المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حول المجاز العقلي - الإيضاح في علوم البلاغة - جـ ١

[جلال الدين القزويني]

الفصل: ‌حول المجاز العقلي

والخلاصة:

أن أسلوب المجاز العقلي قد اختلف فيه العلماء:

1-

فسيبويه ومن تابعه يقولون: هو على تقدير محذوف -نقام ليلي أي نمت في ليلي.

2-

وأناس يقولون: المجاز في الفعل وحده وهو "نام"

فهو فيه مجاز لغوي لا غير، ويرد عبد القاهر هذا الرأي ردًّا مطولًا في كتابه "الأسرار". ولكن الأبهري اتخذ ذلك مذهبًا في شرحه على العضد، ورد على ذلك الخفاجي في "طراز المجالس".

3-

وأخرون يقولون: المجاز في الفاعل وحده وأنه على تشبيهه بالفاعل الحقيقي، وعبد القاهر يرد على ذلك، ولكن الزمخشري يلوح كلامه باعتقاده هذا الرأي، والسكاكي ذهب إليه وحده، وجعله مذهبًا له في التخلص من المجاز العقلي.

4-

وعبد القاهر يرى أن المجاز في الإسناد، وأن تشبيه الفاعل غير الحقيقي بالفاعل الحقيقي إنما هو عبارة على العلاقة في هذا التجوز العقلي وأن تقدير المضاف في أسلوب المجاز العقلي صار كالشريعة المنسوخة، فهو غير منظور إليه الآن

ولا شك أن رأي عبد القاهر هو أمثل هذه الآراء في فهم بلاغة هذا الأسلوب.

ص: 120

‌حول المجاز العقلي

1-

الحقيقة العلمية والمجاز العقلي عند الخطيب من صفة الإسناد لا الكلام، حيث قال:"ثم الإسناد منه حقيقة عقلية ومجاز عقلي"؛ لأن المتصف بالحقيقة والمجاز في الواقع هو ما تسلط عليه التصرف

ص: 120

العقلي وهو الإسناد، فاتصاف الكلام بهما بالتبع للأمر العقلي وهو الإسناد، واتصاف الإسناد بهما بطريق الأصالة، فجعل الإسناد معروضًا لهما. وذلك أولى -لكون ذلك بالأصالة- من جعل الكلام معروضًا لهما؛ لأن ذلك بالتبع، وكلام الزمخشري يؤيد الخطيب. أما السكاكي فجعلهما صفتين للكلام حيث قال:"المجاز العقلي هو الكلام المقاد به خلاف ما عند المتكلم إلخ"، والحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم إلخ".

أما كلام عبد القاهر من قوله: "مجاز واقع في الإثبات" وقوله "الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل"، فظاهره أن المتصف بذلك هو الإسناد. ولكن قوله في حد الحقيقة في الجملة:"كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهو حقيقة"، وفي حد المجاز العقلي فيها:"فكل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل لضرب من التأويل فهو مجاز"، وقوله "لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد الأمرين"، كل ذلك يوهم أنهما عنده صفتان للكلام لا للإسناد.

ولكن الحق أن عبد القاهر يجعلهما وصفًا للإسناد بالذات فإذا وصف بهما الكلام فباعتبار اشتماله على الإسناد. فرأيه مؤيد لما سبق عن الخطيب، وهذا ظاهر مما نقله ابن الحاجب في رأي الشيخ، عبد القاهر أيضًا من أنه يجعلهما وصفًا للإسناد، كما أن ذلك هو رأي جمهور علماء البلاغة، ولكن السعد يرى أن عبد القاهر يجعلهما وصفًا للكلام كصاحب المفتاح، والحق أن السعد في ذلك قد وهم بظاهر بعض كلام عبد القاهر، فالحق أن عبد القاهر يرى أنهما وصفان للإسناد. ثم قال السعد:"قال الخطيب: وإنما اخترنا أنهما صفة للإسناد؛ لأن نسبة الشيء الذي يسمى حقيقة أو مجازًا إلى العقل على هذا لنفسه بلا واسطة وعلى قولهما "عبد القاهر والسكاكي" لاشتماله على ما ينسب إلى العقل أعني الإسناد، يعني الخطيب أن

ص: 121

تسمية الإسناد حقيقة عقلية إنما هي باعتبار أنه ثابت في محله ومجاز باعتبار أنه متجاوز إياه والحاكم بذلك هو العقل دون الوضع؛ لأن إسناد كلمة إلى كلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة.

فإن ضرب مثلًا لا يصير خبرًا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلًا له وإنما الذي يعود إلى الواضع أنه لإثبات الضرب دون الخروج وفي الزمان الماضي دون المستقبل1 فالإسناد ينسب إلى العقل بلا واسطة والكلام ينسب إليه باعتبار أن إسناده منسوب إليه".. فالسعد يثبت هنا أمرين:

1-

أن المجاز في الإسناد عقلي وكذلك الحقيقة في الإسناد عقلية.

2-

أن المجاز والحقيقة العقليين راجعان إلى الإسناد.

فالخلاصة أنهما وصفان للإسناد إلا عند السكاكي على أن كلام السكاكي ربما أمكن تأويله، أفلا تراه يقول: المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل والحقيقة هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه فيجعل مناطهما الحكم "وهو الإسناد"، ويسميه -تبعًا لعبد القاهر- أحيانًا مجازًا حكميًّا ومجازًا في الإثبات، أفلا يدل ذلك على أن السكاكي يعتبر التجوز إنما هو أولًا في الإسناد، فيكون على هذا وصفًا له، قال السبكي: بل لا يصح من جهة المعنى إلا ذلك.

الحق أن جمهور علماء البلاغة على أن المجاز والحقيقة العقليين إنما هما وصف للإسناد، وما يوهمه كلام السكاكي فمؤول، وتأويل ما يوهمه عبد القاهر في ذلك أظهر في باب التأويل إذ لا يحتاج في تأويله إلى دليل.

1 راجع 355 و356 أسرار.

ص: 122

2-

ذكر الخطيب المجاز العقلي في علم المعاني وذكره السكاكي في علم البيان. أما حجة الخطيب فهي أن المجاز العقلي داخل في تعريف علم المعاني لا البيان فكأنه مبني على أنه من الأحوال المذكورة في تعريف المعاني كالتأكيد والتجريد عن المؤكدات، فهو من أحوال اللفظ -بواسطة أنه من أحوال الإسناد- التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال، قال السعد:"وفيه نظر؛ لأن علم المعاني إنما يبحث عن الأحوال المذكورة من حيث إنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال وظاهر أن البحث في الحقيقة والمجاز العقليين ليس من هذه الحيثية -وإلا لو كانا من الأحوال المعهودة لذكر المصنف الحال التي تقتضي الحقيقة والمجاز كما ذكر في غيره من المباحث الآتية- فلا يكون داخلًا في علم المعاني وإلا فالحقيقة والمجاز اللغويان أيضًا من أحوال المسند أو المسند إليه"، هذا اعتراض قوي من السعد، تخلص منه بعض العلماء بحجة واهية وهي أن الخطيب إنما ذكر المجاز والحقيقة العقليين هنا على طريق الاستطراد لا غير أي لا لمناسبة.

أما حجة السكاكي في ذكرهما في علم البيان فقوية، قالوا: لما كان علم البيان موضوعًا لبيان ما يعرف به كيفية إيراد المعنى الواحد بطريق مختلفة في وضوح الدلالة واختلاف الطرق يكون بالحقيقة والمجازية في الجملة، أوردهما في علم البيان، ولكن الخطيب -كما سبق- راعى أنهما من أحوال الكلام المفيد، باعتبار عروضهما لإسناده الذي به صار مفيدًا، والكلام المفيد تراعى فيه المعاني الزائدة على أصل المراد ليطابق بها الكلام مقتضى الحال، بخلاف الحقيقة والمجاز اللغويين فليسا من أحوال الكلام المفيد بل من أحوال أجزائه، والمفيد من حيث أنه مفيد بالإسناد هو المعروض للمعاني الزائدة على أصل المعنى المراد ليطابق بها مقتضى الحال كما تقدم.

قال ابن يعقوب: لكن يرد على هذا أنهما يكونان من علم المعاني أن ذكرا فيه من حيث المطابقة لمقتضى الحال، ولم يذكرا فيه

ص: 123

من تلك الجهة والحيثية بل من حيث تفسيرهما وذكر أقسامهما، وقد يجاب عن هذا بأن تصور حقيقتهما يدرك معه بسهولة ما يذكر في علم المعاني من كيفية الاستعمال للمطابقة لمقتضى الحال؛ لأنه إذا علم أن المجاز يفيد تأكيد الملابسة علم أنه لا يعدل إليه عند اقتضاء المقام لذلك التأكيد مثلًا فكأنه ذكر ولم يصرح به لوضوحه.

الحق مع السكاكي في عدهما من علم البيان، وما قيل عن عدهما في المعاني تكلف محض، ولابن السبكي رأي غريب في توجيه حجة السكاكي في عدهما من البيان، قال: جعلهما السكاكي في علم البيان؛ لأنه كان ينكر هذه الحقيقة وهذا المجاز فلذلك ذكرهما ثم.

3-

المجاز والحقيقة العقليان وصف للإسناد مطلقًا سواء كان خبريًّا أو إنشائيًّا ولهذا قال الخطيب "ثم الإسناد منه حقيقة عقلية إلخ" فأتي بالاسم الظاهر دون الضمير -وإن كان المحل للضمير حيث كان السياق أن يقول ثم منه- لئلا يتوهم عوده على الإسناد المقيد بالخبرى في قوله "أحوال الإسناد الخبري، وارتكاب الاستخدام في الكلام خلاف الأصل"، ولا يرد أن المعرفة إذا أعيدت بلفظ المعرفة كانت عين الأولى فما لزم على الإتيان بالضمير لازم على الإتيان بالاسم الظاهر؛ لأنا نقول ليس هذا كليا بل مقيد بما إذا خلا عن قرينة المغايرة. ومما يدل على أن المراد الإسناد مطلقًا الأمثلة الآتية من نحو:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} . وليس المراد خصوص الخبري كما قد يتوهم من كون البحث في الإسناد الخبري.

والحقيقة والمجاز العقليان يقتضي ذكرهما في الإسناد الخبرى وجعلهما وصفًا للإسناد مطلقًا -إنشائيًّا كان أو خبريًّا- اختصاصهما بالإسناد التام؛ لأن الإنشاء والإخبار وصفان له. مع أنهما لا يختصان بالإسناد التام بل يكونان في الإسناد الناقص كما في إسناد المصدر للفاعل وللمفعول به مثل أعجبني ضرب زيد وجري النهر وأعجبني إنبات الله البقل أو إنبات الربيع البقل.

ص: 124

وأجاب الحفيد بأن المراد بالإنشائي والإخباري الإسناد في الجملة الإنشائية والإخبارية سواء كان تامًّا أو ناقصًا فتناول ما ذكر، فالمراد بالإسناد مطلق النسبة مجازًا مرسلًا من إطلاق المقيد على المطلق فإن الإسناد هو النسبة التامة واستعمل في مطلق النسبة: تامة كالإسنادية أم غير تامة مثل الإضافية والإيقاعية. وأجاب المطول بأن المراد بالإسناد أعم من أن يكون صريحًا أو مستلزمًا.

قال الخطيب: والمجاز العقلي غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} وقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} وقوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} وقد سبق إلى ذلك السكاكي "169 المفتاح".

وقال السعد نقلًا عن السكاكي: لما كان تقييده بالمجاز في الإثبات وإيراده في أحوال الإسناد الخبرى يوهم اختصاصه بالخبر؛ لأن الإثبات لا يتحقق في الإنشاء إذ الإثبات يقابل الانتزاع، وكل منهما حكم، ولا حكم في الإنشاء؛ لأنه من قبيل التصورات، قال الخطيب وهو غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء كما في {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي قصرًا عاليًا.

فالمجاز العقلي يدخل في الخبر، ويدخل في الإنشاء ويظهر ذلك في دخوله في أنواع الإنشاء الآتية:

1-

الأمر 2- النهي 3- الاستفهام عند ابن يعقوب لا السبكي 4- أما النداء فلا تقدر على دخول المجاز العقلي فيه كما قال السبكي 5- وأما غير الإنشاء الطلبي: فالقسم لا تكاد تقدر عليه كما ذكره السبكي، والعلاقة في المجاز العقلي في الإنشاء كما هي في الخبر، فقد تكون السببية مثل ابن لي صرحًا أو المكانية مثل ليت النهر جار أو الزمانية مثل ليصم ليلك أو الآلة مثل لتقطع السكين إلخ.

ص: 125

4-

ومما سبق الإشارة إليه في الملاحظة السابقة نعلم أن المجاز العقلي أعم من أن يكون في النسبة الإسنادية أو غيرها، فكما أن إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه مجاز، فكذا إيقاعه على غير ما حقه أن يوقع عليه، وإضافة المضاف إلى غير ما حقه أن يضاف إليه؛ لأنه جاز موضعه الأصلي، فالمذكور في الخطيب إما تعريف للمجاز العقلي في الإسناد خاصة أو لمطلقه باعتبار أن يجعل الإسناد المذكور في التعريف أعم من أن يدل عليه الكلام بصريحه كما مر أو يكون مستلزمًا له كما في:{شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} فإنه جعل البين شقاقًا في الآية، وكما في {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} حيث جعل الليل والنهار ماكرين، وكما في يا سارق الليلة أهل الدار فإنه جعل الليل مسروقة، وكما في {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} ، حيث جعل الأمر مطاعًا

وكذا فيما جعل فيه الفاعل المجازي تمييزًا كقوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34] ؛ لأن التمييز في الأصل فاعل، قال السعد: واعلم أن المجاز العقلي قد يدل عليه صريحًا كم مر، وقد يكون كناية كما ذكروا في قولهم "سل الهموم" أنه من المجاز العقلي حيث جعل الهموم مخزونة بقرينة إضافة التسلية إليها، فافهم ولا تقصر المجاز العقلي على ما يفهم من ظاهر كلام السكاكي والخطيب، وقال الدسوقي: المجاز العقلي والحقيقة العقلية يجريان في الإضافة مثل أعجبني جري الماء في النهر وجري النهر، وفي الإيقاعية مثل نومت ابني في الليل ونومت الليل أي أوقعت النوم عليه، فلا تختص الحقيقة والمجاز بالنسبة الإسنادية كما يوهمه كلام الخطيب؛ لأنهما كما يجريان في الإسنادية يجريان في الإضافة وهي النسبة الواقعة بين المضاف والمضاف إليه، وفي الإيقاعية وهي نسبة الفعل للمفعول فإن الفعل المتعدي واقع على المفعول أي متعلق به -ولكن يلاحظ أن ظاهر هذا يقتضي أن الايقاعية غير تامة مع أن نسبة الفعل للمفعول إنما تعتبر بعد التمام فكان الأولى الاقتصار على الإضافية إلا أن يقال إنهم التفتوا إلى نسبة الفعل للمفعول في حد ذاته بقطع النظر عن نسبته

ص: 126

للفاعل ولا شك أنها غير تامة.. فنحو أعجبني جري الأنهار من النسب الإضافية وهو مجاز عقلي وكذلك أعجبني إنبات الربيع البقل، فهما مجازان في النسبة الإضافية لكن هذا إذا جعلت الإضافة بمعنى اللام وأما لو جعلت بمعنى في فلا يكون مجازًا بل حقيقة، فلا بد من النظر لقصد المتكلم ونفس الأمر فإن كان ما قصده مناسبًا بحسب نفس الأمر فحقيقة وإلا فمجاز. ومجرد مناسبة نوع من الإضافة لا يقتضي أن تكون حقيقة ما لم يقصده.

5-

حديث المجاز العقلي أنه تجوز في الإسناد كما قال الخطيب أو تجوز في النسبة أعم من أن تكون إسنادًا أو إضافة أو إيقاعًا مصرحًا بها أو مكنية عنها كما رأى السعد، فما الحكم إذا في:

أ- وصف الفاعل أو المفعول بالمصدر نحو رجل عدل، فإنما هي إقبال.

ب- وصف الشيء بوصف محدثه وصاحبه مثل الكتاب الحكيم والأسلوب الحكيم، فإن المبني للفاعل قد أسند إلى المفعول لكن لا إلى المفعول الذي يلابسه ذلك المسند بل فعل آخر من أفعاله مثل أنشأت الكتاب.. فإن كلامه ظاهر في أن المفعول الذي يكون الإسناد إليه مجازًا يجب أن يكون بما يلابسه ذلك المسند. وكذا ما أسند إلى المصدر الذي يلابسه فعل آخر من أفعال فاعله نحو الضلال البعيد فإن البعيد إنما هو الضال وكذا العذاب الأليم فالأليم هو المعذب فوصف به فعله مثل جد جده، كذا في الكشاف وظاهر أن هذا المصدر مما يلابسه ذلك المسند.

أما الجواب عن الأول فقد قالوا: أنه ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأنه إسناد إلى المبتدأ -والإسناد إليه ليس بحقيقة ولا مجاز عند الخطيب- هذا بعيد، والحق أنه مجاز، كما ذهب إليه عبد القاهر

ص: 127

ومن سبقه، وكما يمليه الذوق السليم، قال عبد القاهر في الدلائل:"لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما حتى يكون المجاز في الكلمة وإنما المجاز في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار، فليس المراد تشبيهها بالإقبال حتى يكون تشبيها بليغًا، ولا المراد ذات إقبال ولو كان صحيح المعنى؛ لأن ذلك يفيت المبالغة المقصودة للشاعر وهي كونها لكثرة وقوع الإقبال والإدبار منها صارت نفس كل منهما".

وأما الجواب عن الثاني فهو أن الملابسة أعم من أن تكون بواسطة حرف أو بدونها، وهذه الصورة من قبيل الأول؛ لأن المعنى هو حكيم في أسلوبه وكتابه وبعيد في ضلاله وأليم في عذابه فيكون مما بني للفاعل وأسند إلى المفعول بواسطة، فهو داخل في المفعول ليكون إسناد ما للفاعل له مجازًا؛ لأنه لا يتوصل إليه ذلك المسند إلا بحرف فالمراد بالمفعول ما يتوصل إليه فعل الفاعل بنفسه أو بحرف، فهو مجاز عقلي علاقته المفعولية. فالخلاصة أن الإسناد في:

أ- الإنسان حيوان ليس بحقيقة ولا مجاز عند الخطيب.

ب- هي إقبال وإدبار مجاز عند عبد القاهر والسكاكي وعند السعد.

جـ- كتاب حكيم رده السعد إلى المجاز.

د- نام ليلي أو ليلي نائم الإسناد فيه مجاز قطعًا عند الجميع.

فالخطيب أخرج الإسناد الذي بين المبتدأ والخبر عن أن يكون حقيقة أو مجازًا، ولذلك قال ثم الإسناد منه حقيقة ومنه مجاز ولم يقل إما حقيقة وإما مجاز، وذلك؛ لأن المتبادر من هذه العبارة في تقاسيم الأشياء هو الانفصال الحقيقي "مانعة جمع وخلو معا" أو المانع من الخلو إذ بأحدهما تصير الأقسام مضبوطة، دون المانع.

ص: 128

من الجمع إذ لا يعلم به عدة الأقسام قطعًا، فلو أوردت إما هنا لدلت على انحصار الإسناد في الحقيقة والمجاز والمصنف لا يقول به.

قال السبكي: قال الخطيب: إسناد ما ليس فعلًا ولا متصلًا به لا يسمى حقيقة ولا مجازًا مثل الإنسان جسم، وليس كما قال بل كل خبر ففيه الإسناد وما ذكر يؤدي إلى نفي الإسناد؛ لأن من أثبت الحقيقة والمجاز العقليين فتقسيمه الإسناد إليهما منفصلة حقيقية مانعة جمع وخلو فكل إسناد ليس حقيقة ولا مجازًا لا وجود له، ومن وقف على حدي الإسناد الحقيقي والمجازي عرف ذلك، ثم نقول: الإنسان جسم فيه معنى الفعل باعتبار رجوعه إلى الإسناد المعنوي كما قدروا في زيد أسد زيد جريء، وكذلك يقدر في الجميع.

هذا ويجعل ابن قتيبة مثل نبت البقل وطالت الشجرة من المجاز، ومثل قوله في الغرابة كلام صاحب الذريعة من أنه ينفي المجاز العقلي كافة، قال السبكي: وهما قولان غريبان آخذان بطرفي الإفراط والتفريط والحق بينهما.

وقال الدسوقي: الظاهرية يزعمون عدم وقوع المجاز العقلي في القرآن كاللغوي لا يهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه.. والرد عليهم أنه لا إيهام مع القرينة.

وقال ابن السبكي: في أنبت الربيع البقل إذا لم يكن من كافر ولا كذبًا أقوال:

أ- المجاز لغوي في أنبت وهو رأي ابن الحاجب.

ب- المجاز لغوي في الربيع وهو رأي السكاكي.

جـ- المجاز عقلي في الإسناد وهذا رأي عبد القاهر والمصنف.

د- أنه تمثيل فلا مجاز فيه لا في الإسناد ولا في الأفراد بل هو كلام أورد ليتصور معناه فينتقل الذهن فيه إلى إنبات الله تعالى وهو اختيار الإمام فخر الدين. انتهى كلام السبكي، ونضيف إليه رأيًا خامسًا وهو أنه حقيقة، وهو رأي صاحب الذريعة.

ص: 129