المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌مقدمة فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي   مقدمة - شرح العقيدة الطحاوية - سفر الحوالي

[سفر الحوالي]

الفصل: شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌مقدمة فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي   مقدمة

شرح العقيدة الطحاوية

‌مقدمة

فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي

مقدمة الشرح

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديه ونستغفره، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنُفْسِنَا ومِنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ َأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا من كرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يُستجابُ لها.

نبدأ بعونِ الله في موضوعِ شَرحِ هذه العقيدة القيمة المباركة، عقيدة الإمام أبي جعفر الطّّحاويّ الأزدي المصري الحنفي.

عبرة من حياة الطحاوي

الإمام الطّحاويّ كَانَ ابن أخت المزني صاحب الشَّافِعِيّ، ونفع الشافعية، ومع ذلك لما بدا له أن الحق في مذهب أبي حنيفة صار عَلَى مذهبه، ومع ذلك أيضاً لم يكن متقيداً بكل ما ورد في المذهب؛ بل كَانَ يُفتي بخلافه.

ولما سُئل: لماذا تفتي بخلاف مذهب أبي حنيفة، وأنت عَلَى مذهبه؟!!

قَالَ: (وهل من مقلد إلا غبي) .

يعني أن رائده العلم وهدفه هو البحث عن الدليل، واتباع الحق مع أي إمام كان، وتحت أي شعار، وفي أي كتاب.

وله رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مؤلفات عظيمة تدل عَلَى سعته في العلم.

وقد كتب هذه العقيدة ليبين عقيدة الإمام أبى حنيفة وتلميذيه أبي يوسف ومُحَمَّد بن الحسن، وليقول للمسلمين وللحنفية - وهم أكثر المذاهب الأربعة أتباعاً -:

إن العقيدة الصحيحة هي هذه العقيدة أياً كَانَ المذهب الذي يدين به الإِنسَانُ، فإنه لا يجوز له أن يعتقد إلا هذه العقيدة.

ص: 1

ثُمَّ بعد ذلك تبقى أحكام الفقه -وخاصة الاجتهادية منها أو النظرية المحضة- فلا حرج عَلَى أحد أن يتخذ منها ما يشاء متمشياً مع القواعد الشرعية والأصول العامة مادام أهلاً لأن يجتهد.

عبرة من حياة ابن أبي العز

ومن العبر التي ينبغي أن نكتسبها من حياة الإمام ابن أبي العز: أنه رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جاهد في الله جهاداً كبيراً من أجل هذه العقيدة، وقد أدى تمسكه بهذه العقيدة التي شرحها إِلَى أن يضطهد ويسجن، مع أنه كَانَ يسمى" قاضي القضاة " أي أكبر القضاة، وإن كَانَ هذا الاسم لا يجوز أن يُسمى به.

وولي قضاء مصر فكان القاضي الأكبر في دولة المماليك، ثُمَّ ظهر أحد أمراء المماليك فَقَالَ قصيدة -إما أنه قالها أو أنها قيلت له- وكان فيها شرك وغلو،، وفي القرن الثالث وما قبله وبعده كثر الغلو في رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والشرك في كلام الشعراء، فأنكر الإمام القاضي ابن أبي العز ما في هذه القصيدة من الشرك، ولم يبال بأن قائلها من الأمراء والأسرة الحاكمة المملوكية، وفي الحديث (إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ، فلما قال كلمة الحق في هذه القصيدة وبيّن ما فيها من الشرك؛ أدى ذلك إِلَى أن يعزل من منصبه ويضطهد ويفقد الجاه.

ولكنه - وهذا هو الأهم - لم يفقد العقيدة الصحيحة التي هي أغلى ما يملك الإِنسَان، فمهما فقد من أعراض الدنيا ومناصبها ومتاعها فإنه ليس بفاقدٍ حقيقةً، إلا إذا فقد العقيدة الحقة التي يدين الله تبارك وتعالى بها.

شبهات حول تعيين شارح الكتاب

وقد أثير سؤال وهو أنه يُقَالَ: إن شارح هذه العقيدة مجهول؟

والحقيقة أن هناك لبساً حصل في نسبة هذه العقيدة، سببه أن بعض مخطوطاتها لم يكن مكتوباً عليها اسم المؤلف.

ص: 2

والشيخ أحمد شاكر رحمه الله، هو أول من طبع هذه العقيدة -الطبعة القديمة - بناء عَلَى نسخة عثر عليها في مكتبة الحرم في مكة المكرمة، ولم يكن عليها اسم المؤلف، لكن العقيدة نفسها كانت معروفة أنها للإمام ابن أبي العز، وأنه الذي شرحها شرحاً سلفياً.

الأدلة على أن مؤلف شرح الطحاوية هو ابن أبي العز

1-

أن الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين " نقل قسماً كبيراً من هذه العقيدة ونسبها إِلَى ابن أبي العز، والزبيدي من أكبر العلماء الموثوق بهم إحاطة وعلماً بالرجال وبالمخطوطات - لا سيما وقد كَانَ في مصر، حيث اجتمع له أكبر قدر من المخطوطات - وهذا كَانَ قبل قدوم الحملات الاستعمارية التي نهبت مكتباتنا وثرواتنا العلمية، وأودعتها في خزائن ومكتبات أوروبا. واعتماداً عَلَى هذا رجح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله أنها لهذا الشارح.

وممن أثار ضد هذا الشارح الشبهات المبتدعة الذين تعرض لهم، فإنه تعرض للعقائد الباطلة كالصوفية والأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية، فكان طبيعياً أن ينشر هَؤُلاءِ أن هذه العقيدة ليست ذات أهمية لأن مؤلفها مجهول.

2-

وجدت المخطوطات في تركيا -النسخ التركية- مكتوب عليها اسم المؤلف بوضوح.

سبب إخفاء اسم المصنف

والنسخ التي لم يوجد عليها اسم المؤلف يمكن تفسيرها عَلَى ضوء المحنة التي حدثت له؛ لأنَّ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -مثلاً- سُجن مِراراً ومات في السجن، وكثير من العلماء الذين تصدوا في تلك الفترة لمقاومة الشرك ذهبوا ضحية تلك المقاومة وذلك الجهاد، فكان هناك اضطهاد أو نوع من الاضطهاد لمن يدين بالعقيدة الصحيحة في تلك الأيام من علماء السوء أولاً، ومن السلاطين ثانياً.

ص: 3

فنتيجة لذلك لا يُستغرب أن توجد نسخ من العقيدة ليس مكتوباً عليها اسم المؤلف، لأنه في فترة الاضطهاد التي يتعرض لها بعض العلماء تحمل كتبهم، ولا يكتب عليها أسماؤهم، وهذه الحال حصلت لبعض كتب شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.

ويكفي طالب العلم الذي حوى هذه العقيدة أن يقرأها وإن كَانَ لا يعرف من هو مؤلفها، والشاهد أنه ينبغي أن لا نغفل الواقع الذي كَانَ يعيشه العالم أثناء كتابته للعلم، والظروف التي كانت تلم به وما يتعرض له من الأذى في كتابته أو في وصول علمه إلينا.

3-

ومن الأدلة عَلَى أن المؤلف هو ابن أبي العز رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أن السخاوي - وهو الإمام المؤرخ والمحدث المعروف - كتب ذيلاً عَلَى تاريخ الإسلام للإمام الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سماه ذيل تاريخ الإسلام، وكمَّل الشخصيات التي جاءت بعد وفاة الذهبي أو توفيت قريباً من وفاته، فأكمل أسماء هَؤُلاءِ العلماء وأرَّخ لهم، ومنهم الإمام ابن أبي العز.

وهذه الصورة من كتاب السخاوي موجودة في نسخة مقدمة الكتاب من تحقيق الشيخ مُحَمَّد ناصر الدين الألباني. يقول: "وفي ذي القعدة العلامة -يعني توفي العلامة- الصدر علي بن العلاء علي بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي العز الدمشقي قاضيها -يعني قاضي دمشق - الحنفي شارح عقيدة الطّّحاويّ ".

وبذلك لم يبق هناك أي شبهة يصح أن تثار حول مؤلف الكتاب، على أننا نعلم جميعاً أن الذي يهُم في أي كتاب هو محتواه ومضمونه، لكن المبتدعة قد يشككون في المؤلف ليصلوا بذلك إِلَى التشكيك في الكتاب نفسه، وإلا فالْحَمْدُ لِلَّهِ لم يبق هناك أي ريب في أن هذا هو المؤلف.

ص: 4

4-

ومن الأدلة عَلَى صحة نسبة الكتاب أنه في بعض المواضع -وستأتي معنا إن شاء الله- يقول: وقال شيخنا الحافظ ابن كثير، ومعروف أن ابن أبي العز كَانَ من الخلص والخيرة في تلاميذ الحافظ ابن كثير رحمه الله -صاحب التفسير المشهور المتداول-وكذلك النصوص الكثيرة التي نقلها عن شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وشَيْخِ الإِسْلامِ ابنُ القيم، مع أنه لم يشر إليهما، والشيخ عبد الرزاق عفيفي اطلع وأكَّد بعض هذه الإحالات.

حقيقة العقيدة السلفية

هذه العقيدة السلفية -عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- عقيدة إجماعية ليست عقيدة ابْن تَيْمِيَّةَ ولا عقيدة ابن القيم ولا أَحْمدُ بُن حَنْبَل؛ بل هي عقيدة الصدر الأول، عقيدة السلف الصالح جميعاً.

ولكن شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ جمع كثيراً من النقول، وهذَّب ورتَّب وخاض في قضايا كلامية حدثت بعد الصدر الأول، فأجاد في رد الشبهات وعرض المسائل.

وتكون المسألة هي عقيدة السلف من قديم، لكن شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ يُحسن عرضها ويُحسن الدفاع عنها بعرض الشبهات الواردة عليها، ثُمَّ نقضها شبهة شبهة، وكذا ابن القيم.

فنتيجة للعصر والضغط الذي كَانَ يعانيه ابن أبي العز لم يكن من المصلحة أن يشير إليهما.

فالمبتدعة ينظرون إِلَى أن أي كلام يقوله ابْن تَيْمِيَّةَ فهو باطل، وهذا من أكبر الجهل وأرذل أنواع التعصب.

فكان إذا قيل قال ابْن تَيْمِيَّةَ

ردوه، وإذا رأوا كتاباً من كتب ابْن تَيْمِيَّةَ

لم يقبلوه إطلاقاً؛ بحيث أنك لو جئت إِلَى مسألة ولم تذكر ابْن تَيْمِيَّةَ.

فقلت: قال بعض المحققين؛ لوجدت قبولاً ولقيل: هذا التحقيق جيد.

فهنا تجلت مهارة الشيخ القاضي ابن أبي العز، بأنه راعى جانب المصلحة الشرعية عَلَى جانب الأمانة العلمية من العزو إليهما.

سبب اختيار عقيدة السلف

ص: 5

عقيدةُ السلف أو عقيدةُ أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يختارها طالب العلم تشهياً، وإنما هي العقيدة التي يجب أن تعتقد، ولا يجوز أن يتعبد لله سبحانه وتعالى بغيرها.

نقول ذلك واثقين؛ لأن هذا الحكم شرعي قطعي لا يجوز لأحد أن يُخالف فيه، ولدينا من الأدلة عليه ما هو كافٍ -بإذن الله- لإزالةِ كل شبهة، ودحض كلِ افتراء، فهذه العقيدة لها من المميزاتِ العظيمة ما يؤهلها ويجعلها العقيدة الوحيدة، التي لا يجوز أن نتعبد بغيرها ولا يُعتقد غيرها.

من خصائص العقيدة السلفية

أنها العقيدة الوحيدة الربانية -ربانية المصدر- وكل عقيدة غير عقيدة السلف تجد مصادرها إما من كلام اليونان، وإما من كلام ما يسمون بالحكماء القدماء، وإما من كلام دعاة البدعة والضلالة، إلا هذه العقيدة فإنها نقية صافية ليس فيها عن أحد ولا عن بشر إلا الفهم الذي يفهمه بعض العلماء من نصوص الوحي، فمصدرها هو الوحي.

فكما أن الإسلام هو الدين الرباني الوحيد في الأرض الذي مصدره الوحي، ولكن يجتهد العلماء في التفريعات في بعض الفروع العملية ليطبقوها عَلَى ضوء الأصول المنزلة، فكذلك عقيدة السلف هي بأصولها العامة، عقيدة ربانية مصدرها الوحي؛ لكن تجد بعض المسائل يُجتهد فيها من خلال هذه الأصول التي هي ربانية المصدر.

ولهذا قيل: إن أهل السنة في أهل الإسلام مثل أهل الإسلام في سائر الملل، فالعقيدة السلفية هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما فهمه الجيل الأول، فهي تعبر عن حقيقة الإسلام، فكل ميزة من ميزات الإسلام فهي في هذه العقيدة.

ص: 6

وهي عقيدة إجماعية. فكل العقائد الأخرى عقائد أشخاص وأفراد، فالاعتزال يعرف بالتاريخ العام المحايد؛ وذلك بمعرفة مَن هو أول من أنشأ مذهب الاعتزال وكذا الأشعرية، بل ونأخذ القضايا العلمية -مثلاً- فنعرف من هو أول من قال بالكلام النفسي، وأول من قال بالكسب في القضاء والقدر، فنعرف بالتاريخ المحايد العام متى بدأت هذه العقيدة، إلا عقيدة السلف -والْحَمْدُ لِلَّهِ- لأنها هي نفس القُرْآن والسنة وتربية النبي صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة رضوان الله عليهم، فنجد هذا القول في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد بين أصول مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أي أصل أبداً حدث بعد هذه القرون المفضلة، أو حدث من غير الكتاب والسنة، فهي إذاً عقيدة إجماعية.

أما غيرها فهي عقائد أشخاص وأفراد قد يكون لديهم من الذكاء والامتياز الذهني والتعمق العقلي الشيء الكثير، لكن يخالفهم في عقلهم من هو مثلهم عقلاً وفهماً.

بل كثير من مؤسسي العقائد البدعية نشؤوا وماتوا مقهورين محتقرين، فإن الجعد بن درهم الذي جَاءَ ببدعة نفي الصفات قتل.

وقال خالد بن عبد الله القسري وهو من ولاة بني أمية: أيها الْمُسْلِمُونَ انحروا ضحاياكم -تقبل الله منكم- فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلَّم موسى تكليماً، وذبحه ونحره يوم النحر، والْمُسْلِمُونَ يومئذ ينظرون، وارتاحت صدورهم لذلك. وهذا الرجل أصل نشأة تعطيل (نفي) الصفات.

وتلميذه الجهم بن صفوان قُتِلَ كما قُتِلَ الجعد، حتى لما جيء به إِلَى سلم بن أحوز وكان عَلَى شرطة بني أمية في خراسان قَالَ: لا تقتلني أرجوك؟!!

فقَالَ: والله يا جهم ما أقتلك لأنك ذو شأن في السياسية أو المعارضة ضد الدولة، لكن بلغتني عنك أقوال أقسمت بالله إن مكنني الله منك لأضربنَّ عنقك.

وهو الذي أسس العقيدة الجهمية.

ص: 7

وأيضاًعبد الله بن سعيد بن كلاب الذي أسس عقيدة الكلابية والتزمها الأشعري في الفترة الثانية من حياته قبل أن يرجع إِلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وكذاالحارث المحاسبي وكان له ميل إِلَى التصوف والكلام، أمر الإمام أَحْمدُ بن حَنْبَل بهجرهما فهجرا، ولم يكن يقربهما من طلاب العلم إلا القليل النادر؛ لهجر علماء السنة لهم، وعلى رأسهم الإمام أَحْمَد.

وكذلك عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وأمثالهم ممن أسسوا مذهب الاعتزال، اتفقت كتب الجرح والتعديل عَلَى القدح والطعن فيهم.

فأي عقيدة غير عقيدة السلف الصالح إنما هي محدثة بعد القرون المفضلة أو في أثنائها، وكانت محتقرة ومهجورة من علماء وأئمة الدين.

ومنذ القرن الثالث تقريباً إِلَى اليوم، يتبع أكثر الْمُسْلِمِينَ الأئمة الأربعة، وبطبيعة الحال فإن الشَّافِعِيّ والمزني والأسفرائيني والأصبهاني الذي ألف كتاب بيان الحجة، علماء وراء علماء، وطبقات وراء طبقات، في مذهب الشَّافِعِيّ، كلهم عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وكذلك تجد الإمام أبي حنيفة رحمه الله كَانَ عَلَى مذهب أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وكان مُحَمَّد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف كذلك، ثُمَّ جَاءَ الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ الذي وضع متن هذه العقيدة وهو من الحنفية.

وهكذا كثير ممن ينتمي إِلَى مذهب أبي حنيفة وهم من أئمة المذهب هم عَلَى هذه العقيدة.

ثُمَّ مذهب الإمام مالك وهو إمام أهل الأثر جميعاً، وهو عَلَى مذهب أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد- وتلاميذه كابن القاسم وابن الحسن وأمثالهم، ثُمَّ من بعدهم كابن عبد البر وهو من أكبر علماء المغرب وكتبه معروفة ومشهورة، كانوا كلهم عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

ص: 8

ثُمَّ الإمام أَحْمَد -إمام أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وكذلك أتباعه استمروا عَلَى منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى القرن العاشر وربما إِلَى اليوم.

وهكذا نجد الإمامالشوكاني والصنعاني وابن الوزير وأمثالهم من علماء الزيدية، لما توسعوا في العلم وتبحروا، انتقلوا من الزيدية إلى مذهب السلف.

فالشاهد أن هذه العقيدة إجماعية من عدة نواحي:

أ- أنها لم يكن غيرها في القرون الأولى، وما وجد في تلك القرون من عقيدة فاسدة فإنها مرذولة مردودة؛ لأن أكثر علماء الأمة كأصحاب الأمهات الست، <=حتى أئمة اللغة الكبار كانوا عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد-.

ب- ولأنها العقيدة الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها الْمُسْلِمُونَ، والتي يجب أن يجتمع عليها الْمُسْلِمُونَ شرعاً وديناً ولا يقبل غيرها، كما لا تزال هي العقيدة التي تجمع آخراً كما جمعت أولاً، كما قال الإمام مالك رحمه الله:"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" فآخر هذه الأمة إن أرادوا الاجتماع والنصر والتمكن والاستخلاف في الأرض، الذي جعله الله سبحانه وتعالى لعباده الصالحين من الجيل الأول، فعليهم بهذه العقيدة نفسها، فإنها -بإذن الله- هي الوحيدة الكفيلة بذلك ولا شيء غيرها.

ج-وهي عقيدة فطرية سليمة -ولله الحمد- فكل مسلم يقرأ كتاب الله عز وجل يؤمن بها بالبداهة وبالفطرة، فالعقيدة السلفية -عقيدة أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - في الإيمان، تكتفي بالإيمان المجمل فيمن لا يستطيع الإيمان المفصل.

ص: 9

وهذا الإيمان المجمل يحصل لمن يقرأ القُرْآن أو يسمعه بالبداهة والفطرة، لأنه دين الجميع وقد أنزله الله لجميع البشر، فلم ينزله لعلماء الكلام المتعمقين المكذبين، الذين يكتبون الأوراق والصفحات التي لا يفهمها أحد، وإنما أنزله الله تَعَالَى لكل الناس، للبدوي الجاهل الذي في الصحراء، وللعالم الكيميائي أو الفلكي المتخصص، فيلبي حاجة الفطرة ويتفق معها.

ومما يدل عَلَى وضوحها أن أعداء العقيدة السلفية ينكرون قضايا في الصفات وفي المباحث المهمة ويدَّعون غموضها وهي واضحة للعوام فمثلاً إذا قرأ العامي أو سمع القرآن: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]

وتقول له: هل الرحمن عَلَى العرش؟

فسيقول: نعم.

ولا يخطر عَلَى باله استولى أبداً.

وأعقد من ذلك، أنه لا يخطر عَلَى باله أن يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمينه ولا شماله ولا خلفه ولا قدامه كما هي عقيدة الأشعرية.

وفي قضية الإيمان تقول المرجئة والخوارج معاً: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ ولذلك تقول الخوارج من ارتكب الكبيرة كفر، لأنه مادام أنه نقص من الإيمان شيء فقد ذهب كله.

وبالمقابل قالت المرجئة: مادام أن الزاني يزني ويبقى مؤمناً، فالإيمان لا ينقص إلا بالكفر.

وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فالإيمان عندهم يزيد وينقص، فإذا جَاءَ أحد العوام يقرأ قول الله تبارك وتعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا [المدثر:31] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى [محمد:17] فبالبداهة والفطرة دون أن يلقن من ذلك شيء، سيقول: الإيمان يزيد.

وكذلك القدر -وهو من أكبر المباحث التي يخوض فيها النَّاس من كل مذهب ويؤلف فيها المؤلفات الطويلة العريضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع- كل إنسان يقرأ قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان: 30] إذا سئل هل أنا لي مشيئة وإرادة؟

ص: 10

فسيقول: نعم، يقول تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان: 30] ، فأنت لك مشيئة والله سبحانه وتعالى له مشيئة.

ومن هنا نقول: إن آيات وأحاديث الصفات وأصول العقيدة جملة، ليست من المتشابه؛ بل هي من المحكم الواضح الجلي. وإن كَانَ في بعضها ما قد لا يفهمه إلا أولو العلم أو بعض طلبة العلم، لكنها بالجملة من المحكم، وأما الفهم فتتفاوت الأفهام بما يقدر الله عز وجل لكل إنسان من معرفة اللغة والأهلية عَلَى ذلك.

فهذه المميزات وغيرها تجعلنا جميعاً ندين الله سبحانه وتعالى بهذه العقيدة دون غيرها، ونتعلمها ونتعبد الله عز وجل بها دون غيرها، وإن تعلمنا غيرها فمن باب معرفة الباطل ليجتنب لا من باب معرفته ليعتقد.

وحسبنا ما في هذه العقيدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه النَّسَائِيُّ لما رأى في يد عُمَرَ رضي الله عنه صحيفة من التوراة قَالَ:(أوقد فعلتموه، والله لو كَانَ موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) ، ولما فتح سعد بن أبي وقاص المدائن -مدائن كسرى - وجدوا من الكتب الضخمة التي كَانَ كسرى يحتفظ بها في سائر العلوم والفنون، فكتبوا إِلَى عُمَر رضى الله عنه وَقَالُوا: هل ترى أن ننقلها إِلَى الْمُسْلِمِينَ أو أن نستفيد منها؟

فقَالَ: أحرقوها أو أغرقوها. فما كَانَ فيها من شر فليرحنا الله منه، وما كَانَ فيها من خير فقد أغنانا الله بما هو أعظم منه، والْحَمْدُ لِلَّهِ.

فلا نحتاج في مصدر ديننا، وفي معرفة ربنا سبحانه وتعالى، أن نتلقى من غير ما كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذونه، وهو الوحي.

ص: 11

فالمسألة خطيرة، لأنها ليست قضية رأي وعقل يفكر به الإِنسَان ويختار؛ بل هي قضية اتباع وتسليم لله عز وجل، فمن أراد الحق، والدين لله سبحانه وتعالى بالحق فعليه بهذه العقيدة الإجماعية، التي لا يجوز الخروج عليها.

وإلا فإنه كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء:115]، فهذه الآية من الآيات التي تدل عَلَى حجية الإجماع -كما نص عَلَى ذلك العلماء- وأن اتباع غير سبيل المؤمنين هو التفرق عن الدين القويم قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] .

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: -

[بسم الله الرحمن الرحيم حسبي الله ونعم الوكيل، وبه نستعين، الْحَمْدُ لِلَّهِ، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

فإنه لما كَانَ علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إِلَى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها، بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه] اهـ

الشرح:

ص: 12

بدأ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتابه بهذه الخطبة -خطبة الحاجة- التي كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم -كما صح عنه- يستفتح بها، وهذه سنة ينبغي لنا أن نقتدي بها جميعاً.

وكل خطبة لا يذكر فيها الشهادة أو لا يتشهد فيها، فهي كاليد الجذماء، كما جَاءَ في الحديث. وكذلك في الحديث:(كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع) أو (فهو أبتر) وإن كَانَ في الحديث ضعف من حيث الإسناد، ولكن هو ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه ومكاتباته إِلَى الملوك وغيرهم.

فالبداية بذكر الله سبحانه وتعالى، أو بالْحَمْدُ لِلَّهِ، أو ببسم الله، أو بخطبة الحاجة، هي سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي العدول عنها، وهكذا بدأ المُصنِّفُ رحمه الله بذكر الله سبحانه وتعالى.

ثُمَّ قال بعد ذلك: "أما بعد"، وهذه أيضاً سنة النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه وكتبه، كَانَ بعد أن يسمي الله أو يحمد الله، أو يثني عَلَى الله تَعَالَى بما هو له أهل، يقول: أما بعد، ثُمَّ يبدأ في الموضوع الذي يريده.

وعلم أصول الدين أشرف العلوم؛ لأن شرف الشيء من شرف موضوعه، وموضوع علم التوحيد هو معرفة الله وصفاته، وما ينبغي لوجهه من التعظيم والثناء، وما ينبغي لحقه سبحانه وتعالى من العبادة وهو حقه عَلَى العباد.

وبذلك نستنتج قضية مهمة لا ينبغي أن نفوتها -وإن كانت معلومة ومفهومة لدى الجميع- وهي التشكيك في تعليم التوحيد والعقيدة وأصول الدين، والقول بأن هذه الأمور لا داعي لها.

ص: 13

فيُردُّ عليهم بمثل ما افتتح المصنف، أن شرف العلم بشرف المعلوم، فمعرفة الله تبارك وتعالى هي الفقه الأكبر، وهي أعظم العلوم والغايات، وأشرف ما يسعى إليه المؤمنون جميعاً، فلا يجوز لأحد أن يُهوِّنَ من أمرها أو يشكك فيها، أو يقول: ليس هناك داعٍ إِلَى معرفة توحيد الأسماء والصفات!!

لو قال رجل: ليس هناك داع أن يعلم الناس الصلاة والزكاة، لأنكر عليه جميع الْمُسْلِمِينَ. فكيف بالتوحيد! وهو أعظم؛ لأن معرفة الله تَعَالَى في ذاته أعظم من معرفة حقه، فاعتقادنا فيه أعظم من فعلنا له، وكما سيأتي من كلام المُصنِّفِ رحمه الله وهو يقول: إن القُرْآن كله توحيد، فأفضل ما في القُرْآن هو ما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى.

والنبي صلى الله عليه وسلم أمضى الفترة الطويلة في تعليم التوحيد، ثُمَّ لم يزل في المدينة تنزل عليه أحكام الفروع مرتبطة بالعقيدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] .

وهكذا الجهاد في سبيل الله عز وجل شرع لتكون كلمة الله هي العليا، ومن أوائل ما شرع وفرض هو قتال أهل الكتاب الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، والذين قالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم.

فأمر الله سبحانه وتعالى في سورةِ التوبة بقتالهم، وهو واجب محتم كقتال الْمُشْرِكِينَ المعطلين، فمن عرف الله ووصفه بغير صفته، أو جعل له خدناً أو صاحبةً أو ولداً، أو أشرك في صفاته في أي نوع من أنواع الشرك، فإنه يقاتل كما يقاتل المشرك المعطل.

الحديث عن كتاب الفقه الأكبر

وهنا ينبغي لنا أن نتجه إِلَى قضية ثبوت كتاب الفقه الأكبر.

ص: 14

الواقع أن الإمام أبو حنيفة رحمه الله نُسِبَتْ إليهِ بعضُ الكتبِ التي لم يكتبها ولم يؤلفها، وإنما كتبها عَلَى ما يبدو أحد أئمة الحنفية المسمى أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله، ونسبها إِلَى الإمام أبي حنيفة.

وفيها حق كثير لاشك فيه، لكن يهمنا أن نعرف أنها ليست لأبي حنيفة، فرسالة العالم والمتعلم، ورسالة الفقه الأكبر وإن كَانَ أكثرها صحيح، وشرحت عَلَى أنها للإمام أبي حنيفة، لكنها من الناحية العلمية توثيقاً للكتاب ليست لأبي حنيفة.

والحكم نفسه ضعيف؛ بل هو متهم بالوضع.

ولأن المؤلف حنفي -والحنفية هم أكثر الْمُسْلِمِينَ في ذلك العصر بل هم الدولة- انطلق المُصْنِّف في شرحه عَلَى أن هَؤُلاءِ الحنفية يُثبتون ويعتقدون أن الفقه الأكبر صحيح وثابت عن أبي حنيفة، وربما يقولون: إن الحكَم -وهو أبو مطيع البلخي - ثقة.

ونقول لهم: إذا انتسبتم إِلَى هذا الإمام فانظروا ماذا قال، ولا تعتقدوا عقائد بدعية مخالفة لمذهبه حدثت في القرن الرابع عَلَى يد أبي منصور الماتريدي، ثُمَّ عَلَى يد النسفي وغيرهم من الذين أحدثوا في مذهب الحنفية ما ليس منه، في مجال العقيدة.

لا حياة للقلوب إلا بمحبة الله ومعرفته

وأما قول المُصْنِّفِ: وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة وضرورتهم

إِلَى آخر العبارة.

هذه العبارة هي عنوان باب عقده الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: أنه لا حياة للقلب ولا طمأنينة ولا نعيم إلا أن يكون الله سبحانه وتعالى هو معبوده وإلهه، واختصر المُصْنِّفُ رحمه الله هذه الأسطر من ذلك الكتاب.

مشكلة الإنسان المعاصرة

ص: 15

والقرن العشرون أكثر القرون في تاريخ البشرية اضطراباً وحيرة وتفككاً وضياعاً، ومعلوم أن الذي يعبر عن هذا حق التعبير في أي واقع ومجتمع -سواء كَانَ هذا الواقع حقاً أو باطلاً عقيدة أو سلوكاً- بالتعبير الدقيق هم أصحاب الإحساس العميق الدقيق، كالشعراء والأدباء وأمثالهم.

فماذا يقول أدباء وشعراء أوروبا حول قضية أنه لا حياة للإنسان، ولا سعادة ولا هناء إلا بأن يعرف الله سبحانه وتعالى؟!!

عبروا عن ذلك بما يدل عَلَى الضياع والفراغ والحيرة، ويؤسفني جداً أن أقول: إن بعض أدباء الْمُسْلِمِينَ يسلكون وينتهجون منهج أُولَئِكَ الأدباء الحيارى الضائعين؛ ولذلك نجد كثيراً من الدواوين الشعرية ضائعة تماماً.

فمثلاً شاعر نصراني يقول:

جئت لا أدري من أين؟! ولكني أتيت

وغيره من الشعراء يكتب ديواناً كاملاً تقرأ فيه الحيرة والضياع والألم، فيتألم من شيء لا يدري ما هو.

ونحن والله نعرف أن سببه هو عدم الإيمان بالله عز وجل، وأنه لو عرف الله سبحانه وتعالى وصلى وقرأ كتاب الله، لما كَانَ في شعراء الْمُسْلِمِينَ من يقول:

ومضى عمري ولا أعرف دربي أبداً.

أما نَحْنُ والله إننا نعرف دربنا وإلى أين المصير، ونعرف أن مردنا إِلَى الله سبحانه وتعالى، وأنه فرض علينا فرائض وشرع لنا شرائع، فإذا وقفنا عند حدوده ووحدناه سبحانه وتعالى وأطعناه فمصيرنا إِلَى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن عصيناه وتعدينا حدوده فمصيرنا إِلَى الشقاء وضيق الدنيا، وإلى النَّار في الآخرة أجارنا الله وإياكم، لكن الحيارى لا يدركون ذلك.

وهذا شاعر فرنسي وهو من أكبر الشعراء أثراً في فرنسا يقول: "حيرة الإِنسَان المعاصرة"!!، طبعاً هم يعممون الإِنسَان لأنهم يظنون أن الْمُسْلِمِينَ حيارى، ونحن في الحقيقة حيارى؛ لأن القليل منّا من يمثل حقيقة الإسلام، فيظنون أننا مثلهم عَلَى هامش الأمم حيارى.

ص: 16

يقول: (ومشكلة الإِنسَان المعاصِرة قضية واحدة، وهي أنه يبحث عن سيد، يبحث عن إله) .

فيحدد أول مرة سيداً عاماً لكنه في الأخير يقول: "يبحث عن إله" وهي مشكلة الإِنسَان المعاصرة، فالدمار والحروب المستمرة، والقنابل الذرية، والمصير الرهيب الذي ينذر البشرية، وتحاول أن تتخلص منه ولا تستطيع، هو الذي يلجئ أهل الإحساس وأهل الشعر وأهل النظرات البعيدة إِلَى المخدرات والانتحار، يتخلصون به من رعب المستقبل كما يسمونه، ولذلك نجد أرقى بلاد العالم في الحضارات المادية، وفي الشوارع الفسيحة، والعمارات الضخمة، والترف المادي في معدل المعيشة، هي أكثر بلاد العالم نسبة في الانتحار، لأنه كما قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله وكما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان:(لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها) .

والله لا يجد العبد الطمأنينة والراحة واللذة ولا يجد السعادة مهما أخذ من الدنيا وجمع من حطامها، بل يعذبه الله بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون.

كيفية معرفة الله سبحانه وتعالى

قَالَ المُصْنِّفُُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[ومن المُحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ عَلَى هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إِلَى آخرها، ثُمَّ يتبع ذلك أصلان عظيمان:

أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.

والثاني: تعريف السالكين مالهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم.

ص: 17

فأعرفُ النَّاسِ باللهِ عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه، ولهذا سمى الله ما أنزله عَلَى رسوله روحاً، لتوقف الحياة الحقيقة عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فَقَالَ تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:52-53] فلا روح إلا فيما جَاءَ به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به. وسماه الشفاء كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ [فصلت:44] فهو وإن كَانَ هدىً وشفاءً مطلقاً، لكن لما كَانَ المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر اهـ.

الشرح:

بعد أن ذكر المُصْنِّف رحمه الله أهمية العلم بالله تبارك وتعالى نبه إِلَى الأصل العظيم، وبداية انحرافات الفرق جميعاً التي تنتهي بها إِلَى الضلالة والهاوية.

وهي: كيفية معرفة الله سبحانه وتعالى؟

ص: 18

إن من المحال أن تنفرد العقول وحدها بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، أما الإدراك المجمل والمعرفة المجملة فهذه موجودة في الفطرة، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 173]، فالله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق الفطريفِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]-وسيأتي بحثها عما قريب- وهي موجودة لكنها لا تعطي معرفة تفصيلية، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عن طريق الوحي.

وأما العقول والأذهان فلا تستقل بمعرفة ذلك، ولهذا تخبطت الفرق الإسلامية تخبطاً شديداً لما اتبعت آراء المتخرصين المتهوكين بعقولهم.

والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتبع الدليل الشرعي والوحيقُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] فنذارة النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وهذا الذي ميزنا الله سبحانه وتعالى به وكرمنا به، ثُمَّ إن الله سبحانه وتعالى قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فالوحي محفوظ ومعصوم، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله سبحانه وتعالى ولا نبحث عن مصدر آخر غير هذا الوحي، وإلا فالضلال والويل والخسارة والتخبط واقع كما وقع لمن خرج عن منهج السلف الصالح.

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

فمن ينتهج غير منهج السلف الصالح نجد عادته جمع الأقوال والردود، وقال الحكماء، وقال فلان، ورد عليه فلان وفلان.

لا يصل أبداً إِلَى اليقين والحقيقة؛ لأن هذا الدين ليس مما يدرك بالنظر والعقول، وليس مما تنفرد به الأفهام والأذهان، وإلا لو كَانَ كذلك لما احتيج للأنبياء.

ص: 19

حاجة الناس إلى الأنبياء والرسل

الله سبحانه وتعالى بعث الأَنْبِيَاء ليبينوا ذلك التوحيد، وجعله مفتاح دعوة الرسل يدعون أول ما يدعون إِلَى معرفته وتوحيده سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يستحقه عَلَى العباد من أنواع الطاعات والتعبدات، فلا تستقل العقول ولا تنفرد بمعرفة هذا، ودلائل ذلك من الواقع أكثر من أن تحصر.

فأيام اليونان كانت هناك نظريات عقلية بلا دين، فلما جَاءَ المنتسبون إِلَى الإسلام من الفلاسفة كابن سينا وابن رشد والفارابي والكندي نقدوا تلك النظريات وأبطلوا كثيراً منها، وأضافوا إليها إضافات هي صحيحة بالنسبة لباطل أولئك.

ثُمَّ جاءت النهضة الأوروبيه أو عصر التنوير - كما يسمى- في القرن السادس عشر والسابع عشر، فظهرت نظريات جديدة، ومنها النظريات القديمة سواء ما أضافه المنتسبون إِلَى الإسلام أو نظريات أرسطو وأفلاطون.

ثُمَّ جَاءَ القرن التاسع عشر فظهرت المذاهب التي تسمى المذاهب الوضعية، وفي القرن العشرين ظهرت نظريات أكثر حداثة وأكثر ردة، فيا سُبْحانَ اللَّه!!

وكما قال بعض السلف رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم:من جعل دينه عرضة للهوى أكثر التنقل.

ويكفينا قول الله سبحانه وتعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51] فأي نظرية غيبية تتحدث عن نشأة الكون، أو ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى، أو نشأة الإِنسَان عَلَى هذه الأرض، وكيف جاء؟ ولماذا جاء؟!

هي باطلة من وضع المضلين الذين لم يشهدهم الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، ولم يشهدهم خلق أنفسهم فضلاً عن أن يشاركوه في ذلك، فهم مضلون، أضلوا بني الإِنسَانية وأضلوا أهل الديانات القديمة، ثُمَّ أضلوا أهل الإسلام فيما بعد.

ص: 20

ويسمونهم فلاسفةً وحكماء، وأصحاب العقول الضخمة، وهم لا قدرة لهم في معرفة ذلك إلا بالوحي، وأما ما يفهمه الإِنسَان من الوحي فيما يتعلق بمعرفة الله سبحانه وتعالى فلا مدخل للعقل فيه.

أما فيما يتعلق بالفروع فللعقول مدخل عليه، لأن الله سبحانه وتعالى نزل هذا القُرْآن للتدبر والفهم والاستنباط، وكذا المعارف الدنيوية، فإن الله سبحانه وتعالى أوكل أمرها إِلَى الإِنسَان نفسه وسمح له وأفسح له المجال أن يعمل ويكدَّ فيها ويتعلم.

وأما ما يسمى بالعلوم الإِنسَانية أو النظريات الكونية (النظريات الإِنسَانية) فهذه لا يجوز للمسلم أن يستمد منها شيئاً.

أصول المعرفة الكلية

فالأصول ثلاثة:

معرفة الله سبحانه وتعالى.

ومعرفة الطريق الموصل إِلَى الله سبحانه وتعالى.

ومعرفة العاقبة والمآل لمن أطاع الله ولمن عصاه، وهذه أساس المعرفة بالآخرة.

فالمعرفة الكلية تشتمل عَلَى هذه الأصول والأقسام الثلاثة، وأولها وأشرفها: معرفة الله سبحانه وتعالى.

فائدة في كلمة المعرفة

كلمة المعرفة ينكرها بعض الناس؛ لأن الصوفية يسمون الإِنسَان الذي بلغ عندهم درجةً ما "العارف"، وهذا المصطلح غريب عَلَى الإسلام.

لكن معرفة الله ليست غريبة؛ بل وردت في الحديث الصحيح في إحدى روايات حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى اليمن قَالَ: (فإذا هم عرفوا الله فأنبئهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) والشاهد أن هذه اللفظة في ذاتها لا غبار عليها، وإنما الخطأ في إطلاق كلمة العارف في المصطلح المتداول عند الصوفية، فالدرجات عندنا: مسلم ثُمَّ مؤمن ثُمَّ محسن.

وهناك صفات أخرى وهي: المتقون، المفلحون، الفائزون، إِلَى آخره وليس فيها ولا منها العارفون.

ص: 21

فمعرفة الله سبحانه وتعالى هي الأصل الأول من أصول المعرفة ثُمَّ معرفة الطريق الذي يوصل إِلَى رضا وطاعة الله وهو حقيقة الشريعة، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.

فنعرف أولاً: التوحيد.

ثُمَّ نعرف ثانياً: الفقه والشريعة -أي: معرفة الحلال والحرام-.

ثُمَّ نعرف ثالثاً: مصيرنا، فنعرف أخبار الآخرة وما يتعلق بها، وما هو حالنا عند الموت وبعده، وما هو حالنا في العالم الآخر.

فمن عرف هذه الثلاث اكتملت معرفته الضرورية في معرفة دينه، وهي وإن كانت -أي: معرفة أخبار الآخرة، وما يتعلق بها- مما لا يتعبد بها عملاً لكنها مما ينبغي معرفتها اعتقاداً.

قَولُ المُصْنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ولهذا سمى الله

إلخ.

الإشارة هنا "ولهذا" تعود إِلَى التعليل، والغرض من التعليل إثبات أن العقول لا تستقل بمعرفة الله وأنه يلزم أن تكون تابعة للشرع، ولهذا سَمّى الله ما أنزله عَلَى نبيه صلى الله عليه وسلم روحاً وسماه نوراً، وسماه شفاءً.

أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة، أنه خلق آدم عليه السلام نبياً من الأنبياء، وأن ذريته بقيت عَلَى التوحيد، حتى اختلفوا كما قال ابن عباس رضي الله عنه:"إنه كَانَ بين آدم ونوح عشرة قرون "، ثُمَّ وقع الشرك في قوم نوح كما جَاءَ في الحديث الصحيح، ولم يكن هناك أعراف ولا كهان ولا سحرة؛ بل بعث الله سبحانه وتعالى النبيين مبشرين ومنذرين ليقاوموا تلك الأعراف وأولئك الكهان. فصار الناس فريقين:

المؤمنون الموحدون.

والكفار المُشْرِكُونَ.

وهذه الحضارات الموجودة آثارها إِلَى اليوم، كحضارة الفراعنة، والروم، وقوم هود، وقوم صالح؛ وكلها كَانَ هلاكها ودمارها بسبب تكذيبها بما جَاءَ به الأنبياء، والوحي الذي جَاءَ من عند الله سبحانه تعالى.

ص: 22

وليست العملية تطور علمي: وهو أن البشرية تطورت حتى وصلت إِلَى قمة العلم ثُمَّ الدين، ثُمَّ لما عرفت التوحيد جاءتها الكتب الثلاثة المنزلة كما يقولون.

ومن ذلك نظرية القانون يقولون: إن الإِنسَان بدأ يحتكم إِلَى الأعراف، وكان العُرف هو الذي يحكم الناس، ثُمَّ وجدت ما يسمونها نظرية العقد الاجتماعي ومعناه: أن أفراد المجتمع تعاقدوا فيما بينهم عقداً عرفياً بأنه لا تظالم، وأنه يتم بينهم أخذ وعطاء "ولا تؤذيني ولا أؤذيك"؛ ثُمَّ بعد ذلك جَاءَ الأَنْبِيَاء وجاءت الكتب.

وهذا من الكذب والافتراء عَلَى الله سبحانه وتعالى، فإن هذه النظريات إنما عرفتها البشرية في فترات الانحراف -أزمان الفترة- التي لا يبعث فيها نبي، بل ينحرف الناس عن شريعة الأنبياء، ويتخذون الأحبار والرهبان والملوك والكهان يشرعون لهم من دون الله سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى عندما يبعث أي نبي إنما يبعثه بشرع ليتحاكم الناس إليه، وليحكموا به، والحاكم هو الله سبحانه وتعالى.

والحياة؛ إنما هي في القرآن، أحيا الله به العالمين وأخرجهم من الظلمات إِلَى النور ورحمهم به، وشفى ما كَانَ يعتلج ويختلج في صدورهم من الأوهام والظنون والنظريات الباطلة.

وهنا قد يرد سؤال حيث يقول الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ [فصلت:44] فكيف يكون هدى وشفاءً للذين آمنوا فقط؟ أليس القُرْآن هدىً للعالمين جميعاً؟

نقول: بلى، إن القُرْآن هدىً للناس جميعاً، لكن المنتفع بهداية القُرْآن هم المؤمنون الذين يؤمنون به، أما الَّذِينَ كَفَرُوا فهو عليهم عمى.

وقال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] فمع أنه نور، لكنه قد يكون سبباً للضلال.

فإنه إذا رأى الرائي النور أمامه فأعرض عنه فضلاله أعظم من ضلال من جَاءَ في الظلام ولم ير النور من أصله.

ص: 23

فالذي يرى النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع كلام الله سبحانه وتعالى، ثُمَّ يعرض عنه لا شك أنه لم يخالط قلبه هذا الدواء الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك سبباً لزيادة مرضه وضلاله وهلاكه.

فالدواء دواء، والنور نور، والهدى هدى، والشفاء شفاء، ومن هنا كَانَ للذين آمنوا هدى وشفاء لأنهم يؤمنون به ويطمعون ويسعون للتداوي به والاقتداء والاستضاءة بنوره.

ماذا يجب على الإنسان معرفته من العقيدة

قَالَ المُصْنِّفُُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[والله تَعَالَى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فلا هدى إلا فيما جَاءَ به، ولا ريب أنه يجب عَلَى كل أحدٍ أن يؤمنَ بما جَاءَ به الرَّسُول إيماناً عاماً مُجملاً، ولا ريب أن معرفة ماجاء به الرَّسُول عَلَى التفصيل فرض عَلَى الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القُرْآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إِلَى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إِلَى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله عَلَى المؤمنين، فهو واجب عَلَى الكفاية منهم. وأما ما يجب عَلَى أعيانهم: فهذا يتنوع بتنوع قدرهم، وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب عَلَى العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب عَلَى القادر عَلَى ذلك. ويجب عَلَى من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل مالا يجب عَلَى من لم يسمعها ويجب عَلَى المفتي والمحدث والحاكم مالا يجب عَلَى من ليس كذلك] اهـ

الشرح:

يقول المُصْنِّفُ رحمه الله: إذا عرفنا أن القرآن، وأن الوحي عامة هو النور، وهو الهدى والشفاء، وهو الذي منه تعرف هذه الأصول الثلاثة، حيث تعرف الله تبارك وتعالى وما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ومن أسمائه ومن صفاته، ومن حق العبودية علينا.

ص: 24

إذا كَانَ ذلك كذلك فما مقدار معرفة كل إنسان بهذا القرآن؛ وكأنه بذلك يحتاط ويحترز عن قول بعض الناس: إنه يجب عَلَى كل إنسان أن يعرف العقيدة كاملةً تفصيلاً، وإلا لم يكن مؤمناً.

وهذا القول قاله بعض المتكلمين والخوارج، وكثير من الزائغين المنحرفين عن منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فقولهم هو ما يوافق الكتاب والسنة وهو: أن الإيمان عَلَى نوعين:

إيمان مجمل.

وإيمان مفصل.

فأما الإيمان المجمل: فهذا الذي في إمكان كل إنسان أن يعرفه ويتعلمه مثل: معرفة أن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، وأنه أرسل أنبيائه بالهدى، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رَسُول الله المطاع المقتدى به وحده، وأن الصلاة والزكاة وأشباهها من الأمور الظاهرة المعروفة بالضرورة أنها فرائض، فرضها الله سبحانه وتعالى عَلَى العباد، فهذا يسمى الإيمان المجمل، وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين قَالَ:(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تَعَالَى) وهذا الإيمان المجمل يجب أن يعلَّم للعوام حتى يعرفوه ويفهموه، وتقوم الحجة عليهم، وإلا فيأثُمَّ من لم يعلمهم.

وأما الإيمان المفصل: فإن معرفته فرض كفاية، مثل: معرفة الأسماء والصفات بالتفصيل، وأدلة كل منها، ومعرفة الأحكام الشرعية تفصيلاً؛ لأن الإيمان شعب، وكل عبادة وطاعة من فرض أو نفل فهي شعبة من شعب الإيمان.

وأما الخوارج فَقَالُوا: يجب معرفة الإيمان تفصيلاً، لأنه شيء واحد فقط، وهو ما يقوم في القلب.

والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتعلم وحثنا عَلَى العلم، لكن العلم التفصيلي لا يجب عَلَى كل إنسان أن يتعلمه، وهو داخل في قوله تبارك وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] .

ص: 25

لكنه في حق الأمة كافة فرض كفاية، يجب أن يوجد في الأمة العلماء والمفتون والحكام الذين يحكمون بما أنزل الله، ويفتون النَّاس بما أنزل الله، ويعلمونهم شرع الله تبارك وتعالى وما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى التفصيل.

وأما المعرفة العينية فهو متنوع بحسب قُدَرِهِمْ، فكل إنسان بحسب قدرته.

متى يعذر الإنسان بالجهل

وهنا قضية مهمة ينبغي أن نتفطن إليها وهي: هل الإِنسَان معذور بالجهل أو غير معذور به؟

الذي يعرف هذه الحقيقة التي سبق أن ذكرناها الآن، وذكرها الشارح رحمه الله لا يخفى عليه الجواب، بل يعرف أن مثل هذا السؤال لا يجاب عنه بإطلاق؛ لأننا نفصل فنقول:

أما الإيمان المجمل: فيجب عَلَى كل إنسان أن يعرفه، وهناك ما لا يعذر بجهله أحد من الْمُسْلِمِينَ، فإن كَانَ بإمكانه أن يعلم وجوب الصلاة وفرضية الصلاة وأعرض عنه ولم يبال به، فإنه لا يعذر بجهله هذا في الأصول، أما في الفروع فإنه يُعاقب؛ لأنه فرط ولم يتعلم ما يجب عليه من شعب الإيمان، فعلى حسب قدرته وطاقته يعاقب مادام بإمكانه أن يتعلم، أما من ليس بإمكانه أن يتعلم فلا يُكلف الله نفساً إلا وسعها.

وقد يجهل الإِنسَان بعض الأمور لاعتباراتٍ كثيرة؛ بل قد يجهل الإِنسَان بعض صفات الله عز وجل الأساسية التي لا يليق بأحد أن يجهلها.

ص: 26

ومن ذلك: الرجل الذي من بني إسرائيل فقد ثبت في الصحيح بروايات صحيحة كثيرة أنه قال لأهله عندما حضره الموت: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثُمَّ اطحنوني، ثُمَّ ذروني في البحر وفي البر، والله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين) فإن هذا الرجل لإيمانه وخوفه من الله عز وجل، ولشدة اعترافه وإقراره بتفريطه لحق الله عز وجل أوصى أهله أن يفعلوا به هذا الفعل، فجهل أن الله سبحانه وتعالى عَلَى كل شيء قدير، وأنه يحي الموتى، (فجمعه الله وأعاده خلقاً سوياً كما كان) وهو قادر تبارك وتعالى عَلَى كل شيء، ثُمَّ قال له:(ما حملك عَلَى ما فعلت؟ قَالَ: خوفك يا رب!!)

فلم يفعل ذلك جرأة عَلَى الله عز وجل أو شكاً في إيمانه أو قدرته، لكن خوف الله عز وجل هو الذي حمله أن يظن أنه سيتخلص من هذا الهول العظيم إذا أحرق وطحن ووزع في البر والبحر.

فالإِنسَان قد يجهل مثل هذه الأشياء، ولو علم لتفطن أن الله عَلَى كل شيء قدير.

فالشاهد أن قضية العذر بالجهل أو عدم العذر به قضية نسبية متفاوتة، وكل إنسان يحاسبه ربه تبارك وتعالى بمقدار ما بلغه من العلم وما يمكن أن يتعلمه.

فالمصنف رحمه الله بهذا الكلام الموجز يرد بذلك عَلَى هَؤُلاءِ المنحرفين من الخوارج أو من المتكلمين في هذه القضية المهمة، فالواجب أن يعلم الجاهل، وأن يدعى الغافل ويذكر، هذا هو واجبنا، وعلى كل من عرف شيئاً من الحق أن يبذله، وأن يعلم النَّاس العقيدة الصحيحة، ولا يكثر الخوض والجدل في العذر بالجهل أو عدم العذر به.

فإن الله سبحانه وتعالى سوف يحاسبهم كلاً منهم بما بلغه من العلم، ونحن سيحاسبنا هل بلّغْنَا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟

ص: 27

ولذلك يذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هنا موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إِلَى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ضمن الفروض الكفائية التي يجب أن يقوم بها القادر عليها، وبذلك ينتشر العلم في الأمة ولا يفشو فيها الجهل، وبذلك تقوم الحجة.

أسباب الضلال والحيرة

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق، فإنما هو لتفريطه في اتباع ماجاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إِلَى معرفته فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 123-126] .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفل الله لمن قرأ القُرْآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثُمَّ قرأ هذه الآيات) .

وكما في الحديث الذي رواه التِّرْمِذِيّ وغيره عن عَلِيّ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إنها ستكون فتن، قلت: فما المخرج منها يا رَسُول الله؟

ص: 28

قَالَ: كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ومن قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إِلَى صراط مستقيم) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، الدالة عَلَى مثل هذا المعنى] اهـ.

الشرح:

لعل المُصْنِّف رحمه الله هنا يجيب عَلَى تساؤل قد يقال وهو: إن الوحي من الكتاب والسنة مع أن فيه الحق والنور والهدى، ولكن نجد أقواماً كثيرين حتى من المنتسبين إِلَى الإسلام قد ضلوا وتخبطوا وتاهوا!

فمنهم من عبر عن حيرته كما قال أحدهم:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم

وكما قال الآخر وهو الرازي:

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

فعبروا عن حيرتهم وضياعهم مع أن الكتاب والسنة بين أيديهم، وهذا الهدى بين أيديهم؛ لكنهم خاضوا في علم الكلام والعقائد، لمعرفة الله ومعرفة اليوم الآخر ومعرفة صفات الله سبحانه، فتاهوا وحاروا وضلوا، فإذا قيل: كيف يضيع هَؤُلاءِ ويضلون ويتخبطون مع أن الكتاب والسنة بين أيديهم؟

فيجيب المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذلك ويقول:

[إن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز عن معرفته، فإنما بسبب تفريطه في اتباع ما جَاءَ به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وترك النظر والاستدلال الموصل إِلَى معرفته] .

ص: 29

فلم يأخذ الحق من مصدره الصحيح، وإن كَانَ مؤمناً، وإن كَانَ القُرْآن بين يديه، لكنه فرط في اتباع هذا القُرْآن والاقتداء بهديه، فحينئذ عوقب بالضلال والحيرة والعياذ بالله.

أنواع النظر والاستدلال

النظر والاستدلال هو بمعنى المعرفة العقلية، وإذا جاءت كلمة النظر في هذا الشرح فمعناها: المعرفة العقلية، أو الاجتهاد العقلي، أو الاستدلال العقلي.

والنظر نوعان:

النوع الأول: نظر عقلي محض وهو النظر الكلامي: وهو اتباع القواعد المنطقية والفلسفية في التفكير، فهذا النظر لا يأتي إلا بالضلال، ولا يثمر لصاحبه أي علم أو هدى.

وهذا الذي سلكه هَؤُلاءِ المعبرون عن حيرتهم وضياعهم وضلالهم.

النوع الثاني: نظر شرعي وهو: النظر لفهم نصوص الكتاب والسنة بالتدبر والتأمل والتفكر لفهم كتاب الله عز وجل، كما أمر الله سبحانه وتعالى.

وهذا الاستدلال هو الذي يوصل إِلَى اليقين، فطريق اليقين هو: النظر أو الاستدلال الشرعي، لا الاستدلال والنظر الكلامي المنطقي، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب لنا الأمثلة الكثيرة عَلَى أعظم القضايا وهي قضايا الإيمان، فقضية الإيمان بالله سبحانه مثلاً ضرب الله عليها الأمثلة لإثبات وحدانيته سبحانه، وأنه حق، وعلى أن القُرْآن حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق.

ص: 30

يقول الله سبحانه وتعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] فهناك آيات في الكون، وآيات في النفس، فعلماء الفلك والطب مثلاً يعرفون هذه الأمور، والبدوي العامي الجاهل ينظر إِلَى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، وبإمكانه أن ينظر إِلَى البعير الذي يركبه كيف خلق، فيصل به نظره وتدبره إِلَى اليقين والاعتقاد الجازم الصادق الذي لا يدخله ريب أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 8-10] كل إنسان ينظر كيف خلقه الله سبحانه وتعالى، فيصل عن طريق هذا النظر إِلَى أن الله سبحانه وتعالى حق.

وكذلك الإيمان باليوم الآخر، وهو أكثر القضايا الغيبية إنكاراً عند الْمُشْرِكِينَ، فإن الله سبحانه وتعالى أقسم عَلَى الإيمان باليوم الآخر، لأنه يقابل بالإنكار وبالجحود من كثير من الْمُشْرِكِينَ، فأقسم الله سبحانه وتعالى عَلَى أن البعث حق في ثلاثة مواضع من كتاب الله سبحانه وتعالى، وبين الحكمة العظيمة في ذلك، بحيث لو تأملها الإِنسَان لفطن وتدبر أن الإيمان بالموت حق.

فضرب الله سبحانه وتعالى في سور كثيرة وآيات عديدة الأمثال بإحياء الأرض الميتة، فإذا جَاءَ المطر، أتت الزهور الخضراء والحمراء، والنباتات الطويلة، والنباتات الممتدة، ولها روائح مختلفة، ولها نسبة من السكر، هذا أكثر، وهذا أقل، وهذا مر، وهذا فيه دواء، وهذا فيه غذاء للناس، وهذا فيه غذاء للدواب.

ص: 31

فهو سبحانه ضرب المثل بأنه قادر عَلَى إحياء الموتى بإحياء الأرض الميتة، قال الله سبحانه وتعالى: وإِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [فصلت:39] فيضرب الله سبحانه وتعالى لنا هذه الأمثلة لنستيقن، ونعلم أنه سبحانه وتعالى حق، وأن الإيمان بالآخرة يقين لا يتزعزع لذلك يقول سبحانه وتعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * ليُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:38-39] .

هنا آيات أخرى تدل عَلَى أن البعث حق؛ وهي: العبرة النظرية، حيث يتفكر الإِنسَان إذا قال المُشْرِكُونَ:"والله لا يبعث الله من يموت" وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [النحل:39] ليبين الحكمة قال تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هذه واحدة.

والأخرى وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ لو تأمل الإِنسَان هاتين الحكمتين لاستيقن أنه لا بد من اليوم الآخر.

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهَِ فكم يختلف البشر في قضايا علمية وفي دعاوى وحقوق، بل اختلف النَّاس في أمور أعظم من ذلك وهو ربهم عز وجل، فمنهم من يعبد الأحجار ويقول: هذا ربي، ومنهم من يعبد الله سبحانه وتعالى حق العبادة، ومنهم من يعبد ثلاثة، ومنهم من يعبد عشرة.

ص: 32

وهذه الاختلافات الواقعة بين النَّاس ووجود الظالم والمظلوم، والباغي الباطش المتكبر الجبار المحارب لله عز وجل الذي يعيش عمراً طويلاً في عافية وقوة، يظلم عباد الله عز وجل، ويتسلط عَلَى دمائهم وأموالهم، ويفعل ما يشاء ثُمَّ يأتيه الموت، ويوجد من عباد الله الصادقين المخلصين المقربين لله عز وجل الذين يبتلون بأنواع من الآلام والفتن، ثُمَّ يموت.

تنزيه الله تعالى لنفسه

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[ولا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً يدينون به؛ إلا أن يكون موافقاً لدينه الذي شرعه عَلَى ألسنة رسله عليهم السلام وقد نزه الله تَعَالَى نفسه عما يصفه العباد، إلا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180-182] فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثُمَّ سلم عَلَى المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثُمَّ حمد نفسه عَلَى تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد] اهـ.

الشرح:

قال تعالى: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من قولهم: إن الملائكة إناث، وإنهم بنات الله، وجعلوا بينه وبينهم نسباً فَقَالَ تَعَالَى بعد ذلك: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ تَعَالَى الله وتبارك وتقدس وتنزه عما يصفون.

إِلَاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني: إلا الوصف الذي يصفه به عباده المخلصون، فما يطلقه عليه غيره من الأوصاف، فإنه ينزه عنه، إلا العباد الذين ذكرهم في هذه السورة وفي غيرها -وهم: نوح وموسى وإبراهيم- وأنبياء الله سبحانه وتعالى الذين يصفون الله بأوصاف الحق.

ص: 33

أما هَؤُلاءِ الذين يجعلون الملائكة بنات الله والعياذ بالله، ثُمَّ يقولون: إنهم يؤمنون بالله، فقد رد الله عليهم في سور كثيرة فَقَالَ سبحانه وتعالى في سورة النحل: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:57-60] .

فهَؤُلاءِ ينسبون لله ما يترفعون عنه، أما عباد الله المخلصون فإنهم يصفونه بما هو أهل له، فغير الأَنْبِيَاء والمرسلين ومن سلك طريقهم هم ضالون مخطئون فيما يصفون به رَبّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى. ولو تأملنا الأمم والطوائف والفرق لوجدنا أن هذه الآية ترد عَلَى جميع الملل والفرق التي شذت وانحرفت فيما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى، فاليهود قالوا: يد الله مغلولة! وقالوا في توراتهم المحرفة: إن الله صارع يعقوب إِلَى الفجر والعياذ بالله! وَقَالُوا: إن عزيراً ابن الله -تعالى الله عن ذلك-.

وعن قول النَّصَارَى: إن المسيح ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وتعالى الله عن قول مشركي العرب: إن الملائكة بنات الله.

وتعالى الله عن قول أمم التتار والمغول واليابانيين وأمثالهم: إن الله تبارك وتعالى تزوج الشمس، وولد من الشمس هَؤُلاءِ الملوك والأباطرة الذين يتناسلون، وهم يعبدونهم من أجل ذلك.

ص: 34

وتعالى الله عن قول الشيوعيين: إنه لا إله، ولا وجود له تعالى، أو إنه أسير، أو هواء، كما يقول أصحاب النظرية الأثيرية وما أشبهها. وتعالى الله أن يكون العقل الكلي -كما يقول أفلاطون وأرسطو-:خلق عشرة عقول تدير الكون وبقي لا يعمل شيئاً.

وتعالى الله أن يكون كما قالت الرافضة: إنه فوض أمر السماوات والأرض إِلَى الأئمة الإثني عشر يعملون ما يشاءون ويديرون الكون، فشابهوا قول اليهود أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثُمَّ استراح في اليوم السابع وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب [ق:38] وتعالى الله عما يقوله المعتزلة: من أنه عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وعزيز بلا عزة، إِلَى آخر ما يقولون ويفترون، وتعالى الله عما يقول الحلوليون: من أنه يحل في كل مكان، حتى في الأماكن القذرة والنجسة، والعياذ بالله.

وتعالى الله عما يقول الأشاعرة وغيرهم: من أنه ليس فوق السماوات ولا مستوياً عَلَى عرشه.

وهكذا نجد أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عندما قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:159-160] نزه نفسه عن جميع الأوصاف التي يصفه بها جميع الأمم الضالة وجميع الفرق الضالة (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) ، وهم الأَنْبِيَاء والرسل، وهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وصحبه، وهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الذين يصفون الله سبحانه وتعالى بالمحامد، وبالأسماء الحسنى وبالصفات العلا، ويثبتون له ما أثبته لنفسه.

فهذه الطائفة -الفرقة الناجية المنصورة - وحدها هي المستثناة؛ لأنها تعلم أن له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وأنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .

ص: 35

يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثُمَّ سلم عَلَى المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب] .

فقوله: [من النقائص والعيوب]"من": ترجع إِلَى كلمة سلامة، لا إِلَى كلمة وصفوه، أي: لسلامة ما قالوه في حق الله من النقائص والعيوب، أي أن كلامهم في حق الله سليم من النقائص ومن العيوب، وليس معناها: لِمَا وصفوه من النقائص والعيوب.

ثُمَّ حمد نفسه عَلَى تفرده بالأوصافِ التي يستحق بها كمال الحمد سبحانه وتعالى فقَالَ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:182] فختم السورة، وختم هذه المعاني بقوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:182] فهو المستحق سبحانه وتعالى لكمال الحمد وكمال الشكر المتفرد به، وكلمة الحمد: تشمل جميع أنواع المحامد؛ لأن "ال" هنا للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد والثناء اللائق بجلال الله سبحانه وتعالى فهو يستحقه تبارك وتعالى.

أهمية البصيرة في الدعوة إلى الله

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[ومضى عَلَى ما كَانَ عليه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم خير القرون، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يوصي به الأول الآخر ويقتدي فيه اللاحق بالسابق، وهم في ذلك كله بنبيهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، كما قال تَعَالَى في كتابه العزيز: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] ، فإن كَانَ قوله أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي معطوفاً عَلَى الضمير في "أدعو" فهو دليل عَلَى أن أتباعه هم الدعاة إِلَى الله وإن كَانَ معطوفاً عَلَى الضمير المنفصل فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جَاءَ به دون غيرهم، وكلا المعنيين حق] اهـ.

الشرح:

ص: 36

يقول المُصْنِّف رحمه الله: مضى عَلَى الاعتقاد الصحيح -في حق الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه خير القرون، كما قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] ويذكر المُصْنِّف رحمه الله في هذه الآية معنيين، بحسب الوقوف.

فإذا قلنا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ فوقفنا ثُمَّ قلنا عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فهذا له معنى، أي: أنا ومن اتبعني عَلَى بصيرة، وغيرنا ليس لديه بصيرة، فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يخبر فَيَقُولُ: عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي نَحْنُ الوحيدون الذين عَلَى بصيرة، لأن منهجنا هو الحق، وأما غيرنا فهو عَلَى ضلال.

وإذا قلنا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي دون وقوف فهذا له معنى آخر، أي: أنا ومن اتبعني ندعو إِلَى الله عَلَى بصيرة لا عَلَى جهل. وكلا المعنيين لهما مدلول واضح وجيد.

وإن كَانَ المعنى الثاني هو الأظهر، وهو المتبادر؛ لأن معناه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي: إنني وأتباعي المؤمنون بالله سبحانه وتعالى ندعو إِلَى الله عَلَى بصيرة، وغيرنا يدعو إِلَى الله؛ لكنه لا يدعو إِلَى الله عَلَى بصيرة، فإن أحبار اليهود ورهبان النَّصَارَى يدعون إِلَى الله -كما يظنون-، لكنهم لا يدعون إِلَى الله تَعَالَى عَلَى بصيرة، وإنما يدعون إِلَى الضلال والشرك بالله. وكم تبذل الكنيسة من الأموال ومن الجهود من أجل الدعوة إِلَى دينهم، عَلَى غير بصيرة.

ص: 37

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[وقد بلغ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثُمَّ خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم، وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وممن قام بهذا الحق من علماء الْمُسْلِمِينَ: [الإمام أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن سلامة الأزدي الطّّحاويّ، تغمده الله برحمته، بعد المائتين، فإن مولده سنة (تسع وثلاثين ومائتين) ووفاته سنة (إحدى وعشرين وثلاثمائة) ] .

فأخبر رحمه الله عما كَانَ عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه: أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومُحَمَّد ابن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين ويدينون به رَبّ الْعَالَمِينَ] اهـ.

الشرح:

يقول المصنف: [وقد بلغ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وأوضح الحجة] وهذا لا يشك فيه أحد ولو شك فيه أحد لكان كافراً مرتداً، وهذه القضية بديهة ومعلومة عند جميع الْمُسْلِمِينَ.

لكن ما نجعله من لوازمها يخفى عَلَى كثير من الْمُسْلِمِينَ.

ص: 38

فإذا آمنا وأيقنا أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قد بلغ الدين كاملاً ولم ينقص منه أي شيء، فيترتب عَلَى ذلك أنه إذا وضع أحد قواعد نفهم بها بعض الآيات، أو جَاءَ بإضافات وأعمال جديدة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، وقَالَ: هذه من حقيقة الدين، فمعنى ذلك أن هذا الإِنسَان يقول بلسان حاله -إن لم يقل بلسان مقاله- أن ما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم ناقص، وأنه لم يبلغ البلاغ، ولم يؤدّ الأمانة التي وكلت إليه وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، لكن هذه هي حقيقة قولهم.

ومن ذلك التأويل الذي سيذكره المصنف.

بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم المنع من وضع قواعد وإضافات ليست مستمده منه

فالذين وضعوا قواعد التأويل متفقون ومطبقون ومجمعون عَلَى أن هذا التأويل لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، ويقولون: هذا من أصول الدين التي يجب أن نتمسك بها، ويردون بها كثيراً من النصوص، ويحرفون بها معاني كثير من الآيات لأنها قاعدة ضرورية!

كيف تقولون إنه من أصول الدين مع قولكم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره ولم يتعرض له ولم يأت به؟!

فلازم كلامكم أنه صلى الله عليه وسلم ما بلغ، وقد خان الأمانة والرسالة عياذاً بالله، وبذلك نفهم أهمية توثيق قضايا العقيدة التي خالفت فيها الفرق، وترتيبها وإرجاعها إِلَى القضايا المحكمة.

ولذلك قال الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات: "إن العامي الموحد يغلب الألف من الْمُشْرِكِينَ أو من أصحاب البدع ".

لأنه وإن كَانَ عامياً، وعلمه محدود، لكنه يرجع القضايا المشتبهة الشائكة التي يخوض فيها العلماء إِلَى قضايا واضحة وأصول وضوابط محكمة.

ص: 39

فنرد المتشابهات أو المشكلات إِلَى المحكم الواضح الجلي، فإن جَاءَ أحد وقَالَ: نؤول هذه، أو نترك هذه، فعندنا كلمة عامة محكمة وهي: ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم آمنا به، وهكذا

فمن جاءنا وقَالَ: هذه زيادة نعمل بها، ولم يعملها بها الصحابة رضي الله عنهم، ولم يأت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالجواب عليه أنه: ما دام كذلك فهي ليست من الدين ولا أجر فيها ولا ثواب، بل فيها العقوبة والرد (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .

وهذا ينطبق عَلَى ما وضع من قواعد علم الكلام، والبدع العملية والفرعية، بل كل بدعة ابتدعت فهي داخلة فيما أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراق لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك معتزلة أومرجئة.

لكن كيف تفرقت الأمة؟ وكيف ظهرت هذه البدع؟

ورد الحديث بذكر ذلك، وإن كَانَ بعضهم يطعن فيه، لأنه ليس في الصحيحين، وإنما ورد في المسند، وعند ابن أبي عاصم، وفي السنن في روايات كثيرة:(إن هذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلا واحدة) وبعضها تذكر (إن اليهود افترقت عَلَى إحدى وسبعين فرقة والنَّصَارَى افترقت عَلَى اثنين وسبعين فرقة، وهذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة) وبعضها لا يذكر زيادة (كلها في النَّار إلا واحدة) وبعض الروايات تذكر صفات الفرقة الناجية وأنها (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .

الشاهد أن مجموع الروايات تدل عَلَى صحة الحديث، حتى إن بعضهم عده من الأحاديث المتواترة مع أنه ليس في أحد الصحيحين، لكن الافتراق في ذاته ثابت وواضح من أدلة قطعية غير هذه الألفاظ، وغير هذه الروايات التي وردت في الحديث.

من أسباب الاختلاف نسيان الحظ

ص: 40

ونحن نعلم جميعاً أن اليهود والنَّصَارَى افترقوا إِلَى حد الاقتتال، وأنهم كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَر [البقرة:253] فهم اختلفوا وتفرقوا بغياً بينهم فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [المائدة:14] .

وأخبرنا الله سبحانه وتعالى أن اليهود والنَّصَارَى اختلفوا، وأخبرنا في هذه الآية من سورة المائدة أن سبب اختلاف النَّصَارَىأنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.

ولو أخذنا هذه الآية فإنها تفسر لنا كثيراً جداً جداً من أسباب وقوع الخلاف بين الْمُسْلِمِينَ، كيف أنهم لما نسوا حظاً مما ذكروا به وقعت العداوة والبغضاء بينهم.

ونطبق هذه الجملة القرآنية عَلَى هذه الأمة، ونعرف أن هذه الأمة افترقت، بسبب "نسيان الحظ" وذلك بآيات وأحاديث الوعيد مثلاً:

ذكر الله تبارك وتعالى الوعيد فيمن قتل وزنى وسرق: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69] وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن

إلخ) ، وجاء في الحديث الآخر:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .

ص: 41

وهكذا نصوصٌ كثيرة في مقام الوعيد، فجاءت الخوارج فأخذت حظاً مما ذكروا به، حيث أخذوا بأحاديث الوعيد فقط، وَقَالُوا: إذاً من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج من الملة، وتركوا الأحاديث والآيات التي تفسرها وأخذوا حظاً مما ذكروا به وتركوا الحظ الآخر، مع أنهم لو أخذوا هذا وهذا لفهموا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة) ، فقد فُسِّر ذلك بأنه ما كَانَ من قتال في عهدعَلِيّ ومعاوية، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإسلام مع وقوع القتال، وفي آية الحجرات يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فالقتال يقع بين المؤمنين ولا يخرجهم من الملة، نعم هو كبيرة وعليها وعيد شديد، ولكن لا يخرج من الملة.

وأخذت المرجئة حظاً آخر مما ذكروا به، فأخذوا بآيات وأحاديث الوعد:(من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ، فأخذوا بروايات مطلقة مع وجود روايات تقيدها وتفسر معناها وتدل عليها، منها تكفير تارك الصلاة مثلاً:(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)(بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة) ، فتركوا جانب الوعيد كله، وأخذوا بجانب الوعد فقط.

وفي موضوع الصفات: فإثبات صفات الله عز وجل جاءت في آيات كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا كيف نؤمن بصفات الله عز وجل وأنها عَلَى جانبين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] نفي وإثبات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هذا جانب نفي وتنزيه لله سبحانه وتعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هذا جانب إثبات لله سبحانه وتعالى.

ص: 42

فجاءت المعطلة فأخذوا بجانب النفي والتنزيه فقط، وقالوا لا يسمع ولا يبصر، وليس له يد ولم يستو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وإذا أثبتنا اليد والعين والنزول والرؤية، أصبح الإله من المخلوقات الممكنات، وأصبح له أعضاء والعياذ بالله، فقدموا أموراً لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقالوا نَحْنُ ننزه الله وننفي هذه كلها، ولو كانت في الكتاب والسنة، فإننا نأولها ونردها وننفيها حتى ننزه الله سبحانه وتعالى عنها، فأخذوا حظاً مما ذكروا به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] ونفوا صفات الله عز وجل بمثل هذه الآيات.

وبالمقابل جاءتالمشبهة ونسوا حظاً مما ذكروا به، وتركوا الآيات التي جاءت في تنزيه الله سبحانه وتعالى، وأثبتوا لله سبحانه وتعالى الصفات كما يليق بالمخلوق -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- مشابهين في ذلك لليهودعندما قالوا: إن الله تبارك وتعالى -كما هو مذكور في التوراة- خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع والعياذ بالله!

فجعلوا الله سبحانه وتعالى يتعب ويلغب، كما يلغب ابن آدم إذا عمل عملاً ما، ولذلك نفى الله سبحانه وتعالى ذلك فقَالَ: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: لم يمسنا التعب ولا النصب ولا اللغب، وردّ عليهم، فجاء هَؤُلاءِ المشبهة، وأخذوا من اليهودالتشبيه وزادوا عليهم فَقَالُوا: له يد كيدنا، فجعلوا صفات الله عز وجل مثل صفات المخلوق.

ص: 43

فإذا قال لهم أُولَئِكَ المعطلة: أنتم شبهتم، قالوا: أنتم عطلتم، لذا قال السلف الصالح: المعطل عابد عدم، والمشبه عابد صنم، فالمعطل عابد عدم لأنه يقول: إن الله تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله، وليس له يد، وليس له عين، وليس له أي صفة من الصفات، ولا يسمع ولا يبصر.

إذاً: فهذا معدوم غير موجود، فالمعطل عابد عدم، ولكن المشبه عابد صنم لأن الذي يقول يد الخالق كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، وقدمه كقدم المخلوق، فإنما هو يعبد صنماً، لأن الأصنام نحتت لكي تعبد من دون الله، لكي يقَالَ: هذا هو الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والشاهد أن سبب الخلاف بينهما هو أن هذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي حظاً، وهذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي الحظ الآخر، فأغرى الله بينهما العداوة والبغضاء.

فتجد في كتب المعطلة أنهم يكفرون المشبهة، وفي كتب المشبهة يكفرون المعطلة، وفي كتب المرجئة يكفرون الخوارج، وفي كتب الخوارج يكفرون المرجئة، أغرى الله سبحانه وتعالى بينهم العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف أن لا يؤخذ الكتاب كله ولا يتلقى العلم والدين كله من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الشهوات وحب الدنيا

ومن أسباب الاختلاف: "الشهوات وحب الدنيا" فإن حب الدنيا يفسد النية والإرادة، وإذا فسدت الإرادة ودخل الدخن إِلَى القلب، فإن الأعمال تفسد، ويترتب عَلَى فساد الأعمال فساد في الاعتقاد، وأسباب ذلك تبدأ بسيطة لكنها فيما بعد تظهر وتبدو، حتى تكون منهجاً من المناهج.

ص: 44

فحب الدنيا كَانَ من عوامل الإفساد بين الْمُسْلِمِينَ، ومن عوامل تفرق الْمُسْلِمِينَ وهلاكهم كما جَاءَ في الحديث الصحيح، لما جَاءَ أبو عبيدة من البحرين بالغنيمة أو الجزية إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ:(لعله بلغكم ما جَاءَ به أبو عبيدة من هجر) ومع ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) فالتنافس في الدنيا والتفرق فيها يؤدي إِلَى التفرق في الدين.

ولذلك لما قام بعض النَّاس يريد الخلافة وينازع فيها تفرقت الأمة الإسلامية، حتى أصبح لهم في عام (72 أو 73) أربعة أمراء للحج، حجت طائفة مع بني أمية تحت راية بني أمية في يوم عرفة، وحجت طائفة تحت راية المختار بن أبي عبيد، وحجت طائفة تحت راية عبد الله بن الزبير، وحجت طائفة للخوارج تحت راية نافع بن الأزرق، أربع رايات للحج في وقت واحد وفي يوم واحد يوم عرفة بعد حوالي "60 سنة" من وفاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم!

وذلك لأجل الأهواء والشهوات وحب الدنيا والتنازع عَلَى الملك.

كما قال أبو برزة في الحديث الذي رواه البُخَارِيّ، قَالَ:"والله إني لأحتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً عَلَى هذا الحي من قريش، إن هذا الذي في العراق إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن هذا الذي هنا إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن أُولَئِكَ -يعني القراء الخوارج - إنما يقاتلون عَلَى الدنيا ".

فحب الدنيا كَانَ من أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ وتنازعهم واختلافهم.

وكذلك دخول الحاقدين

ص: 45

ومن أسباب تنازع الْمُسْلِمِينَ واختلافهم: دخول الحاقدين، وهذا عامل خارجي، والعامل الخارجي لا يأتي إلا عقوبةً لخلل داخلي، كما أن الله سبحانه وتعالى عاقب في يوم أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] .

فكانت العقوبة بسبب ما عند النفس من الذنوب كما جَاءَ في الآية الأخرى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة [آل عمران:152] فبسبب فساد الإرادة، أو بسبب الخلل الداخلي تأتي العقوبة الخارجية، وتسليط الأعداء، وإلا فقد قال تبارك وتعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] ، فأعداؤنا يكيدون علينا ليل نهار دائماً، فإذا تحدثنا عن أي مصيبة أصابت الْمُسْلِمِينَ قلنا هو بسبب الأعداء، فالشيوعيون والصليبيون واليهود يخططون ويعملون ضدنا.. وهكذا وكأننا قوم مؤمنون صالحون متقون، ولكن هَؤُلاءِ آذونا وامتحنونا وفعلوا بنا!

سُبْحانَ اللَّه!! لماذا لا ننظر إِلَى السبب الأعظم؟ وهو لماذا سلطهم الله تبارك وتعالى علينا؟

لأنه لا تقوى ولا صبر لدينا، ولذلك سُلطوا علينا فضرنا كيدهم وأثر فينا، ولله في ذلك حكمة.

فاليوم أكثر الْمُسْلِمِينَ يوالون الكفار مع هذه المخططات الواضحة الجلية، فبالله كيف يكون الحال لو أن كَانَ الكفار لا يخططون ضدنا؟

إذاً لحييناهم ولقبلناهم وبششنا عَلَى وجوههم.

ص: 46

ولذلك شاء الله أن يكون مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من أكبر الفجائع في التاريخ الإسلامي، عَلَى يد رجل مجوسي لنعتبر، وعندما جيء به ليحقق معه، شهد بعض الصحابة بأننفيلة النصراني والهرمزان، وهما من ملوك العجم جاءا وأظهرا الإسلام في المدينة، واتفقا مع أبي لؤلؤة المجوسي، ورآهم قبل ذلك بليال وهم يتحدثون، وسقط بينهم السيف الذي له نصلان، وهو الذي استخدم في قتل عمر الفاروق رضي الله عنه.

فالنَّصَارَى والمجوس اتفقوا وبيتوا المؤامرة لمقتل عُمَرَ رضي الله عنه، واكتشف الْمُسْلِمُونَ هذه المؤامرة ليعرفوا أن لهم أعداءً، وأن العداوة هذه لن تخمد أبداً، وليحتاطوا من أمثال هَؤُلاءِ.

واليهود وضعوا للنبي صلى الله عليه وسلم السم في الشاة -كما جَاءَ في الحديث الصحيح- الشاة المسمومة التي أكل منها النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالت الذراع: إنها مسمومة، أنطقها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.

فهم ألد أعداء الإسلام كما قال الله تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82] ولذلك جَاءَ اليهودي عبد الله بن سبأ وأثار الفتنة عَلَى عثمان رضي الله عنه، ليكمل الدور الذي قام به أبو لؤلؤة المجوسي عليه، ولما حرقعَلِيّ رضي الله عنه هَؤُلاءِ الزنادقة وكانوا من طائفة عبد الله بن سبأ اليهودي، هرب عبد الله بن سبأ ولجأ إِلَى بلاد فارس، حيث بذر الفكر المجوسي، فالتقى الفكر المجوسي مع الفكر اليهودي، وبذروا الفكرة التي أصبحت تؤلّه علياً رضي الله عنه، لأن علياً رضي الله عنه إنما حرقهم عندما قالوا: أنت أنت.

قَالَ: من أنا؟

قالوا: أنت الله.

فقال رضي الله عنه:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً

ص: 47

قَالَ: أوقدوا لي نيراناً فأحرقوهم، فهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد فارس، وبذر هذه الفكرة في نفوس العجم، وأوجدت الدين السبئي الذي لا يزال قائماً حتى الآن.

فمن أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ، وظهور هذه الفرق، هو المكر اليهودي والنصراني والمجوسي.

وسنأتي أيضاً للتعرف عَلَى هذه الطائفة وغيرها عندما يأتي -إن شاء الله تعالى- الحديث عن الصحابة وما الذي يجب اعتقاده في حقهم رضوان الله عليهم؟

فالمغرور والمخدوع من يظن أن هذه الطوائف الحاقدة التي أنشأها أعداء الإسلام، وبذروها في بلاد الْمُسْلِمِينَ، وفرقوا بها صف الْمُسْلِمِينَ-أنها يمكن أن تحب وتوالي الإسلام والْمُسْلِمِينَ، فإنها قامت عَلَى الحقد وبه تتغذى.

والفرق والطوائف المبتدعة المنحرفة تعتمد في تكونها وتركيبها وتجميع أفرادها عَلَى معادة أهل الحق -الطائفة الكبرى- فليس هناك قضية عقلية خاصة، أو بحث نظري مجرد يجمعها، أو هو الذي أعطاها منهجاً، وإنما الذي يجمعها هو العداوة لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أهل الحق، فيربون أنفسهم وأبناءهم وأجيالهم عَلَى الحقد عَلَى الطائفة الحق، لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أو الطائفة المنصورة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وفي الرواية الأخرى: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون عَلَى النَّاس) وفي رواية من حديث جابر في صحيح مسلم زيادة مهمة أو تفسير مهم وهي: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من الْمُسْلِمِينَ حتى قيام الساعة) ففيها زيادة أن هذه الطائفة تجاهد النَّاس من أجل إقامة هذا الدين.

ص: 48

وجهاد أهل البدع مشروع بالأحاديث المتواترة في قتال الخوارج، فهم من أهل البدع، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح المتواتر كما قال بعض العلماء:(لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد) .

ومن هنا أخذ العلماء قاعدة عظمى وهي: "مقاتلة أهل البدع" وهي أن حكم أهل البدع؛ المقاتلة إذا تميزوا وأصبحوا طائفة، وأما إذا بقوا في المجتمع فإنه يجب علينا أن نكبتهم ونمنعهم من نشر بدعهم والدعوة إليها، ومع ذلك نعطيهم أحكام الإسلام الظاهرة عَلِيّ رضي الله عنه -لما لجأوا إِلَى جنبات المسجد وَقَالُوا: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، فقال-: إن لكم علينا ألاّ نمنعكم البيت، ولا نمنعكم المساجد، يعني تصلون معنا وتأخذون حصتكم من الفيء من بيت مال الْمُسْلِمِينَ، إلاّ إذا أحدثوا حدثاً، أي: إذا عملوا عملاً يخل بأمر المجتمع المسلم والجماعة المسلمة، وأحكام أهل البدع طويلة ولعله يأتي بعضها إن شاء الله.

والطائفة المنصورة هي التي عَلَى مثل ما كَانَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما فسرتها روايةالتِّرْمِذِيّ:(ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ولما سئل الإمام أَحْمَد عن الطائفة المنصورة قَالَ: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) وذلك أن لأهل الحديث مصطلحين:

مصطلح علمي.

ومصطلح شرعي.

فالاصطلاح العلمي المراد به هم الذين يشتغلون بدراسة الحديث، ونقد الرجال والمتون ومعرفتها وتخريجها، فهَؤُلاءِ يسمون علماء الحديث، كما تقول علماء النحو، وعلماء البلاغة، وعلماء اللغة، وعلماء التفسير، وليس هذا هو المعنى المراد من الإمام أَحْمَد، لأنه يوجد من المحدثين من هو عَلَى بدعة خاصة في القرون الأخيرة، ويوجد من المشتغلين بالرجال ودراسة الأسانيد من لا يمثل عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ حق التمثيل.

والاصطلاح الشرعي: هم الذين يأخذون بالأحاديث ويعملون بها.

ص: 49

ولذلك أطلق السلف عَلَى الذين لا يأخذون بالحديث والأثر من طوائف أهل البدع: أهل الكلام وأهل الجدل، لأن بدعهم لا تقوم عَلَى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تقوم عَلَى الجدل وعلم الكلام، فبقيت الطائفة المنصورة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يأخذون بالأحاديث.

ولذلك يُسمون: أهل الأثر وأهل الحديث، أي: المتبعون لِمَا كَانَ عليهِ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فكلام الإمام أَحْمَد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري منهم" أي المتبع للأثر، حتى وإن كَانَ من أهل اللغة، فقدماء أهل اللغة عموماً النضر بن شميل والخليل بن أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام من علماء اللغة والحديث هَؤُلاءِ من أهل اللغة وهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أيضاً.

فأهل الحديث المراد بهم أهل الأثر المتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نستطيع أن نفهم أن الطائفة المنصورة هي المتبعة لما كَانَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي الناجية الوحيدة، وهي التي قامت بإبلاغ ونقل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذا يقول المصنف: [وممن قام بذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ] .

فقد نقل عقيدة السلف، وبالذات عقيدة الإمام أبي حنيفة وتلميذيه، وهكذا كل من يأتي ويتكلم في عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنما ينقل كلامهم ويشرحه ويوضحه، ولو جاءنا أحد بشيء من عنده لرددناه كما نرد عَلَى أهل البدع، فهذا هو الطريق المتبع وهذا هو طريق أهل الأثر.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 50

[وكلما بعد العهد ظهرت البدع، وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلاً ليقبل، وقلّ من يهتدي إِلَى الفرق بين التحريف والتأويل، إذ قد سُمِّى صرف الكلام عن ظاهره إِلَى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلاً، وإن لم يكن ثَمَّ قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلاً قُبل وراج عَلَى من لا يهتدي إِلَى الفرق بينهما. فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إِلَى إيضاح الأدلة، ودفع الشُبَه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إِلَى شُبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه، والاشتغال به والإصغاء إليه، امتثالاً لأمر ربهم، حيث قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه [الأنعام:68] فإن معنى الآية يشملهم. وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.

فالواجب اتباع المرسلين واتباع ما أنزله الله عليهم وقد ختمهم الله بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر الأَنْبِيَاء وجعل كتابه مهيمناً عَلَى ما بين يديه، من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب، والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والأنس، باقية إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وانقطعت به حجة العباد عَلَى الله، وقد بين الله به كل شيء وأكمل له ولأمته الدين، خبراً وأمراً وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إِلَى غيره، وأنهم إذا دعوا إِلَى الله والرَّسُول -وهو الدعاء إِلَى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدوداً وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا.

ص: 51

وكما يقول كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نُحس الأشياء بحقيقتها، أي: ندركتها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقية جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرَّسُول أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة.

وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين يما يدعونه من الباطل الذي يسمونه: حقائق وهي جهل وضلال وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك.

وكل من طلب أن يُحكم في شيء من أمر الدين غير ما جَاءَ به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جَاءَ به الرَّسُول وبين ما يخالفه، فله نصيب من ذلك، بل ما جَاءَ به الرَّسُول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلموا ما جَاءَ به الرَّسُول في كثير من الأمور الكلامية الاعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الأمارة السياسية، أو نسبوا إِلَى شريعة الرَّسُول بظنهم وتقليدهم ما ليس منها وأخرجوا عنها كثيرا من ما هو منها.

فبسبب جهل هَؤُلاءِ وظلالهم وتفريطهم وبسبب عدوان أُولَئِكَ وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة.

بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل في ما جَاءَ به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ليُعلم ويعتقد ويعمل به ظاهراً وباطناً، فيكون قد تُلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء] اهـ.

الشرح:

كلما بعد العهد كثرت الانحرافات والتأويل الذي سماه أهله "تأويلاً" فإن من المعلوم أنه قد كثر التعطيل والتشبيه.

التأويل

ص: 52

والتأويل هو أصل به هُدمت الشريعة، ويوضح ذلك: أن الذين ينفون صفات الله عز وجل كالمعطلة والباطنية والرافضة، وأمثالهم من الذين يضربون كتاب الله بعضه ببعض، هَؤُلاءِ هم قوم مجاهرون ومعادون لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بوضوح، ويعادون الأمة الإسلامية وجماعة الْمُسْلِمِينَ، ويعادون الأصول الشرعية، فيردون الآية والحديث، وأمرهم واضح جلي، لكن المؤول أخطر وجنايته أكثر، لأنه يقول: أنا أؤمن بالآية والحديث، ويقول: أنا من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهكذا يدعي المؤولون: أنهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

والتأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح قرينة،

والتأويلات كثيرة جداً، وبعضها مضحك، وبعضها يستدعي التعجب، فمثلاً بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي [ص:75] هنا "يدَي"، وهناك "يداه"، فالمؤول يقول: نؤول اليد، مع أن ظاهر اليد صفة معروفة.

فالذين يثبتون لله عز وجل هذه الصفة يقولون: اليد حقيقية تليق بالله سبحانه وتعالى، لا نعرف كيفيتها، فيقول المؤولة هذا الظاهر، ونحن مسلّمون بأنه ظاهر اللفظ وأنه تدل عليه الآية، لكن نصرف هذا الظاهر إِلَى وجه واحتمال مرجوح، وهو أن لفظة اليد معناها النعمة أو القدرة، لقرينة وهي: تنزيه الله عز وجل، فالقواطع والبراهين العقلية دلت عَلَى أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجارحة.

فهناك قواعد عقلية وضعوها هم:

منها: أن الله ينزه عن الجارح، واليد جارحة، فتنفى عن الله ويصرف اللفظ من الاحتمال الراجح المتبادر الذي يعرفه كل من يقرؤه إِلَى احتمال مرجوح يقال فيها بوجود القرينة، وهي البرهان العقلي الذي قام عَلَى تنزيه الله تعالى.

ص: 53

وأولوا وحرفوا بتأويلات عجيبة، نذكر فقط بعض الامثلة، ففي الحديث الصحيح:(لا تزال النار تقول هل من مزيد حتى يضع الله تَعَالَى قدمه في النار) وروايات كثيرة في أن النَّار لا تمتلئ حتى يضع الجبار تبارك وتعالى فيها قدمه، وفي رواية:(رجله) كلها في صحيح البُخَارِيّ ومسلم، (يضع الله تعالى قدمه في النَّار فتقول: قط قط) وفي إحدى الروايات كلمة (الجبار) وفي روايات كثيرة: (يضع الله)(يضع الرحمن) فَقَالُوا: الجبار إما أنه أحد الملائكة اسمه "الجبار"، وإما أنه أحد الظلمة من أهل الأرض، فلا تمتلئ حتى يضع هذا الجبار الطاغوت قدمه أو رجله في النار، فتقول: قط قط قد امتلأت.

وهذا تأويل أبي المعالي الجويني، وقد رجع عن ذلك، وتبعه عليهأبو حامد الغزالي، وهو موجود في كتابه المصقول في علم المعقول، وهم قالوا بذلك هروباً من أن يقولوا: هو الله عز وجل.

والروايات الأخرى التي فيها (الله، الرحمن) قالوا: عندنا قرينة وهي: أن الله ينزه عن الأبعاض والجوارح، وهذا قد قامت عليه البراهين العقلية والأدلة القطعية من العقل، فتنفى.

وحديث الحبر اليهودي، رواه الإمام أَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم وغيرهم، أنه جَاءَ إِلَى النبي وقَالَ:(أما علمت يا مُحَمَّد أن الله يَوْمَ القِيَامَةِ يضع السماوات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والثرى عَلَى إصبع، والشجر عَلَى إصبع، وبقية الخلائق عَلَى إصبع) وفي رواية الإمام أَحْمَد: (أنه يضع الأرض عَلَى ذه وأشار إِلَى السبابة) ثُمَّ استمر في بقية الأصابع.

وفي الحديث: (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله) هكذا نص الحديث "على إصبع" فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله.

ص: 54

ومثله الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحك تصديقاً لقوله، وأن هذا حق، لكن كيفية الصفة غير معلومة لنا، فله من الصفات ما يليق به كما أن للمخلوق ما يليق به.

وأما المؤولة فقالوا هذا الحديث يؤول، وذلك كابن فورك، فإنه قَالَ: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً من تشبيه هذا الكافر اليهودي.

فيقال هل ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً من كفره؟!!

تأويلات غريبة ليس عليها أي دليل، إلا أنه كما قالوا: قامت القواطع والبراهين العقلية عَلَى أن هناك قرينة تمنعنا من أن نقول بظاهر هذا اللفظ.

ومن الأدلة عَلَى بطلان التأويل، ما قاله: أبو المعالي الجويني نفسه -شيخ الغزالي - في آخر عمره لما رجع عن الأشعرية، وقد كَانَ إمامهم، وألف كتاباً سماه الرسالة النظامية "إني اطلعت فرأيت السلف مطبقين عَلَى عدم التأويل مع كثرة اهتمامهم بفروع الشريعة، فلما رأيتهم قد نقلوا إلينا الشريعة كاملة، وأنهم أكثر منا اهتماماً بأصول الشريعة وفروعها، ورأيتهم مطبقين عَلَى عدم التأويل، علمت أن التأويل غير حق، فتركت التأويل ".

خطر التأويل

ينبغي أن نعرف خطر التأويل، فإنه أخطر من قضية الأسماء والصفات، وإن كانت الأسماء والصفات تتعلق بالله عز وجل وتوحيده، وهي ركن عظيم من ديننا، لكن القول بالتأويل، نقض للدين كله أصوله وفروعه.

ص: 55

فاالروافض والباطنية قيامهم وتعلقهم وتطاولهم إنما هو بسبب انتشار التأويل بين الْمُسْلِمِينَ، تقول الرافضة: إن الله أمرهم أن يذبحوا عَائِِِشَةَ بنت أبي بكر، ولكنهم عصوه وأمّروها عليهم، وأركبوها جملاً، وذهبوا بها لتحارب أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في معركة الجمل.

والدليل عَلَى ذلك إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهل يُعقل أن الله تَعَالَى وهو العظيم الجليل يأمر في القُرْآن بذبح بقرة من التي تمشي في الأرض؟ لا. وإنما المسألة أعظم من ذلك.

قال أهل السنة: هذه ليست في أم المؤمنين، وإنما هي في اليهود من بني إسرائيل، لأن موسى قال لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

وقالت الباطنية للمسلمين: لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟

قالوا: هذا ديننا، وهي من أركان الإسلام.

فقالوا: هذه نؤولها عن ظاهرها، فالصلوات الخمس: عَلِيّ وفاطمة والحسن والحسين والإمام المنتظر، وتأويلنا هذا ليس بناءً عَلَى قرينة عقلية، بل بناءً عَلَى خبر يقين.

وَقَالُوا: الإمام الغائب الذي في السرداب، وهو الإمام المعصوم هو المصدر العلمي اليقيني عندنا، وينقله إلينا الباب، فالباب ينقل كلام الإمام الغائب الذي في السرداب إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فنحن نتكلم بيقين، لأن هذا الإمام المعصوم ينقل لنا الكلام عن طريق الباب، والباب يعطي الحجاب، والحجاب أو نواب الأمير ينقلون إلينا هذه المعاني، فعرفنا أن الصلوات الخمس هي هذه الأسماء الخمسة.

والصوم هو: أن يحفظ أسرار الطائفة، والحج: أن تقصد الأئمة وتتلقى عنهم وحدهم، فما هناك طواف بالكعبة، ولا هناك حجر.

وكذلك الفلاسفة أولّوا كما أولّ الرافضة والباطنية، فقالت الفلاسفة: إن البعث لا حقيقة له.

ص: 56

فقيل لهم: إن الله سبحانه وتعالى أخبر بالبعث في كتابه، والأحاديث الصحيحة ذكرت البعث ووضحته، وأن الله سبحانه وتعالى يحشر النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ حفاة عراة غرلا، وتدنوا منهم الشمس فيكلمهم ليس بينهم وبينه ترجمان.

فقالوا: هذا البعث حشرٌ روحاني للأرواح فقط، ولا تعاد إِلَى البدن، لأن العقل يدل عَلَى أن هذا محال، وأن هذه الجثة بعد أن دخلت الأرض وصارت هباءً لا تعود حية.

ونعيم الجنة نعيم روحاني فقط، وهذا الكلام يكفرهم به المؤولة وغير المؤولة، فالْمُسْلِمُونَ جميعاً يكفرون من يقول بهذا الكلام حتى المؤولة يكفرونهم.

لكن يرد الفلاسفة عَلَى المؤولة فيقلون: أنتم أوّلتم اليد والاستواء ونحن نؤول البعث أيضاً.

قال المؤولة نحن أولّنا بقرينة.

قال الفلاسفة: ونحن عندنا قرائن عقلية مثل ما عندكم قرينة عقلية، فالقواطع والبراهين العقلية تدل عَلَى أن الله سبحانه وتعالى لا يتصف بهذه الصفات، وهو منزه عنها.

هذه جناية التأويل وخطره عَلَى عقيدتنا، فلو فتحنا هذا الباب فمن يسده؟ وإذا أوّلنا وأوّلت جميع الطوائف فماذا بقي من القُرْآن والدين؟

فهذا التأويل قبل وراج لما سمي تأويلاً، وإلا فهو تحريف، فالله تَعَالَى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ويقول المؤولة: الرحمن عَلَى العرش استولى زيادة تأويل، لكنه يحول ويغير المعنى، وإن كانوا لم يغيروا الآية، فهم لم يزيدوا في الآية إلا "لام" لكن إذا تركوها بهذا المعنى لم يبق من حقيقة الآية إلا ما هو مكتوب في المصحف فقط، أما ما تفهم به فهو المعنى الذي وضعوه، وهو بزيادة اللام.

سبب التأليف في العقائد

يقول المُصْنِّف رحمه الله: [من أجل ذلك احتاج المؤمنون إِلَى دفع الشبه] أي: من أجل انتشار التأويل وأمثاله، احتاج المؤمنون إِلَى التأليف في العقيدة، ليردوا عَلَى هذه العقائد.

ص: 57

والأصل هو كتاب الله عز وجل والسنة، وهذا ما كَانَ عليه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فاضطرنا هَؤُلاءِ أن نسلك هذه الطريقة وذلك لما كثرت البدع والتأويلات والانحرافات، فبدأنا نضطر أن نقاوم هذه البدع، ونبينها ونكشفها، لا نكتفي ببيان الحق، وإنما نبين ما يضاده من الباطل.

ثُمَّ يقول: [وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ

] .

هذه قاعدة مهمة، وهذا من إنصاف المُصْنِّف وعدله رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] .

مراتب التأويل

للتأويل ثلاث مراتب: قد يكون التأويل كفراً، مثل التأويلات الباطنية، وتأويلات الفلاسفة، وبعض التأويلات الكفرية، وبعض تأويلات الرافضة، كمن يؤول الصلوات الخمس بأنها الأئمة الخمسة، ويؤول الصوم بأنه حفظ الأسرار إِلَى غير ذلك، هذا التأويل كفر يخرج من الملة.

وقد يكون معصية يخرج صاحبه إِلَى البدعة، يُحكم عَلَى صاحبه أنه مبتدع ومُنحلٌ، وذلك مثل التأويلات التي ذكرناها -تأويل صفات الله عز وجل مع نية تنزيهه.

وقد يكون خطأً، فبعض النَّاس لا يتعمد التأويل، وهذا موجود حتى في بعض كتب التفسير لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.، وكتب الحديث لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عندما يؤول بعض الصفات خطأ، فهذا لا يخرجه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

فبعض علماء الْمُسْلِمِينَ المعتبرين قد يخطأ ويؤول بعض الصفات، فهذا خطؤه مغفورٌ له إن شاء الله، فقد يخطأ بعض الأئمة في فهم بعض الأحاديث في الصفات مع سلامة المنهج.

ص: 58

وأما من كَانَ منهجه وأصوله بدعية، فهذا من أهل البدع المتوعدين بعقوبة الله، إلاّ أن يتوب أو يغفر الله تبارك وتعالى له، ولا نقطع له بجنة ولا نار.

والتأويل المكفر، الذي ذكرنا إنما عد كفراً لأنه مضادة للقرآن، وتعمد في تحريفه كما تعمدت اليهود، لما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىوَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] فقالت اليهود: "حنطة".

قال بعض العلماء: النون التي زادها اليهودفي "حطة" وجعلوها "حنطة" مثل: اللام التي زادها المؤولة، فقالوا في استوى:"استولى" هذا وجه الشبه بينهم، فالذي يزيد بنية المضادة أو الاستهزاء أو المحادة، فهذا يصبح من التأويل المكفر، أما الذي زاد لاعتماد أصول بدعية، فهو يدخل في باب التأويل المذموم المبتدع المتوعد عليه، وأما الذي أصوله صحيحة، لكن يقع منه خطأً كما يقع من سائر العلماء في سائر النصوص والأحاديث، فهذا يسمى خطأ، وهذا نرجو ألاّ يؤاخذ عليه عند الله تعالى، أما في الدنيا فنبين له؛ لأن الله تعهدنا بأن نبين الحق، وليس كلام أحد حجة وصواب إلا كلام مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وأما من عداه فإن كلامه يُبيّن وخطأه يوضح، دون أن ننتقص من قدره، ولا نخرجه من دائرة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

تاريخ ظهور البدع

ص: 59

وهذه الفرق انشقت عن الجماعة، وخالفت قول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه [الأنعام:153] فاتخذت دينها شيعاً، وتفرقت عن الدين، وأقدم هذه الفرق على ما يظهر لي هي الخوارج، لأن فكرة الخوارج بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين (كان النبي يقسم غنائم حنين، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويترك بعض المهاجرين والأنصار، حتى وجد بعض الأنصار في أنفسهم) ، فكان بعض الأعراب يذهب بالألف أو الألفين من الغنم والإبل، فخرج منهم رجل له كساء، غائر العينين، شعث الشعر -كما في الحديث- (فقَالَ: اعدل يا محمد! إنها لقسمةٌ ما أريد بها وجه الله -والعياذ بالله- فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟) فهو الذي شرع شريعة العدل صلى الله عليه وسلم، وعلمنا إياها من عند ربه عز وجل، ولكن هذا من ضيق لبه وجهله وقلة علمه، وعدم مراعاته للمقاصد والأحكام التي يراعيها الشارع في أحكامه فقد رأى أن هذه القسمة ليست عادلة، فاعترض عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) لما اتهمه قومه بأنه آدر، فما زالوا يتهمونه حتى برأه الله سبحانه وتعالى وكذب قولهم، وغير ذلك مما أوذي به موسى عليه السلام.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، ثُمَّ قَالَ:(يخرج من صلب هذا أقوام تحقرون صلاتكم إِلَى صلاتهم، وقراءتكم إِلَى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) .

ص: 60

وثبت قوله في أحاديث كثيرة في قتال الخوارج (لئن أدركتهم لأقتلنهم) فأول فرقة مستقلة لها غاية، وتجمع كانت هي الخوارج. ومن مبادئهم التكفير بالذنب، وهم أصحاب الوعيد، حيث يأخذون الوعيد ويتركون الوعد، فيكفرون الزاني وشارب الخمر والسارق ونحو ذلك.

ويجاب عن ذلك أن الله قد جعل للمرتد عقوبة القتل، وللزاني الرجم، فإن كَانَ بكراً فعقوبته الجلد، وللسارق عقوبة القطع، فلو كَانَ الجميع يكفرون لكان الحد واحداً وهو القتل، والردود عليهم كثيرة.

وخرج هَؤُلاءِ في عهد عَلِيّ رضي الله عنه لما حكّم الحكمين، فَقَالُوا: لا حكم إلاّ لله، حكمت الرجال في دين الله؟ فخرجوا وأمّروا عليهم عبد الله بن وهب الواحدي وقيل غيره، لكن هذا الذي اشتهرت إمرته، ورفضوا بيعة عَلِيّ رضي الله عنه، وَقَالُوا: لا نبايع إلاّ مثل عُمَر، وإلاّ فلن نبايع، فبايعوا عبد الله بن وهب، وهو أعرابي جلف ليس له صحبة، ولا شهد له الله بخير كما يقول ابن حزم.

وظهرت الشيعة بمبدأ التعطيل، كفكرة أولى هي موجودة في أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسس دينالشيعة منذ أن أثار الفتنة عَلَى عثمان رضي الله عنه، فبداية الفرقة موجودة، لكن ظهرت كفرقة واضحة عندما خرج الخوارج وكفّروا علياً رضي الله عنه.

أقسام الشيعة

الشيعة ثلاثة أقسام:

" الغالية، المؤلهة " الذين غلوا في عَلِيّ رضي الله عنه، وَقَالُوا: أنت أنت.

قَالَ: من أنا؟

قالوا: أنت الله، وسجدوا له -والعياذ بالله-.

وهَؤُلاءِ أمر عَلِيّ رضي الله عنه بإحراقهم، وهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد العجم، وهناك بدأ الدين السبئي.

ص: 61

الفرقة الثانية: "السبّابة": الذي يسبون ويشتمون الشيخين، فهم لم يخرجوا من الإسلام ولم يؤلهوا علياً، ولكنهم سبوا الشيخين رضي الله عنهما، وقد قال بعض الأئمة: إن سب الشيخين كفر لأن هذين كما قال علي بن الحسين زين العابدين الذي رفضته الرافضة قَالَ: كيف أسبهم وهما وزيرا جدي؟

فالذي يسب وزيري النبي صلى الله عليه وسلم فقد سب النبي، والذي يقول: إن أبا بكر عدو للإسلام فهو متهم لرَسُول الله، ومتهم للأمة كلها.

كيف يكون هذا الرجل منافقاً عدواً للإسلام ويوليه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم الصلاة إشارة إِلَى تولية الإمامة العظمى؟

وكان هو وعُمَر أفضل الصحابة؟

فإذا كَانَ هذان كذابين -كما يقول هَؤُلاءِ المغترون- فالدين كله كذب، وما نقلت لنا السنة والشريعة إلاّ عن طريق الصحابة رضي الله عنهم، وعلى رأسهم أبُو بَكْرٍ وعُمَر.

وأما الفرقة الثالثة: وهي: "المفضلة": فهَؤُلاءِ هم الزيدية الذين وافقوا علي بن الحسين، فَقَالُوا: لا نشتم الشيخين، ولكنهم يفضلون علياً عليهما، ويقولون: إن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.

فعَلِيّ P> الأفضل، ولكن إمامة أبِي بَكْرٍ وعُمَر جائزة، وهذا الذي أنكره عليهم علماء السلف، وهو من البدع، ويكفينا في بدعيته أنه صح عن عَلِيّ رضي الله عنه أنه قَالَ:"ما جاؤني بأحد يفضلني عَلَى أبِي بَكْرٍ وعُمَر إلا جلدته حد الفرية ثمانين جلدة، وقال عَلِيّ رضي الله عنه، كما في البُخَارِيّ: "والله ما من رجل وددت أن ألقى الله بعمله إلا هذا " وكان يشير إِلَى "عُمَر وهو في سكرات الموت" وهذا الأثر معروف ومشهور ومتواتر بين الصحابة.

ص: 62

ولما اشتهر الخوارج وكفروا صاحب الذنب، كشارب الخمر والزاني والسارق، خرجت منهم فرقة تقول: لا نكفر أحداً يقول لا إله إلا الله، وكانوا مع الخوارج وجلسوا معهم فترة، فرجعوا إِلَى غلو آخر شديد وَقَالُوا: لا نكفر أحداً أبداً ما دام يقول لا إله إلا الله، حتى وإن سب الله ورسوله، وأنكر القرآن، فجنحوا إِلَى الطرف الآخر، وهَؤُلاءِ هم "المرجئة "، وظهروا في أواخر العهد الخامس.

ثُمَّ ظهرت القدرية، وكان ظهورها في العراق أيضاً، في عهد الصحابة بتأثير النَّصَارَى الذين كانوا في الشام، وكان لهم كلام في القدر والخوض فيه، فنقلوه إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وقال به معبد الجهني، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث جبريل الطويل المشهور المعروف: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إِلَى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقَالَ: يا مُحَمَّد أخبرني عن الإسلام؟

) ، رواه عبد الله بن عمر عن أبيه عُمَر حيث جَاءَ بعض التابعين إِلَى عبد الله بن عمر وسأله فقَالَ: إن هناك أقواماً في العراق ينكرون القدر، فَقَالَ لهم: حدثني أبي، فذكر حديث جبريل الذي يدل عَلَى أن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة.

فالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية هذه الفرق جميعاً ظهرت في عهد الصحابة رضي الله عنه ُرَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وهذه الفرق الأربع هي أصول الفرق التي تشعبت منها فرق صغيرة، وظهرت المعتزلة في أوائل المائة في عهد الحسن البصري، فاعتزلوا مجلسه، وهم في الحقيقة امتداد لفكر الخوارج، لكنهم لا يقولون: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة، وإنما قالوا: يخرج من الإسلام ولا يدخل الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، فَقَالُوا: يخرجونه من الإسلام لأن الآيات والأحاديث التي في المؤمنين لا تنطبق عليه، ولا يدخلونه في الكفر لأن الآيات والأحاديث التي في الكافرين لا تنطبق عليه، فجعلوه في منزلة بين المنزلتين.

ص: 63

ثُمَّ ظهر الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري بعد المائة والعشرين، وقَالَ: أيها النَّاس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، ثُمَّ نزل من المنبر وذبح الجعد بن درهم.

ثُمَّ تلميذه الجهم بن صفوان، وخرج مع الحارث بن سريج عَلَى بني أمية سنة 128هـ، وكان كاتباً له فنشر فكر المرجئة، والجهم كَانَ ينفي جميع الصفات عن الله، وكان في نفس الوقت مرجئاً، يقول: إن الإيمان هو المعرفة القلبية فقط، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن -عند جهم -، ولهذا فالمرجئة غلو في هذا الباب، لأن إبليس يعرف الله بقلبه، بل بلسانه قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] وكان الجهم كثير الجدل بلا علم، لم يتفقه، ويخالط العلماء، ويقرأ كتب العلم، ويحفظ من كتاب الله وسنة رسوله، وإنما كَانَ يجادل فقط، فجاءه قوم من الهنود من عباد الأبقار، فَقَالُوا: جئنا نناظرك، فقالوا له: صف لنا ربك؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ هل شممته؟

فبقي أربعين يوماً يفكر، كيف يرد عَلَى هَؤُلاءِ؟

فقَالَ: هو كالهواء، ليس له أي صفة، لا يرى ولا يشم، ونتج عن ذلك نفي صفات الله عز وجل.

ثُمَّ تلقى عن الجهم بشر المرّيسي، وهو يهودي في الأصل، لم يلق الجهم، ولكن لقي تلاميذ تلامذته، وتعلم مذهب الجهم

ثُمَّ تلقى عنه عبد الله بن سعيد بن كلاّب، وهو المؤسس الحقيقي للمذهب المسمى مذهب الأشعرية، ولذلك هجره الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لأنه وافق مقالة بشر وجهم، لكن ابن كلاب لم ينف جميع الصفات، كما قال جهم بأن الكلام كلام نفسي، ولكن أثبت ما يثبته العقل، ونفى ما ينفيه العقل، وحكّم العقل.

ص: 64

وهذا الذي قالته الأشعرية والماتريدية، فَقَالُوا: ما قامت القواطع العقلية عَلَى إثباته فإننا نثبته، وهي: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام -الكلام النفسي- فهذه يدل العقل عَلَى إثباتها.

وأما الأخرى فالعقل يحكم باستحالتها في حق الله تعالى، فلا نثبتها لله تعالى، وأصل هذا العقل هو عقل الجهم لما اختلى أربعين يوماً.

والقدرية تشعبت، فكان منها القدرية الغلاة الذين ينكرون العلم، ومن أنكر علم الله للأشياء قبل وقوعها فقد كفر، وهَؤُلاءِ أكفر القدرية فإنهم قالوا: لو كَانَ الله يعلم أنه يفعل المعصية، إذاً هو قدّر عليه المعصية، فكيف يجازيه عليها؟ وهكذا سوّل لهم الشيطان.

والله سبحانه وتعالى أخبرنا أن هذه الحجة قديمة، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] ويقول الله عز وجل في سورة النحل: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35،36] وقال في الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] ثُمَّ قَالَ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] فالله تَعَالَى ذكر هذه الشبهة وردّ عليها بأنه لو كَانَ يلزم من ذلك أنه أراد الشرك -يعني قضاه وقدره- لما أرسل الأنبياء، ولما أقام الحجة البالغة.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 65

[وقد بلغ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثُمَّ خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم، وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وممن قام بهذا الحق من علماء الْمُسْلِمِينَ: [الإمام أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن سلامة الأزدي الطّّحاويّ، تغمده الله برحمته، بعد المائتين، فإن مولده سنة (تسع وثلاثين ومائتين) ووفاته سنة (إحدى وعشرين وثلاثمائة) ] .

فأخبر رحمه الله عما كَانَ عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه: أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومُحَمَّد ابن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين ويدينون به رَبّ الْعَالَمِينَ] اهـ.

الشرح:

يقول المصنف: [وقد بلغ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وأوضح الحجة] وهذا لا يشك فيه أحد ولو شك فيه أحد لكان كافراً مرتداً، وهذه القضية بديهة ومعلومة عند جميع الْمُسْلِمِينَ.

لكن ما نجعله من لوازمها يخفى عَلَى كثير من الْمُسْلِمِينَ.

فإذا آمنا وأيقنا أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قد بلغ الدين كاملاً ولم ينقص منه أي شيء، فيترتب عَلَى ذلك أنه إذا وضع أحد قواعد نفهم بها بعض الآيات، أو جَاءَ بإضافات وأعمال جديدة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، وقَالَ: هذه من حقيقة الدين، فمعنى ذلك أن هذا الإِنسَان يقول بلسان حاله -إن لم يقل بلسان مقاله- أن ما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم ناقص، وأنه لم يبلغ البلاغ، ولم يؤدّ الأمانة التي وكلت إليه وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، لكن هذه هي حقيقة قولهم.

ص: 66

ومن ذلك التأويل الذي سيذكره المصنف.

بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم المنع من وضع قواعد وإضافات ليست مستمده منه

فالذين وضعوا قواعد التأويل متفقون ومطبقون ومجمعون عَلَى أن هذا التأويل لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، ويقولون: هذا من أصول الدين التي يجب أن نتمسك بها، ويردون بها كثيراً من النصوص، ويحرفون بها معاني كثير من الآيات لأنها قاعدة ضرورية!

كيف تقولون إنه من أصول الدين مع قولكم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره ولم يتعرض له ولم يأت به؟!

فلازم كلامكم أنه صلى الله عليه وسلم ما بلغ، وقد خان الأمانة والرسالة عياذاً بالله، وبذلك نفهم أهمية توثيق قضايا العقيدة التي خالفت فيها الفرق، وترتيبها وإرجاعها إِلَى القضايا المحكمة.

ولذلك قال الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات: "إن العامي الموحد يغلب الألف من الْمُشْرِكِينَ أو من أصحاب البدع ".

لأنه وإن كَانَ عامياً، وعلمه محدود، لكنه يرجع القضايا المشتبهة الشائكة التي يخوض فيها العلماء إِلَى قضايا واضحة وأصول وضوابط محكمة.

فنرد المتشابهات أو المشكلات إِلَى المحكم الواضح الجلي، فإن جَاءَ أحد وقَالَ: نؤول هذه، أو نترك هذه، فعندنا كلمة عامة محكمة وهي: ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم آمنا به، وهكذا

فمن جاءنا وقَالَ: هذه زيادة نعمل بها، ولم يعملها بها الصحابة رضي الله عنهم، ولم يأت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالجواب عليه أنه: ما دام كذلك فهي ليست من الدين ولا أجر فيها ولا ثواب، بل فيها العقوبة والرد (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .

ص: 67

وهذا ينطبق عَلَى ما وضع من قواعد علم الكلام، والبدع العملية والفرعية، بل كل بدعة ابتدعت فهي داخلة فيما أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراق لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك معتزلة أومرجئة.

لكن كيف تفرقت الأمة؟ وكيف ظهرت هذه البدع؟

ورد الحديث بذكر ذلك، وإن كَانَ بعضهم يطعن فيه، لأنه ليس في الصحيحين، وإنما ورد في المسند، وعند ابن أبي عاصم، وفي السنن في روايات كثيرة:(إن هذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلا واحدة) وبعضها تذكر (إن اليهود افترقت عَلَى إحدى وسبعين فرقة والنَّصَارَى افترقت عَلَى اثنين وسبعين فرقة، وهذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة) وبعضها لا يذكر زيادة (كلها في النَّار إلا واحدة) وبعض الروايات تذكر صفات الفرقة الناجية وأنها (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .

الشاهد أن مجموع الروايات تدل عَلَى صحة الحديث، حتى إن بعضهم عده من الأحاديث المتواترة مع أنه ليس في أحد الصحيحين، لكن الافتراق في ذاته ثابت وواضح من أدلة قطعية غير هذه الألفاظ، وغير هذه الروايات التي وردت في الحديث.

من أسباب الاختلاف نسيان الحظ

ونحن نعلم جميعاً أن اليهود والنَّصَارَى افترقوا إِلَى حد الاقتتال، وأنهم كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَر [البقرة:253] فهم اختلفوا وتفرقوا بغياً بينهم فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [المائدة:14] .

وأخبرنا الله سبحانه وتعالى أن اليهود والنَّصَارَى اختلفوا، وأخبرنا في هذه الآية من سورة المائدة أن سبب اختلاف النَّصَارَى أنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.

ص: 68

ولو أخذنا هذه الآية فإنها تفسر لنا كثيراً جداً جداً من أسباب وقوع الخلاف بين الْمُسْلِمِينَ، كيف أنهم لما نسوا حظاً مما ذكروا به وقعت العداوة والبغضاء بينهم.

ونطبق هذه الجملة القرآنية عَلَى هذه الأمة، ونعرف أن هذه الأمة افترقت، بسبب "نسيان الحظ" وذلك بآيات وأحاديث الوعيد مثلاً:

ذكر الله تبارك وتعالى الوعيد فيمن قتل وزنى وسرق: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69] وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن

إلخ) ، وجاء في الحديث الآخر:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .

وهكذا نصوصٌ كثيرة في مقام الوعيد، فجاءت الخوارج فأخذت حظاً مما ذكروا به، حيث أخذوا بأحاديث الوعيد فقط، وَقَالُوا: إذاً من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج من الملة، وتركوا الأحاديث والآيات التي تفسرها وأخذوا حظاً مما ذكروا به وتركوا الحظ الآخر، مع أنهم لو أخذوا هذا وهذا لفهموا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة) ، فقد فُسِّر ذلك بأنه ما كَانَ من قتال في عهدعَلِيّ ومعاوية، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإسلام مع وقوع القتال، وفي آية الحجرات يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فالقتال يقع بين المؤمنين ولا يخرجهم من الملة، نعم هو كبيرة وعليها وعيد شديد، ولكن لا يخرج من الملة.

ص: 69

وأخذت المرجئة حظاً آخر مما ذكروا به، فأخذوا بآيات وأحاديث الوعد:(من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ، فأخذوا بروايات مطلقة مع وجود روايات تقيدها وتفسر معناها وتدل عليها، منها تكفير تارك الصلاة مثلاً:(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)(بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة) ، فتركوا جانب الوعيد كله، وأخذوا بجانب الوعد فقط.

وفي موضوع الصفات: فإثبات صفات الله عز وجل جاءت في آيات كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا كيف نؤمن بصفات الله عز وجل وأنها عَلَى جانبين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] نفي وإثبات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هذا جانب نفي وتنزيه لله سبحانه وتعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هذا جانب إثبات لله سبحانه وتعالى.

فجاءت المعطلة فأخذوا بجانب النفي والتنزيه فقط، وقالوا لا يسمع ولا يبصر، وليس له يد ولم يستو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وإذا أثبتنا اليد والعين والنزول والرؤية، أصبح الإله من المخلوقات الممكنات، وأصبح له أعضاء والعياذ بالله، فقدموا أموراً لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقالوا نَحْنُ ننزه الله وننفي هذه كلها، ولو كانت في الكتاب والسنة، فإننا نأولها ونردها وننفيها حتى ننزه الله سبحانه وتعالى عنها، فأخذوا حظاً مما ذكروا به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] ونفوا صفات الله عز وجل بمثل هذه الآيات.

ص: 70

وبالمقابل جاءتالمشبهة ونسوا حظاً مما ذكروا به، وتركوا الآيات التي جاءت في تنزيه الله سبحانه وتعالى، وأثبتوا لله سبحانه وتعالى الصفات كما يليق بالمخلوق -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- مشابهين في ذلك لليهودعندما قالوا: إن الله تبارك وتعالى -كما هو مذكور في التوراة- خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع والعياذ بالله!

فجعلوا الله سبحانه وتعالى يتعب ويلغب، كما يلغب ابن آدم إذا عمل عملاً ما، ولذلك نفى الله سبحانه وتعالى ذلك فقَالَ: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: لم يمسنا التعب ولا النصب ولا اللغب، وردّ عليهم، فجاء هَؤُلاءِ المشبهة، وأخذوا من اليهودالتشبيه وزادوا عليهم فَقَالُوا: له يد كيدنا، فجعلوا صفات الله عز وجل مثل صفات المخلوق.

فإذا قال لهم أُولَئِكَ المعطلة: أنتم شبهتم، قالوا: أنتم عطلتم، لذا قال السلف الصالح: المعطل عابد عدم، والمشبه عابد صنم، فالمعطل عابد عدم لأنه يقول: إن الله تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله، وليس له يد، وليس له عين، وليس له أي صفة من الصفات، ولا يسمع ولا يبصر.

إذاً: فهذا معدوم غير موجود، فالمعطل عابد عدم، ولكن المشبه عابد صنم لأن الذي يقول يد الخالق كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، وقدمه كقدم المخلوق، فإنما هو يعبد صنماً، لأن الأصنام نحتت لكي تعبد من دون الله، لكي يقَالَ: هذا هو الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والشاهد أن سبب الخلاف بينهما هو أن هذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي حظاً، وهذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي الحظ الآخر، فأغرى الله بينهما العداوة والبغضاء.

ص: 71

فتجد في كتب المعطلة أنهم يكفرون المشبهة، وفي كتب المشبهة يكفرون المعطلة، وفي كتب المرجئة يكفرون الخوارج، وفي كتب الخوارج يكفرون المرجئة، أغرى الله سبحانه وتعالى بينهم العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف أن لا يؤخذ الكتاب كله ولا يتلقى العلم والدين كله من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الشهوات وحب الدنيا

ومن أسباب الاختلاف: "الشهوات وحب الدنيا" فإن حب الدنيا يفسد النية والإرادة، وإذا فسدت الإرادة ودخل الدخن إِلَى القلب، فإن الأعمال تفسد، ويترتب عَلَى فساد الأعمال فساد في الاعتقاد، وأسباب ذلك تبدأ بسيطة لكنها فيما بعد تظهر وتبدو، حتى تكون منهجاً من المناهج.

فحب الدنيا كَانَ من عوامل الإفساد بين الْمُسْلِمِينَ، ومن عوامل تفرق الْمُسْلِمِينَ وهلاكهم كما جَاءَ في الحديث الصحيح، لما جَاءَ أبو عبيدة من البحرين بالغنيمة أو الجزية إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ:(لعله بلغكم ما جَاءَ به أبو عبيدة من هجر) ومع ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) فالتنافس في الدنيا والتفرق فيها يؤدي إِلَى التفرق في الدين.

ولذلك لما قام بعض النَّاس يريد الخلافة وينازع فيها تفرقت الأمة الإسلامية، حتى أصبح لهم في عام (72 أو 73) أربعة أمراء للحج، حجت طائفة مع بني أمية تحت راية بني أمية في يوم عرفة، وحجت طائفة تحت راية المختار بن أبي عبيد، وحجت طائفة تحت راية عبد الله بن الزبير، وحجت طائفة للخوارج تحت راية نافع بن الأزرق، أربع رايات للحج في وقت واحد وفي يوم واحد يوم عرفة بعد حوالي "60 سنة" من وفاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم!

ص: 72

وذلك لأجل الأهواء والشهوات وحب الدنيا والتنازع عَلَى الملك.

كما قال أبو برزة في الحديث الذي رواه البُخَارِيّ، قَالَ:"والله إني لأحتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً عَلَى هذا الحي من قريش، إن هذا الذي في العراق إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن هذا الذي هنا إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن أُولَئِكَ -يعني القراء الخوارج - إنما يقاتلون عَلَى الدنيا ".

فحب الدنيا كَانَ من أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ وتنازعهم واختلافهم.

وكذلك دخول الحاقدين

ومن أسباب تنازع الْمُسْلِمِينَ واختلافهم: دخول الحاقدين، وهذا عامل خارجي، والعامل الخارجي لا يأتي إلا عقوبةً لخلل داخلي، كما أن الله سبحانه وتعالى عاقب في يوم أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] .

فكانت العقوبة بسبب ما عند النفس من الذنوب كما جَاءَ في الآية الأخرى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة [آل عمران:152] فبسبب فساد الإرادة، أو بسبب الخلل الداخلي تأتي العقوبة الخارجية، وتسليط الأعداء، وإلا فقد قال تبارك وتعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] ، فأعداؤنا يكيدون علينا ليل نهار دائماً، فإذا تحدثنا عن أي مصيبة أصابت الْمُسْلِمِينَ قلنا هو بسبب الأعداء، فالشيوعيون والصليبيون واليهود يخططون ويعملون ضدنا.. وهكذا وكأننا قوم مؤمنون صالحون متقون، ولكن هَؤُلاءِ آذونا وامتحنونا وفعلوا بنا!

سُبْحانَ اللَّه!! لماذا لا ننظر إِلَى السبب الأعظم؟ وهو لماذا سلطهم الله تبارك وتعالى علينا؟

لأنه لا تقوى ولا صبر لدينا، ولذلك سُلطوا علينا فضرنا كيدهم وأثر فينا، ولله في ذلك حكمة.

ص: 73

فاليوم أكثر الْمُسْلِمِينَ يوالون الكفار مع هذه المخططات الواضحة الجلية، فبالله كيف يكون الحال لو أن كَانَ الكفار لا يخططون ضدنا؟

إذاً لحييناهم ولقبلناهم وبششنا عَلَى وجوههم.

ولذلك شاء الله أن يكون مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من أكبر الفجائع في التاريخ الإسلامي، عَلَى يد رجل مجوسي لنعتبر، وعندما جيء به ليحقق معه، شهد بعض الصحابة بأننفيلة النصراني والهرمزان، وهما من ملوك العجم جاءا وأظهرا الإسلام في المدينة، واتفقا مع أبي لؤلؤة المجوسي، ورآهم قبل ذلك بليال وهم يتحدثون، وسقط بينهم السيف الذي له نصلان، وهو الذي استخدم في قتل عمر الفاروق رضي الله عنه.

فالنَّصَارَى والمجوس اتفقوا وبيتوا المؤامرة لمقتل عُمَرَ رضي الله عنه، واكتشف الْمُسْلِمُونَ هذه المؤامرة ليعرفوا أن لهم أعداءً، وأن العداوة هذه لن تخمد أبداً، وليحتاطوا من أمثال هَؤُلاءِ.

واليهود وضعوا للنبي صلى الله عليه وسلم السم في الشاة -كما جَاءَ في الحديث الصحيح- الشاة المسمومة التي أكل منها النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالت الذراع: إنها مسمومة، أنطقها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.

ص: 74

فهم ألد أعداء الإسلام كما قال الله تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82] ولذلك جَاءَ اليهودي عبد الله بن سبأ وأثار الفتنة عَلَى عثمان رضي الله عنه، ليكمل الدور الذي قام به أبو لؤلؤة المجوسي عليه، ولما حرقعَلِيّ رضي الله عنه هَؤُلاءِ الزنادقة وكانوا من طائفة عبد الله بن سبأ اليهودي، هرب عبد الله بن سبأ ولجأ إِلَى بلاد فارس، حيث بذر الفكر المجوسي، فالتقى الفكر المجوسي مع الفكر اليهودي، وبذروا الفكرة التي أصبحت تؤلّه علياً رضي الله عنه، لأن علياً رضي الله عنه إنما حرقهم عندما قالوا: أنت أنت.

قَالَ: من أنا؟

قالوا: أنت الله.

فقال رضي الله عنه:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً

قَالَ: أوقدوا لي نيراناً فأحرقوهم، فهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد فارس، وبذر هذه الفكرة في نفوس العجم، وأوجدت الدين السبئي الذي لا يزال قائماً حتى الآن.

فمن أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ، وظهور هذه الفرق، هو المكر اليهودي والنصراني والمجوسي.

وسنأتي أيضاً للتعرف عَلَى هذه الطائفة وغيرها عندما يأتي -إن شاء الله تعالى- الحديث عن الصحابة وما الذي يجب اعتقاده في حقهم رضوان الله عليهم؟

فالمغرور والمخدوع من يظن أن هذه الطوائف الحاقدة التي أنشأها أعداء الإسلام، وبذروها في بلاد الْمُسْلِمِينَ، وفرقوا بها صف الْمُسْلِمِينَ-أنها يمكن أن تحب وتوالي الإسلام والْمُسْلِمِينَ، فإنها قامت عَلَى الحقد وبه تتغذى.

ص: 75

والفرق والطوائف المبتدعة المنحرفة تعتمد في تكونها وتركيبها وتجميع أفرادها عَلَى معادة أهل الحق -الطائفة الكبرى- فليس هناك قضية عقلية خاصة، أو بحث نظري مجرد يجمعها، أو هو الذي أعطاها منهجاً، وإنما الذي يجمعها هو العداوة لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أهل الحق، فيربون أنفسهم وأبناءهم وأجيالهم عَلَى الحقد عَلَى الطائفة الحق، لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أو الطائفة المنصورة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وفي الرواية الأخرى: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون عَلَى النَّاس) وفي رواية من حديث جابر في صحيح مسلم زيادة مهمة أو تفسير مهم وهي: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من الْمُسْلِمِينَ حتى قيام الساعة) ففيها زيادة أن هذه الطائفة تجاهد النَّاس من أجل إقامة هذا الدين.

وجهاد أهل البدع مشروع بالأحاديث المتواترة في قتال الخوارج، فهم من أهل البدع، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح المتواتر كما قال بعض العلماء:(لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد) .

ص: 76

ومن هنا أخذ العلماء قاعدة عظمى وهي: "مقاتلة أهل البدع" وهي أن حكم أهل البدع؛ المقاتلة إذا تميزوا وأصبحوا طائفة، وأما إذا بقوا في المجتمع فإنه يجب علينا أن نكبتهم ونمنعهم من نشر بدعهم والدعوة إليها، ومع ذلك نعطيهم أحكام الإسلام الظاهرة عَلِيّ رضي الله عنه -لما لجأوا إِلَى جنبات المسجد وَقَالُوا: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، فقال-: إن لكم علينا ألاّ نمنعكم البيت، ولا نمنعكم المساجد، يعني تصلون معنا وتأخذون حصتكم من الفيء من بيت مال الْمُسْلِمِينَ، إلاّ إذا أحدثوا حدثاً، أي: إذا عملوا عملاً يخل بأمر المجتمع المسلم والجماعة المسلمة، وأحكام أهل البدع طويلة ولعله يأتي بعضها إن شاء الله.

والطائفة المنصورة هي التي عَلَى مثل ما كَانَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما فسرتها روايةالتِّرْمِذِيّ:(ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ولما سئل الإمام أَحْمَد عن الطائفة المنصورة قَالَ: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) وذلك أن لأهل الحديث مصطلحين:

مصطلح علمي.

ومصطلح شرعي.

فالاصطلاح العلمي المراد به هم الذين يشتغلون بدراسة الحديث، ونقد الرجال والمتون ومعرفتها وتخريجها، فهَؤُلاءِ يسمون علماء الحديث، كما تقول علماء النحو، وعلماء البلاغة، وعلماء اللغة، وعلماء التفسير، وليس هذا هو المعنى المراد من الإمام أَحْمَد، لأنه يوجد من المحدثين من هو عَلَى بدعة خاصة في القرون الأخيرة، ويوجد من المشتغلين بالرجال ودراسة الأسانيد من لا يمثل عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ حق التمثيل.

والاصطلاح الشرعي: هم الذين يأخذون بالأحاديث ويعملون بها.

ص: 77

ولذلك أطلق السلف عَلَى الذين لا يأخذون بالحديث والأثر من طوائف أهل البدع: أهل الكلام وأهل الجدل، لأن بدعهم لا تقوم عَلَى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تقوم عَلَى الجدل وعلم الكلام، فبقيت الطائفة المنصورة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يأخذون بالأحاديث.

ولذلك يُسمون: أهل الأثر وأهل الحديث، أي: المتبعون لِمَا كَانَ عليهِ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فكلام الإمام أَحْمَد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري منهم" أي المتبع للأثر، حتى وإن كَانَ من أهل اللغة، فقدماء أهل اللغة عموماً النضر بن شميل والخليل بن أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام من علماء اللغة والحديث هَؤُلاءِ من أهل اللغة وهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أيضاً.

فأهل الحديث المراد بهم أهل الأثر المتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نستطيع أن نفهم أن الطائفة المنصورة هي المتبعة لما كَانَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي الناجية الوحيدة، وهي التي قامت بإبلاغ ونقل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذا يقول المصنف: [وممن قام بذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ] .

فقد نقل عقيدة السلف، وبالذات عقيدة الإمام أبي حنيفة وتلميذيه، وهكذا كل من يأتي ويتكلم في عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنما ينقل كلامهم ويشرحه ويوضحه، ولو جاءنا أحد بشيء من عنده لرددناه كما نرد عَلَى أهل البدع، فهذا هو الطريق المتبع وهذا هو طريق أهل الأثر.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 78

[وكلما بعد العهد ظهرت البدع، وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلاً ليقبل، وقلّ من يهتدي إِلَى الفرق بين التحريف والتأويل، إذ قد سُمِّى صرف الكلام عن ظاهره إِلَى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلاً، وإن لم يكن ثَمَّ قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلاً قُبل وراج عَلَى من لا يهتدي إِلَى الفرق بينهما. فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إِلَى إيضاح الأدلة، ودفع الشُبَه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إِلَى شُبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه، والاشتغال به والإصغاء إليه، امتثالاً لأمر ربهم، حيث قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه [الأنعام:68] فإن معنى الآية يشملهم. وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.

فالواجب اتباع المرسلين واتباع ما أنزله الله عليهم وقد ختمهم الله بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر الأَنْبِيَاء وجعل كتابه مهيمناً عَلَى ما بين يديه، من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب، والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والأنس، باقية إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وانقطعت به حجة العباد عَلَى الله، وقد بين الله به كل شيء وأكمل له ولأمته الدين، خبراً وأمراً وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إِلَى غيره، وأنهم إذا دعوا إِلَى الله والرَّسُول -وهو الدعاء إِلَى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدوداً وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا.

ص: 79

وكما يقول كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نُحس الأشياء بحقيقتها، أي: ندركتها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقية جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرَّسُول أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة.

وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين يما يدعونه من الباطل الذي يسمونه: حقائق وهي جهل وضلال وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك.

وكل من طلب أن يُحكم في شيء من أمر الدين غير ما جَاءَ به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جَاءَ به الرَّسُول وبين ما يخالفه، فله نصيب من ذلك، بل ما جَاءَ به الرَّسُول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلموا ما جَاءَ به الرَّسُول في كثير من الأمور الكلامية الاعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الأمارة السياسية، أو نسبوا إِلَى شريعة الرَّسُول بظنهم وتقليدهم ما ليس منها وأخرجوا عنها كثيرا من ما هو منها.

فبسبب جهل هَؤُلاءِ وظلالهم وتفريطهم وبسبب عدوان أُولَئِكَ وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة.

بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل في ما جَاءَ به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ليُعلم ويعتقد ويعمل به ظاهراً وباطناً، فيكون قد تُلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء] اهـ.

الشرح:

كلما بعد العهد كثرت الانحرافات والتأويل الذي سماه أهله "تأويلاً" فإن من المعلوم أنه قد كثر التعطيل والتشبيه.

التأويل

ص: 80

والتأويل هو أصل به هُدمت الشريعة، ويوضح ذلك: أن الذين ينفون صفات الله عز وجل كالمعطلة والباطنية والرافضة، وأمثالهم من الذين يضربون كتاب الله بعضه ببعض، هَؤُلاءِ هم قوم مجاهرون ومعادون لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بوضوح، ويعادون الأمة الإسلامية وجماعة الْمُسْلِمِينَ، ويعادون الأصول الشرعية، فيردون الآية والحديث، وأمرهم واضح جلي، لكن المؤول أخطر وجنايته أكثر، لأنه يقول: أنا أؤمن بالآية والحديث، ويقول: أنا من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهكذا يدعي المؤولون: أنهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

والتأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح قرينة،

والتأويلات كثيرة جداً، وبعضها مضحك، وبعضها يستدعي التعجب، فمثلاً بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي [ص:75] هنا "يدَي"، وهناك "يداه"، فالمؤول يقول: نؤول اليد، مع أن ظاهر اليد صفة معروفة.

فالذين يثبتون لله عز وجل هذه الصفة يقولون: اليد حقيقية تليق بالله سبحانه وتعالى، لا نعرف كيفيتها، فيقول المؤولة هذا الظاهر، ونحن مسلّمون بأنه ظاهر اللفظ وأنه تدل عليه الآية، لكن نصرف هذا الظاهر إِلَى وجه واحتمال مرجوح، وهو أن لفظة اليد معناها النعمة أو القدرة، لقرينة وهي: تنزيه الله عز وجل، فالقواطع والبراهين العقلية دلت عَلَى أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجارحة.

فهناك قواعد عقلية وضعوها هم:

منها: أن الله ينزه عن الجارح، واليد جارحة، فتنفى عن الله ويصرف اللفظ من الاحتمال الراجح المتبادر الذي يعرفه كل من يقرؤه إِلَى احتمال مرجوح يقال فيها بوجود القرينة، وهي البرهان العقلي الذي قام عَلَى تنزيه الله تعالى.

ص: 81

وأولوا وحرفوا بتأويلات عجيبة، نذكر فقط بعض الامثلة، ففي الحديث الصحيح:(لا تزال النار تقول هل من مزيد حتى يضع الله تَعَالَى قدمه في النار) وروايات كثيرة في أن النَّار لا تمتلئ حتى يضع الجبار تبارك وتعالى فيها قدمه، وفي رواية:(رجله) كلها في صحيح البُخَارِيّ ومسلم، (يضع الله تعالى قدمه في النَّار فتقول: قط قط) وفي إحدى الروايات كلمة (الجبار) وفي روايات كثيرة: (يضع الله)(يضع الرحمن) فَقَالُوا: الجبار إما أنه أحد الملائكة اسمه "الجبار"، وإما أنه أحد الظلمة من أهل الأرض، فلا تمتلئ حتى يضع هذا الجبار الطاغوت قدمه أو رجله في النار، فتقول: قط قط قد امتلأت.

وهذا تأويل أبي المعالي الجويني، وقد رجع عن ذلك، وتبعه عليهأبو حامد الغزالي، وهو موجود في كتابه المصقول في علم المعقول، وهم قالوا بذلك هروباً من أن يقولوا: هو الله عز وجل.

والروايات الأخرى التي فيها (الله، الرحمن) قالوا: عندنا قرينة وهي: أن الله ينزه عن الأبعاض والجوارح، وهذا قد قامت عليه البراهين العقلية والأدلة القطعية من العقل، فتنفى.

وحديث الحبر اليهودي، رواه الإمام أَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم وغيرهم، أنه جَاءَ إِلَى النبي وقَالَ:(أما علمت يا مُحَمَّد أن الله يَوْمَ القِيَامَةِ يضع السماوات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والثرى عَلَى إصبع، والشجر عَلَى إصبع، وبقية الخلائق عَلَى إصبع) وفي رواية الإمام أَحْمَد: (أنه يضع الأرض عَلَى ذه وأشار إِلَى السبابة) ثُمَّ استمر في بقية الأصابع.

وفي الحديث: (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله) هكذا نص الحديث "على إصبع" فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله.

ص: 82

ومثله الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحك تصديقاً لقوله، وأن هذا حق، لكن كيفية الصفة غير معلومة لنا، فله من الصفات ما يليق به كما أن للمخلوق ما يليق به.

وأما المؤولة فقالوا هذا الحديث يؤول، وذلك كابن فورك، فإنه قَالَ: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً من تشبيه هذا الكافر اليهودي.

فيقال هل ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً من كفره؟!!

تأويلات غريبة ليس عليها أي دليل، إلا أنه كما قالوا: قامت القواطع والبراهين العقلية عَلَى أن هناك قرينة تمنعنا من أن نقول بظاهر هذا اللفظ.

ومن الأدلة عَلَى بطلان التأويل، ما قاله: أبو المعالي الجويني نفسه -شيخ الغزالي - في آخر عمره لما رجع عن الأشعرية، وقد كَانَ إمامهم، وألف كتاباً سماه الرسالة النظامية "إني اطلعت فرأيت السلف مطبقين عَلَى عدم التأويل مع كثرة اهتمامهم بفروع الشريعة، فلما رأيتهم قد نقلوا إلينا الشريعة كاملة، وأنهم أكثر منا اهتماماً بأصول الشريعة وفروعها، ورأيتهم مطبقين عَلَى عدم التأويل، علمت أن التأويل غير حق، فتركت التأويل ".

خطر التأويل

ينبغي أن نعرف خطر التأويل، فإنه أخطر من قضية الأسماء والصفات، وإن كانت الأسماء والصفات تتعلق بالله عز وجل وتوحيده، وهي ركن عظيم من ديننا، لكن القول بالتأويل، نقض للدين كله أصوله وفروعه.

ص: 83

فاالروافض والباطنية قيامهم وتعلقهم وتطاولهم إنما هو بسبب انتشار التأويل بين الْمُسْلِمِينَ، تقول الرافضة: إن الله أمرهم أن يذبحوا عَائِِِشَةَ بنت أبي بكر، ولكنهم عصوه وأمّروها عليهم، وأركبوها جملاً، وذهبوا بها لتحارب أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في معركة الجمل.

والدليل عَلَى ذلك إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهل يُعقل أن الله تَعَالَى وهو العظيم الجليل يأمر في القُرْآن بذبح بقرة من التي تمشي في الأرض؟ لا. وإنما المسألة أعظم من ذلك.

قال أهل السنة: هذه ليست في أم المؤمنين، وإنما هي في اليهود من بني إسرائيل، لأن موسى قال لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

وقالت الباطنية للمسلمين: لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟

قالوا: هذا ديننا، وهي من أركان الإسلام.

فقالوا: هذه نؤولها عن ظاهرها، فالصلوات الخمس: عَلِيّ وفاطمة والحسن والحسين والإمام المنتظر، وتأويلنا هذا ليس بناءً عَلَى قرينة عقلية، بل بناءً عَلَى خبر يقين.

وَقَالُوا: الإمام الغائب الذي في السرداب، وهو الإمام المعصوم هو المصدر العلمي اليقيني عندنا، وينقله إلينا الباب، فالباب ينقل كلام الإمام الغائب الذي في السرداب إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فنحن نتكلم بيقين، لأن هذا الإمام المعصوم ينقل لنا الكلام عن طريق الباب، والباب يعطي الحجاب، والحجاب أو نواب الأمير ينقلون إلينا هذه المعاني، فعرفنا أن الصلوات الخمس هي هذه الأسماء الخمسة.

والصوم هو: أن يحفظ أسرار الطائفة، والحج: أن تقصد الأئمة وتتلقى عنهم وحدهم، فما هناك طواف بالكعبة، ولا هناك حجر.

وكذلك الفلاسفة أولّوا كما أولّ الرافضة والباطنية، فقالت الفلاسفة: إن البعث لا حقيقة له.

ص: 84

فقيل لهم: إن الله سبحانه وتعالى أخبر بالبعث في كتابه، والأحاديث الصحيحة ذكرت البعث ووضحته، وأن الله سبحانه وتعالى يحشر النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ حفاة عراة غرلا، وتدنوا منهم الشمس فيكلمهم ليس بينهم وبينه ترجمان.

فقالوا: هذا البعث حشرٌ روحاني للأرواح فقط، ولا تعاد إِلَى البدن، لأن العقل يدل عَلَى أن هذا محال، وأن هذه الجثة بعد أن دخلت الأرض وصارت هباءً لا تعود حية.

ونعيم الجنة نعيم روحاني فقط، وهذا الكلام يكفرهم به المؤولة وغير المؤولة، فالْمُسْلِمُونَ جميعاً يكفرون من يقول بهذا الكلام حتى المؤولة يكفرونهم.

لكن يرد الفلاسفة عَلَى المؤولة فيقلون: أنتم أوّلتم اليد والاستواء ونحن نؤول البعث أيضاً.

قال المؤولة نحن أولّنا بقرينة.

قال الفلاسفة: ونحن عندنا قرائن عقلية مثل ما عندكم قرينة عقلية، فالقواطع والبراهين العقلية تدل عَلَى أن الله سبحانه وتعالى لا يتصف بهذه الصفات، وهو منزه عنها.

هذه جناية التأويل وخطره عَلَى عقيدتنا، فلو فتحنا هذا الباب فمن يسده؟ وإذا أوّلنا وأوّلت جميع الطوائف فماذا بقي من القُرْآن والدين؟

فهذا التأويل قبل وراج لما سمي تأويلاً، وإلا فهو تحريف، فالله تَعَالَى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ويقول المؤولة: الرحمن عَلَى العرش استولى زيادة تأويل، لكنه يحول ويغير المعنى، وإن كانوا لم يغيروا الآية، فهم لم يزيدوا في الآية إلا "لام" لكن إذا تركوها بهذا المعنى لم يبق من حقيقة الآية إلا ما هو مكتوب في المصحف فقط، أما ما تفهم به فهو المعنى الذي وضعوه، وهو بزيادة اللام.

سبب التأليف في العقائد

يقول المُصْنِّف رحمه الله: [من أجل ذلك احتاج المؤمنون إِلَى دفع الشبه] أي: من أجل انتشار التأويل وأمثاله، احتاج المؤمنون إِلَى التأليف في العقيدة، ليردوا عَلَى هذه العقائد.

ص: 85

والأصل هو كتاب الله عز وجل والسنة، وهذا ما كَانَ عليه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فاضطرنا هَؤُلاءِ أن نسلك هذه الطريقة وذلك لما كثرت البدع والتأويلات والانحرافات، فبدأنا نضطر أن نقاوم هذه البدع، ونبينها ونكشفها، لا نكتفي ببيان الحق، وإنما نبين ما يضاده من الباطل.

ثُمَّ يقول: [وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ

] .

هذه قاعدة مهمة، وهذا من إنصاف المُصْنِّف وعدله رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] .

مراتب التأويل

للتأويل ثلاث مراتب: قد يكون التأويل كفراً، مثل التأويلات الباطنية، وتأويلات الفلاسفة، وبعض التأويلات الكفرية، وبعض تأويلات الرافضة، كمن يؤول الصلوات الخمس بأنها الأئمة الخمسة، ويؤول الصوم بأنه حفظ الأسرار إِلَى غير ذلك، هذا التأويل كفر يخرج من الملة.

وقد يكون معصية يخرج صاحبه إِلَى البدعة، يُحكم عَلَى صاحبه أنه مبتدع ومُنحلٌ، وذلك مثل التأويلات التي ذكرناها -تأويل صفات الله عز وجل مع نية تنزيهه.

وقد يكون خطأً، فبعض النَّاس لا يتعمد التأويل، وهذا موجود حتى في بعض كتب التفسير لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.، وكتب الحديث لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عندما يؤول بعض الصفات خطأ، فهذا لا يخرجه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

فبعض علماء الْمُسْلِمِينَ المعتبرين قد يخطأ ويؤول بعض الصفات، فهذا خطؤه مغفورٌ له إن شاء الله، فقد يخطأ بعض الأئمة في فهم بعض الأحاديث في الصفات مع سلامة المنهج.

ص: 86

وأما من كَانَ منهجه وأصوله بدعية، فهذا من أهل البدع المتوعدين بعقوبة الله، إلاّ أن يتوب أو يغفر الله تبارك وتعالى له، ولا نقطع له بجنة ولا نار.

والتأويل المكفر، الذي ذكرنا إنما عد كفراً لأنه مضادة للقرآن، وتعمد في تحريفه كما تعمدت اليهود، لما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىوَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] فقالت اليهود: "حنطة".

قال بعض العلماء: النون التي زادها اليهودفي "حطة" وجعلوها "حنطة" مثل: اللام التي زادها المؤولة، فقالوا في استوى:"استولى" هذا وجه الشبه بينهم، فالذي يزيد بنية المضادة أو الاستهزاء أو المحادة، فهذا يصبح من التأويل المكفر، أما الذي زاد لاعتماد أصول بدعية، فهو يدخل في باب التأويل المذموم المبتدع المتوعد عليه، وأما الذي أصوله صحيحة، لكن يقع منه خطأً كما يقع من سائر العلماء في سائر النصوص والأحاديث، فهذا يسمى خطأ، وهذا نرجو ألاّ يؤاخذ عليه عند الله تعالى، أما في الدنيا فنبين له؛ لأن الله تعهدنا بأن نبين الحق، وليس كلام أحد حجة وصواب إلا كلام مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وأما من عداه فإن كلامه يُبيّن وخطأه يوضح، دون أن ننتقص من قدره، ولا نخرجه من دائرة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

تاريخ ظهور البدع

ص: 87

وهذه الفرق انشقت عن الجماعة، وخالفت قول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه [الأنعام:153] فاتخذت دينها شيعاً، وتفرقت عن الدين، وأقدم هذه الفرق على ما يظهر لي هي الخوارج، لأن فكرة الخوارج بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين (كان النبي يقسم غنائم حنين، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويترك بعض المهاجرين والأنصار، حتى وجد بعض الأنصار في أنفسهم) ، فكان بعض الأعراب يذهب بالألف أو الألفين من الغنم والإبل، فخرج منهم رجل له كساء، غائر العينين، شعث الشعر -كما في الحديث- (فقَالَ: اعدل يا محمد! إنها لقسمةٌ ما أريد بها وجه الله -والعياذ بالله- فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟) فهو الذي شرع شريعة العدل صلى الله عليه وسلم، وعلمنا إياها من عند ربه عز وجل، ولكن هذا من ضيق لبه وجهله وقلة علمه، وعدم مراعاته للمقاصد والأحكام التي يراعيها الشارع في أحكامه فقد رأى أن هذه القسمة ليست عادلة، فاعترض عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) لما اتهمه قومه بأنه آدر، فما زالوا يتهمونه حتى برأه الله سبحانه وتعالى وكذب قولهم، وغير ذلك مما أوذي به موسى عليه السلام.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، ثُمَّ قَالَ:(يخرج من صلب هذا أقوام تحقرون صلاتكم إِلَى صلاتهم، وقراءتكم إِلَى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) .

ص: 88

وثبت قوله في أحاديث كثيرة في قتال الخوارج (لئن أدركتهم لأقتلنهم) فأول فرقة مستقلة لها غاية، وتجمع كانت هي الخوارج. ومن مبادئهم التكفير بالذنب، وهم أصحاب الوعيد، حيث يأخذون الوعيد ويتركون الوعد، فيكفرون الزاني وشارب الخمر والسارق ونحو ذلك.

ويجاب عن ذلك أن الله قد جعل للمرتد عقوبة القتل، وللزاني الرجم، فإن كَانَ بكراً فعقوبته الجلد، وللسارق عقوبة القطع، فلو كَانَ الجميع يكفرون لكان الحد واحداً وهو القتل، والردود عليهم كثيرة.

وخرج هَؤُلاءِ في عهد عَلِيّ رضي الله عنه لما حكّم الحكمين، فَقَالُوا: لا حكم إلاّ لله، حكمت الرجال في دين الله؟ فخرجوا وأمّروا عليهم عبد الله بن وهب الواحدي وقيل غيره، لكن هذا الذي اشتهرت إمرته، ورفضوا بيعة عَلِيّ رضي الله عنه، وَقَالُوا: لا نبايع إلاّ مثل عُمَر، وإلاّ فلن نبايع، فبايعوا عبد الله بن وهب، وهو أعرابي جلف ليس له صحبة، ولا شهد له الله بخير كما يقول ابن حزم.

وظهرت الشيعة بمبدأ التعطيل، كفكرة أولى هي موجودة في أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسس دينالشيعة منذ أن أثار الفتنة عَلَى عثمان رضي الله عنه، فبداية الفرقة موجودة، لكن ظهرت كفرقة واضحة عندما خرج الخوارج وكفّروا علياً رضي الله عنه.

أقسام الشيعة

الشيعة ثلاثة أقسام:

" الغالية، المؤلهة " الذين غلوا في عَلِيّ رضي الله عنه، وَقَالُوا: أنت أنت.

قَالَ: من أنا؟

قالوا: أنت الله، وسجدوا له -والعياذ بالله-.

وهَؤُلاءِ أمر عَلِيّ رضي الله عنه بإحراقهم، وهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد العجم، وهناك بدأ الدين السبئي.

ص: 89

الفرقة الثانية: "السبّابة": الذي يسبون ويشتمون الشيخين، فهم لم يخرجوا من الإسلام ولم يؤلهوا علياً، ولكنهم سبوا الشيخين رضي الله عنهما، وقد قال بعض الأئمة: إن سب الشيخين كفر لأن هذين كما قال علي بن الحسين زين العابدين الذي رفضته الرافضة قَالَ: كيف أسبهم وهما وزيرا جدي؟

فالذي يسب وزيري النبي صلى الله عليه وسلم فقد سب النبي، والذي يقول: إن أبا بكر عدو للإسلام فهو متهم لرَسُول الله، ومتهم للأمة كلها.

كيف يكون هذا الرجل منافقاً عدواً للإسلام ويوليه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم الصلاة إشارة إِلَى تولية الإمامة العظمى؟

وكان هو وعُمَر أفضل الصحابة؟

فإذا كَانَ هذان كذابين -كما يقول هَؤُلاءِ المغترون- فالدين كله كذب، وما نقلت لنا السنة والشريعة إلاّ عن طريق الصحابة رضي الله عنهم، وعلى رأسهم أبُو بَكْرٍ وعُمَر.

وأما الفرقة الثالثة: وهي: "المفضلة": فهَؤُلاءِ هم الزيدية الذين وافقوا علي بن الحسين، فَقَالُوا: لا نشتم الشيخين، ولكنهم يفضلون علياً عليهما، ويقولون: إن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.

فعَلِيّ P> الأفضل، ولكن إمامة أبِي بَكْرٍ وعُمَر جائزة، وهذا الذي أنكره عليهم علماء السلف، وهو من البدع، ويكفينا في بدعيته أنه صح عن عَلِيّ رضي الله عنه أنه قَالَ:"ما جاؤني بأحد يفضلني عَلَى أبِي بَكْرٍ وعُمَر إلا جلدته حد الفرية ثمانين جلدة، وقال عَلِيّ رضي الله عنه، كما في البُخَارِيّ: "والله ما من رجل وددت أن ألقى الله بعمله إلا هذا " وكان يشير إِلَى "عُمَر وهو في سكرات الموت" وهذا الأثر معروف ومشهور ومتواتر بين الصحابة.

ص: 90

ولما اشتهرالخوارج وكفروا صاحب الذنب، كشارب الخمر والزاني والسارق، خرجت منهم فرقة تقول: لا نكفر أحداً يقول لا إله إلا الله، وكانوا مع الخوارج وجلسوا معهم فترة، فرجعوا إِلَى غلو آخر شديد وَقَالُوا: لا نكفر أحداً أبداً ما دام يقول لا إله إلا الله، حتى وإن سب الله ورسوله، وأنكر القرآن، فجنحوا إِلَى الطرف الآخر، وهَؤُلاءِ هم "المرجئة "، وظهروا في أواخر العهد الخامس.

ثُمَّ ظهرت القدرية، وكان ظهورها في العراق أيضاً، في عهد الصحابة بتأثير النَّصَارَى الذين كانوا في الشام، وكان لهم كلام في القدر والخوض فيه، فنقلوه إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وقال بهمعبد الجهني، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث جبريل الطويل المشهور المعروف: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إِلَى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقَالَ: يا مُحَمَّد أخبرني عن الإسلام؟

) ، رواه عبد الله بن عمر عن أبيهعُمَر حيث جَاءَ بعض التابعين إِلَى عبد الله بن عمر وسأله فقَالَ: إن هناك أقواماً في العراق ينكرون القدر، فَقَالَ لهم: حدثني أبي، فذكر حديث جبريل الذي يدل عَلَى أن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة.

فالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية هذه الفرق جميعاً ظهرت في عهد الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُرَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وهذه الفرق الأربع هي أصول الفرق التي تشعبت منها فرق صغيرة، وظهرت المعتزلة في أوائل المائة في عهد الحسن البصري، فاعتزلوا مجلسه، وهم في الحقيقة امتداد لفكر الخوارج، لكنهم لا يقولون: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة، وإنما قالوا: يخرج من الإسلام ولا يدخل الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، فَقَالُوا: يخرجونه من الإسلام لأن الآيات والأحاديث التي في المؤمنين لا تنطبق عليه، ولا يدخلونه في الكفر لأن الآيات والأحاديث التي في الكافرين لا تنطبق عليه، فجعلوه في منزلة بين المنزلتين.

ص: 91

ثُمَّ ظهر الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري بعد المائة والعشرين، وقَالَ: أيها النَّاس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، ثُمَّ نزل من المنبر وذبح الجعد بن درهم.

ثُمَّ تلميذه الجهم بن صفوان، وخرج مع الحارث بن سريج عَلَى بني أمية سنة 128هـ، وكان كاتباً له فنشر فكر المرجئة، والجهم كَانَ ينفي جميع الصفات عن الله، وكان في نفس الوقت مرجئاً، يقول: إن الإيمان هو المعرفة القلبية فقط، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن -عند جهم -، ولهذا فالمرجئة غلو في هذا الباب، لأن إبليس يعرف الله بقلبه، بل بلسانه قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] وكان الجهم كثير الجدل بلا علم، لم يتفقه، ويخالط العلماء، ويقرأ كتب العلم، ويحفظ من كتاب الله وسنة رسوله، وإنما كَانَ يجادل فقط، فجاءه قوم من الهنود من عباد الأبقار، فَقَالُوا: جئنا نناظرك، فقالوا له: صف لنا ربك؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ هل شممته؟

فبقي أربعين يوماً يفكر، كيف يرد عَلَى هَؤُلاءِ؟

فقَالَ: هو كالهواء، ليس له أي صفة، لا يرى ولا يشم، ونتج عن ذلك نفي صفات الله عز وجل.

ثُمَّ تلقى عن الجهم بشر المرّيسي، وهو يهودي في الأصل، لم يلق الجهم، ولكن لقي تلاميذ تلامذته، وتعلم مذهب الجهم

ثُمَّ تلقى عنه عبد الله بن سعيد بن كلاّب، وهو المؤسس الحقيقي للمذهب المسمى مذهب الأشعرية، ولذلك هجره الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لأنه وافق مقالة بشر وجهم، لكن ابن كلاب لم ينف جميع الصفات، كما قال جهم بأن الكلام كلام نفسي، ولكن أثبت ما يثبته العقل، ونفى ما ينفيه العقل، وحكّم العقل.

ص: 92

وهذا الذي قالتهالأشعرية والماتريدية، فَقَالُوا: ما قامت القواطع العقلية عَلَى إثباته فإننا نثبته، وهي: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام -الكلام النفسي- فهذه يدل العقل عَلَى إثباتها.

وأما الأخرى فالعقل يحكم باستحالتها في حق الله تعالى، فلا نثبتها لله تعالى، وأصل هذا العقل هو عقل الجهم لما اختلى أربعين يوماً.

والقدرية تشعبت، فكان منها القدرية الغلاة الذين ينكرون العلم، ومن أنكر علم الله للأشياء قبل وقوعها فقد كفر، وهَؤُلاءِ أكفر القدرية فإنهم قالوا: لو كَانَ الله يعلم أنه يفعل المعصية، إذاً هو قدّر عليه المعصية، فكيف يجازيه عليها؟ وهكذا سوّل لهم الشيطان.

والله سبحانه وتعالى أخبرنا أن هذه الحجة قديمة، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] ويقول الله عز وجل في سورة النحل: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35،36] وقال في الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] ثُمَّ قَالَ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] فالله تَعَالَى ذكر هذه الشبهة وردّ عليها بأنه لو كَانَ يلزم من ذلك أنه أراد الشرك -يعني قضاه وقدره- لما أرسل الأنبياء، ولما أقام الحجة البالغة.

قَالَ المُصنِّفُ رحمة الله:

ص: 93

[وإن كَانَ العبد عاجزاً عن معرفة عض ذلك أو العمل به فلا ينهى عما عجز عنه مما جَاءَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه، لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك ويود أن يكون قائماً به، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه بل يؤمن بالكتاب كله، وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه من رواية أو رأي، أو يتبع ما ليس من عند الله اعتقاداً أو عملاً كما قال تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون [البقرة:42] وهذه كانت طريقة السابقين الأولين وهي طريقة التابعين لهم بأحسان إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين ثُمَّ من بعدهم، ومن هَؤُلاءِ أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة] .

الشرح:

إن الذي ينبغي عَلَى المسلم أن يتفقه في دينه، ويعرف تفاصيل معتقده عَلَى وفق منهج الأنبياء، فإذا قال أحد: أنا لا أستطيع الاعتقاد المفصل، ولا أستطيع أن أعتقد بجميع أحاديث العقيدة، وبآياتها وأجمع بين المتعارضات منها، خاصة في موضوع القدر والصفات، فنقول له: العاجز عن ذلك قد يسقط عنه لعجزه، لكن لا يجوز لك أن تحارب أو تعادي أو تلوم من قال بهذا الأمر، وإنما ينبغي عليك أن تؤيده وتناصره وتتعلم منه ما استطعت، وأن تفرح بقيام غيرك به؛ لأن هذا من باب الدفاع عن الدين، ومن ذلك: معرفة الفِرَقْ، فكثير من النَّاس لا يريد أن يتعلم الفرق، ويكره أن يعرف عنها شيئاً، فنقول له: إن لم تتعلم فعليك ألا تعايش شيئاً من هذه الفرق، وألا تعيب عَلَى من تصدى لها، بل عليك أن تفرح إذا وجد في الأمة من يتصدى لهذه الفرق، ويحارب هذه الضلالات.

ص: 94

ومما يجب عَلَى من لم يستطع الإيمان المفصل: أن يؤمن بالكتاب كله ويسلم له ولا يؤخذ بعضه ويترك البعض الآخر، وقد سبق أن ذكرنا في موضوع تعارض العقل والنقل أنهم لا يعارضون النقل بالعقل دائماً، وإنما يعارضون به في المواضع التي يرون وجوب التأويل فيها، وإعمال العقل فيها فقط، وهذا يتنافى مع التسليم، فإنه ليس هناك مواضع يجب أن نسلم فيها، ومواضع لا نسلم فيها بل نؤولها ونحكِّم العقل فيها، بل يجب علينا أن نسلم ونؤمن بالجميع ونؤمن بالكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى كله.

وإذا كنا نعرف أن الوحي هو نعمة الله الكبرى عَلَى العالمين، وتخيلنا بأذهاننا كيف يكون حال البشرية لو أن الله لم ينزل هذا الوحي عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؟

فإننا لا نستطيع أن نحصر الضلالات والشركيات في الأرض اليوم مع وجود الوحي فكيف مع عدم وجود الوحي، فإن العالم فيه أمم تعبد أنواعاً من المعبودات مما لا يكاد الخيال يصدقه، حتى حدثني بعض الإخوة ممن ذهبوا إِلَى الهند أنهم وجدوا فيها أقواماً يعبدون الذر الصغير - فسُبْحانَ اللَّه - إذا كَانَ هذا حال البشرية مع وجود هذا النور وهذا الوحي، فكيف لو لم ينزل هذا النور وهذا الوحي المبين؟!

ص: 95

فيجب أن نقدر هذا الوحي حق قدره، فلا ندخل فيه ما ليس منه، فكل حديث موضوع ننزه عنه الشريعة وننزه عنه الرسل، ولا تجوز روايته إلا عَلَى سبيل بيانه للناس، وكذلك تنزهه عن الآراء، فهو بذاته محفوظ بإذن الله تعالى، وقد كانت طريقة علماء السلف من التابعين ومن بعدهم هي اتباع السبيل، والحذر الشديد من البدع وأهلها، ولذلك كانوا رحمهم الله تَعَالَى لا يجادلون أهل البدع، بل إنهم يرفضون أن يكلموهم أصلاً، حتى أن أيوب السختياني رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عرض عليه أن يسمع من بعض أهل البدع كلمة فقَالَ: لا ولا نصف كلمة وخرج وتركه، وبلغ بعض علماء السلف بدعة من بعض النَّاس فأقسم بالله أنه لا يؤيه وإياه سقف واحد إلا سقف المدينة.

وقيل إن الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كما روى عنه الآجري في كتاب الشريعة، جاءه رجل وقال له تعال يا حسن أناظرك، فَقَالَ الحسن رضي الله عنه:"أما أنا فقد عرفت ديني، وأما أنت فإن كنت أضللت دينك، فاذهب فالتمسه حيث شئت ".

وجاء آخر إِلَى الإمام مالك فقال له: تعال أناظرك.

فَقَالَ له مالك: أرأيت إن غلبتني؟

قَالَ: اتبعتني، قال: فإن اتبعتك، فجاء رجل ثالث فغلبني وإياك.

قَالَ: نتبعه، قَالَ: سبحان لله! إن دين الله واحد أنزله عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأمرنا باتباعه قصداً، فقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:"من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل " فمتى يثبت وعلى أي دين يستقر.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 96

[فعن أبي يوسف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنه قال لبشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة. أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه أو ترك الالتفات إِلَى اعتباره. فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علماً بهذا الاعتبار. والله أعلم.

وعنه أيضاً أنه قَالَ: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.

وقال الإمام الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقَالَ: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل عَلَى الكلام.

وقال أيضاً رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

كل العلوم سوى القُرْآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كَانَ فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

وذكر الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده: لا يدخل المتكلمون، ولو أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية.

فكيف يرام الوصول إِلَى علم الأصول، بغير اتباع ما جَاءَ به الرسول؟!

ولقد أحسن القائل:

أيها المغتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الرسول

تطلب الفرع كي تصحح أصلا كيف أغفلت علم أصل الأصول

]

الشرح:

ص: 97

يذكر المُصنِّفُ رحمه الله كلام السلف والتابعين، ويحتج بأقوال الأئمة المتبوعين الذين يحتج بكلامهم،، وربما قدمه البعض منهم عَلَى أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفروع، أو في المعاملات ونحو ذلك، فإذا جَاءَ إِلَى علم أصول الدين الذي هو أجل وأشرف من الفروع رمى بما قاله إمامه، وما ثبت عن السلف، واتبع كلام علماء الكلام، ولذلك ظهرت ازدواجية ثلاثية فتجد أحدهم علىعقيدة الأشعري، وفقه مالك وطريقة نمير كما قال أحد المتأخرين في منظومة له فوصل الأمر بهم إِلَى هذا الحد فسُبْحانَ اللَّه! كَانَ المُصنِّفُ رحمه الله يريد أن يقول: إن كنتم صادقين أنكم تتبعون مالكاً والشَّافِعِيّ وأبا حنيفة فهذا كلامهم في أصول الدين وهو أعظم من الفروع، وهذا منهجهم في العبادة، ولا يقول أحد من أئمة النقد وعلم الرجال والجرح والتعديل أن ابن المودع أفضل من مالك في العبادة وأكثر منه اتباعاً للسنة، وكما يقول آخر: الفقه فقه أبي حنيفة، والدين دين مُحَمَّد بن كرَّام، فكان كرامياً في العقيدة لكنه حنفي في الفروع، فهذه الازدواجية، هي التي فرقت الأمة، وإلا فإن الأئمة الأربعة رضوان الله تَعَالَى عليهم أجمعين، وباقي الأئمة المتبوعين هم في أصول الدين سواء عَلَى عقيدة السلف إلا فيما ندر من بعض المسائل، كالإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في الإيمان كما سيأتي. وهذه من بدع الأقوال لا من بدع الأعمال كما قال الإمام أَحْمَد رحمه الله، فالأئمة الأربعة هم في أصول الدين ولله الحمد عَلَى مذهب واحد، وهو مذهب السلف والفرقة الناجية: أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار عَلَى منهاجهم.

موقف الإمام أبو يوسف من علم الكلام

ص: 98

وقد ذكر المُصْنِّف رحمه الله قول أبي يوسف الإمام المشهور المعروف -وهو تلميذ أبي حنيفة رحمه الله لبشر المريسي الذي كَانَ أبوه يهودياً، ودخل في دين الإسلام ليفسده عَلَى أهله، كما قالت أمه كما نقله الإمام الدارمي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في رده عَلَى ـبشر المريسي، وقد اشتهر بشر بالضلالة وكان تلميذاً لأبي يوسف، فَقَالَ له أبو يوسف هذه العبارة: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم.

فهذا أبو يوسف الذي كَانَ في وقته متهماً من قبل العلماء -في الفروع فقط- لأنه من أهل الرأي، وينصر مذهب أهل الرأي، وهذا كلامه في المبتدعة في أصول الدين، فما بالك بكلام الذين يتمسكون بمنهج أهل السنة والحديث في الأصول والفروع! وكما قيل: من طلب علم الكلام تزندق. وقد ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الأقوال عن علماء الكلام أنفسهم في ذم علم الكلام وأهله، وأنه لم يحصد منه إلا الحيرة والشك والندامة باعتراف أصحابه أنفسهم فضلاً عن غيرهم.

وممن نقل عنهم ذلك الرازي والجويني وأبو حامد الغزالي، وغيرهم، وقوله:"من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس" لأنه يضيّع ما معه من مال في شراء هذه المعادن وفي شراء الآلات، وفي النقل، وفي الغليان بدون فائدة.

وقَالَ: "ومن طلب غريب الحديث كذب" أي أن الذي يتتبع الشواذ والروايات، فإنه يكذب كما حصل في العصور المتأخرة، حيث كَانَ الرجل يريد أن يثبت أن لديه سنداً عالياً إِلَى حافظ مثلاً، فيكذب ويجعل بينه وبين ذاك رجلاً واحداً أو رجلين.

موقف الإمام الشافعي من علم الكلام

ص: 99

وقد نقل الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه فضل علم السلف عَلَى علم الخلف عن الشَّافِعِيّ أنه قَالَ: "ما فسد النَّاس إلا لما تركوا لسان العرب، واتبعوا لسان أرسطو "، فالمقصود أن الأمة الإسلامية إنما فسدت وانحرفت لما تركت المنهج الفطري، والمنطق العربي هو المنطق الفطري واللغة العربية هي لغة فطرية، ومنهجنا في الاستدلال فطري، ولغتنا فطرية، لا تكلف فيها ولا تعقيد، امتن الله تَعَالَى بها علينا فلماذا نعقد الأمور؟!.

وهذه العبارة العجيبة من الشَّافِعِيّ رحمه الله تدل عَلَى أن الإمام الشَّافِعِيّ قد خبر علم المنطق الذي جَاءَ به أرسطو، فعلماء السلف ليسوا يجهلون المنطق لا الشَّافِعِيّ ولا أَحْمَد ولا أبو يوسف، فقد كانوا يعرفونه، ولكنهم لما عرفوا حقيقة الموقف استغنوا عنه وهم مقتنعون تمام الاقتناع أنه لا حاجة لأي عاقل إليه، "فلا يستفيد منه البليد ولا يحتاج إليه الذكي"، فمن هذا المنطلق قال الشَّافِعِيّ وقال علماء السلف هذه المقول وليس كما يشترط المُصْنِّف هنا عندما يقول السلف: لم يحبوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض لأنه السلاح البديل. أو لأنهم كانوا عاجزين عن فهمه، أو كانوا منشغلين بالجهاد والفتوحات، ولم يحرروا مسائل العقيدة ومسائل العلم والعبادة، هذه النظريات التي أكدها علماء اليونان وصلت إِلَى علماء الْمُسْلِمِينَ وترجموها

واشتهر ذلك في عصر المأمون، وبناءً عليها ابتلي الإمام أَحْمَد في القول بخلق القرآن، وفي غيرها من الضلالات، كإذاعة أن الإيمان هو المعرفة القلبية المجردة، فجائتنا هذه الضلالات نتيجة نقل هذا العلم. ثُمَّ قال الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله في المنسوب إليه:

كل العلوم سوى القُرْآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كَانَ فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

ص: 100

وقال الإمام أَحْمَد رحمه الله في تعريف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والطائفة المنصورة: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم"، وأهل الحديث هم الذين يتبعون الحديث وليس المراد بهم أنهم الذين يحكمون عَلَى متن الحديث والرجال ونحو ذلك ولو كانوا مبتدعة.

موقف الأصحاب من هذا العلم

قول المُصْنِّف رحمه الله [قال الأصحاب] إذا قَالَ: الحنفي، قال الأصحاب، أي: فقهاء الحنفية، وإذا قال ابن قدامة في المغني قال أصحابنا فيعني علماء مذهب الحنابلة، وإذا قال في شرح المنهاج قال الأصحاب يعني: علماء الشافعية.. وهكذا، ولأنالشارح حنفي ولأن الحنفية أكثر المذاهب إتباعاً، وقد كثرت فيهم هذه الضلالات فننبه إِلَى ما هو موجود في كتبهم، فيقول المصنف: قال الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده بشيء فلا يدخل في ذلك المتكلمون، فعالم الكلام لا يدخل في ركب العلماء، فهو يشتغل في الجدل وفي المناظرات والمنطق، ولا تدخل كتبهم في كتب العلم فلو أن رجلاً قَالَ: كتبي كلها وقف لمكتبة الحرم، فننظر فما كَانَ من كتب الفقه والحديث والأصول والمصطلح، ونحو ذلك أدخلناه، وما كَانَ من كتب الجاهلية والفلسفة ونحو ذلك رميناه، إذاً فأصحاب علم الكلام لا يدخلون في العلماء ولا كتبهم تدخل في كتب العلم، ثُمَّ بعد ذلك ننتقل إِلَى موضوع أن نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

ص: 101

[ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية عَلَى أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرا قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين، فإنه قليل، كثير البركة " لا " كما يقول ضلال المتكلمين وجهلتهم: إن طريقة القوم أسلم، وإن طريقتنا أحكم وأعلم وكما يقول من لم يقدّرهم قدرهم من المنتسبين إِلَى الفقه: أنهم لم يتفرغوا لاستنباطه، وضبط قواعده، وأحكامه، اشتغالاً منهم بغيره! والمتأخرون تفرغوا لذلك فهم أفقه!! فكل هَؤُلاءِ محجوبون عن معرفة مقادير السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف، التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إِلَى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر وقد جعل الله لكل شيء قدرا]

الشرح:

ص: 102

رحم الله المصنف! فقد أتى بكلام عظيم حتى نعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وقدرالسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، والأئمة الذين كَانَ كلامهم درراً وإمامهم هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله الذي بعث بهذه الشريعة العظيمة، وأوتي جوامع الكلم كما في الحديث الصحيح:((أعطيت جوامع الكلم) فكلام النبي صلى الله عليه وسلم بالضد والنقيض لكلام هَؤُلاءِ الفلاسفة والمناطقة، الذين يتكلمون بالكلام الطويل المعقد من أجل قضية مدنية، بينما رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله سبحانه وتعالى بجوامع الكلام يقول قولاً واحداً، أو جملة واحدة، فتكون منهاجاً ودستوراً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وبآلافٍ من آحاد القضايا والوقائع العينية، والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فمثلاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(كل بدعة ضلالة) فما أوجز هذه العبارة، ويدخل فيها كل ما يمكن أن يحدث في الدين، فكل بدعة أياً كانت ضلالة، وهذه العبارة قاعدة تشمل آلاف الوقائع، ومثل ذلك في الفقه قوله صلى الله عليه وسلم:(لا ضرر ولا ضرار) وهذه العبارة البسيطة لو تأملها الإِنسَان لعجب، فأنت تحتاجها عندما تحكم بين اثنين، أو تصلح في أي قضية، أو تحكم في أي مسألة، وهكذا، ومثل ذلك في التعبد قوله صلى الله عليه وسلم:(الدين النصيحة) فبهذه الكلمة نذكر كل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفسر هذه الكلمة فقَالَ:(لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة الْمُسْلِمِينَ وعامتهم) وهكذا أمثلة كثيرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تدل عَلَى أنه بعث بجوامع الكلم، عبارات وألفاظ وكلمات محدودة لكنها جامعة لمعانٍ عظيمة.

كلام المتأخرين كثير قليل البركة

ص: 103

لو اجتمع أهل الأرض جميعاً، وأعملوا عقولهم عَلَى أن يأتوا بمثل هذا الإعجاز، ومثل هذه الذكرى ومثل هذا الشمول، واقتراب القاعدة لجميع الوقائع لعجزوا عن ذلك عجزاً بيناً، وفوق ذلك عجزهم عن كتاب الله سبحانه وتعالى فهو أعظم.

ثُمَّ إن السلف الصالح كانوا كذلك، وكما سبق أن تحدثنا في مبحث الفرق، فالخوارج والقدرية والشيعة وجدوا في عهد السلف الصالح، وكذا المرجئة وجدوا أواخر عهد التابعين.

فرد عليهم علماء السلف بكلمات قليلة ولكنها مفحمة غاية الإفحام، لكن المتأخرين لو أراد أحدهم أن يرد عَلَى الخوارج فقد يؤلف مجلدات، فتقرأها ولا تكاد تحصد منها شيئاً، لكن تجد أن ابن عباس ناظر الخوارج، فرجع ابن عباس ومعه الآلاف إِلَى معسكر عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بهذه الكلمات.

وبهذا نعرف فضل علماء الصحابة والسلف رضوان الله تَعَالَى عليهم، فكانت كلما تهم من الجوامع بالنسبة لمن جَاءَ بعدهم، فكانت قليلة العبارات كثيرة البركة، فعندما يناظرون القدرية أو الشيعة أو أية فرقة فإنهم يأتون بعبارة واحدة موجزة، أو عبارتين فتغني عما وراءها وتكفي وتشفي من أراد الشفاء بإذن الله سبحانه وتعالى.

ص: 104

وأما المتأخرون فتعمقوا وتنطعوا، ولما جَاءَ رجل إِلَى الإمام مالك وقال له: كيف استوى؟ قال له عبارات ما زلنا نستخدمها إِلَى الآن في جميع الصفات، وإذا تحدثنا عن صفات الله عز وجل فلو ألفنا كتباً ما خرج كلامنا عن هذه العبارات التي قالها الإمام مالك وهي:"الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة " سُبْحانَ اللَّه! كيف أعطاهم الله عز وجل هذا الملكة لأنهم كانوا يتلون كتاب الله عز وجل حق تلاوته، ويؤمنون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فبالإيمان فجَّر الله سبحانه وتعالى في قلوبهم ينابيع الخير والتقوى والعلم النافع، وأعطاهم فراسة المؤمن وقوة النظر، فيأتون بهذه العبارات الجامعة الدقيقة، فمهما خضنا في الصفات فنحن لا نتكلم في أي صفةٍ إلا عَلَى ضوء هذه القواعد الأربع، لأن معانيها واضحة جلية لكل أحد أما أن كيفيتها مجهولة فلأننا نجهل ذاته سبحانه وتعالى وإذا جهلنا ذاته جهلنا صفاته، وأما أن السؤال عنها بدعة فكل الطوائف التي خالفت ما أخبر به الله ورسوله فهي طوائف بدعية، وهذا من الأدلة الكثيرة الدلالة عَلَى ما ذكره المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من فضل السلف.

ولذلك عندما نقول ويقول كل مؤمن بالله وبرسوله: إن علينا أن نتبع آثارهم وأن نقتفي خطاهم، وننظر فيما خاضوا فيه فنخوض في كل ما خاضوا، وما سكتوا عنه نسكت عنه، وما أجابوا عنه بجواب فإننا نجيب عليه بمثل ما أجابوا، حينئذٍ نعرف أن هذا هو الصواب، كما فعل البُخَارِيّ رحمه الله في باب الإيمان عندما رد علىالمرجئة.

ص: 105

يقوليزيد اليانق: سألتأبا وائل شقيق بن سلمة وهو التابعي المشهور تلميذ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عن المرجئة فقَالَ: حدثني عبد الله -وهو ابن مسعود - أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) انتهت العبارة وانتهى الجواب وفهم السامع، ونستخرج من هذه العبارات أعظم رد عَلَى المرجئة، وأمثلة كثيرة جداً، فانظر! كيف كَانَ رد هَؤُلاءِ العلماء، وكيف أوتوا هذه المقدرة العقلية الهائلة.

فالذين يقولون مثلاً في الفقه: إننا أفقه من الصحابة لأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد، ولم يتفرغوا لاستنباط القواعد الفقهية ولم يعرفوا أصول علم الفقه، فلما أتينا وضعنا قواعد أصولية نستطيع من طريقها معرفة الدليل، فهَؤُلاءِ في الحقيقة ما قدروا الصحابة حق قدرهم.

إن الاشتغال بما ورد عن الصحابة رضى الله عنهم، وتتبع فقههم وآثارهم، تُنزل عَلَى صاحبها الحكمة بإذن الله سبحانه وتعالى، فأصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كانت الأمور تأتيهم عَلَى الفطرة، ويفهمون ما يقوله رَسُول صلى الله عليه وسلم عَلَى الفطرة، فعرفوه علماً وجاهدوا عليه عملاً، ودعوا إليه ثُمَّ ماتوا وهم ثابتون عليه رضي الله عنهم أجمعين.

فمن قال من أهل علم الكلام: إن علم السلف أسلم ونحن أعلم وأحكم، فهذا ضال مضل، وقد أساء وظلم نفسه، ولم يرع ما قال سبحانه وتعالى من الثناء عَلَى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأئمة السلف، فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل لنا الخير في أن نتبع هَؤُلاءِ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] .

ص: 106

ويقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] وهَؤُلاءِ يقولون: نَحْنُ أعلم وأحكم.

وأهل السنة يؤمنون أنه لو أنفق الإِنسَان المسلم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو إنما خاطب به خالد بن الوليد وأمثال خالد، وهو صحابي أيضاً بالنسبة لمن آمن قبل الفتح، فالخطاب في هذا الحديث إنما هو لأولئك الذين أسلموا بعد الفتح، أو ممن كَانَ من المفضولين بالنسبة لفاضلهم ولسابقهم ولمتقدمهم.

فما بالك بالتابعين؟ فكيف بأتباعهم؟! فكيف بمن أتى بعدهم من القرون المتأخرة بعد القرون الثلاثة التي ظهر فيها قول الزور وأصبحوا يتهوكون في البدع، وتتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه -كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؟!!.

إن المجوس والبوذيين وغيرهم هم في الحقيقة ما قدروا الله حق قدره بعدم تقديرهم رسول الله حق قدره، أو الصحابة حق قدرهم، فالذين يقولون مثلاً في الفقه: إننا أفقه من الصحابة لأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد ولم يتفرغوا لاستنباط القواعد الفقهية وما عرفوا أصول علم الفقه، فلما أتينا وضعنا قواعد أصولية نستطيع من طريقها معرفة الدليل، فهؤلاء في الحقيقة ما قدروا الصحابة حق قدرهم.

إن الاشتغال بما ورد عن الصحابة رضى الله عنهم وتتبع فقههم وآثارهم تنزل على صاحبها الحكمة بإذن الله سبحانه وتعالى، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت الأمور تأتيهم على الفطرة ويفهمون ما يقوله رسول صلى الله عليه وسلم على الفطرة فعرفوه علماً وجاهدوا عليه عملاً، ودعوا إليه ثم ماتوا وهم ثابتون عليه رضي الله عنهم أجمعين.

ص: 107

فمن قال من أهل علم الكلام: إن علم السلف أسلم ونحن أعلم وأحكم، فهذا ضال مضل، وقد أساء وظلم نفسه، ولم يرع ما قال سبحانه وتعالى من الثناء على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأئمة السلف، فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل لنا الخير في أن نتبع هؤلاء وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة: 100] .

ويقول سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10] وهؤلاء يقولون: نحن أعلم وأحكم.

وأهل السنة يؤمنون أنه لو أنفق الإنسان المسلم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو إنما خاطب به خالد بن الوليد وأمثالخالد، وهو صحابي أيضاً بالنسبة لمن آمن قبل الفتح، فالخطاب في هذا الحديث إنما هو لأولئك الذين أسلموا بعد الفتح، أو ممن كان من المفضولين بالنسبة لفاضلهم ولسابقهم ولمتقدمهم.

فما بالك بالتابعين؟ فكيف بأتباعهم؟!! فكيف بمن أتى بعدهم من القرون المتأخرة بعد القرون الثلاثة التي ظهر فيها قول الزور وأصبحوا يتهوكون في البدع، وتتجارى بهم الأهواء كما يتجار الكلب بصاحبه كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

ص: 108

[وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى إلىأهل الكلام المذموم، واستمد منهم، وتكلم بعباراتهم، والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلومٍ صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق، والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمورٍ كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين، فضلاً عن علمائهم ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل، كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه..] .

وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم، وأنسج على منوالهم، متطفلاً عليهم، لعلي أن أُنظم في سلكهم، وأدخل في عدادهم، وأحشر في زمرتهم مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا [النساء:69] ولما رأيت النفوس مائلة إلى الاختصار، آثرته على التطويل والإسهاب وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] وهو حسبنا ونعم الوكيل] اهـ.

الشرح:

انظر إلى هذا التواضع من المصنف بالنسبة لمن يقولون: نحن أعلم وأحكم حيث يقول: [وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم، وأنسج على منوالهم، متطفلاً عليهم، لعلي أن أنظم في سلكهم، وأدخل في عدادهم، واحشر في زمرتهم] .

ونحن نسأل الله تعالى أن ننظم في سلكهم، وندخل في عدادهم، ونحشر في زمرتهم.

ص: 109

يذكر المصنف رحمه الله تعالى أن هذه العقيدة -يعني عقيدة الإمام الطحاوي أبي جعفر - شرحها غير واحد، لكن بعض من شرحها أصغى إلى أهل الكلام المذموم، كما في معنى الربوبية، ونقل ما فهمه من قول الإمام الطحاوي:[ولاتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات]، فقال: هو قولنا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يمينه ولا شماله، ولا فوقه ولا تحته.

ملاحظات ابن أبي العز حول الشروحات السابقة

وجد المُصْنِّف من شرح عقيدة الإمام الطّّحاويّ شرحاً أشعرياً ماتريدياً، فنبه الشارح هنا إِلَى أنه لما رآهم مالوا وشرحوها هذا الشرح أحب هو أن يشرحها شرحاً سلفياً.

فما قالوا في هذه المواضع وفي غيرها خطأ، أو أوّلوا كلامه عَلَى غير ما أراده الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فإننا ننبه عَلَى الخطأ.

ولا نقول إن أحداً معصوم إلا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وممن شرح هذه العقيدة ابن منكوبه ولا أحفظه إلا مخطوطاً، حيث شرحها شرحاً ماتريدياً.

وممن فسرها تفسيراً أشعرياً ابن السبكي في طبقات الشافعية، وهو كتاب عظيم في التراجم وتاريخ العلماء ومؤلفاتهم، ولكنه أشعري متعصب -غفر الله لنا وله- فهو شديد التعصب عَلَى أن لديه علماً وفضلاً كأبيه، لكن وقع منه -أي: من أبيه- الحسد لشَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ، حتى جره ذلك إِلَى التعصب لغير عقيدة السلف.

فلما جَاءَ ابن السبكي صاحب الطبقات إِلَى ترجمة أبي الحسن الأشعري أثبت أن الأشعري مات عَلَى عقيدةالأشاعرة مع أنه رجع عنها.

ثُمَّ عقد مقارنة بين عقيدة الأشعري وبين عقيدة الطّّحاويّ، ليثبت أن الكلام متطابق، وأن الاثنين متفقان.

والعجيب أنه ذكر في مواضع الافتراق مواضع كثيرة جداً فوق العشرين، وعبارة العقيدة الطحاوية مائة جملة تقريباً، وبعض الجمل فيها مكررة، فإذا كَانَ الأشعري يختلف معه في ذلك، فأين الاتفاق أصلاً.

ص: 110

فهو يريد أن يجعل العقيدة الطحاوية -وهي عقيدة مشهورة، ومجمع عَلَى فضلها بين الناس- هي عقيدة الأشعرية، ومعلوم أن عقيدة أبي الحسن الأشعري، ليست موافقة لعقيدة أبي جعفر الطّّحاويّ.

ولذلك رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أنا أشرحها سالكاً منهج السلف.

كراهية السلف للتكلم بالكلمات المجملة

ثُمَّ قَالَ: إن السلف لم يكرهوا التكلم في العرض والجوهر والحيز والجسم لأنه اصطلاح جديد، وإنما لأنها تشتمل عَلَى أمور كاذبة، وهذه قضية مهمة لئلا يأتي معترض ويقول: لماذا تنكرون عَلَى علم الكلام، ولا تنكرون عَلَى غيره من العلوم المستحدثة كعلم النحو وعلم الأصول، فالعرب كانوا يتكلمون اللغة بدون معرفة مبتدأ ولا خبر، ولا نواسخ، ولا مضاف ومضاف إليه، والفقهاء كانوا يقولون حرام وحلال، ولم يكونوا يعرفون الأحكام التكليفية والوضعية، والعلة والمناط، وغير ذلك من مباحث علم الأصول.

فنحن جئنا بمثل ما جَاءَ به النحويون وضبطنا العقيدة، فوضعنا جسم وعرض، وحيز وجوهر، وتركيب وغير تركيب، أتينا بها حتى نفهَّم النَّاس العقيدة.

وقالت الصوفية: نَحْنُ أتينا ورتبنا طريق السلوك، وجعلنا له مقامات، وأحوالاً، والحال له تعريف، والمقام له تعريف، وكيف نجمع بين هذا المقام وهذا الحال، فما أتينا إلا بمصطلحات نُفهم النَّاس كيف كَانَ الصحابة يتعبدون.

فرد عليهم المُصْنِّف هذه الشبهة فقَالَ: [السلف لم يكرهوا ذلك لمجرد كونه اصطلاحات جديدة عَلَى معان جديدة، لكن أنكروا عليهم لأنها تشتمل عَلَى أمور كاذبة، ولأنها عبارات منقولة عن مشركي اليونان والمجوس، وتعبر عن عقائد جاهلية قديمة باطلة، وكل مصطلح منها له دلالة تختلف عند أهله عنها في لغة العرب.

فالجسم في لغة العرب غير الجسم في تعريف المناطقة

وهكذا بقية الأمور كالعرض، والجوهر.

ص: 111

فهي تعبر عن عقائد زائفة، وتشتمل عَلَى مقدمات باطلة، وتؤدي إِلَى نتائج كاذبة مبتدعة في الدين، لم يكن عليها السلف الصالح رضوان الله تَعَالَى عليهم، وإنما انتشر القيل والقال والجدال لما انتشرت مثل هذه الأقوال، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا النَّاس إِلَى عبادة الله سبحانه وتعالى، ودعا أصحابه النَّاس فأدخلوهم في دين الله، وأقنعوهم إقناعاً عقلياً حتى ولد منهم أكبر الدعاة إِلَى الله، وأكبر العلماء المؤلفين كالإمام البُخَارِيّ وغيره، فما أقنعوهم وناظروهم وأفهموهم بالمنطق اليوناني، وإنما أفهموهم بمنطق الوحي الذي يعطي الحجة، فيأتونهم بالوحي والمحجة الواضحة.

كما مر أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم علمنا منهج الدعوة، فكتب إِلَى هرقل عظيم الروم: هرقل عظيم الروم، أسلم تسلم، فإن أبيت فإنما عليك إثُمَّ الأريسيين) ثُمَّ كتب: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وختم الكتاب.

وهذه الآية تهدم جميع المعتقدات التي كانت تدين بها الإمبراطورية الرومية وأولها: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً كَانَ الرومان يعبدون الإمبراطور، وكانوا يتلقون عن الأحبار والرهبان في الدولة كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] ولذلك لما جاءت هذه الآيات وهذا الكتاب إِلَى هرقل هزته -وهو أعظم ملوك الأرض- وأيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى الحق، ولولا أنه آثر الدنيا عَلَى الأخرى لآمن بالله واتبع النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 112

هذا هو أسلوب الدعوة الصحيح، أن ندعوهم بمنطق القرآن، لا أقول: نكتب الآية فقط! لكن نشرح الآية شرحاً فنوضح حجة القُرْآن للناس فهي التي تقنعهم، فإن لم تقنعهم فلا أقنعهم الله عز وجل، وإن لم تهدهم فلا هداهم الله عز وجل فإننا أمرنا أن ندعوهم قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْي [الأنبياء:45] فننذر النَّاس أيضاً بالوحي، فمن آمن به واهتدى فالْحَمْدُ لِلَّهِ، ومن لم يهتد فإنما علينا البلاغ؛ بل نقول: يارب، بلغناهم ما أوحيت به إلينا فكفروا، لكن لو أنذرناهم بمنطقهم وبفلسفاتهم وجدالهم، فبم نجيب ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ إذا قال لِمَ لم تنذروهم بالوحي، وأنا قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْي [الأنبياء:45] وأنتم تقولون أنكم من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا البصيرة في الدين، وأن يجعلنا من المتبعين له ولأصحابه، المتمسكين بسنته السائرين عَلَى منهجه.

ص: 113