الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد الرابع: في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته
مدخل
…
المقصد الرابع: في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته
كتاب في المعجزات والخصائص:
وصدق رسالته، وما خص به من خصائص آياته، وبدائع كراماته، وفيه فصلان:
الأول: في معجزاته.
اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم، والرسول العظيم -سلك الله بي وبك
المقصد الرابع في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته
كتاب في المعجزات والخصائص:
صفة لازمة لا مخصصة؛ إذ كلها دال على ذلك، "وصدق رسالته" شدتها وقوتها لدلالة معجزاته على تحقق رسالته تحققًا لا مرية فيه، وذلك مستلزم لشدتها.
وفي القاموس: الصدق بالكسر: الشدة، والرسالة بالكسر والفتح اسم مصدر من أرسل رسولًا: بعثه برسالة يؤديها، فيجوز حملها على ما بُعِثَ به من الأحكام ليؤديها، وعلى بعثه بما جاءه من الوحي، لكن وصفها بالصدق على هذين مجاز، بناءً على ما شاع من استعمال الصدق في الأقوال خاصة، فالأوَّل أولى "وما خص به" أي: ثبت له من الأمور الفاضلة دون غيره، إما من الأنبياء أو الأمم، وهو عطف على معجزاته عام على خاص، أو من عطف ما بينه وبين المعطوف عموم وخصوص وجهي، "من خصائص آياته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: آياته الخاصة، أي: الفاضلة في الشرف على غيرها، وبهذا لا يرد أنه عين قوله، وما خص به وشرط المبين بالكسر زيادته على المبين بالفتح، "وبدائع كراماته" جمع كرامة أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة لها تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي كلف بشريعته، مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح، علم بها أو لم يعلم، فدخل في أمر خارق جنس الخوارق، وخرج بغير مقرون بدعوى النبوة المعجزة، وبنفي مقدمتها الإرهاص، وبظهور الصلاح ما يسمَّى معونة مما يظهر على يد بعض العوام، وبالتزام متابعة نبي ما يسمَّى إهانة كالخوارق المؤكدة لكذب الكذابين، كبصق مسيلمة في البئر، وبالمصحوب بصحيح الاعتقاد الاستدراج، كما خرج السحر من جهات عدَّة، كما قال السبكي.
قال ابن أبي شريف: والذي يتلخَّص من كلام من تكلَّم في الخوارق أنها ستة أنواع إرهاص، وهو ما أكرم به النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ومعزة وهو ما ظهر بعد دعوى النبوة وكرامة للولي، ومعونة واستدراج وإهانة، "وفيه فصلان":
"الأول: في معجزاته" أي: بعضها؛ إذ هو لم يستوفها.
"اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم والرسول العظيم، سلك" ذهب الله بي وبك"
مناهج سنته، وأماتنا على محبته بمنه ورحمته- أنَّ المعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي الدال على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، فعلم أن لها شروطًا.
أحدها: أن تكون خارقة للعادة، كانشقاق القمر، وانفجار الماء من بين أصابعه، وقلب العصا حية،....
قال في المختار: السلك بالفتح مصدر سلك الشيء في الشيء فانسلك، أي: أدخله فيه فدخل، وبابه نصر، قال تعالى:{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} وأسلكه فيه لغة، ولم يذكر في الأصل، يعني: الجوهري، سلك الطريق إذا ذهب، وبأنه دخل، وأظنَّه سها عن ذكره؛ لأنه مما لا يترك قصدًا "مناهج سنته،" أي: الطرق الموصلة إلى سيرته الحميدة -جمع منهج كمذهب، ويجمع أيضًا على منهاج، "وأماتنا على محبته" المراد سؤال الإخلاص في حبه ودوام ذلك للموت، فلا يزول عنه ما دام حيًّا لا سؤال الموت، ولا أنَّه مع المحبة، وإن سبقه انتفاؤها "بمنِّه" إنعامه لا تعداد النعم، بقرينة أن المطلوب أصل النعم، ورحمته إنعامه أو إرادته، فعطفها على مَنِّه مراد على الأول، ومن عطف السبب على المسبب على الثاني، أي: إرادته الرحمة؛ إذ الإرادة سبب للمنِّ، "أن المعجزة هي الأمر الخارق للعادة" وجوديًّا، كنبع الماء من الأصابع أو عدميًّا كنجاة إبراهيم من النار، المقرون بالتحدي الدال على صدق الأنبياء" صفة لازمة؛ إذ كل خارق مقرون بدعوى الرسالة دالّ على صدقهم "عليهم الصلاة والسلام، وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها"؛ إذ لا ينسب شيء منها لكسبهم لخرقها للعادة، "فعلم" من هذا التعريف "أن لها شروطًا" أركانًا أربعة لابُدَّ منها، لا ما كان خارج الماهية؛ إذ الخارق للعادة المقرون بالتحدي مفهوم المعجزة لا خارج عنها، وما كان كذلك ركن لا شرط.
"أحدها: أن تكون خارقة للعادة: بأن ينقطع أثر على سبب جرت العادة الإلهية بترتُّبه عليه، كانقطاع الإحراق عن نار نمروذ في حق إبراهيم، وبأن يترتَّب أثر على سبب لم تجر العادة الإلهية بترتُّبه عليه، كانشقاق القمر" للمصطفى، وانفجار الماء من بين أصابعه" صلى الله عليه وسلم، "وقلب العصا حية" لموسى عليه الصلاة والسلام.
وروي عن ابن عباس والسدي: أنه لما ألقى عصاه صارت حية عظيمة، صفراء، شعراء فاغرة، أي: فاتحة فاها بين لحييها ثمانون ذراعًا، وارتفعت عن الأرض بقدر ميل، وقامت على ذنبها ووضعت لحيها الأسفل على الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون، روي أنها أخذت قبته بين نابيها، فهرب وأحدث، قيل: أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة
وإخراج ناقة من صخرة،.......................................
وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضهم بعضًا، فأخذها فعادت عصاه. ذكره البغوي، وفي التنزيل:{فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ، وفيه {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} .
قال البغوي: الثعبان الذكر العظيم من الحيات، ولا ينافيه قوله:{كَأَنَّهَا جَانٌّ} ، والجان الحية الصغيرة؛ لأنها كانت كالجانّ في الخفة والحركة، وهي في جثتها حية عظيمة.
"وإخراجه ناقة من صخرة" لصالح عليه السلام، كما ذكر ابن إسحاق وغيره: أن عادًا لما هلكت عمَّرت ثمود بعدها وكثروا، وعمروا إعمارًا طوالًا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة، فعتوا وأفسدوا وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا وموضعًا، وهو شاب، فدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر، لا يتبعه إلّا قليل مستضعفون، فألحَّ عليهم بالدعاء، وأكثر لهم التخويف، فسألوه آية تصدقه، فقال: أية آية تريدون، قالوا: تخرج معنا غدًا إلى عيدنا، وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة، فتدعوا إلاهك وندعو آلهتنا، فإن استجيبت لك اتبعناك، وإن استجبت لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم، وخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم، فسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء من دعائه، فلم تجبهم، فقال سيدهم جندع بن مرو: يا صالح، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية من الحجر، يقال لها الكاثبة: ناقة مخترجة، جوفاء، وبراء، عشراء، والمخترجة ما شاكل البخث من الإبل، فإن فعلت صدقناك وآمنَّا بك، فأخذ صالح مواثيقهم بذلك، فقالوا: نعم، فصلى ركعتين ودعا ربه، فتمخَّضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها، ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة، كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلّا الله عظمًا، وهم ينظرون، ثم نتجت سبقًا، بمهملة مفتوحة، وقاف ساكنة وموحدة، أي ولدًا، وهم ينظرون مثلها في العظم، فآمن به جندع ورهط من قومه، وأراد أشرافهم الإيمان، فنهاهم دواب ابن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر كاهنهم، فقال صالح: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، فمكثت الناقة وسقبها ترعى الشجرة وتشرب الماء غبًّا، فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما في البئر، فلا تدع قطرة، ثم ترفع رأسها فتتفحج فيحلبون ما شاءوا، فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها، ثم تصدر من غير الفج الذي منه وردت، لا تقدر أن تصدر من حيث ترد، يضيق عنها حتى إذا كان الغد يومهم، فيشربون ما شاءوا من الماء ويدَّخرون ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة، وكانت تصيف بظهر الوادي مواشيهم إلى ظهره، فأضرَّ ذلك مواشيهم للبلاء والاختبار، وكبر ذلك عليهم، فأجمعوا
وإعدام جبل.
فخرج غير الخارق للعادة كطلوع الشمس كل يوم.
الثاني: أن تكون مقرونة بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة.
قال الجوهري: يقال: تحديت فلانًا، إذا باريته في فعل ونازعته......... ..........
على عقرها، وكانت عنيزة أم غنم لها بنات حسان، وإبل، وبقر، وغنم، وصدوف بنت المحيا، وكانت جميلة، وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح، وتحبان عقرها لما أضرَّ بمواشيهما، فدعت صدوف ابن عمها مصدع بن مهرج بن المحيا، وجعلت له نفسها على عقر الناقة فأجابها، ودعت عنيزة قدار بن سالف، رجلًا أحمر أزرق قصيرًا عزيزًا، متبعًا في قومه، فقال: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة، فانطق هو ومصدع فاستغويا غواة ثمود، فاتبعهم سبعة، فانطلقوا فرصدوها حين صدرت عن الماء، وكمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكَمُنَ مصدع في أخرى، فمرّت عليه، فرمى بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، فشد قدار عليها بالسيف، فكشف عرقوبها، فخرت ورغت، ثم نحرها في لبتها، فخرج أهل البلد، فاقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى أتى جبلًا منيعًا يقال له: صنو، وقيل: فاره وأتى صالح، فقيل له: عقرت الناقة، فأقبل وخرجوا يعتذرون، إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال صالح أدركوا الفصل، فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فلمَّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل فتطاول حتى ما ناله الطير، وجاء صالح فلمَّا رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم رغا ثلاثًا وانفجرت الصخرة فدخلها، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ، وقيل: اتبع السق أربعة من التسعة الذين عقروا الناقة، منهم: مصدع رماه بسهم فانتظم قلبه، ثم جَرَّ برجله، فأنزله فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال صالح: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذابه ونقمته، تصبحون غدًا -وكان يوم الخميس- وجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة وجوهكم محمرة، ثم تصبحون وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب، فلمَّا رأوا العلامات طلبوا قتله، فأنجاه الله، فلمَّا كان ليلة الأحد خرج هو ومن أسلم معه إلى الشام، فنزل رملة فلسطين، فلما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنَّطوا، وتكفَّنوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض، يقلبون أبصارهم إليها مرة وإلى السماء مرة، فلمَّا اشتد الضحاء أتتهم صيحة من السماء، فقطَّعت قلوبهم، فهلكوا كبيرهم وصغيرهم، وقدار -بضم القاف، وفتح الدال المهملة الخفيفة فألف فراء- "وإعدام جبل" فخرج غير الخارق للعادة، كطلوع الشمس كل يوم" والقمر كل ليلة.
"الثاني: أن تكون مقرونة بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة".
"قال الجوهري: يقال تحديث فلانًا إذا باريته" أي: عارضته "في فعل ونازعته"
للغلبة.
وفي القاموس: نحوه.
وفي الأساس: حد يحدو، وهو حادي الإبل، واحتدى حداء إذا غنَّى، ومن المجاز: تحدَّى أقرانه إذا باراهم ونازعهم للغلبة. وأصله: الحداء، يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، أي: يطلب حداءه. كما يقال: توفَّاه بمعنى استوفاه، وفي بعض الحواشي الموثوق بها، كانوا عند الحدو يقوم حاد عن يمين القطار وحاد عن يساره، يتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه استعمل في كل مباراة. انتهى من حاشية الطيبي على الكشاف.
عطف تفسير "للغلبة" أي: لأجل أن يغلبه، "وفي القاموس نحوه، وفي الأساس" للزمخشري "حدا يحدو،" فهو واوي، "وهو حادي الإبل، واحتدى حداء" بضم المهملة والمد، "إذا غنَّى" للإبل يحثها على السير، "ومن المجاز: تحدَّى أقرانه إذا باراهم ونازعهم" تفسيري "للغلبة"، فقول الجوهري: يقال، أي مجازًا، "وأصله الحداء الغناء "يتبارى فيه الحاديان، ويتعارضان فيتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، أي يطلب حداءه، كما يقال: توفاه بمعنى استوفاه، وفي بعض الحواشي الموثوق بها، كانوا عند الحدو،" بفتح، فسكون، وبضمتين، وشد الواو، ففي المختار: حدا الإبل من باب عدا، وحداء أيضًا بالضم والمد، انتهى، فله مصدران، "يقوم حاد عن يمين القطار" بالكسر: عدد من الإبل على نسق واحد، "وحاد عن يساره، يتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي: يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه حتى استعمل في كل مباراة" مغالبة.
"انتهى من حاشية" العلامة شرف الدين الحسن بن محمد بن عبد الله، "الطيبي" -بكسر الطاء، وسكون الياء- نسبة إلى الطيب، بلد بين واسط وكور الأهواز، "على الكشاف" تفسير الزمخشري.
قال السيوطي: وهو أجَلّ حواشيه في ست مجلدات ضخمات، قال: وله إلمام الحديث، لكنه لم يبلغ فيه درجة الحفاظ، ومنتهى نظره الكتب الستة ومسند أحمد، والدارمي لا يخرج من غيرها، وكثيرًا ما يورد صاحب الكشاف الحديث المعروف، فلا يحسن الطيبي تخريجه، ويعدل إلى ذكر ما هو في معناه مما في هذه الكتب، وهو قصور في التخريج، انتهى.
وقال المحققون: التحدي، الدعوى للرسالة.
والشرط الثالث من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة.
وعبَّر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة.
وهو أحسن من التعبير: بعدم المعارضة؛ لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها، والشرط إنما هو عدم إمكانها.
وقد خرج بقيد "التحدي" الخارق من غير تحد، وهوالكرامة للولي.
وبـ "المقارنة" الخارق المتقدم على التحدي، كإظلال الغمام، وشق الصدر، الواقعين لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل دعوى الرسالة، فإنها ليست معجزات، إنما هي كرامات لظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء،
وقال المحققون: التحدي الدعوى للرسالة،" فما جاء به بعدها من الخوارق فهو معجزة، وإن لم يطلب الإتيان بالمثل الذي هو المعنى الحقيقي للتحدي.
"والشرط الثالث من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي،" الطالب للمعارضة، وهو مدعي الرسالة "على وجه المعارضة" له، "وعبَّر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة" له، وهو أحسن من التعبير بعدم المعارضة؛ لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها، والشرط إنما هو عدم إمكانها" لا عدمها، "وقد خرج بقيد التحدي الخارق من غير تحدٍ وهو الكرامة للولي" وهي وإن لم تكن معجزة له، لكنَّها كرامة لنبيه، كذا قيل، ونظر فيه ابن أبي شريف، بأن المعروف أن المعجزة هي الخارق الذي يظهر على يد مدعي النبوة بعد دعواها، ومن عَدَّ الإرهاصات والكرامات معجزات، فسبيله التغليب والتشبيه، وليست معجزات حقيقة.
قال التفتازاني: والولي هو العارف بالله وصفاته حسبما يمكن المواظب على الطاعات، المتجنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.
قال شارح الهمزية: ويتجه أن هذا ضابط الولي الكامل، وأن أصل الولاية يحصل لمن وجدت فيه صفات العدالة الباطنة بالشروط المذكورة عند الفقهاء، "وبالمقارنة الخارق المتقدم على التحدي، "كإظلال الغمام وشق الصدر، الواقعين لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل دعوى الرسالة، فإنها ليست معجزات، إنما هي كرامات لظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورها" تأسيسًا لنبوتهم التي ستحصل، "وكلام عيسى في المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة عليه أيضًا، وحينئذ
فيجوز ظهورها، وكلام عيسى في المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة عليهم أيضًا، وحينئذ تسمَّى "إرهاصا" أي: تأسيًا للنبوة كما صرَّح به العلامة السيد الجرجاني في شرح المواقف وغيره، وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم.
وخرج أيضًا بقيد "المقارنة" المتأخِّر عن التحدي، بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من نطق الموتى بالشهادتين وشبهه، مما تواترت به الأخبار.
وخرج أيضًا بـ "أمن المعارضة" السحر المقرون بالتحدي، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم.
واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع أم لا؟
فقال بالأول قائلون، حتَّى جوَّزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارًا.
وذهب آخرون: إلى أن أحدًا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة طبيعة إلا الله
تسمَّى إرهاصًا، أي: تأسيسًا للنبوة، كما صرَّح به العلامة السيد" الشريف علي "الجرجاني في شرح المواقف، و" صرح به "غيره وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم، خلافًا للرازي في تسميتها معجزة، "وخرج أيضًا بقيد المقارنة" الأمر "المتأخِّر عن التحدي بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من نطق بعض الموتى بالشهادتين، وشبهه مما تواترت به الأخبار" المفيد للعلم، "وخرج أيضًا بأمن المعارضة السحر المقرون بالتحدي، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم" بناءً على دخول السحر في الخارق للعادة، وهو ممنوع.
قال السنوسي: ومن المعتاد السحر ونحوه، وإن كان سببه العادي نادرًا، خلافًا لمن جعل السحر خارقًا، وقال ابن أبي شريف: الحق أن السحر ليس من الخوارق، وإن أطبق القوم على عدة منها؛ لأنه يترتب على أسباب كلما باشرها أحد حلقه الله تعالى عقب ذلك، فهو ترتيب مسبب على سبب جرت العادة الإلهية بترتبه عليه، كترتب الإسهال على شرب السقمونيا، وشفاء المريض على تناول الأدوية الطبية، فإن كلّا منهما غير خارق.
واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع" كحال الطبيعة السوداوية صفراوية، "أم لا؟ فقال بالأول قائلون، حتَّى جوزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارًا" وحجرًا، "وذهب آخرون إلى أن أحدًا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة" تغيير "طبيعة إلّا الله" صفة لا حدًّا، أي:
تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينًا. قالوا: ولو جوَّزنا للساحر ما جاز للنبي، فأي فرق عندكم بينهما؟ فإن لجأتم إلى ما ذكره القاضي العلامة أبو بكر الباقلاني من الفرق بالتحدي فقط، قيل لكم: هذا باطل من وجوه:
أحدها: إن اشتراط التحدي قول لا دليل عليه، لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صاحب ولا إجماع، وما تعرَّى من البرهان فهو باطل.
الثاني: إن أكثر آياته صلى الله عليه وسلم وأعمها وأبلغها كانت بلا تحدٍّ، كنطق الحصى، ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله في العين، وتكليم الذراع، وشكوى البعير، وكذا سائر معجزاته العظام، ولعله لم يتحد بغير القرآن، وتمني الموت.
غير الله "تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينًا، قالوا: ولو جوَّزنا للساحر ما جاز للنبي، فأي فرق عندكم بينهما، فإن لجأتم" اعتصمتم أي: تمسكتم، وذهبتم "إلى ما ذكره القاضي العلامة أبو بكر الباقلاني من الفرق" بين النبي وبين الساحر، "بالتحدي فقط، قيل لكم، هذا باطل من وجوه".
"أحدها: إن اشتراط التحدي قول لا دليل عليه، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قول صاحب" للنبي صلى الله عليه وسلم، "ولا إجماع وما تعرَّى، أي: خلا "من البرهان: " الدليل "فهو باطل،" فيبطل ما بني عليه.
"الثاني: إن أكثر آياته صلى الله عليه وسلم وأعمَّها وأبلغها بلا تحدٍّ، كنطق الحصا ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله في العين، وتكليم الذراع" المسمومة له إذا أخبرته بذلك، "وشكوى البعير" له أنّ صاحبه يجيعه، ويأتي تفاصيل هذا كله، "وكذا سائر" باقي معجزاته العظام" وقعت بلا تحدٍّ، ويأتي الجواب قريبًا، ومرَّت الإشارة إليه، "ولعله" صلى الله عليه وسلم "لم يتحد بغير القرآن" في نو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ، "وتمني الموت" تحدَّى به اليهود بقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] الآية، فلم يفعلوا، كما قال تعالى:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] الآية، من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم.
وفي البيضاوي: من موجبات النار، كالكفر بمحمد والقرآن، وتحريف التوراة.
أخرج البخاري والترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقة" ، ولابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، موقوفًا: لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلّا مات، وللبيهقي عنه، رفعه:"لا يقولها رجل منهم إلّا غص بريقه"، وأورده
قالوا: فأف لقول لا يبقي من الآيات ما يسمى معجزة إلا هذين الشيئين، ويلقي معجزات كالبحر المتقاذف بالأموج، ومن قال: إن هذه ليست معجزات ولا آيات فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة.
قالوا: وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول عند ورود آية من هذه الآيات: "أشهد أني رسول الله"، كما قال ذلك عند تحققهم مصداق قوله في الإخبار عن الذي أنكأ في المشركين قتلًا في المعركة: إنه من أهل النار،.................................................
البيضاوي مرفوعًا، بلفظ:"لو تمنَّوا الموت لغص كل إنسان بريقه، فمات مكانه، وما بقي يهودي على وجه الأرض"، وأشار محشيه إلى أنه لم يرد بهذا اللفظ. "قالوا: فأف" بفتح الفاء وكسرها منونًا وغير منون، بمعنى: تبًّا وقبحًا "لقول لا يبقي من الآيات ما يسمَّى معجزة إلّا هذين الشيئين، ويلقي" بالق: يطرح، "معجزات كالبحر المتقاذف بالأمواج، ومن قال: إن هذه ليست معجزات ولا آيات، فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة"، لكن لم يقل بذلك أحد، وإنما سرى له ذلك من حمل التحدي على المعنى الحقيقي له، "قالوا: وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول عند ورود آية من هذه الآيات: "أشهد أني رسول الله"، كما في البخاري عن سلمة: حين خفت أزواد القوم، فذكر الحديث في دعائه صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" ، وله شاهد في مسلم عن أبي هريرة، وللبيهقي: لما قدم وفد ثقيف، قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهد به في خطبته، فلمَّا بلغه قولهم، قال:"فإني أول من شهد بأني رسول الله".
وفي البخاري في قصة جداد نخل جابر واستيفاء غرمائه، بل وفضل له تمر، فقال صلى الله عليه وسلم لما بشره جابر بذلك:"أشهد أني رسول الله" ، كما قال ذلك عند تحققهم مصداق" أي صدق "قوله في الإخبار عن الذي أنكأ في المشركين قتلًا في المعركة" يوم خيبر، كما في البخاري، أو يوم أحد، كما لأبي يعلى، بإسناد فيه مقال، وهو قزمان -بضم القاف وسكون الزاي- كما قال جماعة، وتوقف فيه الحافظ، بأن الواقدي ذكر أنه قتل بأُحْد، قال: لكن الواقدي لا يحتجّ به إذ انفرد، فكيف إذا خالف "إنه من أهل النار، فلمَّا حضر القتال قاتل الرجال أشد القتال حتى كثرت به الجراح، فكاد بعض الناس يرتاب، رواه البخاري عن أبي هريرة، وفي حديثه عن سهل، فقالوا: أينا من أهل الجنة، إن كان هذا من أهل النار.
وللطبراني عن أكتم، قلنا: يا رسول الله! إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار، فأين نحن؟ قال:"ذلك إخبات النفاق" فكنَّا نتحفظ عليه في القتال.
فقتل نفسه بمحضر ذلك الذي اتبعه من المسلمين، قالوا:
والوجه الثالث: وهو الدامغ لهذا القول، قوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] فسمَّى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديًا من غيره.
فصحَّ أن اشتراط التحدي باطل محض. انتهى ملخصًا من تفسير الشيخ أبي
وفي البخاري عن سهل: فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، فخرج معه كلما وقف وقف معه، "فقتل نفسه بمحضر ذلك" الرجل "الذي اتبعه من المسلمين،" قال الحافظ -وهو أكتم الخزاعي، كما في الطبراني: فقول الشارح، أي: الجمع الذي اتبعه من المسلمين خلافه، ومرت القصة في غزاة خيبر، "قالوا: والوجه الثالث وهو الدامغ" بميم ومعجمة المبطل "لهذا القول" بحيث لا يبقي للمتمسك به شبهة، قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} الآية.
وقال البيضاوي: أي: فيمحقه، وإنما استعار لذلك القذف، وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمي، والدمغ الذي هو كسر الدماغ؛ بحيث تشق غشاءه الذي يؤدي إلى زهوق الروح تصويرًا لإبطاله، ومبالغة فيه "قوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا} الآية، أي كفار مكة، {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية: أي غاية اجتهادهم فيها، {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} الآية، مما اقترحوا، {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية، ينزله كيف يشاء، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} الآية، يدريكم بإيمانهم، أي: أنتم لا تدرون {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} الآية، لما سبق في علمي، وفي قراءة بالتاء خطابًا للكفار، وفي أخرى، بفتح أن، بمعنى: لعل، أو معمولة لما قبلها.
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} الآية، التي اقترحها أهل مكة {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية، لما أرسلناهم فأهلكناهم، ولو أرسلناها إلى هؤلاء لكذبوا بها واستحقوا الإهلاك، وقد حكمنا بإمهالهم لإتمام أمر محمد صلى الله عليه وسلم، والمنع هنا مجاز عن الترك، أي: وما سبب ترك الإرسال إلا تكذيب الأولين، وإلّا فالله تعالى لا يمنعه عن مراده مانع، "فسمَّى الله تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديًا من غيره، فصحَّ أن اشتراط التحدي باطل محض" خالص، "انتهى ملخصًا من تفسير الشيخ أبي أمامة بن النقاش،
أمامة بن النقاش.
وأجيب: بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدي بمعنى طلب الإتيان بالمثل الذي هو المعنى الحقيقي للتحدي، بل يكفي للتحدي دعوى الرسالة، والله أعلم.
الرابع من شروط المعجزة: أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها، فلو قال مدعي الرسالة: آية نبوتي أن تنطق يدي، أو هذه الدابة، فنطقت يده أو الدابة بكذبه فقالت: كذب وليس هو بنبي، فإن الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي؛ لأن ما فعله الله تعالى لم يقع على وفق دعواه. كما يروى أن مسيلمة الكذاب -لعنه الله تعالى - تَفَل في بئر ليكثر ماؤها فغارت وذهب ما..................
وأجيب بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدي، بمعنى طلب الإتيان بالمثل، الذي هو المعنى الحقيقي" اللغوي "للتحدي" حتى يرد عليه ما ذكروه، "بل يكفي للتحدي دعوى الرسالة" فكل ما وقع بعدها من الخوارق آيات، سواء كانت بطلب المثل أم لا، فلا يرد على هذا الشرط شيء مما ذكروه، "والله أعلم" بأنه شرط في نفس الأمر أم لا.
"الرابع من شروط المعجزة" أي: الوصف الخارق المسمَّى معجزة، "أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها." فليس فيه سلب شيء عن نفسه؛ إذ تقدير كلامه لو لم تقع المعجزة على وفق دعواه لم تكن معجزة، فيلزم سلب الإعجاز عنها بعد ثبوته لها، وهو باطل، وبعبارة: لا يخفى أن وقوعها على وفق دعوى المتحدي يفيد أن مفهومه: لو لم تقع على وفقه لم تكن معجزة، وهذا تناقض بحسب الظاهر، والجواب: إن فيه تجريدًا، كأنه قيل من شرط المعجزة، بمعنى مطلب الخارق لا ما يسمَّى معجزة بخصوصه، "فلو قال مدعي الرسالة: آية نبوتي أن تنطلق يدي أو هذه الدابة" بما يوافق دعواي، بدليل أن مقسم الشرط لذلك، فلا ينافي قوله: "فنطقت يده أو الدابة بكذبه، فقالت: كذب وليس هو بنبي" بيان للكذب، فإن الكلام الذي خلقه الله تعالى دالٌّ على كذب ذلك المدعي؛ لأن ما فعله الله تعالى" من خلق نطقها بتكذيبه، "لم يقع على وفق دعواه"، بل وقع مخالفًا لها، فلو نطقت بما لا تكذيب فيه له، كان يقول الله واحد، فمعجزة على ما يفهمه قوله بكذبه، مع أنها لم تنطق بموافقة دعواه، إلّا أن يراد بالموافق ما لا يناقضها، ومفاد قوله: أو الدابّة، أنه لا يعتبر في المكذب كونه ممن يعتبر تكذيبه، ووقع لبعض من حشى العقائد أنه لا بُدَّ من كونه ممن يعتبر، كما يروى أن مسيلمة" بكسر اللام، واخطأ من فتحها "الكذاب -لعنه الله تعالى- تفل في بئر ليكثر ماؤها، فغارت وذهب ما
فيها من الماء.
فمتى اختلَّ شرط من هذه لم تكن معجزة.
ولا يقال: قضية ما قلتم: أن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلّا على أيدي الصادقين، وليس كذلك، لأنَّ المسيح الدجال يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحَّاح،..........................
فيها من الماء، فمتى اختلَّ شرط من هذه" الحالة التي أريد تسميتها معجزة "لم تكن معجزة"، بل تارة كرامة، وتارة إهانة، وغير ذلك، "ولا يقال: قضية، ما قلتم: أن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلّا على أيدي الصادقين، وهم النبيون، "وليس كذلك؛ لأن المسيح" بفتح الميم، وكسر المهملة الخفيفة، آخره حاء مهملة يطلق على الدجال، وعلى عيسى عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد، كما قال "الدجال"، وقيل: هو بالتخفيف عيسى، والتشديد الدجال، وقيل: هو بالتشديد لهما، وعلى الأول: يسمَّى الدجال لمسحه الأرض، أو لأنه ممسوح العين، أو لأنَّ أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا لا عين فيه ولا حاجب، وسمي به عيسى لمسحه الأرض بالسياحة، أو لأنَّ رجله كانت لا أخمص لها، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، أو هو بالعبرانية: الصديق. أقوال مبسوطة في شروح البخاري وغيره.
"يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحاح" كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن من فتنته أنَّ معه جنة ونارًا، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره، فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف، فتكون بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، وإنَّ من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، فتشهد أني ربك، فيقول: نعم، فيتمثّل له شيطان صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه، فإنه ربك، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة، فيقتلها، ينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه، ثم يزعم أن له ربًا غيري، فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك، فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله، أنت الدجال، والله ما كنت قط أشد بصيرة بك مني اليوم، وإن من فتنته أن يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحيّ فيكذبونه، فلا يبقي لهم سائمة إلا ملكت، وإن من فتنته أن يمر بالحيّ فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت، وأعظمه وأمده خواصر، وأدره ضروعا". رواه ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم في حديث طويل.
لأن ما ذكر فيمن يدعي الرسالة، وهذا يدعي الربوبية.
وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدَّعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التي تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
فإن قلت: أي الاسمين أحق وأولى بما أتت به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، هل لفظ "المعجزة" أو لفظ "الآية" أو "الدليل"؟
فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون معجزات الأنبياء: دلائل النبوة، وآيات النبوة، ولم يرد أيضًا في القرآن لفظ "المعجزة"، بل ولا في السنة أيضًا، وإنما فيهما لفظ
لأن ما ذكر فيمن يدَّعي الرسالة، وهذا" الدجال "يدَّعي الربوبية، وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة" كما قام على استحالة إله غير الله، "فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلَّت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدَّعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التي تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي، إنه يبدأ، فيقول: أنا نبي ولا نبي بعدي، ثم يثني، فيقول: أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب".
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الكاف زائدة، لأنه تعالى لا مثل له {وَهُوَ السَّمِيعُ} لما يقال، {الْبَصِيرُ} ، بما يفعل، "فإن قلت: أي: الإسمين أحق وأَوْلَى" عطف علة على معلول، أي: أحق لأولويته أو تفسيري، "بما أتت به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلا، هل لفظ المعجزة، أو لفظ الآية، أو الدليل" بدل مفصل من مجمل، فالسؤال عن أمرين فقط معجزة، ومقابلها من الآية أو الدليل، بدليل ذكره لفظ مرة ثانية فقط، فالثاني أحد دائر بين اثنين، وبدليل: إن الجواب باختيار الشق الثاني بفرديه، فلا يرد عليه أن تعبيره بالاسمين لا يصح، لأن المذكور ثلاثة.
"فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون المعجزات الأنبياء دلائل النبوة وآيات النبوة، ولم يرد أيضًا في القرآن لفظ المعجزة، بل ولا في السنة أيضًا، وإنما فيهما لفظ
"الآية" والبينة و"البرهان" كما في قصة موسى عليه السلام: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 32] أي: العصا واليد، وفي حق نبينا عليه الصلاة والسلام {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] .
وأما لفظ الآيات فكثير، بل هو أكثر من أن نسرده هنا، كقوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} [الأنعام: 124] و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} [الرعد: 3] .
وأمَّا لفظة المعجزة إذا أطلق فإنه لا يدل على كون ذلك آية إلّا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه، وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمي معجزة إلّا ما كان للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق عادات سماها: كرامات،
الآية والبينة والبرهان،" فالتعبير بمعجزة خلاف الأولى لعدم وروده، والأولى الآية أو الدليل ونحوهما، لموافقة الوارد، وفي الشامي: لفظ المعجزة وضعه المتكلمون على ما اشتُمل على الشروط الأربعة السابقة من آيات الأنبياء، ولا ضَيْر في ذلك خلافًا لمن زعمه، والتعبير بالآية والبرهان والبينة لا ينافي ذلك، وكل معجزة آية وبرهان وبينة، ولا عكس، كما يظهر بتأمُّل حد المعجزة، والظاهر أن الآية والدليل متساويان، انته، وفيه: أن مدعي الأولويّة لم يمنع إطلاق المعجزة، بل ذكر أولويّة الآية، والدليل عليها، ولم يدع ضيرًا ولا منافاة، كما ترى.
"كما في قصة موسى عليه السلام، {فَذَانِكَ} بالتشديد والتخفيف، {بُرْهَانَانِ} مرسلان {مِنْ رَبِّكَ} إلى فرعون وملائه، "أي: العصا واليد" وهما مؤنثان، ذكر المشار به إليهما المبتدأ لتذكير خبره برهانان، "وفي حق نبينا عليه الصلاة والسلام: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، كما فسره به سفيان بن عيينة عند ابن أبي حاتم، وجزم به ابن عطية والنسفي، ولم يحكيا غيره، وهو لغةً: الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، وهو صلى الله عليه وسلم برهان بالمعنيين؛ لأنه حجة الله على خلقه، وحجة نيرة واضحة لما معه من الآيات الدالة على صدقه، وهذا مما سماه الله به من أسمائه تعالى فإنه منها، كما جاء في ابن ماجه.
"وأما لفظ الآيات فكثير، بل هو أكثر من أن نسرده هنا،" لو سردناه من الكتاب والسنة، "كقوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} الآية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} [الرعد: 3] . "وأمَّا لفظ المعجزة إذا أطلق، فإنه لا يدل على كون ذلك آية، إلّا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه" الأربعة المتقدمة، وهذا أيضًا يفيد أولوية غيرها عليها، كقوله:"وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمّي" الخارق "معجزة، إلا ما كان للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق: عادات" وهم الجمهور، "سماها كرامات،
والسلف كانوا يسمون هذا وهذا معجزة؛ كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانًا على نبوة النبي، فإن هذا يجب اختصاصه به. وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولي، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فكذلك ما كان آية وبرهانًا، انتهى.
وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرة، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة.
والسلف كانوا يسمون هذا" مع وقع للأنبياء "وهذا" ما وقع للأنبياء "معجزة، كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانًا على نبوة النبي، فإن هذا يجب اختصاصه به،" فيه تأمّل؛ إذ الكلام في الخارق الواقع لولي هل يسمَّى معجزة، كما يسمَّى كرامة، أم لا؟ وكذا ما وقع لنبي هل يسمَّى كرامة، كما يسمَّى معجزة، أم لا؟ لا في ثبوت الصفة نفسها، فلو قال بخلاف الآية، والدليل: فإنهما مختصَّان بما ثبت للأنبياء لاستقام، ويدل له قوله: "وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولي، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فكذلك ما كان آية وبرهانًا، انتهى".
"وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل:" جمع دلالة قياسًا، ودليل على غير قياس، والمراد الثاني؛ إذ الأول صفة الدليل، ويصح إرادة الأول أيضًا؛ لأن وصف الدلالة بالوضوح يستلزم وضوح الدليل، أو أطلق الدلالة، وأراد الدليل مجازًا من باب تسمية الموصوف باسم صفته، ثم جمعت قياسًا؛ لأن الجمع يتعلق باللفظ، سواء استعملت الكلمة في حقيقتها أو مجازها، "نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرة" عبر بنبوة دون رسالة؛ لأنهم كانوا ينكرون نبوته من أصلها لا رسالته فقط، ولأنَّ الدلائل إذا كانت للنبوة، فللرسالة أولى؛ لأنه من إثبات الشيء بدليله، أي: آثبات الرسالة بإثبات النبوة؛ لأن النبي لا يكذب، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة" لكنها كما قال في الشقاء ثلاثة أقسام:
الأول: ما علم قطعًا ونقل إلينا متواترًا، كالقرآن فلا مرية ولا خلاف في مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به، وظهوره من قِبَله، واستدلاله به على ثبوت نبوته، وكونه رسولًا إلى الناس كافَّة، ونحو ذلك، وإن أنكر مجيئه به، وظهوره من قبله أحد، فهو معاند جاحد، وإنكاره كإنكار وجود محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا.
الثاني: ما اشتهر وانتشر، ورواه العدد الكثير، وشاع الخبر به عند المحدثين والرواة، ونقله السير والأخبار، كنبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام
فمن ذلك: ما وجد في التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى المنزلة من ذكره ونعته، وخروجه بأرض العرب، وما خرج بين يدي أيام مولده ومبعثه من الأمور الغريبة العجيبة القادحة في سلطان الكفر، الموهنة لكلمتهم المؤيدة لشأن العرب المنوهة بذكرهم، كقصة الفيل، وما أحلّ الله بأصحابه العقوبة والنكال، وخمود نار فارس، وسقوط شرفات إيوان كسرى، وغيض ماء بحيرة ساوه، ورؤيا المؤبذان،...........................
الثالث: ما لم يشتهر، ولا انتشر واختص به الواحد والاثنان، ورواه العدد اليسير، ولم يشتهر اشتهار غيره، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى المقصود به الإعجاز، واتفقا على الإتيان بالمعجز، كما قدمناه أنه لا مرية في جريان معانيها على يديه، وإذا انضمَّ بعضها إلى بعض أفادت القطع، انتهى ملخصًا، "فمن ذلك ما وجد في التوراة والإنجيل، وسائر" باقي "كتب الله تعالى، المنزلة من ذكره ونعته" وصفة بالصفات المميزة له، حتى كأنهم شاهدوا أن الذي ذكر اسمه "وخروجه بأرض العرب وما خرج بين يدي ايام مولده" أي: أمامه بقربه، "ومبعثه من الأمور الغريبة، العجيبة، القادحة في سلطان الكفر" وحججه وبرهانه، أي: الشبه الباطلة التي يقيمها أهله على صحته زاعمين حقيتها عَبَّر عنها بالحجج، نظرًا لزعمهم "الموهنة لكلمتهم" أي: كلمة أهل الكفر، أي: أقاويلهم الباطلة التي رفعوها، عَبَّر عنها بكلمة؛ لأنهم لما اتفقوا كانت كأنها واحدة، "المؤيدة لشأن العرب، المنوّهة بذكرهم، كقصة الفيل وما أحلَّ الله بأصحابه من العقوبة والنكال" كما مَرَّ بسطه، "وخمود نار فارس" التي كانوا يعبدونها، وكان لها ألف عام لم تخمد، "وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفات" -بضم الشين، وإسكان الراء، وفتحها وضمها- جمع شرفة تحقيرًا لها، أو لأن جمع القلة قد يقع موضع جمع الكثرة، "إيوان" كديوان ويقال فيه أوان بوزن كتاب، بناء أزج غير مسدود الوجه، "كسرى" بكسر الكاف وفتحها: ملك الفرس، وكانت شرفات إيوانه اثنتين وعشرين، "وغيض ماء بحيرة" تصغير بحرة لا بحر؛ لأن تصغيره بحير، "ساوه" -بمهملة فألف، فواو مفتوحة، فهاء ساكنة- مدينة بين الري وهمذان، وبحيرتها متسعة جدًّا، كانت أكثر من ستة فراسخ يركب فيها السفن، ويسافر فيها إلى ما حولها من البلاد والمدن، فأصبحت ليلة المولد ناشفة؛ كأن لم يكن بها شيء من الماء، ورؤيا الموبذان" بضم الميم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، كما قال ابن الأثير وغيره.
وحكى ابن ناصر كسرها أيضًا، وبذال معجمة: اسم لحاكم المجوس، كقاضي القضاة للمسلمين، رأى ليلة مولده صلى الله عليه وسلم إبلًا صعابًا تقود خيلًا عرابًا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فقال له كسرى: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون من ناحية العرب،
وما سمع من الهواتف الصارخة بنعوته وأوصافه، وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها، إلى سائر ما روي ونقل في الأخبار المشهورة من ظهور العجائب في ولادته وأيام حضانته وبعدها إلى أن بعثه الله نبيًّا.
ولم يكن له صلى الله عليه وسلم ما يستميل به القلوب من مال فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال، ولا أعوان على الرأي الذي أظهره، والدِّين الذي دعا إليه، وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام، مقيمين على عادة الجاهلية في العصبة والحمية، والتعادي والتباغي وسفك الدماء، وشنّ الغارات، ولا تجمعهم ألفة دين، ولا يمنعهم من سوء أفعالهم نظر في عاقبة، ولا خوف عقوبة ولا لائمة، فألَّف صلى الله عليه وسلم بين قلوبهم، وجمع كلمتهم، حتى اتفقت الآراء وتناصرت القلوب، وترادفت الأيدي، فصاروا إلبًا واحدًا في نصرته، وعنقًا واحدًا إلى.................
"وما سمع من الهواتف:" جمع هاتف من الهتف، وهو الصوت العالي مطلقًا، ثم خُصَّ بصوت يسمع ممن لا يرى شخصه، ولذا خص عند العرب بالجنّ الصارخة بنعوته وأوصافه" عطف تفسير، وكثر ذلك عند مبعثه صلى الله عليه وسلم.
وللخرائطي كتاب الهواتف جمع فيه ذلك، "وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها:" سقوطها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها إلى سائر" باقي "ما روي ونقل في الأخبار المشهورة من ظهور العجائب في ولادته وأيام حضانته، مما تقدَّم بعضه، "وبعدها إلى أن بعثه الله نبيًّا، وبسط ذلك بطول، "و" الحال أنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم ما يستميل به القلوب من مال" بيان لما، "فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال ولا أعوان على الرأي الذي أظهره، والدين الذي دعا إليه" بل دعاهم وحده إلى ذلك، "وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام" الأقداح التي كانوا يعملون بما تخرجه، "مقيمين على عادة الجاهلية في العصبة والحمية، والتعادي والتباغي، وسفك الدماء وشنّ الغارات" بحيث لا يقع بينهم اختلاف ولا حروب، "ولا يمنعهم من سوء أفعالهم نظر في عاقبة، ولا خوف عقوبة، ولا لائمة" بالمد والهمز، ملائمة، أي: حالة يلامون بها، "فألف صلى الله عليه وسلم بين قلوبهم وجمع كلمتهم حتى اتفقت الأراء وتناصرت القلوب" عاون بعضها بعضًا وقواه، والمراد أصحابها ونسبه إليها؛ لأنه سبب لمعاونة صاحبه، وترادفت الأيدي، تتابعت في التعاون والتناصر على إظهار الحق، "فصاروا إلبًا" بكسر الهمزة، وفتحها لغة، وموحدة جمعًا "واحدًا في نصرته، وعنقًا" بضمة وبضمتين جمعًا، "واحدًا" فهو كالرديف لما قبله، والمعنى: إنهم صاروا ناظرين متلفتين "إلى
طلعته، وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم في محبته، وبذلوا مهجهم وأرواحهم في نصرته، ونصبوا وجوههم لوقع السيوف في إعزاز كلمته، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا غرض في العاجل أطمعهم في نيله يحوونه، أو ملك أو شرف في الدنيا يحوزونه، بل كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يجعل الغني فقيرًا، والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور، أو يتفق مجموعها لأحد هذا سبيله، من قِبَل الاختيار العقلي والتدبير الفكري، لا والذي بعثه بالحق، وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب عاقل في شيء من ذلك، وإنما هو أمر إلهي، وشيء غالب سماوي، ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلا من له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
طلعته،" ليذبّوا عنه ما يكره ويعاونوه على ما يريد، "وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم في محبته، وبذلوا مهجهم:" جمع مهجة: الدم أو دم القلب والروح، كما في القاموس، فقوله: "وأرواحهم" تفسيريّ على الثالث "في نصرته ونصبوا وجوههم" جعلوها كالهدف الذي ينصب لوقع السيوف"، والسهام والرماح، حيث نصحوا في محاربة أعدائه، ووطَّنوا أنفسهم على إصابة ذلك لوجوههم وصدورهم "في" لأجل "إعزاز كلمته"، إعلاء دينه وإظهاره، "بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا غرض في العاجل" أي: أمر في الزمن الحاضر، "أطمعهم في نيله، يحوونه" فيرغبون بسببه، "أو ملك، أو شرف في الدنيا يحوزونه،" بل ليس ثَمَّ ما يحملهم على الجهاد معه، وإنما محض غرضهم إظهار الحق وإخماد الباطل، وخص العاجل؛ لأنه أدعى للرغبة في معالجة النفس لحصوله، "بل كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يجعل الغني فقيرًا" يحمله على صرف أمواله في الجهاد ونحوه من أنواع اقُرَب، كأبي بكر، أو بأن يصيِّره كالفقراء في تهذيب النفس، وعدم الفخر، والإعراض عن الأسباب المشعرة بنحو الكبر، "والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور أو يتفق مجموعها لأحد، هذا سبيله من قبيل الاختيار العقلي والتدبير الفكري، لا والذي بعثه بالحق" جواب الاستفهام، "وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب" يشك "عاقل في شيء من ذلك، وإنما هو أمر إلهي، وشيء غالب سماوي ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلّا من له الخلق" جميعًا "والأمر" كله، "تبارك" تعاظم "الله رب" مالك "العالمين".
وبهذه الآية استدلّ سفيان بن عيينه على أن القرآن غير مخلوق، أخرجه ابن أبي حاتم؛ لأن الأمر هو الكلام، وقد عطفه على الخلق، فاقتضى أن يكون غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي، ذكره في الإكليل.
ومن دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام أنه كان أميًّا، لا يخط كتابًا بيده ولا يقرؤه، ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضيين، ولم يخرج في سفر ضاربًا إلى عالم فيعكف عليه، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية، وقد كان ذهبت معالم تلك الكتب، ودرست وحُرّفت عن مواضعها، ولم يبق من المتمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها إلّا القليل، ثم حاج كان فريق من أهل الملل المخالفة له بما لو احتشد
وقال في فتح الباري: قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الآية، يخص به قوله تعالى الله:" {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية، ولذا أعقبه البخاري بقوله:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الآية، وهذا الأثر وصله ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية، فقال: الخلق هو المخلوق، والأمر هو الكلام، وسئل مرة عن القرآن: أهو مخلوق؟ فقرأ الآية وقال: ألا ترى كيف فرَّق بين الخلق والأمر، فالأمر كلامه، فلو كان مخلوقًا لم يفرق، وسبق ابن عيينة، إلى ذلك محمد بن كعب القرظي، وأحمد بن حنبل وعبد السلام بن عاصم وطائفة، أخرجه ابن أبي حاتم، انتهى.
"ومن دلائل نبوته" المستلزمة لرسالته؛ لاستحالة الكذب على النبي، وقد قال:"أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا""عليه الصلاة والسلام أنه كان أميًّا لا يخط كتابًا بيده" صفة لازمة، فالأمي من لا يكتب نسبة إلى الأم، لبقائه على الحالة التي لد عليها؛ إذ الكتابة مكتسبة، أو إلى أمة العرب؛ لأن أكثرهم أميون. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" رواه الشيخان وغيرهما، عن ابن عمر، "ولا يقرؤه"؛ لأن عادة من لا يحسن الكتابة لا يحسن القراءة، "ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم" أي: بينهم، وأظهر زائد "في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضيين، ولم يخرج في سفر ضاربًا" بموحدة: قاصدًا "إلى عالم، فيعكف" بكسر الكاف وضمها عليه" ليتعلم منه، "فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية" أي: ذكر لهم ذلك وعَبَّر عنه بجاء، أي: كأنه؛ لأنه هو الذي جاءهم إلى منازلهم حرصًا على تبليغ الرسالة ما أمكنه، "وقد كان ذهبت معالم، أي: آثار "تلك الكتب" التي تخبر بما دلت عليه واستعمال معالم جمع معلم، هو الأثر يستدل به على الطريق في آثار الكتب مجاز، "ودرست وحُرِّفت" أي: بذلت "عن مواضعها" التي وضعها الله عليه، "ولم يبق من المستمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها إلّا القليل،" ولقلتهم لم يجمع صلى الله عليه وسلم بأحد منهم حتى يظن أنه أخذ عنهم، "ثم حاجَّ" جادل "كل فريق من أهل الملل المخالفة له بما،" أي شيء، أي: ببراهين، "لو احتشد" بهمزة وصل، وسكون المهملة، وفوقية معجمة مفتوحتين،
له حذاق المتكلمين وجهابذة النقاد المتفننين لم يتهيأ له نقض ذلك. وهذا أدلّ شيء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى.
ومن ذلك القرآن العظيم، فقد تحدَّى بها فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته، والإتيان بسورة من مثله، فنكلوا عنه وعجزوا عن الإتيان بشيء منه.
قال بعض العلماء: إن الذي أورده عليه الصلاة والسلام على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية، وأوضح في الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص،............
فمهملة: اجتمع له " اي: لردّه "حذاق المتكلمين" جمع حاذق، وهو العارف بغوامض صناعته ودقائقها، "وجهابذة النقاد" أي: خبراؤهم جمع جهبذ بالكسر، الناقد الخبير، كما في القاموس فجرَّده المصنف عن بعض معناه، لإضافته إلى النقَّاد؛ إذ لا يضاف اسم لما به، اتحد معنى المتفننين" المتنوعين في المعارف، يقال: رجل متفنن، أي: ذو فنون، أي: أنواع "لم يتهيأ" يتيسر له نقض إبطال "ذلك"، ولم يقل لهم مطابقة للجمع، نظرًا إلى تنزيلهم منزلة الشخص الواحد، فأفرد، فإن قيل: ما السر في نسبة المحاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، ونسبة الله تعالى لقوم إبراهيم في قوله:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} الآية، فالجواب: إن إبراهيم لما كسَّر أصنامهم نصبوا أنفسهم لمحاجته، والمصطفى أتاهم بالحجج، فهو المحاجج لهم، وكل منهما حج المخالفين له، وهذا أدل شيء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى" لا صنع، لا حد فيه.
"ومن ذلك، أي: دلائل نبوته" القرآن العظيم،" أو من الذي حاجّهم به، وعجزوا عنه وهو أظهر لقوله: "فقد تحدَّى" بحذف المفعول، أي: تحداهم به، والباء في "بما فيه من الإعجاز" سببية لا صلة تحدى؛ لأنه ما تحداهم بالإعجاز، بل طلب منهم المعارضة فقط، بدليل تفسيره التحدي بقوله: "ودعاهم إلى معارضته" أي: طلبًا منهم، "والإتيان بورة" وجعل الباء صلة يوهم أنه قال: ائتوا، بالإعجاز الذي فيه، مع أنه لم يقله، إنما قال: فأئتوا بسورة "من مثله" من للبيان، أي هي مثله في البلاغة، وحسن النظم، والإخبار عن الغيب، والسورة قطعة لها أول وآخر، أقلها ثلاث آيات فنكلوا عنه" أي: امتنعوا عن الإتيان بمثله، بمعنى: لم يحاولوا أن يأتوا بشيء يماثله، لعلمهم أنهم لا يقدرون، "وعجزوا عن الإتيان بشيء منه" عطف علة على معلول.
"قال بعض العلماء: الذي أورده عليه الصلاة والسلام على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله، أعجب في الآية" العلامة، "وأوضح في الدلالة على ما ادعاه من الرسالة "من إحياء الموتى" لعيسى وإبراء الأكمه" الذي ولد ممسوح العين، "والأبرص" من
لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين في اللسن بكلامٍ مفهوم المعنى عندهم، وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا في إبراء الأكمه والأبرص، ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة،...................................
به بياض في ظاهر البدن بفساد مزاج، كما في القاموس، فقول من قال: هو الذي بيده بياض، مثال لا قيد، وخُصَّا لأنهما داء إعياء، وكان بعث عيسى في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء بشرط الإيمان.
روى ابن عساكر عن وهب: كان دعاء عيسى الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان، والمجاني وغيرهم: اللهمَّ أنت إله من في السماء، وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء، وجبار من في الأرض، لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء، وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم، إنك على كل شيء قدير.
قال وهب: هذا للفزع والمجنون يكتب ويسقى ماءه يبرأ إن شاء الله تعالى؛ "لأنه أتى أهل البلاغة" وهي ملكة يبلغ بها المتكلم في تأدية المعاني حدًّا يؤذن بتوفية خاصة كل تركيب حقها، وبقية علوم العرب الشعر، وهو كلام موزون مقفَّى، مراد به به الوزن والخبر، وهو معرفة الأسماء، والإنساب، والأيام؛ إذ كانوا بمكان من ذلك، والكهانة وهي معاناة الجنّ وادعاء معرفة الأسرار، فأنزل الله القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول، من أجل الفصاحة والإيجاز، والبلاغة الخارجة عن نوعه.
"وأرباب الفصاحة ورؤساء" جمع رئيس، كشريف وشرفاء، وزنًا ومعنًى. "البيان" الإفصاح مع ذكاء "والمتقدمين في اللسن" بفتح اللام والمهملة ونون: الفصاحة، "بكلام" متعلق بقوله: أتى "مفهوم المعنى عندهم، وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم كان لم يكونوا يطمعون فيه" هذا واضح.
وأما قوله: "ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه"، ففيه نظر، فقد ذكر أهل التفسير أن عيسى بُعِثَ في زمن الطب، ومن جملته تعاطي علم إبراء الأكمه والأبرص، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح، والبلاغة والخطابة،" بفتح الخاء المعجمة: إنشاء الكلام في المحافل، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقةً، فيأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديها في المقامات إلى آخر ما طول به في الشفاء في صفة
فدلَّ على أن العجز عنه إنما كان ليصير علمًا على رسالته وصحة نبوته، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح.
وقال أبو سليمان الخطابي: وقد كان صلى الله عليه وسلم من عقلاء الرجال عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق، وقد قطع القول فيما أخبر به عن ربه تعالى، بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به فقال:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علَّام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يكون. انتهى.
وهذا من أحسن ما يكون في هذا المجال وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة، وبالتقصير عن بلوغ الغرض في المناقضة،..........
بلاغتهم وفصاحتهم، "فدلَّ على أنَّ العجز عنه إنما كان ليصير علمًا على رسالته وصحة نبوته، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح، وهو باقٍ دون غيره من المعجزات: ومنه تستنبط الأحكام الشرعية والعلوم العقلية، ولم تستنبط من معجز سواه، ولذا قيل: معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلّا من حضرها، ومعجزة القرآن باقية إلى يوم القيامة.
"وقال أبو سليمان الخطابي" نسبة إلى جده؛ إذ هو حمد -بفتح المهملة، وإسكان الميم ومهملة- ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، الحافظ الفقيه المشهور:"وقد كان صلى الله عليه وسلم من عقلاء الرجال، عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق" تعليل مقدَّم لقوله: "وقد قطع القول" أي: إنه لكمال عقله لم يرتّب "فيما أخبر به عن ربه تعالى، بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما ذكر لعجزكم، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ذلك أبدًا لظهور إعجازه، ولم يقل: ولن تأتوا بسورة من مثله، لما فيه من الكناية والإيجاز، "فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علّام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلّا" صوابه إسقاطه؛ إذ جواب لولا قوله:"لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يكون" يوجد، ولا يصح أن جواب لولا محذوف، أي: لم يقطع القول؛ لأنه يناكده ما بعد وإلّا، "انتهى".
"وهذا من أحسن ما يكون في هذا المجال -بالجيم- وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة" حيث قال: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، فنفى قدرتهم في المستقبل، فلو قدروا لحميتهم فعلوا، "وبالتقصير" منهم "عن بلوغ الغرض لهم في المناقضة"، هي لغة التكلم بما يتناقض معناه، والمعنى: إنه أخبر بعجزهم قبل ظهور المناقضة منهم في أقوالهم الدالة
صارخًا بهم على رءوس الأشهاد "فلم يستطع أحد منهم الإلمام به مع توفر الدواعي وتظاهر الاجتهاد، فقال -وكان بما ألقى عليهم خبيرًا:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] فرضيت هممهم السرية وأنفسهم الشريفة الأبية بسفك الدماء وهتك الحرم.
وقد ورد من الأخبار في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما نزل عليه على المشركين الذين
على ذلك "صارخًا بهم" صائحًا عليهم بعجزهم عن ذلك، "على رءوس الأشهاد، فلم يستطع أحد منهم الإلمام به" أي: القرب منه، "مع توفّر الدواعي، وتظاهر الاجتهاد" وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والافتراء، يقولون: إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر، وإفك افتراه، وأساطير الأولين، والمباهتة، والرضا بالدنية كقولهم: قلوبنا غلف، وفي أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، أي: صمم، ومن بيننا وبينك حجاب، ولا تسمعوا لهذا القرءان، والغوا فيه لعلكم تغلبون، والادعاء مع العجز، لو نشاء لقلنا مثل هذا، وهذه وقاحة لفرط عنادهم ومكابرة، فلو استطاعوه ما منعهم أن يشاءوا، وقد تحدَّاهم وقرعهم بالعجز بضعًا وعشرين سنة، ثم قارعهم بالسيوف، فلم يقدروا مع استنكافهم أن يغلبوا خصوصًا في الفصاحة.
"فقال:" أي: أيضًا إذا ما قبله في: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الآية، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، وكان بما ألقى عليهم خبيرًا، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} في الفصاحة والبلاغة، {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} جواب لقدر، ولذا لم يجزم {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} معينًا، نزل ردًّا لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، قال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في هذه الآية تعظيمًا لإعجازه؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، وإذا فرض اجتماع الثقلين فيه وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز، وقال غيره: بل وقع للجن أيضًا، والملائكة منويّون في الآية؛ لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثله.
وقال الكرماني في غرائب التفسير: إنما اقتصر على الإنسان والجن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين دون الملائكة، ذكره في الإتقان، "فرضيت هممهم السرية،" الشريفة، "وأنفسهم الشريفة الأبية" الممتنعة "بسفك الدماء وهتك الحرم،" عجزًا عن الإتيان بمثله، وعنادًا بعدم الإيمان.
"وقد ورد من الأخبار في قراءة النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما نزل على المشركين الذين
كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم بإعجازه جمل كثيرة: فمن ذلك ما ورد عن محمد بن كعب قال: حدّثت أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم -وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورًا لعله يقبل منا بعضها ويكفّ عنا. قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قاله عتبة، وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك، فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال:"فاسمع مني"، قال: فافعل،.................
كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم" بالجرِّ عطف على قوله: الأخبار "بإعجازه جمل كثيرة.
فاعل ورد "فمن ذلك ما ورد عن محمد بن كعب" بن سليم بن أسد القرظي المدني، ثقة عالم، روى له الستة.
قال الحافظ: ولد سنة أربعين على الصحيح، ووهِمَ من قال: ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم يثبت من سبي قريظة، مات محمد سنة عشرين ومائة، وقيل: قبلها، "قال: حدثت" بالبناء للمجهول، قال في النور: لا أعرف مَنْ حدَّثه "أن عتبة بن ربيعة" الكافر المقتول ببدر، "قال ذات يوم، وهو جالس في نادي" مجلس قريش، الذي يجلسون فيه يتحدثون، "ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى هذا" وفي رواية: إلى محمد، "فأعرض عليه أمورًا لعله أن يقبل منا بعضها،" فنعطيه أيها شاء، "ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قاله عتبة، وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك" ولفظه فقال -أي تبة: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السبطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها، فقال صلى الله عليه وسلم:"قل يا أبواليد، أسمع" قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما جئت بهذا تطلب مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تطلب الشرف فينا، فنحن نسودك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك ريًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك أو نعذر، "فلمَّا فرغ" من كلامه هذا، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفرغت يا أبا الوليد"، قال: نعم، قال:"فاسمع مني"، قال: فافعل،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1] {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال:"سمعت يا أبا الوليد؟ " قال: سمعت، قال:"فأنت وذاك" فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمَّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: والله قد سمعت قولًا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ. قال: فأجابني بشيء، والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة: قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم....................
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية، مبتدأ خبره {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} الآية. بَيَّنت الأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وأساليب البلاغة، "فمضى رسول الله يقرؤها عليه،" أي: يقرأ بقية السورة، "فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة، فسجد فيها، ثم قال: "سمعت يا أبا الوليد؟ " قال: سمعت، قال: "فأنت وذاك" مرفوع وجوبًا عند الجمهور، نحو قولهم: أنت ورأيك، والنصب على أنه مفعول معه، أو على أن ما قبل الواو جملة حذف ثاني جزأيها، "فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به" لشدة تغيره مما سمع، فلمَّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني "والله قد سمعت قولًا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر" وكان بعضهم قال: هو شعر لحسن نظمه وفصاحته، ولا بالسحر، وكان قال بعضهم، هو سحر للطافته، "ولا الكهانة" وكان بعضهم قال ذلك فيه لتحيرهم فيه، كل ذلك من التحيز والانقطاع، "يا معشر قريش! أطيعوني" واجعلوها في "خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه" فاعتزلوه، "فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ" فإن تصبه العرب فقد كفيتموه، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم، هذا بقية حديث محمد بن كعب عند ابن إسحاق.
وزاد في رواية غيره: "قال" عتبة معللًا لقوله: ليكونن لقوله نبأ: "فأجابني بشيء، والله ما هو بسحر، ولا شعر، ولا كهانة" كما تزعمون "قرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا دلالة
{حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أنَّ محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه البيهقي وغيره.
وفي حديث إسلام أبي ذر، ووصف أخاه أنيسًا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، وقد ناقض اثنى عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم، وجاء إلى مكة، وجاء إليّ أبو ذر بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر........................
فيه على أنها من السورة، للإجماع على ندب استفتاح القراءة في غير الصلاة بالبسملة، {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية "حتى بلغ: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} الآية، أي: خوفتكم عذابًا يهلككم مثل الذي أهلكم، "فأمسكت فمه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب" فكيف يكذب على الله، "فخفت أن ينزل بكم العذاب، رواه البيهقي وغيره" كابن إسحاق: حدَّثني زيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، فذكره.
وفي رواية: أن عتبة لم يرجع إليهم، وظنّوا إسلامه، فذهبوا له، فغضب وحلف لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: قد علمتم أنه لا يكذب..... إلى آخره، فإن صحّا أمكن الجمع بينهما.
"وفي حديث إسلام أبي ذر" الغفاري، "ووصف أخاه أنيسًا،" بالتصغير ابن جنادة، بن سفيان بن عبيد، بن حرام، بن غفار الغفاري، أسَنّ من أبي ذر، وأسلم على يده، وهاجرا معًا، "فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، قد ناقض اثني عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم" أي: عارضهم في قصائدهم، فأتى بمثلها، وهذا يدل على فصاحته ومعرفته بالشعر وقدرته عليه.
قال الجوهري: النقيضة في الشعر ما ينقض به، وقال المجد: أن يقول شاعر شعرًا، فينقض عليه شاعر حتى يجيء بغير ما قاله. "وإنه انطلق إلى مكة" لحاجة له، وجاء إلي أبو ذر بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت رجلًا بمكة يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس" فيه؟ " قال" أنيس: "يقول: شاعر، كاهن، ساحر،" أي: بعضهم يقول هذا وبعض هذا، وأبطله، فقال:"لقد سمعت قول الكهنة، فما هو" أي: النبي أو كلامه ملتبس "بقولهم، ولقد وضعته".
أي: قوله، كما هو لفظه في مسلم، "على أقراء" بفتح الهمزة والمد "الشعر،" أي:
فلم يلتئم ولا يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون. رواه مسلم والبيهقي.
وعن عكرمة في قصة الوليد بن المغيرة، وكان زعيم قريش في الفصاحة: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي، فقرأ عليه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] إلى آخر الآية. قال: أعد، فأعاد صلى الله عليه وسلم، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.....................
أنواعه وأنحائه.
وقال الزمخشري: إقراؤه قوافيه التي يختم بها كإقراء الطهر التي ينقطع الدم عندها، واحدها قرء مثلث القاف، "فلم يلتئم" بالهمز من الملاءمة، أي: لم أره مناسبًا ولا موافقًا لها لفظا ولا معنًى، وأين الثريا من الثرى؟ "ولا يلتئم" لا يتفق على لسان أحد بعدي، أنه" بفتح الهمزة "شعر"؛ إذ ليس أحد أعلم به، ولا أقدر عليه مني، فلو أمكن فعلت، فحيث لم يتفق لي لا يتفق لغيري، والمراد: إبطال كونه شعرًا بعدما أبطل كونه سحرًا وكهانة، ولذا عقبه بقوله: "وإنه" أي: النبي صلى الله عليه وسلم "لصادق" في قوله: "إنه من عند الله "وإنهم" أي: الكفار لكاذبون" في جميع ما قالوه، "رواه مسلم" في الفضائل مطولًا جدًّا، "والبيهقي في الدلائل كذلك.
"وعن عكرمة" مولى ابن عباس فيما رواه البيهقي مرسلًا، "في قصة الوليد بن المغيرة،" بضم الميم، وكسر المعجمة، ابن عبد الله المخزومي، مات كافرًا، وكان زعيم" سيد "قريش في الفصاحة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي" شيئًا من القرآن لينظر فيه، "فقرأ عليه: " {إَِّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} التوحيد أو الإنصاف {وَالْأِحْسَانِ} الآية، أداء الفرائض أو أن تعبد الله كأنك تراه، كما في الحديث. {وَإِيتَاءِ} إعطاء {ذِي الْقُرْبَى} القرابة، خصَّه بالذكر اهتمامًا به "إلى آخر الآية" وخص هذه الآية لمناسبتها للطالب من أقاربه، وفيها عظة له وتنبيه، وهو من رؤساء عقلانهم، فرجا صلى الله عليه وسلم بذلك لكمال رأفته ورحمته أن يهدي للإسلام.
"قال" الوليد: أعد قراءتك، "فأعاد صلى الله عليه وسلم: فقال: والله إن له لحلاوة" أي: عذوبة فصاحة، استعارة لما يستلذه السمع، وإن عليه لطلاوة" مثلث الطاء، حسنًا وبهجة وقبولًا، وأكدهما بالقسم، وإن والجملة الاسمية وقدَّم الخبر للحصر، إشارة إلى أنه لا يشبه غيره من الكلام. "وإن أعلاه لمثمر" أي: له طيب كثير، استعارة تمثيلية، والمراد: أن أصله قوي ليس من جنس كلام البشر، ومعانيه مفيدة مرشدة لسعادة الدارين وحسن العاقبة، "وإن أسفله الغدق"، وهو كثرة
وما يقول هذا بشر، ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه.
وفي خبره الآخر: حين جمع قريشًا عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب تردنا، فأجمعوا فيه رأيًا، لا يكذب بعضكم بعضًا،.......................................
الماء، وأراد بأسفله ما تضمنه من المعاني، فهو تمثيلية أيضًا، شبهه لفصاحته وبلاغته بشجرة شربت عروقها ماء غزيرًا، فاهتزت وربت، وأينعت ثمرتها وكثرت، ويجوز كونها مكنية وتخييلية.
وفي رواية ابن إسحاق: وإن أصله لعذق -بفتح المعجمة، وكسر المهملة، قال في الروض: رواية ابن إسحاق أفصح؛ لأنها استعارة تامة، آخر الكلام فيها يشبه أوله، وجناه -بفتح الجيم والنون- الثمرة، "وما يقول هذا بشر"؛ لأنه لا يشبه كلامهم بوجه من الوجوه، لحلاوة نظمه، وبديع أسلوبه، وبلاغة معانيه، وجزالة مبانيه، يعني: إنه ليس مفترى مختلفًا، وخصَّ البشر؛ لأنهم المعروفون بالبلاغة، وإلا فهو معجز للجن أيضًا، على أنه صرح بذلك في قوله:"ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه" نوع من الشعر معروف، فهو خاص على عام، ففيه حجة لقول الجمهور: الرجز شعر، "ولا بأشعار الجن" مني، "والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا" المذكور، "والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر، أعلاه مغدق أسفله"، وأعاد ذلك للتأكيد ولشدة اللذَّة الحاصلة له بسماعه، "وإنه ليعلو" يرتفع على ما سواه، "ولا يُعْلَى عليه"، وبقية هذا عند البيهقي:"وإنه ليحطم ما تحته، وفي خبره" أي: الوليد: "الآخر حين جمع قريشًا" يعني أشرافهم ورؤساهم، "عند حضور الموسم" للحج، "وقال: إن وفود العرب تردنا" أي: تقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم، "فأجمعوا" -بقطع الهمزة، وإسكان الجيم، وكسر الميم- "فيه رأيًا" أي: اعزموا وصمموا عليه من أجمع المختص بالمعالي دون الأعيان، لا من جمع؛ لأنه مشترك بينهما.
قال تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} الآية، ثم أتى الذي جمع مالًا وعدَّده، وأمَّا قوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} الآية. فوقع الفعل على وشركاءكم" بطريق العطف، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع أو تقديره، كما قيل: وأحضروا شركاءكم. لا يكذب -بضم الياء، وسكون الكاف، وخفة الذال، أو بفتح الكاف وشد الذال المكسورة- من
فقالوا: نقول إنه كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا سجعه، قالوا: مجنون. قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا بوسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: وما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله. رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول: قال: فما أنتم قائلون من هذا شيئًا إلّا وأنا أعرف أنه باطل،.............
أكدب وكذب، "بعضكم بعضًا" إذا اختلفتم، قالوا: فأنت أقم لنا رأيًا نقوله فيه، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع، "فقالوا: نقول إنه كاهن" يخبر عن المغيبات، ويدَّعي معرفة الأسرار، وكانوا في العرب كثيرًا، كشق وسطيح، وكان لهم كلام مشجع، فمنهم من له جني يخبره بالأخبار، ومنهم من يدَّعي معرفة ذلك بأسباب وأمور يأخذها من كلام سائله وفعله وحاله، ويقال له: عرَّاف، "قال: والله ما هو بكاهن"، لقد رأينا الكهَّان، "ما هو بزمزمته" أي: صوته الذي لا يفهم، كصوت الرعد، وذلك أصوات الكهنة، "ولا سجعه" الذي يسجعه وقت كهانته، "قالوا: مجنون" اختلَّ عقله، فاختل كلامه وفعله" قال:" والله "ما هو بمجنون" لقد رأينا المجنون وعرفناه، ولا" هو "بخنقه" بفتح النون، وكسرها، وإسكانها ثلاث لغات، ذكره المصنف، "ولا بوسوسته" بفتح الواو: مصدر شيء يلقى في القلب وفي السمت بصوت خفي يحدث به المرء نفسه، ولذا سمي حديث النفس، أي: لا يشبه حاله، "قالوا: فنقول شاعر، قال: وما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه" بفتح الهاء والزاي والجيم: أحد بحور الشعر، لكن المنقول أن أسماءها منقولات للخليل بن أحمد، فهي منقولة من الهزج نوع مطرب من الأغاني، ولو قيل: إنه اسم لضرب من الشعر كانت العرب تتغنى به كان أقرب وانسب بقوله: "وقريضه"؛ لأنه ليس اسم بحر من بحور العروض، وهو لغة الشعر مطلقًا من قرض بمعنى قطع، أي: مطولات قصائده المقابلة لما قبله فيتناول الطويل والبسيط وغيرهما، ومقبوضه" مختصرًا وزانه المسمَّى في العروض بالمنهوك والمجزور، وتكلف من فسَّر مبسوطه ببحر البسيط، وإن زيادة الميم لمشاكلة مقبوضة، "ما هو بشاعر" أعاده تأكيدًا، "قالوا: فنقول ساحر، قال: وما هو بساحر"، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بساحر، "ولا نفثه ولا عقده" بفتح فسكون أو بضم ففتح: جمع عقدة التي يعقدها في الخيط ينفخ فيها بشيء يقوله بلا ريق أو معه، "قالوا: فما نقول" بالنون نحن، أو الفوقية: أي: أنت "قال:" والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناه، فما أنتم قائلون من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل، ليس بمقبول عندي ولا عند أحد من العقلاء الذين يعرفونه، وقدَّم الضمير لتقوية الحكم؛ لأنه يقدم لذلك أو
رواه ابن إسحاق والبيهقي.
وأخرج أبو نعيم من طريق ابن إسحاق بن يسار قال: حدثني إسحاق بن يسار عن رجل من بني سلمة قال فتيان بني سلمة: قال عمرو بن الجموح لابنه: أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل، فقرأ عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله:{الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال: وما أحسن هذا وأجمله، أَوَكل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا.
وقال بعضهم -بعض العلماء:.........................................................
للحصر في نفسه بادّعاء أن غيره يجهل ذلك، وفيه بعده، وبقية خبره: وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر، يفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، فصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها، "رواه" بتمامه هذا "ابن إسحاق والبيهقي" بإسناد جيد عن ابن عباس.
"وأخرج أبو نعيم من طريق" محمد بن إسحاق بن يسار" إمام المغازي، صدوق، مدلس، قال: حدثني" أبو "إسحاق بن يسار، المدني، ثقة من التابعين، عن رجل من بني سلمة، بكسر اللام، بطن من الأنصار قال: لما أسلم فتيان بني سلمة، قال عمرو،" بفتح العين، ابن الجموح -بفتح الجيم، وخفة الميم- ابن زيد بن حرام بن كعب الأنصاري السلمي، من سادات الأنصار، استشهد بأحد، "لابنه" معاذ، شهد العقبة وبدرًا، وشارك في قتل أبي جهل:"أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل " وكان أسلم قبل أبيه، "فقرأ عليه" {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية. "إلى قوله:{الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الآية. "فقال" عمرو لابنه: "ما أحسن هذا وأجمله، أوكل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا" قال ابن إسحاق: كان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سلمة، وشريفًا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنمًا من خشب يعظمه، فلمَّا أسلم فتيان بني سلمة منهم ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدخلون على صنمه فيطرحونه في بعض حصر بني سلمة، فيغدو عمرو، فيجده منكبًا لوجهه في العذرة، فيأخذه ويغسله ويطيبه ويقول: لو أعلم من صنع بك هذا لأضربنَّه، ففعلوا ذلك مرارًا، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، وقال: إن فيك خير فامتنع، فلمَّا أمسى أخذوا كلبًا ميتًا، فربطوه في عنقه، وأخذوا السيف، فأصبح، فوجده كذلك، فأبصر رشده وأسلم.
وقال ابن الكلبي: كان آخر الأنصار إسلامًا، "وقال بعضهم" وفي نسخة "بعض العلماء،
إن هذا القراءن لو وجد مكتوبًا في مصحف في فلاة من أرض، ولم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منَزَّل من عند الله، وأن البشر لا قدرة لهم على تأليف مثل ذلك، فيكف إذا جاء على يد أصدق الخلق وأبرهم وأتقاهم، وقال: إنه كلام الله، وتحدَّى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكيف يبقى مع هذا شك. انتهى.
واعلم أن وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر، لكن قال بعضهم: إنه قد اختلف العلماء في إعجازه على ستة أوجه.
أحدها: إن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة،...................................
"إن هذا القرآن لو وجد مكتوبًا في مصحف في فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك، لشهدت العقول السليمة أنه منَزَّل من عند الله، وأنَّ البشر" وأولي الجن" لا قدرة لهم على تأليف ذلك، فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق، وأبرهم، وأتقاهم، و"قد قال: إنه كلام الله وتحدَّى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكيف يبقى مع هذا شك؟ انتهى" كلام البعض.
"واعلم أنَّ وجوه" أي: أنواع "إعجاز القرآن" التي يعلم بها إعجازه، وأنه لا يقدر عليه بشر، "لا تنحصر" بعدد، وإن أفردها خلائق بالتصنيف، وقد قال في الشفاء، بعدما قال: إن تحصيلها من جهة ضبط أنواعها أربعة، وبسطها، ثم زاد عليها جملة، قال: وإذا عرفت ما ذكره من وجوه إعجاز القرآن، عرفت أنه لا يحصى عدد معجزات بألفٍ ولا ألفين، ولا أكثر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحدَّى بسورة منه، فعجزوا عنها.
قال أهل العلم: وأقصر السور {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الآية. فكل آية أو أيات منه بعددها منه معجزة، ثم فيها نفسها معجزات على ما سبق.
"لكن قال بعضهم: إنه قد اختلف العلماء في" وجه "إعجازه على ستة أوجه" أي: إنها جملة الوجوه التي حصل بها الإعجاز، وليس المراد أن من قال بواحد نفى غيره.
"أحدها: إن وجه إعجازه" أي: جعل غيره عاجزًا عن معارضته والإتيان بمثله، هو الإيجاز:" قلة اللفظ وكثرة المعاني، "والبلاغة الخارقة عادة العرب بأن يكون في الحد الأعلى، أو ما يقرب الإعجاز فيه من جهة البلاغة، لكن صعب عليهم تفصيلها، فصغوا فيه إلى حكم الذوق، وقال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبا في درجات البيان متفاوتة، فمنها: البليغ الوصيف الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، وهي أقسام
مثل قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فجمع في كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معاني كلام كثير.
وحكى أبو عبيد: أن أعرابيًّا سمع رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام...............................................
الكلام الفاضل فالأول أعلاها، والثاني أوسطها، والثالث أدناها وأقربها، فجاءت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الثلاثة، فانتظم لها بذلك نمط يجمع صفة الفخامة والعذوبة، وأطال في بيان ذلك نقله في الإتقان، ثم قال: اختلف في تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة بعد اتفاقهم على أنه في أعلى مراتب البلاغة، بحيث لا يوجد في التراكيب ما هو أشد تناسبًا، ولا اعتدالًا في إفادة المعنى منه، فاختار القاضي المنع، وإن كان كلمة فيه موصوفة بالذروة العليا، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسًا له من بعض. واختار أبو نصر القشيري وغيره التفاوت، وأن فيه الأفصح والفصيح، وإليه نحا العز بن عبد السلام وأورد: لِمَ لم يأت القرآن جميعه بالأفصح، وأجاب غيره، بأنه لو جاء على ذلك لكان على غير النمط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتمّ الحجة في الإعجاز، فجاء على نمطهم المعتاد ليتمَّ ظهور العجز عن معارضته، ولا يقولوا مثلًا: أتيتنا بما لا قدرة لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: غلبتك بنظري؛ لأنه يول له: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادرًا على النظر، وكان نظرك أقوى من نظري، فأمَّا إذا فقد أصل النظر، فكيف يصح معنى المعارضة، انتهى، والرصيف بفتح الراء وكسر المهملة وبالفاء، الشديد المضموم، والجزل، بفتح الجيم، وسكون الزاي، فلام القوي الشديد الرونق، "مثل قوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية، أي: بقاء عظيم، "فجمع في كلمتين" هما المبتدأ والخبر؛ لأنهم لا يعتبرون جزء الكلمة، وأما قوله:{وَلَكُمْ} فخبر آخر لحياة، أو أحدهما خبرًا، والآخر صلة له "عدد حروفهما عشرة أحرف" بحذف ألف أل والياء في قوله، في، لأنهم إنما يعدون ما ينطقون به لا ما يكتب، والعرب لم تكن تعرف الكتابة "معاني كلام كثير".
"وحكى أبو عبيد" القاسم بن سلام البغدادي أحد الأعلام، مَرَّ بعض ترجمته، "أن أعرابيًّا سمع رجلًا يقرأ:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية. جهر به من صدع بالحجة إذا تكلم جهارًا، أو افرق به بين الحق والباطل، وأصله: الإبانة والتمييز، وما مصدرية أو موصولة، والعائد محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع، كما في البيضاوي "فسجد" الأعرابي لما أدهشه من بلاغته، "وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام"؛ إذ ليست آية سجدة، وإنما هزَّه العجب لفصاحته، حتى ذلَّ ومرَّغ وجهه في التراب، وكان هذا معروفًا في مثله، حتى قال بعضهم للشعر، سجدات وليس المعنى:
وسمع آخر رجلًا يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80] فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحكى الأصمعي: أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهي تقول: استغفر الله من ذنوبي كلها، فقلت لها: ممن تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت:
استغفر الله لذنبي كله
…
قتلت إنسانًا بغير حله
مثل غزال ناعم في دله
…
انتصف الليل ولم أصله
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك،................... ......................
سجدت لله لأجل فصاحته، كما وهم وسمع أعرابي "آخر رجلًا يقرأ {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} الآية، يئسوا من يوسف، وزيدت السين والتاء للمبالغة في اليأس، {خَلَصُوا} ، اعتزلوا {نَجِيًّا} الآية، مصدر يصلح للواحد وغيره، أي: يناجي بعضهم بعضًا، "فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام"؛ لإعجاز بلاغته وخروجها عن طوق البشر، فإنك لو وزنت قولك، لما لم يطعم يوسف، ولم يجبهم، ذهبوا وتشاوروا فيما بينهم فيما يقولون بعد هذا، وكيف يرجعون لأبيهم، عرفت بالذوق أن لا مناسبة بينهما.
"وحكى الأصمعي" بفتح الهمزة، والميم، بينهما مهملة ساكنة، ثم مهملة، نسبة إلى جده، فإنه عبد الملك بن قريب بالتصغير، ابن عبد الملك بن علي بن أصمع، أبو سعيد الباهلي، البصري، صدوق سني، روى له أبو داود والترمذي، مات سنة ست عشرة، وقيل: سنة عشر ومائتين وقد قارب تسعين "أنه رأى جارية" أي: صغيرة السن، "خماسية، أو سداسية" بلغت خمسًا أو ستًا" "وهي تقول: أستغفر الله من ذنوبي كلها،" قال الأصمعي:"فقلت لها مِمَّ تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ إذ لم تبلغي الحلم، فقالت:"
أستغفر الله لذنبي كله
…
قتلت إنسانًا بغير حله
بالكسر، أي: لا بسبب يبيح قتله، "مثل غزال " صفة إنسانًا "ناعم في دله" أي: تُدَلِّلُه وتكسره في مشيته، "انتصف الليل ولم أصله، إخبار عن ذنب آخر أي: لم أتهجد فيه ثم يحتمل أن المراد بإنسانًا نفسها، أي: قتلت نفسي بعدم فعل الطاعات لانتصاف الليل وما صليت، ويحتمل غيرها، والقتل له حقيقي أو مجازي عن هجرها له ونحوه، أي: كدت أقتله، وهذا أظهر؛ إذ قتلها الحقيقي أو بالعشق بعيد لصغرها جدًّا، "فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، تعجب من فصاحتها مبالغًا في تعجبه، فإنها تقال لمن أتى بأمر بديع غريب، وليس المراد حقيقة لدعاء، بل شدة الاستحسان كأنه ممن يستحق أن يحسد ويدعى عليه، "فقالت: أو تعد" بالفوقية للمعلوم".
فقالت: أَوَتَعُدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
وحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يومًا نائمًا في المسجد، فإذا برجل على رأسه، يتشهد شهادة الحق، فأعلمه أنه من بطارقة الروم،................
والتحتية للمجهول، وفتح همزة الاستهام والواو العاطفة، والهمزة مقدمة من تأخير، أو داخلة على مقدر معطوف عليه على الخلاف الشهير، أي: أتعجب وتعد هذا" الكلام "فصاحة؟ أي: فصيحًا، "بعد قوله تعالى" أي: مع فصاحة القرآن، لا يعد غيره فصيحًا لسامعه، فإنه أزرى بكل فصاحة فصيرها كالعدم، "وأوحينا" الآية، وحي إلهام أو منام {إِلَى أُمِّ مُوسَى} الآية. ولم يشعر بولادته عن أخته {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} الآية. البحر، أي: النيل {وَلا تَخَافِي} الآية. "غرقه"{وَلا تَحْزَنِي} الآية، لفراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، الآية فأرضعته ثلاثة أشهر، لا يبكي، وخافت عليه، فوضعته في تابوت مطلي بالقار من داخل، ممهد له، وألقته في بحر النيل ليلًا، "فجمع في آية واحدة بين أمرين:" أرضعيه وألقيه، "ونهيين" ولا تخافي ولا تحزني، و"خبرين" {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} "وبشارتين" {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية. وهذا أولى من جعل الخبرين: أوحينا وخفت؛ لأنَّ أوحينا وحده ليس هو المقصود بالإخبارية، وخفت، وإن كان خبرًا في الأصل لكنه باقترانه بأداة الشرط خرج عن كونه خبرًا، ولا يضر كون {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} خبرًا وبشارة، لاختلاف الجهة فيهما، ثم المراد بالفصاحة هنا البلاغة؛ لأنها تطلق عليها، كما قال عبد القاهر.
قال في الشفاء: فهذا، أي: الجمع بين ما ذكر في آية واحدة نوع من إعجازه، منفرد بذاته، غير مضاف لغيره على التحقيق والصحيح.
"وحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يومًا نائمًا في المسجد" النبوي، فإذا -فجائية- برجل" بباء الملابسة على رأسه" أي: منتصف القامة بجانب رأس عمر، وهو حقيقة عرفية في مثله "يتشهد شهادة الحق" أي: ينطق بالشهادة، فاستخبره، فأعلمه، كما في الشفاء فسقط من الناسخ لفظ: فاستخبره، وفي نسخة: خبَّره، أنَّه من بطارقة الروم -جمع بطريق، ككبريت- القائد من قواد الروم، تحت يده عشرة آلاف رجل، كما في القاموس.
ممن يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم، فتأملتها فإذا قد جمع الله فيها ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة، وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] الآية.
وقد رام فوق من أهل الزيغ والإلحاد، أوتوا طرفًا من البلاغة، وحظًّا من البيان، أن يضعوا شيئًا يلبسون به، فلمَّا وجده مكان النجم من يد المتناول، مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما لوقوع الشبهة على الجهال فيما قلَّ عدد....................
وقال الجواليقي: لما سمعت العرب أن البطارقة أهل رئاسة، وصفوا الرئيس به يريدون المدح، قال أبو ذؤيب:
هم رجعوا بالعرج والقوم شهد
…
هوازم يخدوها حماة بطارق
"ممن يحسن كلام العرب وغيرها" من عبرانية وسريانية ورومية، وهذا توطئة؛ لأنه يفهم القرآن والإنجيل ويقدر على النظر في معانيهما، ولذا قال: وإنه سمع رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم" أيها المسلمون، يعني القرآن، "فتأملتها" نظرت بفكري في معناها، "فإذا هي قد جمع فيها ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة" بان لما، أي: من الأحوال التي تلزم العبد في الدنيا التي هو سبب النجاة والفوز في الآخرة وهي قوله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن {وَيَخْشَ اللَّهَ} ألآية" يخفه فيما صدر عنه من الذنوب، {وَيَتَّقْهِ} الآية، يجتنب ما يوجب عقوبته، فيما بقي من عمره الآية، أي:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الآية، بالنعيم المقيم أو سعادة الدارين، وذلك لأنها آمرة بجميع الطاعات، وباجتناب جميع المعاصي، والمبادر إلى التوبة والفوز بالمطلوب"وقد رام قوم من أهل الزيغ" الميل عن الحق إلى الباطل، التوبة والفوز بالمطلوب، وقد رام قوم من أهل الزيغ: الميل عن الحق إلى الباطل، والإلحاد: الطعن في الدين "أوتوا طرفًا من البلاغة وحظًّا" نصيبًا "من البيان أن يضعوا شيئًا يلبسون -بفتح أوله، وسكون اللام وفتح الباء وكسرها، وبضم أوله، وفتح اللام وشد الباء- مكسوة من التلبيس شدد مبالغة يخلطون به، فلما وجده مكان النجم من يد المتناول، أي: بعيدًا لا يتخيل الوصول إليه، كما لا يتخيل أحد أن يتناول نجمًا بيده من محله، "مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما لوقوع" أي: دخول الشبهة على الجهال" القاصرة عقولهم عن تمييز الحسن من القبيح، ولو قال: لإيقاع كان أَوْلَى؛ لأن الغرض منه فعله وتزويجه ما يقول: "فيما قلَّ عدد حروفه؛ لأن العجز إنما يقع في التأليف والاتصال،
حروفه؛ لأن العجز إنما يقع في التأليف والاتصال.
وممن رام ذلك من العرب بالتشبث بالسور القصار، مسيلمة الكذَّاب فقال: يا ضفدع نقي كم تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين. فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه هذا قال: إنه لكلام لم يخرج من إل.
قال ابن الأثير: أي من ربوبية، و"الإل" بالكسر هو الله تعالى. وقيل: الإل هو الأصل الجيد، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن.
ولما سمع مسيلمة الكذاب -لعنه الله- و"النازعات" قال: والزارعات زرعًا والحاصدات حصدًا والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والحافرات حفرًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر. إلى غير ذلك من الهذيان، مما ذكرت في الوفود من المقصد الثاني بعضه والله أعلم.
وممن رام ذلك من العرب بالتشبث: " التعلق "بالسور القصار: مسيلمة" بضم الميم، وكسر اللام، تصغير مسيلمة، ففتح لامه خطأ من بني حنيفة "الكذاب، فقال: يا ضفدع نقي كم تنقين،" أي: تصوتين "أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين، فلما سمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا" الكلام "قال: إنه لكلام لم يخرج من "إل" بكسر الهمزة، وتثقيل اللام.
"قال ابن الأثير" في النهاية: "أي: من ربوبية، والإلّ، بالكسر هو الله تعالى، وقيل: الإلّ هو الأصل الجيد، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن، ولما سمع مسيلمة الكذاب -لعنه الله- {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الآية. "قال: والزارعات" بذال معجمة من ذروت الشيء طيرته وأذهبته، "قمحًا، والطاحنات طحنًا، والحافرات حفرًا، والثاردات ثردًا" بمثلثة، "واللاقمات لقمًا، لقد فضلتم على أهل الوبر" بفتحتين، صوف الإبل والأرانب ونحوها، جمعه: أوبار، "وما سبقكم أهل المدر" بفتحتين: قطع الطين اليابس، أو العلك الذي لا رمل فيه، والمدن والحضر، كما في القاموس، "إلى غير ذلك من الهذيان،" التكلم بغير معقول، "مما ذكرت في الوفود من المقصد الثاني بعضه والله أعلم".
"وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين
وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين شراسيف وأحشى.
وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، ومشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل.
ففي هذا الكلام مع قلة حروفه من السخافة ما لا خفاء فيه على من لا يعلم، فضلًا عمَّن يعلم.
والثاني: إن إعجازه هو الوصف الذي صار به خارجًا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع،.....................................
شراسيف" بشين معجمة، وراء وسين مهملة، جمع شرسوف، كعصفور، غضروف معلق بكل ضلع أو مقسط الضلع، وهو الطرف المشرف على البطن، "وأحشى:" جمع حشى.
"وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل" -بمثلثة- طويل، يشبه الحبل في امتداده، "ومشفر،" بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الفاء، "طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل، ففي هذا الكلام مع قلة" وفي نسخة: قلت بالفاء، "حروفه من السخافة، قلة العمل، "ما لا خفاء فيه على من لا يعلم فضلًا عمَّن يعلم؛" إذ كل من سمعه يمجّه، ويعلم ضرورة هجنته ولكنته.
"و" الوجه "الثاني: إن إعجازه هو الوصف،" بالغ في العلة حتى جعلها محمولة على المبتدأ، كزيد عدل فلا يرد أن الوصف علة للإعجاز الذي هو تصبير الغير عاجزًا، لأجل الوصف الذي صار به خارجًا عن جنس كلام العرب" من حسن تأليفه، والتئام كلمة وفصاحته، ووجوه إيجازه من قصر وحذف جزء جملة مضاف، أو موصوف، أو صفة في نحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، أي: أهلها ومنادون ذلك، أي: رجال، و {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، أي: سفينة صالحة، وغير ذلك مما استدلَّ عليه من وجوه الإعجاز وبلاغته الخارقة عادة العرب في عجائب تراكيبهم وغرائب أساليبهم، وبدائع إنشاءاتهم، وروائع إشاراتهم الذين هم فرسان الكلام، ومن صورة نظمه العجيب، وأسلوبه الغريب، المخالف لأساليب العرب، ومناهج نظمها، ونثرها الذي جاء به القرآن، ووقفت عليه تقاطع آياته، أي: أواخر وقوفها، كالتامّ والكافي، وانتهت إليه فواصل كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له. انتهى ملخصًا من الشفاء.
"من النظم" بيان لكلام العرب، "والنثر" بمعنى المنظوم والمنثور، "والخطب والشعر والرجز" عطف أخص على أعمّ إذا الراجح أنه شعر، "والسجع" بمهملة: كلام له فواصل بمعنى المسجوع.
فلا يدخل في شيء منها، ولا يختلط بها، مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة في نثرهم ونظمهم، ولذلك تحيَّرت عقولهم، وتدلهت أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في حسن كلامهم، فلا ريب أنه في فصاحته قد قرع القلوب..........................
قال المجد: السجع: الكلام المقفَّى، أو موالاة الكلام على رويّ، جمعه أسجاع وسجوع وسجع كمنع، نطق بكلام له فواصل، وسجعت الحمامة: رددت صوتها.
وفي المصباح: إن تسمية مثل هذا سجعًا لتشبيهه بهدر الحمامة، والفرق بينه وبين الشعر أنه يعتبر فيه الوزن قصدًا بخلاف السجع، فلا يعتبر فيه الوزن هذا، ومغايرة الثاني للأول من حيث أنه لوحظ فيه جانب المعنى، ككون الكلام مطابقًا لمقتضى الحال من التأكيد وغيره، والثاني: لوحظ فيه جانب اللفظ المتعلق بكيفية التأليف من الحذف لبعض الأجزاء وغيره، بدليل قوله: من النظم........... إلخ، وبه يصرّح كلام القاضي المتقدم.
"فلا يدخل في شيء منها" حتى يتَّصف بشيء من الأوصاف التي بني عليها كلام العرب، بل هو أعلى منها وأغلى، وإن شاركها في أنه مؤلف من كلماتهم، ونزل على أساليب كلامهم، نظرًا لأصل اشتماله على تراكيب من نوع تراكيبهم، لكن تراكيب القرآن في أعلى طبقات الفصاحة، فلم يعد شيء منه داخلًا في جنس كلامهم، ولا يختلط" أي: يشتبه بها"، بحيث لو جمع شيء منه مع كلامهم تميز عنه تميزًا، لا يخفى على أحد، ومثل ذلك لا يكون من الخلط في شيء، "مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة" بالنصب عطفًا على محل ما قبله؛ لأنه خبر كون "في نثرهم ونظمهم، ولذلك تحيَّرت عقولهم" وقعت في الحيرة، فالعناد يمنعهم من الاعتراف أنه من عند الله، وظهور إعجازه في قولهم: مفترى وسحر ونحو ذلك، "وتدلهت،" -بفتح أوله، والمهملة واللام الثقيلة- دهشت وتحيِّرت في شأنه، "أحلامهم" عقولهم، فهو قريب مما قبله.
وفي نسخة: تولهت بواو، وبدل الدال من الوله، وهو الحيرة أيضًا، قال بعض: والأحسن تفسير التدله بذهاب العقل من الهوى، فيكون ترقى من خيرته إلى ذهابه، "ولم يهتدوا إلى مثله، "أي: ألم يقدروا على الإتيان بما يماثله أو يقرب منه، ولا سمعوه من فصائحهم، "في حسن كلامهم" الذي يقدرون عليه، ونفى به قواهم البشرية من نظر، أو نظم، أو رجز، أو شعر، "فلا ريب،" لا شكَّ في "أنه في فصاحته قد قرع القلوب" أثَّر فيها، إذا ورد عليها أثرًا، كتأثير من
ببديع نظمه، وفي بلاغته قد أصاب المعاني بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقي إلّا تهافت تهافت الفراش في الشهاب، ودلَّ ذل النقد حول الليوث الغضاب.
وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكي عن يحيى بن حكيم الغزل -بتخفيف الزاي وقد تشدد، وكان بليغ الأندلس في زمانه........
قرع الباب "ببديع نظمه" أي: بسبب تأليفه البديع، فهو من إضافة الصفة للموصوف، "و" ريب أنه "في بلاغته قد أصاب المعاني" أدركها؛ بحيث أخذ منها أوفرها وأعذبها، "بصائب سهمه" من إضافة الصفة للموصوف أيضًا، فإن قيل: الباء سببية أو آلية، وذلك يقتضي مغايرة السبب والآلة للمسبب، وللمجعول له الآلة والقرآن واحد، فالجواب: إنه يجعل صائب السهم وصفًا زائدًا على بلاغته، ولفظه:"فإنه حجة الله" برهانه "الواضحة ومحجته" -بفتح الميم- طريقه "اللائحة" الظاهرة، "ودليله القاهر" الغالب، فإن الدليل إذا قوي وظهر قهر الخصم وقطعه، "وبرهانه الباهر" الغالب الظاهر، ما رام قصد معارضته شقي إلّا تهافت، تساقط وذلَّ وانخفض عن نوع العقلاء، حتى كأنه رمى نفسه في المهالك، كما أفاده بقوله:"تهافت الفراش" -بالفتح- جمع فراشة، طائر معروف يتساقط في الشهاب، ككتاب شعلة من نار ساطعة، "ودلَّ، ذلَّ النقد" -بفتح النون والقاف، والذال المهملة- نوع من الغنم قبيح الشكل، "حول الليوث" جمع ليث الأسود، "الغضاب" جمع غضبان، كعطاش وعطشان.
"وقد حكي عن غير واحد ممن عارضه" أي: قصد معارضته بكلام يماثله، "أنه اعترته:" حدثت له وأصابته "روعة" -بفتح الراء وسكون الواو: فزعة، "وهيبة" أي: مخافة "كفته" منعته "عن ذلك" الذي أراده من المعارضة، "كما حكى عن يحيى بن حكيم" بزنة طبيب، قال في التبصير: شاعر أندلسي بديع القول، مات سنة خمس وخمسين ومائتين في عشر المائة، انتهى. وسمي في الشفاء والده الحكم بفتحتين، "الغزال، تخفيف الزاي" كما جزم به الذهبي في المشتبه، والحافظ في تبصيره: علم منقول من اسم الحيوان، لقَّبه به هشام بن الحكم الجياني في صغره لحسنه، "وقد تشدَّد" فهو وصف منسوب لصنعة الغزال، "وكان بليغ الأندلس" -بفتح الهمزة، وضم الدال، وفتحها، وضم اللام فقط- "في زمانه" أي: معروفًا بالبلاغة وفصاحة النظم والنثر في عصره، وهو بكري قرطبي الدار، وله شعر في غاية الحسن، وارتحل إلى مصر، ثم عاد للأندلس، ويقال: إنه بلغ من العمر مائة وثلاثين سنة، وأرسل رسولًا لبلاد الفرنج، فأعجب ملكها ونادمه، وسألته زوجته عن سنِّه، فقال: عشرين، فقالت: فما هذا الشيب؟ فقال: أمَا رأيت
أنه قد رام شيئًا من هذا، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج على منوالها، فاعترته خشية ورِقَّة، حملته على التوبة والإنابة.
ويحكى أن ابن المقفع -وكان أفصح أهل وقته- طلب ذلك ورامه، ونظم كلامًا وجعله مفصلًا وسماه سورًا، فاجتاز يومًا بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ..........} [هود: 44] الآية فرجع ومحى ما عمله....................
مهرًا ولد أشهب، فضحكت، "أنه قد رام" قصد "شيئًا من هذا" أي: معارضة القرآن "فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها" من حدوته بمهملة ومعجمة، إذا قمت بحذائه، أي: مقابله، فالمعنى: ليقول مثلها بزعمه، "وينسج" بكسر السين "على منوالها، بكسر الميم: خشبة ينسج عليها الثياب، وهو بمعنى ما قبله "فاعترته" أي: عرض له في حال النظر "خشية" خوف أو ضعف ولين "حملته على التوبة" عمَّا كان راحه والنوم عليه، "والإنابة" الرجوع عنه لعلَّة أنه أمر وتعظيم "ورقة" في قلبه وخشوع لا يقدر عليه البشر.
"ويحكى أن ابن المقفع" بضم الميم، وفتح القاف، والفاء المشددة قبل العين المهملة، كما ضبطه في المقتفي، وفي القاموس، رجل مقفَّع اليدين، كعظم متشنجهما، وموان بن المقفع تابعي، وأبو محمد عبد الله بن المقفع، فصيح بليغ، كان اسمه روزيه أو داذية بن داذ جشنش قبل إسلامه، وكنيته أبو عمرو، لقِّب أبوه بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده، وتقفع تقبض، انتهى.
وقال ابن مكي في تثقيف اللسان: الصواب فيه المقفع -بكسر الفاء؛ لأنه كان يعمل القفاع: جمع قفعة وهي شيء يشبه الزنبيل بلا عروة من خصوص، ويقال: إنه كاتب المنصور، قتله سفيان المهلبي لما ولي البصرة، وحضره أهلها، وفيهم ابن المقفع، فذكر عنده الوطيس، فلم يعرفه، وسأل الحاضرين عنه، فضحك ابن المقفع، فلمَّا انصرفوا أمر ابن المقفع بالجلوس حتى خلا المجلس، فأمر بتنور عظيم، فأسجر، وأمر بطرحه فيها، فاحترق، وكان من جملة قوم زنادقة يجتمعون على الطعن في القرآن، وصياغة هذيان يعارضون بها، "وكان أفصح أهل وقته" زمانه وعصره الموجود فيه، "طلب ذلك ورامه، ونظم كلامًا، وجعله مفصلًا وسماه سورًا، فاجتاز يومًا بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الآية. الذي نبع منك، فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارًا وبحارًا {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} الآية، أمسكي عن المطر، فأمسكت {وَغِيضَ} نقص {الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} "الآية" ثم هلاك قوم نوح، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، الجودي، جبل بالجزيرة بقرب الموصل، "فرجع ومحا" جميع ما عمله" أي: غسله، وأبطل ما في صحفه لما رآها لا مناسبة بينها وبين شيء
وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدًا، وما هو من كلام البشر.
ولله در العارف سيدي محمد وفا حيث قال، يعني النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن المعظم:
له آية الفرقان في عين جمعه
…
جوامع آيات بها اتضح الرشد
حديث نزيه عن حدوث منزه
…
قديم صفات الذات ليس له ضد
بلاغ بليغ للبلاغة معجز
…
له معجزات لا يعد لها عد
من الكتاب العزيز، "وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدًا، وما هو من كلام البشر" لظهور إعجازه؛ إذ في هذه الآية من البلاغة المعجزة، مع الإيجاز أنه ناداهما كما ينادى العقلاء، وأمرهما بما به يؤمرون، تمثيلًا لباهر قدرته وعظمته، لانقيادهما لما أراد، كالمأمور المطيع، المبادر للامتثال حذرًا من سطوة أمره، والبلع استعارة للجفاف، والإقلاع للإمساك، وفيها لطائف آخر مبينة في علوم البلاغة.
"ولله در العارف سيدي محمد وفا؛ حيث قال: يعني" يريد بما قاله "النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم، له آية الفرقان " بإضافة البيان، أي: آية هي القرآن، وفي نسخة الفرقان، "في عين جمعه" يطلق الجمع عندهم على معانٍ، منها: الاشتغال بشهود الله عمَّا سواه، بحيث يجتمع الهمّ، ويتفرغ الخاطر إلى حضرة قدسه تعالى، وعلى شهود ما سوى الله قائمًا بالله، وعلى غير ذلك مما هو معلوم لأهله، "جوامع آيات" خبر محذوف من إضافة الصفة للموصوف، أي: هو آيات جوامع، "بها اتضح الرشد،" هو "حديث" أي: محدث الألفاظ؛ كقوله: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، نزيه" منَزَّه "عن حدوث" إذ العاني القائمة بالذات قديمة، فأشار إلى أن القرآن يطلق بالاشتراك على المعنيين، "منَزَّه" عن كل ما لا كمال فيه، يعني أن القرآن مع كونه ألفاظًا مؤلَّفة متَّصف بغاية الكمال، منَزَّه عن سائر صفات النقص، "قديم" خبر ثان للمبتدأ المقدَّر، ووصفه بالقدم؛ لأنه كلامه تعالى النفسي، القائم بذاته تعالى، "صفات" أي: وهو من صفات "الذات ليس له ضد" أمر وجودي يضاده؛ لأن الضدين تناسبًا ما وصفاته تعالى وكمالًا؛ لأنه ليس لها في الوجود ما يناسبها حتى يحكم بالتضاد بينهما، "بلاغ" كسحاب، أي: فيه الكفاية عن جميع الكتب السابقة لجمعه معانيها، وزيادة أو هو اسم من الإبلاغ، أي: الإيصال، أي: إنه واصل لنا بالتواتر.
قال الجوهري: الإبلاغ الإيصال، وكذلك التبليغ والاسم منه البلاغ، والبلاغ أيضًا الكفاية، ومنه قول الراجز:
تحلت بروح الوحي حلة نسجه
…
عقود اعتقاد لا يحل لها عقد
وغاية أرباب البلاغة عجزهم
…
لديه وإن كانوا هم الألسن اللد
فأفاكهم بالإفك أعياه غيه
…
تصدى وللأسماع عن غيه صد
قلى الله أقوالًا بهاجر هجرها
…
هوانًا بها الورهاء والبهم البلد
تلاها قتل الفحش في القبح وجهها
…
وعن ريبها الألباب نزهها الزهد
لقد فرَّق الفرقان شمل فريقه
…
بجمع رسول الله واستعلن الرشد
أتى بالهدى صلى عليه إلهه
…
ولم يله بالأهواء إذ جاءه الجد
نزج من دنياك بالبلاغ
"بليغ" في أعلى الطبقات، "للبلاغة" قال الجوهري: البلاغة الفصاحة، معجز" أصحاب البلاغة، "له معجزات لا يعدّ لها عد، لعدم إمكان عدها؛ إذ لا تحصر، تحلت" بحاء مهملة، "بروح الوحي حلة نسجه" فاعل تحلّت ومفعوله، عقود، اعتقاد لا يحل لها عقد" لعدم إمكانه؛ إذ هو تنزيل من حكيم حميد، وغاية أرباب البلاغة عجزهم لديه" عنده، "وإن كانوا هم الألسن اللد،" القوية، البالغة في الفصاحة: جمع ألدّ من لَدَّ من باب تعب: اشتدت خصومته، فأفَّاكهم" كذَّابهم "بالإفك" أسوأ الكذب، "أعياه غيه:" ضلاله، حيث تصدى: تعرض لمعارضته.
قال في القاموس: والتصدد: التعرض وتبدل الدال ياء، فيقال: التصدي والتصدية، وللإسماع عن غيه صدَّ" إعراض لفرط نفارها منه، "قلى" أبغض "الله أقوالًا بهاجر" يترك هجرها -بالضم- فحشها وقبحها المشتملة عليه، "هوانًا بها الورهاء" الحمقاء، "والبهم،" بفتحتين جمع بهمه: أولاد الضأن والبقر والمعز، "البلد" جمع بليد، "تلاها فتل،" بفوقية، ألقى "الفحش" المشتملة عليه تلك الهذيانات "في القبح" متعلق بقوله:"وجهها" ما ظهر منها مفعول الفحش، "وعن ريبها كذبتها؛ إذ هو أحد معانيه في القاموس، "الألباب" العقول، "نزهها الزهد، عدم الرغبة فيها عند سماعها واحتقارها، لخروجها عن باب الفصاحة مطلقًا فضلًا عن فصاحة القرآن، "لقد فرَّق الفرقان" القرآن فرقه بين الحق والباطل، "شمل فريقه" أي: أصحاب هاتيك الأقوال الموصوفة بما ذكر، ويحتمل أن فرق، بمعنى ميّزَ، وضمير فريقه للقرآن، أي: مَيِّزَ شمل فريقه القائمين به عن غيرهم، "بجمع رسول الله، واستعلن الرشد" اتضح وضوحًا لا يخفى على أحد، وفيه تلميح بمقام الجمع والفرق عندهم، "أتى بالهدى" البيِّن، فلا يضرنا انتحال المبطلين، "صلى عليه إلهه ولم يله بالاهواء؛ إذ جاءه الجد"، بالكسر ضد الهزل، كما قال:{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} ، ويطلق الجد أيضًا على الاجتهاد ويصح إرادته هنا.
والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة، ولا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به في الخلوات،.....................
"والثالث: إن وجه إعجازه" فيما قاله جماعة من الأئمة، كما في الشفاء، "هو أن قارئه لا يمله" لا يضجر ولا يسأم منه، ولو أعاده مرارًا، مع أن الطباع جبلت على معاداة المعادات، "وسامعه لا يمجه" بضم الميم: لا يعرض عنه ولا يكره تكراره على سمعه، فحقيقة المج: طرح المائع من الفم، فإن كان غير مائع، قيل: لفَظ، وعبَّر في الأول بالملل تشبيهًا للقارئ بصانع يتعاطى الصناعة، والغالب حصول الملل، وفي الثاني بالمج تشبيهًا للسامع بواضع المائع في فمه، وتشبيه المسموعات بالمذوقات استعارة لطيفة؛ إذ أقام الإذن مقام الفم، واللفظ مقام المائع لرقته، كما قيل:
وتغير المعتاد يحسن بعضه
…
للورد خد بالأنوف يقبل
فاستعير لتركه، فكأنه كالنفس لا يمل منه مع تكرره؛ لأنه مادة الحياة. كم قيل:
ورى حديثك ما أمللت مستمعًا
…
ومن يمل من الأنفاس ترديدًا
"بل الإكباب" الملازمة "على تلاوته يزيده حلاوة" ترقى من عدم الملل إلى زيادة الحلاوة، وأصاب المحزلان ما يمجّ مرّ أو مالح، يكره طبعًا، والحلاوة في المذوقات، وهي أجسام، حلاوة الكلام مجاز، ومعناه تميل القلوب إليه وتقبله، فيصير بذلك كالحلو المستلذ من المذوقات، "وترديده" إعادته وتكريره مرة بعد أخرى، "يوجب له محبة" لزيادة حلاوته وحسنه، "وطلاوة:" حسنًا وبهجة وقبولًا، مثلث الطاء، كما مَرَّ قريبًا، "ولا يزال" كلما كرر "غضًّا" بمعجمتين، أي: جديجًا مجاز من غض الصوت والطرف، "طريًّا" أي: رطبًا ناعمًا، فلا تتغير بهجته ونضارته، فكأنه في كل مرة قريب العهد بالنزول، وقال التلمساني: عمَّا بمعنى ولا يبعد أن معنى غضًّا، رطبًا وطريًّا ناعمًا، فكأنه قال: لا يزال طريًّا ناعمًا غير يابس، وذلك كناية عن حلاوة ما يجده الإنسان من النشاط عند تلاوته، فأشبه النبت الذي تميل النفس إليه وتلتذّ به، "وغيره من الكلام، ولو" فرض أنه "بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه" أي: غايته في حسنه، "يمل" بالبناء للمجهول، أي: يملّه قارئه وسامعه "مع الترديد" أي: التكرير مرارًا، "ويعادى إذا أعيد" أي: يكره ويثقل، وتنفر منه النفس، كنفرتها ممن يعاديها، وهذا على فرض المحال لما مر أنه لا يوجد مثله، ولا ما يقرب منه، كذا قال شارح بناء على عود، ضمير مبلغه للقرآن، فلو أعيد للكلام لم يحج لذلك، وكتابنا" معاشر الأمة المحمدية، النازل إلينا بواسطة نبينا صلى الله عليه وسلم "يستلذ به في الخلوات" أي: يجد قارئه لذة إذا اختلى بقراءته،
ويؤنس بوجد بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث وألف أصحابها لها لحونًا وطرقًا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف صلى الله عليه وسلم القرآن................................................
وخَصَّ الخلوة لأنها محل اجتماع الحواس واطمئنان القلوب بذكر الله، فهو فيها أعظم لذة، وإن كان له لذة أيضًا بقراءته بين الناس، "ويؤنس" بضم الياء وإسكان الهمزة، وفتح النون مبني للمجهول، أي:"يوجد بتلاوته" أنس، يدفع الوحشة "في الأزمات" بفتح الهمزة، وسكون الزاي: جمع أزمة، وهي الشدة، وقياس ما كان من الصفات على فعله -بفتح، فسكون- أن يجمع على فعلات، بسكون العين نحو ضخمات، ويفتح في الاسم كسجدات وركعات، هذا إن كانت سالمة، فإن اعتلت عينها بالواو والياء، فالسكون على الأشهر، كما في المصباح كغيره، فانقلب على من قال: تسكن في الأسماء، وتحرك في الصفات، "وسواه" بضم السين وكسرها، مقصور على الرواية، أي: غيره وتفنن، فعبَّر أولًا بغير، وهنا بسوى، بمعناها "من الكتب" المنزَّلة قبله، كذا استظهر بعض "لا يوجد فيها ذلك" المذكور من اللذة والأنس "حتى أحدث" وألف أصحابها من يقرؤها لها" للكتب، "لحونًا" جمع لحن واحد، ألحان الأغاني والنغمات التي تزين بها الأصوات، وتوزن بضروب الموسيقى، والمراد هنا: ترجيع الأصوات للتطريب، تحسينًا للقراءة والشعر، "وطرقًا" جمع طريق، وهي: ما يجري على قانون الموسيقى ضروبها الموزونة، كذا في النسيم.
وقال شيخنا: وطرقًا عطف تفسير، والمراد: إن غير القرآن يخترعون له أسبابًا تحمل الناس على الرغبة فيه والإقبال عليه، فالمصنفون للكتب يذكرون فيها اصطلاحات وأشياء تميزها عن غيرها، مما هو مؤلف في فنها، ليحملوا الناس على قراءتها "يستجلبون" أي: يطلبون وجودها، أو يجلبون لهم ولمن يسمعهم "بتلك اللحون" والنغمات "تنشيطهم" أي: وجود نشاطهم وطربهم "على قراءتها"، أي: على تطويل قراءتها وزيادتها، أو على أن يقرأها غيرهم، كقراءتهم إن أريد باللحون تغني القارئ نفسه، ويحتمل أن يريد بما أحدثوه ما يكون مع القارئ من آلات الطرب كالمزامير، كذا قال شارح "ولهذا" أي: ما اختص به القرآن من عدم ملل قارئه، وما بعده "وصفه صلى الله عليه وسلم القرآن" في حديث رواه الترمذي عن على: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة" قيل: فما المخرج؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن؛ إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرءانًا عجبًا، يهدي إلى
بأنه: "لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا:......
الرشد، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعى إليه هدى إلى صراط مستقيم". هذا لفظه في الترمذي، فاقتصر المصنف على حاجته منه، وقدَّم فيه وأخَّر، فقال بأنه: "لا يخلق" بفتح الياء، وضمَّ اللام وتفتتح، أي: لا يبلى ويتغير حاله، وبضم أوله، وكسر اللام من أخلق بمعنى خلق؛ لأنه جاء متعديًا ولازمًا، فلامه مثلثة بمعنى واحد، "على" بمعنى مع "كثرة الرد" بمعنى الترديد، أي: كثرة تكرار قراءته، والعادة أنها تؤثر وتفني ما كرر؛ كالثوب إذا كرر لبسه، ففيه استعارة مكنية وتخييلية، لتشبيهه بثوب رقيق، يلبس ليتجمل به، والمراد: أمَّا الملل منه، فهو دليل ما قدمه، أن قارئه لا يمله، وأما التصرف فيه بنحو تحريف، "ولا تنقضي عبره" بكسر المهملة، وفتح الموحدة، جمع عبرة بسكونها، أي: موعظة التي يعتبر بها، الحاملة على كمال الإيمان، الصارفة عن العصيان، عبارة عن كثرتها وبقائها، "ولا تفنى عجائبه" أي: لكثرتها لا تنفد، وتنتهي، جمع عجيبة، وهي كل ما يتعجب منه، فكلما أعيد النظر فيها ظهر ما هو أغرب وأعجب من الأول، "هو الفصل" أي: الحد الفاصل بين الحق والباطل، أو المفصول المتميز عن غيره، فعل، بمعنى فاعل أو مفعول، "ليس بالهزل" اللعب، أي: لا لعب فيه ولا كلام سخيف، وهو في الأصل من الهزل ضد السمن، فهو كله سمين لا غثّ فيه، لما فيه من الأوامر والنواهي التي يهابها سامعها، "لا تشبع منه العلماء" أي: لا تستغنى عنه، ولا تزال تستنبط منه معاني وفوائد في كل حين، وفي الحديث: "منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا" فشبهه بمأكول بأقوام الحياة، إلّا أن كل مأكول يشبع آكله إذا امتلأ جوفه منه، وهذا بخلاف ذلك، موائد فوائده ممدودة، وألوان لذائذه غير مقطوعة ولا ممنوعة، "ولا تزيغ"، بفتح الفوقية، وكسر الزاي، وتحتية معجمة، تميل "به الأهواء" بالمد: جمع هوى، وهو ما تهواه وتشتهيه الأنفس من الضلال، أي: لا يصل من اتبعه، ويميل إلى هوى نفسه الأمَّارة، "ولا تلتبس به الألسنة" جمع لسان: وهو الجارحة، شاع في اللغات، فالمعنى لا يشبه غيره من الكلام، فلا يمكن اختلاطه به وإدخاله فيه؛ لأن أسلوبه ونظمه لا يشبه غيره، فالمراد: أنه لا يمكن أن يدس فيه دسيسة، "هو الذي لم تنته" لم تنكف وتترك "الجن حين سمعته أن قالوا" بفتح الهمزة، ومحله نصب أو جر، بتقدير عن {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} الآية، في بلاغته، وعلوّ رتبته، وبركته وعزته {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} الآية، يدل على الصواب من الإيمان والتوحيد، وهو تبكيت لقريش؛ إذ مكثوا سنين مع فصاحتهم لم يهتدوا، والجن بمجرد سماعه آمنوا بلا توقف، وتقدمت
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} " أشار إليه القاضي عياض.
والرابع: إن وجه إعجازه هو ما فيه من الأخبار بما كان، مما علموه وما لم يعلموه، فإذا سألوه عنه فبينه لهم عرفوا صحته وتحققوا صدقه كالذي حكاه من قصة أهل الكهف وشأن موسى...............
قصتهم في المقصد الأول، "أشار إليه" بمعنى: ذكره بلفظه "القاضي عياض" في الشفاء، من أول قوله: هو أن قارئه إلى هنا.
"والرابع: إن وجه إعجازه هو ما فيه من الأخبار بما كان" وجد، كأخبار القرون الماضي والأمم الهالكة، والشرائع الدائرة، "مما علموه، وفي الشفاء مما كان لا يعلم القصة الواحدة منه إلا الفذ من الأحبار، الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، فيعترف العالم بذلك بصدقه، وإن مثله لم ينله بتعليم، "وما لم يعلموه، فإذا سألوا" بالبناء للفاعل "عنه" عمَّا لم يعلموه، "فبينه لهم، عرفوا صحته" لموافقته لما بلغهم إجمالًا، "وتحققوا صدقه"، وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه صلى الله عليه وسلم عن هذا فينزل عليه ما يتلو عليهم منه ذكرًا، "كالذي حكاه من قصة أهل الكهف،" الغار الواسع في الجبل، واختلف في أنه بعربسوس في بلاد الروم، وكما تظافرت به الأخبار، أو قرب أيلة، أو طرسوس، أو غرناطة، أو قرب زيرا، أو بين أيلة وفلسطين، سألته اليهود عنها لما قدم المدينة، كما في الصحيح، عن ابن مسعود.
وفي الترمذي: وغيره، عن ابن عباس، قالت قريش ليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، وملخصها: أنهم كانوا في مملكة جبار، يعبد الأوثان، فخرجوا، فجمعهم الله على غير ميعاد، فأخذ بعضهم على بعض العهود، ففقدهم أهلهم، فأخبروا الملك، فأمروا بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزانته، ودخل الفتية الكهف، فضرب الله على آذانهم يقلبون لأكلتهم الأرض، ثم ذهب ذلك الملك، وجاء آخر فكسَّر الأوثان، وعبد الله وعدل، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يأتيهم بما يأكلون، فدخل المدينة مستخفيًا، فدفع درهمًا لخباز، فاستنكر ضربه، وهمَّ برفعه إلى الملك، فقال: أتخوفني بالملك وإني دهقانه؟ قال: من أبوك؟ قال: فلان، فلم يعرفه، فرفعوه إلى الملك، فسأله، فقال: علي باللوح، وكان قد سمع به، فسمَّى أصحابه، فعرفهم من اللوح، فكثر الناس وانطلقوا إلى الكهف، وسبق الفتى لئلَّا يخافوا من الجيش، فلمَّا دخل عليهم عمَّى الله على الملك ومن معه، فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفقوا على أن يبنوا عليهم مسجدًا، فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون.
"وشأن موسى" بن عمران كليم الله لا موسى غيره، كما زعم أهل الكتاب وبعض من
والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين،.........................................
تلقى عنهم، وفي البخاري عن ابن عباس: تكذيب قائل ذلك. "والخضر عليهما السلام" بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وبسكون ثانية، مع فتح أوله وكسره- لقب، واسمه بليا بن ملكان، على أصح الأقوال، وهو بفتح الموحدة، وسكون اللام، وتحتية، فألف وأبوه، بفتح الميم وسكون اللام وفي الصحيح مرفوعًا:"إنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة، فإذا هي تهتز من تحته خضراء" والفروة: الأرض اليابسة.
وقال الخطابي: الفروة وجه الأرض، أنبتت واخضرت بعد أن كانت جرداء، وهو نبي عند الجمهور.
قال القرطبي: والآية تشهد بذلك؛ لأن النبي لا يتعلم ممن هو دونه؛ ولأن الحكم بالباطن إنما يطلع عليه الأنبياء، ثم اختلفوا: هل هو رسول أم لا؟ وقيل: إنه وليّ.
قال الثعلبي: وهو معمّر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار، وقيل: لا يموت إلا في آخر الزمان، حين يرفع القرآن، وقال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء والعامة معهم، وشذَّ بإنكاره بعض المحدثين.
قال النووي: وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به أكثر من أن تحصر، وجزم البخاري وإبراهيم الحربي، وابن العربي وطائفة بموته، وأنه غير موجود الآن، للحديث المشهور، أنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر حياته:"لا يبقى على الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد".
قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه، وأجاب من أثبت حياته: بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث، كما خصّ منه إبليس باتفاق، وجاء في اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف، رواه ابن عدي، وبسط الكلام عليه في الإصابة والفتح وغيرهما.
"وحال ذي القرنين" الأكبر، الحميري، المختلف في نبوته، والأكثر، وصحَّح أنه كان من الملوك الصالحين، وذكر الأزرقي وغيره: أنه حج وطاف مع إبراهيم وآمن به واتبعه، وكان الخضر وزيره، وعن علي: لا نبيًّا كان ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا.
وحكى الثعلبي: أنه كان من الملائكة، وقيل: أمه من بنات آدم، وأبوه من الملائكة، لقب بذي القرنين، واسمه الصعب على الراجح، كما في الفتح، أو هرمس، أو هرديس، أو عبد الله. وفي اسم أبيه أيضًا خلف لطوافه قرني الدنيا، شرقها وغربها، أو لانقراض قرنين من الناس في أيامه، أو لأنه كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا، أو لأن لتاجه قرنين أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو لكرم طرفيه أمًا وأبًا، أو لغير ذلك أقوال.
وقصص الأنبياء وأممهم، والقرون الماضية في دهرها.
والخامس: إن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يملكون، فيوجد على صدقه وصحته،..............................................
وفي مرآة الزمان: إن ذا القرنين مات ببابل، وجعل في تابوت، وطلي بالصبر والكافور، وحمل إلى الإسكندرية، فخرجت أمه في نساء الاسكندرية حتى وقفت على تابوته، وأمرت به فدفن، قيل: عاش ألف سنة، وقيل: ألفًا وستمائة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة. انتهى.
وأما ذو القرنين الأصغر، فهو الإسكندري اليوناني، قتل دارًا، وسلبه ملكه، وتزوج بنته، واجتمع له الروم وفارس، فلقب بذي القرنين.
قال السهيلي: ويحتمل أنه لُقِّبَ به تشبيهًا بالأول، لملكه ما بين المشرق والمغرب، فيما قيل أيضًا، واستظهره الحافظ، وضعَّف قول أن زعم أن الثاني هو المذكور في القرآن، كما أشار إليه البخاري بذكره قبل إبراهيم؛ لأن الإسكندر كان قريبًا من زمن عيسى، وبَيْنَه وبين إبراهيم أكثر من ألفي سنة، والحق أن الذي في القرآن هو المتقدّم؛ لأنه آمن بإبراهيم، وصافحه وسلم عليه وسأله أن يدعو له، وتحاكم إليه إبراهيم في بئر، فحكم له، واستفهمه عن بناء الكعبة حين كان يبنيها هو وإسماعيل، فقالا: نحن عبدان مأموران فقال: من يشهد لكما، فشهدت خمسة أكبش، فقال: صدقتما، كما ورد في آثار يشد بعضها بعضًا؛ ولأن الرازي جزم أن ذا القرنين نبي، والإسكندر كافر؛ ولأنه من اليونان، وذو القرنين من العرب، وقد قدمت ذلك بأبسط من هذا في المقصد الأول.
"وقصص" بالفتح مصدر وبالكسر جمع قصة، أي: سير "الأنبياء وأممهم" مفصلًا بأبلغ عبارة وألطف إشارة، "والقرون الماضية في دهرها" وشبه ذلك من بد الخلق، وما في التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، ومما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيبه، بل أذعنوا له، فمن وفق آمن، ومن شقي معاند حاسد، ومع هذا لم يقدر واحد من النصارى واليهود، مع شدة عدواتهم للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبه في شيء بما في كتبهم، كما بسطه في الشفاء.
"والخامس: إن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب"، وهو شامل لما سبق مما لم يدركه هو ولا أهل عصره، وما يقع بعد ذلك مما لا يعلمه إلّا الله، كما قال:"والإخبار بما يكون فيوجد، أي: يقع بعد ذلك، دالًّا "على صدقه" لمطابقته لما أخبر به، "وصحته" كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} ، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} الآية، إلى آخرها، فوجد جميع هذا، كما قال في آيات
مثل قوله تعالى لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94، 95] فما تمناه أحد منهم.
ومثل لقوله لقريش: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:
كثيرة بَيَّنَها عياض "مثل قوله تعالى لليهود" لما ادعوا دعاوي باطلة، كقولهم:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ} ، فكذبهم وألزمهم الحجة، فقال مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ} الآية، لهم {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الآية. الجنة {عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} خاصَّة {مِنْ دُونِ النَّاسِ} الآية، كما زعمتم، أي: من باقيهم من المؤمنين غيرهم، {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية، في زعمكم أن الجنة مخصوصة بكم؛ لأن من تيقن دخولها اشتقاق لها، وأحب التخلص من الدنيا وأكدارها، وتعلق بتمني الموت، الشرطان على أن الأوّل قيد في الثاني، أي: إن صدقتم في زعمكم أنها لكم ومن كانت له يؤثرها، والموصل إليها الموت فتمنوه، "ثم قال" تلو الآية، والأولى إسقاطه {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} "الآية" من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم، وتحريفهم التوراة، فنفى عنهم التمني في جميع الأزمنة المستقبلة بقوله: لن وأبدًا، "فما تمنَّاه أحد منهم، فهو أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحة الرسالة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غُصّ بريقة" يعني: يموت مكانه، فصرفهم الله عن تمنيه ليظهر صدق رسوله، وصحة ما أوحي إليه، ذكره عياض.
وفي الكشاف: فإن قلت: التمني من أعمال القلوب، وهو سر لا يطَّلع عليه أحد، فمن أين علم أنهم لن يتمنوه؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، وإنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، وليت كلمة تمنّ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب، ولو كان بالقلوب، لقالوا: قد تمنيناه بقلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوه.
قال القطي في حواشيه: استدلَّ على أن التمني ليس من أفعال القلوب؛ لأن التحدي إنما يكون بأمر ظاهر، وفيه: إن التحدي إنما يكون بإظهار المعجز، لإلزام من لم يقبل الدعوى، والتمني ليس بمعجز، فهو كقول الخصم: احلف لي إن كنت صادقًا، ويمكن أن يقال: التحدي هنا لطلب دفع المعجزة، فإن إخباره بأنهم لن يتمنوه أبدًا معجزة، طلب دفعها بتمنيهم، والدفع إنما يكون بأمر ظاهر.
"ومثل لقوله لقريش"{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا. وتعقَّب بأن الغيوب التي اشتمل عليها القرآن بعضها وقع في زمنه صلى الله عليه وسلم، كقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] وبعضها بعده كقوله: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2] فلو كما قالوا لنازعوا وقع المتوقع، وبأن الإخبار عن الغيب جاء في بعض سور القرآن، واكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة، فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها.
النَّارَ} الآية، "فقطع بأنهم لا يفعلون" بإثبات النون على الصواب؛ لأن المراد الإخبار لا النهي، وفي نسخة بحذفها على الحكاية "فلم يفعلوا"، وهذه الآية أبلغ في الإعجاز من التي قبلها؛ لأنه أمر معجز في نفسه في سائر الأزمنة، وإن كان الخطاب لقريش بخلاف التي قبلها، فإعجازه إنما هو بمجرد الإخبار عن عدم وقوعه منهم، وإن كان قول الإنسان: ليتني أموت ونحوه ممكنًا لهم ولغيرهم، ولذا فرق بينهما عياض، وإن ساوى بينهما المصنف تبعًا للكشاف.
"وتعقَّب" عدّ الخامس وجهًا للإعجاز، "بأن الغيوب التي اشتمل عليها القرآن بعضها وقع في زمنه صلى الله عليه وسلم، كقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية، هو فتح مكة، ونزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها، وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه، وفيه من الفخامة والدلالة لى علوِّ شأن المخبر به ما لا يخفى.
وقال جماعة: المراد فتح الحديبية ووقوع الصلح، فالفتح لغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقًا حتى فتح الله، وعلى هذا القول ليست الآية من الإخبار بالغيب المستقبل، "وبعضها بعده، كقوله: "{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} على قراءة غلبت بالفتح، وسيغلبون بالضم، أي: إن الروم غلبت على الشام، وسيغلبهم المسلمون عليها وينزعونها منهم، فكان ذلك بعده صلى الله عليه وسلم، فأمَّا على القراءة المشهورة بضم الغين، وسيغلبون بفتحها، فوقع ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، كما هو مبيَّن في التفاسير والأخبار بما في جلبه طول، "فلو كان كما قالوا" أي: الذين عدوا وجه إعجازه الإخبار بما يكون، "لنازعوا" أي: الكفار، أي: لخاصموا وطلبوا "وقع المتوقع، "أي: حصول الأمور المتأخر حصولها عن زمن المصطفى، مع أنهم لم يطلبوا ذلك، "وبأن الإخبار عن الغيب جاء في بعض سور القرآن" لا في كلها، فلو كان معجز الطلب منهم أن يأتوا بما يشتمل على الإخبار بالغيب ليصلح معارضة، "و" الحال أنه لم يطلب ذلك، بل "اكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة" بل أيّ سورة، "فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها" ولم يقع ذلك، فلا يصح جعل إخباره بالغيوب وجه إعجازه.
السادس: إن وجه إعجازه هو كونه جامعًا لعلوم كثيرة، لم تتعاط العرب الكلام فيها، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب، بَيِّنَ الله فيه خبر الأولين والآخرين وحكم المتخلفين وثواب المطيعين وعقاب العاصين.
فهذه ستة أوجه يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا، فإذا جمعها القرآن فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها. وقد قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] فلم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن.....
"والسادس: إن وجه إعجازه هو كونه جامعًا لعلوم كثيرة" كبيان علوم الشرائع، والتنبيه على الحجج والعقليات، والرد على الفرق الضالة ببراهين قوية بينة، سهلة الألفاظ، موجزة، كقوله:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] الآية. إلى ما حواه من علوم السير والحكم وأخبار الآخرة ومحاسن الآداب، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ومنها علم النجوم، لقوله تعالى:{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] .
والطب: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] الآية. والمعارف الجزئية، والمعارف الجزئية، كقصة يوسف؛ إذ لا يعرفها إلّا من شاهدها، وغير ذلك.
"لم تتعاط العرب الكلام فيها" عامَّة، زاد القاضي: ولا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته، "ولا يحيط بها من علماء الأمم" السالفة، كالحكماء والأحبار، "واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب" من كتبهم، أي: لم يدوّن قبله، حتى يقال: أخذ علمه منها، {بَيِّنَ الله فيه} أي: القرآن "خبر الأولين، والآخرين وحكم المتخلفين" عن أمره ونهيه، والذين تخلفوا عن الجهاد مع نبيه، أو عن الإيمان، وتعللوا بعلل باطلة، فبيِّن لهم بطلان عللهم، وفضحهم بإظهاره، "وثواب المطيعين وعقاب العاصين، فهذه ستة أوجه يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا، لا أن الإعجاز إنما حصل بجملتها، بل كل واحد حصل به إعجازهم عن معارضته، "فإذا" فحيث جمعها القرآن، فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها"، وإن كان بعضها أقوى من غيره في الإعجاز، وقد قال تعالى" دليل سمعي على عجزهم عن معارضته:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، "فلم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن في
في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بعده على نظمه وتأليفه وعذوبة منطقه وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال والأشياء التي دلّت على البعث وآياته، والأنباء بما كان يكون، وما فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وصلة الأرحام، إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد وقد عجزت عنه العرب الفصحاء، والخطباء والبلغاء، والشعراء، والفهماء من قريش وغيرها، وهو صلى الله عليه وسلم في مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة ولا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب،.......
زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده" إلى يومنا هذا، بل إلى يوم الدين، مع أنه لا يكاد يعدّ من سعى في تغييره من الملحدة والمعطلة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغيير كلمة منه، ولا تشكيك المسلمين في حروف من حروفه، ولله الحمد على نظمه، أي: نظامه البديع المعجز، "وتأليفه" كما يؤلف البناء شيئًا بعد شيء حتى يتمَّ ويكمل في غاية الإحكام، وعذوبة منطقه، وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال" الكثيرة المقررة لما مثل له التنزيل المعقول منزلة المحسوس.
فقال البيضاوي: ولأمرٍ ما أكثر لله تعالى والأنبياء والحكماء في كلامهم من الأمثال، ولكثرة اشتماله على الأمثال جعله صلى الله عليه وسلم عين المثل المبالغة، فقال:"إن الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا، وسنة خالية ومثلًا مضروبًا، فيه نبؤكم، وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم" الحديث، رواه الترمذي.
"والأشياء التي دلّت على البعث وآياته، والأنباء" الأخبار "بما كان ويكون، وما فيه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وما فيه من "صلة الأرحام إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد، وقد عجزت عنه العرب الفصحاء" فعجز غيرهم أولى؛ إذ عجز أمراء الكلام مع توفر الأسباب فيهم يفيد أن من انتفت عنه تلك الأسباب أولى، والخطباء والبلغاء" هو أعمّ مما قبله؛ إذ قد يكون بليغًا عارفًا بمواقع الكلام، لكنه ليس معتنيًا بتأليف الخطب والمراسلات، ونحوهما.
والشعراء والفهماء" هو قريب مما قبله، "من قريش وغيرها" من المتصفين بذلك، "وهو صلى الله عليه وسلم في مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة، لا يحسن نظم كتاب" أي: تأليفه متناسب الكلمات لفظًا ومعنًى، ولا عقد حساب، أي: ولا أصلًا مما تستعمله الناس في معرفة الأمور التي يدبرونها في أنفسهم، ويعرفون بها أصول ما يرد عليهم من الوقائع، كذا قال
ولا يتعلم سحرًا، ولا ينشد شعرًا، ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا، حتى أكرمه الله بالوحي المنزل، والكتاب المفصَّل، فدعاهم إليه وحاجَّهم به، قال الله تعالى:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]، وشهد له في كتابه بذلك فقال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .
وأمَّا ما عدا القرآن من معجزاته عليه السلام؛ كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالًّا على صدقه من غير سبق تحدّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير -..............
شيخنا، "ولا يتعلم سحرًا، ولا ينشد:" يقرأ "شعرًا" لغيره، فضلًا عن إنشائه، "ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا حتى أكرمه الله بالوحي المنزَّل، والكتاب المفصَّل، المبيّن ما فيه من الفوائد الجليلة، كالعقائد الحقة والأحكام الشرعية، والمواعظ، والأمثال، والأخبار الصادقة أو المجعول سورًا، أو المنزَّل نجمًا نجمًا، أو المفرّق بين الحق والباطل، "فدعاهم إليه وحاجَّهم به، قال الله تعالى:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ} الآية، أعلمكم {بِهِ} الآية. ولا نافية عطف على ما قبله، وفي قراءة: بلام جواب لو، أي: لأعلمكم به على لسان غيري، {فَقَدْ لَبِثْتُ} الآية، مكثت {فِيكُمْ عُمُرًا} الآية، سنينًا أربعين {مِنْ قَبْلِهِ} الآية، أحدثكم بشيء {أَفَلا تَعْقِلُونَ} الآية. إنه ليس من قبلي. "وشهد له في كتابه بذلك، فقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} الآية، أي: القرآن {مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا} الآية، أي: لو كنت قارئًا كاتبًا، {لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} الآية، أي اليهود فيك، وقالوا: الذي في التوراة أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم ذكر قسيم ما مَرَّ أن القرآن معجز بلا شك، فقال: "وأمَّا ما عدا القرآن" بالنصب؛ لأنه تقدَّمه ما "من معجزاته عليه السلام" بيان لما "كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد"، ويأتي تفصيلها، ففيه تفصيل، "فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالًّا على صدقه، من غير سبق تحدّ" بناء على أن المراد بالتحدي طلب المعارضة، أمَّا إن أريد مجرد الاقتران بدعوى النبوة، فكلها مسبوقة بالتحدي. وأمَّا ما قبل البعثة فهو إرهاص لا معجزة على المعتمد، كما مَرَّ.
"ومجموع" أي: جملة "ذلك" المذكور مما وقع التحدي به، وما لم يقع "يفيد القطع" الجزم، أي: العلم الضروري، "بأنَّه ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير"
كما يقطع بوجود جود حاتم، شجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت موارد الآحاد، مع أن كثيرًا من المعجزات النبوية قد اشتهر، ورواه العدد الكثير، والجمّ الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك.
ويسمَّى ذلك التواتر المعنوي، "كما يقطع بوجود جود حاتم" بن عبد الله بن سعد الطائي، المشهورة أخباره في الجود، أسلم ابنه عدي سنة تسع، وقيل: سنة عشر، وكان جوادًا كأبيه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور تتعلق بالصيد، كما في الصحيحين.
وأخرج أحمد عن عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل كذا وكذا، فقال:"إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني الذكر.
وروى وكيع في الغرر، عن محرز، مولى أبي هريرة، قال: مرَّ نفر بقبر حاتم، فركض بعضهم قبره برجله، وقال: اقرنا وجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعًا، فقال: إن حاتمًا أتاني في النوم وأنشدني شعرًا حفظته، يقول فيه:
أتيت بصحبك تبغي القرى
…
لدى حفرة لجب هامها
وتبغي لي الذم عند المبيت
…
وحولك طيّ وأنعامها
فإنا سنشبع أضيافنا
…
وتأتي المطي فتعاتمها
فقاموا، فإذا ناقة صاحب القول عقير فنحروها وباتوا يأكلون، وقالوا: قرانا حاتم حيًّا وميتًا، وأردفوا صاحبهم، فلمَّا نبع النهار إذا رجل راكب بعيرًا يقود آخر، فقال: أنا عدي بن حاتم، إن حاتمًا أتاني في النوم، فزعم أنه قراكم ناقة أحدكم، وأمرني أن أحمله، فشأنكم البعير، فدفعه إليهم وانصرف.
"وشجاعة علي" أمير المؤمنين، وزهد الحسن البصري، وحلم أحنف لاتفاق الأخبار الواردة عنهم على كرم هذا وشجاعة هذا، وزهد هذا، وحلم هذا، وإن كانت أفراد ذلك ظنية، أي: كل واحد منهم ظني لا يوجب العلم، ولا يقطع بصحته، لكونها "وردت موارد الآحاد"، لكنها تفيد التواتر المعنوي الحاصل من مجموعها؛ كالكرم والشجاعة لاتفاقها على معنى واحد مع كثرتها، وإن كان كل واحد يصف جزئية، "مع أن كثيرًا من المعجزات النبوية قد اشتهر"؛ بحيث صار يفيد القطع بانفراده، ويسميه المحدثون مشهورًا ومستفيضًا" ورواه العدد الكثير والجمّ الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار،" الأحادي والعناية" الاهتمام "بالسيد جمع سيدة، وهي أخبار المغازي" والأخبار" كنبع الماء من بين الأصابع، وتكثير الطعام "وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم اهتمامهم بذلك، فبالنسبة لهم لا يفيد القطع بخلاف أولئك.
فلو ادَّعى مدَّعٍ أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظري لما كان مستبعدًا، وذلك أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من أصحابه مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك، ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق؛ لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء عن الباطل، وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئًا من ذلك، فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه أو نسبته إلى سوء الحفظ، أو جواز الغلط، ولا يوجد أحد منهم طعن في المروي، كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام............................
قال عياض: ولا بعد أن يحصل العلم بالتواتر عند واحد، ولا يحصل عند غيره، فإن أكثر الناس يعلمون بالخبر وجود بغداد، وأنها مدينة عظيمة دار الإمامة والخلافة، وآحاد لا يعلمون اسمًا فضلًا عن وصفها، وهكذا تعلّم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة أن مذهبه إيجاب أم القرآن في الصلاة للمنفرد والإمام، وإجزاء النية أول ليلة من رمضان عمَّا سواه، وأنَّ الشافعي يرى تجديدها كل ليلة، والاقتصار على مسح بعض الرأس، وأن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد وغيره، وإيجاب النية في الوضوء، واشتراط الولي في النكاح، وأن أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل، وغيرهم ممن لا يشتغل بمذاهبهم لا يعرف هذا فضلًا عمَّا سواه، "فلو ادَّعى مدَّعٍ أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظري، المحصل للعلم الضروري، "لما كان مستبعدًا،" تفريع على قوله:"وأفاد الكثير منه، إلى آخره، "وذلك" أي: وجه عدم الاستبعاد، "أنه" بالفتح، أي: لأنه "لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من أصحابه مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك" من الآيات، "ولا إنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق؛ لأن السكوت في محله إقرار؛ لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء" بغين وضاد معجمتين، التغافل عن وفي نسخة: على، بمعنى: عن؛ إذ إنما تعدَّى بعن "الباطل" سمعوه ولم ينكروه؛ إذ ليس هناك رغبة ولا رهبة تمنعهم من الإنكار، "وعلى تقدير أن يود من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئًا من ذلك، فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي،" لا في المروي نفسه، "أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه، أو نسبته إلى سوء الحفظ أو جواز الغلط" عليه لعدم اتقانه، ولا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، ولذا قال: "ولا يوجد أحد منهم طعن في المروي" نفسه، كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام" كما وقع بين عمر وابن عباس في إنكاره عليه
وحروف القرآن ونحو ذلك والله أعلم.
وأنت إذا تأمَّلت معجزاته وباهر آياته وكراماته عليه السلام، وجدتها شاملة للعلوي والسفلي، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمائع والجامد، والسابق واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل، إلى غير ذلك مما لو أعيد لطال، كالرمي بالشهب الثواقب، ومنع الشياطين من استراق السمع في الغياهب، وتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتها له بالرسالة بين يديه، ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع، ونبع الماء من كفِّه في الميضأة والتور والمزادة، وانشقاق القمر، ورد العين من العور، ونطق البعير والذئب..........................................
نكاح المتعة، "وحروف القرآن" أي: قراءته المتعددة؛ إذ كل وجه من القراءة يطلق عليه حرف، كما صحَّ أن عمر أنكر على هشام بن حكيم قراءة قرأ بها في سورة الفرقان لم يسمعها، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: سمعته يقرأ بغير ما أقرأتينه، فقال:"اقرأ يا هشام" فقال: "هكذا أنزلت" ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأ فقال:"هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه" ، وهذا كثير، "ونحو ذلك" مما يتوقف على النقل ولا يقال بالرأي، والله أعلم".
"وأنت إذا تأمَّلت معجزاته، وباهر:" غالب "آياته" من إضافة الصفة للموصوف، "وكراماته عليه السلام، وجدتها شاملة للعلوي والسفلي، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمانع والجامد، والسابق" على وجوده إكرامًا له، ويسمَّى إرهاصًا، "واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل، إلى غير ذلك مما لو أعيد" كذا في النسخ، والأولى: مما لو عدّ "لطال"؛ إذ الإعادة ذكر الشيء مرة بعد أخرى، وليس المراد هنا، بل المراد: لو شرع في عدِّها لعجز عن استيعاب إفرادها وضبطها، "كالرمي بالشهب" جمع شهاب: الكواكب المضيئة" الثواقب" التي تثقب مسترق السمع، أو تحرقه أو تخبله" "ومنع الشياطين من استراق السمع في الغياهب، جمع غيهب، وهو الظلمة، وتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتها له بالرسالة بين يديه، ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع" لفراقه، "ونبع الماء من كفه في الميضأة" بكسر الميم والقصر، وقد تمد المطهرة، وزنها مفعلة ومفعال، وميمها زائدة ليست منها، "والتور" بفوقية، مجرور بالعطف: إناء معروف، "والمزادة" بفتح الميم، شطر الرواية، والقياس كسرها؛ لأنها آلة يستقي بها الماء وجمعها مزايد، وربما قيل: مزاد بغيرها وكما في المصباح.
"وانشقاق القمر، وردّ العين من العور" بل وبعد السقوط، "ونطق البعير والذئب
والجمل، والنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه عبد الله من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التي تداولتها الحملة، ونقلتها عن ألسنة الأول النقلة، مما لو أعملنا أنفسنا في حصرها لفني المدى في ذكرها. ولو بالغ الأولون والآخرون في إحصاء مناقبه لعجزوا عن استقصاء ما حباه الكريم به من مواهبه، ولكن الملمَّ بساحل بحرها مقصرًا عن حصر بعض فخرها، ولقد صحَّ لمحبيه أن ينشدوا فيه:
وعلى تفنن واصفيه لنعته
…
يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وإنه لخليق بمن ينشد فيه قول الخنساء التي شهد لها النابغة الذبياني بأنها أشعر الناس، وقد أسلمت وصحبت:
فما بلغت كف امرئ متناولًا
…
من المجد إلّا والذي نال أطول
ولا بلغ المهدون في القول مدحه
…
ولو حذقوا إلّا الذي فيه أفضل
والجمل"، ويأتي بيان ذلك كله، "والنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه عبد الله من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التي تداولتها الحملة" للأخبار، "ونقلتها عن ألسنة الأُوَل" أي: المقدمين "النقلة" المتأخرون في تصانيفهم، "مما لو أعملنا أنفسنا في حصرها لفني المدى،" أي: الغاية "في ذكرها" أي: لانتهى العمر وفرغ في عدتها ولم يحط بها "ولو بلغ الأولون والآخرون في إحصاء" أي: عدّ "مناقبه، لعجزوا عن استقصاء ما حباه" بموحدة: أعطاه بلا عوض، "الكريم" سبحانه "به من مواهبه، ولكان الملمّ" النازل "بساحل بحرها مقصرًا" أي: عاجزًا "عن حصر بعض فخرها" مباهاتها، وقد صحَّ لمحبيه" أمكنهم "أن" يقولوا قولًا يقبل منهم ولا يكذبون فيه، كأن ينشدوا فيه" قول ابن الفارض، "وعلى تفنن" تنوع "واصفيه" أي: إتيانهم بأنواع كثيرة "لنعته يفنى" ينقضي "الزمان، وفيه ما لم يوصف" أوصاف كثيرة، ما عثروا على شيء منها حتى يذكروه، "وإنه لخليق" جدير وحقيق "بمن ينشد فيه قول الخنساء التي شهد لها النابغة الذبياني، بأنها أشعر الناس، وقد أسلمت وصحبت":
فما بلغت كف امرئ متناولًا
…
من المجد والذي نال أطول
أجل وأعظم، "ولا بلغ المهدون في القول مدحه، ولو حذقوا، بفتح الذال وكسرها من بابي ضرب وتعب مهروا، وعلموا غوامض المدح ودقائقه، "إلّا" الوصف "الذي" هو "فيه أفضل" أتمّ وأكمل من أوصافهم التي ذكروها.
ذكر عبد العظيم ابن أبي الأصبع في كتابه الأشعار الرائقة: إن الأخطل وفد على معاوية يمتدحه، فقال له: إن كنت شبَّهتني بالحية والأسد والصقر فلا حاجة لي به، وإن كنت قلت كما قالت الخنساء، فهات، قال: وما قالت؟ فأنشد هذين البيتين، فقال الأخطل: والله لقد
ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفي، فلقد كفى وشفى بقوله:
ما شئت قل فيه فأنت مصدق
…
فالحب يقضي والمحاسن تشهد
ولقد أبدع الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيري حيث قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
…
واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
…
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له
…
حد فيعرب عنه ناطق بفم
يعني: إن المداح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه،....... ......
أحسنت ولقد قلت فيك بيتين، ما هما بدون ما سمعت، وأنشد:
إذا متَّ مات الجود وانقطع الغنى
…
فلم يبق إلّا من قليل مصرد
وردت أكفّ الراغبين وأمسكوا
…
عن الدين والدنيا بحلف مجرد
فقال: لحاك الله، ما زدت على أن نعيت إلي نفسي، ولم تتعلق للمرأة بغبار.
"ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفي، فلقد كفى وشفى بقوله: ما شئت" من الصفات المتناهية في الكمال، "قل فيه" صفة بها، ولا تخش من ذكرها، "فأنت مصدق" في كل ما تقوله فيه، "فالحب" الذي أودعه الله في قلوب العارفين يقضي" يحكم بذلك، والمحاسن الظاهرة التي لا تخفى على أحد "تشهد" بحقيقة ما وصفته به، "ولقد أبدع: أني بأمر بديع لم يسبق إليه، "الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيري" صوابه البوصيري؛ لأنه منسوب إلى بوصير، كما مَرَّ كثيرًا، "حيث قال: دع:" اترك ما ادَّعته النصارى" جمع نصران، كسكارى جمع سكران، أو نسبة إلى قرية تسمَّى ناصرة، وقيل: إنها قرية المسيح، أو الياء في نصرانيّ للمبالغة، سمّوا نصارى لنصرهم عيسى في "نبيهم" كقولهم: ابن الله وثالث ثلاثة، لنهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك بقوله:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"، و "بعد ذلك "احكم" اقصد بما شئت مدحًا" ثنا: حسنًا "فيه واحتكم: اختصم، أي: خاصم في إثبات فضائله من شئت من الخصماء، وانسب:" أعز "إلى ذاته" حقيقة "ما شئت من شرف" عز، "وانسب إلى قدره:" مبلغه "ما شئت من عظم" تعظيم ورفعة، فقد وجدت للقول سعة، فإن فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له حَدّ:" غاية يوقف عندها، "فيعرب" يبين منصوب بأن مضمرة، وجوبًا بعد فاء السبية في جواب النفي، "عنه" متعلق بيعرب، "ناطق" فاعل" بفم" متعلق بناطق على تقدير مضاف، أي: بلسان فم؛ إذ أوصافه لا تحصى، وفضائله لا تستقصى "يعني: إن المدَّاح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه" بفتح الشين المعجمة، وسكون الهمزة، وبالواو
إذ لا حدَّ له، ويحكى أنه رؤي الشيخ عمر بن الفارض السعدي في النوم فقيل له: لم لا مدحت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
أرى كل مدح في النبي مقصرًا
…
وإن بالغ المثني عليه وأكثروا
إذ الله أثنى بالذي هو أهله
…
عليه فما مقدار ما يمدح الورى
قال الشيخ بدر الدين الزركشي: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين كأبي تمام والبحتري وابن الرومي مدحه صلى الله عليه وسلم، وكان مدحه عندهم من أصعب ما يحاولونه،...................
والهاء: غايته وأمده، "إذ لا حدَّ له" حتى يصلوا إليه.
"ويحكى أنه رؤي الشيخ" شرف الدين، أبو القاسم "عمر بن" علي "الفارض" -كان يكتب فروض النساء- ابن مرشد "السعدي،" نسبة إلى بني سعد: قبيلة حليمة، الحموي الأصل، المصري، ولد بالقاهرة في ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وترجمه الرشد العطار في معجمه، فقال: الشيخ الفاضل، الأديب، حسن النظم، متوقد الخاطر، كان يسلك طريق التصوف، وينتحل مذهب الشافعي، وأقام بمكة مدة، وصحب جماعة من المشائخ. وترجمه أيضًا المنذري وغيره، مات في ثالث جمادي الأولى، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. "في النوم فقيل له: لم لا مدحت النبي صلى الله عليه وسلم؟ " على سبيل الصراحة، وإلّا فباطن كلامه مدح له، كذا قال بعض.
وقال آخر: يعتقد بعض العوام أن باطن كلامه مدح للنبي صلى الله عليه وسلم، وغالب كلام لا يصح أن يراد به ذلك، "فقال: أرى كل مدح" أي: مادح "في النبي" أو هو باقٍ على مصدريته، وتجوز في إسناده "مقصرًا" إليه، "وإن بالغ المثني عليه، وأكثروا" بألف الإطلاق في المبالغة في الثناء عليه، "إذ الله أثنى بالذي هو أهله عليه،" بنحو قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، الآية، "فما مقدار ما يمدح الورى؟ الخلق. قال الشيخ بدر الدين الزركشي: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين" نعت للشعراء، "كأبي تمام" حبيب بن أوس الطائي، المشهور، صاحب الحماسة، قال ابن خلكان: أصله من قرية جاسم قرب طبرية، وكان بجامع دمشق يسقي الماء، ثم جالس الأدباء وأخذ عنهم، حتى قال الشعر، فأجاد وشاع ذكره، وسار شعره، وبلغ المعتصم خبره، فحمله إليه، فقدم بغداد فجالس الأدباء وعاشر العلماء، وتقدَّم على شعراء وقته، مات بالموصل سنة ثمان وعشرين ومائتين، وقيل بعد ذلك.
"والبحتري" بضم الموحدة، وسكون الحال المهملة، وضم الفوقية- أبو عبادة، الوليد بن عبيد، الشاعر المشهور، نسبة إلى بحتر بن عقود الطائي، كما في التبصير.
و"أبي العباس علي بن الرومي، مدحه صلى الله عليه وسلم، وكان مدحه عندهم من أصعب ما
فإن المعاني دون مرتبته، والأوصاف دون وصفه، وكل غلوٍّ في حقه تقصير، فيضيق على البليغ مجال النظم، وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التي فيها غلوّ بالنسبة إلى من فرضت له وجدتها صادقة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان الشعراء على صفاته يعتمدون، وإلى مدحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيري بقوله:"دع ما ادعته النصاري في نبيهم" إلى ما أظرت النصارى به عيسى بن مريم من اتخاذه إليها.
قال النيسابوري: إنهم صحَّفوا في الإنجيل "عيسى نبي وأنا ولدته" فحرفوا الأول بتقديم الباء وخففوا اللام في الثاني، فلعنة الله على الكافرين.
فإن قلت: هل ادَّعى أحد في نبينا عليه السلام ما ادعى في عيسى؟
أجيب بأنهم قد كادوا أن يفعلوا نحو ذلك حين قالوا له عليه السلام: أفلا
يحاولونه، فإن المعاني" التي يتصورونها مادحة له "دون مرتبته"، أي: حقيقة صفاته الحميدة، فإن وصفوه، بها قصروا في حقه، "والأوصاف دون وصفه، وكل غلوّ" بمعجمة، أي: كل وصف تجاوز قائله فيه الحد المتعارف بين الناس، أو بمهملة، أي: ارتفاع في الوصف زائد على العادة، في حقه تقصير" قليل بالنسبة لمقامه، "فيضيق على البليغ مجال النظم" بميم وجيم، أي: العمل الذي يجول فكره فيه ليأخذ المعاني التي يستحسنها وتليق عنده، "وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التي فيها غلوا -بمعجمة ومهملة- بالنسبة إلى مَنْ فرضت له، وجدتها صادقة في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان الشعراء" إذا حاولوا الثناء على أحد بأكمل الصفات، وصفوه ببعض أوصاف، صفات المصطفى الممكن ثبوتها للمدوح، وكأنَّهم على صفات يعتمدون؛ لأنه غاية طاقتهم، "وإلى مدحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيري بقوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم، ومنه أخذ الحلي قوله في بديعيته:
دع ما تقول النصارى في نبيهم
…
من التغالي وقل ما شئت واحتكم
"إلى ما أطرت النصارى به عيسى بن مريم من اتخاذه إلهًا" كما قال تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآية. قال النيسابوري: إنهم صحَّفوا في الإنجيل عيسى نبي" -بنون تليها موحدة، وأنا ولدته -بالتثقيل- خلقت ولادته من مريم بلا أب، فحرَّفوا الأول بتقديم الباء، على النون، وخففوا اللام في الثاني، فلعنة الله على الكافرين المحرفين للكلم عن مواضعه، "فإن قلت: هل ادعى أحد في نبينا عليه السلام ما ادعي في عيسى؟ أجيب بأنهم قد كادوا" قاربوا "أن يفعلوا نحو ذلك" وما فعلوا "حين قالوا له عليه السلام" في قصة سجود الأشجار له والجمل والغنم: "أفلا" الهمزة داخلة على محذوف،
نسجد لك؟ فقال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" فنهاهم عمَّا عساه يبلغ بهم من العبادة.
وقد جاء في صفته في حديث ابن أبي هالة: ولا يقبل الثناء إلّا من مكافيء، أي: مقارب في مدحه غير مفرِّط فيه، وقال ابن قتيبة: معناه: إلّا أن يكون ممن له عليه مِنَّة، فيكافئه الآخر، وغلَّطه ابن الأنباري، بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتمّ الإسلام إلا به. قال: وإنما المعنى: لا يقبل الثناء إلّا من رجل عرف حقيقة إسلامه. ثم حاصل.............................
أي: أنترك تعظيمك، فلا "نسجد لك" أم نعظمك، فنحن أحق بالسجود من الغنم وغيرها، "فقال:"لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" لما له عليها من الحق، "فنهاهم عمَّا" أي: أمر، "عساه يبلغ" يصل بهم من العبادة" التي يتجاوز بها الحد، حتى يصيروا كفرة أو فسقة، معتقدين أنه حق وهو باطل، على نحو قوله تعالى:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الآية.
نعم، روى ابن حبان عن ابن أبي أوفى، قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام، سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ما هذا؟ " قال: يا رسول الله! قدمت الشام، فرأيتهم يسجدون لبطارقته وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال:"لا تفعل، فإني لو أمرت شيئًا أن يسجد لشيء، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه".
"وقد جاء في صفته" صلى الله عليه وسلم في حديث" هند بن أبي هالة" وصَّافه "ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء" بالهمز، "أي: من مقارب في مدحه غير مفرط فيه، وقال" عبد الله بن مسلم بن قتيبة" الدينوري:"معناه: ألّا يكون ممن له" عليه الصلاة والسلام عليه منَّة" سبقت له، فيكافئه الآخر،" فيقبله لسبق منته عليه، "وغلَّطه ابن الأنباري" بالفتح نسبة إلى الأنبار بالعراق، "بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فما من أحد إلّا وله عليه منة""فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتمّ الإسلام إلا به؛ لوجوب شكر النِّعَم، "قال: وإنما المعنى لا يقبل الثناء إلا من رجل" وصف طردي، والمراد إنسان "عُرِفَ حقيقة إسلامه"، وأجيب عن هذا التغليط، بأن القرينة قائمة على أن المراد نعم حادثة خاصة، وقد صرَّح في بعض الروايات بقوله: إلّا عن يد، ثم للترتيب في الذكر أو للتراخي، "حاصل
معجزاته وباهر آياته وكراماته كما نَبَّه عليه القطب القسطلاني يرجع إلى ثلاثة أقسام:
ماض: وجد قل كونه، فقضى بمجده.
ومستقبل: وقع بعد مواراته في لحده.
وكائن معه من حين حمله ووضعه إلى أن نقله الله إلى محل فضله وموطن جمعه.
فأما القسم الماضي: وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة في المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك، مما هو تأسيس لنبوته وإرهاص لرسالته،.........
معجزاته، و" حاصل "باهر" غالب "آياته" من إضافة الصفة للموصوف، "و" حاصل "كراماته" فهما بالجر عطف على معجزاته، "كما نَبَّه عليه القطب" قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علي "القسطلاني" المصري المولود بها سنة أربع عشرة وستمائة، وجمع بين العلم والعمل، وألّف في الحديث والتصوّف والتاريخ بمصر، ومات في محرم سنة ست وثمانين وستمائة، نسبة إلى قسطلينة من إقليم أفريقية، كما قاله هو رحمه الله في تاريخ مصر، ولم يضبطه.
وقال القطب الحلبي: كأنه منسوب إلى قسطلينة، بضم القاف من أعمال أفريقية بالمغرب، وقال غيره بفتح القاف وشد اللام، ويرجع إلى ثلاثة أقسام، ماض وُجِدَ قبل كونه" أي: وجوده، "فقضى بمجده" حكم بشرفه وسيادته وعزه، بمعنى: إنهم اعتقدوا ذلك حتى سمَّى جماعة أبناءهم محمدًا رجاء أن يكون هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
"ومستقبل وقع بعد مواراته في لحده" أي: بعد موته، "وكائن معه من حين حملة ووضعه إلى أن نقله الله إلى فضله وموطن جمعه: المكان الذي تجتمع فيه الخلائق، ولكن عدّه ما تقدم وجوده من المعجزة، وكذا ما قارن حمله إلى نبوته، مبنيّ على أن المعجزة لا يشترط اقترانها بالتحدي، والراجح كما مرَّ ويأتي خلافه إلى أن ذلك لا يرد عليه؛ لأنه جعل مجموع الآيات والمعجزات والكرامات منقسمًا إلى ثلاثة أقسام، ولا يلزم من انقسام المجموع وجود كل فرد منه في الأقسام الثلاثة.
"فأمَّا القسم الماضي، وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة في المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك مما هو تأسيس، أي: اتخاذ أصل "لنبوته" يدل عليها إذا ادعاها، "وإرهاص لرسالته" من أرهص الحائط، جعل لها أصلًا، فهما متحدان، والمراد:
قال الإمام فخر الدين الرازي: ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسًا وإرهاصًا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله، يعني في سفره قبل النبوة، خلافًا للمعتزلة القائلين بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال، انتهى.
وقد تقدَّم أول هذا المقصد: إن الذي عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم أن هذا ونحوه مما هو متقدّم على الدعوى لا يسمَّى معجزة، بل تأسيسًا للرسالة وكرامة للرسول عليه السلام.
وأما القسم الثاني: وهو ما وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فكثير جدًّا؛ إذ في كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى، كالاستغاثة به، وغير ذلك مما يأتي في المقصد الأخير، في أثناء الكلام على زيارة قبره المنير.
إن الخوارق التي ظهرت قبل وجوده أو في زمنه قبل بعثته مقدِّمات لتصديقه في دعوى النبوة؛ لأنها حقَّقت عنده شرفه وأمانته.
"قال الإمام فخر الدين الرازي: ومذهبنا" معاشر أهل السنة "إنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسًا وإرهاصًا، قال: ولذلك قالوا" أي: رووا أنه "كانت الغمامة" السحابة "تظله، يعني: في سفره قبل النبوة" كما ورد في أخبار صحاح، وزعم أنها لم تصح عند المحدثين باطل، كما قاله الزركشي. "خلافًا للمعتزلة القائلين، بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال، انتهى"، وقد تقدَّم أول هذا المقصد، وقبله في المقصد الأول، أن الذي عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم، أن هذا ونحوه مما هو متقدم على الدعوى" للنبوة، "لا يسمَّى معجزة" لفقد شرط التحدي الذي هو دعوى الرسالة، بل تأسيسًا للرسالة، وكرامة للرسول عليه السلام،" والأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الولاية.
"وأما القسم الثاني: وهو ما وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فكثير جدًّا إذا في كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه، مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى، كالاستغاثة به" في الملمّات، "وغير ذلك" كالتوسُّل به في نيل المرامات، والإقسام به على رب البريات، "مما يأتي في المقصد الأخير في أثناء الكلام على زيارة قبره المنير، فكرامات الأولياء، كما نقل اليافعي من تتمة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تشهد للولي بالصدق المستلزم لكمال دينه، المستلزم لحقيِّته، المستلزم لصدق نبيه فيما أخبر به من الرسالة، فكانت الكرامة من جملة المعجزات بهذا الاعتبار.
وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته، فكالنور الذي خرج معه حتى استضاء له قصور الشام وأسواقها، حتى ريئت له أعناق الإبل ببصرى، ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألمًا لولادته، والطواف به في الآفاق، إلى غير ذلك، وكانشقاق القمر عند اقتراحه عليه، وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه، وكإطعام الجيش الكثير من النزر اليسير، في عدة من المواضع واستيلاء الفجائع، غير ذلك مما أمدَّه الله به من المعجزات، وأكرمه به من خوراق العادات، تأييدًا..............
وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حيث ولادته إلى وفاته فكالنور، أي: مثل النور، وقولهم: مثل كذا، كنايةً عن كذا ومثله، فكأنه قال: فهو النور، وما أشبهه من الخوارق، "الذي خرج معه حتى استضاء" أي: أضاء "له قصور الشام وأسواقها" من إضاءة ذلك النور وانتشاره حتى ريئت له أعناق الإبل ببصرى" بضم الموحدة وسكون المهملة، وراء، فألف مقصورة: مدينة بين المدينة ودمشق، وهي حوران.
وروى ابن سعد مرفوعًا: "رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاء له قصور بصرى" ، وحكمته الإشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به الخلق، وتخصيص الشام إشارة إلى ما خصها من نوره، لأنه أسري بها إليها وخصت بصرى؛ لأنها أول ما دخل ذلك النور المحمدي، إذ كانت أول ما فتح من الشام، أو إشارة إلى أنه ينور البصائر، ويحيي القلوب الميتة، على أن ابن سعد قد روى عن ابن عباس وغيره: أن آمنة قالت: لما فصل مني، تعني: النبي صلى الله عليه وسلم، خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، "ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألمًا" وجعًا "لولادته" وعه في هذا القسم مع أنه قل الولادة؛ لأنه أراد بحينها أعمّ منهم نفسها" أو ما قاربها، فدخل ما وجد زمن الحمل به "والطواف به في الآفاق" مارق الأرض ومغاربها وبحارها، ليعرفوه باسمه ونعته وصورته في جميع الأرض، كما في حديث رواه الخطيب "إلى غير ذلك" مما مَرَّ بعضه في المقصد الأول، وكانشقاق القمر عند اقتراحه" أي: طلبهم منه تعنتًا "عليه، وتحكمًا، واختيارًا" وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه" ليستتر بها حين قضى حاجته، "وكإطعام الجيش الكثير من النزر،" بنون وزاي، "اليسير" صفة كاشفة؛ إذ النزر القليل في عدة من المواضع يأتي بيان بعضها "و" في أوقات استيلاء غلبة وتتابع الفجائع، أي: الشدائد جمع فجيعة، حتى كأنها أحاطت بجميع أجساد الصحابة رضي الله عنهم، وغير ذلك مما أمَّده الله به من المعجزات، وأكرمه به من خوارق العادات، تأييدًا" تقوية "لإقامة حجته، وتمهيدًا لهداية محجته": طريقه الواضحة وتأبيدًا" بموحدة
لإقامة حجته، وتمهيدًا لهداية محجته، وتأبيدًا لسيادته في كل أمة، وتسديدًا لمن ادَّكر بعد أمة، مما تتبعه يخرج عن مقصود الاختصار؛ إذ هو باب فسيح المجال منيع المنال، لكنِّي أنبِّه من ذلك على نبذة يسيرة، وأنوه في أثنائها بجملة خطيرة. فأقول وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
أمَّا معجزة انشقاق القمر، فقد قال تعالى في كتابه العزيز:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ................................................................
"لسيادته في كل أمة" جماعة من الناس، سواء كانت من أتباعه، أم لا؛ لأن غير أتباعه وإن أنكروا رسالته، فذلك عناد واستكبار؛ لأن براهين رسالته قطيعة لا تنكر فهم، وإن أنكروها بألسنتهم، فقلوبهم تعترف لها قهرًا عليهم، كما قال تعالى:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الآية. "وتسديدًا" بسين مهملة، تقوية وتنبيهًا "لمن ادَّكر بعد أمَّة:" جماعة من الزمان، أي: مدة طويلة، أي: لمن تذكَّر بعد غفلته عن اتباع الحق مدة طويلة، لاستغراقه في شهوات نفسه، "مما تتَّبعه، يخرج" هذا الكتاب، "عن مقصود الاختصار؛ إذ هو باب فسيح" واسع "المجال" بجيم، "منيع" ممتنع، "المنال" بالنون، أي: ما يراد حصوله منه على الوجه التام، ممنوع لا يمكن الوصول إليه، "لكني أنبِّه من ذلك على نبذة" بضم النون "يسيرة: وأنوّه" أعظم "في أثنائها بجملة خطيرة" -بمعجمة فمهملة- متفعة القدر والمنزلة، "فأقول، وما توفيقي" قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات، "إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب" أرجع، اقتباس لطيف.
"وأما معجزة انشقاق القمر،" أي: أما الدليل على ثبوت المعجزة التي هي انشقاق القمر، "فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز"{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الآية، قربت ودنت القيامة، {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. بالفعل آية المصطفى، وقدم اقتراب الساعة عليها تخويفًا لمنكري ذلك، وإثباتًا له، وتقريرًا في نفوس المؤمنين لها؛ إذ فيها تشقق السموات، فالقادر على ذلك الفعَّال لما يريد، كيف لا يقدر على شق القمر.
وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود: قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. يقول: كما شققت القمر، كذلك أقيم الساعة، وقيل: اقتربت أخص من قربت، فيدل على المبالغة في القرب؛ لأن افتعل يدل على اعتمال ومشقة في تحصيل الفعل، فهو أخص مما يدل على القرب بلا قيد، والمعنى: صارت قريبة من بعثته صلى الله عليه وسلم، كما في حديث:"بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعين الوسطى والسباب؛ لأن التفاوت بينهما مقدار سبع، وبعثه صلى الله عليه وسلم في الألف
والمراد: وقوع انشقاقه بالفعل، ويؤيد قوله تعالى بعد ذلك:{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {انْشَقَّ} ، وقوع انشقاقه؛ لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، فإذا تبيِّن أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق، وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، وسيأتي ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود وغيره.
السابعة على المشهور عند المحدثين وغيرهم، وإنما كانت الساعة قريبة؛ لأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وكسور على المشهور، وقيل: أكثر من ذلك.
وروى البيهقي في شعبة والديلمي، عن ابن عباس رفعه، قال:"اقتربت تدعى في التوراة المبيضة، تبيّض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه".
"والمراد: وقوع انشقاقه بالفعل" عند الجمهور فلقتين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما يأتي في الأحاديث لا الوعد به يوم القيامة، كما قال بعض أهل العلم من القدماء، وأنه من التعبير بالماضي عن المستقبل، كما قال تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} الآية. أي: سيأتي. ونكتة ذلك إرادة المبالغة في تحقيق وقوع ذلك، فنزل الواقع، وما ذهب إليه الجمهور أصح، كما قال الحافظ وغيره، "ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك" يتلوه:{وَإِنْ يَرَوْا} الآية. أي: كفار قريش، {آيَةً} الآية. أي: معجزة له صلى الله عليه وسلم {يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا} الآية، هذا {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قويّ من المرَّة، وهي القوة، أو دائم مطَّرد، فيدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، ومعجزات متتابعة حتى قالوا ذلك، أو مستبشع من استمرَّ، إذا اشتدت مرارته، أو مارّ: ذاهب لا يبقى، "فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله:{انْشَقَّ} الآية. "وقوع انشقاقه؛ لأن الكفَّار لا يقولون ذلك"، أي: سحر مستمر فيما ظهر على يد النبي من الآيات "يوم القيامة" لظهور الأمر واتضاحه، "فإذا تبيِّن أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا، تبيِّن وقوع الانشقاق" بالفعل، "وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، وسيأتي ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود وغيره،" كحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس.
وفي الدلائل لأبي نعيم، عن ابن عباس: انشقَّ القمر ليلة أربع عشرة نصفًا على الصفا، ونصفًا على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل، ويؤيده أيضًا، كما في البيضاوي: أنه قرئ: وقد انشقَّ القمر، أي: وقد حصل من آيات اقتراب الساعة انشقاق القمر.
وقال الحليمي: من الناس من يقول: المراد سينشق، فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثانية منشقًّا نصفين، عرض كل واحد منهما، كعرض القمر
واعلم أن القمر لم ينشقّ لغير نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من أمهات معجزاته عليه السلام، وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله صلى الله عليه وسلم، فإن كفَّار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه، طلبوا منه أيةً تدل على صدقه في دعواه، فأعطاه الله هذه الآية العظيمة، التي لا قدرة للبشر على إيجادها، دلالة على صدقه عليه السلام في دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنَّه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة التي يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر، وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له.
ليلة أربع أو خمس، ثم اتَّصلا فصار في شكل أترجّة إلى أن غاب، وأخبرني بعض من أثق به، أنه شاهد ذلك ليلة أخرى، نقله البيهقي.
قال الحافظ: ولقد عجبت من البيهقي كيف أقرّ هذا مع إيراده حديث ابن مسعود، المصرح بأن المراد بقوله تعالى:{وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. أن ذلك وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ساقه هكذا عن ابن مسعود في هذه الآية، قال: انشقَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث ابن مسعود: لقد مضت آية الدخان والروم، والبطش، وانشقاق القمر، انتهى.
"واعلم: أن القمر لم ينشق لغير نبينا صلى الله عليه وسلم" لما طلب الكفار آية. وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه، والحاكم، وصحَّحه البيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود، قال: رأيت القمر منشقًّا بشفتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، شقة على أبي قبيش، وشقة على السويداء، والمراد بمخرجه: هجرته إلى المدينة، كما في رواية عبد الرزاق، لا بعثته "وهو من أمهات معجزاته عليه السلام،" أي: معجزاته التي هي كالأمهات لغيرها مما دونها، "وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله صلى الله عليه وسلم" حكاه القاضي عياض مؤيدًا له بأن الله أخبر بوقوعه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته، واعترض بأن الحسن البصري قال: المراد سينشق، نقله عنه النسفي وأبو الليث، ولعله لم يصحّ عنه، أو شذَّ به على تكذيبه، فلا يعتد به في خرق إجماعهم، "فإن كفار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه" أي: واستمروا على تكذيبه، فلم يرجعوا عمَّا هم فيه من الغي والضلال، بل زادوا طغيانًا، "طلبوا منه آية"، هي انشقاق القمر، كما يأتي أنَّ الوليد ومن معه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر، والأحاديث تفسّر ببعضها، وخير ما فسَّرته بالوارد، فليس المراد مطلق آية "تدل على صدقه في دعواه" جواب لما، "فأعطاه اله تعالى هذه الآية العظيمة التي لا قدرة للبشر على إيجادها، دلالة على صدقه عليه السلام في دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة" بزعمهم "التي يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر" نفسها، فضلًا عن غيرها، "وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له.
قال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماوات خارجًا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركّب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى.
وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث -يعني حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير إلى أن انتهى إلينا. وتأيد بالآية الكريمة. انتهى.
وقال العلامة بن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندي أنَّ انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرآن، مروي في الصحيحين وغيرهما من طرقٍ من حديث شعبة عن سليمان بن مهران...........................................
"قال الخطَّابي: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء" ولذا اختص بها سيدهم، "وذلك أنه ظهر في ملكوت السماوات، خارجًا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان: " الدليل الواضح "به أظهر" من غيره، "انتهى".
"وقال ابن عبد البر" أبو عمر الذي ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان: "قد روى هذا الحديث -يعني حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير" المفيد للعلم "إلى أن انتهى" وصل "إلينا، وتأيد بالآية الكريمة" فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر، "انتهى ما أراده من كلام ابن عبد البر.
وقال العلامة" قاضي القضاة أبو بكر عبد الوهاب، "ابن" الإمام علي بن عبد الكافي بن تمام الأنصاري "السبكي"، ولد بمصر سنة تسع وعشرين وسبعمائة، ولازم الاشتغال بالفنون على أبيه وغيره، حتى مهر وهو شاب، وصف كتبًا نفيسة اشتهرت في حياته، وألَّف وهو في حدود العشرين، ومات سابع الحجة، سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، "في شرحه لمختصر ابن الحاجب" في الأصول، "والصحيح عندي: أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرءان مروي في الصحيحين وغيرهما، من طرق، من حديث شعبة" بن الحجاج بن الوالد العتكي، مولاهم الواسطي ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وكان عابدًا، مات سنة ستين ومائة، "عن سليمان بن مهران" الأسدي، الكاهلي، الكوفي، الأعمش، ثقة حافظ ورع، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين، وهي تصحيف، فليس في
عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخرى شتَّى، بحيث لا يمترى في تواتره. انتهى.
وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم: أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم. فأمَّا أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأمَّا أنس فكان ابن أربع أو خمس سنين بالمدينة، وأمَّا غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك.
ففي الصحيحين: من حديث أنس رضي الله عنه: إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية،.....................................................
رجال الكتب الستة شعبة بن سليمان، فصحَّف النساخ عن بابن، والحديث في الصحيحين عن شعبة وسفيان، أي: ابن عيينة عن الأعمش، وهو سليمان بن مهران، بكسر الميم، "عن إبراهيم" بن سويد النخعي -ثقة، "عن أبي معمر" -بفتح الميم وسكون العين- عبد الله بن سخبرة -بفتح المهملة وسكون المعجمة وفتح الموحدة- الأزدي، الكوفي، ثقة من كبار التابعين، مات في إمارة عبيد الله بن زياد.
قال الحافظ: هذا هو المحفوظ، ووقع عند ابن مردويه، وأبي نعيم، عن إبراهيم عن علقمة: والمحفوظ المشهور عن أبي معمر، "عن ابن مسعود،" وأخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، وقد علَّقه البخاري عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان، أو قول من قال ابن عمر، وهم من أبي معمر، "ثم قال: وله طرق أخرى شتى بحيث لا يمترى في تواتره، انتهى. وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة، عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك "وابن مسعود" عبد الله، وابن عباس، وعلي" بن أبي طالب، "وحذيفة" بن اليمان، وجبير بن مطعم النوفلي، "وابن عمر" بن الخطاب، "وغيرهم، فأمَّا أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه -أي: الانشقاق- كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذا ذاك لم يولد؛ إذ ولادته قبلها بثلاث سنين بالشعب، على الصحيح المحفوظ.
"وأما أنس، فكان ابن أربع أو خمس سنين بالمدينة،" فحديثها مرسل صحابي، "وأمَّا غيرهما، فيمكن أن يكون شاهد ذلك" فحدَّث عمَّا شاهد، ويمكن أن يكون حمله عن غيره، والأظهر الأول، "ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: إن أهل مكة" -أي: كفار قريش، وتأتي رواية تسميتهم، "سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية" معجزة تشهدة لما ادعاه من
فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما، وقوله: شقتين -بكسر الشين المعجمة، أي: نصفين.
ومن حديث ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوقه الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا".
وفي الترمذي من حديث ابن عمر، في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
نبوّته، "فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء،" بكسر المهملة، وراء خفيفة، مذكر مصروف على الصحيح، وحكي فتح حائه، والقصر، وتأنيثه على إرادة البقعة، فيمنع صرفه، جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى مِنَى، "بينهما،" أي: بين الشقتين، "وقوله: شقتين -بكسر الشين المعجمة، أي: نصفين" كما ضبطه في الفتح والمصابيح، واليونينية والناصرية، وضبطه في الفرع -بفتح الشين- مصححا عليه، ذكر المصنف.
"و" في الصحيحين "من حديث ابن مسعود، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: في زمنه وأيامه، "فرقتين" -بكسر الفاء وسكون الراء- بمعنى: قطعتين، والمراد: نصفين، وانتصابه على المصدر من معنى انشقَّ، كقعد جلوسًا أو بتقدير: وافترق فرقتين، "فرقة" بالنصب يدل "فوق الجبل، وفرقة دونه،" أي: في مقابلته، منفصلًا عنه، لا تحته، كما قيل: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". قال الحافظ: أي: اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة، والجبل: حراء، كما في الحديث قبله، لكن روى عبد الرزاق والبيهقي من طريقه، عن ابن مسعود: رأيت القمر منشقًّا شقتين، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، والسويداء -بالمد والتصغير: ناحية خارج مكة عندها جبل، وقوله: على أبي قبيس، يحتمل أنه رآه كذلك، وهو بمنَى، كأن يكون على مكان مرتفع؛ بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن القمر استمرَّ منشقًّا حتى رجع ابن مسعود من منَى إلى مكة فرآه كذلك، وفيه بعده، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن الانشقاق وقع أول طلوع، فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، والتعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة؛ لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقًّا إحدى الشقتين على جبل، والأخرى على جبل أخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر: رأيت الجبل بينهما، أي: بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل، وفرقة عن يساره مثلًا، صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضًا، انتهى.
"وفي الترمذي من حديث ابن عمر" بن الخطاب، "في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انشق فلقتين: فلقة دون الجبل، وفلقة خلف الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا".
وعند الإمام أحمد، من حديث جبير بن مطعم قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس.
وعن عبد الله بن مسعود قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة،..............................................
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية، "قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: زمنه ردًّا على من يقول: سيكون يوم القيامة، "انشقَّ فلقتين" باللام: فلقة دون الجبل" أي: في مقابلته، "وفلقة خلف الجبل،" أي: فوقه: كما في الحديث قبله، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا" على نبوّتي ومعجزتي، وقوع ما طلبوه؛ لأنهم أهل بهتان وجحد، هذا ظاهر السياق، ويحتمل: اشهدوا على ذلك لتخبروا؛ لأنها آية ليلية أتت وقت غفلة.
"وعند الإمام أحمد من حديث جبير" بضم الجيم، مصغر، "ابن مطعم، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين" بالراء، أي: نصفين، وصرح في هذا بناصب فرقتين، "فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فيه ما سبق قريبًا عن الحافظ، "فقالوا" أي: الكفار: "سحرنا محمد، فقالوا" وفي بعض طرق حديث ابن مسعود: فقال رجل منهم، ويقال أنه أبو جهل، فلموافقتهم له عبَّر جبير، بقالوا، "إن كان سحرنا" محمد، "فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس".
وفي رواية مسروق عن ابن مسعود، فقال كفار قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدًا إن كان سحر القمر، فإنه لا يبلغ سحره أن يسحر الأرض كلها، فسلوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوه، فأتوا، فسألوا، فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك. رواه البيهقي في الدلائل.
"وعن عبد الله بن مسعود، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة" بفتح الكاف، وإسكان الموحدة، ومعجمة مفتوحة، قيل: أحد أجداده لأمه، قالوه عداوة وتحقيرًا بنسبته إلى غير نسبه المشهور؛ لأن عادة العرب إذا انتقصت، نسبت إلى جد غامض، وقيل: غير ذلك، كما مرّ في جدته.
قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فأخبروهم بذلك. رواه أبو داود الطيالسي.
ورواه البيهقي بلفظ: انشقَّ القمر بمكة فقالوا: سحركم ابن أبي كبشة، فسلوا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلها، وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم فهو سحر، فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه.
وعند أبي نعيم في الدلائل من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث ونظراؤهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق.
"قال" ابن مسعود: "فقالوا" كفار قريش: "انظروا ما يأتيكم بن السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فجاء السفار، فأخبروهم بذلك، أي: رؤية القمر منشقًّا، "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود، "الطيالسي" البصري، الثقة، الحافظ، مات سنة أربع ومائتين.
"ورواه البيهقي" عن ابن مسعود، بلفظ: انشق القمر بمكة، فقالوا: سحركم ابن أبي كبشة، فسلموا السفر، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم، فهو سحر، فسألوا السفار، وقد قدموا من كل وجه، فقالوا: رأيناه" زاد في رواية: فقال الكفار: هذا سحر مستمر.
"وعند أبي نعيم" أحمد بن عبد الله، الأصبهاني، الحافظ، "في الدلائل" للنبوة "من وجه" إسناد "ضعيف، عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم الوليد بن المغيرة" المخزومي، الكافر، الميت على كفره الذي أنزل الله تعالى في ذمه:{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآية، و {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الآية، "وأبو جهل" فرعون هذه الأمة المقتول ببدر، "والعاص بن وائل" السهمي، أحد المستهزئين، "والأسود بن المطلب" أحدهم، والنضر بن الحارث" المقتول عقب بدر، "ونظراؤهم" أشباههم في التوغّل في الكفر والعناد، "فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا" في أنك رسول الله، "فشق لنا القمر فرقتين" نصفين، "فسأل ربه فانشقَّ"، وفي رواية ابن الجوزي في الوفاء: فقال لهم: "إن فعلت تؤمنوا؟ "، قالوا: نعم، فسأل ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشقَّ القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: "يا فلان، يا فلان، اشهدوا".
وعند البخاري مختصرًا من حديث ابن عباس بلفظ: إن القمر انشقَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس، وإن كان لم يشاهد القصة كما قدمته، ففي بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود.
وعند مسلم من حديث سعيد عن قتادة بلفظ فأراهم انشقاق القمر مرتين. وكذا في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ مرتين أيضًا.
واتَّفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: فرقتين، كما في حديث جبير عند أحمد.
"وعند البخاري مختصرًا من حديث ابن عباس، بلفظ: إن القمر انشقَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" ورواه عنه أبو نعيم، وزاد: فلقتين.
قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر، وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء.
"وابن عباس وإن لم يشاهد القصة، كما قدمته"؛ لأنها كانت قبل ولادته "ففي بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود" أي: ما يشعر بذلك، ما عبَّر به الحافظ، وهي رواية أبي نعيم المذكورة من قول ابن عباس، قال ابن مسعود: لقد..... إلخ.
"وعند مسلم من حديث سعيد" -بفتح المهملة، وكسر العين، فياء، فدال مهملة آخره: ابن أبي عروبة مهران اليشكري، مولاهم، أحد الأعلام، وما يوجد في غالب نسخ المصنف شعبة مخالف للواقع، فرواية شعبة لفظها فرقتين، لم يختلف عليه رواته فيها، ولما في مسلم فالذي فيه عن سعيد، "عن قتادة" بن دعامة، عن أنس "بلفظ:"إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، "فأراهم انشقاق القمر مرتين"، بدل قوله في الرواية الأولى: شقتين، "وكذا في مصنف عبد الرزاق عن معمر" عن قتادة، عن أنس "بلفظ: مرتين أيضًا" وكذا أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق عن عبد الرزاق، وكذا ورد من حديث شيبان عن قتادة، أشار له مسلم في الصحيح.
"واتفق الشيخان" البخاري ومسلم، "عليه من رواية شعبة، عن قتادة،" عن أنس "بلفظ: فرقتين".
قال البيهقي: قد حفظ ثلاث من أصحاب قتادة عنه مرتين، يعني: سعيدًا، وشيبان، ومعمرًا.
قال الحافظ: لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة، ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود، بلفظ: مرتين، إنما فيه فرقتين أو فلقتين، بالراء أو باللام، "كما في حديث جبير" بن مطعم: فرقتين، بالراء "عند أحمد،
وفي حديث ابن عمر فلقتين -باللام- كما قدمته، وفي لفظ في حديث جبير: فانشق باثنتين، وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل: فصار قمرين. ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي: وانشقَّ القمر مرتين بالإجماع.
قال الحافظ بن حجر: وأظن قوله: "بالإجماع" يتعلق بـ "انشقّ" لا بـ "مرتين"، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث ابن عمر: فلقتين باللام، كما قدمته" من رواية الترمذي.
"وفي لفظ في حديث جبير" بن مطعم: "فانشق" القمر باثنتين" أي: بصيرورته ثنتين من الشق أو الباء زائدة، "وفي رواية عن ابن عباس، عند أبي نعيم في الدلائل، فصار قمرين، وفي لفظ: شفتين، وعند الطبري من حديثه: حتى رأوا شقتيه.
"ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي: وانشقَّ القمر مرَّتين بالإجماع"، فظاهره تعلق بالإجماع، بقوله: مرَّتين، على ظاهر رواية مسلم وغيره، لكن "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح، ما ملخصه:"وأظن قوله بالإجماع يتعلّق بانشقَّ لا بمرتين، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم"، وعبارة الحافظ في الفتح.
ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانشقَّ مرتين بالإجماع، ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرّض لذلك أحد من شراح الصحيحين، وتكلّم ابن القيم على هذه الرواية، فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة، ويراد بها الأعيان أخرى، والأول أكثر.
ومن الثاني: انشقَّ القمر مرتين، وقد خفي هذا على بعض الناس، فادَّعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط، فإنه لم يقع إلّا مرة واحدة، وقد وقع لعماد بن كثير في الرواية التي فيها مرتين نظير، ولعل قائلها أراد فرقتين، قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات، ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه:
فصار فرقتين فرقة علت
…
وفرقة للطود منه نزلت
وذاك مرتين بالإجماع
…
والنص والتواتر السماعي
فجمع بين فرقتين ومرَّتين، فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق نظرًا يأتي بيانه، انتهى.
فعن النظم جوابان، أولهما: تأويل مرة بفرقتين، ولا ينافيه الجمع بينهما؛ لأنه إشارة للروايتين، أي: إنه رواية مرتين محمولة على رواية فرقتين، كما أشار إليه ابن كثير، ومراده: بما
ولعل قائل "مرتين" أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات.
وقد وقع في رواية البخاري من حديث ابن مسعود: ونحن بمنَى، وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة؛ لأنه لم يصرّح بأنه صلى الله عليه وسلم كان ليلتئذ بمكة. فالمراد أن الانشقاق كان وهُمْ بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة. والله أعلم.
يأتي ما جلبه المصنف بقوله: وقد أنكر........... إلخ.
الجواب: إنه أراد إجماع من يعتدّ به، أمَّا هؤلاء فلا عبرة بخلافهم، وذكر الحافظ برهان الدين الحلبي في النور: إنه كاتب شيخه العراقي بكلام ابن القيم، فلم يرد له جوابًا بالكلية.
"ولعل قائل مرتين أراد به فرقتين" كما قال ابن كثير، "وهذا" كما قال الحافظ:"الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات"، فإنها إذا كثرت ودلَّت على شيء وخالفها رواية أخرى ترد إليها إذا أمكن دفعًا للتعارض على القاعدة، " وقد وقع في رواية البخاري من حديث ابن مسعود:" انشقَّ القمر، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنَى. وفي رواية مسلم: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنَى إذا انفلق القمر، "وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة؛ لأنه" أي: أنسًا، "لم يصرح بأنه عليه السلام كان ليلتئذ بمكة، فالمراد: إن الانشقاق كان وهُمْ بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، والله أعلم".
زاد الحافظ: وعلى تقدير تصريحه فمِنَى من جملة مكة، فلا تعارض، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد، فأخرج من وجه آخر عن ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن يصير إلى المدينة، فوضح أن مراده بذكر مكة، الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن يقع وهُمْ ليلتئذ بمِنَى، ثم قال: والجمع بين قول ابن مسعود تارة بمِنَى، وتارة بمكة، إم باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمِنَى، ومن بها لا ينافي أنه بمكة؛ لأن من كان بمِنَى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمِنَى قال فيها: ونحن بمِنَى، والتي فيها بمكة لم يقل فيها، ونحن إنما، قال: انشقَّ بمكة، أي: إنه كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادًّا، انتهى.
وقال بعضهم: الذي تحرَّر في الجمع بين روايات مِنَى ومكة، وأنَّ حراء كان بين الفلقتين، وإن إحداهما كانت فوق الجبل والأخرى دونه، أن يقال: إنه تباعد ما بين الفلقتين جدًّا، ليكون أظهر في دفع الإنكار، فإنه لو تقارب لقالوا: إنه من غلط الحس، فلمَّا أشهدهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، أشار مرة إلى فلقة منه، وقال:"اشهد يا فلان ويا فلان" ثم أراهم مرة أخرى فلقة أخرى.
وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لملاستها لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوه في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك.
وجواب هؤلاء إن كانوا كفارًا أن يناظروا أولًا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض، لا سبيل له إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في يوم القيامة، وإذا ثبت هذا استلزم أيضًا وقوع ذلك معجزة لنبي الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: "اشهدوا"، وكذا هذا كان ليلًا بمكة، والقمر في وسط السماء بحذاء حراء، وبحذاء غيره من الجبال والأماكن البعيدة، فلا تعدد في الشق، ولا تدافع بين الروايات، ولا يطعن في شيء منها. وهذا إن شاء الله مما لا ينبغي العدول عنه، فإن القول بأن المرات في الأعيان لا صحة له لغةً ولا استعمالًا، فلو قطع إنسان بطيخة قطعتين دفعة واحدة، وقال: قطعتها مرتين، كذَّبه من سمعه واستهزأ به، فعليك بالنظر الحديد، وأن تطرح من جُبِلَ فكره على التقليد.
"وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لملاستها، لا يتهيأ" لا يمكن "فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوه في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى" أي: مع "غير ذلك" من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوين الشمس، وغير ذلك، "وجواب هؤلاء إن كانوا كفارًا أن يناظروا أولًا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت" المناظرة، وثبت عندهم دين الإسلام، "اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين"، فيناظروا ثانيًا بإقامة الحجة على إثبات الانشقاق، كما حكي أنَّ أبا بكر بن الطيب لما أرسله صاحب الدولة لملك الروم بقسطنطينية، وإن أجَلّ علماء الإسلام، أحضر بعض بطارقته، فقال له: تزعمون أن القمر انشقَّ لنبيكم، فهل للقمر قرابة منكم حتى ترونه دون غيركم؟ فقال: وهل بينكم وبين المائدة إخوة ونسب إذ رأيتموها، ولم ترها اليهود، ويونان، والمجوس الذين أنكروها، وهم في جواركم؟ فأفحم ولم يحر جوابًا، والقصة طويلة في الشرح، "ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض، ولا سبيل له إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في يوم القيامة"؛ لأنه كفر، "وإذا ثبت هذا استلزم أيضًا وقوع ذلك معجزة لنبي الله صلى الله عليه وسلم، يرد عليه أن مجرد ثبوت ذلك في القيامة إنما يستلزم جواز وقوعه، والجواز لا يستلزم الوقوع، فالمناسب أن يقول: استلزم جواز وقوع ذلك معجزة، كما عبَّر به الحافظ في الفتح.
وقد أجاب عن ذلك القدماء من العلماء، فقال الزجاج في "معاني القرآن": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر مخلوق، لله أن يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره يوم القيامة ويفنيه. انتهى.
وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل متواترًا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص بها أهل مكة؛ لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رواية كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلّد في كتاب التسيير والتنجيم؛ إذ يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله، مع جلالة شأنه ووضوح أمره.
فأجاب عنه الخطاب وغيره: بأنَّ هذه القصة خرجت عن الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلًا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نيامًا ومستكنين في الأبنية،................................................
وفي نسخة: استلزم الجواز وقوع ذلك معجزة، فيمكن أن يجاب على ثبوت الواو بأن وقوع بالرفع مبتدأ خبره محذوف، أي: وقوعه معجزة ثبتت بالقرآن فيجب قبوله.
"وقد أجاب عن ذلك القدماء من العلماء، فقال الزجاج" بفتح الزاي والتشديد نسبة إلى خرط الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري "الإمام، العلامة، المتوفَّى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو شيخ الزجاجي، صاحب الحمل "في معاني القرآن: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة،" الكفار "انشقاق القمر،" لاستحالته بزعم الكاذب، ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر هو مخلوق، لله أن يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره، أي: يلففه ويذهب نوره "يوم القيامة ويفنيه، انتهى".
وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل متواترًا، اشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة؛ لأنه أمر صدر عن حس أمر محسوس بحاسة البصر، "ومشاهدة" يشبه عطف التفسير، "فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رواية" نقل "كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلد في كتب التيسير -بفوقية، فسين مهملة، فتحتيتين، فراء- أي: الهيئة، "والتتنجيم؛ إذ لا يجوز" عقلًا وعادة "إطباقهم على تركه، وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره، فأجاب عنه الخطابي وغيره: بأن هذه القصة خرجت عن بقية "الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلًا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نيامًا ومستكنين في الأبنية،"
والبارز منهم بالصحراء إذا كان يقظانًا يحتمل أن يتفق أنه كان مشغولًا في ذلك الوقت بما يلهيه من سمر وغيره. ومن المستبعد ان يقصدوا إلى مراكز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما تصدَّى لرؤيته من اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهر القوم غائبًا عن قوم، وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد أخرى.
وقد أبدى الخطابي حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ منها شيء مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه كالقرءان بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامَّة أعقبت هلاك من كذَّب به من....
لا يرون القمر، بل ولا السماء "والبارز منهم بالصحراء إذا كان يقظانًا يحتمل أن يتَّفق أنه كان مشغولًا في ذلك الوقت بما يلهيه من سمر" حديث الليل "وغيره، ومن المستبعد" عقلًا وعادةً "أن يقصدوا إلى مراكز القمر، ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما تصدَّى لرؤيته من اقترح وقوعه"، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام، وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها إلا الآحاد، وكذلك الانشقاق آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا، فلم يتأهب لها غيرهم، كما في الفتح، تبعًا لما بسطه في الشفاء.
ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، "يرد على ترجية قول ابن عباس: قدر ما بين العصر إلى الليل، كما مَرَّ، إلّا أن يحمل على أنّ الانشقاق الواقع في الابتداء كان بقدر إدراك البصر، ثم أخذ في الالتئام، فلم يتمّ، وبقي خلاء بين الفلقتين، دام قدر ما بين العصر إلى الليل، "وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض الآفاق" النواحي "دون البعض، كما يكون ظاهر القوم غائبًا عن قوم" فقد يكون ليلة انشقاقه طالعًا بمكة دون غيرها، فلو قال غيرهم: لم نر انشقاقه تلك الليلة لم يكذبوا، "وكما يج الكسوف أهل بلد دون أهل بلد أخرى" وفي بعضها كلية، وفي بعضها جزئية، وفي بعضها لا يعرفها إلّا المدعون علمها، ذلك تقدير العزيز العليم.
"وقد أبدى الخطابي حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ منها شيء مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه، كالقرآن" أي: كبلوغ القرآن. ولفظ الفتح: إلا القرآن، وكل صحيح، "بما حاصله" أن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامّة أعقبت هلاك من كذب به من
قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعاملين، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذي بعث منهم، لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الإفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. انتهى. وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه.
قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين" ولو كفّارًا، "فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الإفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل من كذب به، كما عوجل من قبلهم، انتهى.
زاد الحافظ: وذكر أبو نعيم في الدلائل نحو ما ذكره الخطابي، وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في كل بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار، الذين يعتقدون أنها سحر، ويجتهدون في إطفاء نور الله.
قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من الصحابة، وأمَّا من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه: إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كافٍ، فإن الحجة فيمن أثبتت لا فيمن لم يوجد عنه صريح النفي، حتى إن كل مَنْ وُجِدَ منه صريح النفي يقدم عليه من وُجِدَ منه صريح الإثبات، انتهى.
"وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه" أي: بنحو جواب الخطابي، وقال: قد يطلع على قوم قبل طلوعه على أخرين، وأيضًا فإن زمن الانشقاق لم يطل، ولم تتوافر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك، فجاءت السفار، وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبًا يكونون في ضوء القمر، ولا يخفى عليهم ذلك.
وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن الله صرف جميع أهل الأرض، غير أهل مكة وما حولها، عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة، ليختص بمشاهدته أهل مكة، كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات، ونقلوها إلى غيرهم.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن أحدًا لم ينقل أن أحدًا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر تلك الليلة المعينة، فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدًا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على جواب الخطابي، ومن وافقه أوضح.