المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌الحوض فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي.   قال - شرح العقيدة الطحاوية - سفر الحوالي

[سفر الحوالي]

الفصل: شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌الحوض فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي.   قال

شرح العقيدة الطحاوية

‌الحوض

فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي.

قال أبو جعفر الطّّحاويّ:

[والحوض الذي أكرمه الله تَعَالَى به غِيَاثاً لأمته حق]

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تَبْلُغُ حَدَّ التواتُرِ، رواها من الصحابة بِضْعٌ وثلاثونَ صحابياً، رضي الله عنهم، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عِمَادُ الدين ابن كثير -تغمده الله برحمته- في آخر تاريخه الكبير المسمى بالبداية والنهاية.

فمنها: ما رواه البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إن قدر حوضي كما بينأيلة إِلَى صنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) .

وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصيحابي، فَيَقُولُ: لا تدري ما أحدثوا بعدك) ورواه مسلم.

وروى الإمامُ أَحْمَد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: (أغفى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنه نزلت عليّ آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] حتى ختمها، ثُمَّ قَالَ: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنيته عدد الكواكب يُخْتَلجُ العبد منهم، فأقول: يارب إنه من أمتي، فيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) .

ص: 774

ورواه مسلم، ولفظه (فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ) والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يَشْخُبُ فيه مِيزَابَانِ من ذلك الكوثر إِلَى الحوض] اهـ.

الشرح:

هذا الموضوع هو أحد أمور الغيب التي صح بها الخبر وثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة، وهذا مما يجب الإيمان به، فيجب أن نؤمن بالحوض، وبالصراط وبالميزان، وبجميع ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب، والمراد إثبات هذه العقيدة، والرد عَلَى من خالف فيها وإبطال شبههم، وقوله:(والحوض الذي أكرمه الله تَعَالَى به غياثاً لأمته حق) ، والضمير في (أكرمه) يعود إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، وابتدأ المُصنِّفُ ببيان الأحاديث الواردة في الحوض وأنها تبلغ حد التواتر.

اختلف العلماء في الحوض: هل هو مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أن غيره من الأَنْبِيَاء لهم حوض؟

وسبب الاختلاف: يرجع إِلَى الحكم في تصحيح النقل في ذلك، لأن علماءأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كما علمنا في باب المغيبات وغيرها إنما يتبعون النقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا النقل ورد فيه حديث وراه التِّرْمِذِيّ (إن لكل نبي حوضا) وهذا الحديث قال التِّرْمِذِيّ بعد أن ذكره، اختلف في وصله وإرساله، والمرسل أصح، وهذا القول هو الصحيح.

وقال الحافظابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن فالحديث مرسل، فمن يعمل بالمرسل -من الفقهاء- فقد رأى أن هذا الحديث صحيح وثابت، والاستدلال به جائز، ومن كَانَ لا يقبل المرسل أو لا يعمل به أولم يثبت لديه هذا الحديث -وهو مذهب المحدثين- فلا يثبت، وعليه فلا نثبت لغير النبي صلى الله عليه وسلم حوضاً، إلا أن يصح النقل من غير هذه الطريق.

ص: 775

ولهذا عقب الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى هذا فقَالَ: "فإن ثبت فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب ماؤه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره فوقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة) ، وهذا الكوثر كما مر معنا في طرق حديث الإسراء: نهر في الجنة، وهذا النهر الذي في الجنة -كما سيأتي في الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد هنا- هو يصب في الحوض، وبهذا يجمع بين الروايات في الحوض وفي الكوثر.

وروى الإمام أَحْمَد - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وهو من ثلاثياته عن أنس، قَالَ: أغفى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أُنزلت علي آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر] حتى ختمها ثُمَّ قال لهم: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب! إنه من أمتي، فيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

ورواه مسلم ولفظه: (إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ) ، فيلاحظ أنه سمى النهرُ حوضاً، والحوضُ نهراً، وذلك ثابت في طرق كثيرة غير هذه.

الذين أنكروا الحوض: هم طائفة قليلة من أهل البدع والضلال، وبعض فرق الخوارج، وبعض المعتزلة وتأولوه وَقَالُوا: لا يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم حوض، وإنما هذا كناية عن الكرم والعطاء.

حكم من أنكر الحوض

ص: 776

وهذا المذهب لا دليل عليه، لا من النقل ولا من العقل والنظر، فما الذي يمنع أن الله سبحانه وتعالى يجعل كرمه وعطاءه إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم في صفة هذا الحوض، ولا سيما في ذلك اليوم الذي هو يوم العطش الأكبر "يَوْمَ القِيَامَةِ" حين تدنو الشمس من النَّاس عَلَى مسافة ميل فمنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يبلغ العرق إِلَى منكبيه، ومنهم يبلغ إِلَى سرته، ومنهم من يبلغ إِلَى ركبتيه، ففي ذلك اليوم تكون المنة، ويكون التكريم العظيم من الله سبحانه وتعالى عَلَى نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مع الشَّفَاعَة العظمى.

فليس هناك أدنى شبهة لا نقلية ولا عقلية لمن ينكر الحوض، وقد ثبت بالتواتر ومعنى ذلك: أن منكره بعد قيام الحجة عليه كافر، فمن أنكره فقد أنكر أمراً معلوماً بالتواتر.

متى ظهر منكري الحوض

نقل إنكار الحوض في أواخر عصر الصحابة، حتى أن أنس بن مالك وهو من أواخر الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم جميعاً- وفاةً، قَالَ:"ما ظننت أني أعيش حتى أسمع من ينكر الحوض".

وكما ظهرت البدع الأخرى حين ظهرت القدرية والمرجئة في أواخر عصر الصحابة، بخلاف الرافضة والشيعة والخوارج فإنها ظهرت في زمن أمير المؤمنين عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وعن أصحاب نبيه أجمعين.

هل عبيد الله بن زياد أنكر ثبوت الحوض؟

وممن نُقل عنه إنكار الحوض كما ذكر ذلك الحافظابن حجر وجمع طرفاً فيه: هو عبيد الله بن زياد أميرالعراق؛ لكن الذي يظهر لمن تأمل ما ورد عن عبيد الله بن زياد أنه لم ينكر الحوض.

وجوب تعليم الناس العلم

ص: 777

لهذا وجب عَلَى الْمُسْلِمِينَ أن ينشروا العلم، لأن العلم لا يموت حتى يكون سراً كما قال ذلك أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فالعلم يجب أن يظهر وينشر ولا يقَالَ: هذا الموضوع لا يجوز التحدث عنه ولا يهم الكلام فيه فما كَانَ من أمور ديننا -من أمور الغيب- نظهره للناس ونبينه لهم فيزداد العالم علماً ويعلم الجاهل، وتقوم الحجة عَلَى المنكر والمعاند.

هذه الروايات التي وردت في الحوض ذكر المُصنِّفُ رحمه الله أنها بلغت حدًّ التواتر فقد رواها من الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- بضع وثلاثون صحابياً، ثُمَّ قَالَ: ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير -تغمده الله برحمته- في آخر تاريخه الكبير المسمى البداية والنهاية في الجزء الأخير الذي هو النهاية في الفتن والملاحم، وذكر فيه أشراط الساعة وعلاماتها وأهوالها، ولقد ذكر الحافظ ابن حجر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في الفتح من نقل هذه الطرق وعددها.

ويقول عن نفسه: "فزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه سواء، فزادت العدة عَلَى الخمسين"، ويقول:"بلغني أن بعض المتأخرين وصلها إِلَى رواية ثمانين صحابياً" وهَؤُلاءِ الصحابة الحديث عن بعضهم فيه ضعف ولا يعني أن الثمانين قد صحت الرواية عنهم كلهم لكنها وردت عنهم، والإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر في آخر كتاب الرقاق من صحيحه أحاديث الحوض من تسعة عشر طريقاً، وأشهر هَؤُلاءِ الصحابة الذين يروون عنهم هذا الأحاديث هم:

ص: 778

أنس بن مالك، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود، وأبو بكرة، وسهل بن سعد، وجندب بن عبد الله، وابْنُ عُمَرَ، وابن عباس، وابن عمرو، وأَبُو هُرَيْرَةَ، وأم المؤمنينعَائِِِشَةَ، وأم المؤمنين أم سلمة، وأبو ذر، وعقبة بن عامر، وحارثة بن وهب، والمستورد، وثوبان، وجابر بن سمرة وهَؤُلاءِ هم أشهر من صحت الطرق عنهم في الصحيحين وغيرها، وورد عن غيرهم، كأبي بكر الصديق، وأسماء بنت أبي بكر.

فالمقصود أن ثبوت هذا الحديث مثل الشمس، لا يماري ولا يجادل فيه أحد، وأنه كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه يكون يَوْمَ القِيَامَةِ، وأن أمته ترده، وورد أحاديث كثيرة في وصفه عَلَى اختلاف الروايات، منها ما ورد في عرضه، وما ورد في آنيته، وما ورد في بياضه وحلاوته، وما ورد أيضاً من ذود النَّاس عنه، وقد ذكر المُصنِّفُ رحمه الله رواية أنس يقول:[منها: ما رواه البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عنأنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إِلَى صنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) ] هذا الحديث ذكره البُخَارِيّ في نفس باب الحوض من كتاب الرقاق في آخره، وأيضاً أخرجه الإمام أَحْمَد.

وله حتى إن حديث أنس له طرق أخرى، فالمصنف اختار الرواية التي فيها أن قدره كما بين أيلة إِلَى صنعاء؛ وكأنه تعمد أن يختار هذه الرواية التي ذكر فيها قدر الحوض.

ص: 779

وأيلة هي المعروفة باسم إيلات وهي كما وصفها الحافظابن حجر يقول: إنها في زمانه مدينة خربة عَلَى الخليج بجوار العقبة، وهي الآن معمورة ومعروفة وتسمى إيلات وهي ميناء لليهودقبحهم الله تَعَالَى ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يذلهم ويخذلهم وأن يردها أرضاً للمسلمين كما كانت وهي عَلَى الخليج المسمى بخليج إيلات، والذي يسميه العرب خليج العقبة وكأن هذه كما يظهر من أطول المسافات.

اختلاف الروايات في تحديد عرض الحوض لا يعني أن الحديث مضطرب:

والذي ينبغي أن يُعلم أن اختيار المُصْنِّف لهذه الرواية لا يعني أن غيرها لم يصح، فالروايات الصحيحة كثيرة ومختلفة في تحديد المسافة في عرض الحوض، حتى أن بعض النَّاس توهم أنها من قبيل الاضطراب في الحديث؛ لأن فيها ما بين أيلة إِلَى مكة وما بينصنعاء إلى مكة.

وفي بعضها ما بين أذرح إِلَى جرباء.

وفي بعضها ما بين عمان إلىأيلة.

وبعضها بين عمَّان.

وبعضها بصرى.

وبعضها ما بين صنعاء وعدن، فذكرت عدة مناطق وعدة مدن؛ نظراً لكثرة الروايات.

العلة من تعدد الروايات من قبل الرواة

لا شك أن كثرة الروايات، وكثرة الرواة والطرق، قد يكون الخلاف يعود إِلَى عدم ضبط بعض الرواة، وقد يعود إِلَى أن المسافات تختلف بحسب السرعة والإبطاء، فقد تكون مسافة ما بين بلد وبلد بحسب سرعة الإبل السريعة مثلاً، أو الخيل السريعة، وبين بلد وآخر، ولكن بحسب سرعة أخرى.

وقد يكون بحسب المقامات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون بحسب القبائل، فإذا جاءته قبيلة من جهة ما وصف لهم عرض الحوض أو طوله بحسب ما يعرفون من المدن إن كانوا من اليمن بيَّن لهم بمدن من اليمن، وإن كانوا من أهل الشام بين لهم بمدن منالشام والله أعلم.

ص: 780

والمسألة ليست -ولله الحمد- مما يقتضي الإشكال، وإنما المراد من المثال أن هذا الحوض طويل وعريض، وأنه بهذه السعة، وبهذا العرض وبهذا الطول، هذا هو غاية ما ينبغي أن يفهم، ثُمَّ يقول:(وعدد ما فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) وهذا أيضاً دليل عَلَى كثرته، فهو طويل وعريض، وهو أيضاً كثير الأباريق وكثير الكيزان، كما وردت في روايات أخرى، والكيزان: جمع كوز.

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ليردن عليّ أناس من أصيحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول أصيحابي، فيُقَالُ:: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وكأن المُصنِّفُ اختار الحديث الأول ليدلنا عَلَى المسافة.

واختار الحديث الثاني لشيء آخر هو شأن الذين يُردَّون ويذادون عن الحوض، ولو نظرنا إِلَى حديث سهل بن سعد وهو أيضاً مما رواه البُخَارِيّ وفي رواية أبي سعيد يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنهم مني، فيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي) .

والأحاديث غير هذين الحديثين أيضاً كثيرة في خصوص هذه القضية، وهي أنه يذاد عن حوضه صلى الله عليه وسلم بعض هذه الأمة وأنه صلى الله عليه وسلم يستغرب ذلك، ويقول: أمتي أمتي، أو أصحابي أصحابي، وأن الجواب يكون إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، أو إنهم غيروا وبدَّلوا، فهَؤُلاءِ قوم كانوا يستحقون الرد بما ارتكبوا، وبدلوا، وبما حرفوا، وابتدعوا في دين الله سبحانه وتعالى، حجبوا ومنعوا من ورود الحوض، وصحت الرواية أنه (من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً)

هل الصحابة ارتدوا كما زعمت الرافضة

ولورود الآحاديث السابقة برز قرن فرقة خبيثة وطائفة من أعظم طوائف هذه الأمة نفاقاً -كما وصفهم بذلك العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم- وهم: الروافض عليهم من الله ما يستحقون.

ص: 781

فقالوا: إن هذا الحديث دليل لمذهبهم الخبيث بأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا من بعده إلا أربعة نفر، وعلى أكثر أقوالهم: إنهم اثني عشر فقط، وأما البقية فإنهم قد ارتدوا عَلَى أعقابهم وأنهم يطردون عن الحوض.

فيقولون: إن سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من حجة الوداع، وبعد أن أراد أن يكمل الدين وأن يودع الْمُسْلِمِينَ ويبين لهم أحكام الدين جميعاً، أخذ يجدد عليهم العهد في إمامة عَلِيّ رضي الله عنه من بعده لأنهم يقولون: العهد قديم، ونزلت فيه آيات، وقرأها الصحابة، وبلغهم إياها النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الآيات تدل عَلَى إمامة عَلِيّ من بعده وأنه الوصي.

وَقَالُوا: إن معرفة الإِنسَان لإمامته ركن من أركان الدين وأصل من أصوله، ولا بد منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يُخِفي شيئاً من الدين، فقد بلغ هذا الركن وهذا الأصل، ومن ذلك: أنه في غدير خم -كما يسمونه- أشهد الصحابة جميعاً وجمعهم -وكانوا آلاف مؤلفة- وبلغهم هذا وأخذ عليهم العهد والميثاق أن الخليفة من بعده هو عَلِيّ ولكن الذي حصل: أنهم ما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يموت، حتى اتفقوا جميعاً وتواطئوا وكتموا الآيات والأحاديث، وكتموا هذه الوصية، وحولوا الخلافة إِلَى أبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَر ثُمَّ عثمان وغمطوا علياً وأهل البيت حقهم؛ وأنكروا أصلاً من أصول الدين وركناً من أركان الإيمان والإسلام.

ويقولون: هَؤُلاءِ هم من الصحابة الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يَوْمَ القِيَامَةِ يأتون والنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما أحدثوا من بعده، فيطردهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: سحقاً وبعداً ولذا طردوا؛ لأنهم غيروا ونقضوا وصيته لابن عمه عَلِيّ، هذا هو قول الرافضة.

ص: 782

مقتضى كلام الرافضة في الصحابة

كلام الرافضة في الصحابة يقتضي أموراً كثيرة منها:

أولاً: أن الصحابة الكرام -رضوان الله تَعَالَى عليهم- كفار مرتدون متواطئون عَلَى ترك أمر من ضرورات الدين وأصل من أصوله وركن من أركانه.

ثانياً: أن هذا طعن في جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى في الأربعة الخلفاء ومنهم عَلِيّ! ومن معه؛ لأن هذا ركن من أركان الدين فترك هذه الألوف المؤلفة هذا الأصل وسكوت الأربعة عنه، ومنهم عَلِيّ -لأنه لم يقم بأي عمل، ولم يقل للناس أخرجوا عليهم، ولم يثأر من أجل أصل من أصول الدين- إذاً: كل الصحابة متهمون بموجب هذه الدعوى، فليس فيهم مؤمن بل كلهم كفار، والأربعة منافقون.

ثالثاً: وهذا القول فيه اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه لأنه هو الذي زكاهم ورباهم، وهو الذي مدحهم، وأثنى عليهم، وجاهد بهم الكفار، وعاش بينهم، وأخذوا منه أخلاقهم ومعاملاتهم، وكل ما يتصفون به من الصفات النبيلة والحميدة أخذوها من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا أخذوا منه هذا ويصلون إِلَى حد أنهم وهم ألوف مؤلفة يتواصون ويتواطئون ويتفقون عَلَى ترك ركن من أركان الدين وأصل من أصوله؛ ليجحدوا ابن عمه فضله وحقه، فإذاً هو الذي رباهم عَلَى الغش والخداع والتواطؤ والنفاق والكذب كيف يصحبونه ويكونون من خاصته ومن أصفيائه وحواريه، وهم خونة وكذبة وفجرة، يتواطئون عَلَى أمر من أمور الدين العظيمة ويكتمونه، ويتواطئون عَلَى رجل عظيم فيغمطونه حقه؟!

ص: 783

ولو اتفقوا عَلَى دينار من الحرام لكان هذا طعن فيهم، فكيف وهذه قضية من أمور الدين ومن أصوله الكبرى، مثلاً: لو أنك وجدت مجموعة من الطلاب يدَّعون الإسلام والدين الصحيح، وَقَالُوا: الذي ربانا عَلَى هذا الدين شيخنا فلان، وكانوا يعظمونه ويتبعونه، فلما جالستهم وخبرتهم وعرفت أفعالهم، وجدتهم عَلَى بدعة وعلى كذب وزور وفجور؛ كيف يكون ظنك بشيخهم؟! بطبيعة الحال نقول: هذه تربيته، وهذه طائفته.

إذاً: هذا طعن بلا ريب في رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر من ذلك وهو جلي أيضاً أن يقَالَ: إن هذا الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو أيضاً اتهام وسب لله عز وجل؛ لأنه سبحانه وتعالى أثنى عليهم ومدحهم وزكاهم في كتابه العزيز وبين أحوالهم وصفاتهم الجليلة ولم ينزل هذا الدين إلا عليهم، فاصطفاهم واختارهم ليكونوا حواريين وأصحاباً لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نصرهم الله سبحانه وتعالى عَلَى اليهود والنَّصَارَى والمجوس وعلى أهل مكة الذين كانوا يدعون أنهم عَلَى دين إسماعيل، ويظهرهم عَلَى الدين كله ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم بعد الخوف، والذل عزاً وأمناً وأصبحت الدنيا كلها تلهج بذكرهم وبثنائهم ويشتهر عنهم العلم في آفاق الدنيا.

فكل هذا يحصل من الله سبحانه وتعالى وحياً منزلاً ونصراً وتأييداً بالواقع المشاهد، ويكون هذا العمل ويقع لأناس مرتدين منافقين كاذبين متواطئين ومتآمرين، وهذا يتنافى مع حكمة الله سبحانه وتعالى وهو تكذيب لكتاب الله، فإنه قد جرت السنن الربانية الموصوفة في التاريخ أن الله يذل الكاذب الفاجر الظالم الغادر ولو بعد حين، وأن الله يفضحه ويخزيه ويعرف النَّاس حقيقته.

ص: 784

أما وهو بهذا الشكل، يشهد أبناء الدنيا جميعاً مؤمنها وكافرها بإجماع التاريخ البشري الموجود أنه لا يوجد أمة أطهر ولا أزكى من هذه الأمة ويكونون في الحقيقة والواقع خونة متآمرين إِلَى آخره، هذا اتهام لله سبحانه وتعالى وسبٌ له، وطعن فيه وفي دينه وفي كتابه بلا ريب.

قد يقول قائل: كيف نفسر الحديث، وكيف نستشهد به في موضوعه الصحيح؟ وفي بعض روايات الحديث: أصحابي وفي بعضها: أمتي والجواب عَلَى التفصيل الآتي:

تفسير رواية (أمتي أمتي)

الروايات التي فيها " أمتي أمتي " لا إشكال أن في هذه الأمة من يذاد عن الحوض؛ لأن فيهم من أهل البدع والنفاق والضلال أو ليس المنافقون يَوْمَ القِيَامَةِ يطمعون أن يحشروا مع المؤمنين لأنهم منهم، ولكن يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويظنون أنهم من هذه الأمة ويحاولون السجود ولكن تتصلب ظهورهم، وهَؤُلاءِ ممن يحسب في الدنيا أنهم من هذه الأمة، ويتبين لهم يَوْمَ القِيَامَةِ أنهم ليسوا من هذه الأمة وإن انتسبوا إليها.

ومن أولى النَّاس بهذا الطرد الرافضة: لأننا إذا أثبتنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشربون من الحوض، وأنهم كذلك بلا ريب، فإن من أبعد النَّاس عن مشاركتهم فيه من يكفرهم ويلعنهم ويعد ذلك ديناً له، فالخوارج والروافض وأهل الضلالات ينطبق عليهم هذا الحديث:(إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

وقد أَحدث بعده الطوائف من الضلالات والبدع ما هو كفر وخروج من الدين، فمن كَانَ ينتمي إِلَى هذه الأمة، ولكنه في الحقيقة ليس منها، فإنه لا يَرِدَ الحوض ولا يشرب منه، وبالتالي لا يدخل الجنة لأنه مرتد منافق -نسأل الله العفو والعافية- وهذا حال بعض أهل الفرق وأهل البدع، فهذا تفسير رواية:(أمتي أمتي) .

تفسير راوية: (أصحابي أصحابي)

ص: 785

الرواية الثانية قوله: (أصحابي أو أصيحابي) لا إشكال فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم آمن به في حياته جمع كثير بل كل العرب أرسلت إليه الوفود فمثلاً من الوفود التي جاءت إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة ومنهم مسيلمة فرأوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام، فدخلوا في حكم الصحبة في حياته صلى الله عليه وسلم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم أو قبيل ذلك بعد أن فارقوه -وهو لا يعلم- أحدثوا الردة عن الإسلام، وكذلك قبائل بني تميم وقبائل غطفان وبعض أهل اليمن اتبعوا الأسود العنسي وحصلت الردة من أناس جاءوا ووصلوا إليه صلى الله عليه وسلم وانتسبوا إِلَى أمته.

فهو يظن صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم الغيب - أنهم من أصحابه، فيأتون يَوْمَ القِيَامَةِ فيذادون، لأنهم ليسوا من أصحابه، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فكان هذا حالهم فهَؤُلاءِ الذين ينطبق عليهم الحديث:(ولفظه: أصيحابي) تدل عَلَى لفظ التصغير الذي يدل عَلَى القلة ولا يعني هذا أن أصحابه صلى الله عليه وسلم يذادون وإنما هَؤُلاءِ أصيحاب جزء منهم ويكون أصيحاب كما قال أبو فراس الحمداني مثلاً:

وقال أصيحابي الفرار أو الردي فقلت هما أمران أحلاهما مر

لو قَالَ: إن أصحابه كثير وقعوا في أسر الروم لكان هذا كالذي يريد أن يذم نفسه ويقول: نَحْنُ كثيرون، ولكننا نفكر، هل نهرب أو نقع في الأسر أو في الموت؟ لا، وإنما يقول: نَحْنُ قلة قليلة، وأحاط بنا من الروم وهم جمع كبير فصار الأمران أحدهما مر: إما أن نموت وإما أن نفر، وفعلاً وقعوا في الأسر.

ص: 786

والذين ثبت وصح أنهم مبشرون بالجنة عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هم أول من ينطبق عليهم ثناء الله سبحانه وتعالى في القُرْآن فهَؤُلاءِ لا يمكن أن يدخلوا في المطرودين والمبعودين عن الحوض.

غرض الرافضة من الطعن في الصحابة

هَؤُلاءِ الروافض إنما يقصدون بالدرجة الأولى أبُو بَكْرٍ وعُمَر وعثمان، ومن كَانَ معهم من العشرة المبشرين بالجنة وأصل عداوتهم منصبه ومحصورة بالذات في هَؤُلاءِ، وموقف الرافضة منمسيلمة كما يقول هذا الذي يسمي نفسه ابن المطهر الحلي صاحب منهاج الكرامة يقول: ومن الأدلة عَلَى عدم انعقاد بيعة أبِي بَكْرٍ أن بعض الْمُسْلِمِينَ لم يبايعه مثل بني حنيفة، فاعتبر مسيلمة وبني حنيفة من الأمة ومن الْمُسْلِمِينَ وهَؤُلاءِ رفضوا بيعة أبِي بَكْرٍ، واجتمعوا وولوا عليهم مسيلمة.

إذاً هذا يدل عَلَى أن الإجماع لم ينعقد عَلَى بيعة أبِي بَكْرٍ والعياذ بالله فانظر كيف يجعلون أبا بكر وعُمَر وعثمان رؤساء الكفر والردة، ويجعلون مسيلمة من الْمُسْلِمِينَ!!

ص: 787

وكان يجب أن يأخذ رأيه في الإمارة والخلافة ولما لم يوافق، فالبيعة لم تنعقد والإجماع لم يصح، وإنما أوردتُ هذا لتعرفوا أن غرضهم هو -كما قال من أدركهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم-: إنهم قوم منافقون، ما قصدوا إلا الطعن في الدين، ولكن لما عجزوا أن يقولوا للمسلمين: إن القُرْآن باطل، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم كذاب -وهو الصادق الأمين- وحاشاه من ذلك، فَقَالُوا: نكذب أصحابه، فإن الكتاب والسنة إنما يؤخذ عنهم، فإذا كُذِّبَ الشهود بطلت القضية (إذا كُذِّبَ النقلة بطل الخبر) هذا هو المقصود والمراد منهم، فإذاً تبين لنا أن هذا الحديث حق، وأن قوماً يذادون عن الحوض؛ لأنهم من المرتدين أو من أصحاب البدع والضلالات التي تجعلهم جديرين وأهلاً لأن يطردوا عن حوضه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وهذا من الأدلة الكثيرة عَلَى ذلك، ولهذا يقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

الحديث الثالث من أدلة الحوض: هو حديث الإمام أَحْمَد -الذي قلنا: إنه من ثلاثيات المسند- عنأنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: (أغفى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إنه نزلت علي آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر] وقام متبسماً بهذه البشرى العظيمة وهذا الاختصاص وهذا الفضل الجزيل الذي امتن الله تبارك وتعالى به عليه صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مِنِّة عَلَى الأمة جميعاً، لأن هذا الحوض تشرب منه هذه الأمة المصطفاة المختارة من بين الأمم.

خلاف الفقهاء في البسملة

ص: 788

بعض الفقهاء استدلوا بهذا عَلَى أن (بسم الله الرحمن الرحيم) هي آية من كل سورة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ فقَالَ: بسم الله الرحمن الرحيمإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ هذه قضية فقهية فرعية، لكن لا بأس أن نقول: إن هذا الاستدلال ليس راجحاً، لأن الإِنسَان يمكن أن يقرأ البسملة قبل أي سورة، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثُمَّ يقرأ بالبسملة فتكون قراءته صلى الله عليه وسلم بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست لأنها نزلت عليه مع السورة.

ولكن لأن الإِنسَان إذا أراد أن يقرأ فإنه يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك كالعادة المتبعة في القرآن، وليس لخصوص أن الله أنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيمإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم) ثُمَّ قَالَ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.

معنى الكوثر

سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فهم لا يعلمون الغيب ولا يعرفون شيئاً حتى يخبرهم ويطلعهم الله تبارك وتعالى عن طريق الوحي الذي يأتي به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:(هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة) .

ص: 789

وهذا ينطبق عَلَى ما جَاءَ في حديث الإسراء أنه رأى ذلك النهر العظيم في الجنة (عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنيته عدد الكواكب) والآنية والأباريق والكيزان -كلها جاءت في الروايات- عدد الكواكب: أي: عدد نجوم السماء، وذلك لكثرتها، فالله تبارك وتعالى أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الحوض عريضاً واسعاً وعذباً شهياً أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وهذا النهر ترابه المسك وحصباؤه الدر والياقوت، وهذا شيء عظيم لا يمكن أن يتخيل.

هل الكوثر مشقوق في الأرض

والكوثر ليس مشقوقاً في الأرض كما جَاءَ في بعض الروايات وإنما يجري فوق الأرض، حتى يكون الأخذ منه أسهل، ويكون الامتنان به أعظم، وهو أغرب للعقل البشري بأن يرى الإِنسَان نهراً يجري هكذا فوق الأرض وليس مشقوقاً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يَرِدُه إنه عَلَى كل شيء قدير.

يقول: (يُخْتَلجُ العبدُ مِنْهُم) ، والاختلاج يشبه الانتهاب أو الاختلاس، يأتي أناس يردون فيتقدمون ليشربوا من الحوض فيختلجون ويجذبون من بين الذين يردون عَلَى الحوض.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رب! إنه من أمتي) فانظر إِلَى شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته! يرجوا أن لا يختلج ولا يذاد ولا يطرد أحد عن الحوض.

فيقال لي: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) العلة في طردهم أنهم أحدثوا بعدك أموراً تقتضي أن يطردوا وأن يذادوا.

ص: 790

ثُمَّ ذكر لفظ مسلم: (إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ) والحوض في العرصات يشخب فيه ميزابان يصب من النهر الذي ورد كما في حديث الإسراء أنه في الجنة في السماء السابعة، فهو نهر غريب بصفته، وكذلك في أرضه كما يذكر القرطبي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أن الأرض التي يكون عليها هذا النهر ليس في هذه الأرض وإنما هي الأرض المبدلة يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:48] فهو في السماوات المبدلة التي تكون يَوْمَ القِيَامَةِ.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

ص: 791

[والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يختلج عنه، ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط، وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فرطكم على الحوض) والفرط الذي يسبق إلى الماء، وروى البخاري عنسهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً ليردن على أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم) قال أبو حازم فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدث هذا، فقال: هكذا سمعت منسهل؟ فقلت: نعم فقال: (أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها فأقول: (إنهم من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي) سحقاً: أي بعداً، والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة، من نهر الكوثر، الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع، عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وفي بعض الأحاديث:(أنه كلما شُرب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حالٍ من المسك والرضراض من اللؤلؤ وقضبان الذهب ويثمر ألوان الجواهر) فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء وقد ورد في أحاديث: (إن لكل نبي حوضا وأن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، أعظمها وأجلها وأكثرها واردا) جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.

قال العلامة أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله تعالى- في التذكرة: واختلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟

فقيل: الميزان وقيل: الحوض.

ص: 792

قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل. قال: القرطبي: والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم، فيقدم قبل الميزان والصراط قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب كشف علم الآخره: حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله قال القرطبي: هو كما قال، ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم، ولم يظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله، لفصل القضاء. انتهى، فقاتل الله المنكرين، لوجود الحوض، وأَخْلِقْ بهم أن يُحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر] اهـ.

الشرح:

قد سبق الحديث عن الحوض لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، وذكرنا بعض من خالف فيه، وهل الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أم أنَّ لغيره من الأنبياء حوضاً؟

وتعرضنا للقول في كثرة الطرق التي ورد منها، والروايات التي كثر فيها إثبات الحوض، فهو متواتر من حيث كثرة من رواه من الصحابة فمن بعدهم، وكذلك شرحنا الأحاديث التي ذكرها المصنف هنا.

ومنها: حديث أنس الذي رواه البخاري، والإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والرواية الأخرى التي أخرجها مسلم من حديث أنس في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] .

ص: 793

ثم بعد ذلك يبين المصنف رحمه الله تعالى، معنى [يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض] ، وقد بينا أن المراد بذلك أن الكوثر نهر عظيم في السماء السابعة كما في حديث الإسراء والمعراج في الرواية الصحيحة، وليس في السماء الدنيا كما ورد في رواية شريك بن عبد الله، وهذا النهر من أعظم أنهار الجنة، ومعنى يشخب: أي يصب منه ميزابان فينزل ذلك الماء من الجنة إلى أرض المحشر، ويتكون من الميزابين الحوض الذي ترده هذه الأمة، وأول من يرده منها نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أول الواردين على الحوض، وتأتي أمته تباعاً له لتشرب وترد منه، ثم يذاد عنه من يذاد كما سبق.

والصراط: هو جسر منصوب على متن جهنم، ويعبر الناس عليه بحسب أعمالهم، وفيه كلاليب تختطف من يعبر عليه ممن كتب الله تبارك وتعالى عليه الشقاوة والعذاب، ودعوى الأنبياء في ذلك اليوم حين عبور الناس للصراط {اللهم سلم سلم} فمن نجى منه فقد زحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن اختطفته تلك الكلاليب وقع في النار، هذا أحد الأهوال والمواقف التي لا بد منها يوم القيامة للناس جميعاً.

اختلف العلماء هل الحوض يكون بعد الصراط أم قبله؟

القول الأول

من المعلوم أنه قد جَاءَ في أحاديث الحوض الثابته أنَّ قوماً يذادون ويردون، فإن كَانَ هَؤُلاءِ الذين يذادون عن الحوض من أهل النار، فكيف نجو من الصراط ولم تختطفهم الكلاليب، ثُمَّ بعد ذلك يذادون ويطردون من الحوض ويُقال لهم سحقاً سحقاً، أو بعداً بعداً؟

فهذا يقتضي أن يُقَالَ: إن الحوض قبل الصراط، والذين يذادون عن الحوض يردون بعطشهم، ثُمَّ أثناء اجتياز الصراط تخطفهم الكلاليب، فيكونون من أصحاب النار، هذا هو ما قاله بعض العلماء لمقتضى الأحاديث.

القول الثاني

ص: 794

وذهب بعض أهل العلم إِلَى عدم ذلك، ولم يثبت في ذلك حديث صريح ولا قولٌ لأحد من الصحابة أو علماء الأمة المتقدمين، وإنما هذا اختلاف من العلماء، كالقاضي عياض وأبي طالب المكي والقرطبي والغزالي والسيوطي والحافظ ابن حجر وأمثالهم رحمهم الله.

والعلماء الذين يرون أن الحوض بعد الصراط يقولون: إنه قد ثبت في الأحاديث أن الحوض يشخب فيه ميزابان من نهر الكوثر الذي في الجنة، فمعنى ذلك أن النَّاس بعد أن يجتازوا الصراط يقفون في أرض دون الجنة يشخب فيها هذان الميزابان، فالنهر الذي في الجنة هو الكوثر، والميزابان يصبان منه في أرض المحشر في الحوض، ويكون النَّاس قد اجتازوا الصراط ولكنهم لم يدخلوا الجنة بعد، وإنما بعد ما نالهم من النصب والتعب في الموقف وفي الحساب، وأثناء الأهوال العظيمة التي تقع لهم، واجتياز الصراط، فإنهم حينئذ يشربون ثُمَّ يدخلون الجنة ولم ينظروا إِلَى مصير الذين يذادون أول الأمر، بل يقولون: يقتضي الأمر أن تكون أرض الحوض قريبة من الجنة فيصب الميزابان من الكوثر الذي في الجنة إِلَى أرض الحوض، وهذا يقتضي أن الحوض بعد الصراط.

القول الثالث

وقال بعض العلماء لما رأوا المسألة تحتمل هذا وذاك: نجمع بين الأحاديث بأن هذا الحوض كبير وعظيم، ومنه ما هو قبل الصراط، ومنه ما هو بعد الصراط، وأن ذلك بحسب أعمال الناس، فمن النَّاس السعيد من السابقين المقربين، فهَؤُلاءِ يشربون ويجتازون -أو العكس- ولا يتوقفون.

وأما الآخرون الذين لهم ذنوب فإنهم قد يشربون، ولكن تخطفهم بعد ذلك الكلاليب، فيعذبون في النار، أو أنه من شدة الحساب يحجزون بعد أن يطردوا من الحوض، ثُمَّ أثناء عبور الصراط تخطفهم الكلاليب، أو يعفوا الله عمن شاء منهم، وقد طُرِدَ من الحوض، لكنه يضل بعطشه، كأن ذلك من ضمن أهوال الموقف، وهو أن هَؤُلاءِ لا يشربون من الحوض؛ بل يذادون ويطردون، ولا يعني ذلك أنهم لا يغفر لهم، أو أنهم لا يجتازون الصراط.

ص: 795

بيان الراجح في هذه المسألة

الحقيقة أن هذه المسألة ليس فيها نص قاطع، وهي تحتمل هذا وذاك، وهي من أمور الغيب التي لا يجوز الخوض ولا القول فيها بالظن، ولا بمجرد الاستنباط الذي يبدو لصاحبه رجحانه، ولو دقق فيه لتبين خلافه، ولهذا لو قيل في هذه المسألة: إن الأرجح فيها هو التوقف، وأن يُرَّد علم ذلك إِلَى الله سبحانه وتعالى، فيُقال في ذلك: الله أعلم، فنسبة العلم إليه سبحانه وتعالى أسلم، فهذا الذي نميل إليه ونختاره، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وما دام أنه لم يثبت في الحوض هل هو قبل الصراط أم بعده نص صريح ولا يترتب عليه كبير فائدة، فإن العبرة والموعظة قائمة سواء كَانَ ذلك قبله أو بعده، وسنكمل ما يتعلق بذلك عندما نتعرض لكلام العلامة القرطبي في الأخير، لأن المُصنِّفُ فصَل الكلام هنا، فذكر بعضه وأشار إليه في الأول، ثُمَّ أكمل في الآخر.

فقال رحمه الله: [والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يُختلج عنه، ويُمنع منه أقوام قد ارتدَّوُا عَلَى أعقابهم، ومثل هَؤُلاءِ لا يجاوزون الصراط] هذا هو الرأي الذي اختاره المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى،

ثُمَّ قَالَ: [وروى البُخَارِيّ ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قَالَ: سمعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا فَرَطُكُم عَلَى الحوض) .

قَالَ: والفَرَطُ الذي يسبق إِلَى الماء.] .

ص: 796

هذا الحديث متفق عَلَى صحته، ورواه أيضاً الإمام أَحْمَد وغيره وفيه الدلالة عَلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الحوض وهو أول من يرد عَلَى الحوض، فالفرط هو المقدمة أو الأول، وفي هذا دليل عَلَى ثبوت الحوض، وقَالَ:[وروى البُخَارِيّ عن سهل بن سعد قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أنا فرطكم عَلَى الحوض) ثُمَّ قَالَ: (من وَرَدَهُ شرب منه) ] وهناك خلاف في الألفاظ حسب الروايات (ومن شرب منه لم يظمأ أبدا) فمن ورد الحوض سمح له بأن يشرب منه، فإذا شرب منه فإنه لا يظمأ بعد ذلك أبدا، والكيزان: جمع كوز، يعني: آنيته، كما ورد ذلك في الروايات، كعدد نجوم السماء، فهو عَلَى سعته وكبره وحجمه فيه من الآنية بعدد نجوم السماء، أعداد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

هل يسقي النبي صلى الله عليه وسلم الناس بيده

وليس في هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم يسقي النَّاس بيده الشريفة، كما يزعم بعضهم فيدعو ويقول:(اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا) فهذا لم يرد في حدود ما اطلعت عليه من الروايات، هذا من جهة النص.

ومن جهة النظر، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم هو وحده وبيده الشريفة يسقي هَؤُلاءِ الناس، وبهذا العدد الكبير وعلى هذه السعة العظيمة، ثُمَّ إن ذلك لا يتناسب مع مقام النبوة، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو سقاء يسقيهم الماء مع أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يرد، والحوض حوضه.

ص: 797

ولا يقتضي إعطاءه الحوض أنه يسقي النَّاس بيده، وإنما هو صاحبه الذي يتقدم أمته ثُمَّ يُسر برؤيتهم وهم يشربون مع كثرتهم، وهم يردون من هذا الخير العظيم الذي أعطاه الله إياه، وأكرمه به ويتألم صلى الله عليه وسلم عند ما يرى أن قوماً يذادون، إذاً هو لا يسقي لأن التصريح جَاءَ بأنهم يردون ويشربون، وهَؤُلاءِ يطردون؛ بل يذادون.

ذود أناس من أمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض

قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث سهل (أنا فرطكم عَلَى الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا) ثُمَّ قَالَ: (ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثُمَّ يحال بيني وبينهم) وهذه الرواية تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم وأنهم يعرفونه.

وقد سبق أن قلنا: إن الذين يذادون عن الحوض إن كانوا من عموم أمته صلى الله عليه وسلم حين يقول: (أمتي أمتي) فذلك محتمل أن يذاد أناس من عامة الأمة، وهو أمر واقع ممن ينتسبون إليه صلى الله عليه وسلم وإلى أمته، ولو بعد وفاته بقرون، وهَؤُلاءِ ليسوا من أمته في الحقيقة بل هم مبدلون ويعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعلامات التي يعرف بها أمته، أو يكون هذا الحوض له ولأمته صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يتعجب أو يستغرب، لماذا يذادون؟

ص: 798

وأيضاً كونهم ممن رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ورؤه، فهذا الاحتمال أيضاً وارد، ولا تعارض بينهما، ولا ينفي ذلك كما سبق، أو لا يقتضي ما يقوله أهل البدع من الروافض وأشباههم من أن بعض الصحابة ارتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرف أقواماً، ثُمَّ ارتدوا بعد وفاته، وهَؤُلاءِ ليسوا من الصحابة ولا يشملهم اسم الصحبة، كما وقع ذلك من مسيلمة الكذاب وغيره من المرتدين، فينطبق عَلَى هَؤُلاءِ قول: النبي صلى الله عليه وسلم: (أعرفهم ويعرفونني، ثُمَّ يُحال بيني وبينهم) ، وظاهر الفاعل المجهول للفعل "يحال" أنهم ملائكة العذاب يذودون ويطردون أهل الشقاوة، الذين لم يكتب الله لهم ورود الحوض.

ذكر طرق أحاديث الحوض

سبق ذكر كلام ابن حجر أنه قَالَ: "أحصيت نحو خمسين أو زدت عليها".

ومنهم من قَالَ: إنها ثمانين، والحديث روي عن عدد من الصحابة وبعض الرواة قد يزيد أو ينقص بحسب الرواية وبحسب المجالس، فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم حدث بذلك في مجالس متعدده، فلما سمع أبو حازم هذا القدر من الحديث عنالنعمان بن أبي عياش قَالَ: هكذا سمعته منسهل قَالَ: نعم.

قالأبو حازم: وأنا أشهد عَلَى أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه -أي: في موضوع الحوض- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنهم مني أي هَؤُلاءِ من أمتي، فلماذا يذادون عن الحوض قَالَ: فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، أي أنت تعرفهم ويعرفونك، وهم منك عَلَى عهدك عَلَى حد علمك، وأنت في الدنيا، ولكنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

هل النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره؟

ص: 799

وفي الحديث السابق دليل عَلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وليس كما يقول أهل البدع: إن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة حقيقية، وأنه بجسده وروحه يجوب الأرض ويطلع عَلَى أحوال الْمُسْلِمِينَ ويعرفها ويشفع ويفعل.. وغير ذلك مما يبتدعون، والنبي صلى الله عليه وسلم لو أنه يعلم بعد موته، لكان أول ما يعلم ما وقع من الردة، فإنها أمر عظيم وخطب جلل كبير، كيف يلتحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بعد أن جمع الله تعالىجزيرة العرب كلها تحت لواء الإيمان، وأطاعت وانقادت له صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يموت وإذا بكثير منها من الشرق واليمن يرتدون حتى أنه لم يثبت الثبات الكامل إلا الطائف ومكة والمدينة وبنو عبد القيس، إذاً الموضوع مهم، فكان هذا من أول ما ينبغي أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قريب عهد به؛ لأن الردة كانت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

إذاً فالقول بأنه يطلع عَلَى أحوال الأمة وهو حي في قبره حياته العادية من قول أهل الضلال الذين يريدون أن يجعلوا ذلك ذريعة إِلَى الشرك من دعائه صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به من دون الله فيوقعون الأمة في الشرك الأكبر الذي جَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل لمحاربته، وللدعوة إِلَى توحيد الله وحده سبحانه وتعالى.

النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب

ص: 800

وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله تبارك وتعالى عليه، وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فإنه لم يبق له في هذا العالم تأثير، وإنما بقيت رسالته صلى الله عليه وسلم أمانة في عنق الأمة يجب عليهم أن يتمسكوا ويقتدوا بها، فقد تركنا عَلَى المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولم يتركنا للأوهام والظنون والتخرصات والافتراءات، وإن كَانَ المقصود بها تعظيمه صلى الله عليه وسلم، فإن أعظم تعظيم له صلى الله عليه وسلم: أن يطاع أمره، وتتبع سنته، ويحب حباً لا يقدم عليه حب شيء من المخلوقات.

والأحاديث التي وردت في الحوض، رواها جمع غفير من الصحابة، ووردت بطرق كثيرة، وورد بعضها ضمن أحاديث القيامه والمحشر، فأراد المُصنِّفُ أن يجمع الكلام في الحوض، فقَالَ:[والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض، أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك] .

ص: 801

ونهر الكوثر وردت فيه بذاته أحاديث منها الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد، وكذلك رواه الشيخان: حديث أنس بن مالك الذي تقدم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر] ثُمَّ قال لأصحابه: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنيته عدد نجوم السماء، يختلج العبد منهم

وفي حديث الإسراء المتقدم: نهر عظيم في الجنة، وفي أحاديث أخرى وصفت ماءه بأنه أشد بياضاً من اللبن، وأنه أبرد من الثلج، وأحلى من العسل؛ وأطيب ريحاً من المسك، وكما ورد في الحديث الذي تقدم أيضاً أنه يشخب أي يصب ميزابان من هذا النهر فيكونَّان الحوض. ثم قال المصنف:[وهو في غاية الإتساع عرضه وطوله سواء كل زاوية من زواياه مسيرة شهر] الكلام في طول الحوض وعرضه وسعته قد سبق أيضاً وذكر المصنف هنا أيضاً حديثاً صحيحاً عند البُخَارِيّ عن أنس قَالَ: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء) ، وهذه من أرجح الروايات وأكثرها شهرة، وفي رواية ما بين جرباء وأذرح، وهاتان الروايتان هما الأكثر والأشهر والله أعلم، وفي رواية أخرى ما بين أيلة إلىمكة، وفي رواية بين عدن وفي بعضها عُمان وفي بعضها بصرى.

اختلفت تلك الروايات، فقيل: هو إما بحسب السرعة، أو بحسب الاتساع، أو بحسب اختلاف الصحابة في السماع، أو بحسب اختلاف من بعدهم أيضاً في النقل، وما أشبه ذلك، فمن هذه الروايات نفهم أن الحوض في غاية الاتساع.

ص: 802

يقول المصنف: [وفي بعض الأحاديث أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع] أي: لا ينقص ذلك منه شيئاً، وهكذا حال الجنة فإن نعيمها لا ينفذ أبداً كحال هذه الدنيا التي ينفد ما فيها من الخير وإن كَانَ كثيراً، أما الجنة فإن أكلها دائم وظلها، لا ينفد شيء من نعيمها ولا ينتهي، وأنه ينبت في حالٍ من المسك -أي ينبت المسك فيه- والرضراض في لغة العرب هي: الحصى الصغيرة، وهي من اللؤلؤ يجري هذا النهر فوقها، [وأنه يثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء، ولا تنفد خزائنه، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يّس:82] .

ثُمَّ قَالَ: [وقد ورد في أحاديث أن لكل نبي حوضاً وأن حوض نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أعظمها وأحلاها وأكثرها] .

وقد سبق أن ذكرنا أن الاختلاف واقع في الحوض هل هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أم ثابت لغيره؟

سبب الخلاف

إن سبب الخلاف يرجع إِلَى الخلاف في ثبوت الأحاديث، وإن كَانَ الأظهر -على قاعدة المحدثين- أن الحوض خاص به صلى الله عليه وسلم، لأن حديث (إن لكل نبي حوضاً) قال فيهالتِّرْمِذِيّ إن المرسل أصح، أي: أنه ورد مرسلاً صحيحاً، ورفع هذا الحديث لا يصح.

وأيضاً الرواية الأخرى فيها ضعف ذكر هذا الأرنؤوط فقَالَ: أخرجه التِّرْمِذِيّ: في صفة القيامة، باب ما جَاءَ في صفة الحوض من حديث سمرة بن جندب قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حوضاً وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارده، وأني أرجو أن أكون أكثرهم وارداً) يقول: قال التِّرْمِذِيّ ورد مرسلاً والمرسل أصح هذا الذي في التِّرْمِذِيّ، ثُمَّ يقول:(وذكر الهيثمي في المجمع قَالَ: ورواه الطبراني وفيه مروان بن جعفر السُمري وثقهابن أبي حاتم، وقالالأزدي: يتكلمون فيه، وبقية رجاله ثقات) .

ص: 803

أما الشيخ الألباني فقَالَ: حديث حسن، أخرجه التِّرْمِذِيّ وقَالَ: غريب، ثُمَّ ذكر أنه ورد مرسلاً، وقَالَ: وهو أصح، ورواه الطبراني أيضاً كما في المجمع وقَالَ: (وفيه مروان بن جعفر السمري وثقه ابن أبي حاتم، وقال الأزدي: يتكلمون فيه وبقية رجاله ثقات، ثُمَّ وجدت ما يقوي الحديث فخرجته في الصحيحة

) اهـ.

فلا بأس بالأخذ بأحد القولين: قول من يرى بأن هذه الطرق الضعيفة يجبر بعضها بعضاً، فيثبت بها أنَّ لكل نبي حوضاً، وقول من يرى بأن هذه الطرق ضعيفة جميعاً وبأن الاختصاص في قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] فيه إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم، فُضل أو خصص بذلك من دون الأَنْبِيَاء.

الترجيح بأن الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم

وإن كنا قد نميل إِلَى القول بأن هذا اختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نحرج عَلَى من يقول: إن الروايات تجبر بعضها بعضاً، وإن للأنبياء أحواضاً بناءاً عَلَى ذلك، فإن هذه من الأمور المحتملة التي لا ينبغي أن تكون مثار النزاع.

اختيار الحافظ ابن حجر

أما الحافظ ابن حجر رحمه الله فكأنه توقف في المسألة، ولم يرجح أو لم يرَ أنها تستدعي أن يقف عندها، والله أعلم.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: [قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في التذكرة: واختلف في الميزان والحوض أيهما يكون قبل الآخر، فقيل: الميزان وقيل: الحوض] ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ يتحدث عن الميزان، ثُمَّ عقبه بالصراط فقَالَ:[قالأبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل، قال القرطبي: والمعنى يقتضيه فإن النَّاس يخرجون عطاشاً من قبورهم -كما تقدم فيقدم- قبل الميزان والصراط] هذا كلام القرطبي.

ص: 804

ويريد أن يقول: إننا إذا نظرنا إِلَى المعنى بالعقل، فإنه يقتضي أن يكون الحوض قبل الميزان وقبل الصراط ووجه ذلك بأن النَّاس يخرجون عطاشاً من قبورهم، فيقتضي ذلك أن يشربوا أولاً ثُمَّ توزن أعمالهم، ثُمَّ بعد ذلك يكون الصراط، إذاً هذا بالنظر العقلي فقط، ولم يأت بدليل ينص عَلَى أن الحوض قبل الصراط وقبل الميزان، وهذا في الحقيقة ليس بالمستند القوي أو الحجة التي يثبت بها مثل هذا.

ثُمَّ يقول: [قالأبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب كشف علم الآخرة: حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله] هذا البعض الذي قال عنه: إنه بعض السلف هو أبو طالب المكي صاحب كتاب قوت القلوب، فإن غالب كلام أبي حامد الغزالي في الرقاق كما في الإحياء وغيره منقول عنه، وهذا الكتاب قوت القلوب من أوائل الكتب التي صنفت في "التصوف" وقوله: قال بعض السلف، وهو ليس من السلف لأنه في القرن الخامس تقريباً، فليس بينه وبين الغزالي كبير فرق.

وقد وافق صاحب القوت عَلَى ذلك، القاضي عياض رحمه الله فقَالَ: إن الحوض بعد الصراط، وقوله [وهو غلط من قائله] هذا من كلام الغزالي، فهو يغلط أبا طالب ومن معه، وكذلك وافقه القرطبي فقَالَ:[هو كما قال] أي هو غلط فالقرطبي والغزالي، وكذلك السيوطي يرون أن الحوض قبل الصراط، إذاً أصبح عندنا القاضي عياض وصاحب كتاب قوت القلوب يقولون: الحوض بعد الصراط، ومال إِلَى ذلك أيضاً السيوطي.

أما القرطبي والغزالي فيميلون إِلَى غير ذلك

ص: 805

ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: [قالالقرطبي: ولا يَخْطُرْ ببالك أنه في هذه الأرض] يقول: إذا قلنا: إن الحوض هو في أرض المحشر، أو أنه قبل دخول الجنة -وهو كذلك- فهو ليس في هذه الأرض التي نراها اليوم: بل في الأرض المبدلة، والأرض المبدلة هي أرض المحشر كما قال الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَات [إبراهيم:48] فهي أرض مُبدَّلةٌ، ثُمَّ وصفها القرطبي فقَالَ:[أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم، ولم يُظلم عَلَى ظهرها أحد قط تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء] وهذه الأرض سوف يأتي بإذن الله تَعَالَى التفصيل في حقيقتها عند الحديث عن أهوال يَوْمَ القِيَامَةِ ومنها هذا التغيير.

يقول المُصنِّفُ رحمه الله: [فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخلق بهم أن يُحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر] نعم، قاتل الله الذين ينكرون الحوض، وإنهم لجديرون أن يحال بينهم وبين وروده، لأنهم أنكروه وهو ثابت صحيح، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يرده ويشرب منه.

ص: 806