الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح العقيدة الطحاوية
الإسراء والمعراج
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
هذا باب جديد من أبواب العقائد، وهو باب الغيبيات التي يسميها أهل الكلام السمعيات، والمقصود عندهم بالسمعيات ما ثبت بالخبر أي: بالدليل السمعي -كما يسمونه- أي ما ورد في القرآن أو في السنة، والعقل لا يثبته ولا ينفيه، بخلاف الكلام والرؤية وأمثالها مما سبق بحثه فإنهم يقولون: إن تلك يثبتها العقل ويدركها أي: يدرك إثباتها ويقر بها ويحكم بأن الله سبحانه وتعالى يوصف بها.
وهناك صفات خبرية وأخبار مجردة كأحوال يوم القيامة، من الصراط والحوض والميزان، وكما هنا في الإسراء والمعراج، وأمثال ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنون به ويقرون به على الشرط الذي سنذكره وسموه بالسمعيات، فأبواب العقيدة عندهم على نوعين:
الأول: العقليات عموماً، وهي مباحث الإلهيات والصفات وما أشبه ذلك، وهذه تدخل جميعاً ضمن العقليات أي: التي يبحثها العقل ويثبتها ويدركها، وأما مباحث السمعيات فهي التي جاء بها النص وجاء بها الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم والعقل عندهم لا ينفيها.
فنحن سنتحدث إن شاء الله عنها ونبين أولاً: مذهبأهل السنة والجماعة في إثبات هذه الغيبيات.
ومذهب المتكلمين في ذلك ثم نتحدث عن الإسراء والمعراج إن شاء الله.
قال الطحاوي رحمه الله:
[والمعراج حق وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يُعرج فيها، أي يصعد، وهو بمنزلة السلم لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.
وقوله: [وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة] اختلف الناس في الإسراء فقيل كان الإسراء بروحه، ولم يُفْقَد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه؛ لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كان مناماً، وإنما قالا: أُسري بروحه ولم يُفْقَد جَسدُه، وفرق ما بين الأمرين، إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذُهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد، ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت، وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديثشريك وقوله:(ثم استيقظت) وبين سائر الروايات.
وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين ذكره ابن عبد البر، قال الشيخشمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً، وكيف ساغ لهم أن يظنوا أن في كل مرة تٌفرض عليهم الصلواتُ خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول:(أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟!
وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال:" فقدم وآخر وزاد ونقص " ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله، انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله] اهـ.
الشرح:
نبدأ كما ذكرنا بالفقرة الأولى وهي ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان بالغيبيات، أو ما يسميه أهل الكلام بالسمعيات؟
فالجواب هو: أنأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما ثبت آمنوا به وسلموا، والشرط الوحيد عندهم هو أن يصح ذلك فقط، وأن يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت شيء من الأمور الغيبية في الكتاب أو السنة آمن به أهل السنة والجماعة، كما كان يؤمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من القرون المفضلة، قبل ظهور أهل البدع والضلال، إذاً لا يوجد عندهم أي شرط في أي شيء إلا أن يثبت ذلك ويصح بالشروط المعروفة، أي: أن يصح السند إذا كان حديثاً ولا يكون فيه شذوذ ولا نكارة، وغيرها من شروط الحديث الصحيح التي يذكرها الأئمة المعروفون في ذلك، فإذا أثبتوا أمراً من الأمور فإن كان ذلك الخبر عن أحوال يوم القيامة، أو الجنة أو النار، أو من صفات الله عز وجل، فكل ما جاء وصح نؤمن به.
ولا نعرضه على عقل ولا على رأي، ولا نقول هذا يخالف العقول، أو يخالف البراهين أو القواطع العقلية، ولا نقول: لا نؤمن به حتى تثبت سلامته من المعارضة العقلية أو نحو ذلك، ولا نقول أيضاً كما يقول الطرف الآخر، فالطرف الأول هم الذين يعارضون بالعقل وهم المتكلمون، والطرف الآخر هم الصوفية وأمثالهم الذين يقولون: ثبت بطريق الكشف، أو ثبت بطريق الذوق أن هذا لا ينبغي، أو أن هذا لا يجوز، وأن ذلك لا يصح أو ما أشبه ذلك، كما تقول الصوفية مثلاً في الحكم لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما في الجنة، ويردون الأحاديث الصحيحة في ذلك، ويقولون: هذا لا يليق وقد ثبت عن أرباب المعرفة وأرباب الكشف والذوق أنهم في الجنة، هذا كلام لا يقبل عند أهل السنة والجماعة لأن العبرة عندهم هي: أن يصح الدليل هذا هو الشرط في أي حكم وفي أي أمر من الأمور، ولهذا أهل السنة والجماعة لا يفصِّلون في الأبواب، ولا يفّرقون فيجعلون أبواباً عقلية، وأبواباً سمعية، فكل ذلك عندهم شيء واحد، كله إذا ثبت به الدليل وصح به النقل آمنوا به وسلمت له عقولهم، وأيقنوا به في قلوبهم دون أي معارضة ولا أي تردد.
هذا بإيجاز مذهب أهل السنة والجماعة وأما غيرهم فإنهم في مثل هذا الباب -في باب السمعيات- إما أن يردوا ذلك مطلقاً، ويقولون: إن العقل يعارضها، كما نقل عن المعتزلة ومن اتبعهم من الروافض: أنهم ينكرون عذاب القبر أو ينكرون الميزان أو ينكرون الصراط، وسيأتي تفصيل الكلام في الصراط والميزان إن شاء الله.
ومنهم أيضاً من أنكر الإسراء والمعراج الذي هو موضوعنا وأخذوا يقولون: لا يعقل ذلك، وقال بعض المعتزلة نؤمن بالإسراء ولا نؤمن بالمعراج، أي يقولون: الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم العودة هذا ممكن أن يقع عقلاً؛ لكن الصعود والعروج إلى السموات السبع، هذا يحيله العقل فلا يؤمنون به.
إنكار الفلاسفة والزنادقة وبعض الفرق الضالة للمغيبات
فالزنادقة والفلاسفة عموماً ينكرون الغيبيات إنكاراً باتاً، وتبعهم بعض المعتزلة والروافض وبعض المرجئة وبعض الأشعرية والخوارج والكرامية ومن ضل من هذه الفرق، ينكرون بعض الغيبيات تبعاً للفلاسفة والمعتزلة، ويقولون: العقل لا يثبت ذلك فكيف نثبت عذاب القبر ونحن نرى أناساً يغرقون في البحر، وأناساً تأكلهم الدواب، وأناساً كذا وكذا؟ فينكرون ما صح في ذلك من الأحاديث.
ويقولون: لا نثبت الميزان. كيف توزن الحسنات، وكيف توزن الصلاة وقراءة القرآن، وهي ليست أشياء مادية محسوسة؟
إذاً الميزان لا حقيقة له، وهكذا المعراج فإنهم يقولون: كيف يستطيع بشر أن يرقى إِلَى السموات العلى، وأن يدخلها سماءً بعد سماءٍ؟ فبأمثال هذه التراهات ينكرون السمعيات.
مذهب الأشاعرة في الغيبيات
والذين يثبتون الغيبيات ولكن عَلَى غير منهج السلف الصالح هم أغلب الأشعرية، أو من يسمون أنفسهم مُتكلميأهل السنة؛ لأنهم يقولون: نَحْنُ أهل الكلام من أهل السنة، فيجعلون المعتزلة أهل كلام بدعي، وأنفسهم أهل كلام سني، وقد سبق أن رددنا عَلَى هذه الشبهة.
وقد ذم الأئمة أهل الكلام وعابوهم كالإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والشَّافِعِيّ وغيرهم، فهَؤُلاءِ أئمةأهل السنة، وغيرهم كثير قد أطلقوا الذم عَلَى علم الكلام، ولا يوجد علم كلام سني وعلم كلام بدعي والباقلاني -وهو الذي أشهر وأظهر مذهب الأشعرية في بلاد المشرق- يقول: نؤمن بالحوض والصراط والميزان كما صح بذلك الحديث؛ لأن ذلك غير مستحيل في العقل، هذا كلامه في رسالة له اسمها رسالة الإنصاف.
فيعلل ذلك القبول والإيمان بأن ذلك غير مستحيل في العقل، إذاً هذا قيد، ثُمَّ جَاءَ من بعده أبو المعالي الجويني وله كتاب الإرشاد فأخذ يذكر هذه الأبواب باباً بابا، ويقول في آخر كل باب نؤمن به لأن النص قد ثبت به، ولأنه غير مستحيل في العقل، وبهذا نعرف مذهب أهل الكلام في الغيبيات التي يسمونها بالسمعيات وهو الإيمان بها بشرطين:
الأول: أن يصح بها النقل.
والثاني: عدم الاستحالة عقلاً، أي: يعللون الإيمان بها؛ لأنها غير مستحيلة في العقل، أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إذا قيل لهم: لماذا آمنتم بها؟ فإنهم يقولون: لأنه قد صح بها النقل وثبت بها الحديث، إذاً هناك فرق بين المذهبين، فالمسألة ليست مجرد أن يثبت الإِنسَان شيئاً وإن كَانَ إثباته حقاً، لكن يجب عليك أن تثبته عَلَى منهج أهل الإثبات، وهو أن تثبته لأن ذلك هو الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن تثبته وتقربه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به والعقل لا ينفيه فقد زدت قيداً من عندك.
يقول شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ في الرد عَلَى هذا المذهب في شرح العقيدة الأصفهانية، وهو أيضاً في درء تعارض العقل والنقل في الجزء الأول صـ 177، وهذا ملخص بسيط لما ذكره، وإلا فكل الكتاب رد عليهم، لكنه ذكر ملخصاً بسيطاً في هذا، وقاعدة عظيمة يقول فيها: أن من قال أؤمن بما جَاءَ وبما ثبت لأن عقلي يسلم به، ولا أقر ولا أومن بكذا لأن عقلي يرده ولا يسلم به، فهذا قد رد النَّاس إِلَى أمر غير منضبط، فمثلاً أنا قرأت حديثاً ولا أدري هل تقبله عقول هَؤُلاءِ أو لا تقبله؟ وأيضاً قد أقرأ هذا الحديث وفيه كلام، فيأتي أحدهم ويقول: أنا عقلي يقبل ذلك، ويأتي آخر ويقول: أنا والله عقلي لا يقبل ذلك، فبأي شيء نؤمن والأمر غير منضبط.
وقبل فترة نشر في إحدى الجرائد أن رجلاً قَالَ: إن في صحيح البُخَارِيّ أحاديث موضوعة، ودليله أنها موضوعة: أن العقل لا يقبلها، وذكر أمثلة، منها: حديث أن ملك الموت جَاءَ إِلَى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه، وقَالَ: هذا الحديث لا يقبله العقل إذاً هو موضوع، حتى لو كَانَ الذي رواه الإمام البُخَارِيّ ولا كلام في سنده؟!
ولو طبقنا هذه القاعدة فكم سيبقى عندنا من أحاديث؟ كل إنسان يمكن أن ينفي ما شاء، فإذاً نَحْنُ بهذه الحالة لسنا عبيداً لله تبارك وتعالى، وإنما نَحْنُ أنداد -عياذاً بالله- فالعبد شأنه أن يطيع سيده وأن يصدقه، لكن إذا كَانَ يقول: هذا أقبله وهذا لا أقبله فهذا ندُُ لله. إذاً فما الحاجة إِلَى أن يبعث الله الأَنْبِيَاء والرسل؟ كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في شرح الأصفهانية، ما الحاجة إِلَى أن يبعث الأَنْبِيَاء ما دام أنهم لا يأتونا بشيء إلا ونعرضه عَلَى العقل فإن أقره آمنا به وإن لم يقره رفضناه، فيشتغل النَّاس بكلام الرسل نفياً وإثباتاً ودراسة وتمحيصاً.
إذاً: كانت الرحمة بالنَّاس أن لا تبعث الرسل؛ لأن النَّاس عندهم العقول يقيسون بها، وعندهم البراهين العقلية التي يتناقلونها عن اليونان ويتبعونها، ولا يتبعون أنفسهم في رد ما ثبت عن الأَنْبِيَاء وفي تأويله وفي إقرار بعضه ونفي بعضه.
وممن أنكر الإسراء والمعراج مُحَمَّد حسين هيكل في كتابه حياة محمد، وهذا الرجل يفسر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً عصرياً كما يقولون! وليس هو وحده، لكن هو أشهر من كتب في ذلك، والسبب أن كثيراً من الكتاب اتبعوا بعض المستشرقين.
من خطط المستشرقين تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من وصف النبوة
رأى المستشرقون أن الصواب في الحط من قدر النبي صلى الله عليه وسلم هو بإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وغمط ما أظهره الله تَعَالَى عَلَى يده من الحق، وجحد ذلك، والطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم سباباً وشتماً كما كانت تفعل الكنيسة ورجال الدين، الغربيون في القرون الوسطى منذ الحروب الصليبية وقبلها وبعدها، فلقد كَانَ همُّ كل منهم أن يخطب فيشتم النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه سباً فاحشاً وحاشاه صلى الله عليه وسلم عما يقولون.
ومن قولهم: إنه كذاب ودجال وليس بنبي فعل وفعل وهكذا، حتى أوجدوا في العقلية الغربية الأوروبية مناعة غريبة جداً، فلا تريد أن تسمع عن هذا النبي أي شيء، كما هو حالهم إِلَى اليوم، ولا يريدون أن يقروا بأي فضل له صلى الله عليه وسلم.
هذا المنهج وجده بعض النَّاس -من المفكرين الغربيين- أنه أولاً: غير علمي، لأنه مجرد شتم.
وثانياً: أن مردوده عند الْمُسْلِمِينَ عكسي، فالمسلم إذا قرأ ما كتب سوماس لامنس وأمثاله من المجرمين من شتم في النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينفر من الغربيين، ومن النَّصَارَىنفوراً شديداً، ويشتمهم وتتوثب نفسه ولو لقتلهم أو قتالهم؛ لأن هذا لا يقر به أي مسلم مهما كَانَ ضعيفاً أو جاهلاً أو ساذجاً، فرأوا أن هناك طريقة أفضل من هذه وأجدى، لأن المستشرقين يخططون ويغيرون الخطط: وهي أن يمدحوا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يجردونه من صفة النبوة، فيقولون: هذا رجل عظيم فتح جزيرة العرب، ووحد العالم، وأسس ديناً لم تعرف البشرية مثله، وأوجد شريعة لا يوجد في الأرض مثلها، جَاءَ بكذا
…
، ويصفونه بكل شيء إلا أنه لايكون نبياً.
فيجعلونه مجرد رجل عظيم كسائر العظماء، وعلى هذا كتب المؤرخ والكاتب الإنجليزي المشهور توماس كارل كتاب الأبطال، وجعل من جملة الأبطال محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب قديم في آخر القرن التاسع عشر فهلل واستبشر له أكثر المغفلين من الْمُسْلِمِينَ؛ لأنهم في ذلك اليوم كانوا في فترة ضعف وذل وهوان، وما صدقوا أن رجلاً غربياً يجعل النبي صلى الله عليه وسلم بطلاً من الأبطال مثله مثل نابليون والقائد الإنجليزي الذي هزم نابليون، وعدة أبطال من إنجليز وفرنسيين وألمان، ومن جملة الأبطال الشرقيين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
تأثر العصرانيين والعقلانيين بمنهج المستشرقين
وعلى هذا المنهج سار بعض الناس، وهم الذين ينتهجون المنهج العقلي أو المنهج العصري من الْمُسْلِمِينَ، وهم من تلاميذ أو من أتباع مدرسة الشيخ مُحَمَّد عبده العقلية، ومنهم مُحَمَّد حسين هيكل هذا، ومنهم أيضاً عبد الرحمن عزام وغيرهم.
فكتب أحدهم بطل الأبطال، والآخر كتب الرسالة الخالدة، وآخر كتب حياة محمد، وآخر كتبمحمد هكذا فقط، وطه حسين كتب على هامش السيرة، كل هذا الكلام يكتبونه عَلَى أساس أن هذا رجل مفكر، داهية، سياسي، عسكري، عبقري، إِلَى آخر ذلك، إلا أنه لا يعمل بأمر من الله أو بوحي من الله، فهذا وإن كانوا لا يصرحون بإنكاره لكنهم لا يكادون يأتون عليه ولا يذكرونه.
وكذلك أيضاً كتب العقاد العبقريات، فهي من هذا القَبِيْل، عبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية علي وعبقرية عمر إِلَى آخره، فكل هَؤُلاءِ المذكورون ومن شاكلهم متأثرون بمنهج المستشرقين من قريب أو من بعيد.
يقول: مُحَمَّد حسين هيكل: إن الإسراء والمعراج، هو استجماعة نفسية وروحية، حصلت ولا تحصل إلا لمن بلغ درجة عالية من الروحانية، فكأنه استجمع في نفسه الوجود منذ أو ل الوجود إِلَى آخره، وإذا جئت تنظر في معاني ألفاظ هذه الكلمات لا تجد تحتها أي معنى، ولا تجد لها أي قيمة، إلا أن المقصود هو أن يجرد الإسراء والمعراج عن كونه آية جعلها الله لهذا النبي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وقد رد عليه الشيخمُحَمَّد الغزالي، وأنكر عليه ذلك، لكن الشيخ نفسه فيه نوع من التأثر بالمنهج العصري، فلهذا جَاءَ في كلامه أيضاً ما يلمح بأن من الممكن أن يفسر الإسراء والمعراج تفسيراً مادياً أو شبه مادي، لأنه يقول: إن كلمة البراق مشتقة من البرق.
يقول: فكأن الحديث يشير إِلَى أن سرعة البراق مشتقة من البرق؛ لأنه كما جَاءَ في الحديث -يضع حافره عند منتهى طرفه من سرعته- وكأنه يسير بسرعة الضوء وفي ذلك دليل عَلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم امتطى القوة الكهربائية في عروجه إِلَى السماء، وهذا نفس الشيء: مع أنه رد عَلَى أولئك، لكنه قريب مما قالوا.
فلا ينبغي لنا أن نخوض في هذه الأمور بمجرد الآراء، إنما يجب علينا أن نسلم ونؤمن بما جَاءَ عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؛ والبراق هي دابة كما جاءت صفتها في الحديث وكما سنذكره -إن شاء الله تعالى-، فنؤمن بها كما جاءت، وعليها ركب النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صعد إِلَى السماء بكيفية لا تدركها عقولنا، وليس من شأننا أن نفكر لماذا لا تدركها عقولنا؟ أو هل تدركها أو لا؟ نَحْنُ عبيد مأمورون بأن نصدق، وأن نسلم بما جاء.
من لم يصدق بالإسراء والمعراج فليس مؤمناً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم
إذا استنكرت عقولنا أن يقع الإسراء والمعراج، فما الفرق بيننا وبين كفار قريش الذين سخروا وضحكوا من النبي صلى الله عليه وسلم، ونادى بعضهم بعضاً حتى أن أبي جهل استوثق من النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أتحدث القوم بما أخبرتني به؟
قال صلى الله عليه وسلم: نعم، فلم يشأ أن ينفره حتى أخذ منه وعداً بأن يحدث القوم حتى يجمع قريشاً، فإذا حدثهم يكون التكذيب والسخرية والضحك بالنبي صلى الله عليه وسلم جماعياً، فانطلق في قريش يقول: يا معشر قريش قد جاءكم مُحَمَّد بالداهية الدهياء، فجاءوا واجتمعوا وَقَالُوا: ماذا لديك يا محمد؟
فقَالَ: إنه قد أسري بي إِلَى بيت المقدس، وعرج بي إِلَى السماء.
فسخروا وضحكوا وأنكروا وَقَالُوا: إن الراكب منا ليضرب في الأرض مسيرة شهر ليذهب إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ مسيرة شهر ليعود، وتزعم يا مُحَمَّد أنك تذهب إليه في ليلة.
وجاءوا إِلَى الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فلم يستطيعوا أن يزعزعوا إيمانه، أما بعض من آمن فإنهم فتنوا -عافانا الله وإياكم- وقد ذكر الله تبارك وتعالى ذلك في القُرْآن فقَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] ففتن بعض من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدق برسالته، لما رأى أن هذا خبراً غريباً، وقصة عجيبة ومذهلة، ويحار العقل فيها، وكفار قريش، يضحكون ويسخرون، فكان ضعيف الإيمان من هَؤُلاءِ لا يستطع أن يثبت -عافانا الله وإياكم- من الزلل فكفروا وارتدوا، ومنهم من قتل معأبي جهل ببدر نسأل الله الثبات والسلامة والعافية.
فإذاً لو قال أحد كهَؤُلاءِ- إماهيكل وإما أمثاله من المستشرقين وليس بعد الكفر ذنب-: كيف نؤمن بالإسراء والمعراج؟ كيف نصدق؟! فهذا بلا شك مشابه لموقف كفار قريش، فالذي يناقش في ذلك أو يماري أو لا يؤمن، فهو في الحقيقة لم يؤمن إِلَى الآن بالإسلام ولم يؤمن برسالة صلى الله عليه وسلم، فلو آمن أنه نبي مرسل من عند الله، وأن هذا القُرْآن من عند الله حقاً، لما كَانَ لديه أي شك ولا أي ريب، عافانا الله وإياكم من الزيغ والشك والريب والضلال.
وبهذا نكون قد عرفنا مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الغيبيات، ومذاهب الذين خالفوهم في ذلك، وقلنا: إنهم عَلَى فرقتين: من أنكره بالكلية، أو من أنكر بعضاً وأثبت بعضاً، أو من أثبته بشروط.
سبق أن تحدثنا عن الإسراء والمعراج وعن والأقوال في ذلك، وتقدم الكلام عن متى كَانَ الإسراء والمعراج في موضوع الرؤية، عندما تحدثنا عن مسألة هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أو لم يره؟
ونحتاج إِلَى أن نعرف ما يقع اليوم في واقعنا الإسلامي، وفي أكثر الدول من احتفال بليلة السابع والعشرين من رجب، والقول بأنها ليلة الإسراء والمعراج، أو عيد الإسراء والمعراج، فهل هذا حق؟ وهل هذا صحيح؟ فعندنا مسألتان:
أولاً: ثبوت التاريخ.
ثانياً: حكم ذلك.
هل ثبت تحديد تاريخ الإسراء والمعراج وهل لمعرفته فائدة؟
أما ثبوت تعيين تاريخ الإسراء والمعراج فلم يثبت عَلَى الإطلاق أي دليل صحيح صريح في تحديد وقت الإسراء والمعراج، وكل ما نعرفه من خلال السيرة هو أن الإسراء والمعراج كَانَ قبل الهجرة، هذا هو القول الراجح، والمشهور والمستفيض أن الإسراء والمعراج كَانَ بعد موت أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد موت خديجة، وبعد أن ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الطائف ورده أهلها، وهو العام الذي يسمى عام الحزن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لقى فيه الأذى الشديد والألم والتعب، فمنَّ الله تبارك وتعالى عليه بهذه الآيات العظيمة، وهذه المشاهد وهذا المقام الرفيع الذي لم يصل إليه بشر، تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت آيات عظيمة قال الله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] فأراه الله عز وجل آياتٍ عظيمة ففُرج عنه صلى الله عليه وسلم الهمَّ وسُرِّي عنه، وعاد وقد استيقن بربه وبلقائه، وأن ما يوحى إليه هو الحق أكثر من ذي قبل، وعاد صلى الله عليه وسلم وقد شد العزم عَلَى أن يبلغ دعوة ربه، وأن لا يبالي بالنَّاس مهما صدوه، بعدما رأى ما رأى من الأَنْبِيَاء ومن الكرامة التي نالها، فوقوعه في ذلك التاريخ فيه حكم عظيمة، لكن لا ندري بالضبط متى كان؟ فقد اختلف في أي يوم كان؟ وفي أي شهر؟ وفي أي سنة؟
حتى قال الحافظابن حجر رحمه الله كما في الجزء السابع من فتح الباري صـ203: والأقوال في ذلك أكثر من عشرة أقوال، حتى أن منها: أن ذلك قبل البعثة، ومنها: بعد الهجرة، وقيل: قبلها بخمس، وقيل: قبلها بست، وقيل: قبلها بسنة وشهرين كما قال ابن عبد البر.
هذه خلافات كثيرة، ولا يوجد أي حكم شرعي يترتب عَلَى المعرفة الدقيقة لتاريخ الإسراء والمعراج.
إذاً -الْحَمْدُ لِلَّهِ- لا يهمنا من معرفة التاريخ شيء، وما دام أنه لم يثبت منها شيء فنحن لا نثبت أي شيء منها، إلا أننا نقول: أنه كما يترجح ويظهر من عموم الأدلة أنه كَانَ قبل الهجرة، وأنه كَانَ بعد أو في عام الحزن.
حكم الإحتفال بليلة الإسراء والمعراج
مع أنها لم تثبت ولم يثبت لها تاريخ معين، بل قال بعض المتأخرين كما ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض يقول: قال بعض العلماء المتأخرين: "وأما ما هو منتشر اليوم في بعض الديار المصرية من الاحتفال بليلة سبع وعشرين، ودعوى أنها ليلة الإسراء والمعراج، فذلك بدعة] وهذا متأخر، يعني: أن هذه البدعة مع أنها بدعة؛ لكنها أيضاً بدعة متأخرة وينكرها النَّاس الذين لديهم اطلاع وفهم للسيرة والتاريخ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتفل بيوم إسرائه ومعراجه؟! وهل احتفل بذلك الصحابة أو التابعون؟! لا يثبت في ذلك شيء عَلَى الإطلاق، ونتحدى أن يأتي أحدٌ بشيءٍ في ذلك، ثُمَّ مع هذا يأتي المتأخرون فيحتفلون، بل ويجعلونه سُنة أو عيداً كما يسميه البعض: عيد رجب، ولم يكتفوا بذلك بل حددوا ليلة معينة في ذلك، وجزموا بأنه وقع فيها، وفي تلك الليلة يجتمعون في المساجد، فيأتي القارئ ويفتتح ويقرأ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] حتى أن الإذاعات والتلفزيون ذلك اليوم تستفتح بها كذلك! نَحْنُ نقول: سورة الإسراء من كتاب الله عز وجل وتقرأ، لكن لماذا تخصص في ذلك اليوم حتى تعطى النَّاس إيحاءً وإشعاراً بأن هذه هي ليلة الإسراء والمعراج، وكل هذا من البدع ما دام أنه لم يثبت (ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
هل الإسراء والمعراج كان بالروح أم بالجسد؟
يقول المُصْنِّف رحمه الله في شرح قول الطّّحاويّ: [والمعراج حق]
المعراج: مِفْعال من العروج، أي: عَلَى وزن مِفْعال، ومِفعال من أسماء الآلة كمِفْعَل ومفعلة كما نقول:"مِسَبر ومِبَرد ومِنَجل، ومِطَرقة " ومعراج من أسماء الآلة، فَيَقُولُ: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد فيها، وهو بمنزلة السُّلم، وقد جَاءَ ذلك في بعض الروايات.
وروايات حديث الإسراء والمعراج جمعها الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتاب التفسير عند أول الآية من سورة الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الاسراء:1] حيث جمع الروايات في الإسراء والمعراج منالمسند ومن الصحيحين ومن المسانيد الأخرى كأبي يعلى وروايات البيهقي وعبد الله بن أحمد كما في زياداته عَلَى المسند وابن جرير وغير ذلك.
وابن جرير رحمه الله ذكر روايات كثيرة لكنها بسنده هو، والحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر روايات المسند والصحيحين ثُمَّ ما في السنن والمسانيد الأخرى، ومنها ما ورد في صفة هذا المعراج كأنه أمر محسوس، أي: شيء مشاهد يتبعه الإِنسَان ببصره إذا قبضت روحه؛ لأنه يعرج بها إِلَى السماء، ولكن لا يعلم كيف هو؟ لأنه غيب، وحكمه كحكم غيره من المغيبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته عَلَى القاعدة المتبعة في هذه الأمور.
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [وقوله وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعرج بشخصه في اليقظة، اختلف النَّاس في الإسراء فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه] هنا قولان مشهوران وأحدهما هو الصحيح، وهو الأشهر والآخر لا يثبت عند التحقيق، بل قد يكون احتمال الخطأ من ابن إسحاق رحمه الله أكثر من كونه اجتهاد خطأ من الصحابة.
الراجح أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وأدلة هذا الترجيح
القول الأول الذي عليه جماهير الْمُسْلِمِينَ قديماً وحديثاً: أن الإسراء والمعراج كَانَ بروح النبي صلى الله عليه وسلم وجسده معاً، كما قال الله سبحانه وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] فهو أسرى بعبده، يعني: بذات عبده صلى الله عليه وسلم وليس فقط بالروح والأدلة عَلَى ذلك متظافرة ولو أنا قرأنا الأحاديث في ذلك وتأملنا معانيها لوجدنا أن هذا القول هو الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه إِلَى غيره، ونذكر بعض الأدلة عَلَى ذلك.
الدليل الأول: أن هذا هو الأصل في الكلام عند الإطلاق، وقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الاسراء:1] ، الأصل إذا قرأنا هذه الآية أو سمعناها أن نفهم أنه أسرى بعبده، أي: بروحه وجسده، فلا يصح أن نقول: بروح عبده هذا خلاف الأصل، وإذا جئنا بشيء في الكلام عَلَى خلاف الأصل، فإننا نحتاج إِلَى دليل، وليس هناك دليل يدل عَلَى ذلك، بل الأصل عند الإطلاق الخالي من كل قيد: أن ذلك عَلَى الحقيقة أي: عَلَى ذات الإِنسَان روحه وجسده معاً.
الدليل الثاني: وهو دليل واضح في هذا: أن قريشاً أنكرت واستغربت وشهَّرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفتن بذلك بعض من كَانَ قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الاستنكار لا يكون عَلَى رؤيا حلم في المنام، فلو أن أحداً قال مثلاً: لقد رأيت أن القيامة قد قامت، فرأيت الجنة والنار، فهل يستنكر هذا أحد؟ كلا؛ لكن لو أنه ادعي أنه رأى الجنة والنَّار يقظة لاستنكر عليه، ولما وافقه أحد، فقريش لما أنكرت عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم لم تنكر عليه رؤيا منام، وإنما أنكرت عليه؛ لأنه أخبرها أنه ذهب حقيقةً إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ من هناك عرج به إِلَى السماء.
ولذلك جَاءَ قائلهم وقَالَ: يا مُحَمَّد إن كنت قد ذهبت إِلَى بيت المقدس فصفه لي فأنا أخبر النَّاس به، والنبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة يذهب، وفي الليل وبسرعة خاطفة، فلو قال: لم أتفحص ولم أدقق تماماً، لما كَانَ عليه لوم وكلامه صحيح؛ لكن الله عز وجل يريد أن يقيم عليهم الحجة وأن يكذب قريشاً، فجلى الله سبحانه وتعالى وأظهر أمامه بيت المقدس كأنه دون بيت بني عقيل.
ثُمَّ أخذ صلى الله عليه وسلم يصف بيت المقدس كما يراه أمامه، وذلك الرجل ومن معه ممن رأوا بيت المقدس يقولون: نعم صدقت هو كذلك، المقصود أن هذا الكلام -لما قالوا له: نذهب مسيرة شهر ذهاباً ومسيرة شهر إياباً ويزعم مُحَمَّد أنه ذهب في ليلة- لا يكون إلا إذا كَانَ الذهاب حقيقة، لكن لو قال لهم: أنا ذهبت في المنام إلىبيت المقدس لما أنكرت عليه قريش، لأنهم قد يذهبون هم في المنام إِلَى أبعد من ذلك، ولا غرابة في ذلك.
وأيضاً لما قالوا: ائتنا بعلامة -وقد ورد ذلك أيضاً في بعض الروايات- فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رأى لهم بعيراً عليه مزادتان إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، وأن البعير جفل من البراق فوقع فانكسر، وفي بعض الروايات أيضاً في السيرة أنه قَالَ: سيأتونكم في يوم كذا يقدمهم البعير الذي عليه كذا وكذا، فذهبت قريش تترقب، فجاء الوصف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إذاً هذه أمور وقعت حقيقة، وليست مجرد رؤيا أو أمر منامي أو بالروح
وأيضا قول الله سبحانه وتعالى كما ذكر المصنف، وإن كَانَ قد ذكر من آية في الاستدلال بها بعض الخطأ، وهي قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] فاستدلال المُصْنِّف هنا ليس بظاهر، لأن الآية التي نستدل بها عَلَى الإسراء والمعراج هي مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] ولتوضيح أن آية مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى أدل من آية مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى نقول: لأن الله سبحانه وتعالى ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك الآيات العظيمة فقَالَ: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى فهذا هل يكون بالروح أم برؤية حقيقية؟ لا شك أنها برؤية حقيقية، لأن البصر إنما يكون إذا عرج بالجسد ومنه هذا البصر، فيقول تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17،18] .
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى سدرة المنتهى ورأى الأَنْبِيَاء والملائكة، لما رأى تلك العوالم العجيبة كَانَ صلى الله عليه وسلم يراها بعيني رأسه حقيقة، وأيضاً لو تأملنا نفس القصة "حمل عَلَى البراق" فهل تحتاج الروح أو يحتاج الإِنسَان في المنام أن يحمل عَلَى شيء؟
إن النائم يمكن أن يذهب بدون أي شيء، لكن كونه يُحمل؛ بل أُخرج من بيته -حتى نجمع بين الروايات- ثُمَّ ذُهب به إِلَى الحرم، ثُمَّ شُق صدره صلى الله عليه وسلم، وغسل بماء زمزم في طست، ثُمَّ جيء بتور، أي: بإناء كبير محشو بالحكمة فحشي صدره صلى الله عليه وسلم، هذه كلها تهيئة لهذا العالم العجيب الذي لا تطيقه النفوس التي لم تصل -ولن تصل أي نفس- إِلَى ذلك، ثُمَّ جيء بالبراق، ثُمَّ ركب عليه، ثُمَّ ذهب، ثُمَّ صلى بالأنبياء، هذا الكلام كله يدل عَلَى أن الأمر حقيقي وليس بالروح فقط ولا في المنام.
والأدلة عَلَى صحة هذا القول كثيرة، ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية -إن شاء الله- عَلَى أن الأمر كَانَ عَلَى الحقيقة وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين.
الرد على من زعم أن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط
القول المخالف للقول الصحيح، نقله ابن إسحاق في السيرة في أول الجزء الثاني من سيرة ابن هشام، نذكر كلام المُصْنِّف أولاً، ثُمَّ نبين اللبس الذي حصل فيه، يقول:[فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه صلى الله عليه وسلم نقله ابن إسحاق عن عَائِِِشَةَ ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه] .
وقد نقل كلام ابن إسحاق الإمامأبو جعفر مُحَمَّد بن جرير الطبري في تفسير آية سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] ونقده ونقضه، ونقله أيضاً الحافظ ابن كثير ونقده، ورجحوا مذهب جمهور السلف.
ونعود إِلَى التفصيل فنقول: من قرأ كلام ابن إسحاق لا يجد فيه جزماً بأن الإسراء والمعراج كَانَ بالروح أو بالجسد، في اليقظة أو في المنام؛ بل قال والله أعلم أي ذلك كان، والله قادر عَلَى أن يسري بنبيه صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو في المنام، فالحقيقة أن ابن إسحاق نفسه متردد ولم يجزم.
وثانياً: أنه لما نقل كلام من قال من السلف إنه كَانَ بالروح، نقل كلام معاوية وعَائِِِشَةَ والحسن، فأما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: رُوي عنه أنه قَالَ: كانت رؤيا من الله صادقة، والجواب عَلَى ذلك من وجهين:
الأول: أن هذا لم يثبت عن معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
ثانياً: لو فرضنا ثبوته فإنه لا ينفي أن تكون الرؤيا هذه هي إسراء ومعراج بالحقيقة بالروح والجسد، لأن عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القُرْآن قد قال كما روى الإمام البُخَارِيّ عنه في قول الله تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الاسراء:60] قَالَ: رؤيا عين أُريها النبي صلى الله عليه وسلم يعني: ليست رؤيا منام، وإنما هي رؤيا عي.
والرؤيا في كلام العرب تطلق عَلَى رؤيا العين وإن كانت أكثر ما تطلق عَلَى رؤيا المنام، أما "الرؤية": فإنها هي التي بالعين فـ ابن عباس فسر ذلك بأنها رؤيا صادقة، وبأنها رؤيا عين، فلا يشترط في قول معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:"هي رؤيا صادقة" أنها مجرد منام.
وأما قول عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها فقد قال ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ رضي الله عنها كانت تقول ذلك، يعني: أن عَائِِِشَةَ رضي الله عنها كانت تقول: كَانَ الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، وابن إسحاق يقول: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ كانت تقول.
إذاً: في السند مجهول لا ندري من هو الذي حدثه، أثقة أم غير ثقة، فلا يصح عنها ذلك، وكذلك البيهقي رواه من طريق أخرى بنفس السند، قال حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ، فلا ندري من هو هذا البعض.
إذاً: لا نستطيع أن نقول: إن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها قالت ذلك، انتهينا من كلام معاوية وعَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
وأما الحسن البصري فاستدل ابن إسحاق بكلامه في آية (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [الإسراء:60] ولم يأت أنه أنكر أن يكون الإسراء والمعراج حقيقة، وإنما قال الحسن في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ "بأنها رؤيا فتن النَّاس بها".
إذاً: هذا الذي ذكره ابن إسحاق تفسير لكلام الحسن أن هذه رؤيا أي في المنام، والحسن لم يقل ذلك، لأنه يمكن أن يُحمل كلام الحسن عَلَى كلام ابن عباس فتكون الرؤيا حق ورؤيا عين، كما قال ابن عباس رضي الله تَعَالَى عن الجميع، فالحقيقة أنه لا يثبت لدينا قول نعتمد عليه عن السلف في أن الإسراء والمعراج لم يكن بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم معاً.
الفرق بين أن يقال الإسراء كان مناماً أو كان بالروح والجسد
ثُمَّ يذكر المُصْنِّف قضيةً مهمةً جداً ينبغي أن تُعلم، وهي: أنه ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال كَانَ الإسراء مناماً، وبين أن يُقَالَ: كَانَ بروحه دون جسده، حتى القائلين بأن الإسراء لم يكن بالروح والجسد معاً قالوا: لا بد أن نفرق بين قول من يقول: إنه منام -كما فهم ذلك بعض المتأخرين- وبين قول الصحابة مثلاً: إنه لم يُفقد جسده، يقول: وبينهما فرق عظيم، فعَائِِِشَةَ ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كَانَ مناماً، هذا عَلَى فرض ثبوت القول وإلا فهو لم يثبت، وإنما قالا أُسري بروحه ولم يُفقد جسده، وهذا في الحقيقة إنما هو الرواية المروية المنقولة عن عَائِِِشَةَ وحدها.
أما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فهو: كانت رؤيا من الله صادقة، ولم يقل لم يُفقد جسدُه وفرق ما بين الأمرين.
فإنه إذا كَانَ الإِنسَان نائماً، فإنه قد يرى ما يراه أي النائم، وقد يكون ذلك أمثالاً خيالية مضروبة للمعلوم المحسوس، فتضرب له الأمثال من غير الواقع في صورة محسوسة واقعية مشاهدة، فيرى مثلاً كأنه قد عُرج به إِلَى السماء، وذُهب به إلىبيت المقدس، ثُمَّ رُجع به إِلَى مكة يرى ذلك، وفي الحقيقة أن روحه لم تصعد ولم تذهب ولم تغادر، وإنما هذا مجرد تصوير أو تخييل حصل له في أثناء النوم، ولم تذهب روحه ولم تفارق الجسد لتذهب وتطوف في تلك الأماكن، وإنما هذا أمر تخيلته النفس والإِنسَان نائم في مكانه.
يقول: وإنما ملك الرؤيا ضرب له الأمثال، فما أراد أن الإسراء كَانَ مناماً، وإنما أراد أن ملك الرؤيا ضرب للنبي صلى الله عليه وسلم الأمثال، وهو صلى الله عليه وسلم نائم بجسده وروحه، لكن هذا القول عَلَى فرض أن ملك الرؤيا ضرب له الأمثال.
نحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ جميعاً سلفاً وخلفاً، نؤمن بكل ما ثبت عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرات، والأخبار البينات، وما جَاءَ منها في الكتاب أو السنة، وذلك كافٍ لأن نؤمن ونصدق، سواء كَانَ ذلك مما ألفته عقولنا أم هو مما لم تألفه ولم تعهده، هذا هو القول الصحيح الذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ
علو منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعُروجه إلى السماء السابعة
وهذه الآية الكبرى جعلها الله تبارك وتعالى آيةً خارقة خاصة لنبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، حتى أن نبي الله موسى -وهو كليم الرحمن وأحد أولي العزم، وهو من قص الله سبحانه وتعالى علينا سيرته ودعوته وجهاده وصبره- بكى عندما رأى علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
حينما ارتفع إِلَى ما لم ولن يبلغه بشر قط إلا هو صلى الله عليه وسلم، حتى أن جبريل الرَّسُول الأمين تضاءل حتى أصبح كالعصفور من خشية الله تبارك وتعالى ومن القرب والدنو من حضرة جلاله جل شأنه، ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ تلك الدرجة فبكى نبي الله موسى، قيل: وما يبكيك قَالَ: أبكي لأن غلاماً بعثه الله من بعدي وقد بلغ ما لم أبلغه، فهذا فضل من الله تبارك وتعالى يختص به من يشاء.
ويجدر بنا أن نتعلم ونتذكر سيرة هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، فنقرأ مثل هذه الآيات البينات، ونجعل سيرته وسنته قدوة لنا في أعمالنا جميعاً، وأن نعلم أن الله سبحانه وتعالى إذ شَّرفه بهذه المنزلة العظيمة، والدرجة الرفيعة، فإن من اتبع دينه واقتدى به صلى الله عليه وسلم ودعا إِلَى مثل ما دعا إليه خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى فإن الله سوف يرفعه ويكتب له من المنزلة والمكانة بقدر ما يجتهد في ذلك، ومن أعرض عن سنته صلى الله عليه وسلم وضرب صفحاً عنها، ولم يبالِ بأمره ولا بمحبته، فإنه مكتوب عليه الذل والصغار؛ لأنه حقر تلك الآيات البينات، ونكص عَلَى عقبيه، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.
فهذه الميزة العظيمة لو استعرضنا أحداث السيرة لوجدنا أنها وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في آخر عام الحزن بعد أن توفيت زوجته خديجة التي كانت نعم الزوج ونعم البار والمعين عَلَى الدعوة، وبعد أن توفي عمهأبو طالب الذي جعله الله تبارك وتعالى رغم شركه درعاً للدعوة وناصراً لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن الله قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم سواء كَانَ مشركاً أم مسلماً فاجراً.
وبعد أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ولاقى ما لا قى من الأذى، سلاه الله سبحانه وتعالى وعوضه عن هذه العوالم السفلية، وعما لقيه فيها من عدم التقدير وعدم معرفة منزلته ومكانته؛ بأن بلغ به تلك الدرجات العلى.
عظيم منزلة الصلاة
ومما يجب أن نعتبر به وأن نجعله نصب أعيننا عظم شأن الصلاة، هذه الفريضة التي لم يشرعها الله تبارك وتعالى عَلَى نبيه صلى الله عليه وسلم في الأرض ولو شاء لفعل ذلك، ولكن لله سبحانه وتعالى حكمة في أن تشرع في الملأ الأعلى، ويستدعى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لذلك، ولا يكون ذلك إلا في أعظم المهمات، وأفضل الطاعات.
فمثلاً: ولله المثل الأعلى، لو أن ملكاً أوسلطاناً أهمه أمر يحب أن يبلغه من يقوم في شأن من الشؤون، فإنه إذا كَانَ الأمر عظيماً فإنه سيستدعيه ليبلغ إياه، وبهذه العبرة العظيمة نعرف قدر الصلاة وشأنها، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لم يكن يدور في خلده، ولا يخطر بباله أن أمته سوف تضيع الصلاة، ولهذا سأل جبريل عليه السلام، أتترك أمتي الصلاة؟ وهي آخر ما يفقد من الدين كما قال صلى الله عليه وسلم:(تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما نقضت عروة تشبث النَّاس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم بما أنزل الله وآخرهن الصلاة) .
وفي الحديث الآخر: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة) هذه آخر ما يفقد من الدين وقد فقدت إلا من رحم الله، وقد ظهر التهاون في شأنها وعدم المبالاة بها.
ومما يجب أن نستشعره ونستحضره ونحن نقرأ هذه الآيات البينات، ما جرى في الإسراء والمعراج من بيان عظمة الصلاة، وعظمة الدعوة إليها، وشأن الصابرين عليها، وضرورة أن يكون في هذه الأمة من يدعو إِلَى الصلاة ومن ينصح بإقامتها كما قال الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] فلو أقيمت الصلاة حق إقامتها وصليت حق صلاتها لتغيرت حياة النَّاس اليوم، ولكن ضيعت الصلاة.
ثُمَّ إن كثيراً من الدعاة لا يبالي بتضييع الصلاة فلا يجعل الصلاة أكبر همه بعد التوحيد، وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فإنه لما بعث معاذا ً إلىاليمن، أخبره (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله) ، وفي رواية (توحيد الله) وفي رواية (عبادة الله عز وجل وكلها صحيحة؛ لأن عبادة الله لا تكون إلا بتوحيد الله وكلمة لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد فالمعنى كله واحد.
(فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) هذه درجة ثانية ندعو إليها بعد التوحيد.
(فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم فترد عَلَى فقرائهم) فدعوتنا إِلَى أن يعبد الله وحده فلا يُدعى ولا يُخاف ولا يُخشى ولا يُرجى إلا هو وحده لا شريك له، ولا ينذر ولا يذبح إلا له سبحانه، وتكون له الطاعة، ولا كلام لأحد بين يدي كلام الله، ولا بين يدي كلام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل توحيد مطلق، ثُمَّ بعد ذلك ندعو إِلَى الصلاة، فإنها من شعائر التوحيد، ومما يمكِّن التوحيد في القلوب. .
وليس من العبر الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، إذ لو كَانَ مشروعاً لما فات الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعله، ثُمَّ يأتي خوالف في القرن التاسع أو العاشر فيقولون لا بد أن نحتفل.
الكلام على رواية شريك بن عبد الله المدني
وأما بالنسبة لرواية شريك فإن فيها ألفاظ غريبة وشاذة، وشريك نفسه اختلف في توثيقه وتضعيفه.
وسبق أن ذكرنا رد الإمامابن القيم فيزاد المعاد 3/34 عَلَى من قَالَ: إن الإسراء والمعراج، وكلام المصنف-رحمه الله هنا أكثره ملخص منه.
وبمناسبة الكلام عَلَى رواية شريك هذا، فقد وجدت عبارة الحافظ ابن حجر في الجزء 13/486 في شرح كتاب التوحيد من الفتح يقول: إن ابن القيم في الهدي النبوي ذكر بأن في رواية شريك عشرة أوهام. لكنه يجعل مخالفته في مواضع الأَنْبِيَاء من السماء واحدة من أربع، ويبقى أنه زاد ثلاثة.
ولم أجد في الزاد ذكراً بالتفصيل لمخالفات شريك بن عبد الله، وإنما وجدت نفس العبارات التي هنا وهي قوله:[وقد غلَّظ الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثُمَّ قَالَ: وقدم وأخر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد رحمه الله انتهى كلام الشيخشمس الدين رحمه الله] نعم، انتهى كلام ابن القيم عند ذلك، ولم يذكر تلك المخالفات العشر، فالله أعلم هل هي في نسخة لم نطلع عليها، أم أن الحافظ رحمه الله قد وهم في ذلك ويكون قد قرأها من كتاب آخر.
وشريك بن عبد الله هذا ليس هوالقاضي؛ لأنهما اثنان وكلاهما إمامان تابعيان:
أحدهما: شريك بن عبد الله النخعي من النخع قبيلة يمنية معروفة، منها إبراهيم النخعي وكان قاضيالكوفة، وليس هو هذا.
فإن هذا هو: شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني، وهو الذي روى هذا الحديث عن أنس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وقد سبق أن قلنا: إن الروايات الصحيحة أثبتها متناً وأصحها سنداً وأتمها سياقاً روايتان:
الأولى: رواية قتادة عن أنس؛ فإنالحافظ رحمه الله في شرحه لكتاب التوحيد منفتح الباري يميل إِلَى تقديمها، وقد رواها الإمامأَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم.
والثانية: رواية ثابت عن أنس رواها الإمام أَحْمَد ومسلم، إلا أنَّ رواية قتادة الأولى الوافية رواها قتادة عنأنس عن مالك بن صعصعة، وأنس إنما روى الحديث عنمالك، لأنه رضي الله عنه كَانَ صغيراً في المدينة، وهو من الأنصار وربما لم يدرك الواقعة، وربما أنها وقعت قبل ولادته كما يبدو من تاريخ حياته، فهو قطعاً رواها عن أحد الصحابة، لكن مرسل الصحابي مرفوع متصل لا شك في ذلك.
وهذه هي أتم الروايات وأصحها سنداً وأتمها ألفاظاً، وليس فيها مخالفات، وكذلك رواية ثابت عنأنس وإن كَانَ بينهما اختلاف، فالاختلاف وقع بين الروايات، ويمكن أن يجمع بينها، إلا أن الرواية التي فيها الاختلاط والاضطراب هي روايةشريك بن عبد الله المدني وهي أكثر ما عول عليها الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد وإن كَانَ لم يأخذ ببعض ألفاظها، والمصنف نقل تقريباً كلامابن القيم بنصه، فلم يأتنا برواية كاملة منفصلة.
وإنما ذكر من عنده رواية مدرجة، ذكر فيها من هنا وهناك، وإن كَانَ أكثر التعويل فيها في الحقيقة هي عَلَى روايةشريك، ويبدو أن فيها نوعاً من التفصيل، وهي الرواية التي علق عليها الحافظ في الجزء 13 في آخر الصحيح في كتاب التوحيد ونحن الآن نذكر إن شاء الله تَعَالَى ما ذكره المُصْنِّف مما هو ملخص أو منقول حرفياً تقريباً من كلام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وكان من حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، من المسجد الحرام إِلَى المسجد الأقصى، راكباً عَلَى البراق، صحبة جبريل عليه السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة.
ثُمَّ عُرِجَ به من بيت المقدس تلك الليلة إِلَى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما فسلم عليهما فردا عليه السلام، ورحبا به وأقرا بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه السلام ورحب به، وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى.
ثُمَّ رفع له البيت المعمور.
ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر عَلَى موسى فقَالَ: بم أُمِرتَ؟
قَالَ: بخمسين صلاة.
فقَالَ: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إِلَى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم إن شئت، فعلى به جبريل حتى أتى به إِلَى الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في صحيحه.
وفي بعض الطرق فوضع عنه عشراً، ثُمَّ نزل حتى مر بموسى فأخبره، فقَالَ: ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف.
فقَالَ: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي] اهـ.
الشرح:
هنا إضافة بعد قوله: [وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق] ، وهي في الحقيقة من طريقشريك بن عبد الله المنتقدة التي فيها ألفاظ شاذة مخالفة [فوضع عنه عشراً] هذه تكملة للكلام الأول وهو مجموع من عدة الطرق.
لكن عَلَى القراءة من النسخة التي بتعليق الشيخ الألباني كأن هذا هو لفظ البُخَارِيّ في صحيحه وكأن ما بعده "في بعض الطرق" خارج البُخَارِيّ مثلاً، وهذا بالعكس، والطريقة السليمة أن يقول: هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق، أما الطرق الأخرى عند البُخَارِيّ وغيره فليس فيها وهو مكانه، وسيأتي إيضاح هذا.
قال المصنف-رحمه الله تعالى:
[وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل-بعين رأسه وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه، وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى] النجم:11 [وَلَقَدْ رَآهُ نزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين عَلَى صورته التي خلق عليها.
وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود رضي الله عنهما فإنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه.
وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبريل رآه مرتين، مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى. ومما يدل عَلَى أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى [الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإِنسَان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إِلَى إنكار النبوة وهو كفر] اهـ.
الشرح:
مكان وجود جميع الروايات في الإسراء والمعراج هو تفسير الحافظابن كثير رحمه الله، وأيضاً ابن جرير؛ لكن ابن كثير جَاءَ بجميع الروايات، ما فيالمسند، وما في الصحيحين، وما فيتفسير ابن جرير، فهو جمع جميع الروايات.
ومنها روايةقتادة، ورواية ثابت كلاهما عن أنس، وكذلك غيره من الصحابة كأَبِي هُرَيْرَةَ وابن عباس وغيرهم عَلَى اختلاف وتفاوت في طول تلك الروايات أو قصرها
والمصنف هنا ذكر ملخصاً لذلك منقولاً من كتاب زاد المعاد، وهو أولاً: أنه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، وقد سبق ذكر الأدلة عَلَى هذا، ومنها نص الآية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى [الإسراء:1] راكباً عَلَى البراق: والبراق ورد بيان صفتها في نفس الحديث، وهي أنها دابة دون البغل وفوق الحمار، وهي آية من آيات الله عز وجل جعلها تبارك وتعالى دليلاً ومركباً لنبيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد في بعض هذه الروايات ما يشعر بأنه قد ركبها غيره؛ لأنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يركبها اضطربت، فَقَالَ جبريل: اثبتي فوالله ما ركبك بشر قط أكرم عَلَى الله منه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فقد يفهم من هذا أن غيره من الأَنْبِيَاء ركبها، وقد يفهم أن غيره لم يركبها، وإنما المراد بيان كرم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يشترط في قوله:(ما ركبك بشر أكرم عَلَى الله منه) أن غيره قد ركبه، وإنما هي خاصة به صلى الله عليه وسلم، والله تَعَالَى أعلم بذلك.
ولما حصلت له هذه الآية العظيمة ركب هو وجبريل، وقيل:"بصحبة جبريل" أو "وصحبه جبريل" كلا المعنيين صحيح فنزل هناك أي: فيبيت المقدس) وصلى بالأنبياء إماماً.
الراجح في الروايات أن الصلاة بالأنبياء كان قبل المعراج
والذي يترجح من الروايات أن صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء كانت قبل عروجه إِلَى السماء، وإن كَانَ قد ورد في بعضها أنها بعد رجوعه، لكن الذي يظهر أن الله سبحانه وتعالى أسرى به أولاً إِلَى المسجد الأقصى، ومن هناك إِلَى السماء، وعاد من السماء إِلَى المسجد الحرام هذا الذي يبدو.
وصلاته بالأنبياء إماماً هذه فيها دليل عظيم واضح جلي عَلَى فضله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما هو معلوم من أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد عَلَى كل نبي أن يؤمن بالنبي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ َ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81] فهذا عهد وميثاق أخذه الله تبارك وتعالى عَلَى الأنبياء، أن يؤمنوا بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فهو أفضلهم، وهذا الموقف يذكرنا بما يجري يَوْمَ القِيَامَةِ حين يتراجع الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم، كلهم يتخلون وكلهم يقول: نفسي نفسي، فيتقدم صلى الله عليه وسلم للشفاعة العظمى ويقول: أنا لها أنا لها، ثُمَّ يكون بعد ذلك ما يكون من التكريم العظيم له صلى الله عليه وسلم، وقبول شفاعته في أهل المحشر، وذلك هو المقام المحمود الذي لم يجعله الله تبارك وتعالى لبشر غيره صلى الله عليه وسلم
(وربط البراق بحلقة باب المسجد) وقد ذكر الحافظ ابن كثير رواية وهي مما يذكر ويستأنس بذكرها هنا بهذه المناسبة وهي: حديثأبي سفيان مع هرقل عندما كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع دحية الكلبي إِلَى ملك الروم هرقل بكتاب يدعوه فيه إِلَى الإسلام) كما في أول صحيح البُخَارِيّ قَالَ: ائتوني بأي رجل من قوم هذا الرجل أو من أتباعه، فوُجد أبو سفيان وهو قائد قوى الشرك ورائده، فجيء به إِلَى هرقل وكانت المساءلة والمناظرة التي ذكرناها، في موضوع النبوات.
وفي هذه الرواية يقول: إن أبا سفيان قَالَ: فهممت أن أقول له أمراً لعله مما يكذبه به، يعني يريد أن يقول لهرقل شيئاً ليستفظعه ويصدق، فيكون ذلك مما يثبط عزمه فلا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يصدقه، فكان أن قال له: وقد أخبرنا أيها الملك أنه جَاءَ في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، ثُمَّ عرج به إِلَى السماء، وترقى إِلَى السماوات السبع، ثُمَّ رجع في ليلة واحدة.
فتعجب هرقل فقال له قسيس كَانَ جالساً عند هرقل: وما يدريك أن ذلك وقع؟ قَالَ: وكيف؟ فَقَالَ القسيس وكان سادناً "مسؤولاً" لبيت المقدس: أيها الملك أنا أخبرك بذلك: إني في ليلة من الليالي أمرت الحرس والعمال أن يوصدوا الأبواب، فأقفلوها إلا باباً من الأبواب، فإنهم قد حاولوا وبذلوا جهدهم، فلم يستطيعوا أن يقفلوه، فقلنا: نتركه إِلَى غد حتى نأتي بالنجار أو من يصلحه فبقي الباب مفتوحاً.
فلما كَانَ الصباح جئنا فوجدنا آثار ناس قد صلوا، ورأينا في الصخرة نقرة وأثر مربط دابة من الدواب) وهذه الرواية مما يؤخذ من الأخبار التي لا نشترط صحة سندها، فهي منقولة عن قسيس نصراني، إِلَى ملك من ملوك النَّصَارَى، وليس فيها حكم من أحكام ديننا، ولكن فيها عبرة وعظة لإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه وتعالى أكرمه بذلك، وأن هذه الآية قد رآها أُولَئِكَ القوم هذا بالنسبة لقوله:(وربط البراق بحلقة باب المسجد) .
وقد قيل: إنه نزل بيت لحم وصلى فيه أتى ذكر ذلك في روايات ضعيفة، وكما قال ابن القيم رحمه الله لم يصح ذلك عنه البتة.
ثُمَّ عرج به تلك الليلة منبيت المقدس عَلَى البراق إِلَى السماوات السبع، فأتى أول سماءٍ وهي السماء الدنيا فاستفتح له جبريل الملائكة فقيل ومن معك قَالَ: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، قالوا: أوقد بعث قَالَ: نعم، قالوا: مرحباً بك وبمن معك ففتح لهم.
دليل على كذب من يدعي الغيب
من المعلوم أن الملائكة حراس السماوات الذين لا يتنزل الأمر من الله عز وجل-أو يصعد إلا ويأتيهم منه خبر، كما في الحديث (إن الله إذا قضى الأمر سمع له كضرب سلسلة عَلَى صفوان فيغمى عليهم فيكون أول من يفيق جبريل، فيتلقى الأمر ثُمَّ يمر جبريل عَلَى أهل كل سماء فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فَيَقُولُ: الحق وهو العلي الكبير) وهَؤُلاءِ يقولون: من معك؟ أوَ قد بعث؟ فلم يعلموا أنه قد بعث صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك دليل عَلَى كذب من يدعي علم الغيب ويقول: إنه من الأولياء، فهَؤُلاءِ عباد الله الصالحون في ذلك المكان العظيم حرس السماء لا يدرون من الذي مع جبريل، ولا يدرون أقد بعث أم لا، لكن يعلمون أنه رسول؛ لأن قولهم: أو قد بعث فيه دليل عَلَى أنهم يعلمون أن هناك نبياً سيبعث يقال له مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، لكن لا يدرون عنه شيئاً حتى جَاءَ يستفتح ومعه جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.
فلما فتحوا له ورحبوا به رأى هناك آدم أبا البشر عليه السلام في السماء الدنيا، وفي روايات أخرى أنه ورآه عَلَى تلك الحالة وعن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، وفسرها المُصْنِّف -كما في نسخ أخرى- فقَالَ: الذين عن يمينه، هم أرواح السعداء، والذين عن يساره هم أرواح الأشقياء -عافانا الله وإياكم من الشقاوة ومن طريقها- فكان عليه السلام إذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر؛ لأنهم من ذريته، وهم من أهل السعادة، ومن أهل الجنة والنجاة -جعلنا الله وإياكم منهم- وإذا نظر إِلَى شماله نظر إِلَى أهل النَّار ممن استوجبوا غضب الله سبحانه وتعالى، وعذابه، ومقته فيبكي أبونا آدم لمآل هذه الذرية الذين عصوا الله وأعرضوا عن دعوة الله وما جَاءَ عَلَى لسان أنبيائه، فكانت هذه عاقبتهم وهي النَّار عافنا الله وإياكم منها.
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له جبريل، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، وفي وجودهما معاً شيء من الحكمة، وفيه شيء من الكرامة لهما؛ لأنهما كما جَاءَ في الرواية أبناء الخالة، وكانا معاً في السماء الثانية عيسى ويحيى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وأيضاً رحبا به صلى الله عليه وسلم وأقرا بنبوته.
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف عليه السلام فسلم عليه فرد عليه السلام، وأقر بنبوته عليه وعلى نبينا مُحَمَّد أفضل الصلاة والتسليم.
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها نبي الله تَعَالَى إدريس عليه السلام، فذلك قوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً [مريم:57] كما جَاءَ في الروايات الأخرى، هذا المكان العلي هو السماء الرابعة، فسلم عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران أخا موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فرأى فيها موسى بن عمران.
وما تقدم من السماء الدنيا إِلَى الخامسة هذه هي الرواية الواضحة التي لا ينبغي أن تعارض بما جَاءَ في رواية شريك ولا غيره؛ لأن شريكاً اضطرب في الرواية.
وفي رواية أيضاً للزهري أنه قَالَ: لم يضبط ولم يحفظ ولم يدر الأَنْبِيَاء في أي سماء وهذه أرجح وأوضح الروايات.
ثُمَّ تختلف الروايات الصحيحة الثابتة التي يصعب علينا أن نرجح أحدها عَلَى الأخرى.
هل موسى في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة أم العكس؟
هناك مسألة وهي: هل كَانَ موسى عليه السلام في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة، أم العكس؟.
والجواب: أن إبراهيم كَانَ في السابعة وموسى في السادسة، ومما يرجح كون إبراهيم عليه السلام في السابعة، أنه هناك عند البيت المعمور؛ لأنه هو الذي بنى الكعبة في الدنيا.
وأيضاً قدر إبراهيم عليه السلام وكونه خليل الرحمن يرجح ذلك، وكون رسولنا صلى الله عليه وسلم أشبه النَّاس به، هذا أيضاً دليل مما قد يرجح علو إبراهيم عليه السلام.
وأما كون موسى عليه السلام أعلى من إبراهيم فيرجحه ما جَاءَ في آخر الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم لما فرضت عليه خمسين صلاة كَانَ يرجع، فيقابله موسى عليه السلام فيقول له: ارجع، فكأن موسى هو الذي في السماء السابعة فلذلك يراجعه في ذلك، حتى فرضت خمس صلوات، والله تبارك وتعالى أعلم.
والذي اختاره ابن القيم رحمه الله تَعَالَى وتبعه المُصْنِّف هنا أن الذي في السادسة هو موسى بن عمران عليه السلام، ولا يمنع ذلك أن ينزل من عند إبراهيم عليه السلام ولا يعترض عَلَى شيء؛ لأنه لم يعالج الأَنْبِيَاء أممهم كما عالج موسى أمته، ثُمَّ إذا وصل إِلَى موسى عليه السلام في السماء السادسة قال له: ارجع إِلَى ربك عز وجل، أقول ذلك لا يمنع، ولكن الله أعلم ونسبة العلم إليه أكمل.
فالله تبارك وتعالى قد اختص موسى بكلامه، وكتب له التوراة بيده.
قوله: (بكى فقيل له: ما يبكيك، فقَالَ: أبكي؛ لأن غلاماً بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي) وهو عليه السلام كَانَ يريد أن تكون أمته أكثر الأمم، وكما في حديث السبعين الألف، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(فنظرت فإذا سواد عظيم فظننت أنها أمتي فقيل: لا. هذا موسى وقومه، ثُمَّ رفع له سواد أعظم وأكثر، فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب) ، فأمة موسى عليه السلام أمة عظيمة ولكن شتان بين من أوحى الله إليه أن أخرج قومك من الظلمات إِلَى النور، وبين من أوحى الله إليه أن يخرج النَّاس من الظلمات إِلَى النور.
فمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم رسالته إِلَى النَّاس كافة، هذا من حيث عموم المبعوث إليهم، ثُمَّ من حيث الزمان فثبوت رسالة موسى عليه السلام مؤقتة. أما رسالة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فإنها للزمان كله إِلَى أن تقوم الساعة، فمن الطبيعي إذاً أن تكون أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أكثر عدداً من أمة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشبه النَّاس به عليهما الصلاة والسلام قَالَ: (وأما إبراهيم فانظروا إِلَى صاحبكم) أي: من أراد أن يعرف كيفية إبراهيم عليه السلام، قَالَ: فانظروا إلي.
ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى، وهي سدرة عظيمة، أخبر الله سبحانه وتعالى عنها، وأخبر بها الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم عنها إلا ما في ذلك من الوحي، وهي آية من الآيات العظمى، التي جعلها الله سبحانه وتعالى في ذلك الملأ الأعلى.
ثُمَّ رفع له البيت المعمور.
ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار، فوصل إِلَى مالم يصله أحد من البشر قط، حتى أن الرَّسُول الأمين جبرائيل عليه السلام تضاءل حتى أصبح كالعصفور من خشية الله سبحانه وتعالى فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى.
ونقف مع هذه الرواية عند هذه الجملة التي هي من ضمن الروايات الشاذة أو المنكرة، وهي رواية شريك بن عبد الله، وليس في بقية الروايات ما فهم منها المُصْنِّف ما قاله بعد:[وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه] وليس الأمر كذلك، فنتجاوزها؛ لأنها من ضمن الروايات المخالفة التي هي إما شاذة أو منكرة وسيأتي الكلام عليها فيما بعد إن شاء الله.
وفرض عليه خمسين صلاة ثُمَّ خففت إِلَى خمس فرائض وقَالَ: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما قال ذلك نادى منادٍ من قبل الله عز وجل-أن قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، فكان ما اختاره ورضي به النبي صلى الله عليه وسلم هو ذلك الذي قضاه الله عز وجل-ولا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه فهي خمس في العمل وخمسين في الأجر، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى عَلَى هذه الأمة، وتكرمه لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاً بيان عظمة الصلاة وأهميتها، ثُمَّ ينتقل المصنف-رحمه الله بعد ذلك إِلَى قضية الرؤية.
تقدم ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] .
يقول: [صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين عَلَى صورته التي خلق عليها] ومر في مبحث الرؤية ذكر اختلاف الصحابة رضوان الله تَعَالَى عنهم، فلا نستطيع أن نجزم بخلاف الصحابة رضوان الله عليهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، لأن ما قيل عن ابن عباس مثلاً يحتمل، ونقل عن عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله اتفاق الصحابة عَلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير ربه بعين رأسه، وفي كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله ما يشير إِلَى ذلك.
وأما الرؤية بفؤاده فإنها قد ثبتت في غير ليلة الإسراء والمعراج، وهي الرؤية المنامية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث اختصام الملأ الأعلى (رأيت ربي أو أتاني ربي الليلة في أحسن صورة فقَالَ: يا مُحَمَّد فيما يختصم الملأ الأعلى -فأخبره بعد ذلك- فقَالَ: في الكفارات والنذور) فهذه الرؤية رؤية منامية.
توجيه ما نسب إلى ابن عباس أنه قال: "رآه العين"
وأما ما نُسب إِلَى ابن عباس رضي الله عنه من أنه قَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] قال في هذه الآية: هي رؤيا عين أُوريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به كما في كتاب التفسير منصحيح البُخَارِيّ رحمه الله.
فإن هذه تدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة الرؤيا هنا تطلق رؤيا عَلَى المنام، وعلى الرؤية الحقيقية البصرية، وأكثر إطلاقها عَلَى المنامية، فخشي عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن يفهم أحد من قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] أن يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به في المنام فقَالَ: رؤيا عين أُوريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، يعني: عرج به بجسده صلى الله عليه وسلم لا أنه عرج في المنام.
ولا يدل عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل-أي: أنه لم يخالف في ذلك ابن عباس وسائر الصحابة والأدلة عَلَى ذلك واضحة، كحديث أبي ذر وغيره، والمقصود أننا لا نستطيع أن نقول: إنابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -بناءاً عَلَى هذا الحديث- يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه، وإنما يقول: رؤيا عين أي: كانت في اليقظة عَلَى الحقيقة، هي وكل ما وقع في ليلة الإسراء عامة، وليس خصوص رؤية الله عز وجل.
الأدلة على عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعينه
وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل فإن من أصرح الأدلة عَلَى امتناعها وعدم وقوعها حديث أبي ذر في الصحيح، وهو سؤال صريح في محل النزاع: وهو أنأبا ذر سأل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ له: هل رأيت ربك يارَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه) وهذا تصدقه رواية أخرى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .
ومن ذلك أيضاً الحديث المتفق عليه وهو حديث عَائِِِشَةَ رضي الله عنها قالت: "ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية " تعني: ثلاثاً عظيمات جداً، والثنتين الأخريين أعظم من هذه؛ لأن هذه قضية خبريه لكن تلكما قضية اعتقادية وهي أهم.
أما الأولى قالت: "من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه فقد أعظم عَلَى الله الفرية" فرية عظيمة لأن الله عز وجل-يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُول ولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] وفي ذلك رد عَلَى الذين يقولون بالعلم الباطن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم اختص به بعض الناس، كما يقولون: إن عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أبِي بَكْرٍ وكنت كالزنجي بينهما" يعني: مثل الأعجمي لا يفهم شيئاً؛ لأنهم يتكلمون في أمور الأحوال والمقامات كما تقول الصوفية.
وكما تقول الروافض أنه كتب العلم في الجفر واختص بهذا الجفر علياً وبعض آل البيت، وهذا الجفر مخبوء وتناقلوه إِلَى جعفر ثُمَّ إلىمُحَمَّد بن الحسن العسكري صاحب السرداب ولا يعلم أحد ما فيه، سُبْحانَ اللَّه!
إذاً: هذا علم مكتوم فهذا من أعظم الفرية عَلَى الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والقول بأن شيئاً من الشريعة إما باطن وإما العلم اللدني أو الجفر كتمها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا بد فيه من أحد أمرين:
إما أن يقول: إن هذا الشيء كتمه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ما قد قلنا.
وإما أن يكون ذلك خرافة لا أصل لها، وهذا هو الصحيح، وذلك أنه لما سُئل عنه عَلِيّ رضي الله عنه "هل خصكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم قَالَ: لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة ما خصنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم "، فالمقصود أن هذه هي الأولى.
وأما الثانية: فهي قولها رضي الله عنها: (ومن أخبرك أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية) لقوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65] .
وقولها: فقد أعظم عَلَى الله الفرية أي: افترى عَلَى الله عز وجل-افتراءاً عظيماً، إذاً هل الأولياء أو السحرة أو الكهان يعلمون الغيب؟
الجواب: لا. لأنه مادام النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب فكيف يعلم الغيب هَؤُلاءِ؟ وأما ما يخبر به الكهان من أمور المغيبات فقد سبق الحديث عنه.
وأما الثالثة: (ومن أخبرك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذاً: لم ير ربه عز وجل-بعينه
وأما آيات النجم فلو تدبرناها لعلمنا أنها واضحة الدلالة إن شاء الله والآيات هي: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:1-5] فالقضية قضية هذا الوحي، فالكفار يقولون: إنما يعلمه بشر، أساطير الأولين اكتتبها، ويقولون في النبي صلى الله عليه وسلم: كاهن، ساحر، شاعر، كل ذلك قد قاله الكفار فالله عز وجل يُقسم بالنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى صلى الله عليه وسلم، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، ومن الذي يعلمه صلى الله عليه وسلم؟ تبين ذلك الآيات الأخرى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]
إذاً: الرَّسُول الكريم هو رَسُول شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [لنجم:5-10] فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه جبريل بالوحي خاف صلى الله عليه وسلم، وحصلت له فترة من الوحي، كما جَاءَ في الحديث الصحيح كما في كتاب بدء الوحي في البُخَارِيّ، فخاف صلى الله عليه وسلم ولم يدر ما هذا، فقد يكون شيطاناً وقد يكون ملكاً، وقد يكون
…
فلا يعلمه لأول مرة، فمنّ الله تَعَالَى عليه في المجيء الثاني لجبريل بعد فترة الوحي بأن أتاه جبريل عليه السلام في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق، ويتقاطر منه مثل الدر والياقوت عليه السلام فرآه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى حقيقته فاطمأنّ.
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام
هذا الوصف ثابت لجبريل عليه السلام في صحيح البُخَارِيّ إِلَى قوله صلى الله عليه وسلم: [قد سد الأفق] كما في كتاب التفسير عند هذه الآية وفي الكتب الأخرى، فاطمأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن هذا رَسُول من عند الله حقاً، وأنه نبي لله حقاً، بعد هذه الهيئة التي نزل عليها، وجاء بها جبرائيل عليه السلام، وهذه هي المرة الأولى بالنسبة لرؤية الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عَلَى صورته الحقيقية.
وهناك لطيفة في قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] ذكرها الطّّحاويّ وسبق أن ذكرنا أنّ الأصل في هذه الآية أن يوضع محلها في الشرح قوله تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] لأن قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] في الرؤية الدنيوية، وهذه الدقيقة اللطيفة يوضحها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كَانَ في شعب أجياد، كما في هذه الرواية الصحيحة، ورأى جبريل عليه السلام في صورته التي خلقه الله تَعَالَى عليها استيقن فؤاده واطمأن، فالقضية هنا أنسب إِلَى نظر الفؤاد، وليس إِلَى نظر العين، نعم رأته العين لكن قوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] فيها تواطئ القلب والعين فحصل بذلك اليقين عَلَى أن هذا وحي من عند الله سبحانه وتعالى هذه هي الوجهة الأولى.
ثُمَّ قال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:13-17] إذاً الإسراء والمعراج يناسبهامَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] فهناك وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام عَلَى خلقته التي خلقه الله عليها مرتين:
الأولى: هذه التي في أجياد بعد فترة الوحي.
والثانية: عند سدرة المنتهى، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى عليه، وفيها حكم يضيق المقام عن شرحها، ولكن نذكر منها: كونه يكون عَلَى خلقته التي خلقها الله تعالى، ومع ذلك يتقاصر دون درجة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، هذا أعظم من أنه كَانَ عَلَى خلقة رجل ثُمَّ يكون أقل؛ لكن عَلَى نفس الخلقة التي هي أعظم خلقة له، ومع ذلك فإن رَسُول الله مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يبلغ إِلَى درجة أعلى منه عليه السلام، فهذا تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم.
وبعدها رأى النبي صلى الله عليه وسلم عند هذه السدرة الآيات العظيمة العجيبة مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى كونه في الملأ الأعلى هذا، ولهذه المناظر المهيبة العجيبة مدعاة أن يزيغ البصر، أو أن يذل، أو أن يطغى، ويتجاوز الحد، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الآيات رؤية حقيقية بصرية. وبملاحظة هذا التفسير الموجز السريع للآيات نجد أنها جميعاً في جبريل عليه السلام، وليست في الجبار سبحانه وتعالى والروايات الصحيحة كرواية قتادة وأنس أيضاً تدل عَلَى ذلك، إذاً قول شريك هذا لا يعتد به.
فمن الأخطاء التي فيشرح العقيدة الطّّحاويّة هذا الخطأ، وهو أن قوله:[وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في الإسراء] الواقع أنه واحد فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود رضي الله عنهما فإنه قَالَ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه، وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبريل رآه مرتين مرةً في الأرض ومرةً عند سدرة المنتهى] الواقع أن هذه العبارة:[وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه] هذه العبارة لو حذفناها بالمرة ثُمَّ قرأنا الكلام فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي] .
ثُمَّ يقول: [وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهو جبريل رآه مرتين، مره في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى] فتكون العبارة صحيحة والكلام سليم ولا غبار عليه، وأُدخلت هذه العبارة نتيجة لرواية شريك، وهي الرواية المنتقدة التي لم يوافقه عليها بقية الرواة [فدنا منه فكان قاب قوسين أو أدنى] إلا أن الحافظ ابن حجر ذكر عنابن عباس رواية قَالَ: إنها حسنة فيها إثبات ذلك؛ ولكن غاية ما في الأمر إذا صح سندها أن نقول: إنها شاذة، وإذا كَانَ المخالف ضعيفاً، قلنا: إنها منكرة عَلَى الاصطلاح المشهور في علم المصطلح.
وقد ذكرنا الأوهام العشرة التي ذكرتها رواية شريك ذكرها المُصْنِّف هنا نقلاً عن الحافظ ابن حجر رحمه الله، وكما قلنا: إن الحافظ ذكر أنابن القيم ذكر أن فيها عشرة أوهام إذاً: لا يعول عَلَى رواية شريك هذه.
والخلاصة أنه صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج لم ير ربه عز وجل-بعينه، ولم يثبت أن الله سبحانه وتعالى هو الذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وإنما هذه رواية شاذة أو منكرة، ونبقى عَلَى ما في الروايات الصحيحة، أنه صلى الله عليه وسلم قرب من ربه عز وجل ودنى منه إِلَى درجة لم ولن يبلغها أحد، ففرض عليه الصلوات الخمسين التي أصبحت فيما بعد خمس، وما يتعلق بكون الإسراء بالجسد في اليقظة هذا قد سبق أن شرحناه.
يقول المصنف: [إن ما يدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صلى الله عليه وسلم في حال اليقظة لا المنام: أن الله تَعَالَى قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى [الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح] .
فإذا أُطلق فإنَّه يطلق عَلَى الروح والجسد معاً كقوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19] أي: أنه صلى الله عليه وسلم لما قام بروحه وجسده [كما أن الإِنسَان اسمه مجموع الروح والجسد] فلا نفهم أنه روح فقط، فإذا قلنا: جَاءَ إنسان، فلا يمكن أن يفهم أحد أنه جاءت روح إنسان ،وإنما المقصود أنه جَاءَ بذاته، أي: بجسده وروحه، [هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح.
فيكون الإسراء بهذا المجموع -وهذا ما تقدمت الأدلة عليه بالتفصيل- ولا يمتنع ذلك عقلاً] بل لا نأبه أن يكون هناك من يقول: إن العقل يثبت هذا الشي أو ينفيه مادام أنه قد صح عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فعقولنا: إنما هي آلات أعطانا الله تبارك وتعالى إياها لنستعين بها عَلَى فهم ما ينزله علينا، فإذا جعلناها معارضة لما أنزل فقد خرجنا بها عن طورها، وظلمنا أنفسنا كما قال تَعَالَى عن الشرك: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] والبدعة: ظلم؛ بل المعصية أيضا ظلم؛ لأنها وضع للشي في غير موضعه، ومن أكبر الظلم: أن يظلم هذا العقل -الذي جعله الله أداة لنفهم طريقنا إليه سبحانه وتعالى كما بين وشرع- فنجعله أداة معارضة ومضادة للوحي الذي أنزله الله تبارك وتعالى فإنه أعطانا إياه لنفهم به هذا الوحي لا لنرد به الوحي.
لكن المُصنِّفُ ذكر ذلك عرضاً من باب التنزل والجدل واستدراج الخصم، وإلا فإننا -أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - كما أننا في المأثور والمنقول نستطيع أن نتكلم ونبين الحق، فكذلك أيضاً في المعقول والنظر نَحْنُ أصدق النَّاس وأنصحهم في النظر والعقليات يقول المُصنِّفُ رحمه الله:[ولا يمتنع ذلك عقلاً] أي: ما المانع العقلي أن يكون الإسراء بالروح والجسد، وأن يتحقق في هذه السرعة، وفي هذا الوقت، وبهذه الكيفية التي ثبتت عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقول المُصنِّفُ رحمه الله: [ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إِلَى إنكار النبوة وهو كفر] يريد أن يُلزم الذين ينكرون الإسراء والمعراج عامة، والذين ينكرون كون ذلك بالجسد والروح بلازم وهو: أن كل مؤمن بالإسلام وبنبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يقر بأن جبريل عليه السلام ينزل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، بل قد نزل إِلَى من قبله، وهناك ملائكة آخرون ينزلون إِلَى الأرض، ثُمَّ يصعدون إِلَى السماء؛ فإذا كَانَ الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك، وكلنا مقرين بأن الملائكة تنزل من السماء إِلَى الأرض، ثُمَّ تصعد وتعرج، كما ذكر الله سبحانه وتعالى وعلى تفاوت في أحوالها ووظائفها وأعمالها بهذه القدرة العظيمة، وكل الذين يؤمنون بالرسل وبالأنبياء حتى من غير الْمُسْلِمِينَ مقرون بهذا الأمر، فما المانع من الإقرار بصعود البشر ثُمَّ نزولهم، كما حدث ذلك لنبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهو أفضل الخلق وسيد ولد آدم وهو أفضل الأَنْبِيَاء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين.
فإنكار نزول الملائكة يؤدي إِلَى إنكار النبوة، وقد سبق في مبحث النبوة أن كل الدين مركب عَلَى قضية أساسية، وهي إثبات نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأن من ينكرها معناه أنه لا يؤمن بالسنة، ولا يؤمن بالملائكة، ولا بالله ولا باليوم الآخر فهذا كافر، كحال من أنكر نبوته صلى الله عليه وسلم من اليهود والنَّصارَى وغيرهم، ومن أقر بنبوته، فإنه تلقائياً يجب عليه أن يقر بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار، وكذلك يجب عليه أن يعمل بكل ما صح من الأوامر والنواهي.
الحكمة من الاسراء إلى بيت المقدس
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟
فالجواب والله أعلم: أنه ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كَانَ عروجه إِلَى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطَّلاعهم عَلَى ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا علىبيت المقدس فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] اهـ.
الشرح:
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم-] نسب العلم إِلَى الله سبحانه وتعالى، ونسبة العلم إليه أسلم وهو أدب من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها العالم والمتكلم في هذه الأمور التي لا يستطيع الجزم فيها، ولاسيما ما يتعلق بالحكمة، فنحن لا نعرف ولا ندرك هذه الحكمة، فمنها ما هو ظاهر يدرك بالفهم وبالنظر السليم الصحيح، ومنها أمور خفية ودقيقة لا يمكن أن ندركها بنفس القوة في القطع والجزم، ومنها ما لا يدرك أصلاً.
فعلى الإِنسَان أن يرد العلم إِلَى الحكيم العليم سبحانه وتعالى، فَيَقُولُ: والله أعلم، هذا خير وأفضل وأسلم في أمثال هذه الأمور، فهو من الآداب التي ينبغي علينا أن نتحلى بها، فلا نجزم في شيء لا نملك عليه دليلاً نستطيع معه أن نجزم.
فَيَقُولُ: [أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم المعراج] ، فالله سبحانه وتعالى عَلَى كل شيء قدير ويستطيع أن يعرج به إِلَى السماء، وأن يأتي بأي دليل آخر عَلَى إثبات هذه الواقعة غير الإسراء، قبله أو بعده، أو بأي أمر من الأمور، فلا نستطيع أن نحد قدرته ومشيئته وإرادته، لكن هذا جانب من جوانب الحكمة التي تظهر لنا، أن الله سبحانه وتعالى يريد إظهار صدق دعوى المعراج، فكان الإسراء مهداً له
فلذلك حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس نعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، وهذا بعض الحكمة، لأن قريشاً تعرف بيت المقدس وتسافر وترتحل إليه وهذا أمر مشهود معروف عندهم، كما في حديث أبي سفيان مع هرقل، حين قبض عليه أعوان هرقل كان في أرض الشام، وهم يعرفون ذلك المسجد، فحينما يخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أسري به إِلَى بيت المقدس ثُمَّ يخبرهم أنه عرج به إِلَى السماء، نجد أن هناك نوعاً من النقلة النفسية، وهو خارق بلا شك، فلذلك قالوا: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها في ليلة، لكن أعظم منه وأدهى وأشد أن يعرج به من ذلك المسجد إِلَى السماء، فهذا شيء بعيد جداً؛ لأنهم يجادلون ويمارون في هذا الأقل.
لكن عندما يكون لديك أمران: أحدهما مستحيل في نظرك، ثُمَّ يأتي بعده ما هو أكثر استحالة منه، فإن هذا يدفعك إِلَى أنك تكاد أن توافق بالأمر البسيط، وتقول: ما دام أن فيها كذا نسلم بهذا الأقل والأهون، وهذا أمر يمكن أن يجادل فيه، فلهذا جاءوا يجادلون كيف ذهبت؟ فلما طلبوا منه وصف المسجد أظهره الله سبحانه وتعالى أمامه المسجد، فأخذ يراه رأي العين ويصفه لهم حتى أيقنوا وصدقوا أنه صلى الله عليه وسلم قد أسري به، وكان ذلك تصديقاً قلبياً وليس تصديقاً إيمانياً، ووقر ذلك في قلوبهم، كما قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] فجحدوه بعد أن وقر في قلوبهم.
ومن الحِكَمِ الأخرى أنبيت المقدس هو مهبط النبوة قبل نبوته صلى الله عليه وسلم، فأنبياء بني إسرائيل بعثوا في تلك الأرض المقدسة، وهناك القبلة الأولى التي كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستقبلونها، إذاً فهناك ربط بين هذا النبي الجديد وبيئته وبلدته الجديدة -النبوة الخاتمة- وبين مهبط النبوة السابقة لها أيضاً، وفيه إشعار بأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم مكمِّل ومتمِّمٌ لرسالات الأَنْبِيَاء قبله، فهو خاتمهم، ولم يأتِ في باب التوحيد والإيمان بجديد عما جاءوا به في أصَلِ القضية، وإنما دعا إِلَى ما دعوا إليه.
فعلى كل من يقر بنبوة الأَنْبِيَاء ويثبتها من أهل الكتاب بالأخص أن يؤمنوا بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما حصل فيه من صلاته بجميع الأَنْبِيَاء صلَى الله عليم وسلم في ذلك المكان، وهذا أيضاً تحصل به الحكمة، إذا كَانَ الإسراء أولاً، ثُمَّ بعد ذلك المعراج، وأن العبادة موضعها هي هذه الأرض في هذه الدنيا، لا سيما في مثل هذا المقام الذي يراد منه أن يظهر فضل النبي صلى الله عليه وسلم في العبودية عَلَى بقية الأنبياء، ولهذا صلَّى بهم إماماً فجمعهم الله سبحانه وتعالى له، وأمهم النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الدعوة، فكان بذلك إيذاناً بأنه أكملهم في العبودية.
فالنبوة حصرت في ذرية إبراهيم عليه السلام، ثُمَّ كانت النبوة في فرع إسحاق فنقلها الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم إِلَى فرع إسماعيل، وكلاهما أبناء إبراهيم الخليل عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم، ويمكن أن نستنبط حِكَماً كثيرة غير التي ذكرها المُصْنِّف وإن كانت هذه التي ذكرها المُصْنِّف رحمه الله من أظهر وأجلى الحكم.
ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رحمه الله: [وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] موضوع إثبات العلو من أجلى وأبين موضوعات الصفات، فإثبات علو الله تبارك وتعالى هو أحد الموضوعات المهمة في باب الصفات، وكل صفات الله سبحانه وتعالى يجب علينا أن نؤمن بها، لكن هناك بعض الصفات كثر فيها الحديث، وكثر فيها الاختلاف، مع جلاء دليلها وبيانه وظهوره، ومن ذلك العلو، وتليها صفة الكلام، وقد سبقت إشارات كثيرة في موضوع العلو وسوف يأتي -إن شاء الله- تفصيل البحث في آخر الكتاب، فقضية العلو من أهم القضايا في الصفات، وهي من أجلى أمور العقيدة من حيث الأدلة، لأنه كما نقل الإمام ابن القيم رحمه الله: أن الأدلة عَلَى إثبات علو الله تبارك وتعالى تعد بالمئات؛ بل بالألوف، وجميعها تثبت علو الله سبحانه وتعالى عَلَى مخلوقاته، ومنها هذا الحديث العظيم.
والأحاديث الكثيرة التي تثبت الإسراء والمعراج كلها تثبت علو الله سبحانه وتعالى عَلَى مخلوقاته، فيقول المُصنِّفُ رحمه الله:[إن في حديث المعراج دليل عَلَى إثبات صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره] وهذا الاستطراد الذي ذكره المُصنِّفُ رحمه الله: يدلنا عَلَى أن عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عقيدة متكاملة يصدق بعضها بعضاً، فإذا تحدثنا في موضوع الإسراء والمعراج، نجد ما يؤيد العلو، ونجد ما يؤيد الكلام، ونجد ما يؤيد النبوات، فكلها يدل عليها حديث الإسراء والمعراج، وكلها يُصدّق بعضها بعضاً، أما المتكلمون والفلاسفة والمجادلون فلابد أن يتناقضوا فعندما يثبتون قضية ما يتناقضون إذا تعرضوا لموضوع آخر.
بعض الأدلة البديهية على إثبات علو الله تعالى وبيان تناقض أهل البدع
من أمثلة تناقض أهل البدع:
الفخر الرازي ينكر العلو عَلَى مذهب الفلاسفة، كما ذكر ذلك في أساس التقديس، وهو من المصرحين بالقول: بأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، وأن إثبات الجهة يخالف دين الإسلام، وهو مما يجب أن تؤول الأدلة فيه، ويقول وهو في مجال النسيان والغفلة والذهول عما قرره فيأساس التقديس وغيره من إنكار العلو:(إن الله سبحانه وتعالى رفع محمداً صلى الله عليه وسلم حتى كَانَ منه قاب قوسين أو أدنى، وخسف بقارون حتى تجلجل في أعماق الأرض) وهو يتحدث عن موضوع: كيف أن الله سبحانه وتعالى يرفع من يشاء ويخفض من يشاء!! فنسي أنه هو الذي يقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يثبت له العلو.
إذاً: هناك بُعدٌ عنه سبحانه وتعالى وهناك قرب منه، فهذا الذي كتبأساس التقديس، وهو الذي دافع الدفاع الطويل العريض لإثبات أن تأويل آيات وأحاديث العلو ضرورة شرعية لابد منها وقع في التناقض، وتأبى الفطرة إلا أن تظهر نفسها، وتقر بأن الله سبحانه وتعالى عالٍ عَلَى جميع المخلوقات.
وكذلك قصة أبي جعفر الهمداني مع أبي المعالي الجويني عندما كَانَ أبو المعالي الجويني يخطب عَلَى المنبر فسئل عن العلو، فقَالَ: كَانَ الله ولا عرش، وهو الآن عَلَى ما عليه كان، أي: أنه تَعَالَى لا يحتاج إِلَى العرش، ولا يحتاج إِلَى مكان ولا يحتاج إِلَى زمان، فإذاً ليس هو مستوٍ عَلَى العرش، وليس هو عالٍ فوق المخلوقات، وكانأبو جعفر الهمداني رحمه الله جالساً بين القوم في الحلقة، فَقَالَ له أيها الشيخ: دعنا من الجدال ومن قضية العلو والحاجة إِلَى العرش وعدمها، ولكن ما هذه الضرورة التي يجدها الإِنسَان في نفسه إذا أراد أن يدعو الله تبارك وتعالى فإنه لا يتجه إلا إِلَى السماء إِلَى جهة العلو؟ فكيف ندفع هذه الضرورة؟
والضرورة عند علماء الكلام ينبغي التسليم لها بدون حاجة إِلَى تفكير، لأن من العلم ما يسمى بالعلم الضروري، وهو ما يسبق إِلَى الذهن الإيمان به قبل التفكير فيه، كما تعلم أن الواحد أقل من الاثنين، وهذه ضرورة يجدها كل إنسان في نفسه وهي: أنه إذا أراد أن يدعو الله، أو يتوجه إليه، أو يستغيث به سبحانه وتعالى، بل إذا ذكر الله بقلبه، فإن شعوره وإحساسه بالضرورة يتجه إِلَى جهة العلو قبل أن يعرض الموضوع عَلَى عقله. فضرب أبو المعالي بكُمِه ولطم وتحير، وقَالَ: حيرنيالهمداني حيرني الهمداني، ونزل من عَلَى المنبر. ثم تاب
فهذا الموضوع تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة والفطرة السليمة ولا يحتاج أمره إِلَى نبوة فهناك أناس كانوا يعيشون في الفترات بين بعثات الأَنْبِيَاء يُقرون بالعلو، منهم أمية بن أبي الصلت فإنه أقر بذلك في شعره، ولم يكن مؤمناً، والعرب تقر بذلك إقراراً في جميع أشعارها وأخبارها، حتى أنعنترة الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له:
يا عبل أين من المنية مهرب إن كَانَ ربي في السماء قضاها
وعنترة جاهلي مشرك كافر لكنه أثبت أمرين مهمين مما جادل فيه المجادلون: العلو والقدر.
أما الاستواء فإنما ثبت بالنقل، أي أنه: لو لم يخبرنا الله أنه استوى عَلَى العرش لما عرفنا أن له عرشاً استوى عليه، والقول بأنه في كل مكان ليس عليه دليل حقيقة، لكن قد يشتبه أمره عَلَى ضعاف العقول، الذين لم يفهموا حقيقة هذا الدين، ولم يفهموا حقيقة الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، فيشتبه عليهم قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] وهذه شبهة ضعيفة جداً، لكنها قد تقع، فإذا جليت الشبهة، ذهبت أمام الحقائق الواضحة، وأنه سبحانه وتعالى ليس معنا بذاته، وإنما بعلمه فهذا الموضوع الثالث فيه شبهة ضعيفة.
أما الموضوع الرابع الذي لا دليل عليه ولا شبهة عَلَى الإطلاق، هو قول من يقول: إنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله فهذا القول ليس عليه دليل من الكتاب والسنة، ولا من العقل ولا شبهة في التفكير، وإنما هو قول اختلقه فلاسفة اليونان ثُمَّ تبعهم من تبعهم، وبقي عليه أكثر المعتزلة والأشاعرة وأهل الكلام.
العروج: تَجَاوزَ السماوات السبع، حتى كَانَ بتلك المنزلة العظيمة التي لم يبلغها ولن يبلغها بشر بعده، وبعد ذلك: نزوله إِلَى موسى، ثُمَّ رجوعه إِلَى ربه سبحانه وتعالى، ثُمَّ وقوف جبريل عند حد معين، ثُمَّ مجاوزة النبي صلى الله عليه وسلم له، هذا دليل عَلَى أن القرب من الله سبحانه وتعالى بلغ منه النبي صلى الله عليه وسلم منزلة لم يبلغها أحد، ولو كانت المسألة كما قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه فكيف يتصور هذا عقلاً!!
وكذلك إذا كَانَ في كل مكان، كيف يكون هذا أقرب من هذا، أو هذا بلغ درجة أعلى من هذا، واستفتاح جبريل لمن في السماوات، وفي كل مرة يفتح له عَلَى من هو أعلى منها، وهما في الطريق إِلَى سدرة المنتهى، الذي يشعر اسمها: المنتهى بأنه ليس وراءها شيء من هذه المخلوقات، ولم يبق وراءها إلا الحجاب الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:(نور أنى أراه) أو (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) سبحانه وتعالى وجل جلاله.
إن من أنكر الإسراء والمعراج، فإنه ينكر شيئاً ثابتاً في القرآن، وهناك قاعدة معروفة صحيحة يجب أن نعرفها جميعاً، وهي أن من أنكر شيئاً ثبت في القُرْآن فإنه كافر، وكذلك في السنة.
وأما دلالات الآيات التي في القُرْآن فقد تختلف، وأعظم دليل عَلَى الاختلاف اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في القُرْآن وهم أفضل النَّاس عقلاً وفهماً فقوله سبحانه: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب [آل عمران:7] هذه آية واضحة وجلية لا نقاش فيها ولا خلاف، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]
فمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما عليه السلف: هو الإيمان والتصديق بالمحكم، والإيمان بالمتشابه ورده إِلَى المحكم ولهذا فإن أهمية السنة أنها تفسر القُرْآن فتبينه وتحدد مدلولاته، فهي كالشرح والإيضاح للقرآن، أما القُرْآن فهو حمال وجوه، قد تحتمل الآية أكثر من معنى وأكثر من وجه.
نقول: ما الذي ذكره الله تبارك وتعالى في القُرْآن صريحاً؟ وما الذي ذكره ضمناً؟ فالإسراء ذُكِرَ صريحاً سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] إذاً لو أن أحداً أنكر الإسراء فإنه يكفر رأساً، لأنه بمجرد أن يقرأ الآية أو يسمعها يفهم دلالتها، فيكون منكر الإسراء كافراً.
وإنما حصل الخلاف والإشكال فيمن ينكر المعراج، لأن الدلالة ليست جلية، وهذا يستلزم منا أن نجليها وأن نوضحها من خلال سورة النجم، فمنها نستطيع أن نبين هذه الحقيقة، فتصبح أيضاً يدل عليها القُرْآن دلالة لا شك فيها ولا شبهة، فقوله سبحانه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] أين رآه؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصرُ وَمَا طَغَى [النجم:14-17] .
فجملة مَا زَاغَ الْبَصرُ تبين أن العروج ليست بمجرد الروح كما يقولون، بل هي حقيقة واضحة ببصره صلى الله عليه وسلم رأى تلك الآية الكبرى التي أراه الله سبحانه وتعالى في ذلك الموضع، فنستطيع أن تجلي دلالة القُرْآن فتكون دلالته صريحة، ثُمَّ نؤيد ذلك بالأحاديث الكثيرة المتواترة التي تثبت الإسراء والمعراج، فنقول: إن من أنكر المعراج فهو أيضاً كافر بعد بيان الحجة عليه.
ومن المعتزلة من فرق بين الإسراء والمعراج وهذا من الحماقة والغباوة، وهم أعمى من قريش في موضوع الإسراء والمعراج؛ لأن قريشاً لم تجادل فيه، إنما أرادت أن تجادل في الشيء الواضح الذي تعرفه، ولا تعرف خبر السماء، ولا تدري ما هي سدرة المنتهى ولا أي شيء، لكنها تعرف بيت المقدس، وتعرف أن المسافة إليه قد تصل إِلَى شهر أو شهرين بالإبل، فلما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم تولوا وأفحموا ولم يستطيعوا أن يستمروا في المناظرة ولا في المحاورة، لكن هَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم فتنوا كما قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس [الإسراء:60] فُتنوا كما فتن بعض دعاة الإيمان، وكذلك المُشْرِكُونَ الذين فتنوا بها.
فبعض الْمُشْرِكِينَ ازداد بعداً عن الإيمان لما سمع بقصة الإسراء والمعراج، لأن موضوع النهي عن عبادة الأصنام لأنها حجارة لا تضر ولا تنفع كل هذا كلام عقل، لكننا الآن دخلنا في متاهة أخرى وهي موضوع السماوات، فازداد بُعداً عن الإيمان، ومن ضعاف الإيمان من كَانَ قد أعلن إسلامه، فلما جاءت هذه الحادثة تركه وتخلى عنه، وهَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم الذين أخذوا يمارون ويجادلون في مسألة الإسراء والمعراج، فحكمهم -إذا أقمنا الحجة عليهم- أنهم يكفرون بعد ذلك، وهذا هو القول الذي لا يجوز العدول عنه إِلَى قول آخر.
لكن مبدئياً نقول: إن من أنكر المعراج، أو تأوله بأنه بالروح أو غير ذلك بناءً عَلَى أن العقل ينفيه، نستطيع أن نطلق عليه الضلال، لأن كلمة الضلال تشمل الكفر ولا تقتضيه بالضرورة، فالضلال يطلق عَلَى الخروج عن الطريق المستقيم عامة، فيدخل فيه الكفر وقد لا يقتضيه بالضرورة، فقد لا يكون الإِنسَان كافراً وإن كَانَ ضالاً، وكذلك الفسق، كما قال الله عز وجل: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] وفي آية: فَفَسَقَ [الكهف:50] .
إذاً: الفسق قد يطلق عَلَى معنى الكفر، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه [الكهف:50] أي: كفر به وخرج عنه، والخروج عن أمر الله قد يكون خروجاً كلياً وقد يكون خروجاً عن الاتجاه المستقيم إِلَى البدع والضلالات، ومن أطلق عليهم الضلال، فإنه لا يعني أنه ينفي عنهم الكفر، لكن أطلق عليهم أو حكم عليهم بالحكم الذي يرى أنه قد يعفيه من تبعة إقامة الحجة، وهم بلا شك عَلَى ضلال، لكن إذا محصت الأدلة، وقامت الحجة، فإن من ينكر الإسراء والمعراج أو أحدهما يكون كافراً.
<= (11،1924) فالجهمية وبعض المعتزلة قد ينكرون المعراج، لكن غالبهم أو بعضهم يثبت الإسراء، لأنه جَاءَ في القرآن. ثُمَّ يؤول المعراج بأنه كَانَ في المنام، أو أنه بالروح، أو ما أشبه ذلك، لدلالة أن العقل يمنع أن بشراً يخترق هذه السماوات ثُمَّ يعود في ليلة، هذه شبهتهم وهذا دليلهم، كما أولوا العلو بنفس الاستدلال. وقد بينا أن المسألة إذا كانت مجادلة بالعقل، فالمُشْرِكُونَ أيضاً جادلوا، وأنكروا الإسراء والمعراج وَقَالُوا: هذا غير معقول، كيف نضرب إليها أكباد الإبل في الشهر أو الشهرين، ويبلغها في ليلة. وهذه هي شبهة المعتزلة نفسها، أمر مستحيل لا يمكن أن يقع.
حقيقة النبوة براهين يُصدِّقُ بعضها بعضاً، فالسحرة الذين ناظروا موسى عليه السلام وبارزوه تلك المبارزة العظيمة، فجاءوا بشيء في أول الأمر -أن الحبال والعصي تسعى وتتحرك- فسحروا أعين النَّاس بها، وظن النَّاس أنها حق، حتى أن موسى عليه السلام خاف، وهو الذي جَاءَ بأمر من الله وواثق من الله، ومتأكد من صحة نبوته وصدق آيته التي أعطاه الله.
كما قال الله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] فلما ألقى العصا قال الله تعالى: فَأَلْقَى مُوسَى عَصاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الشعراء:45] فذهب الزيغ وانكشف الباطل، فالذي لا يريد أن يقر بهذه ليس مقراً بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، من يريد أن يعرض كل شيء عَلَى عقله وعلى فكره وعلى رأيه! إذاً فنقول له: أنت ما آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنت بما قاله أفلاطون وأرسطو وجعلته حكماً ومعياراً لما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم.
ملاحظات حول بعض ما كتب في الإسراء والمعراج
ما وقع فيه بعض النَّاس من أخطاء في موضوع الإسراء والمعراج في الكتب وغيرها كثير، كثيرة، ولكنني اخترت كتاباً اسمه الإسراء والمعراج، إعداد وتقديم رياض العبد الله وهو أعده من كلام الشيخ مُحَمَّد الشعراوي، وفيه بعض الأخطاء بلا شك، منها نفس الكلام الذي ذكره الشيخمُحَمَّد الغزالي، وهي من تعليقات رياض العبد الله فيه (وكلمة البراق يشير اشتقاقها من البرق، أي: أن قوة من الكهرباء قد سخرت في هذه الرحلة العجيبة والخارقة لقوانين البشر، ولكن كيف تم ذلك والجسم في حالته المعتادة يتعذر عليه النقل في الآفاق بسرعة البرق الخاطف.
إذاً: لا بد من أن يكون هناك إعداد خاص يحصن أجهزته ومكان لهذا السفر البعيد، ولتلك السرعة الخارقة وما أحسب أن ما روي من شق صدره صلى الله عليه وسلم وغسل القلب وحشوه إنما هو رمز لهذا الإعداد المحفوظ) هذا نفس كلام الشيخمُحَمَّد الغزالي في فقه السيرة.
والشيخ الشعراوي ينفي أن يكون هناك زمن لحالة المعراج العملية فهو لم يستغرق أي زمن.
يقول: (وكما يقولون: إن المسافة تتناسب مع القوة تناسباً عكسياً فكلما ازدادت القوة قصرت المسافة، والقوة التي فعلت هي قوة الله سبحانه وتعالى فنجد عندئذٍ أن النتيجة لا زمن فعندما يأتي شخص ويقول لك ما دام أنه لا زمن، فلماذا أخذ ليلة للرحلة؟ نقول له: هناك فرق بين حدث الإسراء في ذاته كنقله، وبين مرائي تعرض لها الرَّسُول صلى الله عليه وسلم.
فالرَّسُول صلى الله عليه وسلم حين تعرض لمرائي رآها هو ببشريته وبقانونه فالمرائي المشاهد التي تعرض لها هي التي احتاجت للزمن، أما النقلة ذاتها فلا تحتاج إِلَى زمن، لأنها محمولة عَلَى قانون ليس يتحكم فيه الزمن. فالذين ناقشوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هم جماعة يعطون صورة من عقلهم بأنهم قارنوا مقارنة غير موضوعية) ونفي الزمن سواء في الانتقال بالبراق إِلَى بيت المقدس أو إِلَى السماء هذا معنى كلامهم.
وليس هناك ما يستدعي، أننا ننفي الزمن نهائياً لكي نبرهن ونثبت للمشركين أن الإسراء والمعراج ممكن، وأن مقارنتهم كانت غير موضوعية، فما المانع في أن تكون المسافة إلىبيت المقدس شهراً، وتكون فرضاً دقيقة أو عشر ثوانٍ عَلَى البراق؟
حقيقةً ليس هناك أي دليل، ولا يجوز القول في أي مسألة بغير علم، وهذه المسألة تشكل عَلَى الذين يدرسون النظريات الحديثة التي تتعلق بموضوع الزمن، فالشيخ هنا فيما يبدو تأثر بالنظرية التي تسمى "النسبية العامة" التي تحدث عنها إنشتاين، يقول إنشتاين:"إنه ما دام أن سرعة الضوء ثلاثمائة ألف كيلو في الثانية إذاً الضوء عندما ينتقل في مسافة تعدل قطر الأرض -مثلاً- فهذه العملية تمت في ألاّ زمن"
والمقصود من كلامه هذا ليس إنكار وجود الزمن، وإنما المقصود السرعة العظيمة ليبرهن عَلَى سرعة الضوء العجيبة، وأنها تنتقل في سرعة لا يمكن أن نقيسها بمعيارنا الزمني الذي نتعارف عليه، فهذا شيء لا يدل عَلَى نفي الزمن في الواقع، بل نفس نظرية النسبية التي اشتهر بها إنشتاين وهي:"النسبية العامة، والنسبية الخاصة".
فالنسبية العامة: أضافت إِلَى الأبعاد الثلاثة، البعد الرابع: وهو الزمن، فالنظرية مركبة عَلَى قضية الزمن، وعلى إثبات الزمن، لكن فحوى النظرية أن الزمن المعهود لنا يتلاشى مع هذه الأبعاد الهائلة مع سرعة الضوء. فأرقامنا وأحاسيسنا وشعورنا هو في حدود عالمنا الذي نعيش فيه، هذا بالنسبة لعالمنا، لكن بالنسبة إِلَى الكون: الأمر أكبر من أن نستطيع أن ندركه أو أن نفكر فيه، فمثلاً: لو مرت سيارة فإنك تستطيع أن تراها، مهما كانت سرعتها ولو مرت طائرة فإنك أيضاً تستطيع أن تراها في مسافة معينة، لكن لو تضاعفت سرعة الطائرة حتى صارت مثل سرعة الضوء فلا تستطيع أن تراها لأن رؤيتك للشيء تحتاج إِلَى زمن ولو ثانية.
وسرعة الضوء في الثانية ثلاثمائة ألف كيلو، هذا مجرد الأفق الذي أمامك، فهو لا ينفى الزمن، وإنما يقول: إن الزمن نسبي، فبالنسبة لنا الزمن شيء، وبالنسبة إِلَى ما عدانا شيء آخر، فعلى هذا لا نستطيع أن ننفي الزمن بلا دليل عندنا، وكما جَاءَ في الأحاديث أن الله تَعَالَى بين أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به في أول الليل، ثُمَّ عاد في آخره، وحصلت هذه المشاهد.
القضية الأخرى: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثلاث مراحل، يقول رياض العبد الله صـ51: "إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة تعرض لثلاث مراحل، المرحلة الأولى: كَانَ بشراً وجبريل عليه السلام يعرض عَلَى مُحَمَّد الأشياء، ثُمَّ يقول: ما هذا يا جبريل فَيَقُولُ: هذا كذا وهذا كذا، وجبريل يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم يراها فيسأل عنها جبريل، المهم أن هذه حالة البشرية.
المرحلة الثانية: لما صعد في السماء كَانَ يرى المرائي فلا يستفهم جبريل عنها ويسمع فيفهم إذاً: فقد تحول شيء في ذاتية مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم -لم يذكرها لكنه ربما نواها- وأصبحت له ذاتية فاهمة بلا واسطة جبريل عليه السلام، وهذه الحقيقة ليس لها أساس عند تأمل الحديث، فالقضية واحدة فهو يسأله في الطريق كلها، يقول:(أصبحت له ذاتية فاهمة بلا واسطة جبريل عليه السلام ورائية بلا واسطة أحد -أي: فاهمة ورائية من غير واسطة- ففي الأرض إرائة وأما في السماء فقد رأى بالرؤية، ثُمَّ بعد ذلك نجد أنه بعد أن انتقل إِلَى مرحلة يكون فيها ملائكياً كالملائكة فهو يراهم، ويتكلم معهم، ويخاطبهم ويفهم منهم) .
المرحلة الثالثة: ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة ثالثة فوق مرحلة الملائكية.
يقول: (يزج بالنبي صلى الله عليه وسلم في سبحات النور، ولم يكن جبريل معه، وهذا دليل عَلَى أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد ارتقى ارتقاءً آخر، ونُقِلَ من ملائكية لا قدرة لها عَلَى ما وراء سدرة المنتهى، إِلَى شيء من الممكن أن يتحمل ما وراء سدرة المنتهى، ودون مصاحبة جبريل عليه السلام.
إذاً فسيدنا مُحَمَّد كَانَ بشراً في الأرض مع جبريل وبعد ذلك كانت له ملائكية مع الرسل ومع جبريل في السماء، وبعد ذلك كَانَ له وضع آخر ارتقى به من الملائكية حتى أن جبريل نفسه يقول له: أنا لو تقدمت لاحترقت، وأنت لو تقدمت لاخترقت
…
إلخ) .
وهذا الكلام ليس عليه أي دليل من الأحاديث ولا من الآيات عَلَى الإطلاق بأن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم مرت بثلاث مراحل، وتحولت ثلاث تحولات بشرية ثُمَّ ملائكية ثُمَّ أعلى من الملائكية، لأن الأعلى من ذلك هو الألوهية، وقد يخطر ذلك عَلَى كثير من الناس، وهذا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الإطراء والغلو ونتيجة استخدام مجرد النظر والرأي والتفكير في أمر ليس هو موضع تفكير، وإنما هو موضع تسهيل وبحث في الأدلة، فنقرأ الأدلة ونؤمن بها ونصدق بما جاءت به، ولا نجعل الخيال يشطح ليتصور ويتفلسف من عنده دون أي دليل ولا برهان من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
والعجيب أن المقدم والمعدرياض العبد الله أراد أن يوثق الموضوع ويبرهن عَلَى كلامه من شجرة الكون للشيخمحيي الدين ابن عربي، الذي ليس بحجة ولا يرجع إليه؛ لأنه كافر بإجماع كل من كتب عنه من أئمة الْمُسْلِمِينَ الموثوقين، فهو من أصحاب وحدة الوجود.
يقول ابن عربي: (إنه يقول: يا مُحَمَّد إذا كَانَ العرش مشوقاً إليك فكيف لا أكون خادماً بين يديك، فقرب له مركبه الأول وهو البراق إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ المركب الثاني وهو: المعراج إِلَى السماء الدنيا، ثُمَّ المركب الثالث وهو: أجنحة الملائكة من سماء إِلَى سماء، وهكذا إِلَى السماء السابعة، ثُمَّ المركب الرابع وهو: أجنحة جبريل عليه السلام إِلَى سدرة المنتهى، وهنا تخلف جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى، فقَالَ: يا جبريل نَحْنُ الليلة أضيافك، فكيف يتخلف المضيف عن ضيفه أهاهنا يترك الخليل خليله، فقَالَ: يا مُحَمَّد أنت ضيف الكريم ومدعو القديم، ولو تقدمتُ الآن بقدر أنملة لاحترقت، كقوله سبحانه وتعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164] ) .
ثُمَّ قَالَ: (قال: يا جبريل إذا كَانَ كذلك ألك حاجة؟ قَالَ: نعم، إذا انتهى بك الهوج حيث لا منتهى، وقيل لك: ها أنت وها أنا، فاذكرني عند ربك، ثُمَّ زج به جبريل عليه السلام زجة فخرق سبعين ألف حجاب من النور
…
إلخ) وهذا الكلام كله لا دليل عليه، والآية: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164] أي: الملائكة، كما في تفسير ابن كثير أو الطبري فكل ملك من الملائكة له مقام معلوم، فما من موضع شبر في السماء إلا وفيه ملك راكع أو ساجد، كما أمرهم الله سبحانه وتعالى فالحفظة لهم مقام معلوم، والكرام الكاتبون لهم مقام معلوم، والكربيون لهم مقام معلوم، والذين يوكلون بالغيث والقطر والجبال لهم مقام معلوم، وكل منهم له مقام معلوم.
وإنما أحببنا أن ننبه إِلَى مثل هذه الأخطاء لشيوعها وانتشارها ولكثرة من سأل عنها من الإخوان.
أشرنا فيما مضى إِلَى ملاحظات عَلَى كتاب الإسراء والمعراج لرياض العبد الله ولكن نظراً للشبهات التي تثار في هذا الموضوع وفي أمثاله، فسنزيد في ذلك، وقد وجدنا أن كثيراً ممن كتب في هذا الموضوع وقعوا في أخطاء ينبغي أن ننبه النَّاس عليها، فلهذا أحببنا أن نجعل من حديثنا هذا مراجعةً نراجع فيها معلوماتنا السابقة عن الإسراء والمعراج من خلال نقدنا لبعض ما كتبه هَؤُلاءِ الناس.
ولكي نعرف أن أمور العقيدة وأمور الغيب ضرورية، لابد من معرفتها، ولابد أن يتكلم فيها بالعلم، وأنه لا بد أن ترفع شبهات الملحدين والجاهلين والشاكين في العلم، فإنه لا يُصلِح الجدلَ والبدعة والانحرافَ إلا العلم الصحيح. فإذا كَانَ الأمر متروكاً لكل من شاء أن يتكلم كما يشاء، فهذا هو الذي دمر الأمة الإسلامية، وفرقها، وضيعها، فلم تستبن معالم دينها، وأصبحت تتخبط عَلَى غير هدى، حتى أصبح كل ناعق ينعق بما يشاء، ويمكنه أن يجتال عَلَى طائفة من هذه الأمة، ويذهب بها بعيداً عن الصراط المستقيم.
فقد كتب مجموعة من النَّاس وتحدثوا عن الإسراء والمعراج ولا سيما الموضوعين المهمين وهما، الأول: موضوع رؤية الله تبارك وتعالى، وكثير من النَّاس لا يستطيع أن يفهم هذه الرؤية ولا يتبينها، لأنه لم يرجع إِلَى المصادر الصحيحة من كتب العقيدة الصحيحة، فيعرف حقيقة هذه الرؤيا كما قد سبق.
والقضية الثانية: قضية العلو، وقد تقدم قول المصنف: إن في حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبر، فهذان الموضوعان: موضوع الرؤية، وموضوع العلو كثيراً ما يلتبس عَلَى النَّاس فهمهما وفقههما، حتى أصبحنا نسمع ونجد من يزعم أنه يرى الله تبارك وتعالى في هذه الحياة الدنيا كما يشاء أو يرى العرش، وأن ذلك نتيجة ولايته أو أنه كرامة له.
كتاب الإسراء والمعراج لمحمد سعيد
في هذا الكتاب وهو الإسراء والمعراج لمؤلفه مُحَمَّد سعيد زبير -الطبعة الثانية- 1405 هـ.
جمع فيه أقوال بعض المشايخ الذين أخطأوا في هذه الأمور، كنموذج لنراجع معلوماتنا، ونعرف كيف نستطيع من خلال العلم الصحيح والمعرفة الصحيحة أن ننقد ما يخطئ فيه بعض الناس، نتيجة الجهل أو نتيجة الانتماء إِلَى منهج من مناهج أهل البدعة والضلال.
وقد اقتصرنا في النقد عَلَى الأشياء الأساسية المتعلقة بالعقيدة، في صـ 10 يقول المؤلف مفخماً العنوان:"كيف تلقت قريش نبأ الإسراء والمعراج".
فَيَقُولُ: "في صبيحة السابع والعشرين من شهر رجب الخير، وقبيل الهجرة تقريباً عَلَى أرجح الأقوال" ذكر المؤلف هذا التاريخ، ولم يثبت أن هناك تاريخاً معيناً للإسراء والمعراج لا يوماً ولا شهراً ولا سنة محددة؛ بل نَحْنُ مع الحافظ ابن حجر رحمه الله حيث يقول: إن هناك أكثر من عشرة أقوال مختلفة في تحديد هذا اليوم.
وإذا قلنا: إنه في اليوم السابع والعشرين من رجب فمعنى ذلك أننا نفتح مجالاً للبدعة المعروفة وهي بدعة الرجبية، والاحتفال بهذه الليلة، ويسمونها: ذكرى الإسراء والمعراج، وهذه البدعة منتشرة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، فلماذا لا يكتب عنها ولا يتحدث عنها بالتفصيل؟! وسؤال آخر: لو ثبت أنها كانت في ليلة السابع والعشرين فهل يجوز أن نحتفل بها؟ فالقضية مركبة من أمرين:
أولاً: لم تثبت.
وثانياً: لو ثبتت لما جاز لنا أن نحتفل بها، وكذلك لا تجوز صلاة الرغائب التي تخصص في هذه الليلة.
فالبدع إذا فتح بابها لا تنتهي عند حد، والطريق المستقيم واحد وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فإذا خرج المرء أو الطائفة عن الصراط المستقيم، فمن الممكن أن يذهب ذات اليمين وذات الشمال، فلا يبالي به الله في أي وادٍ هلك.
وفي صـ40 خطأ بسيط ولكن نذكره حتى يكْشف لنا عن مدى علم صاحبه يقول عن قضية الرؤية: "ويرد عَلَى ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ فيزاد المعاد "، فإذا كَانَ لا يدري أن زاد المعاد لابن القيم فهذا دليل عَلَى أنه لا يوثق بمثل هَؤُلاءِ الذين لا يعرفون أبسط وأسهل المراجع التي يعرفها كل طالب علم.
وقفة مع الشيخ الشعراوي
وفي صـ 42 يقول: "يقول الشيخ الشعراوي: "أنا شخصياً لست مع المفسرين الذين يفسرون بأن المدنو منه هو جبريل؛ والدنو منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن جبريل كَانَ مع الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وما دام جبريل معه فكيف يدنو منه، فكان قاب قوسين أو أدنى؟ ذلك ملحظ آخر يعطينا أن الدنو في دَنَا فَتَدَلَّى شيء آخر من ربه أو ربه منه إيناساً بما يكون من رؤيته للحق أو من كلام الحق له" هذا الكلام موجود في صفحة 63 من كتاب الإسراء والمعراج اعداد وتقديم رياض العبد لله من كلام الشعراوي، ووجه الخطأ في هذا الموضوع هو أولاً: يقول أنا شخصياً لست مع المفسرين الذين يفسرون دنا بأن المدنو منه هو جبريل، يقول: لأن جبريل كَانَ مع الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فما دام أنه معه فكيف يدنو منه؟!
والجواب أن الآية في دنو جبريل من مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم في غير الإسراء والمعراج.
وقد سبق أن قلنا: إن المُصْنِّف رحمه الله يقول: [وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم ثُمَّ َ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء -المذكور في حديث شريك الذي هو ضعيف مضطرب- فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه كما قالتعَائِِِشَةَ وابن مسعود رضي الله عنهما فإنه قال سبحانه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ َ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء؛ فذلك صريح بأنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه] وجواب الإشكال الذي ذكره بعض المفسرين من أنه: كيف يدنو منه جبريل وهو معه عُرِجا معاً؟ بأن هذه الآية في قضية أخرى غير قضية الإسراء والمعراج.
وهي المرة الأولى التي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيها جبريل في الأرض عَلَى خلقته التي خلقه الله تبارك وتعالى عليها في الأرض، ولو استمرينا في الآيات لوجدنا أن هذا واضح وجلي يقول سبحانه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] أي: نزلة ثانية كما في الصحيحين، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عَلَى خلقته التي خلقها الله تبارك وتعالى عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق، ينزل من السماء فدنى من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه هي النزلة الأولى، ثُمَّ رأى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى وليس هناك دنو ولا تدلي فزال هذا الإشكال.
ثُمَّ يقول في صفحة 43: والقائلون بالرؤية يقولون: إن الرؤية ثابتة والكيفية مجهولة كما يرون أن رؤية الله سبحانه وتعالى لا تكون عَلَى حقيقته جل شأنه، بل تكون عَلَى صورة تتناسب مع قوة احتمال المشاهد وإيمانه.
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الحليم محمود: " أنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى وبدنوه منه سبحانه عَلَى الوجه اللائق، ويقول: إن كلمة عَلَى الوجه اللائق تفض كل نزاع، والله أعلم" نقل المؤلف عن الدكتورعبد الحليم محمود وهو معروف بالتصوف وأكثر كتبه في ذلك، فَيَقُولُ:"أنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه" وقبل هذا يقول المؤلف: إن رؤية الله -تعالى- لا تكون عَلَى حقيقته، فهي تقع ولكن تكون عَلَى كيفية أو عَلَى هيئة تتناسب مع قوة إدراك المشاهد، وهذا الكلام فيه إجمال، ما المقصود بهذه الرؤية؟ إن كانت الرؤية في الدنيا فلها كلام، وإن كانت في الآخرة فلها كلام، فإذا قلنا: إن المقصود هو رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا فإن الأولياء والأقطاب -كما هو في كثير من كتب الصوفية -يزعمون أنهم يرون الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا فبماذا نجيب هَؤُلاءِ الناس؟
نقول: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من عهد الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- إِلَى اليوم مجمعون عَلَى أنه لن يرى أحدٌ ربَّه عز وجل في هذه الحياة الدنيا بالإطلاق، إلا أن الخلاف قد وقع في حق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فقط، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى ربه عز وجل حتى في المنام، إذاً كلامهم هذا باطل، ولا شك في ضلال من زعم ذلك، وإنما قد يكون الشيطان لبسَّ عليه فأراه أشياء أو ظهرت له أنوار أو خيالات، فَقَالَ له: إني أنا الله أو أنا ربك أو زعم أن هذا هو ربه.
بل حتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه بعينه كما في حديث أبي ذر لما سأله (هل رأيت ربك يا رَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه) وفي الحديث الآخر يقول: (حجابه النور) فهو محتجب بالنور سبحانه وتعالى فلم يره النبي صلى الله عليه وسلم بالعين، وإن من قَالَ: إنه رآه كابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- مقصوده: أنه رآه بفؤاده أي: رآه بقلبه.
ومن ذلك حديث: (رأيت ربي في أحسن صورة) فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه تبارك وتعالى بعينه في الحقيقة، وإنما كَانَ يقول في ليلة الإسراء (رأيتُ نوراً)
والمقصود أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يقول رؤيا عين، أي: ليست رؤيا منام في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] أي: ما حصل ليلة الإسراء والمعراج كَانَ رؤيا عين بالحقيقة وليس مناماً للنبي صلى الله عليه وسلم، والكلام هنا ليس في رؤية الله، وإنما رؤية ما حدث في ليلة الإسراء والمعراج من المرائي التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وفي كل سماء إِلَى أن وصل إِلَى سدرة المنتهى.
وإن كَانَ المقصود رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فهذا أمر خارج عن موضوع السياق هنا والله سبحانه وتعالى إنما يتجلى الله لعباده وينعم عليهم بلذة النظر إِلَى وجهه الكريم في الآخرة، وبلا شك أن حال الآخرة غير حال الدنيا، فأهل الجنة يعطون من القوة عَلَى الإدراك -والقوة عامة- غير هذا الضعف الذي يعيشونه في هذه الحياة الدنيا، ثُمَّ نقل أن الدكتور عبد الحليم يقول:"أنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى وبدنوه منه سبحانه عَلَى الوجه اللائق" أيضاً يقول: إن الله تَعَالَى دنى من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الكلام أيضاً موافق لما سبق أن بينا خطأه، ثُمَّ يقول:" إن كلمة عَلَى الوجه اللائق تفض كل نزاع" والصحيح أننا نستخدم كلمة عَلَى "الوجه اللائق" في الشيء الثابت نقله، كصفة تثبت لله تعالى، نقول في ذلك عَلَى الوجه الذي يليق بجلاله بلا تكييف، لكن هذا لم يثبت، فإن ما ورد في تلك الرواية المضطربة لا يصلح به الاستدلال عَلَى مثل هذا القول، وأصل الخطأ في مثل هذه الأمور، هو الرجوع إِلَى غير هدي السلف الصالح الذين يأخذون كلامهم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة.
فهذا كلام أئمة التصوف ويدلنا عَلَى ذلك ما نقرأ في صفحة 78 يقول في فقرة عنوانها: "الوصول إِلَى الله" أي: أن من حِكَم الإسراء والمعراج موضوع الوصول إِلَى الله، يقول: عبد الحليم محمود: "بعد وصول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إِلَى ربه تعالى، أصبح هدف السالكين إِلَى الله الوصول إِلَى جنابه، والوصول إِلَى الله يعني زوال القلق والاضطراب النفسي، وزوال همَّ الرزق والخوف من الموت، وزوال كل ما يصرف الإِنسَان عن الله تعالى، وزوال كل ما يشغل بؤرة تفكيره عنه، كما يعني من جانب آخر الرقي الروحي الدائم، والفيوضات الإلهية المستمرة، والمعرفة اللدنية المتتالية، والرَّسُول صلى الله عليه وسلم وصل إِلَى هذا المنتهى وأمر أن يقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] وزيادة العلم في عرف أولياء الله إنما هو زيادة السعادة، من أجل ذلك قال أحد العارفين: نَحْنُ في سعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم".
فهذه جملة من الأخطاء المركبة التي ينبغي أن توضح، وأمثال هذه العبارات الأدبية المجملة الموهمة تدخل تحتها منافذ البدع المؤدية إليها، فأول شيء يفهم من قوله:"بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى ربه أصبح هدف السالكين إِلَى الله الوصول إِلَى جنابه" معنى ذلك: أن الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- قبل حادثة الإسراء والمعراج كَانَ هدفهم أن يعبدوا الله من أجل أن يدخلوا الجنة ويفوزوا برضوان الله، فلما جاءت هذه الحادثة وبلَّغهم إياها -النبي صلى الله عليه وسلم -قالوا من الآن- يصبح هدفنا أننا نصل إِلَى جناب الله وهذا الكلام غير صحيح، لأن الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- لم يكونوا يعتقدون ذلك.
فالسالكون أناس غير الصحابة، فالصوفية في القرن الثالث وما بعده سموا أنفسهم "السالكين" ويقولون: إن أهم شيء هو الوصول، فأول ما يبتدأ الإِنسَان به في طريق التصوف يسمى مريداً ثُمَّ سالكاً ثُمَّ واصلاً، فيكون هدف السالكين الوصول، والوصول له معنى آخر لا علاقة له بقضية الإسراء والمعراج، ولا بما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بين الوصول بكلام آخر يقول:"والوصول إِلَى الله يعني زوال القلق والاضطراب النفسي وزوال هم الرزق والخوف من الموت، وزوال كل ما يصرف الإِنسَان عن الله تعالى، وزوال كل ما يشغل بؤرة تفكيره عنه".
وهنا انتقل إِلَى موضوع آخر هو: زوال القلق والهم والاضطراب وكل ما يصرف الإِنسَان عن الله تَعَالَى -مع التجاوز عن العبارات التي تحتمل معانٍ مجملة- هذا الذي ذكره يمكن أن يقع لكل إنسان يعبد الله سبحانه وتعالى ويؤمن به ويطمئن بقدره سبحانه وتعالى راضياً بما كتبه الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: "أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وهذا أمر يحصل لكل من آمن بالله سبحانه وتعالى؛ بل يحصل ذلك للإنسان بقدر ما يزداد إيمانه، لكنه يريد أن يربط القضية بشيء آخر.
يقول: "كما يعني من جانب آخر" أي: ليس هذا هو الجانب الذي كل المؤمنين يشعرون به، وإنما هناك جانب آخر للمسألة "الرقي الروحي الدائم، والفيوضات الإلهية المستمرة، والمعرفة اللدنية المتتالية" التي يسمونها أحياناً التجليات والفيوضات والمشاهدات والكشوفات، ألفاظ مترادفة، تعني ما يقع في قلوب هَؤُلاءِ العباد الزهاد، أو في خيالاتهم عندما يظنون أنهم في تلك الحالة يبلغون درجة عالية من الإيمان بالله سبحانه، ومن هذا المدخل تدخل قضايا خطيرة جداً، كما مر معنا في مسألة التوحيد أنهم يقسمون التوحيد إِلَى ثلاثة أنواع: توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة، وهذا هو الوصول.
فالواصلون: هم الذين بلغوا توحيد خاصة الخاصة. يعني: أصبح الأمر عندهم كما يذكر هنا "أمر رقي روحي" فأصبحت هناك فيوضات، وكشوفات، وتجليات، ومشاهدات، ينقطعون بها عن الدنيا والخلق، حتى يصل الأمر من بعضهم - نسأل الله العفو والعافية - إِلَى أن يترك الجمعة والجماعة ويقول:"الذي قلبه مع الله دائماً: كيف يشتغل بهذه العبادات؟! " وهذا غاية الضلال.
وجعلوا توحيد الأَنْبِيَاء من نوع توحيد العامة، وإن ترقَّوا: قالوا من توحيد الخاصة، أما خاصة الخاصة: فهم الذين يتلقون من الله مباشرة، ويبلغ بهم الكفر إِلَى أن يقول أحدهم: ذات الحق سبحانه تجلت فيه، أو أنه هو الله، تَعَالَى الله عما يقول المبطلون والظالمون علواً كبيراً.
فأمثال هذه العبارات المجملة الموهمة: هي التي يدخل منها هَؤُلاءِ، ليقرروا عند النَّاس تلك الضلالات الخطيرة، التي لو اعتقدها الإِنسَان ووقرت في قلبه لكان خارجاً من دين الإسلام!!
ثُمَّ يقول الكاتب: والرَّسُول صلى الله عليه وسلم وصل إِلَى هذا المنتهى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:14] فكأن المسألة فيها تأويل لقضية المعراج من أصلها فالمعراج رقي روحي، والنبي صلى الله عليه وسلم ترقى في الوصول إِلَى الله بالفيوضات، وبالمعرفة اللدنية حتى وصل إِلَى المنتهى.
ثُمَّ يقول: وأُمر أن يقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] والذي يدل عَلَى أن المسألة تأويل قوله: "وزيادة العلم في عرف أولياء الله إنما هو زيادة السعادة" أين العلم من السعادة؟ يعني: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: ربي زدني سعادة من فيوضاتك وتجلياتك ومعرفتي اللدنية بك والأمر ليس كذلك، فقوله تَعَالَى لرسوله صلى الله عليه وسلم::وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .
وليس الأمر مجرد السعادة أو النشوة الروحية التي تحصل للإنسان، إنما هو العلم الذي هو علم بالله وبأحكامه من الحلال والحرام، فلا شك أن معرفة الله سبحانه وتعالى هي رأس العلم، كما أن الفقه في ذلك هو الفقه الأكبر، المتلقى عن طريق الوحي والأدلة، والإيمان به إيماناً صحيحاً كما أخبر سبحانه وتعالى، وليس مجرد تأملات ولا نشوات، يُقَالَ: إنها فيوضات وتجليات ترد عَلَى القلب، ولذلك يدعي كل قطب أو ولي أنه تجلى له مالم يتجلى للآخر، وكلامهم في هذا يختلف، فكل منهم يدعي أن ربه تجلى له وقال له شيئاً لم يقله لغيره، وهذا الاختلاف يدل عَلَى أنها تصورات ذاتية خيالية، بحسب ما يفكر الواحد منهم وما يهتم به، تأتيه هذه الأمور، أما العلم بالله سبحانه وتعالى العلم الحقيقي، فإنه يأتي في القُرْآن وفي السنة، ويفهمه الصحابة والسلف الصالح فهماً صحيحاً فلا يختلف أبداً.
كلمات نورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية
وأما قول الكاتب: من أجل ذلك قال أحد العارفين: نَحْنُ في سعادة لوعرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم، هذه العبارة منقوله عن بعض السلف الصالح.
يوضح ذلك قول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كما نقل عنه ذلك ابن القيم رحمه الله في المدارج يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، والمقصود أن السلف الصالح يذكرون الله ويناجونه بالمشروع من العبادات، كقيام الليل، وذكراً بما ورد، فتحصل لهم الطمأنينة التي ذكرها الله تبارك وتعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وتحصل هذه السعادة لمن يتبع الذكرفَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124] .
تكفل الله تَعَالَى للمتقين أن لا يضلوا عن الطريق المستقيم ولا يشقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله:"ما يصنع أعدائي بي". ينتقمون مني بأي طريقة: ثُمَّ بين ذلك فقَالَ: "سجني خلوة" أي: إذا سجنه أعداؤه، فهذه خلوة يتمناها العلماء، ولا سيما العارفين العباد، الذين يعرفون حقيقة العلم وحقيقة العبادة وحقيقة التقوى، فهم يتمنون أن تحصل لهم الخلوة من مشاكل الدنيا، ومشاغلهم من هموم الأبناء والزوجة والناس، فيخلون في مكان يذكرون الله سبحانه وتعالى.
"ونفيي سياحة" أي أنه لو نفي ربما يكون انتقلت أعماله وأعباؤه فلا يستطيع أن يرى ما هو خارج بيته، لأن النَّاس يفدون عليه ويأتون إِلَى بيته، وفي مسجده، فلا يرى شيئاً. فإذا نفي إِلَى جزيرة نائية، قد يرى من عجائب خلق الله عز وجل ما يكون فيه راحة ومتعة وسعادة.
قَالَ: "وقتلي شهادة" أي: وإذا قتل فالْحَمْدُ لِلَّهِ هذه الشهادة، وماذا يريد المؤمن أعظم من أن ينال الشهادة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهلها.
فهذه هي السعادة التي يتكلم عنها علماء السلف فيقولون: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف" يعني: لو يعلم أصحاب الدنيا والمال والملك والجاه والسلطان لقاتلونا عليها، لأن السعادة في نظرهم هي التمتع بملاذ الدنيا من أكل وشرب ونساء، وهذه هي الغاية التي يريدونها من السعادة.
وأكثر النَّاس يبحثون عن السعادة، لكن طريقهم ليس هو طريق السعادة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيا طريق الشقاوة، "شقاوة المعيشة والضنك" عَلَى أرجح التفسيرين: ومعايش: جمع معيشة وهي الحياة، وبعدها وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] .
الحياة الدنيا معيشة ضنكا، وهذا أرجح من أن نقول: إنها في القبر، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يحشر أعمى، فأين السعادة وأين الطمأنينة!! يبحثون عنها فلا يجدونها ولو أن أحداً من هَؤُلاءِ النَّاس في أثناء بحثه عن السعادة قيل له: صلِّ في جوف الليل، واحضر مجالس الذكر والعلم، وحافظ عَلَى صلاتك في الجماعة، وغير ذلك من الطاعات، فإن الشيطان يخيل له أن هذا هو غاية الشقاوة.
فهو فار من الشقاوة، ويريد الرفاهية والطمأنينة والسعادة، ووالله لو دخل في الطاعة لوجد ما يسعى إليه، ولو قيل لمن أقبل عَلَى الله يذكره ويطيعه: ما هي السعادة التي تشعر بها؟ لقَالَ: نَحْنُ في سعادة ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وهذه السعادة ليست مرئية واضحة، لكن إذا كَانَ عندك عمارة ثلاثين دوراً فإن كل النَّاس - التجار والأغنياء والملوك - يقولون: ليت عندنا مثله؛ لأنهم يرونها، لكن طمأنينة القلب لا يراها أحد، فيتصورون أنك تعيش في ضيق، وفي ألم، ولا يعلمون أنك تجد الراحة العظيمة في ترفعك عن هذه الشهوات التي لو عرضت عليك عرضاً لأبيتها، ولو عرضت عليك وأعطيت معها ملايين الدنيا لأبيت.
ولو وجدتم مَنْ مَنَّ الله عليه بالهداية لتعجبتم منه، يخبركم: كيف كَانَ في حالة المعصية! وكيف كَانَ يبحث عن اللذة والشهوة في كل مكان! فلا يجد إلا الشقاء والخسارة والنكد والضيق في الحياة، والهم الذي لا يفارقه، فلما آمن واطمأن بالله سبحانه وتعالى أصبح يرى السعادة الحقيقية، ولو فقد هذا المؤمن التقي ابنه أو زوجه فإنه يطمئن إِلَى قول الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157] ويفرح لأنه موعود بصلوات من الله، ورحمة، وهداية، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، فيجد الطمأنينة والراحة في موقف ألم وبكاء وحزن، لكن الذي لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى لا يشعر بهذه السعادة، فإذا غيرته المعشوقة وعشقت أو هويت غيره انتحر.
وهذه الصفقة التجارية التي كَانَ يؤمل فيها حصلت فيها الخسارة فانتحر والعياذ بالله، فكل شخص غير مؤمن قابل أن يبيع نفسه بأرخص الأثمان؛ لأنه كما قال الله سبحانه وتعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] ، لما نسي الله أنساه نفسه، فيعيش في قلق واضطراب وتخبط، يعمل لكل شيء إلا لنفسه، فلما نسي ربه، أنساه الله تبارك وتعالى نفسه، فهو يجمع المال للورثة يقول ابن آدم: مالي مالي -هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم هكذا حال النَّاس والحقيقة: ليس لك يا ابن آدم إلا ما قدمت فأبقيت، أو أكلت فأفنيت، والباقي للورثة، لا يهنأ بلذة في ماله وملكه.
كيف كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه؟
لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى إلا مناماً بفؤاده، والرؤية بالفؤاد: هي التي تفسر لنا أنه رآه مرة في المنام في الدنيا، ومرة عند سدرة المنتهى وإذا قلنا: إن موسى -كليم الله- قد سأل ربه سبحانه وتعالى أن يراه، ومع ذلك قَالَ: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم لن يرى ربه عز وجل حتى يموت) فهذا مما يدل عَلَى أنه لا يرى أحد الله سبحانه وتعالى في الدنيا ولو كانت الرؤيا ممكنة فلماذا نقول: لم يره موسى عليه السلام؟ فهو لما منع من الرؤية، قال الله تَعَالَى له: لَنْ تَرَانِي وكان من الممكن أن يعوض عنها في المنام؛ لأن رؤيا الأَنْبِيَاء عليهم السلام حق ووحي.
فإذا جَاءَ في آخر الزمان رجل وقَالَ: أنا أرى الله عز وجل وصدقناه فقد قلنا: إنه يحصل له مالم يحصل للأنبياء، وكذلك نفهم من إطلاق حديث:(إن أحدكم لن يرى ربه عزوجل حتى يموت) أنه لن يراه في الدنيا أحد، ويدل عَلَى هذا أيضاً اختصاص المؤمنين برؤية الله في الجنة.
وهناك كتاب اسمه الرؤى والأحلام تأليف الشيخ أحمد عز الدين يقول فيه: "اتفق العلماء عَلَى أن الصالحين يرون الله تَعَالَى في المنام" فقوله: "اتفق العلماء" هذه كلمة عظيمة وخطأ كبير فاحش، لا يجوز أن يقَالَ: وقع الاتفاق، وإنما وقع في كلام بعض العلماء ما قد يشعر بذلك، ولكن لو عرضنا ذلك عَلَى الأدلة الصحيحة -كما سبق- لما ثبت من ذلك شيء، ونقول: يكفينا أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه رأى ربه سبحانه وتعالى في المنام، ولو أن أحداً حصلت له وكانت رؤيا حقيقة أي: مناماً حقيقياً وليست تلبسيات شيطانيه لشارك النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فنقول: إنه لا يصح أن أحداً رأى ربه سبحانه وتعالى في المنام، وما قاله بعض العلماء فإنه عَلَى سبيل التنزل مع أصحاب التصوف وأمثالهم، ولعله يأتي لها موضع آخر نبسط الكلام فيه -إن شاء الله- أما قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا [طه:124] فالإعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى يقع من الكفار: وهو الإعراض الكلي، ويقع من الْمُسْلِمِينَ: وهم العصاة، وهو إعراض جزئي، فبقدر الإعراض عن ذكر الله تكون الشقاوة، والإعراض الكلي يسبب الشقاوة الكلية، كما هو حال أهل الكفر اليوم، والإعراض الجزئي يسبب الشقاوة الجزئية كما قال بعضالسلف:"إني لأرى أثر معصيتي في خُلق خادمي ودابتي".
فالإعراض عن ذكر الله، والمعصية بصفة عامة يظهر أثرها عَلَى الإِنسَان في الدنيا بقدر ما يكون إعراضه، ولا ينافي ذلك أن الله سبحانه وتعالى يستدرج بعض النَّاس ويمدهم بأموال وبنين، ويظنون أنهم يسارع لهم في الخيرات، وليس هو بمسارعة في الخيرات وإنما هو استدراج.
ثُمَّ يقول: "لعل النَّاس لم يختلفوا في شيء كما اختلفوا في شأن الإسراء والمعراج" وهذا كلام غير صحيح! أين الخلاف الذي وقع؟ فالذين خالفوا في الإسراء والمعراج -كما أوضحنا- هم أهل ضلال، وإذا قامت عليهم الحجة، وكذبوا بالإسراء والمعراج، فإنهم كفار مرتدون؛ لتكذيبهم لما ثبت في الكتاب والسنة وهذه العبارة ليست في محلها.
ومن المهم في ذلك ما قال في صفحة (84، 85) ومعناه: "إن الأمر يشكل عَلَى بعض النَّاس فيقولون: وهل لله عز وجل مكان يعرج إليه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم" انظروا إِلَى العقول القاصرة!!
إذا أراد أن يتكلم عن الله سبحانه وتعالى وكأنما يتكلم عن أي مخلوق، أو عن أي أحد منَّا، فَيَقُولُ:"هل لله مكان يعرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم؟! ثُمَّ يجيب، فَيَقُولُ: إن الله تَعَالَى ليس بعيداً عن رسوله حتى يقطع للقاءه هذه الأبعاد الشاسعة في السماوات العلى، بل هو معه حيث ما كَانَ وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ بل قريب من عباده جميعاً" وإذا كَانَ قريباً منهم جميعاً فلماذا الإسراء والمعراج؟ وما فَضْل النبي صلى الله عليه وسلم وما هو اختصاصه، انظروا إِلَى الاضطراب كيف يقع!!
ثُمَّ جَاءَ بالآيات وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ثُمَّ أخذ يبين المجموعة الشمسية والسماء وما إِلَى ذلك من كلام لا ضرورة له أصلاً.
والمقصود أن هذا الكاتب خلط بين المعيتين: المعية العامة، والمعية الخاصة، وخلط في العلو، فلم يستطع عقله أن يوفق بين إثبات علو الله سبحانه وتعالى كما أخبر وبين معيته، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به، بلغ تلك المنزلة التي لم يبلغها أحد أبداً فلو كَانَ الله سبحانه وتعالى قريب من جميع الخلق بذاته فما وجه الاختصاص للنبي صلى الله عليه وسلم، فعندما عُرج به إِلَى السماء كَانَ قريباً من ذات الله سبحانه وتعالى.
والمعية الخاصة هي بمعنى: النصر والتأييد والتوفيق، وهذه ثابتة للمؤمنين، وأخصهم في ذلك الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم [الحديد:4] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب [البقرة:186] هذه المقصود بها: قرب النصر والتأييد والإجابة -إجابة الداعي إذا دعاه- فهو قريب من المؤمنين بهذه الحال، وبعيد عن الكفار أي أنه لا يسمعهم ولا يستجيب لهم أبداً سبحانه وتعالى، لأنه قَالَ: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] هذا بالنسبة لمعيته ولقربه، أما ذاته سبحانه وتعالى فهو كما أخبر أنه فوق العرش -فوق المخلوقات- في السماء.