعجبته اشتراها، وآثره بها، وأهداها إليه على نية أداء ثمنها، إذا حصل لديه، فلما عجز صار، كالمكاتب، فرجع إلى مولاه، وأبدى إليه جميع ما أولاه، فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فرجع بالمطالبة إلى سيده، ففعله هذا جد حق ممزوج بمزاح صدق، انتهى.
وقع نحو ذلك للنعيمان بالتصغير، ابن عمرو بن رفاعة الأنصاري، ذكر الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة، والمزاج، كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمنه، أحضره إلى النبي، فيقول: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول:"أولم تهده لي؟ "، فيقول: أنا والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه، "وكان صلى الله عليه وسلم يمزح" لأن الناس مأمورون بالتأسي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك الطلاقة والبشاشة ولزم العبوس؛ لأخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة، من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا، قاله ابن قتيبة، وقال الخطاب: سئل بعض السلف عن مزاحه صلى الله عليه وسلم فقال: كانت له مهابة، فلذا كان ينبسط للناس بالدعابة، قال: وأنشد ابن الأعرابي في نحو هذا يمدح رجلًا:
يتلقَّى الندى بوجه صبيح
…
وصدور القنا بوجه وقاح
فبهذا وزاد تتم المعاني
…
طرق الجد غير طرق المزاح
ولا يخالف هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليست من دَدِ، ولا الدد مني" أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي عن أنس، والطبراني في الكبير عن معاوية، ودد -بفتح الدال الأولى، وكسر الثانية- أي: لست من أهل اللعب واللهو، ولا هما مني، وقد رواه الطبراني أيضًا، والبزار، وابن عساكر، عن أنس بزيادة:"ولست من الباطل، ولا الباطل مني"، لأن المنفي ما كان بباطل،
ولا يقول إلا حقًّا. كما روى أبو هريرة، وقد قال له رجل كان فيه بله: يا رسول الله احملني، فباسطه عليه الصلاة والسلام من القول بما عساه أن يكون شفاءً لبلهه بعد ذلك، فقال:"أحملك على ابن الناقة". فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوة، فقال: يا رسول الله، ما عسى أن يغني عني ابن الناقة، فقال صلى الله عليه وسلم:"ويحك، وهل يلد الجمل إلا الناقة"، روى الحديث الترمذي وأبو داود.
وباسط عمته صفية..........
ومجرد لهو ولعب مجرد، وهو في مزاحه صادق، كما قال:"ولا يقول إلّا حقًّا" فلا ينافي الكمال حينئذ، بل هو من توابعه وتتماته، لجريه على القانون الشرعي، فمن زعم تناقض الحديثين من الفرق الزائغة فقد ضلَّ، "كما روى أبو هريرة" قال: قالوا يا رسول الله: إنك تداعبنا، قال:"إني لا أقول إلا حقًّا" أخرجه الترمذي وغيره. "وقد قال له رجل كان فيه بله" أي: عدم اهتمام بأمر الدنيا، وتأمَّل في معاني الألفاظ، حتى حمل الكلام على المتبادر، من أن المراد بالبنوة الصغير، فليس صفة ذم هن، فهو كقوله في الحديث:"أكثر أهل الجنة البلة" أي: في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها، وهم أكياس في أمر الآخرة، وللبلة إطلاقات، منها هذا، وعدم التمييز، وضعف العقل، والحمق؛ وسلامة الصدر، ولكل مقام مقال، "يا رسول الله احملني" على دابة، "فباسطه عليه الصلاة والسلام من القول: بما" أي: شيء "عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك" والظن، بل الجزم أنه حصل له الشفاء بتلك المداعبة، "فقال: "أحملك" خبر مبتدأ محذوف، أي أنا أحملك، بدليل رواية الترمذي، وأبي داود: إني حاملك "على ابن الناقة، فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه، البنوة، فقال: يا رسول الله ما عسى أن يغنى عني ابن الناقة" أنثى الإبل، ولا تسمَّى ناقة حتى تجزع، "فقال صلى الله عليه وسلم:"ويحك، وهل يلد الجمل إلا الناقة؟ " فلو تدبرت، وتأملت اللفظ، لم تقل ذلك، ففيه مع المباسطة، الإيماء إلى إرشاده وإرشاد غيره؛ أنه إذا سمع قولًا يتأمله، ولا يبادر برده، إلّا بعد أن يدرك غوره، ولا يسارع إلى ما تقتضيه الصورة.
"روى حديثه الترمذي" وصححه، "وأبو داود" وأحمد، والبخاري في الأدب، عن أنس: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله، فقال:"إني حاملك على ولد الناقة"، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: "وهل يلد الإبل إلا النوق؟ " وجاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله احملني على بعير، فقال:"احملوها على ابن بعير" فقالت: ما أصنع به، وما يحملني يا رسول الله؟ فقال:"هل تجيء بعير إلّا ابن بعير؟ " فتعددت الواقعة بالنسبة للرجل والمرأة، وأما الخطاب بقوله:"أحملك على ابن الناقة"، وأنا أحملك وفي رواية: أنا حاملوك، فلرجل واحد، والخلف اللفظي من الرواة، فبعضهم باللفظ، وبعضهم بالمعنى، لا لتعدد الواقعة، لاتحاد المخرج، "وباسط عمته
وهي عجوز فقال لها: "إن الجنة لا يدخلها عجوز"، فلما جزعت فقال لها:"إنك تعودين إلى صورة الشباب في الجنة"، وفي رواية الترمذي عن الحسن. أتته صلى الله عليه وسلم عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال:"يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز"، قال: فولت تبكي فقال: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35، 36] " وذكره رزين.
صفية" بنت عبد المطلب، أم الزبير، مما نقله صاحب المورد عن خط بعض المحدثين.
وقال غيره: إنه سمعه من مشايخ الحديث، وتوقَّف فيه بعضهم، فقال: الله أعلم بصحته، ففي حديث عائشة عند البيهقي، أتت خالتي، "وهي عجوز" وصفية ليست خالة عائشة، قلت: إن صح ما قالوه، فسمتها خالتها إكرامًا وتعظيمًا لسنها، على العادة في تسمية المسنَّة خالة، لا لكونها أخت أمها حقيقة، "فقال لها:"إن الجنة لا يدخلها عجوز" فلما جزعت" بكسر الزاي، "قال لها: "إنك تعودين إلى صورة الشباب في الجنة" فلا تجزعي، فإنما هذا مباسطة، وهي حق، "وفي رواية الترمذي عن الحسن" أي: البصري؛ لأنه المراد عند الإطلاق، وبه صرح شراح الشمايل، ولم يقع في متنها نعته بالبصري، حتى ظنَّ بعض من كتب عليها؛ أنه ابن علي، وليس، كما ظن.
"أتته صلى الله عليه وسلم عجوز، فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال: "يا أم فلان" نسي الراوي اسمها، وما أضيف إليه، فكنَّى عنه بما يكنَّى به الأعلام، "إن الجنة لا يدخلها عجوز" كأنه فهم من حالها، إنها تريد دخولها على صفتها، حالة السؤال، فمازحها مريدًا إرشادها إلى خلاف ما في وهمها، الذي لا يطابق ما سيقع، "قال: فولت" ذهبت أو أعرضت "تبكي" حال من فاعل ولت، أي: ذهبت حال كونها باكية، فقال: "أخبروها" أعلموها "أنها لا تدخلها" جملة سدت مسد ثاني وثالث مفعول أخبر، وضمير لا تدخلها، وما بعد أما إليها، أو إلى العجوز المطلقة، والأول أقرب، "وهي عجوز" مسنة، ولا تؤنث بالهاء، قاله ابن السكيت، وقال ابن الأنباري: سمع تأنيثه، أي: لا تدخلها، والحا أنها موصوفة بهذه الصفة، واستشهد على ذلك تطييبًا لخاطرها، فقال: "إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} [الواقعة: 35] الآية" أي: النسوة، أي: أعدنا إنشاءهن {إِنْشَاءً} خاصًّا، وخلقناهن خلقًا غير خلقهن، وتفسير الآية بالجور، وإن كان مقتضى سياق القرآن يرده هذا الحديث، {فَجَعَلْنَاهُنَّ} بعد كونهن عجائز شمطاء مصافي الدنيا، {أَبْكَارًا} عذارى، وإن وطئت كثيرًا، فكلما أتاها الرجل وجدها بكرًا، كما ورد في الأثر، ولكن لا دلالة للفظ عليه، "وذكره رزين" بن معاوية، العبدري،
وكان عليه الصلاة والسلام يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويؤنسهم.
ويأخذ معهم في تدبير أمورهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، وهو مع ذلك سره في الملكوت يجول حيث أراد الله به.
والدعابة -بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد الألف موحدة: هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره.
وقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة؛ قالوا: إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلَّا حقًّا.
السرقسطي، ورواه الترمذي، أيضًا، وابن الجوزي، موصولًا عن أنس: إن عجوزًا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ومازحها به: "لا يدخل الجنة عجوز"، وحضرت الصلاة، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فبكت بكاء شديدًا، حتى رجع، فقالت عائشة: يا رسول الله إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها، لا يدخل الجنة عجوز، فضحك، وقال:"أجل لا يدخل الجنة عجوز، ولكن الله تعالى قال: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35] الآية "، وهن العجائز الرمص، ولا تنافي بين روايتي وصله وإرساله؛ لأن الحسن حدَّث به مرسلًا تارة بإسقاط أنس، وتارة وصله بذكر أنس، وقد رواه الطبراني في الأوسط من وجه آخر، من حديث عائشة:"وكان عليه الصلاة والسلام يمازح أصحابه" بالقول والفعل، للملاطفة، "ويخالطهم، ويحادثهم" تأنيسًا لهم، وجبرًا لقلوبهم، ولا ينفرهم، "ويأخذ معهم" أي: يشاركهم "في تدبير أمورهم، ويداعب" بدال مهملة، "صبيانهم، ويجلسهم في حجره" بكسر الحاء، وفتحها، كما فعل مع أم قيس؛ إذ أتته بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه، "وهو مع ذلك سره في الملكوت، يجول" بالجيم، "حيث أراد الله، والدعابة -بضم الدال، وتخفيف العين المهملتين، وبعد الألف موحدة: هي الملاطفة في القول بالمزاح -بضم الميم، وبالزاي: اسم مصدر من مزح مزحا، ومزاحة، وبكسر الميم مصدر مازح، كما في المصباح "وغيره" كالمداعبة الفعلية، كمجه في وجه محمود، واحتضانه زاهرًا، "وقد أخرج الترمذي، وحسنه من حديث أبي هريرة" قال:"قالوا:" أي: الصحابة مستفهمين، "إنك تداعبنا" -بدال وعين، تمازحنا بما يستملح، وقد نهيت عن المزاح، فهل المداعبة خاصة بك؟ "قال:"إني لا أقول إلا حقًّا" فمن حافظ على قول الحق، وتجنب الكذب، وأبقى المهابة والوقار فله، ومن داوم عليها، أو أكثر منها، أو اشتمل مزحه على كذب، أو أسقطت مهابته، فلا".
وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في النهي عن المداعبة محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين وغير ذلك.
والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب -كما كان هو فعله عليه الصلاة والسلام فهو مستحب.
وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم حزينًا فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره، فقال......................................................
"وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في النهي عن المداعبة" كقوله: "لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه" رواه الترمذي "محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن التفكر في مهمات الدين، وغير ذلك"، كقسوة القلب؛ وكثرة الضحك، وذهاب ماء الوجه، بل كثيرًا ما يورث الإيذاء، والحقد، والعداوة، وجراءة الصغير على الكبير؛ وقد قال عمر: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به. أسنده العسكري، ولذا، قيل:
فإياك إياك المزاح فإنه
…
يجري عليك الطفل والرجل الذلا
ويذهب ماء الوجه من كل سيد
…
ويورثه من بعد عزته ذلا
"والذي يسلم من ذلك" بأن لا يؤدي إلى حرام، ولا مكروه، "هو المباح" المستوي الطرفين على الأصح، "فإن صادف" المباح "مصلحة؛ مثل تطييب نفس المخاطب، كما كان هو فعله عليه الصلاة والسلام، فهو مستحب" وقضيته أنه لا يقترن به ما يصيره واجبًا، ولو قيل: إن تعيِّنَ طريقًا لدفع حرام لم يبعد وجوبه، ذكره شيخنا، وقال غيره: ما سلم من المحذور فهو بشرطه مندوب لا مباح؛ إذ الأصل في أفعاله وأقواله وجوب أو ندب الاقتداء به فيها إلا لمانع، ولا مانع هنا.
"وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا" -بضم الخاء المعجمة، أتى به توطئة لقوله:"وكان لي أخ" من أمِّه، أم سليم، "يقال له أبو عمير" بضم العين، وفتح الميم، ابن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وكان اسمه عبد الله، فيما جزم به أبو أحمد الحاكم، أو حفص، كما عند ابن الجوزي، ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسلم عن أنس أن ابنًا لأبي طلحة مات، فذكر قصة موته، وأنها قالت لأبي طلحة هو أسكن مما كان: وبات معها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"بارك الله لكما في ليلتكما"، فأتت بعبد الله ابن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن عبد الله الفقيه، وأخوته كانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم؛ "وكان له نغر يلعب" يتلهى "به، فمات، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم حزينًا، فقال: "ما شأنه"، قالوا:
له: "يا أبا عمير ما فعل النغير"، رواه البخاري ومسلم. وفي رواية الترمذي قال أنس: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي: "يا أبا عمير ما فعل النغير".
قال الجوهري: النغير: تصغير نغر، والنغر جمع النغرة وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران مثل صرد وصردان.
وقد كان ألقى عليه مع الدعابة والمهابة،........
مات نغرة، فقال له:"يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " ملاطفة وتأنيسًا له وتسلية، وفيه جواز تكنية من لم يلد له، وتكنية الطفل، وأنه ليس كذبًا، وجواز المزح فيما ليس بإثم، وجواز السجع في الكلام الحسن بلا كلفة، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان عليه المصطفى من حسن الخلق، وكرم الشمائل والتواضع.
"رواه البخاري" في الأدب وغيره، "ومسلم" في الصلاة والاستئذان، وفضائل النبي، والترمذي في الصلاة، وابن ماجه في الأدب، "وفي رواية الترمذي" وكذا البخاري في الأدب، بهذا اللفظ أيضًا، ومسلم، فما أدري لم هذا التوهُّم من المصنّف، "قال أنس: إن" مخففة من الثقيلة، بدليل دخول اللام في خبرها، أي: إنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا" بالملاطفة، وطلاقة الوجه، والمزاح، قاله المصنف، وقال غيره: ليخالطنا يمازحنا، ففي القاموس: خالطه مازحه، والمراد أنس، وأهل بيته، "حتى" انتهت مخالطته لأهلنا كلهم حتى الصبي، والمداعبة معه، والسؤال عن طيره، "يقول لأخ لي" من أمي: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " أي: ما شأنه وحاله، فباسطه بذلك ليسليه حزنه عليه، كما وشأن الصغير إذا فقد لعبته، فيفرح بمكالمة المصطفى ويرتاح بها ويفتخر؛ ويقول لأهله: كلمني وسألني، فيشتغل باغتباطه بذلك عن حزنه، فيسلي ما كان، وقد أكثر الناس من استنباط الأحكام من ذا الحديث، وزاد أبو العباس بن القاص من الشافعية، على مائة أفردها في جزء.
"قال الجوهري: النغير تصغير نغر" بزنة رطب، "والنغر جمع النغرة، وهو طائر صغير، كالعصفور" وقيل فراخ العصافير، قال عياض: والراجح أنه طائر أحمر المنقار، وأهل المدينة يسمونه البلبل، وفي رواية قالت أم سليم: ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال:"يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ""والجمع نغران مثل صرد" ميزان النغر، "وصردان" ميزان نغران، وقضية هذا، أنه بصيغة كونه جمعًا يطلق على الطائر، وفيه خلاف، فعلى عدم إطلاقه، فضمير وهو طائر للنغير المصغَّر، "وقد كان ألقي عليه مع الدعابة المهابة" العظمة في النفوس والإجلال، والمخافة على خلاف مقتضى حال المداعب، فإن المداعبة قد تكون سببًا لسقوطه من العيون.
ولقد جاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل فقام بين يديه، فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له:"هوّن عليك، فإني لست بملك ولا جبار، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة"، فنطق الرجل بحاجته، فقام صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس، إني أوحي إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد الله إخوانًا".
"ولقد جاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل" لحاجة يذكرها له لقوله الآتي، فنطق بحاجته، "فقام بين يديه، فأخذته رعدة شديدة" -بفتح الراء، وكسرها- كما في القاموس، واقتصر المصباح على الكسر، وهي اضطراب قوي، "ومهابة" أي: مخافة، عطف سبب على مسبب، والمهابة تكون بمعنى العظمة والخوف، وهو المراد هنا، "فقال له:"هوّن عليك" خَفِّف عن نفسك هذا الخوف، وأزله منك، ولا تجزع مني، "فإني لست بملك" أي: متصور بصورة الملوك، بل أنا عبد الله، "ولا جبار" أخبر الناس على ما أردته منهم؛ من فعل، أو ترك عطف لازم على ملزوم، "إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" اللحم المقدد "بمكة"، فنطق الرجل بحاجته؛ فقام صلى الله عليه وسلم لما رأى تواضعه مع الرجل، سكن روعه، حتى تمكن من عرض حاجته عليه، أمرهم بالتواضع، وبين أنه بالوحي، فقال:"يا أيها الناس إني أوحي إلي" وحي، إرسال، لا إلهام، كما زعم، لأنه خلاف الأصل والظاهر، بلا دليل "أن تواضعوا" أي: تواضعكم أي: أمركم به، "ألا فتواضعوا" بخفض الجناح ولين الجانب، "حتى لا يبغي" لا يجوز، ولا يتعدى "أحد" منكم "على أحد" ولو ذميًّا، أو معاهدًا، أو مؤمنًا؛ وحتى هنا بمعنى كي، كما قال الطيبي: فهو علة للتواضع، فيكون طريقًا لترك البغي والعدي، "ولا يفخر" بمعجمة، لا يتعاظم، "أحد على أحد" بتعداد محاسنه كبرًا، ورفع قدره على الناس تيهأ وعجبًا.
قال ابن القيم: والتواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق، حتى لا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل، ويرى الحق لذلك الأحد؛ "وكونوا" يا "عباد الله" فهو منادى، يحذف الأداة والخبر "إخوانًا" لا عبادًا لله؛ إذ هم عباده، فالقصد كونهم إخوانًا، قال المجد بن تيمية: نهى الله على لسان رسوله عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهما البغي والفخر؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، أو بغير حق، فقد بغى، فلا يحل هذا ولا هذا، فإن كان إنسان من طائفة فاضلة، كبني هاشم، فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه والنظر إليها، فإنه مخطئ؛ إذ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، قرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، ثم هذا النظر يوجب بغضه وخروجه عن الفضل؛ فضلًا عن استعلائه واستطالته بهذا.
فسكَّن عليه الصلاة والسلام روعه شفقة، لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية بقوله:"فإني لست بملك"، لما يلزمها من الجبروتية، وقال:"أنا ابن امرأة تأكل القديد"، تواضعًا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة.
ولما رأته عليه الصلاة والسلام قبلة بنت مخرمة في المسجد، وهو قاعد القرفصي، أرعدت من الفرق. رواه أبو داود.
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، والحاكم من حديث أبي مسعود البدري، والحاكم أيضًا من حديث جرير، "فسكن عليه الصلاة والسلام روعه" بالفتح، خوفه وفزعه، "شفقة؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية" أي: الوصف بكونه من الملوك، "بقوله:"فإني لست بملك"، لما يلزمها من الجبروتية" التكبر والافتخار، ولم يقل والجبرية، للإشارة إلى أنه من عطف اللازم على الملزوم، كما مَرَّ، "وقال: "أنا ابن امرأة" فنسب نفسه إليها، ولم يقل رجل، زيادة في شدة التواضع، وتسكين الروع، لما علم من ضعف النساء، ووصفها بأنها "تأكل القديد"، تواضعًا، لأنَّ القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة" فكأنه قال: إنما أنا ابن امرأة مسكينة، تأكل مفضول الأكل، فكيف تخاف مني؟ "ولما رأته عليه الصلاة والسلام قبلة" بفتح القاف، وسكون التحتية، ولام، "بنت مخرمة" بفتح الميم، وإسكان المعجمة، التميمية، ثم من بني العنبر، هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولها حديث طويل فصيح، شرحه أهل الغريب، وقصة طويلة "في المسجد" بعد صلاة الصبح، "وهو قاعد القرفصي" مثلثة القاف، والفاء مقصورة، والقرفصاء بضم القاف، والراء على الاتباع أن يجلس على البنية، ويلصق خذيه ببطنه، ويحتبي بيديه؛ يضعهما على ساقيه، أو يجلس على ركبتيه منكبًّا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبط كفيه، قاله القاموس:"أرعدت من الفرق" -بفاء وراء مفتوحين وقاف: الخوف والفزع.
"رواه أبو داود" والترمذي، والبخاري في التاريخ، عنها في حديثها الطويل، وروى ابن سعد، وابن جرير، والطبراني، وابن منده، عنها: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متخشعًا في الجلسة، وهو قاعد القرفصاء، أرعدت من الفرق، فقال جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال صلى الله عليه وسلم: ولم ينظر إليّ، وأنا عند ظهره:"يا مسكينة عليك السكينة" ، فلما قالها أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرعب، ومتخشعًا، بضم الميم، وفوقية، فمعجمة مفتوحتين، فمعجمة، فمهملة من الخشوع، وهو الانقياد، والطاعة.
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ملأت عيني منه قط حياء منه وتعظيمًا له، ولو قيل لي صفة لما قدرت، أو كما قال.
وإذا كان هذا قوله وهو من جملة أصحابه، ولولا أنه عليه الصلاة والسلام كان يباسطهم ويتواضع لهم ويؤنسهم، لما قدر أحد منهم أن يقعد معه، ولا أن يسمع كلامه، لما رزقه الله تعالى من المهابة والجلالة. يبين ذلك ويوضحه ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من ركوع الفجر حدث عائشة إن كانت مستيقظة، وإلّا اضطجع بالأرض ثم خرج بعد ذلك للصلاة، وما ذاك إلّا أنه عليه الصلاة والسلام لو خرج على تلك الحالة التي كان عليها، وما حصل له من القرب والتداني.............................................
"وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص" القرشي، السهمي، الصحابي، ابن الصحابي، "قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم" صحبة طويلة، وسمعت منه أحاديث كثيرة، وحفظت عنه ألف مثل، ومع ذلك "ما ملأت عيني منه قط، حياء منه، وتعظيمًا له، ولو قيل لي صفه" بجميع أوصافه، "لما قدرت"، فلا ينافي أنه وصفه ببعضها، "أو كما قال" عبد الله، شك الراوي، هل قال هذا اللفظ، أو معناه، "وإذا كان هذا قوله، وهو من جلة أصحابه" -بكسر الجيم، وشد اللام- جمع جليل، ويجمع أيضًا على أجلاء، قال المجد: قوم جلة بالكسر، عظماء سادة ذوو أخطار، وجواب إذا، محذوف، أي: فما بال بغيره، "ولولا أنه عليه الصلاة والسلام كان يباسطهم، ويتواضع لهم، ويؤنسهم، لما قدر أحد منهم أن يقعد معه، ولا أن يسمع كلامه، لما رزقه الله تعالى من المهابة، والجلالة" عطف تفسير "يبين" يظهر "ذلك ويوضحه" بعد ظهوره، أي: يكشف حقيقة أمره، "ما روي أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا فرغ من ركوع الفجر" أي: صلاة ركعتيه قبل الصبح، "حدَّث عائشة إن كانت مسيقظة، وإلا اضطجع بالأرض"، وهذا إذا كان ببيتها، لأنه كان يقسم، وحجر نسائه متصلة بالمسجد، فلا يأتي له مع القسم أن يتحدث معها بعد كل فجر، ثم يحتمل أنه كان يحدث من هو عندها، ولم ينقل، لأنهن لم يحدثن به، ويحتمل أن لا يحدث، ويقتصر على الاضطجاع، وفي الصحيحين عن عائشة: كان إذا صلى ركعتي الفجر، اضطجع على شقه الأيمن، "ثم خرج بعد ذلك للصلاة، وما ذاك إلّا أنه عليه الصلاة والسلام كان يتهجد ليلًا ويشتغل بما يقربه من الله، فيظهر عليه حاله حتى يظن أنه ليس من البشر، "فلو خرج على تلك الحالة التي كان عليها، وما حصل له من
في مناجاته وسماع كلام ربه وغير ذلك من الأحوال التي يكل اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه ولا يباشره، فكان عليه الصلاة والسلام يتحدث مع عائشة أو يضطجع بالأرض حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة أو من جنس أصل الخلقة التي هي الأرض. ثم يخرج إليهم، وما كان إلا رفقًا بهم، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} . قال ابن الحاج في المدخل.
وقد جاء في الحديث أنه لما خُيِّرَ بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فنظر عليه الصلاة والسلام إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، فاختار عليه الصلاة والسلام العبودية، فلما كان تواضعه إلى الأرض؛ حيث أشار جبريل أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفيق الأعلى، إلى حضرة قاب قوسين أو أدنى،........................................
القرب، والتداني، في مناجاته وسماع كلام ربه، وغير ذلك من الأحوال، التي يكل" بكسر الكاف، "اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه، ولا يباشره، فكان عليه الصلاة والسلام يتحدث مع عائشة، أو يضطجع بالأرض" للتنويع، كما علم، "حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة" التي هي بشر، "أو من جنس أصل الخلقة، التي هي الأرض، ثم يخرج إليهم" ليتمكن الناس من مخالطته، والتكلُّم معه، "وما كان" يفعل ذلك "إلا رفقًا بهم {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] الآية. كما قال تعالى وصفًا لذاته العليا في سورة الأحاب، وهو من صفات المصطفى أيضًا، كما قال تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] الآية.
"قال ابن الحاج في المدخل" كتاب نفيس، "وقد جاء في الحديث أنه لما خُيِّر" على لسان إسرافيل، "بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فنظر" جواب، لما أدخل المصنّف عليه الفاء على عادته، وهو قليل "عليه الصلاة والسلام إلى جبريل، كالمستشير له" لأنه يجب الاستشارة، "فنظر جبريل إلى الأرض، يشير إلى التواضع" لأن تركه طلب للرفعة المنهي عنها، وفي التواضع يعظم غيره، حتى كأنه نزل نفسه منزلة الملصق بالأرض، ثم الإشارة ليست بمجرد نظر الأرض، بل مع الإشارة باليد، ففي رواية، فأشار إلى جبريل بيده أن تواضع، فقلت: نبيًّا عبدًا.
"فاختار عليه الصلاة والسلام العبودية، فلمَّا كان تواضعه إلى الأرض؛ حيث أشار جبريل، أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفيق الأعلى، إلى حضرة قاب" قدر "قوسين، أو أدنى" أقرب من ذلك قرب مكانة لإمكان، لتنزهه سبحانه عنه، وخص القوسين؛ لأنهم كانوا إذا
وقف بين يديه محمود بن الربيع، وهو صغير ابن خمس سنين، فمج عليه الصلاة والسلام في وجهه مجَّة من ماء من دلو يمازحه بها، فكان في ذلك من البركة أنه لما كبر لم يبق في ذهنه من ذكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم إلا تلك المجة، فعد بها من الصحابة، وحديثه مذكور في البخاري من طريق الزهري عنه.
ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة وهو في مغتسله، فنضح الماء في وجهها، فكان في ذلك من البركة في وجهها أنه لم يتغير، فكان ماء الشباب ثابتًا في وجهها ظاهرًا في رونقها وهي..............
أرادوا إيقاع صلح، أو عهد بينهم، يقف أحد المتصالحين تجاه الآخر، وفي يد كل منهما قوس يمده إلى صاحبه، بحيث يتلاقيان، "ووقف بين يديه محمود بن الربيع"، بن سراقة بن عمرو بن زيد الأنصاري الخزرجي، وزيادة ابن عبد البر من بني عبد الأشهل، ذهول؛ لأنهم من الأوس، وهذا من الخزرج، قيل: من بني الحارث بن الخزرج، وقيل: من بني سالم بن عوف، "وهو صغير ابن خمس سنين" كما في البخاري عنه، قال في الفتح: وذكر عياض في الألماع وغيره: إن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع، ولم أقف على هذا صريحًا في شيء من الروايات بعد التتبع التام، إلّا إن كان ذلك مأخوذًا من قول صاحب الاستيعاب، أنه عقل المجة، وهو ابن أربع، أو خمس، وكان الحامل له التردد، قول الواقدي أنه مات ابن ثلاث وتسعين، والأول أولى بالاعتماد لصحة سنده، على أن قول الواقدي: يمكن حمله إن صح على أنه ألقي الكسر، وجبره غيره، وقال في الإصابة: أكثر روايته عن الصحابة، وأمه جميلة بنت أبي صعصعة، ومات سنة تسع وتسعين، وكأنه مأخوذ من رواية الطبراني عنه، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس سنين.
"فمجَّ عليه الصلاة والسلام في وجهه مجة من ماء" من بئر "من دلو" في رداهم "يمازحه بها، فكان في ذلك" المجّ "من البركة، أنه لما كبر لم يبق في ذهنه من ذكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم إلّا تلك المجة، فعدّ بها" بسبب تذكرها، وروايتها "من الصحابة" الراوين عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا من الصحابة الذين رأوه، بلا رواية، "وحديثه مذكور" أي: مروي "في البخاري، من طريق الزهري، عنه" إلّا: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين من دلو، "ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة" من أبي سلمة بن عبد الأسد، المخزومية، حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنه، وعن أزواجه، أمها وعائشة، وأم حبيبة، وغيرهن، وعنها جماعة، وكانت فقيهة عالمة، "وهو في مغتسلة، فنضح الماء في وجهها، فكان" حصل "في ذلك من البركة في وجهها، أنه لم يتغيّر، فكان ماء الشباب ثابتًا في وجهها، ظاهرًا في
عجوز كبيرة. وحديثها مذكور في البخاري.
فقد علمت أنه عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه وأهله، ومع القريب والغريب من سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه، والمزح مع الصغير والكبير أحيانًا، وإجابة الداعي، ولين الجانب، حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه.
وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبًا أو مستحبًّا أو مباحًا، فكان يباسط الخلق ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته من ظلمات دياجي الجهل، ويقتدوا بهديه صلى الله عليه وسلم.
رونقها" أي: حسنها وبهجتها، "وهي عجوز كبيرة" ولدت بالحبشة، وماتت سنة ثلاث وسبعين، وكان دخولها عليه بإشارة أمها، قال في الإصابة: روينا في الخلعيات، عن عطاف بن خالد، عن أمه، عن زينب بنت أبي سلمة، قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل يغتسل، تقول أمي: أدخلي عليه، فإذا دخلت نضح في وجهي، ويقول: "ارجعي"، قالت أم عطاف: فرأيت زينب، وهي عجوز كبيرة، ما نقص من وجهها شيء، وفي رواية، ذكرها أبو عمر: فلم يزل ماء الشباب في وجهها، حتى كبرت وعمرت، "وحديثها مذكور في البخاري".
"فقد علمت أنه عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه، وأهله، ومع القريب والغريب،" على غاية "من سعة الصدر" يفتح السين على الأشهر، وحكى كسرها، "ودوام البشر" بكسر، فسكون، "وحسن الخلق" بالضم "والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه، والمزح مع الصغير والكبير أحيانًا" إذا اقتضاه المقام، "وإجابة الداعي" ولو عبدًا، "ولين الجانب، حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه" وقد وقع ذلك لعمرو بن العاص، "وهذا الميدان" بفتح الميم، وكسرها، محل تسابق الفرسان، والمراد هنا الحالة التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم مع الخلق، شبهها بالميدان، لشدة اتساعها وسهولتها، واستعار لها لفظه، "لا تجد فيه لّا واجبًا، أو مستحبًّا، أو مباحًا، فكان يباسط الخلق، ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته، من ظلمات دياجي الجهل" أي: من ظلم ليالي الجهل، أو من ظلمات هي دياجي الجهل، ففي القاموس: دياجي الليل حنادسه، والحندس، بالكسر: الليل المظلم، فيمكن أن إضافة دياجي إلى الجهل من إضافة الموصوف إلى صفته، أي: الجهل الذي هو كالليل المظلم، "ويقتدوا بهديه صلى الله عليه وسلم" هكذا في النسخ الصحيحة، ليستيضيئوا ويقتدوا، وفي نسخة، بالنون فيهما، والصواب حذفها، وادَّعى البعض أنها لغة قليلة.
وكانت مجالسته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم عامَّتها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والمواعظ الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدِّين، كما أمره الله تعالى أن يذكِّر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشِّر وينذر، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقَّة القلوب، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، كما ذكره أبو هريرة مما رواه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه قال: قلنا يا رسول الله: ما لنا إذا كنَّا عندك رقَّت قلوبنا وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهلنا وشممنا أولادنا وأنكرنا أنفسنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة في........................................................
"وكانت مجالسته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم عامَّتها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن" وهو مشتمل على الثلاثة، "أو بما آتاه الله تعالى من الحكمة، والمواعظ الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين، كما أمره الله تعالى أن يذكر" في نحو: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] الآية. "ويعظ" في نحو قوله: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} الآية. "ويقص"{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] الآية. "وأن يدعو إلى سبيل الله" ربه، دينه بقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] الآية. القرآن "والموعظة الحسنة" مواعظ القرآن، أو القول الرقيق، "وأن يبشر" في نحو:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} الآية. "وينذر" نحو: {قُمْ فَأَنْذِرْ} الآية، "فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقَّة القلوب، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة" حتى قال ابن مسعود: ما كنت أظن أحدًا من الصحابة يريد الدنيا، حتى نزل منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، "كما ذكره أبو هريرة مما رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، قال: قالنا يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك، رقت" لانت "قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا أهلنا، وشممنا" بكسر الميم، والفتح لغة، كما مرّ "أولادنا" بالإقبال عليها بالملاطفة والرفق، وتقبيل صغارهم، والشفقة عليهم، فأطلق الشم على ذلك مجازًا بتشبيه ما أدركوه من أولادهم بالرائحة الطيبة، ومخالطتهم لهم على هذا الوجه بالشم.
كذا حمله شيخنا، والأولى بقاؤه على حقيقته، "وأنكرنا أنفسنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي، كنتم على حالكم ذلك" الذي تكونون عليه عندي، إشارة إلى أن الدوام عليها عزيز، وإن عدمه لا يوجب معتبة لما طبع عليه البشر من المعتبة، "لزارتكم الملائكة في
بيوتكم. الحديث.
وقوله: عافسنا: بالعين المهملة وبعد الألف فاء فسين مهملة ساكنة -أي: عالجنا أهلنا ولاعبناهم.
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه ما عاب ذواقًا قط، ولا عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه رواه الشيخان.
بيوتكم" لفظ أحمد، والترمذي: "لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم" ، قال بعض العلماء: معناه، لو أنكم في معاشكم، وأحوالكم، كحالتكم عندي، لأظلتكم الملائكة، لأن حال كونكم عندي حال مواجيد، والذي يجدونه معه خلاف المعهود، إذا رأوا الأموال والأولاد، ومعه يرون سلطان الحق، ويشاهدونه، وترق أنفسهم لزوال سلطان الشهوة، ولم تصافحهم عنده؛ لأنها لم تكن حالتهم، بل حالة الحق، ولو كان ما يجدونه عنده حالهم، لكانت حالة ثابتة لهم هبة من الله، والله لا يرجع في هبة، ولا يسلب كرامته إلّا بالتقصير في واجباته، "الحديث" بقيته، "ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون، كي يغفر لهم"، وأخرجه أبو يعلى والبزار، برجال ثقات من حديث أنس بلفظ: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي، تكونون على الحال الذي تكونون عليها، لصافحتكم الملائكة بطرق المدينة"، وأخرج مسلم، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، عن حنظلة الأسيدي، أنه سأل نحو سؤال أبي هريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو كنتم تكونون في بيوتكم، على الحالة التي تكونون عليها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولأظلتكم بأجنحتها، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ، وقوله: "عافسنا، بالعين المهملة، وبعد الألف فاء، فسين مهملة ساكنة، أي: يعالجنا أهلنا ولاعبناهم" نحوه قول النهاية المعافسة، المعالجة، الممارسة، والملاعبة، "ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه ما عاب ذواقًا" أي مذوقًا "قط"، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، قال في الدرر: الذواق المأكول والمشروب، فعال بمعنى مفعول من الذوق، "ولا عاب طعامًا قط" سواء كان من صنع الآدمي أم لا، فلا يقول مالح نيء، ونحو ذلك، "إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه" واعتذر بأنه لم يكن بأرض قومه، كالضب، وهذا، كما قال ابن بطال من حسن الأدب، لأن المرء قد لا يشتهي الشيء ويشتهيه غيره، وكل مأذون فيه من جهة الشرع لا عيب فيه. انتهى.
ثم هو بمعنى ما قبله، ففي المصباح: الطعام يقع على كل ما يساغ حتى الماء، وذوق الشيء، "رواه الشيخان" البخاري في الصفة النبوية، والأطعمة، ومسلم في الأطعمة من حديث أبي هريرة، قال: ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، وفي رواية وإلا
وهذا إذا كان الطعام مباحًا، أمَّا الحرام فكان يعيبه ويذمّه وينهي عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إذا كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأنَّ صنعة الله تعالى لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. قال في فتح الباري: والذي يظهر: التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع.
قال النووي: ومن آداب الطعام المتأكد أن لا يعاب، كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج ونحو ذلك.
ومن تواضعه: إن هذه الدنيا شاع سبها في العالمين، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا الدنيا"، ثم مدحها فقال:"نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر"............
تركه، ولم يقع فيهما ما عاب ذواقًا قط، "وهذا إذا كان الطعام مباحًا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه" للمنع عنه شرعًا، لا من حيث ذاته، فقد يكون حسن المذاق والصنعة، "وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأن صنعة الله تعالى لا تعاب" فلذاكره ذمه، "وصنعة الآدميين تعاب" فلا يكره عيبه، "قال في فتح الباري: والذي يظهر التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع" بالنسبة للشق الثاني، الذي قال البعض بعدم كراهة ذمه، وأما الأول، فقد سلم كراهته، وعلَّله بأن صنعة الله لا تعاب، فالمعنى: أن للتعميم علتين، ذكر إحداهما هذا البعض، وفاتته الأخرى مع ظهورها بكسر قلب الصانع، وبهذا ظهر تعسف من قال: لا يصلح هذا دليلًا على التعميم، وإنما يناسب ما صنعه الآدميون، إلّا أن يقال ما لا صنع فيه للآدمي، كالفواك، يمكن عيبه من حيث زراعته، وخدمته، وقطعه قبل كمال نضجه، ونحو ذلك، فهو وإن كان إيجاده، إنما أيضًا فلله، لكن تدبيره وتهيئته للانتفاع به، يضاف للآدمي عادة، فذمه يكسر قلبه من هذه الجهة.
"قال النووي: ومن آداب الطعام المتأكدة" أي: الأمور المستحسنة المتعلقة به، "أن لا يعاب"؛ لأن المصطفى ما عاب طعامًا قط، ومعلوم الاقتداء به في أقواله، وأفعاله وغيرهما، فذكر هذا ليبين بعض أنواع العيب، "كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ" أي: ثخين "رقيق غير ناضج" أي: نيء، "ونحو ذلك" بالجر عطف على مدخول الكاف، فذكره إيضاح، "ومن تواضعه إن هذه الدنيا" ما بين السماء والأرض، "شاع سبها في العالمين" قديمًا وحديثًا، فنهى عن ذلك، "فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا الدنيا"، ثم مدحها فقال:"نعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر" ، فإن قيل ما وجه كون هذا من التواضع، مع أنه هضم النفس من
وقال: "لا تسبوا الدهر" رواه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: "ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر"، وفي لفظ له: "يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر،...................
الملكات، تتصاغر تواضعًا، وفي القاموس: تواضع لله ذلَّ وخشع، قلنا: لعل وجهه من جهة أن الذين يسبونها يظهرون الاستغناء عنها، وعدم الاعتبار بها، مع أنه خلاف الواقع، فمدحه صلى الله عليه وسلم لها، ونهيه عن سبها، فيه إظهار للمحقق من احتياج في فيها إليها، وقال:"لا تسبوا الدهر".
رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة، وزاد:"فإن الله هو الدهر"، وفي رواية:"فإن الدهو هو الله"، قال ابن الأثير: كان من شأن العرب أن تذم الدهر وتسبه عند النوازل والحوادث، ويقولون: أبادهم الدهر، وأصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، ويكثرون ذكره بذلك في أشعارهم، وذكره الله عنهم، فقال:{وَقَالُوا مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الآية، نموت ونحيى، وما يهلكنا إلا الدهر، والدهر اسم للزمان الطويل، وهذه الحياة الدنيا، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذم الدهر وسبه، أي: لا تسبّوا فاعل هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتموه وقع السب على الله؛ لأنه الفعال لما يريد، لا الدهر، فتقدير رواية:"فإن الدهر هو الله"، فإن جالب الحوادث ومتوليها هو الله لا غيره، فوضع الدهر موضع جالب الحوادث، لاشتهار الدهر عندهم بذلك، وتقدير رواية:"فإن الله هو الدهر"، فإن الله هو الجالب للحوادث، لا غيره الجالب، ردًّا لاعتقادهم أن جالبها الدهر. انتهى.
"رواه" الحديث لا بهذا اللفظ، فإنه رواية مسلم، كما علمت لا البخاري، نعم ترجم به "البخاري" وكذا مسلم أيضًا، كلاهما في كتاب الأدب "من حديث أبي هريرة، بلفظ "لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا خيبة الدهر" بالخاء المعجمة، والموحدة المفتوحتين، بينهما تحتية ساكنة، نصب على الندبة، كأنه فقد الدهر، لما يصدر عنه مما يكرهه، فندبه متفجعًا عليه، أو متوجعًا منه، وقال الداودي: هو دعاء عليه بالخيبة، كقولهم: قحَّط الله نواها، يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها، ثم صارت تقال لكل مذموم، وفي رواية لمسلم: وادهراه وادهراه، والخيبة الحرمان والخسران، قاله الحافظ وتبعه المصنف، وزاد: وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل. انتهى.
وقال الكرماني: خيبة بالنصب، مفعول مطلق، أي: لا تقولوا هذه الكلمة، أو لا تقولوا ما يتعلق بخيبة الدهر ونحوها، ولا تسبوه، "فإن الله هو الدهر" أي الفاعل، ما يحدث فيه، قال القاضي عياض: زعم بعض من لا تحقيق عنده، أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان الدنيا، "وفي لفظ له" للبخاري، وكذا مسلم أيضا، كلاهما في أدب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:"يسب بنو آدم الدهر"، وفي رواية "يؤذيني
بيدي الليل والنهار". وعند مسلم في حديث: "لا يسب أحدكم الدهر".
ابن آدم يسب الدهر"، قال القرطبي: معناه: يخاطبني من القول بما يتأذّى به من يجوز في حقه التأذي، والله منَزَّه عن أن يصل إليه الأذى، وإنما هذا التوسع في الكلام والمعنى، أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله، قال الحافظ: وهذا السياق مختصر، وقد رواه الطبري.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، هو الذي يميتنا ويحيينا، فقال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الآية، قال: فيسبون الدهر، قال الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر". قال الخطابي: معناه: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فمن سبَّ الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان جعل ظرفًا لمواقع الأمور، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر، فقالوا: بؤسًا للدهر، وتبًّا للدهر، وقال النووي: أنا الدهر، بالرفع في ضبط الأكثرين والمحققين، ويقال بالنصب على الظرف، أي: أنا باق أبدًا، والموافق لقوله: "فإن الله هو الدهر" الرفع، هو مجاز، وذلك لأنَّ العرب كانت تسب الدهر عند الحوادث، فقال: لا تسبوه فإن فاعلها هو الله، فإن سببتموه سببتموني، أو الدهر هنا بمعنى الداهر، فقد حكى الراغب أن الدهر في يسب بنو آدم الدهر، هو الزمان، وفي، فإن الله هو الدهر، المدبر المصرف لما يحدث، ثم استضعفه لعدم الدليل على، وبأنه لو كان كذلك لعد من أسماء الله، وكذا قال محمد بن داود الظاهري محتجًّا لروايته، بفتح الراء، بأنه لو كان بضمها لكان من أسماء الله، وتعقَّب بأن ذلك ليس بلازم، ولا سيما مع رواية، فإن الله هو الدهر.
قال ابن الجوزي: يصوّب ضم الراء من أوجه، أحدها: إن الضم رواية المحدثين، ثانيها: لو نصب صار، التقدير، فإنا لدهر أقلبه، فلا تكون على النهي عن سبه مذكورة؛ لأنه تعالى يقلّب الخير والشر، فلا يستلزم ذلك منع الذم، ثالثها: رواية: "فإن الله هو الدهر" انتهى.
وهذه الأخيرة لا تعين الرفع، لأن للمخالف أن يقول التقدير: فإن الله هو الدهر يقلبه لترجع للرواية الأخرى، وكذا ترك علة النهي لا يعين، لأنها تعرف من السياق، أي: لا ذنب له، فلا تسبوه. انتهى.
"بيدي الليل والنهار" وفي رواية أحمد "ولا تسبوا الدهر، فإن الله تعالى"، قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أحددها، وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك، "وعند مسلم في حديث:"لا يسب أحدكم الدهر".
قال في الفتح: ومعنى النهي عن سبه: إن من اعتقد أنه فاعل للمكروه فسبَّه أخطأ، فإن
ومحصل ما قيل في تأويله، ثلاثة أوجه:
أحدها: إن المراد بقوله: "إن الله هو الدهر"، أي: المدبر للأمور.
ثانيها: إنه على حذف مضاف. أي: صاحب الدهر.
ثالثها: التقدير: مقلب الدهر. ولذلك عقَّب في رواية البخاري: "بيدي الليل والنهار".
وقال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكن يكره له ذلك لتشبهه بأهل الكفر في الإطلاق.
الله هو الفاعل، فإذا سبه رجع إلى الله، قال:"ومحصل ما قيل في تأويله" لعدم جواز بقائه على ظاهره، "ثلاثة أوجه، أحدها: إن المراد بقوله: "إن الله هو الدهر"، أي: المدبر للأمور" ومنها جلب الحوادث ودفعها، "ثانيها: إنه على حذف مضاف، أي: صاحب الدهر" أي الخالق له؛ إذ هو مده زمان الدنيا كما قال القاضي عياض، "ثالثها": إنه أيضًا لكن "التقدير مقلب الدهر" بالإضافة، وعدمها "ولذلك عقب في رواية البخاري" المذكورة "بيدي الليل والنهار" أقلبهما كيف شئت، وأجددهما وأبليهما،"وقال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر"؛ لأنه ذهب مذهب الدهرية من الكفار المنكرين للصنع، زاعمين أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك النفوس، منكرين ملك الموت، وقبضه للأرواح بأمر الله، ويضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، وأشعارهم ناطقة بشكواه، ويعتقدون أن في كل ثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا، قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا القول، وكذبوا النقول، ووافقهم مشركوا العرب، وذهب إليه آخرون، لكنهم اعترفوا بوجود الصانع، الإله الحق عز وجل، إلا أنهم نزهوه أن تنسب إليه المكاره، فأضافوها إلى الدهر فنسبوه.
"ومن جرى على لسانه" بأن قصد النطق حالة كونه "غير معتقد، لذلك فليس بكافر، لكن يكره له ذلك، لتشبهه بأهل الكفر في الإطلاق" زاد في الفتح، وهذا نحو التفصيل في قولهم: مطرنا بنوء كذا، وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان لدنيا، وعرفه بعضهم؛ بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا، أو فعله، لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث، واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، وهو بنفسه حجة عليهم؛ لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم، ولا شيء عندهم، ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث:"أنا الدهر أقلبه ليله ونهاره"، فكيف يقلب الشيء نفسه، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، وقال ابن أبي جمرة:
وما خيِّر صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه. رواه البخاري.
أي بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم "فاعل" خُيِّرَ ليكون أعمّ، من قِبَلِ الله أو من قِبَلِ المخلوقين. وقوله: إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما: أي ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم، فإنه حينئذ يختار.............
لا يخفى أن من سب الصنعة، فقد سبَّ صانعها، فمن سب الليل والنهار، أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث؛ حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك.
وأما الحوادث، فمنها ما يجري بواسطة العاقل المكلَّف، فهذا يضاف شرعًا ولغة إلى الذي أجري على يديه، ويضاف إلى الله، لكونه بتقديره، فأفعال العباد من اكتسابهم، ولذا تترتَّب عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله، ومنها ما يجري بلا واسطة، فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير، لا لغة ولا عقلًا ولا شرعًا، وهو المعنى في هذا الحديث، ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل، ثم النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى الأدنى، فلا يسب شيء مطلقًا، إلا ما أذن الشرع فيه؛ لأن العلة واحدة، واستنبط منه أيضًا منع الحيلة في البيوع، مثل العينة؛ لأنه نهى عن سب الدهر، لما يئول إليه من حيث المعنى، وجعله سبًّا لخالقه. انتهى.
"وما خُيِّرَ صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلّا اختار" وفي رواة: إلا أخذ "أيسرهما" أسهلهما، "ما لم يكن إثمًا، فإن كان" الأيسر "إثما كان أبعد الناس منه".
"رواه البخاري" في الصفة النبوية والأدب، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في الأدب، كلهم من حديث عائشة، وتمامه "وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها". "أي بين أمرين من أمور الدنيا" يدل عليه قوله: ما لم يكن إثمًا؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، هكذا شرحه الحافظ بإفراده ضمير فيها، فسقط من قلم المصنف بعض الكلام، فأتى بقوله:"لا إثم فيهما" مثنى عائدًا على الأمرين، فضاع قوله ما لم يكن إثمًا، فاللائق بقاء الأمرين على عمومهما، اللهمَّ إلّا أن يكون قيد بذلك، نظرًا لكونه صلى الله عليه وسلم لا يخيِّر بين حرامين، ولا حرام وغيره، "وأبهم" الشخص الراوي عائشة، "فاعل خير" بمعنى بناء للمجهول، "ليكون أعم" من أن يكون التخيير "من قِبَلِ الله تعالى، أو من قِبَلِ المخلوقين" أي جهتهم، "وقوله: إلّا اختار، أيسرهما" وقوله، أي: مع قوله: "ما لم يكن إثمًا، أي: ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم، فإنه
الأشد.
وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط. ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قِبَلِ المخلوقين واضح.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن له بوّاب راتب، كما جاء عن أنس أنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة وهي تبكي عند قبر، فقال:"اتقي الله واصبري"، فقالت: إليك عني فإنك خلو من مصيبتي، قال فجاوزها ومضى. فمر بها رجل فقال لها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما عرفته، قال: إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
حينئذ يختار الأشد" على النفس، لما فيه من عدم الجر إلى الإثم، "وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا أختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط، ووقوع التخيير بين ما فيه إثم، وما لا إثم فيه من قِبَلِ المخلوقين واضح" زاد الحافظ، وأما من قِبَلِ الله ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائزين، لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك، بأن يخيِّره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به، أن لا يتفرغ لعبادة مثلًا، وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفر، فيختار الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة؛ لثبوت العصمة له. انتهى.
"ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن له بوَّاب راتب" فلا ينافي وجود بواب أحيانًا، لأمر ما، "كما جاء عن أنس، أنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة" لم يعرف الحافظ اسمها، "وهي تبكي عند قبر" زاد في رواية بد الرزاق مرسلًا: فسمع منها ما يكره، أي: من نَوْحٍ، أو غيره، ولم يعرف الحافظ أيضًا اسم المقبور، قال: لكن في رواية مسلم إشعار بأنه ولدها، ولفظه تبكي على صبي لها، وصرَّح به عبد الرزاق في مرسل يحيى بن أبي كثير، ولفظه: قد أصيبت بولدها، "فقال" لها:"يا أمة الله اتقي الله" خافي غضبه "واصبري" لا تجزعي ليحصل لك الثواب، "فقالت: إليك" اسم فعل، بمعنى تنح وابعد، "عني فإنك خلو" بكسر المعجمة، وسكون اللام، وبالواو، فارغ خالي البال "من مصيبتي" وفي رواية، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، "قال: فجاوزها ومضى، فمرَّ بها رجل" هو الفضل بن عباس، كما عند الطبراني في الأوسط، "فقال لها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: ما عرفته"؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى كعادة الملوك والكبراء، مع ما كانت فيه من شدة الوجد والبكاء، "قال: إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم في رواية، فأخذها مثل الموت من شدة الكرب الذي
قال: فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا. الحديث رواه البخاري.
لكن في حديث أبي موسى الأشعري: أنه كان بوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على القف.
وجمع بينهما: بأنه كان عليه الصلاة والسلام إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه.
أصابها، لما عرفت أنه رسول الله، "قال: فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا"، بالإفراد عند البخاري في الأحكام، وله في الجنائز: فلم تجد عنده بوابين -بالجمع، وفائدة هذه الجملة: إنه لما قيل لها إنه لرسول الله، استشعرت خوفًا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه كالملوك له حاجب وبواب، يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته، كذا قال الطيب: "الحديث" بقيته، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
"رواه البخاري" في الجنائز والأحكام، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في الجنائز، وهو صريح، في أنه لم يكن له بواب، "لكن في حديث أبي موسى الأشعري؛ أنه كان بوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، لما جلس على القف" بضم القاف، وبالفاء: الدكة تجعل حول البئر، أو حافة البئر، روى البخاري، ومسلم أن أبا موسى توضأ في بيته، ثم خرج، فقلت: لألزمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأكوننَّ معه يومي هذا، فجاء المسجد فسأل عنه، فقالوا: خرج ووجه ههنا، فخرجت أثره أسأل عنه، حتى وجدته دخل بئر أريس، فجعلت عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسَّط قفها، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، فسلَّمت عليه، ثم انصرفت، فجلس عند الباب، فقلت: لأكونن بوَّاب رسول الله اليوم، زاد البخاري في الأدب: ولم يأمرني الحديث في مجيء أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، واستئذانه لهم، وقوله عليه السلام في كلٍّ:"افتح له وبَشِّره بالجنة"، وفي رواية أبي عوانة، فقال لي:"أملك على الباب، فلا يدخل علي أحد" وجمع النووي باحتمال أنه أمره بحفظ الباب، حتى يقضي حاجته ويتوضأ، لأنها حالة تستر، ثم حفظه أبو موسى من تلقاء نفسه، وادَّعى الشارح أن عبارة المصنف تشعر بأنه اتخذه بوابًا، وهو خلاف الحديث، إلّا أن يكون لما أقره نسب إليه، وليت شعري من أين الإشعار مع أن لفظه أنه كان بوابًا، ولم يقل اتخذه بوابًا، إلا أن ادعى أن الإشعار من الجمع المذكور بقوله:"وجمع بينهما؛ بأنه كان عليه الصلاة والسلام إذا لم يكن في شغل من أهله، ولا انفراد من أمره، أنه" الأولى، حذفها وكأنه أتى بها مذكرة للسابقة، "كان يرفع حجابه بينه وبين الناس، ويبرز لطالب الحاجة إليه" أي:
وفي حديث عمر رضي الله عنه حين استأذن له الأسود في قصة حلفه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرًا، ففيه: أنه كان في وقت خلوته يتَّخذ البواب، ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي. ولكن يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذائه عليه، فلما أذن له اطمأن.
وقد اختلف في مشروعية الحجاب للحاكم.
فقال الشافعي وجماعة: ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا.
وذهب آخرون إلى جوازه.
وحمل الأوّل على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحبّ ذلك ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل، ويدفع الشرير، والله تعالى أعلم.
وإذا اشتغل بأمر نفسه اتخذ بوابًا.
"وفي حديث عمر رضي الله عنه، حين استأذن له" العبد "الأسود" رباح، الآتي "في قصة حلفه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرًا، ففيه أنَّه كان في وقت خلوته" وهو يتَّخذ البواب وقتها، "ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه، ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي، ولكن"، لا دليل فيه، إذ "يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون" المصطفى "وجد" غضب "عليه، بسبب ابنته" حفصة أم المومنين؛ إذ كانت من جملة سبب الحلف، كما تقدَّم في القصة "فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلمّا أذن له اطمأنَّ" سكن ودخل عليه، "وقد اختلف في مشروعية الحجَّاب للحاكم، فقال الشافعي، وجماعة: ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا" لأنه المعروف من حال المصطفى، وقد روى أحمد في الزهد، وغيره، عن الحسن: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحُجَّاب، ولا يغدي عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزًا، من أراد أن يلقى نبي الله لقيه، كان يجلس على الأرض ويطعم الطعام بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده، "وذهب آخرون إلى جوازه، وحمل الأول على زمن سكون الناس، واجتماعهم على الخير، وطواعتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحب ذلك ليرتب الخصوم، ويمنع المستطيل ويدفع الشرير، والله تعالى أعلم" بالحق من ذلك.
وأمَّا ما روي من حيائه صلى الله عليه وسلم، فحسبك ما في البخاري من حديث سعيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها.
والعذراء هي البكر.
والخدر: بكسر الخاء المعجمة -أي في سترها.
وهو من باب التتميم، لأنَّ العذراء في الخدر يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجها، لكون الخلوة مظنَّة وقوع الفعل بها. فالظاهر: أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها.................
"وأما ما روي من حيائه صلى الله عليه وسلم" لم يقل: وأما حياؤه على منوال سابقه ولاحقه؛ إذ الفصل معقود لبيان الصفات، لا المروي كأنه، لأن حياءه وقوته علم من مواضع، كالصريحة في كلامه، ولأن اتصافه به ثابت مشهور عند الناس، خاصتهم وعامتهم، لا يحتاج لبيان، فلم يجعله مقصودًا، وإنما القصد بيان الروايات الواردة فيه، وجواب أمَّا محذوف، أي: ففيه أحاديث كثيرة، "فحسبك" أي: يكفيك عن طلب حقيقة حيائه،؛لأنك إذا علمت وصفه بما ذكر، علمت أنه لا يساويه فيه أحد، "ما في البخاري" في الصفة النبوية، والأدب، ومسلم في الفضائل، وابن ماجه في الزهد، "من حديث أبي سعيد" الخدري، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء" نصب على التمييز، وهو تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم، "من العذراء" بالذال المعجمة، البكر، لأنَّ عذرتها وهي جلدة البكارة باقية، "في خدرها" وأخرجه البخاري من وجه آخر، عن أبي سعيد بزيادة: وإذا كره شيئًا عُرِفَ في وجهه، وهو إشارة إلى أنَّه لم يكن يواجه أحد إنما يكرهه بل يتغير وجهه، فيفهم أصحابه كراهته لذلك، كما في الفتح:"والعذراء" بالمد، "هي البكر" ذات العذرة، وجمعها عذارى، بفتح الراء، وكسرها، فهما مترادفان لغة، وأما شرعًا: فالعذراء أخص من البكر، لأنها من لم تزل عذرتها بشيء، والبكر من لم تزل بكارتها بوطء، ولو أزيلت بسقطة وحدة حيض، ونحوهما، "والخدر، بكسر الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة مبتدأ وخبر، وقوله: "أي: في سترها" تفسير لقوله في خدرها، والإضافة عهدية، أي: في الستر المعهود اتخاذه لها، قال المجد: الخدر: ستر يمد للجارية، أي: البنت في ناحية البيت، كالأخدور، وكل ما واراك من بيت ونحوه، جمعه خدور وأخدار.
"وهو من باب التتميم؛ لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجها، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل" الوطء "بها، فالظاهر أن المراد تقييده" أي: قوة حيائها في خدرها، "بما إذا دخل عليها" بالبناء للفاعل، أي: من تحتشمه أخذًا من قوله: أولًا، لكون الخلوة
في خدرها لا حيث تكون منفردة فيه.
والحياء -بالمد- وهو من الحياة، ومنه: الحيا للمطر، لكن هو مقصور، وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتم.
وهو في اللغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرَّد ترك الشيء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه.
وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير من حق ذي الحق.
إلخ....، أو المفعول، أي: دخل أحد، ولو امرأة "في خدرها" فحينئذ يشتد حياؤها، "لا حيث تكون منفردة فيه" فقد لا يحصل لها حياء، أو لا يشتد لعدم مقتضيه.
زاد الحافظ: ومحل وجود الحياء منه صلى الله عليه وسلم في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا:"أنكتها لا يكنى"، كما في الصحيح في كتاب الحدود، وأخرج البزار هذا الحديث، عن أنس، وزاد في آخره، وكان يقول الحياء خير كله، وأخرج عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قط، وإسناده حسن. انتهى.
وروى أحمد، وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، والترمذي في الشمائل، عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحد في وجهه بشيء يكرهه، فدخل عليه يومًا رجل وعليه أثر صفرة، فلما قام قال لأصحابه: لو غير، أو نزع هذه الصفة، وفي رواية: لو أمرتم هذا أن يغسل هذه الصفرة، "والحياء، بالمد" مبتدأ وخبر، "وهو" مأخوذ "من الحياة"؛ لأنه ينشأ عن تمييز الحسن من القبيح، ومنشأ ذلك وجود الحياة التي هي صفة تصبر ذا الروح حيًّا، "ومنه" أي: المعنى المأخوذ منه الحياء الممدود، "الحيا للمطر، لكن هو مقصور" على المشور، ويمد كما في القاموس، "وعلى حسب حياة القلب" يقظته، ومعرفته، لما يضره وينفعه في الدارين، "تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح" أي: فقد صفاتها المقتضية للكمال لا الجسم اللطيف، "وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتمّ" ولذا كان تمام الحياء في المصطفى؛ إذ لا قلب أحيى من قلبه، "وهو في اللغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه" فتسميته حياء مجاز من تسمية اللازم باسم ملزومه، "وفي الشرع: خلق يبعث" يحمل من قام به "على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق" وهو الله تعالى في حق عباده، والصديق في حق صديقه، والسيد في حق عبده، إلى غير ذلك، ولذا جاء في الحديث: "الحياء من الإيمان، والحياء
وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في الخلق، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق والحياء............
خبر كله، والحياء لا يأتي إلا بخير"، وهذا التعريف الذي ذكره المصنف لغة، وشرعًا لفظ الفتح في باب أمور الإيمان، ثم قال فيه: في باب الحياء من الإيمان، ما لفظه، قال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركَّب من خير وعفة، فلذا لا يكون المستحي فاسقًا، وقلَّما يكون الشجاع مستحيًا، وقد يكون لمطلق الانقباض، كما في بعض الصبيان. انتهى ملخصًا.
وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيًّا، أو عقليًّا، أو عرفيًّا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أبله.
وقال الحليمي: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه، وقال غيره: إن كان في محرم، فهو واجب، وإن كان في مكروه، فهو مندوب، وإن كان في مباح، فهو العرفي، وهو المراد بقوله:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، ويجمع كل ذلك؛ أنَّ المباح إنما هو ما يقع على نهي الشرع إثباتًا ونفيًا، وجاء عن بعض السلف: رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة، وقد يتولد الحياء من الله تعالى، من التقلب في نعمة، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحِ منه على قدر قربه منك، انتهى كلام الفتح رحمه الله.
"وقال ذو النون" المصري، ثوبان بن إبراهيم، أبو الفيض، أحد المشايخ المذكورين في رسالة القشيري، ولد بأخميم، وحدَّث عن مالك، والليث، وابن لهيعة، وعنه الجنيد، وغيره، وكان أوحد وقته علمًا، وأدبًا، وورعًا، وهو أول من عَبَّر عن علوم المنازلات، وأنكر عليه أهل مصر، وقالوا: أحدث علمًا لم يتكلّم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكّل، ورده مكر ما، مات في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد قارب السبعين، فأظلت الطير الخضر جنازته ترفرف عليه حتى وصل إلى قبره، فلمَّا دفن غابت، فاحترم أهل مصر قبره، وكانوا يسمونه الزنديق، "الحياء وجود الهيبة في الخلق" بفتح، فسكون، أي: النوع الإنساني، احترازًا عن البهائم، وفي نسخ في القلب بدل في الخلق، "مع وحشة" أي: خوف "ما" شيء "يسبق" يصدر "منك، إلى ربك" مما يخالف أمره، أو نهيه، أو أصل الوحشة بين الناس، الانقطاع، وبعد القلوب من المودات، "والحب ينطق" يحمل المحب على التكلم بما في ضميره، مما يريد إخفاءه قهرًا عليه، "والحياء يُسْكِتُ" عن التكلم بما يريده، إخفاءه قهرًا عليه، "والحياء يسكت" عن التكلّم بما يريده، "والخوف يقلق" يزعج، يعني أن خوف العبد
يسكت، والخوف يقلق.
وقال يحيى بن معاذ: من استحى من الله مطيعًا استحى الله منه وهو مذنب، وهذا الكلام يحتاج إلى شرح، ومعناه: إن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستحي خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه في تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه لما يشينه عنده. وفي الشاهد شاهد لذلك، فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه، من صاحب أو ولد أو من يحبه، وهو يخونه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياءً عجيب حتى كأنه هو الجاني، وهذا غاية الكرم.
وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها.
منها: حياء الكرم، كحيائه صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحيا أن..................
يزعجه مخافة أن يصيبه ما يخاف منه، "وقال يحيى بن معاذ" الرازي، أحد الأولياء الكبار المشهورين، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، المتوفَّى بنيسابور، سنة ثمان وخمسين ومائتين، "من استحى من الله مطيعًا استحى الله منه وهو مذنب" أي: عامله معاملة المستحي منه إذًا لتغير إلخ
…
محال على الله، "وهذا الكلام يحتاج إلى شرح، ومعناه: إن من غلب عليه خلق الحياء من الله، حتى في حال طاعته" إذ لا يقدر على الإتيان بها، كما أمر، "فقلبه مطرق" ساكن في مقام الخوف، "بين يديه إطراق مستحي خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه" أي: ترك نظره إليه نظر انتقام "في تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه" رؤية غضب وعقاب، "ما يشينه" بفتح أوله، وكسر الشين، يعيبه، "عنده، وفي الشاهد" أي: المشاهد المرئي، "شاهد" دليل "لذلك" ظاهر، "فإن الرجل إذا اطَّلع على أخصّ الناس به، وأحبهم إليه، وأقربهم منه، من صاحب، أو ولد، أو من يحبه، وهو يخونه فإنه يلحقه" أي: المطلع "من ذلك الاطلاع حياء عجيب، حتى كأنه هو الجاني، وهذا غاية الكرم" أي: النفاسة والعزة فيمن قام، يقال: كرم الشيء كرمًا نفس وعزَّ، فهو كريم، والجمع كرام، وكرماء، كما في المصباح، "وللحياء أقسام ثمانية، يطول استقصاؤها".
"منها حياء الكرم، كحيائه صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب" بنت جحش لما تزوجها، وكانت خبزًا ولحمًا، أشبع المسلمين، "وطولوا عنده المقام" بعد الأكل، "واستحيا
يقول لهم انصرفوا.
ومنها: حياء العبودية، وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاحية عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجلّ منها، فعبوديته له توجب استحياء منه لا محالة.
ومنها: حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون، فيجد نفسه مستحييًا من نفسه، حتى كأنَّ له نفسين، يستحي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
والحياء -كما قال عليه الصلاة والسلام لا يأتي إلا بخير، وهو من الإيمان.
أن يقول لهم انصرفوا" فقام فقاموا" إلّا ثلاثة، أو اثنين، فمكثوا حتى انطلق إلى أزواجه، فسلَّم عليهن، ثم قاموا، فأخبره أنس، فجاء، فدخل على زينب.
ومنها حياء المحبّ من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه في حال غيبته، هاج تحرك الحياء من قلبه، وأحسّ به في وجهه، فلا يدري هو، أي: المحب ما سببه.
"ومنها حياء العبودية، وهو حياء يمتزج" يختلط "بين محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاحية، عبودية لمعبوده، وإن قدره أعلى وأجلّ منها؛ فعبوديته له توجب استحياء منه، لا محالة" بفتح الميم.
"ومنها حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة، من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون" في المطلوب دنيويًّا، أو أخرويًّا؛ "فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه، فهو بأن يستحيي من غيره أجدر" أحق، وهذه أربعة من الثمانية.
"والحياء كما قال عليه الصلاة والسلام لا يأتي إلا بخير؛ لأن من استحيا أن يراه الناس يأتي بقبيح، دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد، فلا يضيِّع فريضة، ولا يرتكب خطيئة، "وهو من الإيمان" لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانًا، كما يسمَّى الشيء باسم ما قام مقامه، قاله ابن قتيبة، ومن للتبعيض، فهو كرواية: "الحياء شعبة من الإيمان"، ولا يرد إذا كان بعضه ينتفي الإيمان بانتفائه؛ لأن الحياء من مكملات الإيمان، ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة، فأول الحياء وأولاه الحياء من الله، وهو أن لا يراك حيث نهاك،
كما رواهما البخاري.
قال القاضي عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان -وإن كان غريزة؛ لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم.
وقال القرطبي: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلَّف به دون الغريزي، غير أنَّ من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد يكون غريزة، قال: وكان صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان، فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها.
وقال القاضي عياض: وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان من حيائه لا يثبت بصره في وجه أحد.
وأما خوفه صلى الله عليه وسلم ربه جلَّ وعلا،............
ولا يفقدك حيث أمرك، وكماله إنما ينشأ عن المعرفة ودوام المراقبة، "كما رواهما" الحديثين "البخاري" ومسلم، فحديث "الحياء لا يأتي إلا بخير"، روياه عن عمران بن حصين، وحديث "الحياء من الإيمان" أخرجاه عن ابن عمر، "قال القاضي عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزة" جبلة، "لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصده" أراده، "واكتساب، وعلم" فهو غريزي أصلًا؛ واكتسابي كمالًا، "وقال القرطبي" وأبو العباس في شرح مسلم: "الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلّف به دون الغريزي، غير أن من كان فيه غريزة منه، فإنها تعينه على المكتسب؛ حتى يكاد يكون" المكتسب "غريزة".
"قال: وكان صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان: فكان في الغريزي أشد حياءً من العذراء في خدرها" وسئل بعضهم: هل الحياء من الإيمان مقيدٌ ومطلق؟ فقال: مقيد بترك الحياء في المذموم شرعًا، فعدمه مطلوب في النصح والأمر والنهي الشرعي، أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا، والله لا يستحيي من الحق، "وقال القاضي عياض" في الشفاء:"وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان من حيائه لا يُثَبِّتُ" بضم أوله رباعي، لا بفتحها ثلاثي، لإيهامه العجز "بصره" أي: لا يديم نظره "في وجه أحد" ولا يتأمله، فإثبات البصر بمعنى إطالة النظر، من غير تخلل إغماض الجفن ونحوه، حتى كان بصره صار قارًّا في المرئي، كما قال المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه
…
كأن عليه من حدق نطاقا
قال السيوطي: هذا الحديث ذكره صاحب الأحياء، ولم يجده العراقي.
"وأما خوفه صلى الله عليه وسلم ربه جلَّ وعلا" فكان على غاية لا يساويه أحد فيه، فالجواب محذوف،
فاعلم أن الخوف والوجل والهيبة والرهبة ألفاظ متقاربة غير مرادفة.
قال الجنيد: الخوف توقّع العقوبة على مجاري الأنفاس.
وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف.
وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره.
والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 38] فهو خوف مقرون بمعرفة. وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم لله وأشدكم له خشية"،........
دلت عليه الأحاديث الآتية: وإذا أردت بيان معنى الخوف، "فاعلم أن الخوف والوجل والهيبة والرهبة ألفاظ متقاربة غير مرادفة" لأن المترادفين: كل لفظين اتحدا في المفهوم وإلى ما صدق، وهذه الألفاظ ليست متحدة في المفهوم، كما علم من تعاريفها.
"قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس" بأن يتصوَّر أن كل نفس يقوم به، يخشى أن تحل به عقوبة عنده، وهو من إضافة الصفة للموصوف، أي: الأنفاس الجارية، أي: عقب كل نفس جار، والمجاري: جمع مجرى مصدر جرى، ويطلق أيضًا على أواخر الكَلِم، فإن فسرت به المجاري، حملت على الأثر الحاصل عقب كل نفس، "وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف" أي: الأمر الذي يخاف وقوعه به، "وقيل: الخوف قوة العلم" ثبوته وتحققه "بمجاري الأحكام" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بالأحكام الجارية، "وهذا" التعريف "سبب الخوف"؛ لأن مَنْ تحقَّقَ عواقب الأمور وراقبها خاف وقوعها، فالعقوبات موفة، وقوة العلم سبب لخوف وقوعها، "لا أنه نفسه" أي الخوف، "وقيل: الخوف هرب القلب" نفرته وجزعه "من حلول المكروه عند استشعاره، والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} " لا الجهال [فاطر: 28] الآية. "فهو خوف مقرون بمعرفة" أي: فخشية الله هي خوف عقابه، مع تعظيمه بأنه غير ظالم في فعله، بخلاف مطلق الخوف، فإنه يتحقق عند تهديد الظالم له.
"وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم لله" لأني أعلمكم به، وكلما زاد العلم زادت التقوى والخوف، ولذا قال: "وأشدكم له خشية" ، فلا ينبغي لكم التنزة عن مباح فعلته، وفي الصحيحين عن عائشة، صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام
فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه وهي الخشية.
وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه.
يتنزهون عن الشيء أصعنه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية"، قال الداودي: التنزه عمَّا رخص فيه من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد، قال في فتح الباري: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، لكن في حديث أنس عند البخاري، جاء ثلاثة إلى أزواجه صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلمَّا أخبروا بها كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن منه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم، كذا وكذا، "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له"، ولعبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب: أن الثلاثة علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون.
قال الحافظ: ومرادهم أن بيننا وبينه بونًا بعيدًا، فأنا على حذر التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم، مأمون العاقبة، وأعمالنا جة من العقاب، وأعماله مجلبة للثواب، فردَّ صلى الله عليه وسلم ما اختاروا لأنفسهم بأن ما استأثرتم به من الإفراط في الرياضة، لو كان أحسن من العدل الذي أنا عليه، لكنت أنا أولى بذلك، ففيه الحث على الاقتداء به؛ والنهي عن التعمق، وذم التنزه عن المباح، شكا في إباحته، وأن العلم بالله يوجب اشتداد الخشية.
وقال الحافظ: في محل آخر فيه رد ما بنوا عليه أمرهم، من أنَّ المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة، بخلاف غيره، فأعلمهم أنَّه مع كونه لم يبالغ في التشديد، أخشى الله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك؛ لأن المشدد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما دوام عليه صاحبه، "فالخوف حركة" على أن الخوف اضطراب القلب؛ أما على بقية الأقوال السابقة، فلعل المراد أنه ينشأ عنه ما يرى في الخارج.
"والخشية: انجماع، وانقباض، وسكون" وأشار إلى الفرق بينهما بالمحسوس، "فإن الذي يرى العدو والسيل، ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه، وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره" ثباته، "في مكان لا يصل إليه، وهي الخشية، وأما الرهبة" بالفتح، اسم من رهب من باب تعب، "فهي الإمعان في العرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه" أي: طلبه له، فسمي الطلب سفرًا لمشابهته له في قطع
وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته.
وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المعرفة والمحبة.
والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.
فالخوف لعامَّة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا،..............
المسافة، لتحصيل المطلوب، أو لأن الطلب لازم للسفر، "وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته".
"وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المعرفة، والمحبة، والإجلال، تعظيم مقرون بالحب" وهذا الاستطرادي ذكر لتمام الصفات التي عند الصوفية؟ كالخشية؛ إذ المذكور في قوله أولًا: فاعلم ليس فيه واحد من الثلاثة، "فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين" وفي نسخة العاملين، "والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدرالعلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية" قال العز بن عبد السلام: فيه إشكال؛ لأن الخوف والخشية حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دلت القواطع على أنه صلى الله عليه وسلم غير معذب، وقال تعالى:{يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} الآية، فكيف يتصور منه الخوف؟، فكيف أشد الخوف؟، قال: والجواب أن الذهول جائز عليه، فإذا ذهل عن موجبات نفي العقاب، حدث له الخوف، "رواه البخاري" ومسلم من حديث عائشة.
"وقال عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون ما أعلم" من عظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت، وفي القبر ويوم القيامة، "لضحكتم قليلًا" أي: لما ضحكتم أصلًا؛ إذ القليل، بمعنى العديم؛ لأن لو حرف امتناع لامتناع، وقيل معناه: لو تعلمون ما أعلم مما أعد في الجنة من النعيم، وما حفّت عليه من الحجب، لسهل عليكم ما كلفتم به، ثم إذا تأملتم ما وراء ذلك من الأمور الخطرة، وانكشاف الغطاء يوم العرض على الله، لا شتد خوفكم، فلم تضحكوا، "ولبكيتم كثيرًا" لغلبة الحزن واستيلاء الخوف؛ واستحكام الوجل.
قال الكرماني: فيه من البديع مقابلة الضحك بالبكاء، والقلة بالكثرة، ومطابقة كل منهما،
رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه دلالة على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بمعارف بصرية وقلبية، وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته، لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال: "والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار".
فقد جمع الله له بين علم اليقين.................
"رواه البخاري من حديث أبي هريرة" في حديث طويل.
قال في الفتح: ومناسبة كثرة البكاء، وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف، وقد جاء لهذا الحديث سبب، أخرجه سنيد في تفسيره بسند رواه الطبراني عن ابن عمر: خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال:"والذي نفسي بيده، لو تعلمون"، فذكره، انتهى.
"وفيه دلالة على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بمعارف بصرية" كرؤية الجنة والنار وأهوالها، "وقلبية" كالأحكام التي لم يطَّلع عليها غيره، "وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته، لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها صلى الله عليه وسلم زيادة في كرامته، ولأنه هو الذي يحتملها.
"وفي صحيح مسلم، من حديث أنس؛ أنه عليه الصلاة والسلام قال: "والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت" أي: لو علمتم ما علمته من الأمور ومنه رؤية بصري وعلمي بإلهام ووحي أحوال البعث والنشور، وعذاب القبر وغير ذلك، مما لم يقع ولا يدرك بالبصر؛ "لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا" فرأى علمية، والمتبادر أنها بصرية، لأنهم "قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟، قا:"رأيت الجنة والنار"؛ إذ هو رآهما رؤية بصرية ليلة المعراج، وفي صلاة الكسوف.
وروى ابن أبي شيبة برجال ثقات، والطبراني عن أبي سعيد، كنَّا يومًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيناه كئيبًا، فقال بعضنا: بأبي أنت وأمي ما سبب هذا؟ فقال: "سمعت هدة لم أسمع مثلها، فأتاني جبريل، فسألته عنها، فقال: هذه صخرة هوت من شفير جهنم منذ سبعين خريفًا، فهذا حين بلغت قعرها، فأحب أن يسمعك صوتها، فما رؤي ضاحكا بعد حتى قبضه الله تعالى"، ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس؛ وهذا مما يؤيد حملها على العلمية، وهو أولى لشمولها للبصرية، "فقد جمع الله له بين علم اليقين" وهو قبول ما ظهر من الحق وما غاب، ويجري فيه النقل
وعين اليقين مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال:"إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، وهو في الصحيح من حديث عائشة.
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحة بلفظ: كأنين الرحى، أي: خنين من الخوف -بالخاء المعجمة- وهو صوت البكاء. وقيل: هو أن يجيش جوف ويغلي بالبكاء.
وأمَّا ما روي من شجاعته.....................
والاستدلال.
"وعين اليقين" وهو شهود الأشياء، كما هي كشفًا عيانًا، "مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية، على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال: "إن أتقاكم" اسم أن "وأعلمكم بالله" عطف عليه "أنا" خبرها.
قال الحافظ: وفيه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، ومنعه أكثر النحاة إلّا لضرورة، وأوَّلوا قوله، وإنما يدافع عن إحسابهم أنا أو مثلي، بأن الاستثناء مقدَّر، أي: وما يدافع إلّا أنا.
قال بعض الشراح: والحديث يشهد للجواز بلا ضرورة، "وهو في الصحيح" للبخاري "من حديث عائشة" قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، قد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فغضب حتى عُرِفَ الغضب في وجهه، ثم يقول:"إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا""وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولجوفه أزيز" بزاءين منقوطتين: صوت "كأزيز المرجل" بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الجيم، ولام، قِدْر من نحاس "من البكاء" لغلبة الخشية عليه، يسيل دمعه، فيسمع لجوفه ذلك، ولا يرد إن شدة البكاء في الصلاة تبطلها، لأن بكاءه لم يكن بصوت، بل تدمع عيناه حتى تهملا، كما قدمه المصنف في مبحث ضحكه.
"رواه النسائي" وأبو اود، "وابن خزيمة، وابن حبان" كلٌّ منهما "في صحيحه، بلفظ كأنين الرحى" أي: صوت كصوتها، يقال: أزَّت الرحى إذا صوتت، كما في الترغيب، "أي: خنين" بفتح الخاء المعجمة، وكسر النون، ضرب من البكاء، دون الانتحاب، كما في النهاية، "من الخوف" من الله، وقوله: "بالخاء المعجمة، وهو صوت البكاء" ضبط بقوله خنين، "وقيل: هو أن يجيش" بجيم، ومعجمة، "ويغلي بالبكاء" عطف تفسير، ففي المصباح: جاشت القدر، يجيش جيشًا، غَلَت، وقوله: بالخاء إلى هنا لفظ النهاية.
"وأمَّا ما روي من شجاعته" مثلث الشين، مصدر شجع بالضم، شجاعة، فهو شجيع،
-عليه الصلاة والسلام، وقوته في الله وشدته، فعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَلَ الصوت فتلقَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر...............
وشجاع، بضم الشين، وبنو عقيل، بفتحها، حملًا على نقيضه، وهو جبان، وبعضهم كسرها للتخفيف، فرارًا من توالى حركات متوالية من جنس واحد، وهو الشديد القلب عند البأس المستهين بالحروب، "عليه الصلاة والسلام، وقوته" يعني: كما أنه تام لقوة في أعضائه، فهو تامها في حقوق الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، مراقب لحدوده، حافظ لها، لا يخاف "في الله" لومة لائم، "وشدته" وظاهر المصنف تغاير هذا الألفاظ، والمفهوم من كلام غيره ترادفها، وأنها وإن اختلفت مفهومًا متحدة ما صدقًا.
قال الشامي: الشجاعة انقياد النفس مع قوة غضبية وملكة يصدر عنها انقيادها في أقدامها، متدربة على ما ينبغي في زمن ينبغي، وحال ينبغي، ومن في المصنف بيانية بتقدير مضاف، أي: من دال شجاعته؛ إذ الشجاعة ليست مروية، ولما كانت شجاعته معلومة لكل الناس لم يحتج إلى بيانها، بل بَيِّنَ المروي، فقال:"فعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس" صورة وسيرة؛ لأن الله أعطاه كل الحسن، "وجود الناس" لتحليه بصفات الله التي منها الجود والكرم، أي: بكل ما ينفع، فحذف للتعميم، أو لفوت إحصائه كثرة؛ لأن من كان أعظمهم شرفًا، وأيقظهم قلبًا؛ وألطفهم طبعًا، وأعدلهم مزاجًا، جدير بأن يكون أسمحهم صورة، وأنداهم يدًا؛ ولأنه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
"وأشجع الناس:" أقواهم قلبًا في حال البأس، فكان الشجاع منهم الذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب، وما ولَّى قط ولا تحدَّث أحد بفراره؛ وقد ثبتت أشجعيته بالتواتر النقلي، بل أخذه بعضهم من النص القرآني لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية، فكلفه وهو فرد جهاد الكل، ولا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، ولا ضير في كون المراد هو ومن معه؛ إذ غايته أنه قوبل بالجميع، وذلك مفيد للمقصود، وهذه الثلاث أمهات الأخلاق الفاضلة، فلذا اقتصر عليها، كما يأتي للمصنف بيانه، "لقد فزع" بكسر الزاي، خاف "أهل المدينة ذات ليلة" من صوت سمعوه، كما أفاده بقوله:"فانطلق الناس قِبَل" بكسر، ففتح، جهة "الصوت" ليعرفوا خبره، لظنهم أنه عدو، "فتلقَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا" حال كونه "قد سبقهم إلى الصوت" وحده، وذلك دليل على كمال شجاعته، لمبادرته منفردًا للخروج، "واستبرأ الخبر" بمهملة، وفوقية، وموحدة، وهمزة، وقد تبدَّل ألفًا، أي: كشفه، ووقف على حقيقته.
على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: لن تراعوا.
وفي رواية: كان فزع بالمدينة فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسًا من أبي طلحة يقال له المندوب، فركبه عليه الصلاة والسلام، فلما رجع قال:"ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرًا، أو إنه لبحر". قال: وكان فرسًا يبطؤ. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
وللبخاري: إن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة كان يقطف،..................
قال في الأساس: استبرأت الشيء، طلبت آخره لأقطع الشبهة عني، "على فرس لأبي طلحة" زيد بن سهل، زوج أم أنس، استعاره منه،"عري" بضم المهملة، وسكون الراء، ليس عليه سرج، ولا أداة، ولا يقال في الآدميين، إنما يقال: عريان "والسيف في عنقه" أي: حمائله معلقة في عنقه الشريف، متقلدًا به، وهذا هو السنة في حمل السيف، كما قاله ابن الجوزي: لأشده في وسطه، كما هو العرف الآن، "وهو يقول لن تراعوا" لن هنا، بمعنى لم، بدليل الرواية الآتية، والمراد نفي سبب الروع، أي: الخوف، أي: ليس هناك شيء تخافونه، وهذا أخرجه البخاري في باب مدح الشجاعة في الحرب من كتاب الجهاد، وفي الأدب ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم واللفظ له، "وفي رواية" عن أنس:"كان فزع" بفتح الفاء، والزاي، أي خوف من عدو "بالمدينة، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسًا من أبي طلحة، يقال له المندوب، قيل: سمي بذلك من الندب وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجح، وقال عياض: يحتمل أنه لقب أو اسم لغير معنى كسائر الأسماء.
"فركبه عليه الصلاة والسلام، فلمَّا رجع قال: "ما رأينا من شيء" يوجب الفزع، "وإن وجدناه" أي: الفرس "لبحرًا" أي: واسع الجري، ومنه سمي البحر بحرًا لسعته، وتبحَّر فلان في العلم إذا اتسع فيه، وقيل: شبهه بالبحر، لأن جريه لا ينفذ، كما لا ينفذ ماء البحر، "أو أنه لبحر" بالشك، وفي رواية المستملي، وإن وجدنا بحذف الضمير.
قال الخطابي: إن هي النافية، واللام في لبحرًا، بمعنى إلّا، أي: ما وجدناه إلا بحرًا.
قال ابن التين: هذا مذهب الكوفيين، وعند البصريين؛ أن إن مخففة من الثقيلة، واللام زائدة، وكذا قال الأصمعي: وزيدت للفرق بين أن المخففة والنافية، "قال: وكان فرسًا يبطؤ" بفتح الياء، وسكون الموحدة، وضم الطاء، مخففًا، وبالهز، أي: لا يسرع في مشيه، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وللبخاري" في الجهاد، عن أنس:"إن أهل المدينة فزعوا مرة" ليلًا، "فركب صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة، كان يقطف" بكسر الطاء، وتضم، قاله المصنف، "أو فيه
أو فيه قطافًا، فلما رجع قال:"وجدنا فرسكم هذا بحرًا"، فكان بعد لا يجاري.
وفي أخرى له: ثم خرج يركض الفرس وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: "لن تراعوا، إنه لبحر"، فما سبق بعد ذلك اليوم.
وقوله: لن تراعوا: أي روعًا مستقرًا، أو روعًا يضركم.
وفي هذا الحديث بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس.
وفيه: بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان بطيئا وهو معنى قوله عليه..............
قطافًا" بكسر القاف، والشك من الراوي، والمراد أنه كان بطيء المشي، وعند البخاري في باب آخر، فركب فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، "فلمَّا رجع" بعد أن استبرأ الخبر، "قال: "وجدنا فرسكم هذا بحرًا" لسرعة جريه "فكان بعد لا يجاري" بضم أوله، وفتح الراء، مبني للمجهول، أي: لا يسابق في الجري، ولا يطيق فرس الجري معه ببركته صلى الله عليه وسلم، قاله المصنف وغيره، وقال شيخنا: أي لا يسابق لعلمهم؛ بأنه لا يسبقه فرس غيره، "وفي أخرى له" للبخاري في باب السرعة والركض، في الفزع من كتاب الجهاد، عن أنس قال: فزع الناس، فركب صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، "ثم خرج يركض الفرس وحده" من غير رفيق، "فركب الناس، يركضون خلفه، فقال:" حين رجع: "لن تراعوا" كذا في النسخ لن، والذي في البخاري في الباب المذكور:"لم تراعوا" بالميم.
قال المصنف: ولم، بمعنى، لا مجزوم بحذف النون "إنه" أي: الفرس "لبحر" أي: كالبحر في سرعة سيره، "فما سبق" بضم السين، مبني للمفعول، "بعد ذلك اليوم، وقوله: لن تراعوا، أي: روعًا مستقرًا، أو روعًا يضركم" فلا ينافي وقوع الفزع لهم، وحاصل الجواب أن فزعهم زال سريعًا، فكأنه لم يقع، لكن هذا التأويل ظاهر على ما في البخاري بالميم، أما على ما في نسخ المتن لن بالنون، فلا يظهر، لأن لن لنفي المستقبل، ولم يعلم حاله، ولذا احتاجوا إلى تأويل رواية لن في الحديث الأول، بأنها بمعنى لم إلا أن يقال: إنه بشارة منه لأهل المدينة، علمها بالوحي، والمراد في حياته، فلا يرد روعهم بعده في وقعة الحرة وغيره، "وفي هذا الحديث بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم من شدة عجلته" من تعليلية "في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم" أي: قبل كل واحد من الناس، فأل للعموم، "بحيث كشف الحال، ورجع قبل وصول الناس، وفيه بيان عظيم بركته، ومعجزته في انقلاب الفرس سريعًا، بعد أن كان بطيئًا، وهو معنى
الصلاة والسلام: "وجدناه بحرًا"، أي واسع الجري.
وفيه قطاف: يقال: قطف الفرس في مشية إذا تضايق خطوه وأسرع مشيه.
قال القاضي عياض: وقد كان في أفراسه صلى الله عليه وسلم فرس مندوب، فلعله صار إليه بعد أبي طلحة. وقال النووي: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم.
وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن إسحاق في كتابه وغيره: أنه كان بمكة رجل شديد القوة يحسن الصراع، وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم. فبينما هو ذات يوم في شعب من شعاب مكة؛ إذ لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما
قوله عليه الصلاة والسلام: "وجدناه بحرًا" أي: واسع الجري" ففيه إشارة إلى أنه لم يكن كذلك، "و" قوله في الحديث: "فيه قطاف" معناه أنَّ في مشيه ضيق خطا، ودليله أنه "يقال قطف الفرس في مشيه، إذا تضايق خطوه، وأسرع مشيه" بالنصب مفعول، أسرع على التوسع، أي: في مشيه بناء على قول القاموس، الأصل إن أسرع متعد، وبالرفع على أنه لازم، والإسناد مجازي، ومقتضى المصباح أنه أشهر وفي التوضيح القطوف المتقارب الخطور، وقيل: الضيق المشي، يقال: قطفت الدابة تقطف، بكسر الطاء، وضمها، قطافًا.
"قال القاضي عياض: وقد كان في أفراسه صلى الله عليه وسلم فرس" اسمه "مدوب"، وصرح الحديث، بأنه لأبي طلحة، "فلعله صار إليه بعد أبي طلحة" بهبة أو بيع منه له، لا بعد موته، لأنه عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
"وقال النووي: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم" وهذا أولى، "وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد" أكثر نجدة "من رسول الله صلى الله عليه وسلم" والنجدة والشجاعة والشدة، فالعطف مساو، ولعله مأخوذ من نجد الرجل فهو نجيد، كقرب فهو قريب، إذا كان ذا نجدة أو من نجدة، كنصر إذا أعانه؛ لأن اسم التفضيل يكون من اللازم والمتعدى، وهذا الحديث رواه أحمد، والنسائي، وغيرهما، بزيادة، ولا أجود، ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعطف أجود على أنجد للمناسبة بينهما؛ إذ الجواد لا يخاف الفقر، والشجاع لا يخاف الموت، ولأن الأول بذل النفس، والثاني بذل المال، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، و"ذكر" محمد "بن إسحاق" ابن يسار المطلبي، مولاهم، المدني، نزيل العراق "في كتابه" السيرة، "و" ذكر "غيره؛ أنه كان بمكة رجل شديد القوة، يحسن الصراع" بكسر الصاد، مصدر صارع مصارعة وصراعا، "وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة، فيصرعهم" بابه نفع، "فبينما هو ذات يوم في شعب" بالكسر، الطريق، أو في الجبل، "من شعاب مكة، إذ لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "يا ركانة ألا تتقي الله، وتقبل ما
أدعوك إليه" -أو كما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ركانة: يا محمد، هل لك من شاهد يدل على صدقك؟ فقال: "أرأيت إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم يا محمد، فقال له: "تهيأ للمصارعة"، قال: تهيأت، فدنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم صرعه، قال: فتعجب من ذلك ركانة، ثم سأله الإقالة والعودة، ففعل به ذلك ثانيًا وثالثًا. فوقف ركانة متعجبًا وقال: إن شأنك لعجيب. رواه الحاكم في مستدركه عن أبي جعفر محمد بن ركانة المصارع،............
أدعوك إليه؟ " فتؤمن بالله ورسوله، "أو كما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم" شك الراوي "فقال له ركانة: يا محمد، هل لك من شاهد يدل على صدقك" فيما تقوله؟ "فقال:"أرأيت" أي: أخبرني "إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟ " بهمزة الاستفهام، "قال: نعم يا محمد" وصريح هذا أن السائل له في المصارعة المصطفى، وفي رواية البلاذري: أن السائل ركانة، فيحتمل أن كلًّا منهما توارد مع الآخر في السؤال، "فقال له: "تهيأ للمصارعة"، فقال: تهيأت، فدنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه، ثم صرعه قال: فتعجب من ذلك ركانة"؛ لأنه كان مستحيلًا عنده أن أحدًا يصرعه، "ثم سأله الإقالة" مما توافقا عليه، وهو الإيمان إن صرعه لا على قطيع من الغنم، لأن المعاقدة على الغنم إنما كانت مع ابنه يزيد، كما في الإصابة، "والعودة" إلى المصارعة، "ففعل به ذلك ثانيًا وثالثًا، فوقف ركانة متعجبًا، وقال: إن شأنك لعجيب" وأسلم عقبها في قول، والآخر في فتح مكة، قال في الإصابة: ركانة بن عبد يزيد، بن هاشم، بن المطلب، بن عبد مناف، المطلبي. روى البلاذري أنه قدم من سفر، فأخبر خَبَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الإسلام، وكان أشد الناس، فقال: يا محمد إن صرعتني آمنت بك، فصرعه، فقال: أشهد أنك ساحر، ثم أسلم بعد، وأطعمه النبي صلى الله عليه وسلم خمسين وسقًا، وقيل: لقيه في بضع جبال مكة، فقال: يا ابن أخي بلغني عنك شيء، فإن صرعتني علمت أنك صادق، فصارعه، فصرعه، وأسلم ركانة في فتح مكة، وقيل عقب مصارعته، ومات في خلافة معاوية، قال الزبير، وقال أبو نعيم، في خلافة عثمان، وقيل: عاش إلى سنة إحدى وأربعين. انتهى.
باختصار "رواه الحاكم في مستدركه عن أبي جعفر، محمد بن ركانة المصارع" كذا وقع للمصنف، وصوابه عن أبي جعفر، عن أبيه محمد إلخ.....، قال في التقريب أبو جعفر بن محمد بن ركانة، مجهول من السادسة، وفيه أيضًا محمد بن ركانة مجهول من الثالثة، ووهم من ذكره في الصحابة، وقال في الإصابة محمد بن ركانة، القرشي، المطلبي، لأبيه صحبة، وأمَّا هو، فأرسل شيئًا، فذكره البغوي في الصحابة، فقال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا محمد بن ربيعة، عن أبي جعفر، بن محمد بن ركانة، عن أبيه أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي، قال:
ورواه أبو داود والترمذي، وكذا البيهقي من رواية سعيد بن جبير.
وقد صارع عليه الصلاة والسلام جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحي، كما قاله السهيلي. ورواه البيهقي، وكان شديدًا بلغ من...............
وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:"فرق ما بيننا وبين أهل الكتاب العمائم على القلانس".
قال ابن منده: ذكره البغوي في الصحابة، وهو تابعي، وقال ابن فتحون: حديث المصارعة مشهور عن ركانة، وكذا حديث العمائم، كان محمدًا أرسله، أو سقط من السند عن أبيه، قلت: الاحتمال الثاني أقرب، وهو موجود في رواية أبي داود عن قتيبة، عن محمد بن ربيعة بهذا الإسناد، لكن قال بعد المصارعة: قال: سمعت رسول الله، فظهر أن محمدًا أرسل حديث المصارعة، وأسند حديث العمامة، فسقط من رواية داود بن رشيد، قال ركانة: وسمعت، فصار ظاهره أن قائل سمعت محمد، فلو كان كذلك، لكان صحابيًّا بلا ريب، لكن جزم ابن حبان في الثقات بأنه تابعي، "ورواه أبو داود والترمذي" من رواية أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه، أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث.
قال الترمذي: قريب، وليس إسناده بالقائم، وقال ابن حبان في إسناد خبره: قاله الإصابة، "وكذا" أخرجه "البيهقي، من رواية سعيد بن جبير" التابعي المشهور، "وقد صارع -عليه الصلاة واللام- جماعة غير ركانة، منهم" ابنه يزيد بن ركانة.
قال أبو عمر: له ولأبيه صحبة ورواية، روى عنه ابناه علي وعبد الرحمن، وأبو جعفر الباقر، وأخرج ابن قانع من طريق يزيد ابن أبي صالح، عن علي بن يزيد بن ركانة، أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ركانة بأعلى مكة، فقال:"يا ركانة أسلم" فأبى، فقال:"أرأيت إن دعوت هذه الشجرة لشجرة قائمة؟ فأجابتني تجيبني إلى الإسلام"، قال: نعم، فذكر الحديث، وقصة الصراع مشهورة لركانة، لكن جاء من وجه آخر أنه يزيد بن ركانة، فأخرج الخطيب في المؤتلف عن ابن عباس، قال: جاء يزيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلثمائة من الغنم، فقال: يا محمد هل لك أن تصارعني، قال:"وما تجعل لي إن صرعتك؟ " قال: مائة من الغنم، فصارعه، فصرعه، ثم قال: هل لك في العود؟، قال:"وما تجعل لي؟ " قال: مائة أخرى، فصارعه فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمد ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليى منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقام عنه، وردَّ عليه غنمه، ذكره في الإصابة، فقد صارع ركانة، وابنه جميعًا، ومنهم "أبو الأسود الجمحي" بضم الجيم، وفتح الميم، ومهملة، إلى جمع بطن قريش، كما قاله السهيلي، ورواه البيهقي، وكان شديدًا، بلغ من
شدته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن. وفي قصته طول.
وفي البخاري من حديث البراء، وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر. كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام...................................
شدته؛ أنه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد" ينشق، وينقطع، "ولم يتزحزح عنه، فدعا" هو "رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن، وفي قصته طول، وفي البخاري من حديث البراء" بن عازب، و"سأله رجل من قيس".
قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ " وفي رواية للبخاري أيضًا: أفررتم مع النبي، وجمع بينهما بحمل المعية على ما قبل الهزيمة، فبادر إلى إخراجه "فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر" فهو استدراك على ما قد يتوهم من فراره حين فروا عنه، الواقع عند السائل أخذًا من عموم، ثم وليتم مدبرين، فبيِّن له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص والتقدر فررنا، ولكنه ثبت وثبت معه علي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث، وابن مسعود.
رواه ابن أبي شيبة مرسلًا، وللترمذي بإسناد حسن، عن ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل. ولأحمد والحاكم عن ابن مسعود: فولَّى الناس عنه، وبقي معه ثمانون رجلًا من المهاجرين والأنصار، وفي شعر العباس: أن الذين ثبتوا عشرة فقط، قال الحافظ: ولعله الثبت، ومن زاد عليهم عجل الرجوع، فعد فيمن لم يفر، ثم بَيِّنَ سبب التولي بقوله:"كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا" انهزموا، كما في لفظ رواية البخاري في الجهاد، "فأكببنا" بفتح الموحدة الأولى، وإسكان الثانية، ونون، أي: وقعنا "على الغنائم" وفي الجهاد، " فأقبل الناس على الغنائم، "فاستُقبلنا" بضم التاء، وكسر الموحدة، أي: استقبلتهم هوازن، وفي الجهاد، فاستقبلونا "بالسهام" أي: فولينا، وفي مسلم، فرموهم برشق من نبل، كأنهم رجل جراد، وفيه أيضًا عن أنس جاء المشركون بأحسن صفوف، رأيت صف الخيل ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم النعم، ونحن بشر كثير، وعلى خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب، ومن
ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.
وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، لأنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة ليست بسريعة الجري، ولا تصلح لكرٍّ ولا فر ولا هرب، وهو مع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوه........................
تعلم من الناس.
قال ابن جرير: الانهزام المنهي عنه هو ما يقع على غير نية العود، وأمَّا الاستطراد للكثرة، فهو كالمتحيز إلى فئة، "ولقد رأيت النبي" وفي رواية رسول الله "صلى الله عليه وسلم، على بغلته البيضاء" التي أهداها له فروة، كما في مسلم عن العباس، وعن ابن سعد وأتباعه، على بغلته دلدل.
قال الحافظ: وفيه نظر، لأن دلدل أهداها له المقوقس، قال القطب الحلبي، فيحتمل أنه ركب يومئذ كلا من البغلتين، إن ثبت أن دلدل كانت معه، وإلّا فما في الصحيح أصح، "وإن أبا سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "آخذ بزمامها"، أولًا، فلمَّا ركضها صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين خشي عليه العباس، فأخذ زمامها، وأخذ أبو سفيان بالركاب، فلا يخالف هذا ما في مسلم؛ أن العباس كان آخذ بزمامها، وللبخاري في الجهاد، فنزل، أي: عن البغلة، فاستنصر، وفي مسلم، فقال:"اللهم أنزل نصرك"، "وهو يقول "أنا النبي" حقًّا، "لا كذب" في ذلك، أو والنبي لا يكذب، فست بكاذب، حتى انهزم، "أنا ابن عبد المطلب".
قال الخطابي: خصَّه بالذكر، تثبيتًا لنبوته، وإزالة للشك، لما اشتُهر من رؤيا عبد المطلب المبشرة به صلى الله عليه وسلم، ولما أنبأت به الأحبار والكهان، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بُدَّ مما وعدت به لئلَّا ينهزموا عنه، أو يظنوا أنه مغلوب أو مقتول، فليس من الفخر بالآباء في شيء، وليس بشعر وإن كان موزونًا؛ لأنه لم يقصده ولا أراده، وهما من شرط كونه شعرًا، وهذا أعدل الأجوبة، ولا يجوز فتح الباء الأولى، وكسر الثانية ليخرج عن الوزن؛ لأنه تغيير للرواية بمجرد خيال يقوم في النفس، ولأنه وقع في إشكال أصعب مما فرَّ منه؛ لأن فيه نسبة اللحن إلى أفصح الفصحاء، فالعرب لا تقف على متحرك، "وهذا" يعد "في غاية ما يكون من الشجاعة التامة؛ لأنه مثل هذا اليوم في حومة الوغى" بالقصر، والمعجمة، الحرب أي: في أشد موضع في القتال، "وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة، ليست" من مراكب الحرب، بل الطمأنينة؛ إذ ليست بسريعة، ولا تصلح لكر، ولا فر، ولا هرب"فركوبها دليل النهاية في الشجاعة، والثبات، وإن الحرب عنده كالسلم، "وهو مع ذلك يركضها إلى وجههم، وينوه" يرفع نفسه من بينهم
باسمه ليعرفه من ليس يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه.
وفي حديث البراء: كنا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: جعلناه قدامنا واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه.
وأمَّا ما ذكر من سخائه وجوده وكرمه، فاعلم أن السخاء صفة غريزية، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: {وَمَنْ........................
"باسمه، ليعرفه من ليس يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه" مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو.
"وفي حديث" رواه مسلم عن "البراء: كنا إذا أحمر اللباس" أي: اشتد، "اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم" وإن الشجاع منا الذي يحاذيه، "أي: جعلناه قدامنا، واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه" وروى أحمد، والنسائي، وغيرهما، عن علي: كنا إذا حمي البأس، وفي رواية إذا اشتدَّ البأس، واحمرَّت الحِدَق، اتقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسًا، وتقدَّم للمصنف في حنين، وقبله في أحد، أن من زعم أنه هزم يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل عند الشافعية، ووافقهم ابن المرابط من المالكية، وإن مذهب مالك يقتل بلا استتابة، وفرقوا بينه وبين من قال: جرح، أو أوذي؛ بأن الأخبار عن الأذى نقص في المؤذي لا عليه، والأخبار بالانهزام نقص له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعله لو وقع، كما أنَّ الأذى فع المؤذي، قال ابن دحية: وأما تغيبه في الغار، فكان قبل الإذن بالقتال، وأما مظاهرته بين درعين يوم أحد، فهو من الاستعداد للإقدام، وليقتدي به أصحابه، والمنهزم خارج عن الإقدام جملة، بخلاف المستعد له. انتهى.
"وأما" معنى "ما ذكر" أو الصفة المرادة "من سخائه، وجوده، وكرمه" والأوّل أولى لاطِّراده في جميع ما يأتي، والجواب محذوف، أي: ففيه خلاف، وإذا أردت معرفته، "فاعلم أن السخاء صفة غريزية" طبيعة قائمة بالموصوف، كقيام الأوصاف الحسية بمحالها، قال بعض: وهي سهولة الانفاق، وتجنب اكتساب، ما لا يحمد من الصنائع المذمومة، كالحجامة، وأكل ما لا يحل مأخوذ من الأرض السخاوية، وهي الرخوة اللينة، ولذا وصف الله تعالى بجواد دون سخيّ، لأنه أوسع في معنى العطاء، وأدخل في صفة العلاء، فعلى هذا هو أخص منه، وقيل هما مترادفان لقول الشاعر:
وما الجود من يعطي إذا ما سألته
…
ولكن من يعطي بغير سؤال
"وفي مقابلته الشح" أشد البخل، "والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: {وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، فحكم بالفلاح لمن وقي الشح، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل فقال:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3، 5] والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين.
وليس الشح من الآدمي بعجيب؛ لأنه جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة.
والسخاء أتمَّ وأكمل من الجود، وفي مقابلته البخل، وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء؛ إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخي جواد................
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} حرصها على المال، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] الآية، "فحكم بالفلاح لمن وقي الشح، وحكم بالفلاح أيضًا لمن أنفق، وبذل، فقال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم {يُنْفِقُونَ} ، [البقرة: 3] في طاعة الله، {َأُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] الفائزون بالجنة الناجون من النار، "والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين، وليس الشح من الآدمي بعجيب، لأنه جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة" مقتضاه تغاير الغريزة والجبلة، وفي المصباح: الجِبِلّة، بكسرتين، وتثقيل اللام، والطبيعة، والخلقة، والغريزة، بمعنى واحد، "والسخاء أتمّ، وأكمل من الجود" بناء على تغايرهما، والأصح: إن السخاء أدنى منه، ولذا لم يوصف الله به، كما مَرَّ، "وفي مقابلته" أي: الجود "البخل، وفي مقابلة السخاء الشح" ويأتي أن الجود إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فذكر تعريفه، كالسخاء، ولم يذكر الكرم مع أنه ترجم به، كأنه لأنه مأخوذ عنده في معنى الجود، وفي الشامي الكرم، بفتحتين، الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره، وفي نسخة قدره.
وفي القاموس الكرم محركة ضد اللؤم، كرم، بضم الراء، كرامة كرامًا، فهو كريم، وفيه اللؤم ضد الكرم، "والجود، والبخل يتطرَّق إليهما الاكتساب بطريق العادة"، وذلك أن الجواد إذا رأى من أنفق ماله، فصار فقيرًا غلب عليه الحرص، فمنع نفسه من الجود، حتى لا يصير كذلك، والبخيل يعلم خسة الدنيا، وما يؤل إليه، وإن ذا المال يموت، فيأخذ غيره ماله، فيعالج نفسه على إعطاء ما ينبغي، فيصير له طبيعة "بخلاف الشح، والسخاء؛ إذ كان" تعليلية، أي: لكون "ذلك من ضرورة الغريزة" فلا يمكن اكتسابهما، وهذه التفرقة بناء على أن الشحَّ أشد من البخل، وأنَّ السخاء أتم من الجود، أمَّا على ترادفهما، وأن الجود أعلى فلا، "فكل سخي جواد"
وليس كل جواد سخيًّا، والجود يتطرَّق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعا إلى غرض من الخلق أو الحق بمقابلة من الثناء أو غيره من الخلق والثواب من الله تعالى، ولا يتطرق الرياء إلى السخاء؛ لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه في عوارف المعارف.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس، رواه البخاري ومسلم من حديث أنس.
وأجود: أفعل تفضيل، من الجود وهو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، ومعناه: هو أسخى الناس، ولما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة، لا بُدَّ أن يكون فعله أحسن الأفعال،.................
لأن السخاء إعطاء ما ينبغي بحسب الطبيعة، "وليس كل جواد سخيًّا"؛ لأن الجود إعطاء ما ينبغي أيضًا، لكن قد يكون بمعالجة النفس على اكتسابه.
"والجود يتطرَّق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعًا إلى غرض من الخلق أو الحق" سبحانه، وبَيِّنَ الغرض بقوله:"بمقابلة من الثناء، أو غيره من الخلق، والثواب من الله تعالى"، كمن جاد بالمال لذلك، "ولا يتطرق الرياء إلى السخاء، لأنه" غريزة، لا صنع فيه، فلا يقصد به غرضًا؛ إذ هو "ينبع" يتفجر "من النفس الزكية، المرتفعة عن الأغراض، أشار إليه" العارف العلامة السهروردي، بمعنى ذكره "في" كتابه "عوارف المعارف" بلفظه من أول قوله: فاعلم إلى هنا، "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس"؛ لأن الله تعالى أعطاه كل الحسن، "وأشجع الناس" أقواهم قلبًا في حالة البأس؛ "وأجود الناس" لتخلقه بصفات الله، التي منها الجود والكرم، "رواه البخاري، ومسلم من حديث أنس" بزيادة تقدَّمت قريبًا في قوله: لقد فزع أهل المدينة إلخ.......، وإنه لفظ مسلم، ولفظ البخاري، ولقد فزع أهل المدينة ليلًا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم سبقهم على فرس، وقال:"وجدناه بحرًا"، "وأجود أفعل تفضيل من الجود" بضم الجيم، مصدر جاد، "وهو إعطاء ما ينبغي" شرعًا "لمن ينبغي أن يعطى" لاستحقاقه للصفة القائمة به، كالفقر، فلا حاجة لزيادة بعض لا لغرض لدخوله فيما ينبغي، وقيل: الجود تجنب اكتساب ما لا يحمد، وهو ضد التقتير، والجواد الذي يتفضل على من يستحق، ويعطي من لا يسأل، ويعطي الكثير ولا يخاف الفقر، والسخي الليِّن عند الحاجة.
قال الأستاذ القشيري: قال القوم: من أعطى البعض فهو سخي، ومن أعطى الأكثر وأبقى لنفسه شيئًا فهو جواد، ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو مؤثر، "ومعناه هو أسخى الناس، لما كانت نفسه أشرف النفوس، ومزاجه أعدل الأمزجة، لا بُدَّ أن يكون فعله أحسن الأفعال"
وشكله أملح الأشكال، وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شكَّ يكون أجود الناس، وكيف لا وهو مستغنٍ عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكلم، فإنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها الغضبية، وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية وكمالها الجود، وثالثها: العقلية وكمالها النطق بالحكمة.
وفي رواية لمسلم عنه: ما سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلّا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر.
وعنده أيضًا عن صفوان بن أمية....................
وهو كونه أسخى الناس، "وشكله أملح الأشكال" من الملاحة، "وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شَكَّ يكون أجود الناس" وأنداهم يدًا، "وكيف لا" يكون كذلك؟ "وهو مستغنٍ عن الفانيات" من متاع الدنيا، "بالباقيات الصالحات" لعله أراد بها هنا الطاعات التي ثوابها عظيم عند الله، لا خصوص سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
"واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكَلِم، فإنها أمهات" أصول "الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية، وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية" بفتح، فسكون، ففتح، نسبة إلى الشهوة على خلاف القياس، والقياس الشهوية، وهو كذلك في نسخة، وهي اشتياق النفس إلى الشيء، وجمعها شهوات، "وكمالها الجود، ثالثها العقلية، وكمالها النطق بالحكمة" وفي الفتح جمع أنس صفات القوى الثلاثة، العقلية، والغضبية، والشهوانية، فالشجاعة، تدل على الغضبية، والجود يدل على الشهوة، والحسن تابع لاعتدال المزاج المتتبع لصفاء النفس، الذي به جودة القريحة، الدال على العقل، فوصف بالأحسنية في الجميع. انتهى.
"وفي رواية لمسلم عنه" عن أنس "ما سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلّا أعطاه" لما جبل عليه من الجود والحياء، "فجاءه رجل" هو صفوان بن أمية، كما قال: غير واحد: "فأعطاه غنمًا بين جبلين" مبالغة في الكثرة، أي: إنها لكثرتها سدَّت ما بينهما، "فرجع إلى قومه" وهم قريش، "فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر"، وذلك آية لنبوته، وفي رواية: من لا يخشى الفاقة وهي الفقر، أو الشدة، "وعنده" أي: مسلم "أيضًا"، والترمذي من طريق سعيد بن المسيب، "عن صفوان بن أمية" بن خلف بن وهب، بن قدامة بن جمح القرشي،
قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة.
وفي مغازي الواقدي: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان يومئذ واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا، قال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي.
ويرحم الله جابر حيث قال:
هذا الذي لا يتقي فقرًا إذا
…
أعطى ولو كثر الأنام وداموا
وادٍ من الأنعام أعطى آملًا
…
فتحيِّرت لعطائه الأوهام
وإنما................................
الجمحي، المكي، صحابي من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان، وقيل: سنة إحدة أو اثنتين وأربعين، روى له مسلم، وأصحاب السنن، وعلق له البخاري، "قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وأنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. قال ابن شهاب" الزهري، بيانًا لمبهم قوله: أعطاني ما أعطاني، "أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة"، والحكمة في كونه لم يعطها دفعة واحدة أن هذا العطاء دواء لدائه، والحكيم لا يعطي الدواء دفعة واحدة؛ لأنه أقرب للشفاء. "وفي مغازي الواقدي: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان يومئذ" أي: يوم حنين، وكان حضرها مشركًا "واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا" عطف تفسير؛ إذ النعم اسم للإبل خاصة، قاله أبو عبيد، لكن قيل: تطلق النعم على الإبل والغنم، وعليه هو عطف عام على خاص، وفي نسخة: ونمًا. "قال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلّا نفس نبي" ولفظ الواقدي، يقال: إن صفوان طاف معه صلى الله عليه وسلم يتصفح الغنائم؛ إذ مَرَّ بشعب مملوء إبلًا وغنمًا فأعجبه، وجعل ينظر إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب"؟، قال: نعم. قال: "هو لك بما فيه" فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله، ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نفس نبي.
"ويرحم الله" أبا عبد الله محمد "بن جابر حيث قال: هذا الذي لا يتقي" لا يتلبَّس بما يدفع "فقرًا إذا".
"أعطى"، بل يعطي لقوة يقينه ورجائه في الله، "ولو كثر الأنام وداموا" استمروا على الطلب منه، فيستمر على الإعطاء، ولا يترك خوف الفقر، "وادٍ" بدال مهمل على حذف مضاف، أي: ملء واد "من الأنعام" بفتح الهمزة، وسكون النون: الإبل إشار لقصة صفوان "أعطي" حذف مفعوله الثاني، أي: أعطاه "آملًا" راجيًا، "فتحيرت لعطائه" لأجله "الأوهام"
أعطاه ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء وهو الإحسان، فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم، وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته عليه الصلاة والسلام؛ إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حَرِّ النيران إلى برد لطف الجنان.
وكان علي إذا وصفه صلى الله عليه وسلم قال: كان أجود الناس كفًّا، وأصدق الناس لهجة.
وخرج ابن عدي -بإسناد فيه ضعف- من حديث أنس مرفوعًا: أنا أجود بني آدم.
فهو صلى الله عليه وسلم بلا ريب أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم
العقول، لأنه خارق للعادة، "وإنما أعطاه ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علم أن داءه" مرضه، وهو الكفر، "لا يزول إلّا بهذا الدواء، وهو الإحسان؛ فعالجه به حتى برئ" بكسر الراء، وفتحها، "من داء الكفر" مرضه، "وأسلم" رضي الله عنه، "وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته عليه الصلاة والسلام؛ إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حر النيران" لو مات على الكفر، "إلى برد لطف الجنان" فجَرَّه إليها، ولم يتركه يقع في النار، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه" رواه البخاري.
"وكان علي" كما رواه الترمذي في حديث "إذا وصفه صلى الله عليه وسلم، قال: كان أجود الناس" أكثرهم عطاءً، "كفًّا" تمييز عن نسبة أجود إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، وكذا كان قلبه أجود القلوب، وأسخاها بالمال والمعارف، لا يبخل بشيء منها على مستحقه، وفي رواية: أجود الناس صدرًا، وأخرى: أوسع الناس صدرًا. "وأصدق الناس لهجة" بسكون الهاء، وفتح الجيم، أي: لسانًا، يعني كلامًا، وإطلاقه على آله الكلام الذي هو اللسان مبالغة، والمعنى: كلامه أصدق الكلام، لا مجال لجريان صورة الكذب عليه، فوضع المظهر موضع المضمر، فلم يقل أصدقهم لزيادة التمكّن، كما في:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] الآية؛ حيث لم يقل: هو الصمد، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] الآية. فما قال: وبه نزل، وهاتان من صفاته من قبل أن يبعث، قالت خديجة: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف؛ وتعين على نوائب الحق.
زاد في رواية: وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، "وخرَّج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من حديث أنس مرفوعًا""أنا أجود بني آدم" ورواه أبو يعلى وبقي بن مخلد في مسنديهما، عن أنس رفعه: ألا أخبركم عن الأجود لله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علمًا فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة واحدة، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل، "فهو صلى الله عليه وسلم بلا ريب" شك، "أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم؛ وأعلمهم، وأشجعهم،
وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله في إظهار دينه وهدايته عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث قال:
يروى حديث الندى والبشر عن يده
…
ووجهه بين منهل ومنسجم
من وجه أحمد لي بدر ومن يده
…
بحر ومن فمه در لمنتظم
يمم نبيًّا يباري الريح أنمله
…
والمزن في كل هامي الودق مرتكم
لو عامت الفلك فيما فاض من يده
…
لم تلق أعظم بحر منه إن تعم
وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله في إظهار دينه" كما ظهر يوم حنين وأُحُد؛ إذ بقى بين العدو وحده، "وهدايته عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من" بيان الجملة الطرق التي بان فيها جوده؛ "إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم. ولقد أحسن ابن جابر، حيث قال، يروي حديث الندى" كثرة الإعطاء، "والبشر" بكسر الموحدة، وسون المعجمة، طلاقة الوجه، "عن يده" عائد للندى، "و" عن "وجهه" عائد للبشر، فهو لف ونشر مرتب، وهذا خير من رفع وجهه، على أنه جملة حالية، لأن البشر لا تعلق له باليد، "بين منهل" بضم الميم، وفتح الهاء، وشد اللام، أي: مطر كثير، "ومنسجم" بضم الميم وسكون النون، وفتح السين، وكسر الجيم، متوسط، يريد أن عطاياه وطلاقة وجهه لازمان له، لا ينفكان عنه، غايته أنهما دائران بين الكثرة والتوسط، والجملة صلة يروي، أو حال من الندى والبشر، "من وجه أحمد" ولاح "لي بدر" نور كنوره، "ومن يده بحر" عطاء كالبحر، "ومن فمه در" كبار اللؤلؤ، أي: ثنايا كدُرٍّ، "لمنتظم" في سلكه، فهو تشبيه بليغ في الثلاثة، أو استعارة تصريحية؛ "يمم" اقصد في مهماتك "نبيًّا" كثير الخير والرحمة؛ بحيث "يباري" بضم الفوقية، أو التحتية، والأكثر تأنيث الريح، -فألف فموحدة فراء فتحتية- يغالب ويعارض "الريح"، فعل "أنمله" فتريد الريح فعل مثلها في سرعة الحصول، والوصول إلى المحتاج، فلا تقدر على ذلك، وإن لم تنفك عن الهبوب، "والمزن" جمع مزنة سحابة بيضاء، عطف على الريح، حال كون المزن، "من كل هامي" سائل "الودق" المطر "مرتكم" مجتمع ماؤه لكثرته، أي: من كل سحاب كثير المطر، احترازًا عن سحاب لا مطر فيه، والمعنى أن ما سأل منه شابه أنمله في الإعطاء، وإن افترقا في أن عطاءه أتمَّ وأرجح، "لو عامت الفلك فيما فاض" أي: في البحار التي فاضت "من يده، لم تلق أعظم بحر منه أن تعم" فلا تعوم إلا فيه:
يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ
…
به ودع كل طامي الموج ملتطم
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت
…
كل الأنام وروت قلب كل ظمي
فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحائب من غمائم يمينه.
وروى البخاري من حديث جابر: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال: لا، وكذا عند مسلم، أي: ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه.
قال الفرزدق:
ما قال لا قط إلا في تشهده
…
لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ
…
به ودَعْ كل طامي الموج ملتطم
أي: اترك الأمواج الكثيرة التي دخل بعضها في بعض، لكثرتها والجأ إلى ما فاض من يده، فما عداه بالنسبة له كالعدم، والمعنى: إن عطاء غيره بالنسبة له لا يعد شيئًا.
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت
…
كل الأنام وروت قلب كل ظمي
ظمآن لكنها شاملة كل العالم، فهو استدلال على دعواه إحاطة كفيه بالبحر، وذلك لأن هدايته وإنقاذه من الضلال وشفقته شاملة لجميع العالم، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فهو قياس استثنائي، فاستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، "فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحائب من غمائم يمينه" ثم استدل على دعواه كثرة إنعامه، فقال:"روى البخاري، من حديث جابر" بن عبد الله، قال:"ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قط"، يقدر عليه من الخير، "فقال: لا" بل يعطيه إن كان عنده، أو يعده بميسور من القول إن ساغ وإلا سكت أو دعا، "وكذا عند مسلم" عن جابر، ولو قال: أولًا: روى البخاري، ومسلم لا غناه عن هذا "أي: ما طلب منه شيء من أمر الدنيا، فمنعه، قال الفرزدق" همام بن غالب بن صعصعة، بن ناجية التميمي، قال المرزباني: كان سيدًا جوادًا، فاضلًا وجيهًا عند الأمراء والخلفاء، وأكثر العلماء يقدمونه على جرير، مات سنة عشر ومائة، وقد قارب المائة، وقيل: بلغ مائة وثلاثين سنة، والأول أثبت، وصحَّ أنه قال الشعر أربعًا وسبعين سنة، لأن أباه أتى إلى علي في سنة ست وثلاثين، فقال: إن ابني شاعر، فقال علي: علّمه القرآن، فإنه خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق، فقيِّد نفسه، وآلى أن لا يحل نفسه حتى يحفظ القرآن، ووهم من زعم أنه صحابي، كما بينه في الإصابة. "ما قال لا قط إلّا في تشهده" أي نطقه بكلمة التوحيد، سواء كان في صلاة أم لا، "لولا التشهد كانت لاؤه نعم" مرفوع، على الحكاية، أي: هذا اللفظ، أي: لولا أنه ينطق بلا في التشهد لم ينطق إلّا بنعم، وظاهر
لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر: ليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزمًا، بل المراد: إنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء أعطاه إن كان الإعطاء سائغًا وإلّا سكت. قال: وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية عند ابن سعد ولفظه: كان إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم،
سوق المصنف هذا البيت، وتبعه تلميذه الشامي أنه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، والذي في القصيدة أنه في زين العابدين علي بن الحسين، قال في حياة الحيوان: ينسب إلى الفرزدق، مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أن هشام بن عبد الملك لما حجَّ أيام أبيه طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود، فلم يقدر لكثرة الزحام، فجلس على كرسي ينظر الناس، ومعه جماعة من أعيان الشام، فأقبل زين العابدين علي بن الحسين فطاف، فلما انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلمه، فقال شامي لهشام: من ذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: ما أعرفه مافة أن يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو؟ فقال:
هذا ابن خير عباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
إلى أن قال:
وليس قولك من هذا يضائره
…
العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما
…
يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره
…
يزينه اثنان حسن الخلق والكرم
حمال أثقال أقوام إذا فدجوا
…
حلو الشمائل تحدو عنده نعم
وبعد ما قال لا البيت، وبعده:
عم البرية بالإحسان فانقشعت
…
عنها الغياهب والأملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم
…
كفر وقربهم منجا ومعتصم
وهي خمسة وعشرون بيتًا، فغضب هشام وحبس الفرزدق، فأنفذ له زين العابدين اثنتي عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله لا للعطاء، فأرسل يقول له: إنَّا أهل بيت إذا وهبنا شيئًا لا نستعيده، والله يعلم نيتك ويثيبك عليها، فقبلها، "لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر" في فتح الباري "ليس المراد" يقول جابر، فقال: لا "إنه يعطي ما يطلب منه جزمًا" لأنه خلاف الواقع، "بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء" المطلوب، أو غيره "أعطاه إن كان الإعطاء سائغًا"، كالمباح، "وإلّا سكت" أو اعتذر، كما يأتي، أو دعا، كما قال بعض "قال: وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب اشتهر بأمه، "عند ابن سعد، ولفظه كان" صلى الله عليه وسلم "إذا سئل، فأراد أن يفعل، قال:"نعم"،
وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبي هريرة: ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلّا تركه.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه: لم يقع، لا منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارًا كما في قوله تعالى:{قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92]، ولا يخفى الفرق بين قوله: لا أجد ما أحملكم، وبين: لا أحملكم. انتهى.
وهو نظير ما في حديث أبي موسى الأشعري: لما سأله الأشعريون الحملان فقال صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم عليه".
لكن يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال: "والله لا أحملكم على شيء" فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر ما إذا سئل ما ليس عنده، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة، فلو
وإن لم يرد أن يفعل سكت، وهو قريب من حديث أبي هريرة" السابق "ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه" كالضب، وبهذا لا يخالف ما ورد أن من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، "وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه" أي: قول جابر، "لم يقع لا منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارًا" كذا في النسخ الصحيحة، بلا بعد أن، وفي نسخة حذفها، وهي خطأ، "كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} الآية. ولا يخفي الفرق بين قوله: لا أجد ما أحملكم" لأن فيه الاعتذار بعدم الوجدان، "وبين لا أحملكم" لأنه منع بلا اعتذار. انتهى كلام العز، "وهو نظير ما في حديث أبي موسى"، عبد الله بن قيس "الأشعري، لما سأله الأشعريون الحملان" بضم، المهملة، وسكون الميم، أي: الشيء الذي يركبون عليه، ويحملهم في غزوة تبوك، "فقال صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم عليه" كما في رواية للشيخين، "لكن يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم، فقال كما في رواية لهما أيضًا: "والله لا أحملكم على شيء" ووافقته وهو غضبان، ولا أشعر، "فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، ما إذا سئل ما ليس عنده، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك" فلا تنافي بينه وبين حديث أبي موسى، "أو" يقال: يخص منه "حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة" من أنه إذا لم يرد الإعطاء سكت، "فلو اقتصر
اقتصر في جوابه على السكون مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلًا، ويكون القسم على ذلك تأكيدًا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله:"لا أجد ما أحملكم" وقوله: "والله لا أحملكم" إن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودًا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالفرض مثلًا أو بالاستيهاب؛ إذ لا اضطرار حينئذ.
وروى الترمذي أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما ردَّ سائلًا حتى فرغ منها.
قال: وجاءه رجل.....................
في جوابه على السكوت، مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلًا، ويكون القسم على ذلك تأكيدًا لقطع طمع السائل" عن السؤال، "والسر" الحكمة "في الجمع بين قوله: "لا أجد ما أحملكم" وقوله: "والله لا أحملكم": إن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودًا عنده" فاعتذر بعدمه "والثاني أنه لا يتكلّف الإجابة إلى ما سئل بالفرض" السلف "مثلًا، أو بالاستيهاب" أي: طلب الهبة من أحد "إذ لا اضطرار حينئذ" لذلك، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع ستة أبعرة بعد سويعة، وحملهم عليها.
"وروى الترمذي أنه حمل إليه تسعون" بفوقية قبل السين، وفي رواية ابن أبي الحسن بن الضحاك، في شمائله مرسلًا، ثمانون "ألف درهم" بغلية، أو طبرية، أو منهما، لا بقيد النصف من كل، والدراهم التي في عهده منهما، ووزن أحدهما ثمانية دوانق، والأخرى أربعة، هذا والمبتادر من صنيع المصنف، إن هذه الدراهم غير الدراهم الآتية من البحرين، فإنه أول مال حمل إليه، فيكون هذا المجيء متأخرًا عن مال البحرين، وانظر أي زمان تأخَّر عنه، ومن أين قدومه، وما سببه، كذا قال شيخنا: وفي بعض الهوامش الجزم بأن هذه الدراهم هي التي حملت إليه من البحرين، اختلف في عدتها؛ وأن الحديثين واحد، وهذا هو الأصل والمتبادر، "فوضعت على حصير، ثم قام إليها" لعلَّ المراد شرع "يقسمها" أو أخذ يقسمها؛ بأن أمر به، وإن لم يقم بالفعل، ولا باشر القسم بيده، "فما ردَّ سائلًا" لا يؤخذ منه أنه لم يعط إلا من سأله، بل يصدق بذلك، وبإعطاء من علم حاجته، فيدفع له إن كان عنده بلا سؤال، أو يبعث إليه "حتى فرغ منها" غاية لقوله: قسمها، أو لقوله: فما رَدَّ سائلًا، وليس المراد أنه يرد بعد الفراغ، فهو ونحو حديث:"إن الله لا يمل حتى تملوا"، "قال" أي: روى الترمذي في الشمائل بتصرف قليل لا يغير المعنى، "وجاءه رجل" لفظ الشمائل، عن عمر بن الخطاب أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-
فقال: "ما عندي شيء ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه"، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر، فكره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالًا،..................
يسأله أن يعطيه، "فقال:"ما عندي شيء، ولكن ابتع علي" روي بموحدة ساكنة بعد همزة الوصل، ففوقية، أي: اشتر واعدد، أو احسب علي، قال الزمخشري: البيع هنا الاشتراء، قال طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لا تبع له
…
بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد
وروي بتقديم التاء الفوقية على الموحدة، أي: أحل علي، قال الزمخشري: اتبعت فلانًا على فلان أحلته، ومنه خبر إذا اتبع أحدكم علي ملئ فليتبع، انتهى.
وفي رواية البزار عن عمر، فقال:"ما عندي شيء أعطيك، ولكن استقرض حتى يأتينا شيء فنعطيك"، فلا مانع من تفسير ابتع، أو اتبع باستقرض، تجوز الرواية البزار إذ الحديث واحد، وليس بضمان، بل وعد منه، ووعده ملتزم الوفاء؛ إذ وعد الكريم دَيْن، ولذا صحَّ أنه لما توفي نادى لصديق لما جاءه مال البحرين من كان له عند رسول الله عدة أو دين فليأتنا، فجاء جابر وقال: إنه وعدني كذا، فأعطاه له الحديث في الصحيح، "فإذا جاءنا شيء" من غنائم، أو غيرها "قضيناه" أي: أدَّيناه، وعبَّر بالجمع للتعظيم، أي: فضيته قضاء أنال به التعظيم من الله، ولذا لم يقل: جاءني، وقضيته مع قوله: عليَّ، والقضاء يشعر بأنه لزم زمته، كذا وجهه بعض شراح الشفاء؛ لأنه وقع فيها بالجمع كما هنا، لكن لفظ الشمائل:"فإذا جاء شيء قضيته"، "فقال له عمر" القياس، فقلت له: فهو التفات عند بعض، أو رواية بالمعنى، قال المصنف: وهو بعيد، "ما كلفك الله ما لا تقدر" أي: ما ليس حاصلًا عندك، "فكره النبي صلى الله عليه وسلم" قول عمر، كما هو لفظ الترمذي، أي: من حيث استلزامه قنوط السائل وحرمانه؛ ولأن مثله ما لا يعد تكليفًا لما لا يقدر عليه، لما عوَّده الله من فيض نعمه عليه، "فقال رجل من الأنصار"؛ حيث رأى كراهة المصطفى لذلك:"يا رسول الله أنفق" بفتح الهمزة، أمر من الإنفاق، "ولا تخف" قال بعض: كذا في غالب النسخ، ولعل الصواب، ولا تخش، فإنه يصير نصف بيت موزون، وليس هذا الترجي بشيء "من ذي العرش" قيد للمنفي، لا للنفي "إقلالًا" فقرأ من قلَّ بمعنى افتقر، وهو في الأصل بمعنى صار ذا قلة، وما أحسن من ذي العرش هنا، أي: لا تخف أن يضيِّع مثلك من هو مدبر الأمر من السماء إلى الأرض، قال البرهان في المقتفى: هذا الرجل لا أعرفه، وفي حفظي أنه بلال، لكنه مهاجري لا أنصاري، فيكون قد قال ذلك بلال والأنصاري، أو أن الذي فيه ذكر بلال قصة أخرى، المأمور فيها بالإنفاق بلال. روى الطبراني، والبزار عن ابن مسعود
فتبسم صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه. وقال: "بهذا أمرت".
وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك كالاستيلاف ونحوه.
وذكر ابن فارس في كتابه "أسماء النبي صلى الله عليه وسلم" أنه في يوم حنين جاءت امرأة فأنشدت شعرًا تذكره أيام رضاعته في هوازن، فردَّ عليهم ما أخذه، وأعطاهم عطاءً كثيرًا، حتى قوِّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف.......................................
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال وعنده صبرة من تمر، فقال:"ما هذا يا بلال"؟، قال: يا رسول الله دخرته لك ولضيفانك، قال:"ألا تخشى أن يفور لها بخار من جهنم؟، أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالًا" انتهى.
فما في حفظه، إنما هو في هذه القصة، فلا يصح تفسير المبهم ببلال لوجهين، "فتبسم صلى الله عليه وسلم" فرحًا بقول الأنصاري، "وعرف البشر في وجهه" بانبساطه وتهلله، "وقال بهذا" أي: الإنفاق من غير مخافة فقر، "أمرت" بنحو:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، لا بما قال عمر، فقدَّم الظر ليفيد قصر القلب رد اعتقاد عمر، "وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك، كالاستيلاف" بسكون الياء، وأصله الهمزة، "ونحوه" كدفع الضرر، واستشكل الحديث؛ بأن الله قال:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [إسراء: 29] الآية، وأجاب القاضي أبو يعلى، بأن المراد بهذا الخطاب غيره صلى الله عليه وسلم، وغير خُلَّص المؤمنين الذين كانوا ينفقون جميع ما عندهم عن طيب قلب لتوكلهم وثقتهم بما عند الله، أما من كان ليس كذلك يتحسَّر على ما ذهب منه، فهم المحمود منهم التوسط {الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] الآية؛ لأنهم لا صبر لهم على الفاقة، ولذا صعب عليه صلى الله عليه وسلم كلام عمر، لما راعى ظاهر الحال، وأمره بصيانة المال، شفقة عليه لعلمه بكثرة السائلين له، وتهافتهم عليه، والأنصاري راعى حاله صلى الله عليه وسلم، فلذا سره كلامه، فقوله:"بهذا أمرت" إشارة إلى أنه أمر خاص به، وبمن يمشي على قدمه، "وذكر ابن فارس في كتابه أسماء النبي" وفي نسخة في أسماء، أي: المؤلف في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، أنه في يوم حنين جاءت" وفي نسخة جاءته "امرأة، فأنشدت شعرًا تذكره أيام رضاعته في هوازن، فردّ عليهم ما أخذه" من النساء، والبنين، ونسب إليه لأنه الأمير، وفي نسخة بحذف الهاء مبني للفاعل، أي: ما أخذ مما نابه من الخمس، أو المفعول: أي: المسملون، "وأعطاهم" عطف تفسير، أي: كان المردود "عطاء كثيرًا"؛ لأنه لم يكن معه مال غير المأخوذ من الغنيمة، وسمي المردود عطاء الملك الغانمين له "حتى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف" من السبايا، وأما أموالهم فلم يردها عليهم؛ لأنه كان قسم الجميع، فلما جاءوه مسلمين
ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الوجود.
وفي البخاري من حديث أنس: إنه صلى الله عليه وسلم أتي بمال البحرين فقال: "انثروه" -يعني صبوه- في المسجد، وكان أكثر مال أتي به صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلمَّا قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه؛ إذ جاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا،..................
خَيَّرَهم بين رد المال أو السبايا، فاختاروا السبايا فردهم، كما مَرَّ مفصلًا. "قال ابن دحية، وهذا نهاية الجود، الذي لم يسمع بمثله في الوجود" وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن رجل من العرب، مشيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجله، فنفحني نفحة بسوط في يده، وقال:"بسم الله أوجعتني"، فبت لنفسي لائمًا أقول: أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: ابن فلان، فقلت: هذا الذي، والله كان مني بالأمس، فانطلقت وأنا متخوّف، فقال لي صلى الله عليه وسلم:"إنك وطئت رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك بسوط، فهذه ثمانون نعجة فخذها"، ونفحني -بنون ففاء فمهملة- دفعني، ولعله أتى بالتسمية مع نفحة، إرادة أن لا يؤلمه الدفع، "وفي البخاري" في مواضع "من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتي" بضم الهمزة، مبني للمفعول، "بمال من" خراج "البحرين" لفظ تثنية بحر بلدة بين بصرة، وعمان، "فقال:"انثروه" بمثلثة "يعني صبوه" فسره به لدفع توهم أنه أمر بنثره مفرقًا "في المسجد" النبوي، وفيه جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوها في المسجد، ومحله ما لم يمنع مما وضع المسجد له من صلاة وغيرها مما بني المسجد لأجله، ونحو هذا الوضع وضع زكاة الفطر، ويستفاد منه جواز وضع ما يعم نفعه في المسجد، كالماء لشرب من عطش، ويحتمل التفرقة بين ما وضع للخزن للتفرقة وبين ما يوضع للخزن، فيمنع الثاني دون الأول، قاله الحافظ:"وكان أكثر مالٍ أتي به صلى الله عليه وسلم" من الدراهم، أو من الخراج، فلا ينافي أنه غنم في حنين ما هو أكثر منه وقسمه، "فخرج إلى المسجد، ولم يلتفت إليه" أي: المال، أي: لم يتعلّق نظره بأخذ شيء منه لنفسه، ولا لأحد من أصحابه به بعينه، ففيه غاية كرمه، وأنه لا يلتفت إلى المال قلَّ أو كَثُر.
"فلمَّا قضى الصلاة جاء، فجلس إليه" أي: عنده، "فما كان يرى أحدًا إلّا أعطاه" منه "إذ جاء العباس" عمه، من غير موعد سابق، قال في المصابيح: المعنى، فبينما هو على ذلك إذ جاءه العباس، "فقال: يا رسول الله أعطني" منه، "فإني فاديت" أي: أعطيت فداء "نفسي" يوم بدر، "فاديت عقيلًا" بفتح العين، وكسر القاف- ابن أبي طالب، وكان أسر مع عمه في غزوة
فقال له: "خذ"، فحثى في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه عليّ، قال:"لا"، قال: فأرفعه أنت عليّ، فقال:"لا"، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه عليّ، قال:"لا"، قال: فارفعه أنت عليّ، قال:"لا"، فنثر منه ثم احتمله، فألقاه على كاهله فانطلق، فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبًا من حرصه، فما قام عليه الصلاة والسلام وثَمَّ منها درهم.
وفي رواية ابن أبي شيبة...................
بدر، "فقال له: خذ فحثى" بمهملة، ومثلثة، من الحثية، وهي ملء اليد "في ثوبه" أي: حثى العباس في ثوب نفسه، "ثم ذهب يقله" بضم أوله، من الإقلال، وهو الرفع والحمل، أي: يرفعه، "فلم يستطع" حمله، "فقال: يا رسول الله مر بعضهم" بضم الميم، وسكون الراء، وفي رواية: أؤمر بالهمز "يرفعه علي" بالجزم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع، أي: فهو يدفعه، قاله الحافظ، وقال المصنف: أؤمر بهمزة مضمومة، فأخرى ساكنة، وبحذف الأولى، وتصير الثانية ساكنة، وهذا جار على الأصل، وللأصيلي مُرْ على وزن على، حذف منه فاء الفعل لاجتماع المثلين في أول كلمة، وهو مؤد إلى الاستثقال، فصار أمر، فاستغني عن همزة الوصل المتحرك ما بعدها فحذفت، ولأبي ذر في نسخة: برفعه بموحدة مكسورة، وسكون الفاء، "قال: "لا" آمر أحدًا برفعه" "قال: فأرفعه أنت عليّ، فقال:"لا" أرفعه، وإنما فعل ذلك تنبيهًا له على الاقتصاد، وترك الاستكثار من المال، "فنثر" العباس "منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: "لا" ، قال: فارفعه أنت عليّ، قال: "لا" أرفعه، وكأن العباس فهم أنه لا يكلف بعض أصحابه برفعه، فسأله أن يرفعه هو إدلالًا عليه، "فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله" أي: بين كتفيه.
قال الحافظ وغيره، قال ابن كثير: كان العباس شديدًا طويلًا نبيلًا، قلَّما احتمل شيئًا يقارب أربعين ألفًا، "فانطلق" وفي رواية، ثم انطلق، وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله، فقد أنجز يشير إلى قوله تعالى:{إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] الآية، "فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه" بضم أوله، وسكون ثانية، وكسر ثالثه، أي: يتبع العباس، "بصره حتى خفي علينا" غاب شخصه عنا؛ بحيث لا نراه "عجبًا" بالنصب مفعول مطلق، من حرصه، فما قام عليه الصلاة والسلام" من ذلك المجلس، "وثَمَّ" بفتح المثلثة، أي: هناك "منها" أي: الدراهم "درهم" جملة حالية من مبتدأ مؤخر وهو درهم، وخبره منها، ومراده: نفي أن يكون هناك درهم، فالحال قيد للمنفي لا للنفي، فالمجموع منتفٍ بانتفاء القيد لانتفاء المقيد، وإن كان ظاهره نفي القيام حالة ثبوت الدراهم، قاله البرماوي، والعيني، "وفي رواية ابن أبي شيبة،
من طريق حميد بن هلال مرسلًا: كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول مال حمل إليه صلى الله عليه وسلم.
وسايره جابر على حمل له، فقال عليه الصلاة والسلام:"بعني جملك"، فقال: هو لك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فقال:"بل بعنيه"، فباعه إياه وأمر بلالًا أن ينقده ثمنه فنقده، ثم قال له صلى الله عليه وسلم:"اذهب بالثمن والجمل بارك الله لك فيهما" مكافأة لقوله: هو لك، فأعطاه الثمن...........
من طريق حميد بن هلال" العدوي، أبي نصر البصري التابعي الثقة العالم، روى له الستة "مرسلًا، كان" المال "مائة ألف" من الدراهم، "وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول مالٍ حُمِلَ إليه صلى الله عليه وسلم". زاد في الفتح، وعند البخاري في المغازي من حديث عمرو بن عوف، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم، فقدم أبو عبيدة بمالٍ، فسمعت الأنصار بقدومه. الحديث. فيستفاد منه تعيين الآتي المال، لكن في الردَّة للواقدي أن رسول العلاء ابن الحضرمي بالمال هو العلاء بن جارية الثقف، فلعله كان رفيق أبي عبيدة.
وأما حديث جابر، ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"لو جاء مال البحرين أعطيتك"، وفيه، فلم يقدم مال البحرين حتى مات صلى الله عليه وسلم، فلا يعارض ما تقدَّم، بل المراد أنه قدم في السنة التي مات فيها؛ لأنه كان مال خراج أو جزية، فكان يقدم من سنة إلى سنة، "وسايره جابر" بن عبد الله في انصرافه من غزوة ذات الرقاع، كما رواه ابن إسحاق عن جابر، وفي البخاري أن ذلك كان في غزوة تبوك، وفي مسلم في غزوة الفتح، "على حمل له" كان قد أبطأ، فلا يكاد يسير، فأمره بإناخته، ونخسه نخسات بعصا، وضربه برجله، ودعا فوثب الجمل، فقال صلى الله عليه وسلم:"اركب"، فقال جابر: إني أرضى أن يساق معنا، قال:"اركب" فركب، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتني وأنا أكنه عنه صلى الله عليه وسلم إرادة أن لا يسبقه، "فقال عليه الصلاة والسلام:"بعني جملك" فقال: هو هبة "لك يا رسول الله" بلا ثمن، فديتك "بأبي أنت، وأمي"، أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل لفديتك بهما، "فقال:"بل بعنيه" فلا أقبله هبة، "فباعه إياه" بأوقية، أو أربع، أو خمس، أو خمسة دنانير، أو أربعة دنانير، أو دينارين ودرهمين، روايات ذكرها البخاري، "وأمر بلالًا" بعدما رجع إلى المدينة "أن ينقده" -بفتح الياء، وضم القاف على الأكثر، ويجوز ضمَّ الياء وكسر القاف- ثمنه، "فنقده" ثمنه، وزاده عليه شيئًا يسيرًا، كما عند ابن إسحاق، "ثم قال له صلى الله عليه وسلم:"اذهب بالثمن والجمل، بارك الله لك فيهما" قال ذلك "مكافأة لقوله هو لك، فأعطاه الثمن،
ورَدَّ عليه الجمل وزاده الدعاء بالبركة فيهما. وحديثه في البخاري ومسلم.
وقد كان جوده عليه الصلاة والسلام كله لله وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه.
وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطي عطاء يعجز عند الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريفة من الجوع.
وكان صلى الله عليه وسلم قد أتاه سبي، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادمًا يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد،.....................
ورَدَّ عليه الجمل، وزاده الدعاء بالبركة فيهما، وحديثه في البخاري" في عشرين موضعًا "ومسلم" وفي ذكره مع التكلّم عليه طول يخرج عن المقصود، وقد تقدَّم إلمامٌ ببعضه في ذات الرقاع.
"وقد كان جوده عليه الصلاة والسلام كله لله، وفي ابتغاء مرضاته" عطف تفسير، وعلله بقوله:"فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله" الجهاد ونحوه، "وتارة يتألّف به" أي: يطلب به الألفة "على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه" بأن يطلب دخوله فيه، ومحبته له، وتارة لإنقاذ المتألف من النار وإن لم يقو الإسلام به، "وكان يؤثر" يقدم "على نفسه، وأولاده" فيعطي ما بيده للمحتاج، ويتحمل المشقة هو وعياله، "فيعطي عطاء يعجز" بكسر الجيم، أفصح من فتحها، "عند الملوك" العظام، "مثل كسرى" بكسر الكاف، وقد تفتح، "وقيصر" ملك الروم "ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار" كما ورد في الحديث "وربما ربط الحجر على بطنه خلاف الظهر مذكر، وتأنيثه لغة حكاها أبو عبيدة، وعليها جرى قوله "الشريفة من الجوع".
"وكان صلى الله عليه وسلم قد أتاه" قوم "سبى" وصف بالمصدر، "فشكت إليه" ابنته "فاطمة" رضي الله عنها "ما تلقى" أي: المشقة التي تلقاها، "من خدمة البيت، طلبت منه خادمًا" يقع على الأنثى، والذكر "يكفيها مؤنة بيتها" من السبي، "فأمرها أن تستعين بالتسبيح" أي: قول سبحان الله عند النوم ثلاثًا وثلاثين، "والتكبير" أي قول: الله أكبر كذلك، "والتحميد" قول: الحمد لله
وقال: "لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع".
وأتته امرأة ببردة.........................
كذلك، "وقال:"لا أعطيك" خادمًا من السبي، "وأدع أهل الصفة" الفقراء "تطوى بطونهم من الجوع" ، فمنع أحب أهله إليه شفقة على الفقراء، وهذا الحديث رواه أحمد، عن علي أنه قال لفاطمة: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما جاء بك أي بنية؟ " قالت: جئت لأسلِّم عليك، واستحيت أن تسأله، ورجعت فقال:"ما فعلت"؟، قالت: استحييت أن أسأله، فأتيا جميعًا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاء الله بسبي وسعة، فأخدمنا، فقال:"والله لا أعطيكم، وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم، وأنفق عليهم أثمانهم" فرجعا، فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رءوسهما كشفت أقدامها، وإذا غطت أقدامهما كشفت رءوسهما، فثارا، فقال: مكانكما، ثم قال:"ألا أخبركما بخير مما سألتماني"؟، قالا: بلى. قال: "كلمات علمنيهنَّ جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا وتكبران عشرًا، فإذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين".
ومجلت، بفتح الجيم، وكسرها، انقطعت من كثرة الطحن، والحديث في البخاري ومسلم عن علي، إن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال:"على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال:"ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما من الليل، تكبران ثلاثًا وثلاثين، وتسبحان ثلاثًا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم".
قال القاضي عياض: معنى الخيرية أنَّ عمل الآخرة أفضل من أمور الدنيا، وقال ابن تيمية: فيه أن من واظب على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء؛ لأن فاطمة شكت التعب من العمل، فأحالها عليه، "وأتته امرأة".
قال الحافظ: لم أقف على اسمها "ببردة" منسوجة فيها حاشيتها، كما في البخاري، مرفوع بمنسوجة؛ لأن اسم المفعول يعمل عمل فعله، كاسم الفاعل، قال الداودي: يعني أنها لم
فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليه فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه فاكسنيها، فقال صلى الله عليه وسلم:"نعم"، فلما قدم صلى الله عليه وسلم لامه............
تقطع من ثوب، فتكون بلا حاشية، وقال غيره: حاشية الثوب هديه، وكأنه أراد أنها جديدة لم يقطع هدبها، ولم تلبس، قال القزاز: حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفيهما الهدب، ولفظ البخاري في الأدب: جاءت امرأة ببردة، فقال سهل للقوم: أتدون ما البردة، قالوا: الشملة، قال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها، "فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه؟ " وفي رواية الجنائز، قال: "نعم" قالت: قد نسجتها بيدي، فجئت لأكسوكها.
قال الحافظ: وتفسير البردة بالشملة تجوز؛ لأن البردة كساء، والشملة ما اشتمل به فهي أعمّ، لكن لما أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها، "فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها" كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال، أو تقدّم قول صريح، "فلبسها" لفظ الأدب، وفي رواية الجنائز، فخرج إلينا، وأنها إزاره، ولابن ماجه: فخرج إلينا فيها. وللطبراني: فأتزر بها ثم خرج، "فرآها عليه رجل من الصحابة" أفاد المحب الطبري في الأحكام أنه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبراني، ولم أره في المعجم الكبير، ولا في مسند سهل، ولا في مسند عبد الرحمن، وقد أخرج الطبراني الحديث.
وقال في آخره: قال قتيبة: هو سعد بن أبي وقاص، وأخرجه البخاري في اللباس، والنسائي في الزينة عن قتيبة، ولم يذكرا عنه ذلك، ورواه ابن ماجه.
وقال فيه: فجاء رجل سماه يومئذ، وهو دال على أن الراوي ربما سماه في رواية أخرى للطبراني، من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل، أن السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفًا لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف، أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال: تعددت القصة على ما فيه من بعد، وقول شيخنا ابن الملقن: إنه سهل ابن سعد غَلَطٌ التبس عليه اسم القائل باسم الراوي، قاله الحافظ:"فقال: يا رسول الله ما أحسن" بنصبه تعجبًا، "هذه" البردة "فاكسنيها" لفظ الأدب، ولفظ الجنائز عقب أنها إزاره فحسنها فلان، فقال: اكسنيها ما أحسنها.
قال الحافظ: فحسنها كذا، في جميع الروايات هنا، أي: في الجنائز -بمهملتين- من التحسين، وللبخاري، وفي اللباس، فجسَّها -بجيم، بلا نون، وكذا للطبراني، والإسماعيلي من طريق أخر، "فقال صلى الله عليه وسلم:"نعم" اكسوكها، وللبخاري في اللباس، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع، فطواها، فأرسل بها إليه، "فلما قال صلى الله عليه وسلم لامه" أي: السائل، "أصحابه،
أصحابه، وقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه. رواه البخاري من حديث سهل بن سعد.
وفي رواية ابن ماجه والطبراني قال: "نعم" ، فلما دخل طواها وأرسل بها إليه.
وأفاد الطبراني في رواية زمعة بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها، فمات قبل أن يفرغ منها.
وفي هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وسعة جوده.
واستنبط منه السادة الصوفية: جواز استدعاء المريد خرقة التصوّف من
وقالوا: ما" نافية "أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها".
وفي رواية: لبسها "محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه" وفي رواية: لا يرد سائلًا، بقيته في البخاري فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي أكفَّن فيها. وفي رواية للبخاري أيضًا، فقال الرجل: والله ما سألتها إلّا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه، وبَيِّنَ في رواية الطبراني المعاتب له من الصحابة، ولفظه: قال سهل: فقلت للرجل: لِمَ سألته وقد رأيت حاجته إليها، فقال: رأيت ما رأيتم، ولكني أردت أن أخبأها حتى أكفَّن فيها. وفي رواية فتح الباري في الجنائز، قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه، "رواه البخاري" في الجنائز، والبيوع، والأدب، واللباس، "من حديث سهل بن سعد" الساعدي.
"وفي رواية ابن ماجه، والطبراني، قال: "نعم" أكسوكها، "فلما دخل طواها، وأرسل بها إليه"، وكذا البخاري في اللباس، بعد قوله قال: "نعم"، وقيل: قوله، فلمَّا قام، وإنما أوقع المصنف أنه نقل هذا من الفتح، في الجنائز مع أنه إنما صدَّر بعزوه لهما لقوله من هذا الوجه، أي: الذي أخرجه منه البخاري في الجنائز، وقال عقبة: وهو للمصنف، أي: البخاري في اللباس، من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، بلفظ، فقال: "نعم"، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، "وأفاد الطبراني في رواية زمعة" بسكون الميم، "ابن صالح" الجندي -بضم الجيم، والنون- اليماني، نزيل مكة، ضعيف من السادسة، أي: في روايته، من طريق زمعة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، "أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها" يحتمل بناؤه للفاعل، فالمأمور بالصنع من دفعت إليه البردة، أو للمفعول، فالصانع المرأة، أو غيرها، "فمات قبل أن يفرغ منها" صلى الله عليه وسلم، "وفي هذا الحديث من الفوائد حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وسعة جودة"، وقبوله الهدية، وغير ذلك، "واستنبط منه السادة الصوفية، جواز استدعاء المريد خرقة التصوف، من المشايخ تبركًا بهم،
المشايخ تبركًا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه صلى الله عليه وسلم ألبس أم خالد خميصة سوداء ذات علم. رواه البخاري.
لكن قال شيخنا: ما يذكرونه من أن الحسن البصري لبسها من علي بن أبي طالب، فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحًا في ذلك فباطل، قال: ثم إنَّ من الكذب................
وبلباسهم، كما استدلّوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه صلى الله عليه وسلم ألبس أم خالد" أمة، بفتح الهمزة، والميم، بنت خالد بن سعيد بن العاصي، القرشية الأموية، ولأبويها صحبة، وكانا ممن هاجر إلى الحبشة وولدت بها، وقدما بها وهي صغيرة، وتزوجها الزبير بن العوام، فولدت منه خالدًا، وبه تكنَّى، وعمرت لحقها موسى بن عقبة "خميصة سوداء" -بفتح الخاء المعجمة، وكسرت الميم، وسكون التحتية، فصاد مهملة- ثوب من حرير، أو ثوب معلم، أو كساء مربع له علمًا، أو كساء رقيق من أي لون كان، أو لا يكون خميصة إلا إذا كانت سوداء معلمة.
ذكره المصنف "ذات علم، رواه البخاري" في مواضع عن أم خالد، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة وداء صغيرة، فقال: من ترون نكسو الخميصة؟، فسكت القوم، قال:"ائتوني بأم خالد" فأتي بها تحمل، فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال:"أبلي وأخلقي"، وكان فيها علم أخضر، أو أصفر، فقال:"أم خالد هذا سناه، وسناه بالحبشة حسن" -وهو بفتح السين المهملة، والنون، فألف، فهاء ساكنة- فكلمها عليه السلام بلغة الحبشة لولادتها بها، وفي رواية له عنها: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي، وعليَّ قميص أصفر، قال صلى الله عليه وسلم:"سنه سنه"، فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي، فقال صلى الله عليه وسلم:"دعها أبلى، وأخلقي أبلى، وأخلقي، أبلي، وأخلقي"، قال ابن المبارك: فبقيت حتى ذكر، أي: الراوي زمنًا طويلًا، أي: طال عمرها بدعائه صلى الله عليه وسلم، "لكن قال شيخنا" السخاوي:"ما يذكرونه" أي: الصوفية، "من أن الحسن البصري لبسها من علي بن أبي طالب، فقال ابن دحية، وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحًا في ذلك فباطل، قال:" أي: الحافظ: "ثم إن من الكذب المفترى
المفترى قول من قال: إن عليًّا ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا فضلًا عن أن يلبسه الخرقة.
وكذا قال الدمياطي والذهبي والعلائي ومغلطاي والعراقي والأبناسي والحلبي وغيرهم، من كون جماعة منهم لبسوها وألبسوها تشبها بالقوم،..................
قول من قال: إن عليًّا ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث" أي: جمهورهم، "لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا، فضلًا عن أن يلبسه الخرقة.
قال السخاوي: ولم ينفرد شيخنا يعني: الحافظ بذلك، بل سبقه إليه جماعة حتى ممن لبسها وألبسها، كالدمياطي، والذهبي إلخ..... فاختصره المصنف، فقال:"وكذا قال الدمياطي، والذهبي، والعلائي، ومغلطاي، والعراقي، والأبناسي" بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، بعدها نون، ثم سين مهملة، نسبة إلى أبناس، قرية صغيرة بالوجه البحري من أرض مصر، منها العلامة البرهان إبراهيم بن موسى بن موسى، بن أيوب الشافعي الورع الزاهد المحقق، شيخ الشيوخ بمصر، ولد سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وصنَّف وأخذ عن الأسنوي وغيره، وولي مشيخة سعيد السعداء، وعُيِّنَ لقضاء الشافعية فاحتفى، وكان مشهورًا بالصلاح، تقرأ عليه الجن، مات سنة اثنتين وثمانمائة راجعًا من الحج، ودفن بعيون القصب، وليس ضبطه في الأنساب للسيوطي، كما زعم، "والحلبي" الحافظ برهان الدين صاحب النور، والمقتفي، وشرح البخاري، وغير ذلك، "وغيرهم" كالهكاري، وابن الملقن، وابن ناصر الدين، وتكلم عليها في جزء مفرد، "مع كون جماعة منهم لبسوها وألبوها تشبهًا بالقوم" إلى هنا كلام شيخه السخاوي، وللحافظ السيوطي مؤلَّف سماه: إتحاف الفرقة برفو الخرقة، ذكر فيه أن جمعًا من الحفاظ أثبتوا سماع الحسن من علي، والحافظ ضياء الدين في المختارة رجَّحه، وتعبه الحافظ في أطرافها، وهو الراجح عندي لقاعدة الأصول أنَّ المثبت مقدَّم على النافي؛ لأن معه زيادة علم؛ ولأن الحسن ولد اتفاقًا لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وكانت أمه خيرة مولاة أم سلمة، فكانت أم سلمة تخرجه إلى الصحابة، فيباركون عليه، وأخرجته إلى عمر، فدعا له فقال له: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس، أخرجه العسكري بسنده، وذكر المزي أنه حضر يوم الدار وله أربع عشرة سنة، ومعلوم أنه من حين بلغ سبع سنين أمر بالصلاة، فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان حتى قتل، ولم يخرج علي للكوفة إلّا بعد قتله، فكيف ينكر سماع الحسن منه وهو كل يوم يجتمع به خمس مرات، من حين مَيِّز إلى أن بلغ أربع عشرة سنة، وقد كان علي يزور أمهات المؤمنين، ومنهم أم سلمة، والحسن في بيتها هو وأمه، وقد ورد عن الحسن ما يدل على سماعه منه، روى المزي
نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة المتصلة إلى كهيل بن زياد، وهو صحب علي بن أبي طالب من غير خلف في صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل.
وفي بعض الطرق اتصالها بأويس القرني، وهو اجتمع بعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وهذه صحبة لا مطعن فيها، وكثير من السادة يكتفي بمجرد الصحبة................
من طريق أبي نعيم أن يونس بن عبيد قال للحسن: إنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تذكره، قال: يا ابن أخي، لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، أني في زمان كما ترى، وكان في عمل الحجاج كل شيء، سمعتني أقول، قال رسول -الله صلى الله عليه وسلم، فهو عن عليّ، غير أني لا أستطيع أن أذكر عليًّا.
ثم ذكر ما أخرجه الحفاظ من رواية الحسن عن علي، فبلغ عشرة أحاديث ساقها، وذكر في خلالها قول ابن المديني، الحسن رأى عليًّا بالمدينة وهو غلام، وقال أبو زرعة: كان الحسن البصري يوم بويع عليّ ابن أربع عشرة سنة، ورأى عليًّا بالمدينة، وقال: رأيت الزبير [بايع] عليًّا، ثم خرج إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك، ففي هذا القدر كفاية، ويحمل قول النافي على ما بعد خروج علي من المدينة، وروى أبو يعلى، حدثنا جويرية بن أشرس، قال: أخبرنا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عليُّا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر" الحديث. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال محمد بن الحسن الصيرفي شيخ شيوخنا: هذا نص في سماع الحسن من عي، ورجاله ثقات، انتهى ملخصًا.
وليس في [ذاك الرفع] كله إثبات الدعوى، أن عليًّا ألبس الحسن الخرقة على متعارف الصوفية، وكذا قول المصنف "نعم ورد لبسهم لها، مع الصحبة المتصلة إلى كهيل" بضم الكاف، وفتح الهاء، "ابن زياد" النخيع، ثقة رمي بالتشيع، وكان شريفًا مطاعًا في قومه.
قال خليفة: قتله الحجاج سنة اثنتي وثمانين، وحكى ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين مات كهيل سنة ثمان وثمانين، وهو ابن سبعين سنة، روى له النسائي، "وهو صحب علي بن أبي طالب" وروى عنه وعن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي مسعود وأبي هريرة، وروى عنه الأعمش وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهما "من غير خلف في صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل" لا دلالة فيه على الدعوى، وهو أن عليًّا ألبسها كهيلًا، إنما هو احتمال، ولا تقوم به حجة، "وفي بعض الطرق" للخرقة، "اتصالها بأويس" بن عامر "القرني" بفتحتين، خير التابعين، "وهو اجتمع بعمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وهذه صحبة لا مطعن فيها" لكن لا تدل على الدعوى نصًّا، إنما هو احتمال، "وكثير من السادة" الصوفية "يكتفي بمجرد الصحبة،