المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في أحوال الإسناد الخبري - الإيضاح في علوم البلاغة - جـ ١

[جلال الدين القزويني]

الفصل: ‌القول في أحوال الإسناد الخبري

‌القول في أحوال الإسناد الخبري

1:

من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر 2 بخبره إفادة المخاطب إما.

1 البحث هنا عن الأمور العارضة للإسناد الخبري: من التأكيد وعدمه وكونه حقيقة عقلية أو مجازًا. الإسناد ضم كلمة أو ما يجري مجراها - كالجملة الحالة محل مفرد نحو زيد قائم أبوه، ومثل المركبات الإضافية والتقييدية- إلى كلمة أخرى أو ما يجري مجراها بحيث يفيد الحكم بأن مفهومها أحداهما -وهي المحكوم به والمسند- ثابت لمفهوم الأخرى -وهي المسند إليه-.

2 أي من يكن بصدد الإخبار والإعلام، وإلا فالجملة الخبرية كثيًرا ما تأتي لأغراض أخر غير إفادة الحكم أو لازمة مثل:

التحسر والتخزن كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} وقول الشاعر:

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

وكإظهار الضعف كما في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] وكبيان التفاوت الغريب في المنزلة كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 94] الآية، وقوله تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] .

وكالاستعطاف والاعتذار كقول النابغة:

نبئت أن أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

وكالتوبيخ كقولك: أنت تسيء إلى من أحسن إليك، وكإظهار الفرح كقولك: انتصرنا على العدو اللدود. إلى غير ذلك من الوجوه التي يفيدها الأسلوب. واستفادة التحسر وغيره من هذه الأساليب بطريق التلويح والإشارة فتكون هذه المعاني من مستتبعات التراكيب، وقيل أن استعمال الكلام في التحسر مثلًا مجاز مركب؛ لأن الهيئة في مثله موضوعة للأخبار، فإذا استعمل ذلك المركب في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة فاستعارة وإن كان لعلاقة غير المشابهة فمجاز مرسل.

ص: 65

نفس الحكم1 كقولك زيد قائم لمن لا يعلم أنه قائم، ويسمى هذا فائدة الخبر. أما كون المخبر عالمًا2 بالحكم، كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: زيد عندك، ويسمى هذا لازم فائدة الخبر3.

قال السكاكي4:

1 يطلق الحكم على النسبة الكلامية وهو المتعارف بين أرباب العربية، ويطلق على المحكوم به، وعلى إذعان النسبة أي إدراك أنها واقعة أو ليست بواقعة أي تحققها في الخارج أو عدم تحققها وهذا هو المراد هنا.. والحكم أعم من أن يكون مدلولًا حقيقيًّا للخبر أو مجازيًّا أو كنائيًّا.

2 المراد بالعلم هنا التصديق بالنسبة جزمًا أو ظنًّا، لا مجرد الصور.

3 لأن كل خبر أفاد المخاطب الحكم أفاد أن المخبر عالم بذلك الحكم، وليس كل ما أفاد أنه عالم بالحكم أفاد نفس الحكم، لجواز أن يكون الحكم معلومًا قبل الأخبار. فيكون الخبر حينئذ قد أفاد لازم الفائدة ولم يفد الفائدة كما في قولنا لمن قرأ كتاب الإيضاح: أنت قد قرأت كتاب الإيضاح - وتسمية مثل هذا الحكم فائدة الخبر بناء على أنه من شأنه أن يقصد بالخبر ويستفاد منه فإن قيل أن المخاطب قد يلقي الخبر لإفادة الحكم ويغفل عن كون المتكلم عالمًا به. أو يجيز بالحكم وهو شاك أو جاهل فلم تكن إفادة أنه عالم بالحكم لازمة لإفادة نفس الحكم. والجواب أن المراد باللزوم في الجملة أي أن ذلك اللزوم بالنظر للغالب.

والمراد بالعلم هنا المعنى المصطلح عليه عند المناطقة، وهو الصورة الحاصلة في الذهن وافقت الواقع أولًا، وسواء كانت معتقدة للمتكلم اعتقادًا جازمًا أو غير جازم. لا الاعتقاد الجازم المطابق للواقع كما عليه المتكلمون.

4 هذا وتفسير الفائدة بالحكم الذي يقصد بالخبر إفادته ولازم الفائدة يكون المخبر عالمًا بالحكم رأي الجمهور ومنهم السكاكي كما ترى في المفتاح.. ورغم العلامة الشيرازي أن فائدة الخبر هي استفادة السامع من الخبر أن المخبر عالم بالحكم، وهو خلاف التحقيق.

ص: 66

"والأولى بدون هذه تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة1.

أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه2، لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول، مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه.

ولا يمتنع أن لا يحصل الأول3 من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه، لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني وامتناع حصول الحاصل.

1 وهو اللازم الأعم مثل لزوم الحيوانية للإنسانية فلا يلزم من العلم بالحيوانية العلم بالإنسانية.

2 للزوم حصول لازم فائدة الخبر كلما حصلت الفائدة، فالعلم الثاني وهو علم المخاطب بأن المخبر عالم بهذا الحكم من الخبر نفسه يوجد عن حصول العلم الأول وهو علمه بذلك الحكم من الخبر نفسه، إذ لو لم يحصل العلم الثاني عند حصول الأول فإما؛ لأنه قد حصل قبل وإما؛ لأنه لم يحصل بعد، أما الأول -حصول العلم الثاني قبل الأول- فباطل؛ لأن العلم يكون المخبر عالمًا بالحكم لابد فيه من أن يكون هذا الحكم حاصلًا في ذهنه ضرورة. والثاني باطل أيضًا؛ لأن علة حصوله سماع الخبر من المخبر، إذ التقدير أن حصوله إنما هو نفس الخبر، فنبه الخطيب على الأول بقوله:"لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول"، ونبه على الثاني بقوله: مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه

فإن قيل لا نسلم أنه كلما أفاد الخبر أفاد أنه عالم به، لجواز أن يكون خبره مظنونًا أو مشكوكًا أو موهوبًا أو كذبًا محضًا، فالجواب أنه ليس المراد بالعلم هنا الاعتقاد الجازم المطابق بل حصول هذا الحكم في ذهنه وهذا ضرورى في كل عاقل تصدى للأخبار.

3 أي يمتنع حصول العلم الأول من الخبر نفسه عند حصول العلم الثاني، لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني فلا يمكن حصوله لامتناع حصول الحاصل، كالعلم بكونه حافظًا للقرآن في قولك: أنت حفظت القرآن، وحينئذ يكون تسمية هذا الحكم فائدة الخبر على أن من شأنه أن يستفاد من الخبر.

ص: 67

وقد ينزل العالم1 بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما.. قال السكاكي:

وإن شئت فعليك بكلام رب العزة: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي وآخره ينفيه عنهم حيث لم يعلموا بعلمهم. ونظيره في النفي والإثبات:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] 3، وقوله تعالى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] .

هذا لفظه4.. وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما، وليست منها، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لعدم جريه على موجب العلم، والفرق بينهما ظاهر.

1 أي المخاطب العالم بالفائدة ولازمها معًا. وكذلك العالم بأحدهما "الفائدة أو اللازم فقط. وذلك لعدم جريه على مقتضى علمه. فإنه لا يجري على مقتضى العلم هو والجاهل سواء. كما يقال للعالم التارك الصلاة الصلاة واجبة. وقولك لمن يسألك: ماذا أمامك؟ وهو يعلم أنه كتاب: أمامي كتاب.

2 اللام في لقد موطئة للقسم. أي واقعة في جواب قسم محذوف. واللام في "لمن" ابتدائية. وجملة "لمن اشتراه إلخ" سدت مسد مفعولي علموا لتعليقه بلام الابتداء. ومحل الشاهد قوله "لو كانوا يعلمون" فإن العلم الواقع بعد "لو" منفي بمقتضاها؛ لأنها حرف امتناع لامتناع. وقد أثبت ذلك العلم لهم في صدر الآية.. هذا وتنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لاعتبارات بلاغية كثيرة في الكلام.

3 الآية من تنزيل وجود الشيء منزلة عدمه -وقوله في "النفي والإثبات" أي في نفي شيء وإثباته.

4 أي نص كلام السكاكي.

ص: 68

وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين، فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة:

1-

فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم1 -بأحد طرفي الخبر على الآخر- والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم كقولك: جاء زيد، وعمرو ذاهب، فيتمكن في ذهنه، لمصادفته إياه خاليًا.

2-

وإن كان متصورًا لطرفية2، مترددًا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبًا له، حسن تقويته بمؤكد3، كقولك لزيد عارف أو أن زيدًا عارف.

1 المراد بالحكم كما سبق الاعتقاد ولو غير جازم: وخلو الذهن من لازم الحكم مثل خلوه من الحكم في ترك التأكيد. والضمير في قوله. "والتردد فيه" للحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها، ففي الكلام استخدام؛ لأن التردد ليس في الحكم بمعنى التصديق.. والمراد أن المخاطب ليس عالمًا بوقوع النسبة أو لا وقوعها وليس مترددًا في أن النسبة هل هي واقعة أو لا.

2 أي طرفي الحكم وهما المسند والمسند إليه.

3 أي بأداة تأكيد واحدة، ليزيل ذلك المؤكد تردده ويتمكن الحكم في نفسه.

هذا والمواد بالخالي من يخلو ذهنه، عن التصديق بالنسبة الحكمية فيما بين طرفي الجملة الخبرية وعن تصور تلك النسبة.. والمراد بالمتردد من تصور تلك النسبة الحكمية ولم يصدق بشيء من وقوعها وعدم وقوعها

وبالمنكر من صدق بما ينافي مضمون الجملة الملقاة إليه.

واعتبار هذه الأحوال في المخاطب وإيراد الكلام على الوجوه المذكورة بالقياس إلى فائدة الخبر أعني الحكم ظاهر، وأما بالقياس إلى لازمها فيمكن اعتبار الخلو وتجرد الجملة عن المؤكد، وأما اعتبار التردد والإنكار على الوجه المذكور فلا يجري في اللازم.

ص: 69

3-

وإن كان حاكمًا بخلافه وجب توكيده1 بحسب الإنكار2، فتقول:"إني صادق" لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره، "وإني لصادق" لمن يبالغ في إنكاره. وعليه قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} . [يس: 13، 14، 15] .

1 ومؤكدات الحكم هي: أن والقسم ونونا التوكيد ولام الابتداء واسمية الجملة وتكريرها ولو حكما وأما الشرطية وحروف التنبيه وحروف الزيادة وضمير الفصل وتقديم الفاعل المعنوي لتقوية الحكم، ومنها السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه؛ لأنها تفيد الوعد أو الوعيد وهذا مقتض لتوكيد الحكم، وقد التي للتحقيق، وكأن ولكن وإنما وليت ولعل وتكرير النفي، وبعضهم عد أن المفتوحة، وقيل: ليست منها؛ لأن ما بعدها في حكم المفرد.

والفرق بين التأكيد الواجب والمستحسن مع أن المستحسن عند البلغاء واجب هو أن ترك المستحسن يلام عليه لومًا أخف من اللوم على ترك الواجب.

وقال عبد القاهر في دلائل الإعجاز ص249: "أكثر مواقع أن بحكم الاستقراء هو الجواب"، لكن "يشترط فيه أن يكون للسائل ظن على خلاف ما أنت تجيبه به، فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلًا فيها فلا؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا أن نقول: "صالح" في جواب كيف زيد؟ و"في الدار" في جواب: "أين زيد؟ " حتى نقول: أنه صالح، وأنه في الدار، وهذا مما لا قائل به"، فهو يرى أنه إنما يحسن التأكيد إذا كان للمخاطب ظن على خلاف حكمك أي تأكيد الحكم بمؤكد فأكثر وقيل بأكثر من مؤكدة فرقًا بينه وبين التوكيد المستحسن.

2 أي بقدرة قوة وضعفًا، يعني يجب زيادة التأكيد بحسب ازدياد الإنكار.

ص: 70

حيث قال في المرة الأولى: إنا إليكم مرسلون، وفي الثانية: إنا إليكم لمرسلون1.

ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس2 للكندي عن قوله: إني أجد في كلام العرب حشوًا، يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد. بأن قال، بل المعاني مختلفة، "فعبد الله قائم" إخبار عن قيامه، و"إن عبد الله قائم" جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر.

ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًّا3، والثاني طلبيًّا، والثالث إنكاريًّا، وإخراج الكلام على هذه الوجوه4 إخراجًا على مقتضى الظاهر5.

1 فأكد في الأول بأن واسمية الجملة، وفي الثانية بالقسم وإن واللام واسمية المجلة لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إن أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] .

2 أبو العباس هو محمد بن يزيد المبرد الإمام في اللغة والنحو وصاحب الكامل توفي عام 285هـ. والكندي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق فيلسوف العرب المشهور المتوفى نحو سنة 253هـ. وتجد الرواية كاملة في دلائل الإعجاز ص242 وفي المفتاح أيضًا ص74.

3 أي غير مسبوق بطلب ولا بإنكار.

4 وهي الخلو عن التأكيد في الأول والتقوية بمؤكد استحسانًا في الثاني ووجوب التأكيد بحسب الإنكار في الثالث.

5 أي مقتضى ظاهر الحال وهو أخص مطلقًا من مقتضى الحال، فكل مقتضى الظاهر مقتضى الحال، ولا عكس، كما في صور إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فإنه يكون على مقتضى الحال ولا يكون على مقتضى الظاهر

هذا والحال هو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفًا بكيفية مخصوصة سواء كان ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع أو كان ثبوته بالنظر لما عند المتكلم كصور التنزيل، أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفا بكيفية مخصوصة بشرط أن يكون ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع فلذا كان أخص من الحال مطلقًا. ثم إن تلك الكيفية هي مقتضى للحال أو لظاهره، فكل كيفية اقتضاها ظاهر الحال اقتضاها الحال دون عكس، فعموم المقتضى يقتضي عموم المقتضى.

ص: 71

وكثيرًا ما يخرج على خلافة1:

1 فينزل غير السائل منزلة السائل، إذا قدم إلى ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب2 كقوله تعالى:

1 أي على خلاف مقتضى الظاهر. هذا وذكر بعضهم أن صور التخريج من باب الكناية؛ لأنه ذكر اللام -وهو مدلول الكلام المشتمل على الخصوصية وهو المقام الذي لا يناسبه بحسب الظاهر مع قرينة غير مانعة من إرادته- واستعمل اللفظ فيه وقصد منه ملزومه الذي هو تنزيل المقام الغير المناسب منزلة المناسب. وقيل أنه من قبيل الاستعارة المكنية

والحق أنه لا يقال فيه شيء من ذلك؛ لأن الكلام هنا لم يوضع لهذه المعاني؛ لأنها معان عرضية.

هذا والصور هي:

1 الخالي: -السائل- المنكر: بالنسبة لحال كل منهم.

2 العالم ينزل منزلة الخالي أو السائل أو المنكر.

3 الخالي ينزل منزلة السائل أو المنكر.

4 السائل ينزل منزلة الخالي أو المنكر.

5 المنكر ينزل منزلة الخالي أو السائل.

فحال المخاطب بالخبر منحصر في العلم بالحكم والخلو منه والسؤال له والإنكار له. والعالم لا يخرج معه الكلام على مقتضى الظاهر.

2 يلوح: يشير. استشرف فلان إلى الشيء إذا رفع رأسه لينظر إليه ويبسط كفه فوق الحاجب كالمستظل من الشمس.. وهذا والنكتة في التنزيل الذي ذكرها الخطيب هي أنه قد قدم للمخاطب غير السائل ما يلوح له بالخبر فيتطلع له تطلع السائل المتردد. وقد يكون تنزيل غير السائل لأغراض أخرى، كالاهتمام بشأن الخبر لكونه مستبعدًا والتنبيه على غفلة السامع إلى غير ذلك.

ص: 72

{وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] 1، وقوله:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقول بعض العرب:

فغنها وهي لك الفداء

إن غناء الإبل الحداء2

وسلوك هذه الطريقة شبعة من البلاغة فيها دقة وغموض.

روى عن الأصمعي3 أنه قال:

كان أبو عمرو بن العلاء 4 وخلف الأحمر5 يأتيان بشارًا 6، فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، فأتياه يومًا فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في

1 أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك فهذا كلام يبوح بالخبر تلويحًا ما، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب، فصار لمقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أم لا، مقيل "إنهم مغرقون" مؤكدًا، أي محكومًا عليهم بالإغراق.

2 الضمير في "فتغنها" للإبل والحداء من حدا الإبل أو بها: ساقها وغنى لها.

3 عبد الملك بن قريب الإمام في اللغة والأدب، توفي عام 214هـ، ونجد الرواية في الأغاني ص43 جـ3، وفي الدلائل ص210 وفي المفتاح ص75.

4 وفي الأغاني: خلف بن أبي عمرو بن العلاء. وأبو عمرو من أئمة اللغة توفي عام 154هـ وخلف ابنه توفي في أواخر القرن الثاني الهجري.

5 من أئمة اللغة والشعر والأدب توفي عام 180هـ.

6 أبو معاذ إمام الشعراء المحدثين توفي عام 167هـ.

ص: 73

ابن قتيبة1 قال: هي التي بلغتكما، قالا بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب قال: نعم إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما:

بكرا صاحبي قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح": بكرا فالنجاح، كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت "إن ذاك النجاح" كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت "بكرا فالنجاح" كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فقبل بين عينيه.

فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء -وهم من فحولة هذا الفن- إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟

2-

وكذلك بنزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار2. كقوله3:

1 قائد من كبار القواد المشهورين في بدء عهد الدولة العباسية.

2 وغير المنكر يشمل الخالي والسائل والعالم وإن كان المثال من تنزيل العالم منزلة المنكر.

3 البيت لحجل بن نضلة. شقيق: اسم رجل. عارضًا رمحه أي واضعًا له على العرض بأن جعله وهو راكب على فخذيه.. فهو لا ينكر أن في بني عمه رماحًا لكن مجيئة هكذا واضعًا الرمح على العرض من غير التفات وتهيؤ أمارة على أنه يعتقد أنه لا رماح فيهم بل كلهم عزل لا سلاح معهم فنزله منزلة المنكر فأكد له الكلام فقال: "أن بني عمك فيهم رماح". وفي البيت تهكم واستهزاء كأنه يرميه بالضعف والجبن وبأنه لو علم أن فيهم رماحًا لما حملت يده السلاح ولفر من خوف الكفاح. فهو على طريقة قوله:

فقتل لمحرز لما التقينا

تنكب لا يقطرك الزحام

والتقطير: الإلفاء على الأرض على البطن أو على أحد الجانبين.. برمية بأنه لم يباشر الشدائد ولم يدفع إلى مضايق الحروب، كأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم كما يخاف على الصبيان والنساء لقلة غنائه.

ص: 74

جاء شقيق عارضًا رمحه

إن بني عمك فيهم رماح

فإن مجيئه هكذا مدلًّا بشجاعته قد وضع رمحه عرضًا لدليل على إعجاب شديد منه، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد. كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح.

3-

وكذلك بنزل المنكر1 منزلة غير المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار، كما يقال لمنكر الإسلام: الإسلام حق2. وعليه قوله تعالى في حق القرآن: {لَاْ رَيْبَ فِيْهِ} 3.

1 ومثله المتردد. وغير المنكر هنا وإن صدق بخالي الذهن والعالم بالحكم والمتردد فيه إلا أن المراد منه خصوص الأول. وقوله ما أن تأمله أي شيء من الدلائل والشواهد بحيث لو تأمل المنكر ذلك الشيء ارتدع عن إنكاره، ومعنى كونه معه، أن يكون معلومًا له ومشاهدًا عنده كالإسلام حق لمنكر ذلك؛ لأن مع ذلك المنكر دلائل على حقيقة الإسلام.

2 اسمية لجملة هنا ليست مؤكدًا؛ لأنها إنما تكون مؤكدًا إذا اعتبر تحويلها عن الفعلية أو إذا انضمت لغيرها من المؤكدات أو أن اسمية الجملة ليست مؤكدة إلا إذا ناسب ذلك المقام.

3 ظاهر هذا الكلام أنه مثال لجعل المنكر كغيره وترك التأكيد لذلك، وبيانه أن معنى "لاريب فيه" ليس القرآن بمظنة للريب ولا ينبغي أن يرتاب فيه، وهذا الحكم مما ينكر كثير من المخاطبين، لكن نزل إنكارهم منزلة عدمه أو على الأصح نزل المنكر منزلة غير المنكر، لما معه من الدلائل الدالة على أنه ليس مما ينبغي أن يرتاب فيه، من ظهور إعجازه وكون من أتى به صادقًا مصدوقًا بالمعجزات. والأحسن أن يقال أنه تنظير لتنزيل وجود الشيء منزلة عدمه -لا مثال للجعل- وذلك بناء على وجود ما يزيله، فإنه نزل ريب المرتابين منزلة عدمه تعويلًا على وجود ما يزيله، حتى صح نفي الريب على سبيل الاستغراق المفهوم من وقوع النكرة في سياق النفي المفيد للعموم الشمولي، فالمنفي هنا هو نفس الريب على سبيل الاستغراق. وفي الأول ليس المنفي الريب بل كون القرآن مظنة له خطابًا لمنكري ذلك. وهذا الوجه أحسن؛ لأنه لا يحتاج إلى التأويل الذي في الوجه الأول وما لا يحتاج إلى التأويل أولى مما يحتاج لتأويل.

ص: 75

ومما يتفرع على هذين الاعتبارين قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 14-15] . أكد إثبات الموت تأكيدين وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل "ميتون" دون "تموتون" كما سيأتي الفرق بينهما1. وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرًا بأن لا ينكر، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فينزل المخاطبون منزلة المترددين، تنبيهًا لهم على ظهور أدلته، وحثًّا لهم على النظر فيها، ولهذا جاء تبعثون على الأصل.

هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه اعتبارات النفي2، كقولك: ليس زيد أو ما زيد منطلقًا أو بمنطلق، ووالله ليس زيد

1 من أن الجملة الاسمية لإفادة الثبوت والدوام، والفعلية لإفادة التجدد والحدوث.

2 أي أمثلة الاعتبارات الواقعة في الإسناد في الكلام المنفي من التجريد عن المؤكدات في الابتدائي وتقويته بمؤكد استحسانًا في الطلبي ووجوب التأكيد بحسب الإنكار في الإنكاري. وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر فيؤكد معه النفي، وينزل المنكر كغيره فيلقي إليه الكلام خلوًّا من التأكيد إلخ.

خاتمة في أغراض الخبر:

1 إفادة المخاطب الحكم "فائدة الخبر".

2 إفادة المخاطب أن المخبر عالم بالحكم "لازم الفائدة". =

ص: 76

أو ما زيد منطلقًا أو بمنطلق، وما ينطلق أو ما أن ينطلق زيد، وما كان زيد ينطلق، وما كان زيد لينطلق، ولا ينطلق زيد، ولن ينطلق زيد، ووالله ما ينطلق أو ما إن ينطلق زيد.

3 الفخر والتمدح كقول المتنبي:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

4 إ ظهار الفرح كقول الشاعر:

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

5 التنبيه والحث كقول الشاعر:

من راقب الناس مات غما

وفاز باللذة الجسور

6 الإرشاد والوعظ كقول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

7 إظهار الضعف: {إِنِّيْ وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي} .

8 التحسر علي الفائت كقول الشاعر:

ذهب الصبا وتولت الأيام

9 التحذير كقولك: "مصير البخيل الهم والإملاق".

10 التذكير بالتفاوت:

وما يستوي من عاش للمجد سعيه

ومن عاش في دنياه عيش البهائم

11 الاستعطاف:

فإن أك مظلومًا معد ظلمته

وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب

12 التوبيخ:

ذل من يغبط الذليل بعيش

رب عيش أخف منه الحمام

شواهد لمعرفة أغراض الخبر فيها ومقاصده:

قال إبراهيم بن المهدي:

أتيت جرمًا شنيعًا

وأنت للعفو أهل

ص: 77

.......................................................................

وقال أبو فراس:

ومكارمي عدد النجوم ومنزلي

مأوى الكرام وموئل الأضياف

ولمروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة:

مضى لسبيله معن وأبقى

مكارم لن تبيد ولن تنالا

وقال أبو نواس:

ذهبت جدتي بطاعة نفسي

وتكذرت طاعة الله نضوا

المتنبي:

إني أصاحب حلمي وهو بي كرم

ولا أصاحب حلمي وهو بن جبن

وقال:

أقمت بأرض مصر فلا ورائي

تخب بي الركاب ولا أمامي

وقال الشاعر:

قومي هم قتلوا -أميم- أخي

فإذا رميت يصبني سهمي

وقال الشاعر:

ذهب الشباب فما له من عودة

وأتى المشيب فأين عنه المهرب؟

وقال:

ظمئت وفي فمي الأدب المصفى

وضعت وفي يدي الكنز الثمين

وقال المتنبي:

ذل من يغبط الذليل بعيش

رب عيش أخف منه الحمام

شواهد على أضرب الخبر وأدوات التأكيد:

قال أبو الطيب:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

وقال النابغة:

ولست بمستبق أخًا لا تلمه

على شعث، أي الرجال المهذب؟!

=

ص: 78

........................................................................

وقال أبو العتاهية:

إني رأيت عواقب الدنيا

فتركت ما أهوى لما أخشى

أبو نواس:

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم

وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه

فإذا عصارة كل ذاك أثام

المعري:

إن الذي الوحشة في داره

تؤنسه الرحمة في لحده

شاعر:

وليس أخي من ودني رأى عينه

ولكن أخي من ودني وهو غائب

شواهد لخروج الخبر عن مقتضى الظاهر:

قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [الأنفال: 113] وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] .. وقال أبو العتاهية:

إن الشباب والفر اغ والجدة

مفسدة للمرء أي مفسدة

وقال أبو الطيب:

ترفق إيها المولى عليهم

فإن الرفق بالجاني عتاب

وتقول لمن ينكر فائدة التعليم: التعليم ينهض بالأمة ويرقى بالشعب.

ص: 79