الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفن الأول: علم المعاني
1.
تعريف الخطيب:
وهو علم2 يعرف به أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال3.
1 قدم المعاني على البيان لكونه منه بمنزلة المفرد من المركب، فاتصال المعاني بالبيان كاتصال المفرد بالمركب، ونسبته إليه من جهة التوقف، وإن كان توقف المركب على المفرد من جهة كونه جزءًا له، بخلاف توقف البيان على المعاني فعلم المعاني كالمفرد والبيان بمنزلة المركب، وذلك؛ لأن رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي ثمرة علم المعاني معتبرة في علم البيان "من حيث أنها شرط في الاعتداد بمثمرته التي هي الإيراد، فليس المراد اعتبارها في البيان على سبيل الجزئية له؛ لأنه ليس مركبًا من اعتبار المطابقة وإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، فإن الرعاية أمر خارج عن البيان ليست جزءًا منه ولا فائدة له، وإنما هي شرط للاعتداد بفائدته، فاعتبرت فيه من تلك الحيثية، وأما الإيراد فهو فائدة علم البيان ومقصود منه، فاعتبر فيه من تلك الحيثية، مع زيادة شيء آخر هو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة.. فثمرة علم المعاني تشبه الجزء من علم البيان لتوقفه عليها من حيث اعتبار ثمرته، فالرعاية والإيراد يشبهان أجزاء علم البيان لتوقفه عليهما، فكان علم المعاني بمنزلة الجزء، لكونه ثمرته المقصودة منه كالجزء. وإنما قلنا من حيث اعتبار ثمرته؛ لأن تحققه لا يتوقف على رعاية المطابقة، ومنه يمكن تحقق ملكة يقتدر بها على إيراد المعنى بطرق مختلفة وضوحًا وخفاء من غير رعاية للمطابقة، ولا شك أن هذه الملكة تسمى علم البيان.
2 أي ملكة يقتدر بها على إدراكات جزئية، ويجوز أن يراد به الأصول والقواعد المعلومة.
3 أي يطابق بها اللفظ مقتضى الحال، وذلك احتراز من الأحوال التي ليست بهذه الصفة، مثل الإعلال والإدعام والرفع والنصب وما أشبه ذلك مما لابد منه في تأدية أصل المعنى، وكذا المحسنات البديعية من التجنيس والترصيع ونحوهما مما يكون بعد رعاية المطابقة
…
والمراد أنه علم تعرف به هذه الأحوال من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال، لظهور أن ليس علم المعاني عبارة عن قصور معاني التعريف والتنكير مثلًا، وبهذا يخرج عن التعريف علم البيان إذ ليس البحث فيه عن أحوال اللفظ من هذه الحيثية...... والمراد بأحوال اللفظ الأمور العارضة له من التقديم والتأخير والإثبات والحذف وغير ذلك.
ومقتضى الحال على التحقيق هو الكلام الكلي للتكيف بكيفية مخصوصة على ما أشير إليه في المفتاح وصرح به الشيرازي في شرحه - وذلك حيث يقول السكاكي في تعريف علم المعاني: هو تتبع خواص تراكيب البلغاء إلخ، فهو يشير إلى أن المقتضى هو الكلام المتكيف بتلك الكيفيات؛ لأ ن الذي يذكر إنما هو الكلام لا الحذف والتقديم إلخ.. وأورد أن الذي يذكر إنما هو الكلام الجزئي لا الكلي فهو كالكيفيات لا يذكر، إلا إن قلنا أنه شاع وصف الكلي بوصف جزئياته-، لا نفس الكيفيات من التقديم والتأخير والتعريف والتنكير على ما هو ظاهر عبارة المفتاح وغيره، ولو أريد بمقتضى الحال الكيفيات لا الكلام، لما صح القول بأنها أحوال بها يطابق اللفظ مقتضى الحال؛ لأنها عين مقتضى الحال.. وأحوال الإسناد أيضًا من أحوال اللفظ باعتبار أن التأكيد وتركه مثلًا من الاعتبارات الراجعة إلى نفس الجملة. وتخصيص اللفظ بالعربي مجرد اصطلاح؛ لأن الصناعة إنما وضعت لذلك.
قيل: "يعرف" دون "يعلم"، رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات، كما قال صاحب "القانون"1 في تعريف الطب: الطب علم يعرف به أحوال بدن الإنسان، وكما قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله2: التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم.
تعريف السكاكي:
وقال السكاكي: "علم المعاني: هو تتبع خواص تراكيب الكلام
1 هو ابن سينا و"القانون" أحد مؤلفاته المشهورة في الطب.
2 هو ابن الحاجب عثمان بن عمر الإمام العالم النحوي المشهور، مؤلف الشافية وسواها من الكتب المشهورة.
في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره1".
نقد تعريف السكاكي:
"قال الخطيب": وفيه2 نظر:
1 إذا التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه، فلا يصح تعريف شيء من العلوم3 به.
2 ثم قال4: "وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء"، ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفه على معرفة البلاغة، وقد عرفها في كتابه بقوله:"البلاغة: هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها5 وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها".
فإن أريد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء، وهو الظاهر، فقد جاء الدور6، وإن أراد غيرها فلم يبينه.
1 أي إيراده في الكلام.
2 أي في تعريف السكاكي لعلم المعاني.
3 أجيب عن هذا الاعتراض: بأن المراد من التتبع العلم مجازًا مرسلًا من إطلاق المسبب على السبب
4 أي السكاكي كما في المفتاح ص70.
5 بأن يورد كل كلام موافقًا لمقتضى الحال، فالمراد بالتراكيب في
6 لأن علم البلاغة يتوقف على تراكيب البلغاء وتراكيب البلغاء تتوقف على علم البلاغة، ومتى عرفنا البلاغة فقد وصلنا إلى حد نعرف به توفية خواص التراكيب حقها.
وقد أجيب عن اعتراض الدور هذا بأن بلاغة الكلام غير بلاغة المتكلم، فلا يتوقف العلم بالبليغ المتكلم على العلم ببلاغة الكلام التي وقع فيها التحديد فلا يمتنع أخذ البليغ في الحد.
3 على أن قوله "وغيره" مبهم لم يبين مراده به1.
المقصود من علم المعاني:
ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب:
أولها: إحوال الإسناد الخبري.
وثانيها: أحوال المسند إليه.
وثالثها: أحوال المسند.
ورابعها: أحوال متعلقات الفعل.
وخامسها: القصر.
وسادسها: الإنشاء.
وسابعها: الفصل والوصل.
وثامنها: الإيجاز والإطناب والمساواة.
ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء؛ لأنه أما أن يكون
1 وأجيب عن هذا الاعتراض بأن المراد به الاستهجان بقرينة الاستحسان. هذا وقد بسط الحفيد في "الدر النضيد" شرح تعريف السكاكي ونقده: وقال: المشهور أن المراد بالاستحسان المحسنات البديعية. فالبديع خارج عن المعاني والبلاغة، والأوضح في تعريف علم المعاني كما يرى السعد في المطول أن نقول: هو علم يعرف به كيفية تطبيق الكلام العربي لمقتضى الحال.
لنسبته خارج تطابقه، أو لا تطابقه. أو لا يكون لها خارج 1،
1 تفصيل ذلك أن الكلام لا محالة يشتمل على نسبة تامة بين الطرفين قائمة بنفس المتكلم، وهي تعلق أحد الشيئين -أي الطرفين: المسند أو المسند إليه- بالآخر، بحيث يصح السكوت على التعلق، سواء كان ذلك التعلق إيجابيًّا أو سلبيًّا "وهذا لا يكون إلا في الخبر، بخلاف الإنشاء فلا يتصف بإيجاب ولا بسلب؛ لأنهما من أنواع الحكم، والإنشاء ليس بحكم، بل هو إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود" أو غيرهما كما في الإنشائيات.
والمراد بالتعلق ما يشمل النسبة الحكمية -أعني ثبوت المحمول للموضوع- وما يشمل النسبة الإنشائية. والمراد بالإيجاب إدراك الثبوت، أي أنه مطابق للواقع أو غير مطابق، وبالسلب عكسه فهو إدراك الانتقاء أي أنه مطابق للواقع أو غير مطابق، وتفسير النسبة بإيقاع المحكوم به على المحكوم عليه أو سلبه عنه خطأ في هذا المقام؛ لأنه لا يشمل النسبة في الكلام الإنشائي، فلا يصح التقسيم.
والتحقيق أن الإنشاء له نسبة كلامية ونسبة خارجية تارة يتطابقان وتارة لا. والفارق بين الخبر والإنشاء هو قصد المطابقة أو قصد عدمها في الخبر. والإنشاء ليس فيه قصد للمطابقة ولا لعدمها، وعبد الحكيم وغيره يقولون: الإنشاء لا خارج له إذ لو كان له خارج لكان خبرا يتصور فيه الصدق والكذب اللذان هما من لوازم الخارجية، واللازم باطل فبطل الملزوم.
هذا والخبر له ثلاث نسب: نسبة ذهنية. ونسبة كلامية، ونسبة خارجية في أحد الأزمة الثلاثة. فبين طرفيه -اللذين هما النسبة الكلامية- في الخارج والواقع نسبة ثبوتية أو سلبية بحيث يقصد مطابقة تلك النسبة لذلك الخارج بأن تكونا ثبوتيتين أو سلبيتين أو لا يقصد مطابقتهما له، بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية والتي بينهما في الخارج والواقع سلبية أو بالعكس، وأما الإنشاء فله نسبة ذهنية ونسبة كلامية، والخلاف هل له نسبة خارجية أو لا؟.
قيل ليس له نسبة خارجية وهذا هو الفرق بينه وبين الخبر وقيل له نسبة خارجية، والفرق بينهما أن الخبر يقصد فيه مطابقة النسبة للخارج أو عدم مطابقتها له، والإنشاء لا يقصد فيه ذلك.
والخلاصة: أن الكلام إما أن تكون نسبته بحيث تحصل من اللفظ ويكون اللفظ موجدا لها من غير قصد إلى كونه دالا على نسبة حاصلة في الواقع بين الشيئين وهو الإنشاء، أو تكون له نسبة بحيث يقصد أن لها نسبة خارجية تطابقه أو لا تطابقه وهو الخبر؛ لأن النسبة المفهومة من الكلام الحاصلة في الذهن لا بد أن تكون بين الشيئين. ومع قطع النظر عن الذهن لا بد أن يكون بين هذين الشيئين في الواقع نسبة ثبوتية بأن يكون هذا ذاك، أو سلبية بأن لا يكون هذا ذاك: ألا ترى أنك إذا قلت زيد قائم فإن القيام حاصل لزيد قطعًا. وثبوت النسبة في الواقع بين الشيئين المذكورين مع قطع النظر عن الذهن هو معنى وجود النسبة الخارجية فمعنى وجودها تحققها في الواقع.
الأول الخبر، والثاني الإنشاء. ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند1. وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى. ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلًا أو متصلًا به أو في معناه كاسم الفاعل ونحوه 2، وهذا هو الباب الرابع. ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس، والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع. ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة3 أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن.
1 والإنشاء كذلك أيضًا، وإنما اقتصر على الخبر لكونه أعظم شأنًا من الإنشاء، وأكثر اشتمالًا على اللطائف البلاغية المعتبرة.
2 كالمصدر واسم المفعول وما أشبه ذلك ولا داعي لتخصيص هذا الكلام بالخبر.
3 احترز بالفائدة عن التطويل فإنه الزيادة على أصل المراد لا لفائدة، على أنه لا حاجة إلى قيد الفائدة بعد تقييد الكلام بالبليغ.
هذا وقد أفردت هذه الأحوال المتعلقة بالجملة بأبواب مستقلة دون غيرها من الأحوال -كالتعريف والتنكير مثلًا- لصعوبة أمرها وكثرة تشعبها بكثرة مباحثها.
........................................................................
تطبيق:
1-
ميز الجمل الخبرية من الإنشائية وعين المسند والمسند إليه في كل جملة فيما يلي:
قال بعض البلغاء: لذت بعفوك، واستجرت بصفحك، فأذقني حلاوة الرضا، وأنسني مرارة السخط فيما مضى. وقال الشاعر:
ولا تصطنع إلا الكرام فإنهم
…
يجازون بالنعماء من كل منعما
ومن يتخذ عند اللئام صنيعة
…
تجده على آثارها متندما
وقال ابن المعتز:
ليس الكريم الذي يعطي عطيته
…
عن الثناء وإن أغلى به الثمنا
بل الكريم الذي يعطي عطيته
…
لغير شيء سوى استحسانه الحسنا
لا يستثيب ببذل العرف محمدة
…
ولا بمن إذا ما قلد المننا
وقال شوقي:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا
…
إن الحياة عقيدة وجهاد
وقال المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم
وقال زهير:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
…
على قومه يستغن عنه ويذمم
وقال عنتره:
وأنا المنية في المواطن كلها
…
والطعن مني سابق الآجال
وقال الشاعر:
أيها الرائد في صمت الرعاة
…
عد إلى دنياك واهتف بالحياة
وقال حافظ:
ردوا على بياني بعد محمود
…
أني عييت وأعيا الشعر مجهودي
وقال أبو العلاء:
تحطمنا الأيام حتى كأننا
…
زجاج ولكن لا يعاد له سبك
تنبيه1:
اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب، فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ثم اختلفوا:
1-
فقال الأكثر منهم: صدقه مطابقة حكمه للواقع 2- هذا هو المشهور وعليه التعويل.
3-
وقال بعض الناس3: صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر
1 هذا بحث عقلي لا صلة له بمباحث البلاغة إلا من ناحية أنه كالتفسير والشرح لتعريف الخبر والإنشاء، وقد أشار عبد القاهر إلى شيء من ذلك في دلائله -راجع ص407 إلى 410 من دلائل الإعجاز-، كما ذكره السكاكي في مفتاحه ص72 المفتاح، وجارى الخطيب شيخه السكاكي بالسير على هذا المنوال.
2 أي الخارج الذي يكون لنسبة الكلام الخبري، فصدق الخبر على ذلك هو مطابقة نسبته الكلامية للنسبة الخارجية، سواء طابقت الاعتقاد أو لا. وعلى هذا التعريف لا يخرج خبر الشاك عن الصادق والكاذب بخلافه على التفسير الثاني.. وتفصيل الأمر أن قولنا محمد قائم له ثلاث نسب: نسبة كلامية وهي ما يدل عليه الكلام، ونسبة ذهنية وهي ما يحصل في الذهن من النسبة الكلامية، ونسبة خارجية وهي النسبة التي بين الطرفين في الواقع، فمطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجية بأن يكونا ثبوتيين أو سلبيين صدق، وعدم مطابقتها لها -بأن تكون احداهما ثبوتية والأخرى سلبية- كذب.
3 هو النظام الإمام المعتزلي المتوفى عام 235هـ: وعلى رأي النظام يكون قول القائل "السماء تحتنا" صدقا إذا كان يعتقد ذلك، ويكون قوله "السماء فوقنا" كذبا إذا لم يعتقد ذلك. والمراد بالاعتقاد الحكم الذهني الجازم أو الراجح فيعم العلم والظن. أما الشك فواسطة بين الكذب والصدق، إذ لا اعتقاد للشاك، وعلى هذا لا يتحقق انحصار الخبر في الصدق والكذب لوجود الواسطة وهي خبر الشاك، اللهم إلا أن يقال أنه كاذب؛ لأنه إذا انتفى الاعتقاد صدق عدم مطابقته للاعتقاد. هذا والكلام المشكوك فيه يرى البعض أنه ليس خبرًا؛ لأنه لا نسبة له في الاعتقاد فهو خارج عن المقسم وهو الخبر.
صوابًا كان أو خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له. واحتج له بوجهين:
أحدهما: أن من اعتقد أمرًا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال: ما كذب ولكنه أخطأ، كما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن شأنه كذلك: ما كذب ولكنه وهم.
ورد بأن المنفي تعمد الكذب لا الكذب، بدليل تكذيب الكافر كاليهودي إذا قال:"الإسلام باطل" وتصديقه إذا قال: الإسلام حق. فقولها1: "ما كذب" متأول بما كذب عمدًا.
الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، كذبهم في قولهم "إنك لرسول الله" وإن كان مطابقًا للواقع؛ لأنهم لم يعتقدوه. وأجيب عنه بوجوه.
أحدها أن المعنى نشهد شهادة وأطأت فيها قلوبنا ألسنتنا، كما يترجم عنه أن والسلام وكون الجملة اسمية في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ
…
} فالتكذيب في قولهم: {نَشْهَدُ} وادعائهم فيها المواطأة، لا في قولهم:{إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ} 2.
وثانيهما: أن التكذيب في تسميتهم أخبارهم شهادة؛ لأن الأخبار
1 أي عائشة رضوان الله عليها.
2 وعلى هذا فالتكذيب في الشهادة لا في المشهود به، بخلاف الوجه الثالث فالتكذيب في المشهود به لكن لا في الواقع بل في زعمهم الفاسد؛ لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع. فيكون كاذبًا باعتقادهم وإن كان صادقًا في نفس الأمر، فكأنه قبل أنهم يزعمون أنهم كاذبون في هذا الخبر الصادق، وحينئذ لا يكون الكذب إلا بمعنى عدم المطابقة للواقع.
إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة.
وثالثها: أن المعنى لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ} عند أنفسهم، لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.
وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين1، وزعم أنه ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب؛ لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له أو عدمه، وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه:
فالأول -أي المطابق مع الاعتقاد- هو الصادق2.
والثالث -أي غير المطابق مع الاعتقاد- هو الكاذب3.
والثاني والرابع -أي المطابق مع عدم الاعتقاد4، وغير المطابق مع عدم الاعتقاد5- كل منهما ليس بصادق ولا كاذب.
1 أي الصادق والكاذب.
2 وصدق الخبر على هذا هو مطابقة الخبر للواقع مع اعتقاد الخبر أنه مطابق له.
3 فكذب الخبر هو عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق له.
4 أي مع عدم الاعتقاد أصلًا أو مع الاعتقاد بأنه غير مطابق.
5 أي أصلًا أو مع اعتقاد المطابقة، فالذي ليس بصادق ولا كاذب أربعة:
1 المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة.
2 المطابقة بدون الاعتقاد أصلًا.
3 عدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة.
4 عدم المطابقة بدون الاعتقاد أصلًا.
فكل من الصدق والكذب بتفسير الجاحظ أخص منه بالتفسيرين السابقين؛ لأنه اعتبر في الصدق مطابقة الواقع والاعتقاد جميعًا وفي الكذب عدم مطابقتهما جميعا، وقد اقتصر في التفسيرين السابقين على أحدهما، فالجمهور اقتصروا في تفسيرهم على اعتبار المطابقة للواقع والنظام على اعتبار المطابقة للاعتقاد.
فالصدق عنده مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده -والكذب عدم مطابقته مع عدم اعتقاده.
وغيرهما ضربان: مطابقته مع عدم اعتقاده، وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده.
واحتج بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] 1؟ "، فإنهم حصروا دعوى النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون، بمعنى امتناع الخلو، وليس إخباره حال الجنون كذبًا لجعلهم الافتراء في مقابلته، ولا صدقًا؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه، فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب2.. وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد، فهو نوع من الكذب فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبًا أيضًا لجواز أن يكون نوعًا آخر من الكذب وهو الكذب لا عن عمد، فيكون التقسيم للخبر مطلقًا، والمعنى "افترى أم لم يفتر؟ "، وعبر عن الثاني بقوله: "أم به جنة"؛ لأن المجنون لا افتراء له.
1 الافتراء: الكذب. الجنة: الجنون.
2 يلاحظ أن هذا الدليل وإن أثبت الواسطة ألا أنه إنما أثبت قسمًا واحدًا من أقسام الواسطة الأربعة. ألا أن مراد الجاحظ إبطال مذهب غيره وإثبات مذهبه في الجملة.
تنبيه آخر:
وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم1.
قال السكاكي: ليس من الواجب في صناعة وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها، في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات ألفية؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك، إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق.
وكثيرًا ما يشير الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز إلى هذا، كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا: اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولًا، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، ومن تحدثه نفسه بأنه لما تومئ إليه من الحسن أصلًا. فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها آخرى، وإذا عجبته تعجب، وإذا نبهته لموضوع المزية انتبه، فأما من كانت الحالات عنده على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة، وإلا إعرابًا ظاهرًا، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر، ويميز به مزاحفة من سالمه في أنك لا تتصدى لتعريفه، لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف
…
واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإن من الآفة أيضًا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه، ولا يعلم إلا أن له موقعًا من النفس وحظًّا من القبول، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول.. واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة
1 أي علم البلاغة.
الكل وجب ترك النظر في الكل، ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله1 شاهدًا في غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا، قال الجاحظ: وكلام كثير جرى على ألسنة الناس، وله مضرة شديدة وثمرة مرة. فمن أضر ذلك قولهم: لم يدع الأول للآخر شيئًا2، فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم، لرأيت العلم مختلًّا 3.
1 أي فتجعل علمك أو عرفانك بذلك.
2 وفي البيان والتبيين يقول الجاحظ: إذا سمعت الرجل يقول: "ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح".
3 هذا هو نهاية تلخيص الخطيب لكلام عبد القاهر في الدلائل.