المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحقيقة العقلية والمجاز العقلي: - الإيضاح في علوم البلاغة - جـ ١

[جلال الدين القزويني]

الفصل: ‌الحقيقة العقلية والمجاز العقلي:

‌الحقيقة العقلية والمجاز العقلي:

فصل.

قال الخطيب: الإسناد: منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي.

أما الحقيقة فهي إسناد1 الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر.

1 معناه أي معنى الفعل يشمل المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظرف. وأمثلة المبالغة تدخل في اسم الفاعل، والجار والمجرور يدخل في الظرف. ويدخل اسم الفعل والمنسوب إليه نحو أتميمي أبوك؟.

وقولنا "إلى ما هو له" أي إلى لفظ يكون الفعل أو ما في معناه له، أي لمعنى ذلك اللفظ: أي مدلول الفعل ومدلول اللفظ الدال عليه معنى الفعل ثابت لمدلول ذلك اللفظ.

معنى ذلك أن الحقيقة هي إسناد لفظ أي لفظ دل على معنى الفعل إلى لفظ له، فإذا قلنا "ضرب زيد" فقد أسندنا إلى الفاعل لفظ الفعل وهو ضرب الدال على المعنى الذي هو وصف الفاعل فيكون حقيقة، وكذا إذا قلنا "ضرب عمرو" فقد أسندنا إلى المفعول وهو "عمرو" لفظ الفعل الذي هو "ضرب" الدال على وصف المفعول فيكون حقيقة. فالشيء المسند إليه الذي ثبت له الفعل أو معناه منحصر في الفاعل فيما بني للفاعل، والمفعول به في فعل بني للمفعول، فإن الضاربية لزيد ثابتة له والمضروبية ثابتة لعمرو، بخلاف "نهاره صائم" فإن الصوم ليس ثابتًا للنهار بل للشخص، فلذا كان الإسناد فيه مجازًا، لكونه لغير من هو له.

ولا يدخل هنا المبتدأ عند المصنف، نحو إنما هي إقبال؛ لأن الإسناد إليه عنده وساطة بين الحقيقة والمجاز، أما عند عبد القاهر والسكاكي =

ص: 80

والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر واسم الفاعل. وقولنا "في الظاهر" ليشمل مالا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع وما لا يطابقه.

فهي أربعة أضرب:

أحدهما: ما يطابق الواقع واعتقاده، كقول المؤمن:"أنبت الله البقل" و"شفى الله المريض".

والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده، كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه:"خالق الأفعال كلها هو الله تعالى".

= فالمبتدأ كالفاعل والمفعول فيما أسند إليه. فالإسناد في "زيد قائم" ليس حقيقة ولا مجازًا عند الخطيب، وكذلك فيما كان الخبر فيه جامدًا مثل "هذا معدن"، وأما إسناد "قائم" إلى ضمير زيد فهو حقيقة.

ثم المراد يكون المسند للمسند إليه كونه وصفًا له وحقه أن ينسب إليه بالاتصاف. فمتى كونه له أن معناه قائم به وهو متصف به ومنتسب إليه. وقوله إلى ما هو له يشمل ما هو له في الواقع والاعتقاد معًا أو في الواقع فقط.

وقوله "عند المتكلم" أي لما هو له عند المتكلم لا في الواقع ونفس الأمر.. وبهذا دخل في تعريف الحقيقة: ما طابق الاعتقاد دون الواقع كقول الجاهل "أنبت الربيع البقل".

وقوله في "الظاهر" وعند المتكلم متعلقان بقوله "له". وفي الظاهر -أي في ظاهر حال المتكلم- يدخل ما لا يطابق الاعتقاد سواء طابق الواقع أم لا.

وبهذا صار التعريف متناولًا لأربعة أقسام: ما يطابق الواقع والاعتقاد وما لا يطابق شيئًا منهما. وما طابق الواقع دون الاعتقاد، وما طابق الاعتقاد دون الواقع. ولم يخرج عن التعريف إلا ما فيه إسناد لغير ما هو له عند المتكلم بحسب الظاهر. فالحقيقة العقلية أربعة أقسام كما ترى وكما سيذكر الخطيب

والمعنى أن الحقيقة هي إسناد الفعل أو معناه إلى ما يكون هو له عند المتكلم فيما يقيم من ظاهر حاله، وذلك الفهم بألا ينصب قرينة دالة على أنه غير ما هو له في اعتقاده.

ص: 81

والثالث ما يطابق اعتقاده دون الواقع، كقول الجاهل:"شفى الطبيب المريض" معتقدًا شفاء المريض من الطبيب، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} . ولا يجوز أن يكون مجازًا. والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ لما فيه من إيهام الخطأ، بدليل قوله تعالى عقيبه:{ومَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إن هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] ، والمتجوز المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله.

والرابع ما لا يطابق شيئًا منهما، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالمًا بحالها دون المخاطب.

وأما المجاز1 فهو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس2 له غير

1 المجاز أصله مجوز من جاز المكان تعداه؛ لأن الإسناد تعدى مكانه الأصلى.. وعقلي نسبة للعقل؛ لأن التجوز والتصرف فيه في أمر معقول يدرك بالعقل وهو الإسناد، بخلاف المجاز اللغوي فإن التصرف فيه في أمر نقلي، وهو أن اللفظ لم يوضع لهذا المعنى.

ويسمى مجازًا حكميًّا أي منسوبًا للحكم بمعنى الإدراك، أو أنه نسبة للحكم بمعنى النسبة والإسناد لتعلقه بها. والمراد بالحكم المنسوب إليه والمتعلق به مطلق نسبة سواء كانت إسنادية أو إضافية أو إيقاعية، وحينئذ فهو من نسبة الخاص للعام أومن تعلق الخاص بالعام، فالمجاز كما يكون في الحكم وهو النسبة التامة، يكون في النسبة الإضافية كمكر الليل، والإيقاعية كنومت الليل أي أوقعت النوم عليه.. فالمراد بالحكم الذي تعلق به المجاز ليس خصوص النسبة التامة، بل مطلق نسبة. فالمجاز إذا كان في الإضافية أو الإيقاعية بصدق عليه أنه متعلق بالحكم بمعنى مطلق نسبة من تعلق الخاص بالعام.

ويسمى أيضًا مجازًا في الإثبات لحصوله في إثبات أحد الطرفين للآخر، والتقييد بالإثبات لأشرفيته، فمثل "فما ربحت تجارتهم": جعل من قبيل المجاز لكون إسناد الربح إلى التجارة إسنادًا إلى غير ما هو له، أو أن ما ربحت تجارتهم بمعنى خسرت، فالمجاز العقلي كما يكون في الإسناد المثبت. =

ص: 82

..........................................................................

= يكون في المنفي أيضًا.. ويسمى أيضًا إسنادًا مجازيًّا نسبة إلى المجاز بمعنى المصدر؛ لأن الإسناد جاور به المتكلم حقيقته وأصله إلى غير ذلك. فإن قيل: المجاز العقلي لا يختص بالإسناد أي النسب التامة، بل يجري في الإضافية والإيقاعية، واقتصارهم على الإسناد يوجب الاختصاص، أجيب بأن اقتصارهم في التسمية على الإسناد لأشرفيته أو أن المراد بالإسناد مطلق النسبة من إطلاق الخاص وإرادة العام.

2 أي إلى شيء بينه وبين الفعل أو معناه ملابسة وارتباط وتعلق، فالضمير في قوله "له" راجع "للفعل أو معناه" ـ "وغيرما هو له" أي غير الملابس الذي هو أي الفعل أو معناه له أي لذلك الملابس، يعني غير الفاعل الحقيقي في المبني للفاعل، وغير المفعول به في المبني للمفعول به.

وفي تعريف المجاز العقلي إشارة إلى أنه لابد فيه من علاقة "ويدل على ذلك قولنا إلى ملابس له" وقرينة "ويدل عليها قولنا بتأول".

وقصارى القول: أن المجاز العقلي هو "إسناد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر لعلاقة مع قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له".

علاقة المجاز العقلي:

المجاز العقلي لا بد له من علاقة كما أن اللغوي كذلك. وظاهر كلام المصنف أن العلاقة المعتبرة هنا هي الملابسة فقط، وأنه لا بد منها في كل مجاز عقلي، قال الشيخ يسن: لكن يبقى هناك شيء، وهو أنه هل يكفي في جميع أفراد هذا المجاز كون العلاقة الملابسة، أو لابد أن تبين جهتها، بأن يقال العلاقة هي ملابسة الفعل لذلك الفاعل المجازي من جهة وقوعه عليه أو فيه أو به، كما قالوا في المجاز اللغوي: أنه لا يكفي أن يجعل اللزوم أو التعلق هو العلاقة بل فرد منها؛ لأن ذلك قدر مشترك بين جميع أفراده، فلا بد أن يبين أنه من أي وجه!؟

والمعتبر عند الزمخشري تلبس ما أسند إليه الفعل بفاعله الحقيقي؛ لأنه قال: المجاز العقلي هو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كتلبس التجارة بالمشترين في:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} .. وقال الزمخشري قبل هذا الكلام: "وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز =

ص: 83

..........................................................................

= المسمى استعارة، وذلك لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له اسمه

وهذا هو رأي السكاكي أيضًا. فالملابسة في المجاز العقلي عنده هي بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي. وفي كلام عبد القاهر إشارة إلى ذلك أيضًا "331 أسرار"، فالربيع عنده قد شبه بالقادر في تعلق وجود الإثبات به، فذلك عنده على العرف الجاري بين الناس، من أن يجعلوا الشيء إذا كان سببًا أو كالسبب في وجود الفعل كأنه فاعل.

فالحاصل أن العلاقة ليست هي الملابسة والتعلق والارتباط بين الفعل والمسند إليه المجازي كما هو ظاهر كلام المصنف، وكما هو المتبادر من التعريف من قوله "وله -أي للفعل- ملابسات شتى"، بل هي المشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي في الملابسة أي في تعلق الفعل بكل منهما وإن كانت جهة التعلق مختلفة، فالمسند إليه المجازي في "جرى النهر مثلًا" وهو النهر يشابه ما هو له، أي يشابه المسند إليه الحقيقي، فالماء في قولك جرى الماء، في ملابسة الفعل وهو الجري، فالجري يلابس الماء من جهة قيامه به، ويلابس النهر من جهة كونه واقعًا فيه.

والعلاقة المعتبرة في هذا المجاز هي المشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي في تعلق الفعل بكل في صحة إسناده لذلك المجازي، والعلاقة في الاستعارة المشابهة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي لأجل صحة نقل اللفظ من المعنى الحقيقي للمعنى المجازي.

فالعلاقة هي في المجاز العقلي على التحقيق المشابهة بين الفاعلين: المجازي والحقيقي، لا الملابسة بين الفعل والمسند إليه المجازي وإن كان ذلك كافيًا في إسناد الفعل إليه..؛ لأن ملاحظة المشابهة بين الفاعلين أتم وأدخل في صرف الإسناد إلى غير ما هو له، وإن كفى فيه مجرد الملابسة المذكورة.

وأنواع العلاقة في المجاز العقلي هي:

1 المفعولية: فيما بني للفاعل وأسند إلى المفعول به الحقيقي كقولهم، "عيشة راضية" إذ هي مرضية، فالإسناد في المثال مجازي، وأصله رضى المؤمن عيشته، فأقيمت عيشة مقام المؤمن في تعلق الفعل وهو الرضى بكل، فصار رضيت عيشته، فاشتق منه اسم الفاعل وأسند إلى =

ص: 84

...........................................................................

= ضمير المفعول وهو عيشة بعد تقديمه وجعله مبتدأ، ثم حذف المضاف إليه اكتفاء بالمبتدأ في مثل "عيشة زيد راضية"

وقال العدوي: أصله: عيشة رضيها صاحبها" فالرضا كان بحسب الأصل مسندًا للفاعل الحقيقي "الصاحب" ثم حذف الفاعل وأسند الرضا إلى ضمير العيشة، وقيل عيشة رضيت، لما بين الصاحب والعيشة من المشابهة في تعلق الرضا بكل، وإن اختلفت جهة التعلق، فصار ضمير العيشة فاعلًا نحويًّا، ثم اشتق من رضيت راضية، وأسند إلى المفعول

ومذهب الخليل والبصريين أنه لا مجاز في هذا التركيب، بل الراضية بمعنى ذات رضا حتى تكون بمعنى مرضية، فهو نظير لابن وتامر، قال الفنري ونقله عنه الدسوقي: وهو مشكل بدخول التاء؛ لأن هذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث، ويمكن الجواب بجواز جعلها للمبالغة لا للتأنيث كعلامة

وقيل راضية بمعنى كاملة.. والشاهد في "عيشة راضية" إسناد راضية للضمير المستتر الذي هو للعيشة، وليس الشاهد في إسناد راضية للعيشة؛ لأن الإسناد إلى المبتدأ عند المصنف واسطة بين الحقيقة والمجاز، وكذا يقال فيما بعد هذا المثال من الأمثلة الآتية:

2 الفاعلية: ميما بني للمفعول وأسند للفاعل الحقيقي، كسيل مفعم؛ لأن السيل هو الذي يفعم أي يملأ، فأصله أفعم السيل الوادي أي ملأه ثم بنى أفعم للمفعول واشتق منه اسم المفعول وأسند لضمير الفاعل الحقيقي وهو السيل بعد تقديمه وجعله مبتدأ.

3 المصدر فيما بني للفاعل وأسند للمصدر مجازًا، مثل شعر شاعر، فقد أسند ما هو بمعنى الفعل "وهو شاعر" إلى ضمير المصدر، وحقه أن يسند للفاعل "أي الشخص"؛ لأن الفاعل الحقيقي، بحيث يقال شعر شاعر صاحبه، لكن لما كان الشعر شبيهًا بالفعل من جهة تعلق الفعل بكل منهما صح الإسناد إليه مجازًا، والأولى أن يمثل بنحو جد جده؛ لأن الجد مصدرًا أسند إليه فعل الفاعل، فحق الجد أن يسند للفاعل الحقيقي وهو الشخص لا إلى الجد نفسه الذي أسند إليه لمشابهته له في تعلق الفعل بكل منهما. وإنما كان ذلك أولى؛ لأن الشعر الذي هو مصدق الضمير في شاعر يحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي المشعور به لا المصدر الذي هو نفس الشعر فيكون من باب عيشة راضية، أي يكون من باب ما بني للفاعل. =

ص: 85

ما هو بتأول وللفعل ملابسات شتى 1:

يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب. فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيًّا له حقيقة كما مر، وكذا إلى المفعول

= وأسند للمفعول لا من باب ما بني للفاعل وأسند للمصدر الذي كلامنا فيه، بخلاف "جد جده" فإنه من ذلك القبيل. وإنما قلنا الأولى ولم نقل الصواب؛ لأن الشعر يحتمل أن يكون باقيًا على مصدريته بمعنى تأليف الكلام فيكون من ذلك القبيل.. فالحاصل أن "جد جده" من باب ما بني للفاعل وأسند للمصدر قطعًا، وأما "شعر شاعر" فيحتمل أن يكن منه أو من باب "عيشة راضية". وما لا احتمال فيه أولى مما فيه احتمال.

4 الزمانية فيما إلى للفاعل وأسند للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل لكل منهما مثل نهاره صائم.

5 المكانية: فيما بني للفاعل وأسند للمكان لمشابهته الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل لكل منهما مثل نهار جار؛ لأن الماء هو الجاري في النهر -أي الحفرة التي يكون الماء فيها-.

6 السببية فيما بني للفاعل وأسند للسبب مجازًا، مثل بني الأمير المدينة في السبب الآمر؛ لأن السبب نوعان: سبب آمر وسبب غائي أو مآلي، قال ابن يعقوب: السبب المآلي يسند إليه أيضًا مجازًا مثل يوم يقوم الحساب، فالقيام في الحقيقة لأهل الحساب لا لأجله، فكان الحساب علة غائية.

هذه هي علاقات المجاز العقلي، وذكر ابن السبكي أن جميع علاقات المجاز اللفظي ينبغي أن تأتي في العقلي.

1 لما ذكر في تعريف الحقيقة العقلية "الملابس الذي له"، وفي تعريف المجاز العقلي "الملابس الذي ليس هو له"، أخذ يبين التعريفين ببيان الملابس، فقال "وللفعل ملابسات شتى"

ويصح فتح "باء الملابسة" وكسرها؛ لأن الملابسة مفاعلة من الجانبين، فكل واحد من الفعل وما أسند إليه ملابس "بكسر الباء" وملابس "بفتحها". إلا أن المناسب لقوله "يلابس الفاعل" أن يقرأ بالفتح

وقول الخطيب: "وللفعل ملابسات شتى

" هو نص كلام الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] ، ومأخوذ منه.

ص: 86

إذا كان مبنيًّا له، وقولنا "ما هو له" يشملهما. وإسناده إلى غيرهما لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز. كقولهم في المفعول به:"عيشة راضية" و"ماء دافق"، وفي عكسه "سبيل مفعم" وفي المصدر "شعر شاعر1"، وفي الزمان "نهاره صائم" و"ليلة قائم"، وفي المكان "طريق سائر" و"نهار جار"، وفي السبب "بنى الأمير المدينة"، وقال:

"فلا تسأليني واسألي عن خليقتي"

إذا رد عافي القدر من يستعيرها2

وقولنا بتأول يخرج نحو قول الجاهل: شفى الطبيب المريض، فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأول. ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسي3.

1 وجد جده. قال تأبط شرًّا.

إذا المرأ لم يحتل وقد جد جده

أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

2 البيت لعبيد بن الأبرص. وفي السبكي أنه لعوف بن الأحوص، وهو من قصيدة رواها صاحب المفضليات لعوف. ونسبه اللسان للمضرس الأسدي.. وعافى فاعل، والقدر مضاف إليه، ومن اسم موصول مفعول. وعافى القدر: المرق الذي يتأخر فيها، وبقاؤه فيه سبب في رد من يستعيرها، فأسند بذلك الرد إليه من إسناد الفعل إلى سببه.

3 هو الصلتان العبدي، وبعد البيت قرينة تدل على المجاز وإرادته وهو قول الشاعر:

فملتنا أننا مسلمون

على دين صديقنا والنبي

فليس هناك فرق بين البيت وكلام أبي النجم الآتي:

ومثال البيت في ذلك قول أسقف نجران:

منع البقاء تصرف الشمس

وطلوعها من حيث لا تمسي

وحاصل الكلام أنه لا بد في المجاز العقلي من التأول الذي حاصله نصب القرينة الصارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له.

ص: 87

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشي

على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يرد ظاهره.. كما استدل على أن إسناد "ميز" إلى "جذب الليالي" في قول أبي النجم:

قد أصبحت "أم الخيار" تدعى

على ذنبا كله لم أصنع

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي أبطئي أو أسرعي1

مجاز بقوله عقيبه:

أفناه قيل الله للشمس اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي

وسمي الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليًّا لاستناده إلى العقل دون الوضع؛ لأن إسناد الكلمة إلى الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة، فلا يصير ضرب خبًرا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة: أن ضرب لإثبات الضرب لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماض وليس لإثباته في زمان مستقل، فأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين

ولو كان لغويًّا لكان حكمنا أنه مجاز في مثل

1 الجذب: الشد. القنزع: الشعر المجتمع في نواحي الرأس، عن بمعنى بعد. "أبطئي أو أسرعي" جملتان واقعتان حالًا من الليالي بتقدير القول أي مقولًا فيها ذلك.

ص: 88

قولنا "خط أحسن مما وشى الربيع" من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر حكمًا بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد، وذلك مما لا يشك في بطلانه.

تعريف السكاكي للحقيقة والمجاز العقليين:

وقال السكاكي:

الحقيقة العقلية: هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه1.

وإنما قلت "ما عند المتكلم"، دون أن أقول "ما عند العقل" ليتناول كلام الجاهل إذا قال "شفي الطبيب المريض"، رائيًا شفاء المريض من الطبيب، حيث عد منه حقيقة مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه.. وفيه. نظر2:

1-

لأنه غير مطرد3، لصدقة على ما لم يكن المسند فيه فعلًا

1 هو لا يخرج عن كلام عبد القاهر في الحقيقة العقلية: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد به على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهي حقيقة.

2 أي في تعريف السكاكي للحقيقة العقلية.

3 التعريف المطرد أي المانع بمعنى أنه كلما صدق التعريف صدق المعرف فهو مانع من دخول غير أفراد المعرف فيه.

والتعريف المنعكس أي الجامع بمعنى أنه كلما انتفى التعريف انتفى المعرف فهو جامع لأفراد المعرف، ومثال عدم الجمع تعريف الحيان بأنه جسم مفكر، ومثال عدم المانع تعريفه بأنه جسم نام.

وسبب عدم الجمع كون التعريف أخص من المعرفة كالمثال، أو مباين له، كتعريف الإنسان بالملك.. وسبب عدم المنع هو كون التعريف أعم من المعرف مطلقًا، فإن كان أعم من وجه كان في التعريف عدم الجمع والمنع.

ص: 89

ولا متصلًا به، كقولنا: الإنسان حيوان، مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازًا.

2-

ولا منعكس، لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم وما لا يطابق شيئًا منهما منه، مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق.

وقال "السكاكي":

المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل، إفادة للخلاف لا بوساطه وضع، كقولك: أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة.

قال "السكاكي": وإنما قلت "خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه". دون أن أقول خلاف ما عند العقل:

1-

لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن اعتقاد جهل أو جاهل غيره: أنبت الربيع البقل، رائيًا إنباته من الربيع، فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازًا، وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر، واحتج "السكاكي" ببيت الحماسة وقول أبي النجم على ما تقدم.

2-

ثم قال السكاكي: ولئلا يمتنع عكسه بمثل: كسا الخليفة الكعبة وهزم الأمير الجند، فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ولا أن يهزم الأمير وحده الجند، ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي.

وإنما قلت "لضرب من التأول" ليحترز به عن الكذب فإنه لا يسمى مجازًا مع كونه كلامًا مفيدًا خلاف ما عند المتكلم.

وإنما قلت "إفادة للخلاف لا بوساطة وضع" ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة، وهي إذا ادعى أن "أنبت" موضوع لاستعماله في القادر المختار أو وضع لذلك.

ص: 90

وفيه نظر1:

1-

لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر، لخروجه بقوله: لضرب من التأول.

2-

ولا بطلان عكسه بما ذكر، إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر، وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك، حيث عرف الحقيقة العقلية بقوله:"كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه" فإن قوله "واقع موقعه" معناه في نفس الأمر وهو بيان لما قبله، وكذا في كلام الزمخشري، حيث عرف المجاز العقلي بقوله:"أن يسند الفعل إلى شيء يلتبس بالذي هو في الحقيقة له"، فإن قوله في الحقيقة معناه في نفس الأمر. ونحو كسا الخليفة الكعبة إذا كان الإسناد فيه مجازًا كذلك.

3-

ثم القول بأن الفعل موضوع لاستعماله في القادر ضعيف، وهو معترف بضعفه، وقد رده في كتابه بوجوه، منها: أن وضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق فقوله: "إفادة للخلاف لا بوساطة وضع" لا حاجة إليه، وأن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار، على أن تمثيله بقول الجاهل "أنبت الربيع البقل" ينافي هذا الاحتراز.

تنبيه:

قد تبين بما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي على ما ذكره السكاكي هو الكلام لا الإسناد، وهذا يوافق

1 أي في تعريف السكاكي للمجاز العقلي.

ص: 91

ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضع من دلائل الإعجاز، وعلى ما ذكرناه هو الإسناد لا الكلام، وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب1 رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر2، وهو قول الزمخشري في الكشاف، وقول وقول غيره، وإنما اخترناه؛ لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازًا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء، وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل، أعني الإسناد.

أقسام المجاز العقلي باعتبار طرفيه: حقيقيتهما ومجازيتهما أو أحدهما:

قال الخطيب:

ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه -أعني المسند والمسند إليه- أربعة أقسام لا غير؛ لأنهما إما:

1-

حقيقتان، كقولنا أنبت الربيع البقل، وعليه قوله:

فنام ليلي وتجلى همي

وقوله:

وشيب أيام الفراق مفارق

"وأنشزن نفسي فوق حيث تكون"

وقوله:

"لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى"

ونمت وما ليل المطي بنائم3

1 إمام في اللغة والنحو توفي عام 646هـ.

2 وهو ظاهر كلام عبد القاهر في الأسرار والدلائل كما فهمته أنا.

3 لجرير ومثل البيت قول النعمان بن بشير:

ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا

وليلك عما ناب قومك نائم

وقول عمرو بن براق:

فلا تأمنن الدهر حرًّا ظلمته

فما ليل مظلوم كريم بنائم

ومثله في المجاز، قول الشاعر:

نهاري بأشرف التلاع موكل

وليلي -إذا ما جنني الليل- آرق

ص: 92

2-

وأما مجازان كقولنا "أحيا الأرض شباب الزمان".

3-

وأما مختلفان، كقولنا:"أنبت البقل شباب الزمان"، وكقولنا:"أحيا الأرض الربيع"، وعليه قول الرجل لصاحبه:"أحيتني رؤيتك"، أي آنستني وسرتني، فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة ثم جعل الرؤية فاعلة له، ومثله قول أبي الطيب:

وتحيي له المال الصوارم والقنا

ويقتل ما تحيي التبسم والجد1

جعل الزيادة والوفور حياة للمال، وتفريقه في العطاء قتلًا له، ثم أثبت الأحياء فعلًا للصوارم، والقتل فعلًا للتبسم، مع أن الفعل لا يصح منهما. ونحو قولهم:"أهلك الناس الدينار والدرهم": جعلت الفتنة إهلاكًا، ثم أثبت الإهلاك فعلًا للدينار والدرهم.

وهو في القرآن كثير2.

كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، نسبت

1 الجدا: العطاء. وراجع تعليق عبد القاهر على البيت في الأسرار ص321 وقد نقل منه الخطيب.

2 رد به على مذهب الظاهرية الزاعمين عدم وقوع المجاز العقلي كاللغوي في القرآن لإيهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه. ووجه الرد أنه لا إيهام مع القرينة.

ص: 93

الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببًا فيها. وكذا قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} . ومن هذا الضرب قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُم} ، الفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الآمر به. وكقوله:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} ، نسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه أكل الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياها: أنه لهما لمن الناصحين. وكذا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر. وكقوله تعالى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه، كقولهم:"نهاره صائم". وكقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} . [الزلزلة: 2] .

وهو غير مختص بالخبر، بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]، وقوله:{فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [القصص: 38] .

وقوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} .

أنواع القرينة:

"قال الخطيب":

ولا بد له -أي للمجاز العقلي- من قرينة:

1-

أما لفظية كما سبق في قول أبي النجم1.

1 أفناه قيل الله للشمس اطلعي" إلخ.

ص: 94

ب- أو غير لفظية "أي معنوية":

كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور أو قيامه به: عقلًا كقولك محبتك جاءت بي إليك، أو عادة كقولك هزم الأمير الجند وكسا الخليفة الكعبة وبنى الوزير القصر، "لاستحالة ذلك في العادة". وكصدور الكلام من الموحد في مثل قوله:"أشاب الصغير"، البيت1.

واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيئ الشيء وتصلحه له بشيء تتوخاه في النظم، كقول من يصف جملًا:

تجوب له الظلماء عين كأنها

زجاجه شرب غير ملأى ولا صفر

يريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر شيئًا يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلًا، فلولا أنه قال: تجوب له، فعلق له بتجوب لما تبين جهة التجوز في جعل الجوب فعلًا للعين كما ينبغي؛ لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظلماء ومضيه فيها بنورها، وكذلك لو قال تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا نقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به.

1 القرينة إما لفظية أو غير لفظية وهي المعنوية وتنقسم إلى عادية وعقلية، وذلك مثل:

أاستحالة قيام المسند بالمسند إليه استحالة عادية.

ب أو استحالة قيامه به استحالة ضرورية. أي بدهية.

جـ صدور الكلام الذي فيه الإسناد من الموحد، وهذا القسم الثالث من المجاز العقلي هو الذي يحتاج إلى دليل وتأمل، أما القسم الأول والثاني فمن المجاز الضروري البدهي الذي لا يحتاج إلى دليل.

ص: 95

واعلم: أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة1 لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق، وذلك قد يكون ظاهرًا كما في قوله تعالى:

1 هذا رأي الرازي والسكاكي والخطيب، وعبد القاهر على خلاف ذلك:

فيرى الخطيب أن الفعل في المجاز العقلي لا بد أن يكن له فاعل إذا أسند إليه يكون الإسناد حقيقة، ومعرفة ذلك أما ظاهرة كما في {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} وإما خفية لا تظهر إلا بمزيد نظر وتأمل كما في "سرتني رؤيتك" لكثرة الإسناد إلى الفاعل المجازي وترك الإسناد إلى الفاعل الحقيقي.. وقد اشترك السعد والسيد في إبطال ما وجهه الرازي والسكاكي من الشبه في هذا البحث.

قال الدسوقي: وتحرير النزاع أن المجاز العقلي هل يشترط في تحققه أن يكون للفعل المسند فيه فاعل محقق في الخارج أسند له ذلك الفعل قبل المجاز إسنادًا حقيقيًّا معتدًّا به، بأن يقصد في العرف والاستعمال إسناد ذلك الفعل لذلك الفاعل، أو لا يشترط؟. فمذهب السكاكي والمصنف اشتراط ذلك لأجل أن ينقل الإسناد من ذلك الفاعل الحقيقي للفاعل المجازي، ومذهب عبد القاهر لا يجب ذلك إلا إذا كان الفعل موجودًا، فإن كان غير موجود بأن كان أمرًا اعتباريًّا فلا يصح أن يكون له فاعل حقيقي، بل يتوهم ويفرض له فاعل أسند إليه ونقل الإسناد منه للفاعل المجازي، فالفاعل ليس محققًا في الخارج بل متوهم مفروض ولا يعتد بالإسناد للمتوهم المفروض، فليس "لسرتنى" ولا "ليزيدك" فاعل في الاستعمال يكون الإسناد إليه حقيقة، لعدم وجود تلك الأفعال المتعدية في الاستعمال، أي أن المتكلم لم يقصد الإخبار بها بل استعملها في لازمها، فانتفاؤها بالنظر إلى قصد المتكلم وملاحظته لا بالنظر للواقع، وكذا "أقدمني"، فإن الإقدام ليس له فاعل حقيقي وإسناد الإقدام فيه للحق مجاز عقلي، فقد بولغ في كون الحق له مدخل في تحقق القدوم، ففرض إقدام صادر من فاعل متوهم ثم نقل عنه وأسند إلى الحق مبالغة في ملابسته للقدوم، كما ينقل إسناد الفعل من الفاعل الحقيقي إلى الفاعل المجازي مبالغة في ملابسة الفاعل المجازي للفاعل الحقيقي، فالمجاز في الإسناد، لا في الفعل، فالفاعل الحقيقي ليس موجودًا محققًا في الخارج بل متوهم مفروض، ولا يعتد بإسناد الفعل للفاعل المتوهم المفروض، وكذا يقال في سرتني رؤيتك ويزيدك وجهه حسنًا: أنه بولغ في كون الرؤية لها مدخل في السرور، والوجه له مدخل في زيادة العلم بالحسن، ففرض سرور وازدياد من فاعل متوهم، ثم نقلًا عنه وأسندا للفاعل المجازي وهو الوجه والرؤية المبالغة في ملابسة الفاعل المجازي للفعل. فقول الشيخ عبد القاهر: ليس لهذه الأفعال فاعل، أي محقق في الخارج يعتد بإسنادها إليه.. هذا وما ذكر من أن الإسناد في "أقدمني بلدك حق إلخ" من قبيل المجاز العقلي غير متعين، بل يجوز أن يراد بالإقدام الحمل على القدوم على جهة المجاز المرسل، فيكون المعنى "حملني على القدوم حق إلخ".

ص: 96

{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} ، أي فما ربحوا في تجارتهم، وقد يكون خفيًّا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل، كما في قولك سرتني رؤيتك أي سرني الله وقت رؤيتك، كما تقول: أصل الحكم في أنبت الربيع البقل أنبت الله البقل وقت الربيع، وفي شفى الطبيب المريض: شفى الله المريض عند علاج الطبيب، وكما في قولك أقدمني بلدك حق لي على فلان أي أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان أي قدمت لذلك، ونظيره محبتك جاءت بي إليك، أي جاءت بين نفسي إليك لمحبتك، أي جئت لمحبتك.. وإنما قلنا أن الحكم فيهما مجاز؛ لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي والداعي لا يكون فاعلًا، وكما في قول الشاعر1:

وصيرني هواك ربي

لحيني يضرب المثل

أي وصيرني الله لهواك وحالي هذه، أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك، وكما في قول الآخر وهو أبو نواس2:

يزيدك وجهه حسنًا

إذا ما زدته نظرا

1 هو ابن البواب كما في الدلائل ص72، والكلام على البيت في ص229 من الدلائل.. وينسب البيت لمحمد اليزيدي.

2 في المطول لابن المعذل، وهو لأبي نواس كما في معاهد التنصيص، وتجد البيت في الدلائل ص229.

ص: 97

أي يزيدك الله حسنًا في وجهه لما أودعه من دقائق الجمال متى تأملت.

وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام، وقال: الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي1 بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما سيأتي، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة2.

1 وكان عبد القاهر يرد ذلك الرأي في كلامه في الأسرار "ص331".

2 تفصيل الكلام على رأي السكاكي في رد المجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية أنه بعد أن عرض للمجاز العقلي قال:

"هذا كله تقرير الكلام في هذا الفصل بحسب رأي الأصحاب من تقسيم المجاز إلى لغوي وعقلي، وإلا فالذي عندي هو نظم هذا النوع في سلك الاستعارة بالكناية، يجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي- وهو القادر المختار أي الله تعالى- بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما عرفت، وجعل نسبة الإثبات إليه قرينة للاستعارة، ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة، فالمجاز كله لغوي أي في الكلمة لا في الإسناد "راجع ص169 المفتاح".. والاستعارة بالكناية عنده أن تذكر المشبه وتريد المشبه به بواسطة قرينة، وهي أن تنسب إليه شيئًا من اللوازم العادية للمشبه به مثل أن تشبه المنية بالسبع ثم تفردها بالذكر وتضف إليها شيئًا من لوازم السبع فتقول مخالب المنية نشبت بفلان.

وما ذهب إليه السكاكي هو حاصل شبه أوردها عبد القاهر ورد عليها "331 من الأسرار"، قال عبد القاهر في أسلوب "صاغ الربيع الوشى": فإن قيل: أليس الكلام معقودًا على تشبيه الربيع بالقادر في تعلق وجود الصوغ والنسج به؟ فالجواب أن هذا التشبيه ليس هو الذي =

ص: 98

..........................................................................

= يعقد في الكلام، إنما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه، فقولنا في تشبيه منقول منطوق به، وقول المعترض في تشبيه معقول غير منطوق به إلخ.. وقد سار السكاكي على ضوء هذه الشبهة وقال: ليس في كلام العرب مجاز عقلي إلخ. والحامل للسكاكي على هذا الإنكار كما يقول هو للاستعارة بالكناية، ولكن يرد عليه أن ذلك ليس بأولى من العكس.. وقول السكاكي في الاستعارة المكنية "هي أن تذكر المشبه إلخ" أي هي ذكر المشبه أي هي المشبه المذكور.

وناقش الخطيب رأي السكاكي، ورده بوجوه منها:

1 أنه يستلزم أن يكون المراد: بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فاعل الدفق، لما سيأتي من تفسير الاستعارة بالكناية على مذهب السكاكي، من أن حاصلها أن يشبه الفاعل المجازي المذكور بالفاعل الحقيقي في تعلق وجود الفعل به ثم يفرد الفاعل المجازي بالذكر، وينسب إلى شيء من لوازم الفاعل الحقيقي.. توضيح المقام: أنه لا بد في الإسناد من مستعار منه ومستعار له ومستعار، ففي أنشبت المنية أظفارها بفلان المستعار منه معنى السبع وهو الحيوان المفترس، والمستعار لفظ السبع، والمستعار له معنى المنية، ومعنى قولهم بالكناية أنك كنيت عن المستعار بشيء من لوازم معناه "أي الأظفار" ولم تصرح به، وهذا على طريق الجمهور، فيجعلون مدلول لفظ استعارة بالكناية المستعار أعني اللفظ الدال على المشبه به المضمر، والسكاكي يجعل مدلوله اللفظ الدال على المشبه فيقال عنده في تقريرها: شبهت: المنية بالسبع وادعينا أنها فرد من أفراده، ثم أوردنا اللفظ الدال على المشبه مرادًا منه المشبه به بواسطة قرينة دالة على ذلك "كلفظ الأظفار"، وأما على طريق المصنف فدلوله نفس التشبيه المضمر في النفس فتسمية التشبيه استعارة بالكناية

وقول السكاكي في "أنبت الربيع البقل": "أن الربيع استعارة بالكناية عن الفعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه -أي بإدخال المشبه في جنس المشبه به وجعله فردًا من أفراده إدعاء. ونسبة الإثبات إلى الربيع قرينة الاستعارة- يرد عليه أن هذا مخالف لما اشتهر من أن قرينة الاستعارة بالكناية عند السكاكي هي إثبات الصورة الوهمية المسماه =

ص: 99

........................................................................

= بالاستعارة التخييلية، فيجب أن يؤول على أن المراد "وجعل نسبة ما هو على الاستعارة بالكناية غير الكائنة في المجاز العقلي، وأما الواقعة فيه فنسبة شبيه بالإنبات إليه قرينة".. وأجيب: بأن ما اشتهر عنه محمول على الاستعارة بالكناية غير الكائنة في المجاز العقلي وأما الواقعة فيه فالقرينة فيه قد تكون أمرًا محققًا، فما اشتهر عنه غير كلي، ويدل على ذلك أنه نفسه صرح في بحث المجاز العقلي بأن القرينة قد تكون أمرًا محققًا كما في أنبت الربيع البقل. وقول السكاكي: المكنية "هي أن تذكر المشبه وتريد المشبه به بواسطة قرينة، وهي أن تنسب إليه شيئًا من اللوازم المساوية للمشبه به"، يريد "بالمساوية" التي تصدق حيث صدق وتكذب حيث كذب.

2 ويستلزم أن لا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم، أي؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح، فكل تركيب أضيف فيه الفاعل المجازي إلى الفاعل الحقيقي كما في المثالين السابقين تكون -على هذا- الإضافة فيه غير صحيحة، لبطلان إضافة الشيء إلى نفسه اللازمة من كلامه؛ لأن المراد بالنهار حينئذ فلان نفسه، ولا شك في صحة هذه الإضافة ووقوعها قال تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} ، وقال الشاعر:

فنام ليلي وتجلى همي.

وهذان المثالان أظهر؛ لأن "نهاره صائم" يمكن المناقشة فيه بأن الاستعارة إنما هي في ضميره المستتر لا في "نهاره" على الاستخدام المعروف في علم البديع. لكن المناقشة في المثال ليست من أدب العلماء -قال الدسوقي في "نهاره صائم": إضافة الشيء إلى نفسه إنما توجد إذا كان المراد "بالنهار" وضمير "صائم" واحدًا، وأما إذا ارتكب الاستخدام وجعل الضمير في "صائم" راجعًا إلى النهار. لا بالمعنى الأول وهو الزمان، بل بمعنى الشخص، فلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الاستعارة إنما هي في الضمير المستتر في صائم لا في نهاره.

3 وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء له فيكون الأمر له أيضًا فلا يجوز تعدد المخاطب في كلام واحد أو جمعه أو عطفه.

قال الدسوقي: قيل إن هذا الإلزام إنما يتوجه على السكاكي إذا كان المسند مستعملًا في معناه الحقيقي، وله أن يمنع ذلك مدعيًا أن معنى "ابن" هو أمر بالبناء "وأوقد لي ياهامان" هو أمر بالإيقاد، فصح أن =

ص: 100

........................................................................

= النداء له والخطاب معه.. وفيه أن هذا خروج عما نحن بصدده؛ لأنه حينئذ يكون المجاز في الظرف، فيخرج عن المجاز العقلي كما يقول المنصف وغيره عن الاستعارة بالكناية كما يقول السكاكي.

وقال ابن السبكي: إن إلزام الخطيب للسكاكي بنحو "ابن لي صرحًا" بأن لا يكون الأمر بالبناء لهامان مع أن النداء له، جوابه: أن المأمور بالبناء الباني بنفسه بعد اعتقاد دخول هامان نفسه في زمرة من يبني بنفسه مجازًا.

4 ويستلزم أن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية.

قال ابن يعقوب: أن ما ذهب إليه السكاكي يستلزم أيضًا أن يتوقف استعمال نحو "أنبت الربيع البقل" و"شفي الطبيب المريض" و"سرتني رؤيتك" و" يزيدك وجهه حسنًا" -وكل ما كان مثل هذا الاستعمال- على سماعه من الشارع؛ لأن أسماء الله توقيفية، فلا يطلق عليه تعالى اسم لا حقيقة ولا مجاز ما لم يرد إذن من الشارع كالرحمن فإنه مجاز بخلاف ما لم يسم به الله نفسه في الكتاب ولا في السنة سواء كان مجازًا أو حقيقة، ولم يرد إطلاق الربيع والطبيب والرؤية على الله تعالى. لكن توقف مثل هذا الاستعمال على السماع غير صحيح؛ لأنه شاع استعماله حتى كاد أن يكون إجماعًا سكوتيًّا، فشيوعه يدل على أن المراد بالربيع غير الله. ولا يجاب عن هذا الإلزام بأن مذهب السكاكي أن أسماءه تعالى غير توقيفية؛ لأن الرد عليه ليس باستعماله هو بل باستعمال غيره ممن يذهب إلى غير ذلك مع عدم إنكار غيره، فصار استعمالًا صحيحًا، ولو كان كما ذكر السكاكي لتركه من يراها توقيفية أو لأنكر عليه.

ملاحظة:

المجاز العقلي له معنيان: إسناد الفعل أو ما في معنى الفعل إلى ما ليس الإسناد له بعلاقة، مع قرينة -والمجاز الذي سببه التصرف في أمور عقلية أي غير لفظية كجعل الفرد الغير المتعارف من أفراد المعنى المتعارف للفظ مثل جعل الشجاع فردًا من أفراد الحيوان المفترس فتنقل اسمه إليه قائلًا:"رأيت أسدًا" أي رجلًا شجاعًا شبيهًا بالأسد. والمعنى الأول هو المراد هنا في هذا الباب.

ص: 101

ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة.

وفيما ذهب إليه "السكاكي" نظر:

1-

لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى "فهو في عيشة راضية صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله: خلق من ماء دافق فاعل. فاعل الدفق لا المني، لما سيأتي من تفسيره للاستعارة بالكناية.

2-

وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح.

3-

وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان، مع أن النداء له.

4-

وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل، وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء.

5-

ثم ما ذكره منقوض بنحو قولهم: "فلان نهاره صائم" فإن الإسناد فيه مجاز، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ويوجب حمله على التشبيه، ولهذا عد نحو قولهم "رأيت بفلان أسدًا، ولقيني منه أسد" تشبيها لا استعارة، كما صرح السكاكي أيضًا بذلك في كتابه.

ص: 102

تنبيه:

إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان كما فعل السكاكي ومن تبعه، لدخوله في تعريف علم المعاني دون تعريف علم البيان.

ص: 103