الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد: فتلك آراء الجاحظ البيانية الخاصة به، وهي وإن كانت دراسات موجزة مفرقة إلا أنها على كل حال ذات أثر كبير في خدمة البيان العربي.
أول صحيفة في البلاغة
لبشر بن المعتمر:
عن البيان والتبيين للجاحظ.
مر بشر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النظارة، فقال بشر، اضربوا عما قال صفحًا واطووا عنه كشحًا.. ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام:
خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جواهر وأشرف حسبًا، وأحسن في الإسماع. وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة، من لفظ شريف ومعنى بديع..
واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة وبالتكلف والمعاودة. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكن مقبولًا قصدًا وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.
وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد مستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريمًا فليتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف، اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما.
وكن في ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا قريبًا معروفًا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف أن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاص، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدراك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر والموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقًا مطبوعًا ولا محكمًا لسانك بصيرًا بما عليك أو مالك، عابك من أنت أقل عيبًا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.. فإن ابتليت بأن تتعاطى الصنعة وتتكلف القول ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعصي علبك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر ودع بياض يومك أو سواد ليلك وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرق.
فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة على أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما