المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجاحظ والبيان العربي: - الإيضاح في علوم البلاغة - جـ ١

[جلال الدين القزويني]

الفصل: ‌الجاحظ والبيان العربي:

‌الجاحظ والبيان العربي:

1-

كان الجاحظ أستاذ الثقافة الإسلامية في الصنف الأول من القرن الثالث، وكان مجده الأدبي الذائع يعصف بمجد كل أديب، ويدوي في كل أفق، ويرن صداه في سمع كل كاتب وشاعر وخطيب.

وعاش الناس في عصره وبعد عصره عيالًا عليه في البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة كما يقول ابن العميد، وعدوا التلمذة عليه شرفًا لا يعدله شرف ومجدًا يدنيهم من بلاط الملوك وتعصب له كثير من رجالات الثقافة الإسلامية في شتى عصورها، فألفوا الكتب في الإشادة به -كما فعل أبو حيان التوحيدي في كتابه تقريظ الجاحظ-، وبالغوا في الإشادة به والثناء عليه حتى حسد ثابت بن قرة الأمة العربية عليه، وحتى كان الخلفاء يهشون عند ذكره ونهج كبار الكتاب نهجه في الثقافة والبيان، وكان فخر الرجل في أن يلقب بلقبه، وأقبلوا على كتبه وأدبه يتثقفون بثقافتها ويرونها تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا وبلغ من اهتمام خاصة رجال الفكر الإسلامي بها أن كانوا يسألون الناس عن المفقود منها في البيت الحرام وعرفات، وكان معاصروه يحذرون خصومته حتى لا يسمهم بميسم الخزي والهوان إلى الأبد، ومن ساء جده منهم فكان هدفًا لسخريته اللاذعة سار على الأجيال صورة مشوهة وإساءة لا يغفرها الزمن كما فعل الجاحظ مع أحمد بن عبد الوهاب بطل رسالته الساخرة المتهكمة "التربيع والتدوير".. وحسبك أن المأمون كان يقرأ تآليف الجاحظ ويثني عليها ويستجديها1.

1 211 جـ3 البيان نشر السندوبي ط1927.

ص: 146

ومجد الجاحظ الأدبي مجد خالص من شوائب العصبية وتمويه السياسة وهو مجد بوأه صرحه الخالد: كفاءته الممتازة وثقافته النادرة وآثاره الفكرية والأدبية الممتعة، فقد عاش الجاحظ محرومًا من كل شيء إلا من مجد الأدب، وشهرة العلم، ولم تبوئه مواهبه مقاعد الوزارة التي كان التي كان يصعد إليها في عهده كثير من الكتاب، ولم تنله كفايته الأدبية منزلة في ديوان رسائل الدولة، ولما صدر فيه أيام المأمون لم يبق فيه غير ثلاثة أيام استقال بعدها منه، أو قل إنه حورب فيها من أجله حذرًا من أن يأفل به نجم الكتاب كما كان يرى سهل بن هارون، الإخفاق في الحياة العامة الذي منى به الجاحظ في عصره كان مما نعاه ابن شهيد عليه في رسالته "الزوابع والتوابع"، ومما جعله يخطئ من يذهب إلى تقديم الجاحظ على سهل بن هارون، وإن كان تحكيم التوفيق في الحياة في وزن الشخصيات وتقديرها ضلالًا وغبنًا.

ولكن ما سر هذا الإخفاق مع هذه الشهرة البعيدة والمجد الذائع؟ رأى ابن شهيد من قبل أن حرمان الجاحظ من شرف المنزلة بشرف الصنعة مع تقدم ابن الزيات وإبراهيم بن العباس إما؛ لأنه كان مقصرًا في الكتابة وجميع أدواتها أو؛ لأنه كأن ساقط الهمة أو؛ لأن دمامته وإفراط جحوظ عينيه قعد به عن الغايات المنشودة، ورأى أن نقص أدوات الكتابة عند الجاحظ شيء قد يكون غريبًا فذهب إلى أن أول أدوات الكتاب العقل وقد تجد عالماً غير عاقل.

أما أن الجاحظ ينقصه أداة -أيا كانت هذه الأداة- من أدوات الكتابة فذلك ما ترده الحقيقة المقررة، فعقل الجاحظ وفنه الأدبي وطبعه الموهوب أعظم من أن يتطرق إليه فيها شك وريب. وأما أن الجاحظ كان قريب الأمل غير بعيد الطموح، لا يتطلع إلى مجد ينشده أو جاه سلطان يناله، فذلك بعيد عن الجاحظ وحياته وروحه الوثاب الطموح. وأما أن دمامة الجاحظ كان لها أثر في هذا الإخفاق

ص: 147

فذلك أحد ما نراه من أسبابه الكثيرة حتى أنه ذكر للمتوكل لتأديب بعض ولده فلما رآه واستبشع منظره صرفه وأمر له بعشرة آلاف درهم.

الحق أن الجاحظ كان عربيًّا في روحه ودمه وحياته. وكان يتعصب للعرب في كل شيء حتى في الثقافة والأدب في عصر كان النفوذ والسلطان في الدولة فيه للعناصر الأجنبية لا سيما الفرس، وكثيرًا ما كان ينسى أولو الثقافة والكفايات من العرب إلا من اتصل منهم بحبل وزير أو أمير، والجاحظ مع صداقته الوثيقة لمحمد بن عبد الملك الزيات الوزير م سنة 233هـ، والذي أهدى له كتابه "الحيوان" وكافأه عليه بخمسة آلاف دينار، كان يتخلل هذه الصداقة الشك والجفاء، ولم يستطع أو لم يتسن له، أن يستفيد شيئًا من وراء هذه الصداقة، وقتل محمد بن عبد الملك وجاء بعده عدوه اللدود أحمد بن أبي دؤاد الذي سيق إليه الجاحظ مغلولًا؛ لأنه كان من أصحاب محمد بن عبد الملك، ثم فك قيوده وطلب حديثه وبيانه وثوقًا منه بظرفه وأدبه لا بإخلاصه وولائه.

ثم لا ننس أن مواهب الجاحظ مواهب عالم وأديب لا مواهب رجل من رجال المجتمع والسياسة والحياة العامة، وقد رفعته مواهبه العقلية والعلمية والأدبية مكانًا عليًّا ما كان ينتظر أن ترفعه إليه السياسة مهما خلق في أجوائها، وكان إخلاص الجاحظ للفكر والثقافة أعظم من إخلاصه للحياة نفسها، وكان خوضه في معامع الثقافة والعلم يشغله عن الخوض في ميادين السياسة والاجتماع، وكانت لذته في الدراسة والبحث والتأليف أكثر من لذته في مجد السياسة وسلطانها، فالجاحظ أولًا وقبل كل شيء هو رجل الثقافة والأدب، وهو المعتزلي الذي تتلمذ على النظام ثم عاف تقليد غيره في العقيدة فكان صاحب مذهب ورئيس فرقة من فرق المعتزليين، وهو المتكلم الساحر والكاتب البليغ والخطيب المفوه والعالم الفذ والمؤلف النابه وشيخ العربية.

ص: 148

الذي وعى الثقافة العربية وما خالطها من الثقافات في شتى علوم الدين والدنيا، وهضمها وعاصرها زهاء قرن "150-255هـ"، وكان له في صدر شبابه فخر التلمذة على شيوخها في اللغة والأدب وفي علوم الدين والكلام وفي التفكير والمنطق كما كان له فخر صداقة رجال الفكر والسياسة في الدولة، وقد استفاد من وراء هذا وذاك نضوجًا كبيرًا في عقليته وثقافته هيأه لأن يكون محور الثقافة الإسلامية في عصره لا بطلًا من أبطال السياسة والدولة والاجتماع.

ولا يضير الجاحظ أن يكون كما قال بديع الزمان الهمذاني فيه من أحد شقي البلاغة يقطف وفي الآخر يقف1، فقد يجيد الرجل في باب من أبواب الأدب دون باب، ولا يغض ذلك من إحسانه فيما أحسن فيه، ولكن البديع أراد الفخر بنفسه على حساب الجاحظ، وليته وقف عند هذا الحد فلم يرم الجاحظ بأنه كلامه يبعد الإشارات قليل الاستعارات قريب العبارات وأنه منقاد لعريان الكلام يستعمله نفور من معتاصه يهمله، وأنه ليس له لفظة مصنوعة وكلمة غير مسموعة2. وإنما أراد البديع أنه فوق الجاحظ أدبًا وبيانًا، وهيهات!

وثقافة الجاحظ ثقافة واسعة منوعة تحيط بسائر ألوان الثقافات التي مازجت الثقافة الإسلامية في عصره، فهو عالم من علماء الدين، ومتكلم من الطراز الأول للمتكلمين وعالم يحيط باللغة وبيانها وآدابها إحاطة لا تقف عند غاية، وقد خاض الجاحظ في جداول الثقافات الأخرى التي سرت في تيار الثقافة العربية منذ مشرق القرن الثاني الهجري، وعقلية الجاحظ البعيدة التفكير لا نشك أنها أفادت ذلك من أستاذه النظام ومن علوم الفلسفة والمنطق التي شاعت في البيئة الإسلامية في عصر الجاحظ. ولا شك أن عصر الجاحظ، وعقليته وشغفه بالدراسة والبحث، وعكوفه على القراءة، ونشأته بالبصرة،

1 ص82 مقامات البديع -المقامة الجاحظية.

2 ص82 و83 المرجع.

ص: 149

وتلقيه اللغة عن الأعراب في المربد والعلماء في حلقات البصرة ومجامعها العلمية، وتلمذته على كثير من أساتذة الثقافة في شتى مناحيها كأبي يوسف القاضي والنظام والأصمعي والأخفش وابن الأعرابي وأبي عبيدة. وأبي زيد الأنصاري، كان له أثره في ثقافة الجاحظ الواسعة الجوانب المتعددة الألوان.

وشخصية الجاحظ تطالعك في أدبه وكتبه من كل جانب وناحية، وهي شخصية رجل الفكر الواثق بشخصيته وعقليته وثقافته، والمؤمن بها، الحريص على كرامته، المعتز بنفسه.. يخاطب الوزراء والعظماء ويراسلهم، فلا يفني شخصيته في شخصياتهم، بل يراهم إخوانه، ويرى له عليهم حق الصداقة ودالة الأخوة، ولا يجبن عن توجيه العتاب واللوم إليهم، وأنت حين تقرأ في كتب الجاحظ ومؤلفاتة تغيب في جو بعيد تطل عليك فيه شخصية الرجل، بسعة ثقافتها وبعد مكانتها، وبتوجيهها الساحر لعقل القارئ وفكره وشعوره حتى ليكاد ينسى أمامها نفسه، ويشرع شعورًا صادقًا أنه قد نقلك من جوه هو إلى جو آخر تشيع فيه روح قوية ساحرة تملك عليك عقلك وعاطفتك، وتروعك بكثرة حفظها وروايتها، كما تروعك بروعة فكرها وجلال بيانها، وتتركك صريعًا في معارك فكرية ترى الجاحظ فارسها المعلم، وترى قلمه البليغ عصا الساحر المتحدى تسترعي السمع والبصر، وتنبهت الفكر والعقل، وتلهب العاطفة والشعور.

والعجيب أن سعة ثقافة الجاحظ وكثرة روايته في تأليفه جعلت كثيرًا ممن لا يفهمون الجاحظ يرونه كاتبًا لا شخصية له، تطمس شخصيات من يروى لهم وينقل عنهم كل أثر لشخصيته، فتقرأ الجاحظ وأنت تقرأ لسواه وتبدو أمام عينك صورة شتى لرجال لا ترى الجاحظ فيهم ولا تلمس آثاره بينهم.

ومنشأ ذلك أن الجاحظ رجل من الخاصة في فكره وفي كتابته وأسلوبه وفي بحثه وتأليفه، فإذا فكر فبعقل الخاصة، وإذا كتب

ص: 150

أو ألف فبأسلوبهم ولمن يفكر في مجال تفكيرهم، وليس ذلك؛ لأن الجاحظ "يستمسك بفائدته ويضن بما عنده غيرة على العلم وشحا بثمرة الفهم ولذلك كان كتاب "البيان" موقوفًا على أهله ومن كرع في حوضه، أما الجهال والمبتدئ فلا نفع له من كتابه" كما يقول ابن شهيد، إنما ذلك؛ لأنه كما أرى لا يستطيع إلا أن يفكر تفكير الخاصة، ويكتب بعقلهم وأسلوبهم؛ ولأنه رجل يكتب لنفسه قبل كل شيء ويرضى بشهوته في تدوين عناصر الثقافة الأدبية والعلمية على طريقة كتابه الموسوعات. كما يرى بعض الباحثين المعاصرين1، وما دام الجاحظ كذلك فلن يستطيع أن يفهمه إلا رجل مثله في فكره واتجاهه وثقافته، ولن يتسنى لكثير أن يفهموا الجاحظ وأن يؤمنوا بشخصيته في كتبه ومؤلفاته ما داموا لا يستطيعون مجاراته في نواحي ثقافته العقلية والأدبية. وحسب الجاحظ مجدًا وخلود ذكر أن يكون له كتاب مثل كتاب البيان والتبيين.

2-

ألف الجاحظ كتابه "الحيوان" وأهداه إلى صديقه محمد بن عبد الملك الزيات، فكافأه عليه بخمسة آلا دينار. ثم ألف بعده كتاب "البيان" وأهداه إلى أحمد بن أبي دؤاد فأعطاه عليه خمسة آلف دينار، والجاحظ يشير في مواضع متعددة من البيان إلى كتاب الحيوان، وكان لظهور "البيان والتبيين" ضجة كبيرة في الأدب والبيان حتى إنه حمل إلى الأندلس فيما حمل من نفائس المؤلفات.

وكتاب "البيان" ألفه الجاحظ على نمط طريف في التأليف، من كثرة الرواية التي قصد الجاحظ من ورائها أن ينال كتابه الشهرة والإعجاب كما يقول الجاحظ نفسه في كتابه، وينال كتابه الذكر

1 49/ 2 النثر الفني.

ص: 151

والذيوع، ومن كثرة الاستطراد الذي يستدر به الجاحظ نشاط القارئ وإعجابه كما يقول الجاحظ في تعليله له، والجاحظ حين يعلل عدم ترتيبه للخطباء الذين ذكرهم في كتابه ترتيبًا يتمشى مع التاريخ بعجزه عن تنسيق ذلك فإن ذلك يقابل بتحفظ كبير، فالجاحظ لو أراد لما أعجزه إنما هو مذهبه في الاستطراد والانتقال.

ويبدو من أسلوب الكتاب أن الجاحظ كان يكتب أصوله -أو كثيرًا منها- محاضرات يلقيها على تلاميذه وطلابه وقد يسبغ عليها أحيانًا روحًا توائم بين هذه المحاضرات وبين ما يجب لمن أهدى إليه كتابه من تقدير وإجلال، وأسلوب الكتاب الاستطرادي جعل الجاحظ يعدنا في كتابه بأنه سيذكر الشيء ثم لا يذكره ولا يفي بوعده، وهذا الأسلوب الاستطرادي أيضًا جعل الجاحظ ينقد نفسه في ترتيب فصول كتابه وجعله يرسم منهجه في أجزاء كتابه في آخر الجزء الأول منه، وجعله يضع في أماكن متعددة من كتابه عناوين مختلفة تقابل من القارئ بمزيد الابتسام. فهو يعنون فصولًا بباب البيان وأخرى يسميها باب الصمت وأخرى باب اللحن أو باب الزهد إلى آخر هذه الألقاب التي تعلم أن الجاحظ لم يرد شيئًا منها ولم يضعها إلا للتعزيز بالقارئ واكتساب نشاطه وامتحان ملكاته.

وكتاب "البيان" يجمع بين دفتيه الكثير من بلاغة العرب وسحرهم في البيان كما يجمع آراء كثيرة في أصول النقد الأدبي وقوانين البلاغة العربية، وقد نهج فيه الجاحظ منهجه الساحر، وكتبه بأسلوبه العميق المحكم، ورسم فيه صورًا صادقة لروح الأدب والبلاغة إلى عهده، والكتاب سجل للأدباء والشعراء والخطباء حتى عصر الجاحظ وهو ذو قيمة فذة في تاريخ الأدب والأدباء لا سيما المعاصرين للجاحظ ومن سبقوه بقليل، وقد عني فيه الجاحظ بتدوين المثل الساحرة من الأدب العربي: شعره ونثره، وقاده الاستطراد إلى الإلمام بكثير من مسائل الأدب والنقد والبيان.

ص: 152

يبدأ الجاحظ كتابه بمقدمة يذكر فيها البيان وشرفه ويلم فيها بالكثير من عيوبه الفطرية وسواها في استطراد جميل، ثم يشرح البيان ويحلل عناصره، ويذكر البلاغة ومذاهب رجال البيان فيها، ويبين الصلة بين البليغ ومظهره، ذاكرًا بلاغة الخطيب وعناصرها وأدواتها، ملمًّا بالكثير من الخطباء، داعيًا إلى قوة الطبع وشرف المعنى وجمال اللفظ وإلى مراعاة شتى المقامات والأحوال، مبينًا أثر في هذه البلاغة في النفس والوجدان، ويتكلم على الحديث المردد ومن عابه ومن مدحه، وعلى الصمت: من أشاد به ومن ذمه داعيًا البليغ إلى أن لا يتمسك بحكمة الصمت حتى لا يورثه ذلك العي والحصر، ويدعو الأدباء الناشئين إلى أن يعرضوا انتاجهم الأدبي على أولي الذوق والبيان حتى يعرفوا قدر أنفسهم ومنزلتها في البيان، كما يتحدث عن السجع: مطبوعه ومتكلفة وعن منزلته الأدبية، محللًا عناصر الشعر نافيًا أن يكون ما في القرآن من كلمات موزونة شعرًا، ملما بطبقات الشعراء وألقابهم، وينعي على المتقعرين، ويسرد أحاديث النوكي والحمقى سردًا بليغًا، وبذلك ينتهي الجزء الأول من الكتاب الذي أودع فيه الجاحظ جل ما أورده من بلاغة البيان وعناصرها وألوانها ومذاهبها وأسبابها.

أما الجزء الثاني فتحدث فيه عن الخطابة وأقسامها وأثرها، وألم فيه بسحر بلاغة رسول الله في أحاديثه وخطبه، ويخطب كثير من جلة الصحابة والسلف الأولين، وتكلم عن الحوليات وطبقات الشعراء ومذاهب المطبوعين وأصحاب الصنعة، كما تكلم على اللحن واللحانين والنوكي والحمقى والمجانين.

وفي الجزء الثالث يرد على الشعوبية مطاعنها التي قدحت بها في العرب لا سيما ما نعوه عليهم من أخذ العصا والقوس عند الخطابة وفي مواقف الكلام، ورد الجاحظ على الشعوبية فيه كثير من حرارة الإيمان التي أذكت في دفاعه روح الجدل وقوة المناقشة وسعة التفكير. وينقل الجاحظ كثيرًا من حكم النساك ومواعظهم، وخطب الخوارج.

ص: 153

وكلماتهم، وسياسة بني العباس ودهائهم، ويتحدث عن رواية الأدب واتجاهات الرواة وطبقاتهم، وعن كلام رسول الله وسحر إيجازه وبعده عن مذاهب العرب في شعرها، وعن أمية رسول الله مع بلاغته وعن مجد الشعر وأثره ومكانته إلى غير ذلك من شتى الآراء ويختم الجاحظ كتابه بهذه الكلمة الجامعة:"وهذا أبقاك آخر ما ألفناه من كتاب البيان والتبيين ونرجو أن نكون غير مقصرين فيما اخترناه من صنعته، وأردناه من تأليفه، فإن وقع على الحال التي أردنا والمنزلة التي أملنا فذلك بتوفيق الله، وإن وقع بخلافها فما قصرنا في الاجتهاد ولكن حرمنا التوفيق والله أعلم".

وبعد فكتاب البيان ثمرة من ثمرات الرجولة المكتملة التي أحاطت بالجاحظ بعد أن ودع شبابه واستقبل عهد المشيب، وهو لذلك آية من آيات الطبع المتمكن والذوق السليم والإحاطة التامة بالبيان وبلاغته. وليس ذلك بكثير على الجاحظ شيخ العربية الفذ وبطلها الكبير.

وأثر "البيان" وقيمته مما يعسر على الباحث تفصيله وإيفاؤه فيها حقه من التقدير والإنصاف ودقة الحكم:

فكتاب البيان أصل من أصول الأدب وهو في أسلوبه وفي نهجه وفي رواياته وفي آرائه الأدبية خير معين لطلاب العربية والمتخصصين في آدابها.

وقيمته في البيان العربي خطيرة لما أودع فيه من شتى البحوث والآراء في البلاغة وعناصرها واتجاهاتها ومذاهبها وألوانها وغاياتها وأثرها سواء كانت هذه الآراء من جمع الجاحظ وروايته وتدوينه أم من ابتكاره ورأيه الشخصي واتجاهه الأدبي المستقل، وفيما جمعه الجاحظ من ذلك الكثير مما لايزال محل إعجاب الباحثين وتقديرهم، وكفى أن تقرأ فيه: البلاغة كما تتحدث عنها صحيفة هندية مكتوبة، أو كما رآها ابن المقفع أو كما تحدث عنها بشر بن المعتمر في صحيفة من تحبيره

ص: 154

وتنميقه إلى غير ذلك من شتى الآراء التي كتبها الجاحظ مستقلًّا بالتفكير فيها.

وإذا كان للجاحظ فخر التلمذة والرواية -في كتابه- عن شيوخ العربية وأدبائها كالأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي وابن سلام وأبي العاصي، وكإبراهيم بن السندي وعبد الكريم بن روح الغفاري ومحمد بن بشير الشاعر، وكثمامة والنظام، وسوى هؤلاء وهؤلاء، فيجب أن لا ننسى أنه قد كان لعلماء الأدب والبيان الذين جاءوا بعد عصر الجاحظ هذا الفخر نفسه بالتلمذة عليه وعلى كتابه "البيان".

فابن قتيبة المتوفى سنة 276 تبع في كتابه "الشعر والشعراء" الجاحظ في مذهبه الأدبي من إيثار الطبع والرونق والماء والبعد عن التكلف والاستكراه والتعقيد.

ومؤلف نقد النثر يبدو في كتابه أثر الجاحظ، وهو وإن كان نقد "بيان" الجاحظ في أول كتابه إلا أنه قد تأثر به إلى حد كبير، فكلامه على أنواع البيان ونظره إليه نظرة واسعة أعم من البيان بالعبارة هو صنيع الجاحظ في كتابه، ويتكلم على اختيار مواقع الكلام وأوقاته ومناسبته للسامعين ومطابقة الكلام للمقام1 وتلك آراء الجاحظ، ويرى أن اللحن يستحسن من الجواري وأن من الصواب معرفة أوقات الكلام والسكوت وأقدار الألفاظ والمعاني بأنه يلبس المعنى ما يليق به من اللفظ، كما يرى أن من أوصاف البلاغة أن يتساوى فيها المعنى واللفظ، فلا يكون اللفظ إلى القلب أسبق من المعنى ولا المعنى أسبق من اللفظ، وتلك كلها آراء الجاحظ، إلى غير ذلك من كثير من مظاهر التأثر والاحتذاء.

وكذلك دعا الآمدي إلى المذهب الأدبي الذي دعا إليه الجاحظ في كتابه البيان.

1 96 نقد النثر.

ص: 155

ودعوة أبي الحسن الجرجاني في وساطته إلى ترك التكلف والاسترسال مع الطبع1، وإلى تقسيم الألفاظ على رتب المعاني هي دعوة الجاحظ في بيانه، وإن كانت مظاهر التأثر بالجاحظ تبدو معدومة في الوساطة.

وأبو هلال العسكري في "الصناعتين" متأثر بالجاحظ وكثير الإفادة منه ومن كتابه "البيان". وكتاب "الصناعتين" سير في السبيل الذي عبده الجاحظ وإتمام لما بدأ به، وكثير من آراء الجاحظ نجدها في الصناعتين وإن كان للصناعتين ميزة شرحها والتعليق عليها، وقد ينقلها نفسها، وقد يستدل بها، وينقل وصية بشر بن المعتمر ويشرحها، وعلى العموم فالجاحظ هو المرجع الأول لأبي هلال.

وكذلك ابن سنان الخفاجي ينقل في كتابه "سر الفصاحة" عن الجاحظ كثيًرا.

وعبد القاهر الجرجاني شديد التأثر بالجاحظ وكتابيه "الحيوان""والبيان"، يأخذ عنه كثيًرا من آرائه بدون ذكر له، وقليلًا ما يشير إليه، فكلام عبد القاهر عن البيان يتجلى فيه روح الجاحظ ورأيه في أن فضيلة الكلام لنظمه لا للفظه ولا لمعناه هو روح كلام الجاحظ، وعبد القاهر ورأيه في السجع متأثر بالجاحظ، وبلاغة الألفاظ من أن تكون مألوفة ليست وحشية ولا سوقية دعا إليها الجاحظ قبل عبد القاهر، وتعريف عبد القاهر للبلاغة هو روح الجاحظ في بيانه، وإيثاره من الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك مما سبقه إليه الجاحظ وينقل عبد القاهر عن الجاحظ كثيرًا، إلى غير ذلك من مظاهر التأثر الكثير.

ولكتاب البيان كذلك أثره في النقد الأدبي فهو سجل حافل للآراء

1 30 من كتاب الوساطة.

ص: 156

المختلفة في النقد مما لا يزال إلى الآن موضع البحث والإعجاب. والجاحظ الذي نقد مذاهب أصحاب الصنعة من الشعراء وأثره عليها مذهب المطبوعين كان يضع بذلك أساسًا كبيرًا لعلم النقد وتطوره الأدبي. وعصرنا الحديث يؤمن كل الإيمان برأي الجاحظ ويسير في تياره الفكري والأدبي كما يسير على ضوئه في البيان العربي وبلاغته.

-3-

كان للعرب في حياتهم الأولى ذوق وفيهم طبع، وكانوا بهذا الطبع وذلك الذوق وفي مثل بيئتهم البدوية في غنى عن الشرح والتحليل والتوجيه والتعليل لأحكام النقد الأدبي ولأصول البيان العربي ومذاهبه واتجاهاته. كانوا يسمعون النص الأدبي فيوحي إليهم طبعهم بكل شيء، ويرون من يسمع منهم ويأخذ عنهم في غنى بذوقه وطبعه عن كل شيء، ولذلك بقيت أصول النقد والبيان بعيدة عن البحث والدراسة والتقرير.

وفي ظلال الحياة الإسلامية اختلطت العناصر وتمازجت الثقافات وتجاورت الطباع والأذواق، فسرت العدوى في البيئة العربية الخالصة، وظهرت في مظهر من اللكنة المستهجنة ومن الخطأ المردود في اشتقاق بعض الكلمات العربية وتصريفها وفي إعرابها وأشكال الحرف الواجبة لها، فسرت بين علماء الدين والعربية روح من الجد والإقدام والعزيمة التي صممت على تلافي آثار هذه العدوى حتى لا تمس العربية في صميمها وفي كتابها المقدس الحكيم، وظهرت لذلك الدراسات النحوية ثم اللغوية بمظهر جاد لا وناة فيه. بيد أن ذلك لم يثن رجال الأدب عن غاياتهم، ولم يحل بينهم وبين اتجاهاتهم وطبائعهم، فكثر النقد الأدبي ودخلته روح جديدة من البحث والتوجيه والتعليل، وتكونت من ذلك أصول أدبية موجزة لها قيمتها في الأدب والنقد والبيان.

وبعد أن أشيع الفكر الإسلامي رغباته من البحث والدراسة

ص: 157

في تقويم اللسان العربي وتصحيح الملكات العربية في النطق واللهجة، اتجه رجال العربية -مع مسايرتهم للدراسات العربية واللغوية- إلى الدراسات الأدبية والبيانية حرصًا على إرضاء ملكاتهم وأذواقهم وتمشيًا مع التطور الفكري والترف العقلي في دراسة العربية وآدابها، ومسايرة لروح البحث المتجلية في الثقافات الأخرى التي امتزجت بالثقافة الإسلامية، والتي كان لها الأثر والخطر في إثارة مشكلات الأدب والبيان، وفي بحث عناصر بلاغة الكلام، وفي توجيه أذهان الكتاب والأدباء إلى المجدي المقبول من الأساليب وطرق الأداء وفي التفكير والمعنى، وفي مراعاة شتى المقامات وسائر الأحوال التي يجب على الأديب والخطيب والكاتب والشاعر مراعاتها والإلمام بها. وكانت عناصر الثقافة البيانية والأدبية إذ ذاك تتجلى في طبقتين:

أ- طبقة رواة الأدب العربي من البصريين والكوفيين والبغداديين، الذين كانوا يرونه إشباعًا لنهم فطرتهم وأذواقهم الأدبية العربية الخالصة. ومن أمثال: خلف والأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد ويحيى بن نجيم وعمرو بن كركرة وابن سلام، وأستاذهم أبو عمرو بن العلاء أعلم الناس بالعرب والعربية1 ومن عامة رواة الأدب والبيان الذين لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعن الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع الممكن والسبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى التي إذا صارت في الصدور عمرتها وفتحت للسان باب البلاغة -كما يقول الجاحظ- دون النحويين الذين ليس لهم غاية إلا كل شعر فيه إعراب، والإخباريين الذين لا يقفون إلا على كل شعر فيه الشاهد والمثل، واللغويين الذين لا يرون إلا كل شعر فيه غريب2. بجوار هذه الطبقة الشعراء الذين طارت شهرتهم في آفاق الأدب العربي أمثال ابن هرمة وبشار وصالح بن عبد القدوس وأبي نواس وأبي العتاهية والسيد الحميري

1 206/ 1 البيان.

2 224/ 3 البيان.

ص: 158

وأبان اللاحقي ومنصور النمري وسلم الخاسر وابن أبي عيينة ويحيى بن نوفل وخلف بن خليفة ومحمد بن بشير والعتابي ومسلم وأبي تمام1، وغيرهم من الخطباء، ورجال الأدب والبيان، من بيت بني هاشم وبني العباس ومن رجال الفرق الأدبية والسياسية والدينية لا سيما المعتزلة وفرق المتكلمين الذين رآهم الجاحظ فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء2.

ب- طبقة الكتاب الذين لم ير الجاحظ قومًا قط أمثل طريقة في البلاغة منهم، والذين التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًّا ولا ساقطًا سوقيًّا3 ورأى الجاحظ البصر بهذا الجوهر من الكلام فيهم أعم4 وحكم مذهبهم في نقد5 البيان، وكان جلهم من عناصر أجنبية من الفرس والروم والسريان والقبط من الذين فهموا لغاتهم وبلاغتهم ثم قرءوا البيان والبلاغة العربية وآدابها وأخذوا يحدثون في اللغة العربية مذاهب جديدة في الكتابة والأدب والبيان ويدعون إلى آراء خطيرة تمس الذوق الأدبي وترضي اتجاهات الحضارة والترف العقلي والاجتماعي الذي داخل البيئة العربية منذ بدء القرن الثاني، كما أخذوا يلقنون مذاهبهم الأدبية العامة لتلاميذهم والمشايعين لهم من شداة الأدب كما ترى في محاضرة بشر بن المعتمر المعتزلي م سنة 210هـ في أصول البلاغة التي يقول الجاحظ عنها: إن بشرًا مر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النظارة فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا واطووا عنه كشحًا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه في أصول البلاغة وعناصر البيان6، ومن رجالات هذه الطبقة أبو العلاء سالم مولى هشام بن عبد الملك

1 54/ 1 البيان.

2 106/ 1.

3 105/ 1.

4 325/ 3.

5 240/ 1.

6 104/ 1.

ص: 159

وعبد الحميد الكاتب أو الأكبر كما يقول الجاحظ1، وعبد الله بن المقفع وسهل بن هارون والحسن بن سهل والفضل بن سهل ويحيى بن خالد وجعفر بن يحيى وأيوب بن جعفر وأحمد بن يوسف ومحمد بن عبد الملك الزيات وعمرو بن مسعدة وسواهم من كتاب الدولة الذين صعدوا بفنهم وبلاغتهم إلى أرقى المناصب في الخلافة الإسلامية، وكان لهذه الطبقة أثرها في بحث عناصر البيان وبلاغة الكلام ورسم المذاهب الأدبية التي توائم ذوق بيئتهم وعصرهم مما نراه مبثوثًا في كتاب البيان والتي لا تخرج عن أحكام الذوق الأدبي السليم ولا يتعمد أصحابها فيها مذاهب العلماء في الشرح والتحليل.

وظهر الجاحظ والبلاغة العربية تفيض سحرًا وقوة وروعة، سواء في خطب الخطباء وشعر الشعراء ورسائل الكتاب ومحاضرات المحاضرين وجدل المجادلين. كما ظهر وعناصر البيان العربي تكاد تخطو في طفولتها نحو الغاية وتسير في هدى العلم والذوق إلى منزلتها من الوضوح والتمايز والاستقلال. فدخل الجاحظ المعمعة وتوسط الميدان وسار أنبه أبطاله المعلمين. أما الجاحظ في بلاغة بيانه وجلالة أسلوبه وحلاوة منطقه واستقلاله بمذهب خاص في الكتابة والبيان فهو في ذلك ليس له نظير ولا ينكره عليه أحد. وبحق ما وسم بشيخ الكتاب. وأما الجاحظ في وضع أسس البيان وعناصر البلاغة العربية فهذا ما نريد أن نعرف أثره فيه.

خدم الجاحظ البيان العربي خدمة لا تقدر. بالكتابة -في كتبه- في شتى بحوثه وجمع مختلف الآراء والمذاهب في عناصره وألوانه. ولم نعلم أن باحثًا أفرد البيان العربي بتأليف قبل الجاحظ، كما كان كل ما هناك آراء مبثوثة متفرقة لكثر من رجال البيان والأدب وكانت خسارة البيان في عدم تدوينها تكاد تكون فادحة بالغة.

1- 151/ 1.

ص: 160

منتهاها، وما نجده في الكتاب لسيبويه ومجازات القرآن لأبي عبيدة والشعر والشعراء لابن سلام فإنما هو قليل من كثير إذا قيس بما جمعه الجاحظ في كتبه ومؤلفاته، نعم لا يمكن لأي باحث أن ينكر حقيقتين هامتين.

أولاهما أن الجاحظ أظهر من أفرد البيان بمعناه العام بالتأليف في كتابه الكبير "البيان والتبيين"، وثانيتهما أن له فضل جمع مختلف الآراء والمذاهب فيه، والجمع والإحصاء أول خطوات البحث والابتكار والتجديد، ومنزلة العالم في الجمع لا يمكن الغض منها أو الاستهانة بها، وإذا قرأت كتب الجاحظ لا سيما "الحيوان" و"البيان" عرفت منزلة الجاحظ في هذا السبيل. ومن الغريب أن ترى شخصية الجاحظ واضحة فيما يجمعه وضوحها فيما يبتكره من آراء ومذاهب بعكس كثير من العلماء والباحثين.

والجاحظ فوق أثره الكبير في جمع آراء رجال البيان والبلاغة في مذاهبهما وعناصرهما في كتابه "البيان" على الخصوص، له وراء ذلك فضل خاص وجهد مستقل فيه، فقد استقل ببحوث جديدة صبغها بشخصيته واستمدها من عقليته وثقافته وعرفت له وحده دون سواه من الباحثين في البيان العربي وقواعده، وقبل أن نفصل ذلك كله نتساءل: ما هو البيان الذي نريده ويعنيه الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"؟

لاشك أن الجاحظ لم يعن بالبيان ذكر قواعد البلاغة العربية وأدائها في ألفاظها وأساليبها ومعانيها كما فهم مؤلف نقد النثر ونقد على ضوئه الجاحظ في كتابه البيان حيث يقول: "أما بعد فإنك ذكرت لي وقوفك على كتاب عمرو بن بحر الجاحظ الذي "سماه البيان والتبيين" وأنك إنما وجدته قد ذكر فيه أخبارًا منتخلة وخطبًا منتخبة ولم يأت فيه بوصف البيان ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان،

ص: 161

وكان عندما وقفت عليه غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب1 إليه".

ولا شك أن أبا هلال العسكري كان أدنى إلى الإنصاف حينما نوه في كتابه الصناعتين بكتاب "البيان" وذكر خطورته كمؤلف من مؤلفات البيان العربي، وإن كانت أبحاثه في البيان موجزة مفرقة2، فهو بدون شك ومهما أردنا بكلمة البيان من معان مؤلف من مؤ لفات البيان، ولا يضيرنا بعد ذلك إن كانت بحوثه في البيان مجملة أو مفصلة مجموعة أو مفرقة، ونحن على كل حال في الرأي مع أبي هلال.

ولا شك أيضًا أن ابن شهيد حين ذهب إلى أن كتاب "البيان للجاحظ" لم يكشف فيه مؤلفه عن وجه تعليم البيان ليرى القارئ كيف يكون وضع الكلام وتنزيل البيان وكيف يكون التوصل إلى حسن الابتداء وتوصيل اللفظ بعد الانتهاء وأن الجاحظ استمسك بفائدته وضن بما عنده غيرة على العلم وشحا بثمرة الفهم3 قد ظلم الجاحظ وكتابه وحكم عليه حكمة متأثرًا باتجاهه هو في البيان الذي انتحى فيه ناحية تطبيقية حتى كان كما يقول يعلم الشحاذ الأساليب التي يستدر بها عطف الناس4. فابن شهيد حين أراد أن يكون كتاب "البيان" كتابًا يرسم فيه مؤلفه طرق الأداء ويعبد سبل التعبير عن مختلف الأغراض التي تؤثر في عقول الناس وعواطفهم، قد ظلم الجاحظ مرتين: ظلمه حين تناسى ما كتبه وما جمعه الجاحظ في رسم المذاهب الأدبية المختارة في الأداء والتعبير، وظلمه مرة أخرى حين حكم فيه اتجاهه هو ونقده على ضوئه وقاس كتابه بمقياسه.

وعلى كل فالجاحظ إنما أراد بالبيان ما كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته5. وأراد

1 ص1 نقد النثر.

2 6 و7 الصناعتين.

3 الزوابع والتوابع، والذخيرة.

4 الذخيرة.

5 68/ 1 البيان.

ص: 162

ما أراده جعفر بن يحيى من البيان، وهو أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك وتخرجه من الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة والذي لا بد منه أن يكون سليمًا عن التكلف بعيدًا من الصنعة بريئًا من التعقيد غنيًّا عن التأويل1، أراد به ساحر الأدب ورائعه من نثر ونظم وأسجاع ورسائل وخطب ومقالات وأحاديث وحجاج، وأراد به أمثل الأساليب وأقوم الألفاظ التي تقرب ما غمض من المعاني وتوضح ما خفي من الأفكار، ذاكرا معها أصحابها من أولى اللسن والخطابة والبلاغة في المنثور والمنظوم، ولذلك كان كتابه أخبارًا منتحلة وخطبًا منتخبة كما يقول مؤلف نقد النثر، والجاحظ لا يكتفي بذكر ذلك ذاك وحده بل يذكر المذاهب الأدبية العامة في عصره وقبل عصره في النقد والأدب والبيان كلما دعا إليها داع أو ألمت بها مناسبة، ويذكر في سياق ذلك آراءه الأدبية التي يؤثرها ويدعو إليها في شيء من الإجمال والإيجاز وفي مواضع متفرقة من كتابه كما يقول أبو هلال.

-4-

ارتاب بعض الباحثين المعاصرين في شخصية في كتابه البيان، ورأى أنها تكاد تكون معدومة فيه2. وهذا موضع مناقشة هذه الفكرة الجائرة.

إن من يمعن في كتاب "البيان" يؤمن معي إيمانًا جازمًا بمدى ما في هذا الرأي من جور على الجاحظ وغبينه لكتابه، فشخصية الجاحظ في كتابه البيان ليست معدومة ولا ضعيفة، بل نراها قوية مهيمنة ونلمسها في ثناياه في مظاهر منوعة:

فهي فيما يذكره الجاحظ من أدب ورواية، وفيما يسرده من آراء رجال البيان العربي في البلاغة وعناصرها ومذاهبها، ويكفي لظهورها

1 85 و86/ البيان.

2 ص7 مقدمة نقد النشر.

ص: 163

في هذا المظهر صبغ شخصية الجاحظ لهذه الروايات بصبغته، وهضم عقليته لها وإخراجها في أسلوبه الساحر، وفي استطراده الفاتن العجيب وفي سعة تامة وإحاطة كبيرة باللغة والأدب والبيان.

وهي في تعليقه على هذه الروايات والآراء، وفي نقده لها وحكمه عليها، ولن نحصي من ذلك نقده للآراء العامة في الأدب وما يتصل به، مما نراه في تعليقه على رأي الأهتم في الأحنف بن قيس1، وفي موافقته لرأي إياس في حمد إ عجاب الرجل بقوله2، وفي تعليقه على الحكمة القائلة: قيمة كل امرئ ما يحسنه3، وفي ثنائه على كلمة بليغة لمحمد بن علي4، وفي نقده لرأي في تعليل تهيب عمر في خطبة النكاح5، وفي مناقشته لكلمة عن ابن الزبير 6، وفي نقده لمن يستحمق المعلمين ورعاة الغنم7، وفي نقده لرأي من يضع الحبشة مع الأمم العريقة في الثقافة8، وفي نقده رواية خطبة رويت لمعاوية9 إلى آخر ما فيه من التعليق والنقد في هذا الباب. إنما نريد نقده لما يتصل بالبيان من آراء ومذاهب تمس صميم البلاغة العربية، ولا بأس أن نعد بعض هذه التعاليق والنقود.

أنشد خلف الأحمر الجاحظ:

وبعض قريض القوم أولاد علة

يكد لسان الناطق المتحفظ

فعلق الجاحظ على هذا البيت تعليقًا جميلًا، فالشعر "إذا كان مستكرهًا وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلًا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلات

وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فيعلم بذلك أنه أفرد إفراغًا جيدًا

1 57 و58/ 1.

2 82/ 1.

3 73/ 1.

4 74/ 1.

5 92/ 1.

6 192/ 1.

7 174/ 1.

8 143/ 1.

9 57/ 2.

ص: 164

وسبك سبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري على الأذهان1" وذلك تقرير لبلاغة الألفاظ والنظم ولتنافر الحروف والكلمات سبق إليه الجاحظ عبد القاهر وشيعته والسكاكي ومدرسته بقرون.

ويرى بليغ أن بلاغة الكلام في أن يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك، والجاحظ يثني على هذا الرأي ويجتبيه2.

ويرى ابن المقفع أنه يجب أن يكون في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته "91/ 1 بيان"، فيشرح ذلك الجاحظ ويدلي برأيه فيه 3، مقررًا بلاغة الاستهلال تقريرًا ليس بعده من غرابة.

والجاحظ جد معجب ببلاغة الكتاب، يتجلى ذلك في نقده لمذهبهم الأدبي في الكتابة والبيان4، وهو يرى أن حديث الأعراب الفصحاء بالغ الغاية في الامتاع، وليس أفتق للسان ولا أجود تقويمًا للبيان "5" منه، كما يعجب ببلاغة المتكلمين والنظارين ويراهم فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء6.

وذكر الجاحظ رأي إبراهيم بن محمد في البلاغة وأنه يكفي من حظها ألا يؤتي السامع من سوء إفهام الناطق ولا الناطق من سوء فهم السامع، ثم أشاد به وأثنى عليه "75/ 1".

واختلف علماء البيان في الخطابة وهل يستجاد فيها الإشارة والحركة؟ فذهب النظام إلى استجادتها، وجعلها رجل كأبي شمر

1 62/ 1.

2 91/ 1.

3 92/ 1.

4 105/ 1 و225/ 3.

5 110/ 1.

6 106/ 1.

ص: 165

عيبًا في الخطيب، والجاحظ يذكر ذلك ويميل إلى رأي أستاذه النظام محللًا رأي أبي شمر ويرجعه إلى صفاته الخلقية والنفسية من الوقار والتزمت "69 و77 و78/ 1".

ويختلفون كذلك في شيء آخر يمس الخطيب والبليغ، فهل السمت والجمال من تمام آلة البليغ أم لا؟ يورد الجاحظ ذلك ويذكر بتفصيل رأي سهل بن هرون في عدم عدهما من أدوات البلاغة "76/ 1"، ولا شك أن الجاحظ كان يدافع عن نفسه بما أورده وفصله في ذلك الموضوع.

وكثرة الكلام يراها بليغ كاياس خيرًا وبلاغة، ولكن الجاحظ يرد عليه؛ لأن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية "82/ 1"

وكذلك إعادة الحديث من العلماء من ذمة ومنهم من حمده ومنهم من جعل لحمده مواضع وأسبابًا، والجاحظ يتكلم في ذلك ويدلي برأيه فيه ويجعله على قدر المستمعين له ودرجاتهم العقلية، ويعلل سر ما في الذكر الحكيم من إعادة وتكرير "84 و85/ 1".

والجاحظ يروي في وصف ثمامة بن أشرس لبلاغة جعفر بن يحيى "85/ 1"، ويصف هو بلاغة ثمامة "89/ 1"، ويصف بلاغة بليغ يحذر من سحر الكلام وأثره ويدعو إلى اجتناب السوقي والوحشي وإلى أن لا يجعل الأديب همه في تهذيب الألفاظ وشغله في التخلص إلى غرائب المعاني "176 و177/ 1" والجاحظ هو نفس هذا البليغ، وكثيرًا ما يتكلم فيخرج آراءه في معرض الرواية عن سواء لغرض سنعلمه بعد حين، وذلك كله يستحق الدراسة والإمعان؛ لأنه يمس عناصر البيان وبلاغته.

والخطبة يستحسن أن يكون فيها أي من القرآن أو بيت من الشعر أم لا؟ يذكر ذلك الجاحظ ويروي مذاهب البلغاء فيه "93/ 1" ويذكر أن منها الطوال ومنها القصار، وأن لكل مواضع تليق به "19/ 2".

ص: 166

ويرى العتابي أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ، فيذكر الجاحظ ذلك ويحلله "121/ 1".. والصمت يحمده قوم ويذمه قوم "143-146، 183/ 1" والجاحظ يقف من هؤلاء وهؤلاء موقف الناقد الحصيف، فيناقش رأي من آثر الصمت "147، 148، 184، 185، 205 جـ1" ويدلي برأيه هو في قوة وروعة، داعيًا إلى ألا يتمسك البليغ بحكمة الصمت مادام يجد القوة والمقدرة والملكات البيانية المواتية "147/ 1".

والشاعر أو البليغ قد يستطيع فنا من فنون البيان ويجيد فيه دون فن آخر، ورأى بعض الشعراء حين سئلوا عن عدم إحسانهم في بعض أنواع الشعر وفنونه أن ذلك ليس مرجعه قصورًا في ملكاتهم أو عجزًا في مقدرتهم الأدبية، والجاحظ يناقشهم ويفيض معهم في الجدال ذاهبًا إلى أن الرجل قد يكون له طبع في فن من فنون الأدب دون فن وفي باب دون باب "51، 150، 151 جـ1، 259 جـ2".

وبلاغة المتقعرين من اللغويين والنحويين يستسمجها الجاحظ وينقدها ويرى أن نهجهم فيما ليس من أخلاق الكتاب ولا آدابهم "240/ 1".

وللشعوبيين رأي في العرب وبيانهم، والجاحظ لا يدعهم دون أن يحاسبهم ويناقشهم ويرد عليهم في قوة وحرارة دفاع، وفي كل ما أخذوه على العرب، لا سيما ما يمس البيان والبلاغة بوجه خاص "15 و16/ 3".

ويرى بعض الباحثين أن أداة الكتابة وقريض الشعر كانت في رسول الله "ص" معدومة، فيناقش الجاحظ رأيهم ذاهبًا إلى أنها كانت في رسول الله تامة، ولكنه "ص" صرف تلك القوى إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأراد أن لا يكون للشاعر متعلق عما دعا إليه، وأنه "ص" لما طال هجرانه لقرض الشعر وروا يته صار لسانه

ص: 167

لا ينطبق به، والعادة توأم الطبيعة "230 و231/ 3"، ونحن نستجيد رأي الجاحظ كل الاستجادة. وعلل الجاحظ أمية رسول الله وعدم قرضه الشعر في إفاضة وقوة بيان "228/ 2"، وأدلى برأيه في قوله صلى الله عليه وسلم: نحن معشر الأنبياء بكاء "276/ 3".

وأخيرًا فهذه هي شخصية الجاحظ في بعض ما ناقش فيه آراء رجال البيان وهي لعمري شخصية قوية مهيمنة لا تدعك حتى تؤمن بالجاحظ وثقافته ومذهبه واتجاهه في الأدب والبيان.

وللجاحظ فوق ذلك كله شخصية الباحث في أصول البيان العربي:

1-

فالجاحظ أظهر من تكلم في البيان وحاجته إلى التمييز والسياسة والترتيب والرياضة وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وأن حاجة الكلام إلى الحلاوة كحاجته إلى الجزالة. وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتزين به المعاني "30/ 1" ولذلك فقد تحدث عن عيوب المنطق وآفات اللسان "31 و33 و44-46 و58-62 و66 و67 جـ1"، وتكلم على تنافر الحروف والألفاظ "62-64 جـ1" ونادى بضرورة تجنب البليغ ألفاظ المتكلمين "106-108 جـ1" وبترك الوحشي والسوقي "110، 176 جـ1" وكراهة الهذر والتكلف والتعقيد والتقعير والإسهاب والفصول "21 و141 و239 جـ1"، ونفي الكلام الملحون عن أن يكون من البلاغة "121-124 جـ1" متحدثًا عن اللحن واللحانين "155-154 جـ2".. وذكر البيان وأن مداره على الإفهام "68/ 1"والوضوح مع شرف المعنى وبلاغة اللفظ وصحة الطبع والبعد عن الاستكراه والتكلف ومع قوة التأثير وسحر البيان "73 و75 و89 جـ1" وأن يكون الكلام موزونًا أصيب به مقدار الحاجة "161 و62 جـ1" مع العارضة واللسن "130، 163 جـ1" ومع ترك الإسراف في الصنعة والتهذيب "176/ 1" ومع استعمال

ص: 168

المبسوط والمقصور في موضع البسط والقصر "281/ 2" ومع الطبع المتمكن والديباجة الكريمة والماء والرونق "224 و225 جـ3" ومتى شاكل اللفظ معناه وأعرب عن فحواه وكان لتلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لفقًا، وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف والفضول والتعقيد، حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان وهشت إليه الأسماع وخف على الألسن وشاع في الآفاق. وكثيرًا ما يكرر الجاحظ اصطلاحات أدبية خاصة مثل "صناعة الكلام""69 و220 جـ1" وصناعة المنطق "48 و67و 209 و242 جـ1" وهو يعني بذلك هذا اللون الخاص من البيان البلاغي الذي يرسم مناهج الأداء.

وعني الجاحظ أكثر ما عني بالخطابة فأطال الكلام في أوصافها وعناصرها وأدواتها ومظاهرها وفي هيئة الخطيب وسمعته، وذكر عيوبها وآفاقها، ودعا الخطيب إلى مراعاة شتى المقامات والأحوال، وإلى أن يطيل حيث تجب الإطالة ويوجز حيث يجب الإيجاز، وذكر أكثر أعلامها ورجالها حتى عصره، كما تكلم على رسالة الخطيب وأثرها في نفسه، وأورد من الخطب القصار والطوال الكثير الرائع.

وتكلم على النثر والمحادثة والكتابة: بلاغتها وعناصرها ومذاهب الكتاب الأدبية فيها، وعلى سحر الحديث المعاد، والسجع مطبوعة ومتكلفة وبلاغة المطبوع منه، وعلى اللحن وبدء ظهوره واللحانين، وكثير من المثل في لحنهم، وذكر الحكم والمواعظ والزهد والدعوات السياسية والدينية وكثيرًا من مثلها، وتكلم على رواية الأدب وطبقات الرواة من نحويين ولغويين وإخباريين وأدباء واتجاهاتهم في الرواية.

كما ذكر الشعر وأثره وخطره وألوانه وطبقات الشعراء، وتحدث عن مذاهب المطبوعين وأصحاب الصنعة منهم، وعن الحوليات ورجالها، وذكر بعد كلام الله ورسوله عن الشعر ومكانة الشعر والشعراء في الجاهلية وكيف غلبته الخطابة أخيرًا بعد التكسب بالشعر وكثرة الشعراء، وحتم على الأدباء الناشئين عرض ثمراتهم الأولى على أولى

ص: 169

العلم ورأى أن اجتماع الشعر والرجز والخطابة قليل، وقلما ينبه الإنسان في أكثر من فن واحد منها، وأن الشعر والغناء والنادرة مما يستجاد أطرافها دون أوساطها، وتكلم على استواء الشاعرية واختلافها. إلى غير ذلك مما يتصل بصميم البيان، ومما تراه متفرقًا في الأجزاء الثلاثة من كتاب البيان.

2-

ودعوة الجاحظ في كتابه "البيان" -وفي مواضع متفرقة منه لا سيما الجزء الأول من كتابه الكبير- إلى مذهب أدبي جديد مستمد من عقليته وثقافته وبيئته: هي المظهر القوي من مظاهر شخصية الجاحظ الواضحة في كتابه البيان والتبيين. ويمكننا إرجاع هذا المذهب إلى عناصره الأولى من: سحر اللفظ وتلاؤم الحرف، ووضوح المعنى وترك التكلف والتعقيد والإغراب والوحشية والسوقية، ومراعاة المقام وإصابة الغاية مع الحذق والرفق والتخلص إلى حبات القلوب وإصابة عيون المعاني في سحر إيجاز، ومع البعد عما يكره من مظاهر مذمومة في البيان مما يتعلق بخلق البليغ وخلقه أو طبعه وزيه، ومع الحرص على صبغ ذلك ذلك كله بصبغة الرجل وأسلوبه وظهور شخصيته وأثره فيه. ومع مسايرة الأديب للحركة الفكرية العامة في بيئته، ومع الحرص على إيثار نشاط السامعين والقراء والاحتيال عليه. بالفكاهة الجميلة، والاستطراد الساحر، وبراعة الأسلوب وسحره وقوته، والرواية الكثيرة لأعلام الأدب والبيان التي تلقي في روع السامع والقارئ روح الهيبة والإعجاب بهم وبالمؤلف، وبمناقشة الآراء التي تستحق المناقشة والنقد مما تجعل السامع والقارئ متطلعًا مسايرًا للمؤلف في اتجاهاته الفكرية والأدبية، إلى غير ذلك من عناصر هذا المذهب الأدبي التي ترجع إلى المعنى والأسلوب دون حرص على ترف البيان أو طلب لشتى ألوان البديع إلا إذا طلبها الطبع واستدعاها المقام. ومن الجدير بالملاحظة أن كثرة الرواية في كتاب الجاحظ التي رآها بعض الباحثين المعاصرين من أسباب ضعف شخصيته إنما هو غرض قصد إليه الجاحظ وأراده، ليشعر القارئ بروحه ويؤمن

ص: 170

بما يوجهه المؤلف إليه من آراء وأفكار، وليكتسب به رضاه وتقديره وإعجابه. ولا أحيلك في فهم مذهب الجاحظ ذلك على صفحة من كتابه، فاقرأ أي صفحة وعلى الأخص الجزء الأول من هذا الكتاب، فتؤمن معي بما ذكرت.

3 -

وقد ظهر الجاحظ في عصر شاع فيه اتجاهان أدبيان مختلفان: اتجاه يرمي إلى الظهور بمظهر البداوة التقليدي في الأداء والتعبير فيؤثر الغريب من الألفاظ والعنجهي من الأساليب متناسيًا روح العصر وذوقه، واتجاه آخر تأثر بالحياة السياسية والاجتماعية وبألوان الحضارة في العيش والتفكير، فمال إلى رقة الأسلوب وسهولته، مع حرص على إرضاء الطبع والذوق، وشاهد الجاحظ هذه التيارات الفكرية والأدبية المنوعة وعاصرها ولكنه مال بطبعه وذوقه إلى الاتجاه الأخير، وكتابه البيان كله دعوة إلى هذا الرأي، فهو حينًا يشيد بأدب الكتاب ومذهبهم في البيان "105/ 1"، وحينًا يكرر الدعوة إلى الوضوح والإفهام ومسايرة الذوق والطبع "73 جـ1 و20 جـ2 و225 جـ3"، وحينًا ينقد مذاهب الصنعة في الشعر "54، 150 جـ1 و21، 25 و26 جـ2" وحينًا يدعو إلى ترك التكليف والتعقيد والتقعير وإيثار الأساليب السمحة الكريمة الساحرة "110 جـ1 و20، 21 جـ2 و224 جـ3".

4-

وتكلم الجاحظ عرضًا على ألوان كثيرة من البيان، وحال كثيرًا من أساليبه البيانية:

ذكر البديع، حينما ذكر بعض مثله وأساليبه، ورأى أنه مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وذكر كثيرًا من الشعراء الذين أكثروا منه في شعرهم، "ورأى أنه لم يكن في المولدين أصوب بديعًا من بشار وابن هرمة "242 جـ3، 54 و55 و1".. وتكلم على ألوان من البيان من سجع ومزدوج وقصيد وإجازة "16 جـ3". فأما السجع فقد تكلم عليه الجاحظ بتفصيل وذكر آراء رجال البيان فيه

ص: 171

وآثر المطبوع منه "194 و195 جـ1" وأما المزدوج من الكلام فقد ذكر له مثلًا في باب صغير عقده له "96 جـ2" ومن مثله التي ذكرها الحديث: "اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب". وقول مالك بن الأخطل في الشاعرين "الفرزدق وجرير" جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر.

وتكلم على الاستعارة وعرفها حين ساقه الكلام إلى ذكر مثل من مثلها ورآها تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه "115 و116 جـ1"، ويرجع بعض الأساليب إلى الإستعارة "راجع 192/ 1".. وذكر التفصيل والتقسيم حين مر بأسلوبين من أساليبهما "170/ 1، 91، 92/ 2".. وتكلم على الاستطراد وبلاغته وأثره في التأليف والكتابة "138/ 1، 105/ 3"

وذكر كثيرًا من مثل الكناية وحللها "180/ 1، 31 جـ3".. كما ذكر كثيرًا من الأمثال التي ضرب بها العرب المثل "86، 183 جـ1".. وتكلم على جودة الابتداء وجودة القطع والقافية -أي حسن خاتمة الكلام والشعر- "89 و155 جـ1".. وعقد الجاحظ بابا قال فيه: ويذكرون الكلام الموزون ويمدحون به ويفضلون إصابة المقدار، وذكر كثيرًا من مثله، وهذا هو باب الاحتراس الذي ذكره البيانيون.. وحلل الجاحظ كثيرًا من الأساليب البيانية البليغة "راجع 163، 166 جـ1 و201 جـ2" تحليلًا بيانيًّا احتذى حذوه فيه العلماء، وذكر مثلًا رائعة للتشبيه "229/ 2" وأشار إليه في الجزء الثالث ص243، وعقد الجاحظ فصلًا من فصول كتابه عنونه بباب اللغز في الجواب "216/ 2"، والمذهب الكلامي نوع من البديع كان الجاحظ أول من لقبه1 به، والجاحظ جد خبير بمذهب الايجاز وكثيرة الدعوة والإشارة إليه "81 جـ1 و198 جـ2" وأشار الجاحظ إلى أسلوب القلب "180 جـ1"، وإلى سواه من الأساليب التي يعني بها علماء البلاغة.

1 راجع البديع لابن المعتز نشر محمد خفاجي، 76/ 2 العمدة.

ص: 172